تفسير سورة الأنعام

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام١
( قال أبو محمد )٢ : روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن )٣ سورة الأنعام نزلت ومعها موكب٤ من الملائكة، سد٥ ما بين الخافقين، لهم زَجَل٦ بالتسبيح، والأرض لهم ترتج٧، ورسول الله يقول : " سبحان ربي٨ العظيم " ثلاث مرات٩.
قال ابن عباس : نزلت بمكة جملةً، ومعها سبعون ألف ملك حولها١٠ بالتسبيح١١. وعن ابن عباس : نزلت ليلاً بمكة، وحولها سبعون ألف ملك ( يجأرون )١٢ حولها بالتسبيح١٣.
١ في هامش د: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الأنعام، استغفر له سبعون ألف ملك، ما دام في قراءتها"..
٢ ساقطة من ب ج د..
٣ ساقطة من ب..
٤ ب د: مركب..
٥ ج: شد..
٦ ب: وجل..
٧ الظاهر من الطمس في (أ) أن بعدها لفظة مشطبا عليها..
٨ ب: سبحون بى..
٩ قال القرطبي – في أحكامه ٦/٣٨٣ – قبله: (وأسند أبو جعفر النحاس قال: حدثنا محمد بن يحيى، أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة قال: حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري، حدثنا ابن أبي فُدْيكَ، حدثني عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص عن نافع أبي سهل بن مالك عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذكر الحديث. وفي الدر ٣/٢٤٣ و٢٤٤: أخرجه (الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان، والسلفي في الطيوريات عن أنس)، وانظر: المطالب العالية ٣/٣٢٩..
١٠ ب: حف لها..
١١ انظر: التفسير الكبير ١٢/١٤١، والدر ٣/٢٤٣..
١٢ مطموسة في (أ) وعليها علامة تضبيب، وما استدرك في الهامش مخروم.
ب: يحوون. ج د: يجدون. والجأر والجؤار: رفع الصوت مع التضرّع والاستغاثة. انظر: اللسان: جأر..

١٣ انظر: تفسير ابن كثير ٢/١٢٦، والدر ٣/٢٤٣، وفي كل منهما سنَدٌ إليه، وانظر: المحرر ٦/١..

بالتسبيح وعن ابن عباس: نزلت ليلا بمكة، وحولها سبعون ألف ملك (يجأرون) حولها بالتسبيح.
قوله: ﴿الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ الآية.
المعنى: الحمد الخالص الكامل لله. ومُخرج الكلام مخرج الخبر، ومعناه الأمر، أي: أخلصوا الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وهي من أعظم الآيات، وأضاف إلى ذلك - من آياته - إظلام الليل وضياء النهار.
قال قتادة: " خلق السماوات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار ".
ومعنى: ﴿وَجَعَلَ﴾ هنا، خلق، وإذا كانت بمعنى " خلق "، لم تتعد (إلا)
1956
إلى مفعول واحد.
وقوله: ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ الآية.
﴿ثْمَّ﴾ لغير مُهلَة، لأن الله قد قضى الآجال كلها قبل خلق كل / شيء، وإنما ﴿ثْمَّ﴾ لإتيان خبر بعد خبر، لا لترتيب زمان بعد زمان.
ومعناه: أن الله يعجب خلقه من هؤلاء الذين يجعلون لله عديلاً ومثيلاً ومساوياً، وهو خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، ومن جعلوه عديلاً لا يقدر على شيء من ذلك ولا من غيره، فذلك عجب من فاعله.
وقيل: إنها نزلت في (المانية) الذين يعبدون النور والظلمة يقولون: الخير من النور، والشر من الظلمة، فعدلوا بالله خلقه، وعبدوا
1957
المخلوقات.
(و) ذكر (عن) عبد الله بن أبي رباح أنه قال: فاتحة التوراة، فاتحة الأنعام: ﴿الحمد للَّهِ﴾ إلى ﴿يَعْدِلُونَ﴾ قال: وخاتمة التوراة خاتمة هود ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
قال مجاهد: ﴿يَعْدِلُونَ﴾ يشركون.
وهذه الآية نزلت في أهل الكتاب عند جماعة من المفسرين. وقال أكثرهم: (عني) بها المشركون من عبدة الأوثان وسائر أصنافهم.
قوله: ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ﴾ الآية.
المعنى: أن الله خلق آدم من طين، فخوطب الخلق بذلك، لأنهم ولده، وهو أصل لهم، قال قتادة ومجاهد والسدي. قال ابن زيد: خلق آدم من طين، ثم خُلقنا
1958
من آدم حين أخرجنا من ظهره.
وقيل: المعنى: أن النطفة من طين، لكن قَلَبهَا الله تعالى ذكره حتى كان الإنسان منها.
وقوله: ﴿ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ﴾.
الأجل الأول: أجل الإنسان من حيث يخرج إلى الدنيا إلى أن يموت، والأجل الثاني: هو ما بين وقت موته إلى أن يُبعث، قاله قتادة والضحاك والحسن. وقال ابن جبير: الأول الدنيا، والثاني الآخرة. وكذلك قال مجاهد. وقال عكرمة: الأول: الموت، والثاني: الآخرة، كالقول الأول، وكذلك قال ابن عباس، وقاله السدي.
و ﴿ثُمَّ﴾ - على هذه الأقوال كلها - يراد بها التقديم للخبر الثاني على الأول.
كما قال الشاعر:
1959
فالجد سابق للأب، والأب سابق للمدوح.
وقيل: الأول قبض الروح في النوم، والثاني قبض الروح عند الموت، روي ذلك عن ابن عباس أيضاً. وقيل: معنى ذلك أن الأول هو ما أعلمنا (أَلاَّ نبَيَّ) بعد محمد ﷺ، والآخر هو القيامة. وقيل: الأول ما نعرفه من الأهِلّة وأوقات الزروع ونحو ذلك، والأجل الثاني: موت الإنسان متى يكون. ومعنى ﴿ثُمَّ قضى أَجَلاً﴾ لم يرد أنه قضى الأجل خلق آدم، بل الأجل قَضاهُ قبل خلق المخلوقات كلها، ولكن الكلام محمول على الخبر من الله جل ذكره لنا، كأنه قال: أخبركم أن الله خلقكم من طين، يعني آدم، ثم أخبركم أن الله قضى أجلاً قبل خلقه لآدم، ف (ثم) إنما دخلت لنسق الخبر الثاني على الأول، لا لوقت الفعلين.
وقوله: ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ معناه: تشكون (في من) خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وقضى أجل الموت وأجل الساعة، إنه إله واحد قادر، لا عديل له ولا شبيه.
1960
وقوله: ﴿ثُمَّ قضى أَجَلاً﴾ وقف حسن عند نافع وغيره من النحويين.
فسوف يأتيهم (أخبار) تكذيبهم، وهي ما حل عليهم من الأسر والسيف يوم بدر، وفتح (مكة) وغير ذلك، ومعناه: سوف يعلمون ما تؤول إليه أمورهم.
قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ الآية.
والمعنى: ألم ير هؤلاء المكذبون بمحمد، كم أهلكنا من قبلهم من القرون، وهي الأمم الخالية، مُكّنوا في الأرض ما لم يمكن لهؤلاء، وأرسلت السماء عليهم مدراراً، وفجرت العيون من تحتهم. ومعنى مدراراً (أي) (غزيراً دائمة)، فأعطت الأرض ثمارها، فعصوا، فأهلكوا بعصيانهم. وهذا وعظ وتخويف من الله
1961
لمن كذب بمحمد ألا يصيبهم ما أصاب من هو أقوى منهم وأمكن في البلاد منهم وأطغى منهم.
والقرن: ستون عاماً. وقيل: سبعون. وقيل: ثمانون. وقيل: مائة. وقيل: القرن كل عالم في عصر، وهو مأخوذ من الاقتران، لأن بعضهم مقترن ببعض، فهذا يدل على أنه العصر.
قوله: ﴿وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً - آخَرِينَ﴾: أي: أحدثنا، ومعنى الخطاب في الآية في قوله: ﴿لَّكُمْ﴾ - وقد تقدم ذكر الغيبة في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ﴾ - أن العرب إذا أخبرت خبراً عن غائب - فأدخلت فيه قوماً - وجهت الخبر أحياناً إلى الغائب وأحياناً إلى المخاطب، فيقولون: قلت لعبد الله: " ما أكرمه "، وإن شئت: " ما أكرمك "، وهو مثل:
1962
﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك﴾ الآية.
قوله: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِي قِرْطَاسٍ﴾ الآية:
معنى الآية: أن الله أعلم نبيه أن هؤلاء المكذبين لا ينفعهم شيء من الآيات، (و) لا يرجعون عن جحودهم، وأنهم لو رأوا كتاباً نزل (عليهم) من السماء في قرطاس ولمسوه بأيديهم، ورأوا فيه صدق ما جئتهم به، لكفروا به وقالوا: هذا سحر مبين.
قال ابن عباس: لو نزل من السماء صُحُف فيها كتاب لزادهم ذلك تكذيباً.
روي عن نافع أن الوقف على ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾، وهو بعيد عند غيره، لأن ﴿لَقَالَ﴾ جواب (لو).
قوله: ﴿وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أخبر عنهم أنهم قالوا لمحمد: هلا أنزل عليك ملك في صورته يصدقك ويخبرنا بنبوتك، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر﴾ أي: لو فعلنا فكفروا
وكذبوا لنزل (عليهم) العذاب، فقضى أمرهم ولا يؤخرون.
وقيل: المعنى: لو رأوه / في صورته لماتوا، قاله ابن عباس. وقد قال في " الفرقان " عنهم إنهم قالوا ﴿لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ أي: هلا كان ذلك.
﴿بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ﴾ قوله (تعالى): ﴿وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً﴾ الآية.
المعنى: لو جعلنا الرسول إليهم ملكاً لجعلناهُ في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون مخاطبة الملك على هيئته، ولا يرونه.
قال ابن عباس: معنى ﴿لَّقُضِيَ الأمر﴾ أي: لو رأوه لماتوا من صورته، ولا يخاطبهم إلا مَن هو في صورة الآدمي، فإذا كان رجلاً كان ذلك أكثر لبساً عليهم
فيقولون: هو ساحر كذاب.
قال أبو إسحاق: كانوا يقولون لضعفتهم: إنما محمد بشر، لا فرق بينكم وبينه، فيلبسون عليهم بهذا، فأعلم الله نبيه أنه لو أنزل ملكاً لأنزله في صورة رجل، إذ كانوا لا يقدرون على رؤية الملك في صورته كما سألوا، ولكان يقع عليهم من الّلبس ما وقع عليهم في محمد.
يقال: " لَبَسْتُ الأَمرَ ": (أي) أشكلته وشبهته، أي: أدخلت فيه الشبه. ومُخرج قوله: ﴿وَلَلَبَسْنَا﴾ مُخرج قوله: ﴿يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] لأنه مجازاة لفعلهم، فسمي باسمه، وليس به.
قوله: ﴿وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ الآية.
المعنى أن الله جل ذكره سَلّى نبيه ليهُوَّن ما يلقى من المشركين، وأعلمه أن من تمادى على ذلك يحل به ما حل بالأمم الماضية الذين استهزأوا برسلهم.
ومعنى " فحاق بهم ": أي: وجب ونزل وأحاط بهم ما كانوا يُنكرون، وهو العذاب.
والمضمر في ﴿مِنْهُمْ﴾ يعود على الرسل، وتقديره: فحاق بالذين سخروا من الرسل عقاب ما كانوا يستهزئون.
قوله: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله غيره، المكذبين بك: سيروا في الأرض، أي: جولوا فيها، تروا ما (صار) إليه عاقبة أشكالهم من الناس - الذين كذبوا الرسل - من العذاب والهلاك فتحذروا (أن يصيبكم) مثل ما أصابهم.
قوله: ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض (قُل للَّهِ)﴾ الآية.
قوله ﴿الذين خسروا﴾ في موضع رفع بالابتداء. ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من المضمر في ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾، وهو قول الأخفش. وقيل: إن
1966
﴿لَيَجْمَعَنَّكُم﴾ بدل من ﴿الرحمة﴾ على معنى التفسير لها.
ورد المبرد قول الأخفش، وقال: لا يجوز أن يبدل من المخاطب إلا المخاطب، لو قلت: " مَرَرْت بك زيدٍ "، و " مررت بي زيد " لم يجز، لأن هذا لا يُشكِل فيُبيَّن، ولكنه مرفوع بالابتداء، و ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ الخبر.
وقال ابن قتيبة: ﴿الذين﴾ في موضع خفض على البدل أو النعت " للمكذبين " الذين تقدم ذكرهم.
ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء العادلين المكذبين ﴿لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض﴾ أي: لمن ملك ذلك؟، وليس لهم جواب عن ذلك، فكأنهم طلبوا الجواب من السائل، فقالوا لمن ذلك؟، فقيل لهم: ﴿للَّهِ﴾، فصار السؤال والجواب من جهة واحدة في الظاهر والجواب إنما هو (جواب) لسؤال مضمر، لأنهم عجزوا عن الجواب فقالوا: لمن ذلك؟، فأجيبوا: ﴿للَّهِ﴾، أي: هو للهِ، فأخبرهم أن ذلك للهِ، وأعلمهم أن الله كتب على نفسه الرحمة لعباده، فلا يعجل عليهم بالعقوبة، فتوبوا إليه.
روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " كَتَب اللهُ كِتاباً قبلَ الخَلْقِ: إن رَحْمَتي
1967
تَسْبِقُ غَضَبِي ".
وعن سلمان أن الله لما خلَق السماء و (الأرض)، خلقَ مائةَ رحمة، كلُّ رحمةٍ تملأُ ما بين السّماء والأرضِ، فَعِندهَ تِسعٌ وتسعونَ رحمةً، وقَسَّمَ رحمةً بينَ الخلائقَ، (فبها يتعاطفون)، فإذا كان ذلك - يعني يوم القيامة - قَصَرها الله على المتقين، وزادهم تسعاً وتسعين. وعن سلمان قال: نجد ذلك في التوراة.
وروى الحكم بن أبان عن عكرمة قال: إذا فَرَغ الله تعالى من القضاء بين خَلْقه، أخرج كتاباً من تحتِ العرش فيه: (أن رَحْمَتِي سَبَقَت غضبي وأنا أرحمُ الراحمين). قال: فيَخْرُجُ من النار مثل أهل الجنة، أو مِثْليْ أهل الجنة، مكتوباً ها هنا - وأشار الحكم إلى نحرِهِ - " عُتَقاء اللهِ ". فقال رجل لعكرمة: فإن الله يقول: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٧]. قال عكرمة: أولئك أهلها
1968
" الذين هم أهلها ".
وعن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إن لله مائة رحمةٍ، أهبط منها رحمةً إلى أهل الدنيا، يتراحم بها الجِنُّ والإِنسُ وطائرُ السماءِ، وحيتان الماء، ودوابُّ الأرض وهوامُّها، وما بين الهواء، واختزن عنده تسعاً وتسعين رحمة، حتى إذا كان يوم القيامة، اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا، فحَولها إلى ما عنده، فجعلها في قلوب أهل الجنة، (و) على أهل الجنة.
فمعنى ﴿كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة﴾: أمهلكم إلى يوم القيامة، لأن معنى ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ أي: يُمهلكم حتى يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه.
ومعنى ﴿كَتَبَ﴾ هنا: قضى.
1969
وقيل: ﴿إلى﴾ بمعنى " في "، أي: ليجمعنكم في يوم القيامة. وقيل: المعنى ليؤخرن جمعكم إلى يوم القيامة، ف (إلى) لغير معنى " في ".
واللام في ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ لام قسم، جواب لِ ﴿كَتَبَ﴾، لأن ﴿كَتَبَ﴾ بمعنى " أوجب " والقسم إيجاب، (فاحتاج الايجاب إلى جواب، إذ هو بمعنى القسم في الإيجاب)، وله نظائر كثيرة في القرآن تقاس على هذا.
والوقف على ﴿الرحمة﴾ حسن عند أبي (حاتم والفراء)، ويكون ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ مبتدأ على القسم على قولهما.
وقيل: إن ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ بدل من (الرحمة)، فلا يوقف على (الرحمة)، ومعنى
1970
البدل أن اللام بمعنى " أن "، فالمعنى: الرحمة: أن يجمعكم، أي: كتب ربكم على نفسه أن يجمعكم. ومثله على مذهب سيبويه: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ (مَا) رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّه﴾ [يوسف: ٣٥] المعنى: أن يسجنوه، ف " أن " الفاعلة، ومثله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ﴾ [الأنعام: ٥٤] في قراءة من فتح (أن).
قال نافع: ﴿قُل للَّهِ﴾ تمام. ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾: وقف حسن عند نافع وغيره.
قوله: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار﴾ الآية.
المعنى: وقل لهم - يا محمد -: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار﴾ أي: ما استقر، فكيف تعدلون به وتشركون بمن له الخلق والأمر.
قوله: ﴿قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً﴾ الآية.
المعنى: قل (لهم) يا محمد: أغير الله أتخذ ولياً وهو فاطر السماوات (والأرض)، أي: مبتدعهما وخالقهما.
قال ابن عباس: كنت لا أدري ما ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: " أنا فطرتها ": (أي) ابتدأتها.
وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش: (ولا يَطعم) بفتح الياء، وقرأوا الأول مثل الجماعة على معنى: وهو يَرزقُ ولا يأكل. وقرأه الجماعة على معنى: " وهو يَرزق ولا يُرزق ".
وقوله: (تعالى): ﴿إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ أي: قل لهم يا محمد: إني أمرت
أن أكون أول من خضع بالعبودية، وقيل: (لي: لا) تكونن من المشركين.
وقال بعض العلماء قوله: ﴿أُمِرْتُ﴾ بدل من " قيل لي: كن أول من أسلم و (قيل لي): لا تكونن من المشركين "، فالثاني محمول على معنى الأول، اجتُزئ بذكر. الأمر عن ذكر / القول، والمعنى: قل " إني قيل لي: كن أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين ". فهما جميعاً محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول وفيه معناه، فحمل الثاني على المعنى. والوقف على (الأرض) حسن، وعلى (يُطعَم حسن.)
قوله: ﴿قُلْ إني أَخَافُ﴾ الآية.
المعنى: (قل) يا محمد لهؤلاء الذين لا يخافون: ﴿إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي: هائل شديد.
قوله: ﴿مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ﴾ الآية.
من قرأ ﴿يُصْرَفْ﴾ بضم الياء وفتح الراء، فعلى ما لم يُسمَّ فاعله. ومن فتح الياء وكسر الراء، فعلى إضمار، والتقدير: " من يَصرِف اللهُ عنه العذاب " يومئذ.
والأول أحسن عند سيبويه، لأن الإضمار كلما قل كان أحسن. فتقدير من ضم الياء: من يُصرَف عنه يومئذ فَقد رحِمَه اللهُ، ففي ﴿يُصْرَفْ﴾ ذكر العذاب المتقدم، ويضمر الاسم بعد (رحمه)، وفي الفتح يضمر الاسم والعذاب جميعاً.
1974
وقيل التقدير - في قراءة من فتح الياء - مَن يَصرف (الله) عنه شرَّ يومئذ، ثم حذف المضاف.
وفي قراءة عبد الله وأُبيّ: (من يصرف الله عن يوم القيامة)، وهذا شاهد لمن قرأ بالفتح.
واحتج بعضهم لقراءة من فتح الياء أنه قريب من اسم الله، كأن تقديره: من يَصرف ربّي (العذاب عنه) فقد رحمه، واحتج أيضاً بقوله: ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ ولم يقل: (" فقد رُحم ")، فجريان آخر الكلام على أوله أحسن من مخالفته لأوله. قال: ولو قلت: " من وَهَب لك درهماً فقد أكرَمَك "، كان أحسن من أن تقول: " من وُهِبَ له درهم فقد أكرمه "، وقولك: " من يؤخذ منه ماله، فقد ظُلم " أحسن من قولك " من يؤخذ منه ماله فقد ظَلَمه "، وهو بعيد في الكلام وكذلك من قرأ: (" من " يُصرَف عنهُ يوْمَئذ فَقد رَحَمِه.
1975
وقراءة الفتح اختيار أبي عبيد وأبي حاتم على معنى: من يصرف الله عنه يومئذ عذابه فقد رحمه.
﴿وَذَلِكَ ا﴾: إشارة إلى صرف العذاب. و ﴿الفوز﴾: النجاة من الهلاك، والظفر بالمطلوب، ﴿المبين﴾ (أي) الظاهر لمن وفقه الله.
قوله: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾ الآية.
المعنى: إِن يمسك (الله) - يا محمد - بضر، فلا يكشفه إلا هو، (و) الضر - هنا -: الشدة في العيش والضيق، ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾ أي: برخاء في عيش وسَعَة، فهو على ذلك وغيره قدير.
قوله ﴿إِلاَّ هُوَ﴾ تمام حسن.
قوله: ﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ الآية.
المعنى: والله المُذلّل لعباده، العالي عليهم علّو قدرة وقهر،
لا (علو) انتقال من سفل، بل استعلى على خلقه بقدرته فقهرهم بالموت وبما شاء من أمره، لا إله إلا هو. ولمّا وصف نفسه تعالى بأنه المذل القاهر، ومن صفة القاهر أن يكون مستعلياً، قال ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾، ﴿وَهُوَ الحكيم﴾ أي: في علوه، ﴿الخبير﴾ بمصالح عباده.
قوله: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة﴾ الآية.
﴿أَيُّ﴾ اسم مبهم معرب، وإنما أُعرِب دون سائر المبهمات لعلتين:
- إحداهما: أنه قد أُلزم الإضافة فخالف سائر المبهمات، والمضاف إليه يَحل محل التنوين فيه، إذ لزمه ما هو عِوضٌ من التنوين، وإذا قدر التنوين فيه وجب إعرابه، لأن التنوين علامة للأمكن، والأمكنُ لا يكون إلا معرباً.
- والوجه الآخر: أنه مخالف لسائر المبهمات، لأنه يدل على البعض المعيّن،
1977
فإذا قلت: " أيُّ الرجليْن أتاك "؟، فالذي تسأل عنه داخل في " الرجلين "، وليس ذلك في " ما " و " من ".
ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين جحدوا نبوتك: أي: شيء أعظم شهادة؟، ثم أخبرهم بأن الله أعظم شهادة ممن يجوز عليه السهو والغلط والكذب والخطأ من خلقه. وقيل: المعنى: سلهم يا محمد: أي: شيء أكبر شهادة حتى أستشهد به عليكم؟.
(و) قال الكلبي: قال المشركون - من أهل مكة - للنبي: من يعلم أنك رسول الله فيشهد لك، فأنزل الله ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أني رسوله، ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾.
والله - جل ذكره - شيء بهذه الآية، لكنه شيء لا كالأشياء ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١].
وقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن﴾ (أي وقل لهم: أوحي إلي هذا القرآن) لأنذركم
1978
به عقاب الله، ﴿وَمَن بَلَغَ﴾: (أي) وأنذر به من بلغه ذلك بعدي.
قال محمد بن كعب القرطبي: من بلغته آية فكأنما رأى الرسول.
قال ابن عباس: " من بلغه هذا القرآن فهو له نذير ".
ف ﴿من﴾ في موضع نصب. وقيل: المعنى في ﴿وَمَن بَلَغَ﴾: أي: وأنذر من بلغ الحلم، لأن من لم يبلغ الحلم، فليس بمخاطب ولا متَعَبد. والقول الأول: " إن معناه: ومن بلغه القرآن "، وهو أولى.
وقال مجاهد ﴿وَمَن بَلَغَ﴾ أي: من أسلم. وقيل معناه: ﴿لأُنذِرَكُمْ بِهِ﴾ أيها
1979
العرب ﴿وَمَن بَلَغَ﴾ أي: العجم، كقوله: ﴿بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ [الجمعة: ٢] يعني العرب، ثم قال: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ [الجمعة: ٣] أي: من الذين أرسل إليهم، يعني العجم.
(و) قوله: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهءَالِهَةً أخرى﴾: هذا على التوبيخ لهم. ثم قال لنبيه: قل يا محمد لا أشهد بما تشهدون، إنما هو إله واحد، وإنني بريء من إشراككم بربكم.
(و) روى ابن عباس " أن طائفة من اليهود قالوا للنبي: يا محمد، ما نعلم مع الله إلهاً غيره!، فقال رسول الله: لا إله إلا الله، بذلك بُعثت وإلى ذلك أدعو "،
1980
فأنزل الله: ﴿قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
ووقف نافع: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة﴾. والتمام عند الجماعة ﴿وَمَن بَلَغَ﴾.
قوله: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ الآية.
(معنى ذلك أن أهل الكتاب - هنا - (هم)) اليهود والنصارى. ومعنى ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾: أي: يعرفون أن دين الله الاسلام، وأن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم، وهو عندهم في التوراة والانجيل.
وقيل: المعنى: يعرفون محمداً كمعرفتهم أبناءهم. وقد قال بعض من أسلم من أهل الكتاب: والله لنحن أَعَرفُ به من أبنائنا، لأن صفته ونعته في الكتاب، وأما أبناؤنا فلسنا ندري ما أحدث النساء فيهم.
وقيل: المعنى يعرفون أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله.
وقيل: يعرفون القرآن.
وأكثر العلماء على أن الهاء تعود على النبي.
وقوله: ﴿الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: أوبقوها في النار بإنكارهم محمداً، ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بخسارتهم أنفسهم.
و ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ﴾: تمام إن جعلت ﴿الذين﴾ مبتدأ.
قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ الآية.
المعنى: من أشدُّ ظلما ممن اختلق على الله قول الباطل، أو (جحد آياته)
وأدلته، ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ أي: لا ينجح القائلون على الله الباطل.
قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ الآية.
المعنى: أن هؤلاء المفترين على الله الكذب لا يفلحون في الدنيا، ولا يوم نحشرهم جميعاً (أي) ولا يوم القيامة، ففي الكلام تقدير محذوف.
ومعنى: ﴿الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ (أي تزعمون) " أنهم (لكم آلهة) من دون الله افتراءً وكذباً ".
وقال القتبي: المعنى أين آلهتكم التي جعلتموها لي شركاء، فنسبها إليهم، لأنهم ادعوها أنها شركاء لله.
قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ الآية.
قرأ ابن مسعود وأبي (وما كان فتنتهُم) بالرفع.
ومن (قرأ) تكن بالتاء، ونصب " الفتنة "، فإنما أنَّث، لأن " القول " هو " الفتنة "، فأنث على المعنى، وهو مذهب سيبويه.
وقيل: إنما أنت، لأن ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ بمنزلة " مقالتهم " فأنث على ذلك. و (قد قرئ) برفع " الفتنة "، والياء في (يكن) على المعنى، لأن " الفتنة بمعنى " الفتون ".
1984
ومعنى ﴿فِتْنَتُهُمْ﴾: مقالتهم. وقيل: معذرتهم إلا أن أقسموا بالله ربهم إنهم لم يكونوا مشركين.
ومعناه عند أبي إسحاق أن المشركين افتتنوا بشركهم في الدنيا، فأخبر الله عنهم أن فتنتهم التي كانت في الدنيا عادت انتفاء من الشرك، وهذا مِثْل إنسان يرى (محبّاً له) في هَلكة فيتبرأ منه، فيقال له: صارت محبتك (تبرؤا).
واختار الطبري قراءة النصب في (ربَّنا)، لأنه جواب من المشركين الذين قيل لهم: ﴿أَيْنَ شُرَكَآؤُكُم﴾ [الأنعام: ٢٢]؟، فنفوا عن أنفسهم أن يكونوا فعلوا ذلك وادعوه أنه ربهم كان فنادوه، ولذلك قال لمحمد: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ [الأنعام: ٢٤].
وإنما قصدوا إلى نفي الشرك عن أنفسهم دون سائر الذنوب والكبائر، لأنهم
1985
رأوا أن كل شيء يغفرُهُ الله إن شاء إلا الشرك، فنفوه عن أنفسهم رجاء أن يغفر لهم ما ارتكبوا دون الشرك، ودل على ذلك قوله ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨] (فدل هذا) على أن ما دون الشرك مغفور إن شاء الله، ذلك: إما بتوبة وإقلاع، وإما بفضل من الله ورحمة.
قوله: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ الآية.
معنى النظر هنا: هو نظر القلب " معناه: تَبيَّنْ فاعلم كيف كذبوا في الآخرة ".
وقوله: ﴿كَذَبُواْ﴾ معناه: يكذبون، إلا أنه لما كان أمراً يقع بلا شك، أخبر عنه بمثل ما يخبر (عما) وقع.
ومعنى ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي: وفارقتهم الأنداد والأصنام، وتبرأوا منها. وقيل: (معناه) ذهب عنهم ما كانوا يختلقون.
1986
قال ابن عباس: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا (تعالوا) فلنجحد ما كنا فيه، فقالوا: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثاً، فود الذين كفروا حين ذلك لو تسوى بهم الأرض، و ﴿لاَ يَكْتُمُونَ﴾ حديثاً.
وقال ابن جبير: لما أمر بإخراج من دخل النار من أهل التوحيد، قال من فيها من المشركين: تعالوا فلنقل " لا إله إلا الله " لعلنا نخرج من هؤلاء. فقالوا، فلم يُصَدّقوا، فحلفوا فقالوا: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾.
وقال قطرب: إنهم لم يتعمدوا الكذب، ولكنهم قالوا ما قالوا وهم عند أنفسهم صادقون، لكنهم كاذبون عند الله، ولذلك قال: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ﴾.
والذي يدل على خطأ قول قطرب قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا
1987
يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: ١٨]. فلم (يحلفوا للنبي) قط إلا وهم يعلمون أنهم كاذبون، وقد أخبر الله أن (اليمينين متساويتان). وقوله: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ يدل على أنهم تعمدوا الكذب.
قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ الآية.
المعنى: ومن هؤلاء المختلقين على الله الكذب من يستمع القرآن منك يا محمد - قال مجاهد: هم قريش - ويستمع كل واحد ما تدعوه إليه من الإيمان، فلا ينفعه ذلك، ولا يَعِيهِ، ولا يتدبره، ولا يعقله عنك، لأن الله جعل على قلبه كنانا، أي / غطاء، وجمعه أكنة، وجعل في آذانهم وقراً عن ما تقول لهم
1988
وتتلو عليهم. فعل ذلك بهم مجازاة لهم على كذبهم، وليس المعنى أنهم لا يسمعون ألبتة ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، كانوا بمنزلة الذي في أذنيه وقر، وعلى قلبه غطاء.
(و) قوله: ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾ يريد أنهم رأوا القمر منشقاً، فقالوا: (سحر، ثم) أخبر عنهم أنهم إذا أتوا يجادلون قالوا: هذا سحر ((مبين)).
قوله: ﴿مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ ((و)) ﴿وَقْراً﴾ تمامان عند الأخفش.
و ﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾ (تمام) عند غيره. و (بها) التمام الحسن عند أبي حاتم.
1989
ومعنى ﴿أساطير الأولين﴾ أي: أحاديثهم. وقيل: أساجيع الأولين. وقيل: المعنى ما كتبه الأولون.
ومعنى جدالهم المؤمنين أن ابن عباس قال: كان المشركون يجادلون المسلمين في الذبيحة، يقولون لهم: ما ذبحتم وقتلتهم تأكلون، وما قتل الله لا تأكلون وأنتم تتبعون أمر الله.
(وواحد الأساطير " أسطورة " كأًُضْحوكة (وأُحدوثَة)، وقيل:) واحده " أَسْطار "، كأقوال، وأَسْطار جمع سَطَر، (يقال: سَطْر) وسَطَر. وقال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له، كأبابيل ومذاكير وعباديد، وقد قيل: إن واحد الأبابيل " إِبيّل ". وقيل: هو " إِبّوْل "، كِعَجَّوْلِ.
1990
قوله: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ الآية.
المعنى أن الله أخبر عن المشركين أنهم ينهون الناس عن اتباع النبي والقبول منه، ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ أي: يبعدون.
قال ابن عباس: لا يأتونه ولا يدّعون أحداً يأتيه. فالهاء - على هذا - تعود على النبي.
وقيل: المعنى أنهم ينهون [الناس عن] أن يستمعوا ما في القرآن، ويتباعدون هم عن استماعه، فالهاء للقرآن.
وقيل: المعنى: أنهم ينهون الناس عن أذى محمد، (ويتباعدون هم) عنه، أي: عن اتباعه.
1991
(و) روي عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب عم النبي عليه السلام ونفر من كفار قريش كانوا ينهون ((الناس)) عن أذى النبي ولا يؤمنون به، ولا بما جاءهم به، وكان أبو طالب ينهى أن يؤذى محمد، ويتباعد عن قبول ما جاء به. وهذا يدل على أنها في قريش.
وكان الطبري يختار أن تكون عامة في المشركين، لأن أول الكلام جرى على العموم، فيكون المعنى على هذا: وهم ينهون الناس أن يتبعوه ويتباعدون عن اتباعه، وما ﴿يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ﴾ أي: ما يهلكون بصدهم عنك إلا أنفسهم، لأنهم يكسبونها سخط الله ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (أن) ذلك راجع عليهم.
وقرأ الحسن ﴿وَيَنْأَوْنَ (عَنْهُ)﴾ بإلقاء حركة الهمزة على النون على
1992
أصل التسهيل.
قوله: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار﴾ الآية.
من قرأ برفع (نكذبُ) و (نكونُ) فعلى القطع، (أي: يا ليتنا) نرد، ثم ابتدأ على معنى: ونحن لا نكذب. هذا قول سيبويه، والمعنى عنده: ونحن لا نكذب رُددنا أو لم نُردّ، فإنما سألوا الرد وقد أوجبوا على أنفسهم أنهم لا يعودون للتكذيب ألبتة، رُدوا أو لم يُردوّا، ومثله عند سيبويه: " دعني ولا أعود ": أي: وأنا لا أعود. تركتني أو لم تتركني.
ومن نصب فإنما أراد أن يكون " رد " يتبعه ترك عودة، كأنه في المعنى: إن رُددنا لم نعد للتكذيب. ومثله: " زرني وأزورَك "، (أي، لتكن
1993
منك) زيارة وأن أزورَك، ولو رفعت لكان المعنى: وأنا أزورُك، زُرتَني أو لم تَزرْني.
ووجه آخر في الرفع، وهو أن يكون معطوفاً على (نُرد)، كأنهم تمنوا أن يردوا، وتمنوا (ألا) يكذبوا / وأن يكونوا من المؤمنين. والأول أحسن، لأنهم لم يتمنوا هذا، إنما تمنوا الرد وادعوا أنهم إذا رُدوا لم يكذبوا وكانوا من المؤمنين.
(والنصب) على جواب التمني، كأنه: يا ليتنا وقع لنا الردّ و (ألا) نكذب، فالواو في جواب التمني كالفاء، وقيل: المعنى في الرفع: لا نكذب واللهِ
1994
ونكون - والله - من المؤمنين، وهو أيضاً منقطع.
وأنكر جماعة النصب، وقالوا: هو خبر أخبروا به عن أنفسهم، ألا ترى أن الله كذبهم فيما أخبروا به، والكذب لا يقع إلا في جواب الخبر.
وأنكر بعض النحويين أن يكون الجواب للتمني بالواو، وقالوا: إنما يكون بالفاء.
وأجاز أبو إسحاق أن يكون التمني داخلاً في الخبر، قال: لأن الرجل الفاسق (يقول): " ليتني في الجنة "، فيقال له: كذبت، لو أردت ذلك لاتقيت الله.
وقد قيل: إنه منصوب على الظرف، وإن معنى الكلام: أنهم تمنوا أن يوقفوا ((وهم) غير مكذبين، لأنهم وقفوا مكذبين، فتمنوا أن يوقفوا) على غير تلك الحال.
1995
(والآية) عند أبي عمرو على التمني، ولا يجوز فيه صدق (ولا) كذب، وإنما كذب الله خبرهم، لا تمنيهم، وخبرهم هو قولهم: (ولا نكذب)، (ونكونُ)، (إن رددنا) فعلنا ذلك، فهذا خبر، فأكذبهم الله في ذلك الخبر الذي أخبروا به عن أنفسهم، لا في تمنيهم.
أو يكون المعنى - على الرفع - (ولا نكذبُ)، (ونكونُ): أي: نفعل ذلك، رُددنا أو لم نُردّ، فهذا خبر منهم، فأكذبهم الله في ذلك، التكذيبُ إنما هو للخبر الذي أخبروا به عن أنفسهم، لا للتمني.
وقال بعض النحويين: إنما يكون هذان الفعلان - في حال النصب - غير متمنَّيْن إذا كانا جواباً لِما في (ليتنا)، وتكون الواو الأولى بمعنى الفاء.
فأما
1996
إن كانت الواو على جهتها، ونصبت على الظرف منويا به الحال، فالفعلان متمنَّيان، والتكذيب للتمني وقع.
ومن قرأ (ولا نكذّبُ) بالرفع، ونصب (ونكونَ)، فالمعنى: أنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين، وأخبرَوا أنهم لا يكذِّبون بآيات ربهم إنْ رُدُّوا إلى الدنيا.
قوله ﴿وَلَوْ ترى﴾ فعل منتظر، وقوله و ﴿إِذْ وُقِفُواْ﴾: فعلان ماضيان، وكذلك ﴿فَقَالُواْ﴾، وكلها منتظرة لم تقع. وهو حسنٌ لطيف فصيح، غاية في البلاغة، لأن كل ما هو كائن - ولم يكن بعد - فهو عند الله بمنزلة ما قد كان، لصحة وقوعه على ما أخبر به عنه، ولِنفوذِ حكم الله به، وتقديره لوقوعه على ما أخبر به، فالكائن وغير الكائن سواء في علم الله.
وقوله ﴿وُقِفُواْ﴾ بمعنى: حُبسوا، و ﴿عَلَى النار﴾ بمعنى " في النار "، بمنزلة قوله:
1997
﴿على مُلْكِ سليمان﴾ [البقرة: ١٠٢] أي: في ملكه. وقيل: معنى ﴿وُقِفُواْ عَلَى النار﴾: أُدخلوها، كما تقول: " قد وَقفتُ على ما عندك "، أي: عَرفتُ حقيقته. وقيل: أوها. وقيل: رأوها. وقيل: جازوا عليها.
و ﴿إِذْ﴾ بمعنى " إذا "، لأنه خبر لا بد أن يكون، فصارِ بمنزلة ما قد كان. يقال: " وقفتُ وقفاً للمساكين " و " وقفتُ أنا "، (وقِفْ) دابتك يا رجلُ.
وحكي عن أبي عمرو أنه قال: ما علمت أحداً من العرب يقول: " أوقفتُ الشيء " بالألف، إلا أني لو رأيت رجلاً في مكان فقلت له: " ما أَوْقَفَكَ ها هنا؟ بالألف، لرأيته حسناً. وفي الآية معنى التعظيمِ لِما هُم فيه.
1998
قوله: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ﴾ الآية.
المعنى: بل ظهر لهم في الاخرة من أعمالهم ما كانوا يخفون في الدنيا، ﴿وَلَوْ رُدُّواْْ﴾ إلى الدنيا ﴿لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ أي: (لو وصل) الله لهم دنيا كدنياهم، لعادوا، ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فيما أخبروا به عن أنفسهم. فأعلمنا الله - في هذه الآية - أن ما لا يكون، كيف كان يكون، لو كان. وفي هذا دليل على قدم علمه بجميع الأشياء، لا إله إلا هو، لم يزل يعلم ما يكون كيف يكون، قبل كونه بلا أمد.
قوله: ﴿وقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا﴾ الآية.
أي قال هؤلاء المشركون: ماَثمَّ حياة إلا حياة الدنيا، وما ثَمَّ بعث بعد الفناء، وهذه حكاية عنهم، وما كانوا يقولون في الدنيا. وقال ابن زيد: هي خبر
عنهم أنهم لو رُدّوا لقالوا ذلك، ولعادوا لما نهوا عنه.
وقد كره قوم الوقف على ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ لقبح اللفظ بنفي البعث، ولو صح هذا، لكان الوصل كالوقف، ولوجب امتناع القراءة بهذا اللفظ، وهو قول ساقطٌ مردود، فالوقف على ﴿بِمَبْعُوثِينَ﴾ جائز حسن عند أهل العربية، ولا شناعة فيه، إنما هو حكاية عن قول المشركين، وقد جهل من منع ذلك واستخف به.
قوله: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق﴾ الآية.
المعنى: ولو ترى يا محمد هؤلاء القائلين: " ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين "، إذ حُبسوا (على ربهم): أي: على حكم ربهم وقضائه وعدله فيهم، فقيل لهم، أليس هذا الحشر والبعث بعد الممات - الذي كنتم تنكرونه في الدنيا - حقاً؟، فأجابوا: بلى وربنا إنه لحق، قال: فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون في الدنيا جزاءً لكفركم وتكذيبكم.
وقال: ﴿وَلَوْ ترى﴾، فأتى بالمستقبل لأنه أمر ينتظر يوم القيامة، ثم قال: (إذ): و " إذ " لما مضى وانقضى، وقال: (وَقِفوا) ف ﴿قَالُواْ﴾، فجاء بفعلين ماضيين قد كانا،
وإنما ذلك، لأن (كل ما) أعلمنا الله به أنه سيكون هو كالكائن الواقع، لصدق المخبِر بذلك ونفوذ علمه بكونه، فصار كالواقع الكائن، فأتى بلفظ الماضي.
قوله: ﴿قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله﴾ الآية.
المعنى: قد وُكس فيه بيعه من باع الإيمان بالكفر. وقيل: المعنى: " قد خسروا أعمالهم وثوابها ".
ومعنى لقاء الله هنا: أنه البعث والنشور اللذان عندهما يكون لقاء الله والمصير إليه.
ويجوز أن يكون معناه: كذبوا بلقاء ثوابه وعقابه - (وقد قيل) في قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ﴾ [السجدة: ٢٣] أي: في شك من لقاء موسى ربَّه وتكليمهِ له -، ولا يكون اللقاء في هذه الآية النظرَ إلى الله جل ذكره، لأنهم لم يؤمنوا بالبعث، فضلاً عن النظر إليه، وإذا لم يؤمنوا بالبعث، فأحرى ألا يؤمنوا بالنظر، لأن البعث يؤدي إلى
2001
النظر إلى الله تعالى ذكره، يَرَاه المؤمنون يوم القيامة.
وقد يكون اللقاء بمعنى القرب والنظر في غير هذا.
ويكون اللقاء بمعنى السبب الذي يؤدي إلى اللقاء، مثل هذه الآية، ومنه قولهم: " اللهم بارك لنا في لقائك "، يراد به: بارك لنا في الموت الذي يؤدي إلى البعث الذي فيه لقاؤك، وقال الله: ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله﴾ [العنكبوت: ٤] أي: يخاف الموت.
و ﴿بَغْتَةً﴾ نصب على الحال، وهو مصدر في موضع الحال عند سيبويه، ولا يقاس عليه غيره.
قوله: ﴿ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾: هذا (حين) يرى أهل النار منازلهم من الجنة لو عملوا بعمل أهل الجنة، فيندمون على التفريط / في الدنيا، فيقولون: ﴿يا حسرتنا﴾ أي: تعال يا حسرة، فهذا وقتُك وإِبّانُكِ.
والهاء في (فيها) عائدة على الصفقة، وهي التي ذكرت قبل في قوله: ﴿قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله﴾ أي: خسروا ببيعهم الايمان بالضلالة، ومنازلهم في الجنة
2002
بمنازلهم في النار، فإذا جاءتهم الساعة، تبين لهم خسران بيعهم، وندموا صفقتهم فقالوا: ﴿ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ أي: في الصفقة؟
ويجوز أن تعود الهاء على ﴿الدنيا﴾ [الأنعام: ٢٩]، لأن فيها كان تفريطهم.
وقوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾ أي: " آثامهم وذنوبهم ". وخص " الظهر "، لأن الحمل قد يكون على غيره.
وروي عن عمرو بن القيس المُلائي أن المؤمن إذا خرج من قبره، استقبله أحسن شيء صورة، وأطيبُه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟، فيقول: لا، إلا أن الله قد طيّب ريحك وحسّن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طال ما ركبتك في الدنيا، فاركبني، أنت اليوم، وتلا
2003
﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً﴾ [مريم: ٨٥].
(وإن) الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟. فيقول: لا، إلا أن الله قد قبح صورتك ونتن ريحك. فيقول: كذا كنت في الدنيا، أنا عملك السيء طال ما ركبتني في الدنيا، فأنا اليوم أركبك.
وتلا ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾. ورواه أبو هريرة عن النبي عليه السلام بهذا المعنى، واللفظ مختلف.
وقال السدي: (قوله): ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلاّ جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون منتن الريح، عليه ثياب دَنِسَة حتى يدخل معه في قبره. فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك!، قال: كذلك كان عملك قبيحاً. قال ما أنتن ريحك!، قال: (كذلك كان) عملك منتناً. قال: ما أدنس ثيابك! (قال كذلك) كان عملك دنساً. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك. فيكون معه في قبره. فإذا بعث يوم القيامة قال: إني كنت أحملك في الدنيا
2004
باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾.
وروى المقبري عن أبي هريرة في حديث يرفعه قال: " إذا كان يوم القيامة، بعث الله مع كل امرئ مؤمن عمله، ويبعث مع الكافر عمله فلا يرى المؤمن شيئاً يروعه ولا شيئاً يفزعه ولا يخافه إلا قال له عمله: " أبشر بالذي يسرك، فإنك لست بالذي يراد بهذا ". ولا يرى الكافر شيئاً يفزعه ولا يروعه ولا يخافه إلا قال له عمله: " أبشر يا عدو الله بالذي يسوءك، فوالله (إنك) لأنت الذي (يراد بهذا) " ".
وقوله: ﴿أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ معناه: بئس الشيء يحملون.
قوله: ﴿وَمَا الحياوة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ الآية.
هذه الآية تكذيب للكفار في قولهم: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ [الجاثية: ٢٤] فأخبر الله تعالى أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأخبر أن الدار الآخرة خير، على معنى: ولَعَمَل الدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون.
قوله: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾ الآية.
المعنى: أن / (قد) في هذا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه، و (نعلم) بمعنى: " علمنا ". والتقدير: قد نعلم - يا محمد - إنه ليحزنك قولهم إنك كاذب، وإنك ساحر.
﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ جهلاً منهم بصدقك، بل أنت - فيما يسرون - صادق، ولكنهم حسدوك فكذبوك، وهم يعلمون أنهم ظالمون لك، وأنك صادق، هذا على قراءة من قرأ بالتشديد. قال أبو عمرو: وتصديقها ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ﴾ [الأنعام: ٣٤].
ومعنى قراءة التخفيف - عند الفراء والكسائي -: هو من قولهم: " أكذبت الرجل "، إذا أخبرت أنه كاذب فيما قال فقط. و " كذّبته ": إذا أخبرت أنه كاذب في كل
2006
ما يأتي به.
وحكى أبو عبيدة: " أكذبت الرجل " إذا أخبرت أنه جاء بالكذب، و " كذّبته " إذا أخبرت أنه كاذب.
وروي أن أبا جهل قال للنبي: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾.
ومعنى التشديد - عند غير هؤلاء - فإنهم لا ينسبونك إلى الكذب. ومعنى التخفيف فإنهم لا يجدونك كاذباً، كما يقال: " أحمدت الرجل "، إذا أصبته محموداً.
2007
ويكون معنى التخفيف (أيضاً): لا يبيِّنون عليك أنك كاذب، يقال: " أكذبته "، إذا احتججت عليه وبيّنت (أنه كاذب)، وقال قطرب: " أكذبت الرجل ": دللت على كذبه.
وروي " أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله يوماً وهو جالس حزين، فقال له: ما يُحزنك؟، فقال: كذّبني هؤلاء. فقال له جبريل: ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ هم يعلمون أنك صادق، ﴿ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾ ".
ويروى أن الأخنس بن شريق الثقفي مر بأبي جهل (بن هشام) يوم بدر، فقال له: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، (أصادق) هو أم كاذب؟ فأنه ليس هنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا؟!، فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبؤة،
2008
فما يكون لسائِر قريش؟ فذلك قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ أي: عن يقين.
وقيل معناه: فإنهم لا يكذبونك ولكن يكذبون ما جئت به، (وروي أن أبا جهل قال للنبي ﷺ: ما نتهمك، ولكن نتهم الذي جئت به).
قوله: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾ الآية.
وهذه (الآية) تسلية للنبي ﷺ، أعلم أنه قد حل برسل من قبله مثل ما حل به، فصبروا على التكذيب والأذى، فاصبر أنت يا محمد كما صبروا حتى يأتيك الصبر كما أتاهم.
(قوله): ﴿وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾ أي: لما سبق في علمه، لا بد أن يكون.
﴿وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين﴾ أي: أتاك (نبأهم) أنهم كذبوا وأوذوا فصبروا
حتى أتاهم النصر.
قوله: ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ الآية.
المعنى: وإن كان يا محمد عظُم عليك إعراض هؤلاء المشركين عنك وعن تصديقك، فلم تصبر، فعظم عليك أن يعرضوا إذ سألوا أن تنزل عليهم ملكاً، ﴿فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض﴾ أي: سرباً فتذهب فيه، ﴿أَوْ سُلَّماً فِي السمآء﴾ تصعد فيه، - (في) بمعنى " إلى " -، ﴿فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾، فافعل.
(و) السلم: المصعد هو مشتق من السلامة، كأنه يسلمك إلى الموضع الذي تريد. وجواب الشرط هنا محذوف، المعنى فافعل ذلك.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى﴾.
أي على كلمة الحق، لفعل، ولكنه لم يفعل لسابق علمه أنه يهدي من
يشاء ويضل من يشاء، فليس الاهتداء بفعل للعبد، بل هو لله، يوفق من يشاء ويخذل من يشاء.
﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين﴾ أي: ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجمع على الهدى جميع خلقه، وهذا يدل على رد (قول) من زعم أنْ ليس عند الله لطف يوفق به الكافر حتى يؤمن.
وقيل: معنى الخطاب لأمة محمد، والمعنى: فلا تكونوا من الجاهلين. ومثله في القرآن كثير.
قوله: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أعلم نبيه أنه إنما يستجيب لدعائه الذين فتح الله أسماعهم إلى سماع الحق، وسهل لهم اتِّباع الرشد.
﴿والموتى يَبْعَثُهُمُ الله﴾ أي: والكفار الذين هم عدد الموتى يبعثهم الله في عدد
الموتى الذين لا يسمعون صوتاً ولا يعقلون قولاً، ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ في القيامة.
و ﴿يَسْمَعُونَ﴾ تمام عند الجميع.
وقال الحسن: المعنى: أن الكفار مثل الموتى، والله يوفق منهم من يشاء إلى الإيمان فيكون ذلك بعثهم من موتهم.
﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة.
وقال مجاهد: معناه: حين يبعثهم الله ﴿يَسْمَعُونَ﴾ يعني الكفار، أي: إذا وفقهم الله يسمعون.
قوله: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ الآية.
أي قال هؤلاء العادلون بالله غيره: هلا نزل على محمد آية، أي: علامة، قل يا محمد: ﴿إِنَّ الله (قَادِرٌ على) أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: لا يعلمون أن الله إنما ينزل ما فيه الصلاح لعباده.
قوله: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض﴾ الآية.
المعنى: أنه ليس طائر يطير ولا دابة إلا وقد أحصى الله عملها وآثارها وحركاتها، فهي تتصرف - كما يتصرفون - فيما سخرت له، ومحفوظاً عليها ما عملت من عمل، لها وعليها، حتى يجازى (به) يوم القيامة، لم تخلق عبثاً، فمن أحصى أعمال الطير وجميع البهائم هو قادر على إحصاء أعمالكم وتصرفكم أيها العادلون بالله.
ومعنى ﴿إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ أي: يعرفون الله ويعبدونه.
والأمم: الأجناس.
وقال ابن جريج: ﴿أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ أي: " أصناف مصنفة تعرف بأسمائها ".
قال أبو هريرة: ما من دابة في الأرض ولا طائر إلا سيحشر يوم القيامة ثم يقتص
2013
لبعضها من بعض، حتى (يقتص للجماء) من ذات القرن، ثم يقال لها: كوني تراباً، فعند ذلك ﴿وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً﴾ [النبأ: ٤٠]. وإن شئتم فاقْرَأوا: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض (وَلاَ طَائِرٍ) يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ إلى ﴿يُحْشَرُونَ﴾.
ومعنى: ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ - وقد علم أنه لا يطير إلا بهما -: أن هذا كلام جرى على عادة العرب في لغاتها في التأكيد فخوطبوا بما يعلمون أنه مستعمل عند العرب، ((تقول العرب): " مشيتُ إليه برجلي " و " كلمته بفمي " فوكد الطيران ((بقوله)): (بجناحيه) على ذلك.
وقيل: لما كانت العرب تستعمل لفظ " الطيران " في غير الطائر، فتقول لمن ترسله في حاجة: " طِ~ر في حاجتي "، تريد " أسرع ". ويقولون: " كاد الفرس يطير " إذا أسرع في جريه، فيعبرِّون بالطيران عما ليس له جناحان، ففرق
2014
بذكر الجناحين بين المعنيين.
ويكون " الطائر " عمل الإنسان اللازم له من خير وشر، ويكون " الطائر " من السعد والنحس، كقوله: ﴿طَائِرُكُمْ عِندَ الله﴾ [النمل: ٤٧]، فبين في الآية /. أنه الطائر الذي يطير بجناحيه، لا غير.
وقيل: معنى ﴿(إِلاَّ أُمَمٌ) أَمْثَالُكُمْ﴾ أي: خلقهم ودبّرهم ورزقهم وكتب آثارهم وآجالهم كما فعل بكم.
(و) قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ أي: قد دللنا على كل شيء من أمر الدين في القرآن، إما دلالة مشروحة، وإما جملة.
قال ابن عباس: " ما تركنا شيئاً إلاَّ قد كتبناه في أمِّ الكتاب "، يعني اللوح المحفوظ مما يكون وكان.
2015
وقيل: المعنى: أن آثار هذه الأمم وآجالها وأرزاقها، كل مكتوب عند الله، فلم يفرط فيه في الكتاب الذي عنده، كل مكتوب فيه.
ف (الكتاب) على هذا القول والذي قبله: هو اللوح المحفوظ و (الكتاب) في القول الأول: هو القرآن.
وروي أن النبي عليه السلام قال: " إن الله قد حد حُدوداً فلا تنتهكوها، وسنَّ سُنناً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء - لم يدَعْها نِسياناً، كانت رحمة من الله - فَاقْبلَوها ".
وقال ﷺ لابن عباس: " الأمور ثلاثة - يا ابن عباس - أمرَ بَانَ لك رُشُده فاتَّبِعْه، وأمر بَانَ لك غيُّه فاجتنبه، وأمرٌ غاب عنك فكِلْهُ إلى الله تعالى ".
وقيل المعنى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ مما يحتاجون إليه، يعني القرآن. وقوله ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ قال ابن عباس: " موت البهائم: حشرها ". قال الفراء:
2016
" حشرها: موتها، ثم تحشر مع الناس فيقال لها: كوني تراباً، فعند ذلك يتمنى الكافر أنه كان تراباً ". وقيل: الحشر هنا: الجمع يوم القيامة.
و" روي أن عنزين انتطحا، فقال النبي ﷺ: " أتدرون فيما انتطحا؟، قالوا: لا ندري. قال: لكنّ اللهَ يدري، وسيقضي بينهما " ".
قوله: ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ الآية.
المعنى: أن الله تعالى أعلمنا أن الكافرين بآيات الله ﴿صُمٌّ﴾ عن سماع الهدى، ﴿وَبُكْمٌ﴾ عن قول الحق، ﴿فِي الظلمات﴾ أي: في الكفر، وذلك أنهم لما لم ينتفعوا بما سمعوا ولا قالوا ما ينتفعون به، كانوا بمنزلة الصم والبكم، ثم أخبر تعالى أنه المضل لمن يشاء من خلقه عن الإيمان، وأنه يهدي من يشاء إلى الحق والصراط المستقيم، كل ذلك قد تقدم (في) علمه.
والتمام عند بعضهم: ﴿فِي الظلمات﴾.
قوله: ﴿قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله﴾ الآية.
2017
حكى أبو (عبيد) عن ورش في " أرايت " و " أرايتكم " أنه يحقق الأولى، ويسقط الثانية ويعوض منها ألفاً. فمن أجل هذه الرواية رواه جماعة عن ورش بالمد. والذي عليه أهل العربية أنه يسهل الثانية فيجعلها بين الهمزة والألف، فلا يقع فيه إشباع مدُّ. وقد قرأنا فيه لورش بالمد على القول الأول.
2018
واختُلف في الكاف: فقال البصريون: لا موضع لها من الإعراب، وإنما هي للمخاطبة.
وقال الكسائي: هي في موضع نصب لوقوع الرؤية عليها، والمعنى: أرأيتم أنفسكم.
وقال الفراء: هي في موضع رفع، لأنه لم يرد أن يوقع فعل الرجل على نفسه، لأنه يسأل عن غيره.
وفرق الكسائي بين (رؤية) القلب والعين: فأسقط الهمزة من رؤية القلب، (لأن رؤية القلب) معناها: أخبروني عن كذا. وليس ذلك في رؤية العين. ففرق - بطرح الهمزة - بين المعنيين، وهو خطاب للكفار.
2019
ومعنى الآية: أخبروني أيها العادلون بالله غيره إنْ أتاكم عذاب الله، كالذي جاء من كان قبلكم من الامم الظالمة، أو جاءتكم الساعة فبُعثتم للعرض، أغير الله تدعون في ذلك الوقت إن كنتم محقّين في دعواكم أن آلهتكم تنفع وتضر.
قال: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ الآية.
أي إليه تستغيثون، ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ﴾ (أي) فيكشف الضر الذي من آجله دعوتم. ﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ أي: تنسون شرككم إذا أتاكم العذاب. فقوله: ﴿إِنْ شَآءَ﴾ مشيئة قدرةٍ، و (هو لا يشاء أن يكشف) عنهم العذاب عند نزوله، (لقوله): ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥].
قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ﴾ الآية.
(هذه الآية) تحذير للعادلين بالله غيره أن يتمادوا على ظلمهم فيهلكهم الله بالبأساء والضراء، كما أهلك من كان قبلكم حين كذبوا الرسل. والبأساء: شدة
الفقر والضيق في المعيشة، والضراء: الأسقام والعلل في أجسامهم.
وقيل: البأساء: الجوع والفقر، والضراء: نقص الأموال والأنفس. وقال القتبي: " (البأساء): الفقر وهو البؤس، والضراء: البلاء ".
وفي الكلام حذف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً، فكذبوهم، فأخذناهم.
ومعنى ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ أي: ليكونوا على رجاء من التضرع، هذا مذهب سيبويه. والتضرع: التفعل من الضراعة، وهو الذل والاستكانة.
قوله: ﴿فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا﴾ الآية.
" المعنى: فهَلاّ إذ جاءهم بأسنا تضرّعُوا "، أخبر الله تعالى عنهم أنهم قد بلغ
(منهم - من القسوة -) ما تركوا التضرع معها، والطلبة عند اتيان العذاب. وتحقيق المعنى: لعلهم يتضرعون فلم يتضرعوا، ﴿فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ﴾ فيصرف عنهم العذاب. ﴿ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي: أقاموا على التكذيب وأصروا عليه وزيّن لهم الشيطان أعمالهم.
قوله: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ الآية.
المعنى: فلما تركوا العمل بما أُمروا به على ألسن الرسل.
وقوله: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي: استدرجناهم بالنعم التي كنا متعناهم إياها.
روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا رأيتَ الله يُعطي العبدَ مَا يُحِبّ وهو مقيمٌ على معاصيه، فإنّما ذلك استدراج " ثم نوع بهذه الآية ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (إلى قوله ﴿رَبِّ العالمين﴾.
2022
ومعنى: ﴿أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي: كل شيء) كان قد أَغلق عنهم من الخير، جَعل مكان الضراء الصحة والسلامة، ومكان البأساء الرخاء والسعة، حتى إذا فرحوا بما فتح عليهم من النعيم والصحة اللذين كانا قد أَغْلَقَ عنهم، ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ أي: أخذناهم بالعذاب فجأة وهم لا يعلمون.
قال ابن جريج: أخذوا أعجب ما كانت الدنيا إليهم.
﴿فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ﴾ قال السدي: معناه، هالكون قد انقطعت حجتهم، نادمون على ما سلف منهم.
وقال بعض (أهل) اللغة: معنى ﴿فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا﴾: ظنوا أنهم إنّما أوتوا / ذلك استحقاقاً، قال: والمبلس: الشديد الحسرة الحزين.
2023
قال ابن زيد: الإبلاس أشد من الاستكانة.
وروي عن النبي عليه السلام (أنه) قال: " إذا رأيتَ اللهَ يُعطي عبدهَ في دُنياهُ، فإنّما هو اسْتِدراجٌ "، يعطي: يوسع عليه دنياهُ وهو لا يقلع عن المعاصي، يدل على ذلك الحديث الذي بعده، " ثم تلا هذه الآية ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ الآية.
وعنه ﷺ أنه قال: " إذا رأيتَ اللهَ يعطي العِبادَ ما يشاءون على معاصيهم إياه، فإنما ذلك استدراج منه لهم "، ثم تلا الآية.
وقيل: الإبلاس: انقطاع الحجة والسكون.
وقيل: هو الندم والحزن على الشيء يفوت.
وقيل: هو الخشوع. وقال القتبي: " (مبلسون): يائسون ".
قوله: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ القوم (الذين ظَلَمُواْ)﴾ الآية.
المعنى: فاستُؤْصِل القوم الذين ظلموا، فلم يبق منهم أحد إلا هَلَكَ بغتة. والدّابِر: الآخِر. وإذا قطع دابرهم فقد قُطعوا، ولأن الآخِر لا يوصَل إليه إلا بعد أوّلٍ.
﴿والحمد للَّهِ﴾ أي: الثناء التام لله على نعمه على رسله وأهل طاعته بإظهار حجتهم على من خالفهم من أهل الكفر.
قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ﴾ الآية.
روى ابن (عامر) عن أصحابه عن ورش: (بِهُ انظُر) بالضم للهاء، وكذلك روى ابن سعدان عن (المسيبي)، وهي قراءة
2025
الأعرج، أتوا بالهاء على أصلها، وهو الضم. وإنما كسرت - في قراءة الجماعة - لأجل كسرة الباء قبلها، لئلا يخرج من كسر إلى ضم، وذلك ثقيل.
وقيل: إنما كسرت الهاء، لأنه ليس في الكلام " فِعْلُ "، والضم هو الأصل.
والمعنى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء العادلين بالله الأوثان: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ﴾، فذهب بها، ﴿وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ﴾، أي: طبع عليها، فلا تسمعون ولا تبصرون ولا تعقلون، من معبود غير الله يرد عليكم ما ذهب (عنكم)؟، وهذا (تعليم من الله) لنبيه الحجة على المشركين. ثم قال لنبيه: انظر:
2026
كيف نصرف (لهم) الآيات أي: كيف نتابع لهم الحجج، ونضرب لهم الأمثال، ثم هم - مع ذلك - يصدفون، أي: يعرضون قاله مجاهد وجماعة معه. وقال ابن عباس: يعدلون. وقال السدي: يصدون.
وقوله: ﴿يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾: الهاء تعود على السمع، وقيل: المعنى: يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار، فوحدت الهاء لأنها مكان " ما "، وقيل: الهاء كناية عن الهدى.
﴿يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ تمام عند نافع وغيره.
قوله: ﴿قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إنأتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لهم: أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة، أي: فجأة
على غَرّة، أو أتاكم جهرة، أي: وأنتم تجاهرونه، أي: تعاينونه، ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون﴾ أي: (لا) يُهلِك اللهُ منا ومنكم إلا من ظلم فعبد مَن (لا) يستحق العبادة، وترك عبادة من يستحق العبادة.
قوله: ﴿وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ (مُبَشِّرِينَ)﴾ الآية.
المعنى: أن الله أعلمنا أنه إنما يرسل الرسل مبشرين أهل الطاعة بالجنة والفوز، ومنذرين أهل الخلاف والكفر بالنار على فعلهم، لم يرسلهم ليقترح عليهم الآيات بل تصحبهم منها ما يدل على صدقهم مما يريد الله، ﴿فَمَنْءَامَنَ﴾ أي: صدق بالرسل، ﴿وَأَصْلَحَ﴾ أي: (عمل) صالحاً في الدنيا، ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾
في الآخرة ولا حُزُنٌ.
قوله: ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العذاب﴾ الآية.
قرأ يحيى بن وثاب ﴿يَفْسُقُونَ﴾ بكسر السين، لغة معروفة. وقرأ الحسن والاعمش ﴿العذاب بِمَا﴾ بالإدغام.
وقال ابن زيد: " كل " فسق " في القرآن فمعناه: الكذب ".
والمعنى: والذين جحدوا ما جاءتهم به رسلهم يمسهم العذاب في الآخرة بتكذيبهم الرسل.
قوله: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله: لست أقول لكم عندي خزائن الله أي: لست أقول: إني أنا الرب الذي بيده خزائن السماوات والأرض، ولست أعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الرب، ﴿ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾، لأنه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهراً بصورته لأبصار البشر في الدنيا فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك، ﴿إِنْ أَتَّبِعُ﴾:
(أي ما أتبع)، ﴿إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾.
و (كل هذا) تنبيه من الله لنبيه على مواضع الحجة على مشركي قريش. ثم قال: قل (لهم) يا محمد: هل يستوي الأعمى عن الحق والبصير به.
و ﴿الأعمى﴾: الكافر: لأنه عَمِي (عن) حجج الله. و ﴿البصير﴾: المؤمن، لأنه أبصر حجج الله وآياته، فاهتدى بها، ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ فيما أقول لكم.
وقيل: المعنى: لا أقول لكم عندي خزائن الله التي فيها العذاب، لقولهم: ﴿ائتنا بِعَذَابِ الله﴾ [العنكبوت: ٢٩].
قوله: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا﴾ الآية.
هذه الآية أمر من الله للنبي أن ينذر بالقرآن الذين يخافون الحشر والحساب والعقاب وقد صدقوا به وآمنوا. واختص هؤلاء، لأن الإنذار ينفعهم،
إذْ هُم قابلوه ومصدقوه.
والخوف: بمعنى العلم، أي: يعلمون ذلك ويَتَيقَّنُونَه، وقد أُرسل النبي عليه السلام لإنذار الخلق كافة.
وقوله: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾: هذا رد لقول اليهود والنصارى: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
قوله: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (بالغداة والعشي)﴾ الآية.
قوله: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾: جواب النهي، و ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ جواب النفي. والتقدير: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، فتكون من الظالمين، ما عليك من حسابهم من شيء فتَطرُدهم: آخِرُ الكلامِ لأَوَّلِه، وأوسطُهُ لأِوسَطِهِ.
2031
وهذه الآية نزلت في سبب جماعة صحبوا رسول الله - من ضعفاء المسلمين - فقالت قريش للنبي - وعنده صهيب وعمار بن ياسر وبلال وخباب، ونحوهم من الضعفاء -: يا محمد، رضيت بهؤلاء (من قومك، أهِؤُلاء) ﴿مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ﴾ [الأنعام: ٥٣]، أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟، اطْرُدْهم، فلعلك إنْ طَرَدْتَهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ الآية.
وروي عن خباب أنه قال: جاء ناس من المشركين والنبي ﷺ جالس مع بلال وصهيب وخباب وعمار في أناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقّروهم، فأتوا فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب
2032
فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعْبُدِ، فإذا جئناك فَأَقْصِهِم، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال نعم. فقالوا: فاكتب (لنا عليك) / بذلك كتاباً. قال: فدعا النبي ﷺ بالصحيفة ودعا عليّاً ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ الآية، ثم قال له: ﴿وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ٥٣] الآية، ثم قال (له): ﴿وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤] الآية. فألقى النبي الصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة﴾ [الأنعام: ٥٤]، فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم
2033
تَرَكَنا، فأنزل الله ﴿واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: ٢٨] (الآية)، فكان رسول الله يقعد معنا بعد ذلك، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، (قمنا) وتركناه حتى يقوم.
وقال الفضيل في هذه الآية: جاء قوم إلى النبي ﷺ فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب، فاسْتَغِفر لنا، فأعرض عنهم، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ [الأنعام: ٥٤] الآية.
وقيل: إنما أراد المشركون أن يطرد النبي ﷺ الفقراء، (فيحتجوا عليه إذ لم يتبعه الفقراء، ويقولوا: إن أتباع النبي الفقراء). فعصمه الله مما أرادوا به.
2034
وقال الكلبي: (أبو طالب) عم النبي (هو الذي) قال للنبي: اطْردْ فلاناً وفلاناً. وإنّ ناساً من أصحاب النبي قالوا: يا رسول الله، صدق عمك فاطرد عنا سفلة الموالي. فعاتبهم الله في الآية الأولى، فجاءوا يعتذرون من قولهم " أطردهم "، فأنزل الله ﴿وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ﴾
[الأنعام: ٥٤].
ومعنى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي﴾ قال مجاهد: (هي) " الصلاة المفروضة: الصبح والعصر ". وقال ابن عباس: هي الصلوات المفروضة الخمس، وقاله الحسن. وكذلك قالوا كلهم في قوله: ﴿واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي﴾ [الكهف: ٢٨].
وقال قتادة والضحاك: هي صلاة الصبح والعصر. وعن ابن عمر قال: يشهدون المكتوبة.
2035
وقيل: معنى - الدعاء - هنا -: ذِكرُهم الله غدوةً وعشياً. وقيل: الدعاء هنا: العبادة. وقيل: هو إِقْراء القرآن.
وقال الحسن: يعني الصلاة التي فرضت بمكة: ركعتان غدوة وركعتان عشية، وهذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس. وقال عمرو بن شعيب: هما صلاة الصبح وصلاة العصر. وقد قيل: إنهم القُصَاصَ. وأنكر ذلك جماعة من الصحابة والتابعين.
وروي أنهم سألوا النبي أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول.
والتمام هنا: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾، لأنه جواب النهي، وقد قيل: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ تمام، وليس بجيد.
قوله: ﴿وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ الآية.
المعنى: وكذلك ابْتَلَيْنا بعضهم ببعض)، أي: جعل بعضا فقيراً، وبعضاً غنياً وبعضاً ضعيفاً، وبعضاً قوياً، فأحوج بعضهم إلى بعض اختباراً منه لهم.
قال ابن عباس: قال الأغنياء للفقراء: ﴿أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ﴾ فهداهم؟، استهزاءاً منهم وسخرياً.
ومعنى اللام: أنه لما آل عاقبة أمرهم إلى هذا القول، صاروا كأنهم إنما احتبروا (لِيَقولوا)، بمنزلة ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨].
(و) قوله: ﴿بِأَعْلَمَ بالشاكرين﴾ أي: الموحدين.
قوله: ﴿وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ الآية.
هذه الآية عني بها الذين تقدم / ذكرهم في النهي عن طردهم. وقيل: عنى بها قوماً أصابوا ذنوباً عظاماً، فاستفتوا النبي فيها، فلم يُؤَيّسْهم الله من
2037
رحمته. وقيل: عنى بها قوماً من المسلمين كانوا قد أشاروا على النبي بطرد الذين نهى الله عن طردهم، فكان ذلك منهم خطيئة، فاعتذروا من ذلك، فأُخبِروا في الآية أنه من تاب قُبِل منه، هذا على قول عكرمة وابن زيد.
ومعنى ﴿سواءا بجهالة﴾ أي: من عمل ذنباً وهو جاهل به.
ومعنى ﴿كَتَبَ﴾: أوجب ذلك وقيل: " كتب في اللوح المحفوظ ".
والوقف فيها مفهوم، لا يحسن أن يبتدأ بـ (أن) وهي مفتوحة، ولا بالفاء في (فَإِنَّه)، كسرتَ (أن) أو فَتَحْتَها، وتبتدئ بـ (إِنْ) إذا كسرتها،
2038
وهي الأَوْلَى فاعلم.
قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ﴾ الآية.
المعنى: و (كما) فصلنا لك يا محمد ما تقدم، نفصل (لك) الأعلام والحجج الدّالة علينا فيظهر لك طريق المجرمين، وتعلم باطل ما هم عليه.
واللام متعلقة بفعل محذوف دل عليه (نُفَصِّل). والمعنى: لتستبين سبيلَ المجرمين (فَصَّلناها، وهذا خطاب للنبي والمراد به أمّته، والمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين)، فأما النبي ﷺ فقد كان عالماً بطريقهم، وأنهم على باطل. هذا على قراءة من نصب " السبيل ".
فأما من رفع، ففي الكلام حذف، والمعنى: ولتستبين سبيل المجرمين (والمؤمنين) فصلناها.
ومعنى: ﴿نفَصِّلُ الآيات﴾ نأتي بها متفرقة شيئاً بعد شيء لتُفهم على مهل.
قوله: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ﴾ الآية.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين: إني نهيت أن أعبد أصنامكم الذين تقولون إنها تقربكم إلى الله زلفى، ولا أتبع أهواءكم التي عبدتم بها ما لا يجوز أن يُعبد، ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً﴾ أي: قد ضللت إن عَبدتُها، ﴿وَ (مَآ أَنَاْ) مِنَ المهتدين﴾، أي: من المتّبعين الهدى إنْ فعلتُ ذلك.
قوله: ﴿قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ الآية.
المعنى: ﴿قُلْ﴾: لهم يا محمد: ﴿إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾: أي: حجة ظاهرة، وهي النبوة
2040
قد ظهرت لي.
وكذبتم أنتم به: أي: بربكم. وقيل: بالقرآن. وقيل: بالبيان وقيل: بالعذاب.
﴿مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ يريد من النقم والعذاب الذي تقترحون به، أي ليس ذلك بيدي، ما الحكم إلا لله في عذابكم وإمهالكم.
﴿يَقُصُّ الحق﴾ أي: يقضي القضاء الحق، ﴿وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين﴾ أي: الحاكمين.
2041
وفي قراءة عبد الله: (وهو أسرع الفاصلين).
﴿وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾ وقف، ﴿تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ وقف.
قوله: ﴿قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ الآية.
المعنى: ﴿قُل﴾ يا محمد لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب: ﴿أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ من العذاب، لَجِئتُكم به، فيُقضى الأمر بيني وبينكم، ولكن ذلك بيد الله، وهو أعلم بالظالمين، أي: متى يهلكهم.
وقيل: معنى ﴿لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾: لذُبِحَ الموت، قاله ابن جريج، يريد به معنى قوله: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ [مريم: ٣٨].
يروى " أن أهل الجنة والنار إذا استقر كل واحد في موضعه، أُتِيَ بالموت في
صورة / ما شاء الله فيُذْبَح بِمَرأَىً من الجميع، ويقال: يا أهل الجنة خلودٌ لا موت، ويا أهل النار خُلودٌ لا موت " هذا معنى الحديث لا لفظه. فهو الذي قال النبي لهم: ﴿لَقُضِيَ الأمر﴾، وهو التفسير في قوله ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة﴾ [مريم: ٣٨].
﴿وَبَيْنَكُمْ﴾ وقف حسن.
قوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب﴾ الآية.
واحد المفاتح: مِفَتح، بكسر الميم وفتحها، والمعنى: وعند الله خزائن الغيب.
قال ابن عباس: مفاتح الغيب خمس في آخر " لقمان ": ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ [لقمان: ٣٤]
2043
إلى ﴿خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٣٤].
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: ما تغيض الأرحام، وما في غد، ومتى يأتي المطر، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأيّ أرضٍ تموت " ورواه ابن عمر عن النبي عليه السلام.
﴿إِلاَّ هُوَ﴾: تمام.
وقوله: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾: أي: ما تسقط من ورقة في الصحاري والبراري والأمصار والقرى إلا الله يَعلَمها، ﴿وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض﴾ أي: بطون الأودية، ولا رطبها ولا يابسها، ﴿إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ﴾ وهو اللوح المحفوظ، مرسوم فيه عدده ووقته في اخضِراره ويُبسِه وسقوطه. وكل ذلك عن علم الله غيرُ خارج، وإنما أثبتت في اللوح امتحاناً لحَفَظَة الخلق. فقد روي أنهم مأمورون بكتابة
2044
أعمال العباد، ثم يَعرِضها على ما أثبته تعالى في اللوح المحفوظ.
قال عبد الله بن الحارث: ما في الأرض (من) شجرة ولا مغرِز إبرة إلا عليها (ملك) موَكّل يأتي الله بعلمها: يُبْسها إذا يَبِسَت، ورطوبتها إذا رَطُبَت.
وقيل: المعنى في كَتْبِها: أنه لتعظيم الأمر، فمعناه: اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف ما فيه ثواب وعقاب؟
قوله: ﴿وَهُوَ الذي يتوفاكم﴾ الآية.
المعنى: قال لهم يا محمد: إن الله أعلم بالظالمين، وإن الله عنده مفاتح الغيب، وإن الله هو الذي يتوفاكم، (أي): يقبض أرواحكم من أجسادكم
2045
بالليل، ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار﴾: أي: ما اكتسبتم من الأعمال بالنهار.
وأصل الاجتراح: عمل الرجل بجارحة من جوارحه: يَدِه أو رِجليه، فكثر ذلك حتى قيل لكل مكتسب (شيئاً بأيّ أعْضاء جسمِه كان: " (مجترح) "، ولكل مكتسب) عملاً: " جارح ".
ومعنى: التوفَّي: استيفاء العدد
وقوله: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ أي يوقظكم من منامكم في النهار.
الهاء في (فيه) تعود على " النهار "، لأن الإنسان يتمادى به النوم حتى يصير في النهار فينتبه، فلذلك بَعثُهُ. وقال ابن جبير: (يَبعثُكم فيه): في المنام.
2046
﴿ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى﴾: أي: ليقضي الله الأجل (الذي سماه لحياتكم، ثم يأتي الموت الذي مرجعكم منه إلى الله)، فينبئكم بما كنتم تعملون في الدنيا.
و ﴿أَجَلٌ مُّسَمًّى﴾: الموت. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ بعد الموت.
قوله: ﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ الآية.
المعنى: وهو الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته، قد قَهَرَهم بالموت، ليس كأصنامهم (المقهورة)، المذللة، المَعْلو عليها، ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ هي الملائكة، يتعاقبون بالليل والنهار، يحفظون أعمال العباد ويكتبونها، لا يفرطون في إحصاء ذلك، ويحفظونه مما لم يُقدَّر عليه، فإذا جاء أحدَهم الموت، توفته الرسل التي تقبض الأرواح، وقابض الأرواح هو ملك الموت، / إلا أن الله جعل له أعواناً، فهم
2047
يقبضون (الأنفس) بأمر ملك الموت، فلذلك قال: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾، ولم يقل: " رسولنا ".
قال ابن عباس: " لملك الموت أعوان (من الملائكة) ".
قال قتادة: تلي الملائكة قبض النفس وتدفعها إلى ملك الموت.
وقال الكلبي: ملك الموت يتولى، ثم يدفع النفس إلى ملائكة الرحمة إنْ كان مؤمناً، وإلى ملائكة العذاب إن كان كافراً.
قال مجاهد: جُعلت الأرض لملك الموت (مثل الطست)، يتناول من حيث شاء، وجعلت له أعوان يتولون ذلك، ثم يقبضها هو منهم. قال مجاهد: " ما من
2048
أهل بيت شَعَر ولا مَدَر إلا وملك الموت يطوف بهم كل يوم مرَّتين ".
وروى (البراء) بن عازب أنه سمع النبي عليه السلام يقول: " إذا كان العبد عِندَ انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه (ملائكة من السماء)، بيضُ الوجوه كأنّ وجوهَهم الشمس (حتى يقعدوا) منه مَدَى البصر، ويجيء ملك الموت معهم حتى (يقعد) عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، أُخرُجي إلى مغفرة (من) الله ورضوان، فتخرج تسيل كما (تسيل القطرة) في السقاء، فيأخذها ملك الموت في يده، فإذا وقعت في يده، لم يَدَعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه، فيجعلونها في كفن من الجنة وحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة ".
2049
" قال الحسن: (إذا احتضر) المؤمن (احتضره) خمس مائة ملك يقبضون روحه فيعرُجون به ".
والأجساد هي التي تموت، فأما الأرواح والأنفس فهي حية عند الله، ودل على ذلك قوله: ﴿فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾ [الواقعة: ٩٣]، فلو كانت النفس تموت لم يكن لها نزل،
2050
وقوله: ﴿قَالَ رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً﴾ [المؤمنون: ٩٩ - ١٠٠] أي: تقول النفس: أَرْجِعني إلى جَسَدي لعلي أعمل صالحاً، فلو كانت النفس تموت بموت (الجسد)، ما سألت الرَجعَة.
قال عبد الملك: ولا يقول " إن النفس والروح يموتان بموت الجسد " إلا رجل جاهل بأمر الله، أو رجل منكر للبعث، وقد قال تعالى: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى﴾ [الزمر: ٤٢]، فلو كانت النفس تموت بموت الجسد ما أمسكها، وليس يُمْسَك إلا حيٌّ.
قوله: ﴿ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق﴾ الآية.
المعنى: ثم ردت الأنفس إلى الله مولاهم الحق.
وقرأ الحسن (الحَقَّ) بالنصب على " أعني ".
﴿أَلاَ لَهُ الحكم﴾ أي: القضاء، ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين﴾ أي: أسرَعُ من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم، وقيل: معناه: يعلم أعمالكم بلا معاناة، ويحصيها بلا حساب ولا عدد، لا تشغله محاسبة أحد عن محاسبة أحد، فذلك غاية السرعة في المحاسبة.
﴿الحق﴾ تمام، و ﴿الحك﴾: تمام. و ﴿مَوْلاَهُمُ﴾: وقف على قراءة الحسن.
قوله: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر﴾ الآية.
﴿تَضَرُّعاً﴾: مصدر. وقيل: هو حال على معنى: ذوي تضرع.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر، أي: كروبهما، إذا ضللتم وتحيرتم فلم تهتدوا، وأخذتم في الدعاء (تقولون): لئن أنجيتنا، أي: من هذه الظلمات التي / نحن فيها، يفعلون ذلك جهرة
و (خفية)، ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ أي: من المؤمنين.
ثم قال: (قل) لهم يا محمد: ﴿الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا﴾ الآية.
أي من الظلمات والهلاك، وينجيكم من كل كرب سوى ذلك فيكشف، ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ في عبادة ربكم.
قوله: ﴿قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ﴾ الآية.
" ﴿شِيَعاً﴾: نصب على الحال، أو المصدر ". والمعنى: قل لهم يا محمد: الله القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، جزاء لشرككم به بعد إذ (نجاكم مما) أنتم فيه.
والعذاب الذي (هو) من فوقهم: هو الرجم، والذي من تحت أرجلهم: الخسف، قاله ابن جبير ومجاهد والسدي.
2053
وقال الفراء ﴿مِّن فَوْقِكُمْ﴾: المطر والحجارة والطوفان، و ﴿مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: الخسف.
وقال ابن عباس: العذاب الذي (هو) من فوق: أئمة السوء، والذي من أسفل: خدمة السوء وسفلة الناس.
وقال الضحاك: ﴿مِّن فَوْقِكُمْ﴾: من كباركم، ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: من سفلتكم.
(و) قوله: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾ (أي) يخلطكم (فرقا، من " لَبَست عليه الأمر ": أخلطته فمعناه: يخلطكم) أهواء مختلفة مفترقة.
2054
وقال الفراء: ﴿يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾ أي: ذوي أهواء مختلفة.
وقرأ المدني ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾ بضم الياء، من " ألبس ".
وقوله: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ أصل هذا من " ذوق الطعام "، ثم استعمل في كل ما وصل إلى الرجل من حلاوة أو مرارة أو مكروه.
(قال (ابن عباس): يعني بالسيوف. و) قال ابن عباس: " يسلط (بعضكم) على بعض بالقتل ".
2055
وقد قيل: إنه عني بهذا المسلمون من أمة محمد.
قال النبي عليه السلام: " إني سألت الله في صلاتي هذه ثلاثاً - وأشار إلى صلاة صبح كان قد أبطأ فيها - قال: سألته ألا يُسَلّط على أمتي السّنة، فأعطانيه، وسألته ألا يلبسهم شيعاً، وألا يُذيق بعضَهم بأسَ بعضٍ، فمنعنيهما ".
وروى جابر أن النبي عليه السلام قال: - " لما نزل عليه ﴿قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ -: أعوذ بوجهك. فلما نزل ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾، قال: هاتان أيْسَرُ وأَهْوَنُ ".
قال الحسن قوله: ﴿أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: هذا للمشركين ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾: هذا للمسلمين.
ثم قال: انظر يا محمد ﴿كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾، أي: يفقهون ما يقال لهم.
2056
قوله: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق﴾ الآية.
المعنى: وكذب يا محمد بما تقول وتخبر - من الوعد والوعيد - قومك، وهو الحق.
فالهاء ترجع إلى القرآن. وقيل: إلى " التصريف "، أي: وكذب بتصريف الآيات قومك. وقيل: ترجع على محمد، أي: وكذب بمحمد قومه، وهو الحق.
ثم قال: ﴿قُل﴾ (يا محمد لهم) ﴿لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ أي: بحفيظ ولا رقيب، إنما أنا رسول. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخ هذا آية السيف. ولا يَحسُن نَسْخُ هذا عند أهل النظر والمعاني، لأنه خبر.
2057
وقوله: ﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾ أي: لكل خبر قرار يستقر عنده، ونهاية ينتهي إليها فيعلم حقه وصدقه من / كذبه، ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ صحة ما أقول لكم، وهو ما أوعدهم به من العذاب، فظهر ذلك يوم بدر.
قال السدي: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق﴾، قال: كذبت قريش بالقرآن، وهو الحق ".
قال السدي: وأما ﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾ فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب ".
وكان الحسن يتأول ذلك أنها الفتنة التي كانت بين أصحاب محمد بعده.
وقال النحاس: ﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾ هو تهديد إما بعذاب الآخرة، وإما بالأمر بالخوف، والمعنى: لكل خبر توعدون به وقتٌ يحدث فيه، وأجل ينتهي إليه فيكون ذلك، والنبأ: الخبر.
2058
قوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فيءَايَاتِنَا﴾ الآية.
المعنى: وإذا رأيت - يا محمد - المشركين الذين يخوضون في آيات الله، وخوضهم فيها: استهزاؤهم بها وتكذيبهم لها، ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي: فَصُدَّ عَنْهمُ بِوجهِك، وقُمْ عنهم حتى يخوضوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله.
(و) قوله: ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان﴾: أي: إن أنساك الشيطان نهي الله لك عن الجلوس معهم في حال استهزائهم، ثم ذكرت ذلك، فقم عنهم ولا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي يستمعون منه، فإذا سمعوا استهزأوا، فنهي النبي ﷺ عن مجالستهم إذا استهزأوا (إلا أن ينسى)، فإن نَسِيَ ثم ذَكَرَ، أمرُ أن يقوم عند التّذكّر.
قوله: ﴿وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم﴾ الآية.
المعنى: أنه ليس على من اتقى الله من حساب هؤلاء الخائضين شيء، أي:
2059
ليس (عليه) من إثمهم شيء إذا اتقى ما هم فيه. وليس المعنى: ليس عليه شيء من إثمهم إذا جالسهم في حال خوضهم، (إنما المعنى: ليس (عليه) شيء إذا لم يجالسهم في حال خوضهم)، لأن الله قال: ﴿فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [النساء: ١٤٠]: أي: حتى يخوضوا في غير الكفر والاستهزاء بآيات الله.
ومعنى: ﴿ولكن ذكرى﴾ أي: إذا ذكرت فقم، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (أي) الخوض فيتركونه، هذا قول السدي.
وقيل: إن المعنى ليس على الذين يتقون من حسابهم (من) شيء إذا قعدوا إليهم، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب﴾ [النساء: ١٤٠] الآية، روي ذلك عن ابن
2060
عباس. ونَسْخُ مثلِ هذا لا يحسن، لأنه خبر.
قال الكلبي: قال أصحاب النبي: إنا كنا كلما استهزأ المشركون بكتاب الله، قمنا وتركناهم لم ندخل المسجد ولم نطف بالبيت، فرخص الله للمسلمين الجلوس معهم، وأُمروا أن يُذَكِّروهم ما استطاعوا.
و ﴿ذكرى﴾ في موضع نصب، على معنى: فأعرضوا عنهم ذكرى، وتكون في موضع رفع على معنى: لكن إعراضهم ذكرى لأمر الله.
قوله: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ﴾ الآية.
المعنى: أنه أمر من الله لنبيه أن يترك هؤلاء الذين هذه صفتهم، ثم نسخ ذلك بآية السيف.
2061
(و) قوله: ﴿وَذَكِّرْ بِهِ﴾ أي: ذكر بالقرآن (كراهة) ﴿أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾: أي: تسلم (بعملها، غير قادرة على التخلص.
(وقال الزجاج): " والمُسْتَبْسِل: المُسْتَسْلِم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص ".
وقال الفراء: ترتهن. وقيل: تُحبس. وقيل: تفضح، (قاله) ابن
2062
عباس. وقيل: تُجزى، وهو قول الحسن، وبه قال الأخفش والكسائي.
وأصل الإبسال: التَّحريم، يقال " أَبْسَلْت المكان ": حرَّمته.
فالمعنى: ذكِّر بالقرآن من قبل / أن تُسلم نفس بذنوبها، ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾ يخلصها.
فالهاء في (به) للقرآن. وقيل: على التذكر. وقيل: على الدين، أي: ذكر بدينك.
2063
ثم قال: ﴿وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ﴾ أي: تفد كل فداء لا يقبل منها، قال قتادة والسدي: لو جاءت بملء الأرض ذهباً ما قُبِل منها.
﴿أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ﴾ أي: ارتهنوا بذنوبهم وأسلموا لها، (لهم شراب من حميم) أي: في جهنم، ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بما اكتسبوا من الأوزار في الدنيا.
قال ابن عباس: ﴿أُبْسِلُواْ﴾: فضحوا. وقال ابن زيد: أُخذوا.
قوله: ﴿قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا﴾ الآية.
قرأ ابن مسعود (اسْتَهْواه الشَّيطان) وعن الحسن: (استهوته الشَّياطون بالواو، وهو لحن.
2064
ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء العادلين، واحْتَجَّ عليهم، فقل: أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا، أي: أندعو خشباً وحجراً لا يقدر على نفع ولا ضر، ﴿وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله﴾ أي: نرجع القهقري، إن فعلنا ذلك - والعرب تقول لكل من لم يظفر بحاجته: " قد رُدَّ على عقبيه " فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين، أي: زينت له هواه، (﴿حَيْرَانَ﴾ أي) في (حال) حيرته.
﴿لَهُ أَصْحَابٌ﴾: أي: لهذا الحيران - الذي على غير محجة - أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا. وهذا مثل ضربه الله لمن كفر بعد إيمانه فاتبع الشياطين من أهل الشرك بالله، وأصحابه - الذين كانوا معه على الهدى - يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه، وهو يأبى ذلك.
وقيل: (هو) في أبي بكر (الصديق) رضي الله عنهـ وزوجته كانا يدعوان ابنهما عبد الرحمن إلى الإسلام.
2065
ومعنى ﴿ائتيا﴾: أطعنا، والمعنى: أَنْ ائتنا.
قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا ديننا واتركوا دين محمد، فقال الله: ﴿قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله﴾ الآية، فمثلكم - إن كفرتم بعد الايمان - كمثل رجل كان مع قوم على طريق، فَضَلَّ الطريق، فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق يدعونه إليهم، يقولون: " ائتنا، فإنا على الطريق "، فأبى أن يأتيهم، والطريق هو الإسلام.
وروي عن ابن عباس أن المعنى: أنه مثل لرجل أطاع الشياطين، وحَادَ عن الحق وله أصحاب على غير هدى يدعونه ويزعمون أن ذلك هو الهدى، فأكذبهم الله وقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى﴾، وقل: أُمِرنا كي نسلم لرب العالمين، أي: نخضع له ونطيعه.
﴿حَيْرَانَ﴾: تمام عند جميعهم. وقال نصير: ﴿فِي الأرض﴾ التمام، ورُدَّ ذلك
2066
عليه، لأن (حَيْرَان) منصوب على الحال.
قوله: ﴿وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه﴾ الآية.
﴿أَنْ﴾ في موضع خفض، عطف على ﴿الهدى﴾ [الأنعام: ٧١]. أو عطف على (أَنْ) الناصبة للفعل في (نُسْلِم). ويجوز أن تكون في موضع نصب، على حذف الخافض، (و) المعنى: وبأن أقيموا. ويجوز أن تكون في موضع خفض على إضمار ذلك الخافض، والمعنى: وأمرنا بأن أقيموا الصلاة.
﴿واتقوه﴾ أي: واتقوا رب العالمين الذي إليه تحشرون في الآخرة.
﴿واتقوه﴾ تمام.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾ الآية.
2067
المعنى: والله - الذي أمرتم أن تسلموا له - هو الذي خلق السماوات والأرض بالحق، وهو رب العالمين.
ومعنى ﴿بالحق﴾: أي: حقاً وصواباً، لا باطلاً. وقيل: المعنى: خلق السماوات والأرض بكلامه وقوله لهما: ﴿ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ [فصلت: ١١]، فالحق هنا: كلامه ودليله.
(قوله): ﴿قَوْلُهُ الحق﴾ الآية.
(ف (الحق)): كلامه، خلق به (الأشياء المخلوقة)، وما خلق به الأشياء فهو غير مخلوق.
وقيل: المعنى: خلقهن (للحق)، يعني المعاد.
و ﴿قَوْلُهُ﴾ مرفوع (ب (يكون))، و (الحق): نعته. وقيل: المعنى: فيكون
2068
ما أراد. و ﴿قَوْلُهُ الحق﴾: ابتداء وخبر.
وقال الفراء: المعنى: ويوم يقول للصور: كن، فيكون، و (قولُه): ابتداء و (الحق) خبره.
و ﴿الصور﴾ عند أبي عبيد: جمع صورة. وقيل: هو القرن الذي ينفخ فيه.
وقوله: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ﴾ بدل من ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾. وقيل: العامل فيه: ﴿الحق﴾. وقيل: العامل فيه ﴿وَلَهُ الملك﴾، لأنه يوم لا منازع له في الملك، فلذلك خصه بالذكر، وأن كان هو المالك في كل الأحيان، وهو مثل: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤].
﴿عالم الغيب﴾: رفع على النعت ل ﴿الذي﴾ في قوله: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ﴾. وقيل:
2069
﴿وَهُوَ﴾ رفع على إضمار مبتدأ. وقيل: هو رفع بالمعنى، والتقدير: ينفخ فيه عالم ﴿الغيب﴾.
والنفخ في الصور نفختان: واحدة لفناء من كان حياً على الأرض، والثانية لنشر كل ميت، وبذلك أتى القرآن.
وقد تظاهرت الأخبار عن النبي ﷺ: " أن إسرافيل قد الْتَقَم الصور (وحَنَى) جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ، وأنه قال: الصور قرن ينفخ فيه ".
قال قتادة: ينفخ فيه من الصخرة من بيت المقدس.
والصور قرن فيه أرواح الخلق فينفخ فيه، فيذهب كل روح إلى جسده فيدخل فيه.
2070
وروي عن ابن عباس: " أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور " وتكون الآية بمنزلة قول الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومه... ومعنى ﴿عالم الغيب﴾ أي: يعلم ما يغيب عنكم، ﴿والشهادة﴾ أي: يعلم أيضاً ما تشاهدون، ﴿وَهُوَ الحكيم﴾ في تدبيره، ﴿الخبير﴾ بأعمالكم.
وقوله: ﴿بالحق﴾: وَقْف إن نصبت ﴿وَ﴾ يوم على معنى: واذكر، و ﴿كُن﴾: تمام، (و) ﴿فَيَكُونُ﴾ تمام إن رفعت ﴿قَوْلُهُ﴾ بالابتداء،
2071
وجعلت ﴿فَيَكُونُ﴾ للصور، أو على معنى: فيكون ما أراد، و ﴿قَوْلُهُ الحق﴾: تمام حسن إن جعلت ﴿يَوْمَ يُنفَخُ﴾ نصب بقوله: ﴿وَلَهُ الملك﴾. (ويقف على ﴿وَلَهُ الملك﴾) إن نصبت ﴿يَوْمَ يُنفَخُ﴾، بمعنى: واذكر. و ﴿فِي الصور﴾ وقفٌ إن جعلت ﴿عالم الغيب﴾ على معنى ﴿هُوَ﴾ فإن جعلته نعتاً ل ﴿الذي﴾ - أو على إضمار فعلٍ يدل عليه ﴿يُنفَخُ﴾ -، لم تقف على ﴿الصور﴾.
وقد قرأ الحسن ﴿عالم﴾ بالخفض على البدل من الهاء في قوله ﴿وَلَهُ﴾.
(قوله): ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ﴾ الآية.
ألف ﴿أَتَتَّخِذ﴾ ألف تقرير وتوبيخ، لأنه كان قد علم أنه يتخذها.
والمعنى: واذكر يا محمد - في محاجتك قومك في أصنامهم - حجاجَ إبراهيمَ قومَه في باطل ما كانوا عليه من عبادة الأصنام، إذ قال لابيه آزر.
2072
وآزر: اسم أبي إبراهيم في قول السدي والحسن وغيرهما، وكان رجلاً من أهل كوثي من قرية بسواد الكوفة، وهو آزر (و " تارح ")، كما يقال: " إسرائيل " و " يعقوب ".
وقال مجاهد: آزر ليس بأبي إبراهيم، إنما هو / اسم صنم.
وقيل: آزر صفة، وهو " المُعْوَج " في كلامهم، كأن إبراهيم عابه بزيغه واعوجاجه، كأنه قال لأبيه ذلك، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه، ذكر
2073
ذلك الفراء وغيره. والضم على النداء يحسن على هذا المعنى.
وحكي الزجاج (أن آزر) صفة، معناه: المخطئ، فيحسن أن يكون صفة للأب، كأنه: " قال لأبيه المخطئ ".
ويحسن أن يكون نداء فيضم على معنى: (يا مخطئ في دينه. وبذلك قرأ يعقوب الحضرمي، والحسن قبله. " وقال الضحاك: معنى آزر: شيخ ".
وذكر أبو حاتم عن ابن عباس: (أإزرا تتخذ) بهمزتين: مفتوحة ومكسورة، من غير ألف في (تتخذ)، نصبه (ب (تتخذ)، جعله مفعولاً من أجله، يكون مأخوذاً من الأزر الذي هو الظهر.
ويجوز أن يكون أصله: " أَوْزْراً "، ثم أبدل من الواو المكسورة همزة
2074
" كإشاح ".
وروى غير أبي حاتم بهمزتين مفتوحتين. وقرأ الحسن (آزرُ) بالرفع على النداء، وهي قراءة يعقوب. وقد قيل: إن رفعه على إضمار مبتدأ. وفي قراءة أُبَي (يا آزرُ).
(و) من جعله اسماً للصّنم: فهو بعيد، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل (فيه ما) بعده، وفتحه على النعت للأب، أو على البدل، وموضعه خفض.
﴿إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ بعبادتكم الأصنام، أي: يتبين لمن أبصرَهُ (الله) أنه جسور وحيرة عن سبيل الحق.
قوله ﴿لأَبِيهِ﴾ وقف على قراءة من رفع (آزرُ)، أو قرأه بهمزتين. وتقف
2075
على (آزر) في قراءة من جعله بدلاً أو صفة.
قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض﴾ الآية.
الواو والتاء زيدتا في ملكوت للمبالغة في " الملك " وقرأ أبو السَّمَّأل: (مَلكُوت) بإسكان اللام، وهو بعيد عند سيبوبه لخفة الفتحة.
والمعنى: ومثل ما أريناك يا محمد البصيرة في دينك، والحجة على قومك، أرينا إبراهيم ملك السماوات والأرض، ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين﴾ أي: وليكون من الموقنين أريناه ذلك.
2076
وقيل: ملكوت - هنا - بمعنى ملك. وقيل: بمعنى خَلْق. وهو بكلام النبط " مَلْكوتاً ". وقيل: ملكوت: معناه آيات.
(وقال السدي): أقيم إبراهيم على صخرة وفتحت له السماوات، فنظر فيهن إلى ملك الله، ونظر إلى مكانه في الجنة، وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرض، قال: فذلك قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا﴾ [العنكبوت: ٢٧]، أي: أَرَيْنَاهُ مكانهُ في الجنة، وقيل: أجره في الدنيا: الثناء الحسن بعده.
قال عطاء: لما رفع الله إبراهيم في ملكوت (السماوات) والأرض - تعالى الله وجل وعز -، رأى إبراهيم عبداً يزني، فدعا عليه فهلك، ثم رُفِع فأشرف، فرأى آخر، فدعا عليه فهلك. ثم رأى (آخر) فدعا عليه
2077
فنودي: على رِِسْلِك يا إبراهيم، فإنك عبد مستجاب له، وإني من عبدي على (أحد) ثلاث: إما أن يتوب إلي فأتوب عليه، وإما أن أُخْرِجَ منه ذرية طيبة، وإما أن يتمادى فيما هو فيه، فأنا من ورائه.
وقال الضحاك: (معنى ما) أراه الله من ملك السماوات والأرض: ما أراه من النجوم والشمس والقمر والشجر والجبال والبحار.
قال ابن عباس: فُرَّ بإبراهيم من جبار من الجبابرة، فجعل في سرب، وجعل رزقه في أطراف أصابعه، فكان لا يمص أصبعاً من أصابعه إلا جعل الله تعالى فيها رزقاً. فلما خرج من ذلك السرب، أراه الله شمساً وقمراً ونجوماً وسحاباً وخلقاً عظيماً: فذلك ملكوت السماوات، وأراه الله بحوراً وجبالاً / وشجراً وأنهاراً وخلقاً
2078
عظيماً: فذلك ملكوت الأرض.
قوله: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً﴾ الآية.
المعنى: فلما ستر إبراهيم الليل بظلمته، - (يقال: جنَّ الليل (و) (جنَّه)، وأجنَّ عليه، وأجنَّه).
﴿رَأَى كَوْكَباً﴾: أي: أبصر. والكوكب: الزهرة. وقال السدي: وهو المشتري. قال ابن عباس: عبد الكوكب حتى غاب، فلما غاب، ﴿قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين﴾، وكذلك فعل بالقمر والشمس، فلما غابا ﴿ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
2079
وكان بين نوح وإبراهيم: هود وصالح، وكان النمرود في زمن إبراهيم، وكان من خبر إبراهيم مع النمرود: (أن النمرود) - قبل مولد إبراهيم - أتاه أهل النجوم يخبرونه أنه يجدون في علمهم: أن غلاماً يولد في قريتك هذه، يقال له " إبراهيم "، يفارق دينكم ويكسر أوثانكم، في وقت كذا يولد. فلما كان ذلك الوقت، حبس نمرود كل امرأة حبلى عنده إلا أم إبراهيم، فإنه لم يعلم بحبلها لِما أراد الله من أمره، فجعل نمرود لا تلد امرأة (غلاماً في ذلك الوقت) إلا ذبحه، فلما وجدت أم إبراهيم الطلق، خرجت ليلاًَ إلى مغارة، فولدت فيها إبراهيم، وأصلحت من شأنه ما يُصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها وكانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل، فنجده حياً يمص أصابعه جعل الله له رزقاً فيها. وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر
2080
كالسنة، وكانت أمه قالت: (لآزر أبيه): قد ولدت غلاماً فمات. فصدقها فلما بلغ إبراهيم في المغارة خمس عشرة، قال لأمه: أخرجيني أنظر. فأخرجته عشاء، فنظر وتفكر في خلق السماوات والأرض، وقال: " إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لَرَبّي، ما لي إله " غيره ". ثم نظر إلى السماء فرأى كوكباً، ﴿قَالَ هذا رَبِّي﴾، ثم اتبعه ينظر إليه (ببصره) حتى غاب، (فلما غاب)، ﴿لا أُحِبُّ الآفلين﴾ أي: الغائبين، ثم فعل ذلك بالقمر، ثم بالشمس. ثم أتى إبراهيم أباه آزره وأخبرته (أمه به) فَسُرَّ (به)، وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدون، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم قبل مبايعته لهم فيقول: " من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ " فلا يشتريها منه
2081
أحد. فإذا بارت عليه مضى بها إبراهيم إلى نهر، فصوَّب (فيه) رؤوسها وقال: (اشربي)، استهزاء بقومه، حتى فشا عيبه إياها واستهزاؤه (بها) في قومه من غير أن يبلغ ذلك نمرود.
وقد أنكر قوم من العلماء أن يكون إبراهيم عليه السلام عبد شيئاً من ذلك حقيقة، إنما فعل ذلك على وجه التعريض والإنكار لقومه وفعلهم، (لا أنه) (جهل) معبوده حتى عبد الكوكب والقمر والشمس، وكأنه أراهم أن الكوكب والقمر والشمس أضوأُ من الأصنام وأحسن، وهي لا تعبد، لأنها آفلة، فَتَركُ عبادة الاصنام التي لا ضوء لها ولا حسن ولا بهجة آكد، فكأنه عارض باطلاً بباطل على طريق التبكيت لهم، و (القطع) لحجتهم.
2082
قال إبراهيم بن عرفة: كان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام والحجارة، وكانوا يجادلونه، فأراهم من خلق الله / تعالى ما هو أعظم مما يعبدون، فقال: " هذا ربي "، لو كان رباً يعبد من دون الله، لأن هذا أعظم وأعلى مما تعبدون. فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين، فأراهم أن الكوكب يغيب إذا غلب عليه ضوء النهار، والمعبود لا يكون مغلوباً.
وقيل: بل كان ذلك منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه ولزوم الفرض له، وتلك حال لا يلزم فيها كفر ولا إيمان.
وقيل: معنى الكلام الإستفهام الذي في معنى الإنكار، والمعنى: أهذا ربي؟، قاله قطرب وغيره، وهو قول ضعيف، لأن الألف إنما تحذف إذا كان في الكلام ما يدل عليها نحو " أم " ونحوها.
2083
وقال أبو إسحاق: لم يقل ذلك (على اعتقاد) منه بدلالة قوله: ﴿واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام﴾ [إبراهيم: ٣٥]، وبقوله: ﴿إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٤]، أي: سليم من الشرك. وأنما المعنى: هذا ربي على قولكم: (لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر، ومثله قوله: ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ [النحل: ٢٧، القصص: ٦٢، ٧٤، فصلت: ٤٧] المعنى: أين شركائي على قولكم). ويجوز أن يكون المعنى: (قال): هذا ربي) أي: قال: تقولون: " هذا ربي "، ثم حذف القول، كما قال: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ [الرعد: ٢٤] أي: يقولون: سلام (عليكم).
ومعنى ﴿بَازِغاً﴾: طالعاً، وهو نصب على الحال. وكذلك ﴿بَازِغَةً﴾. وذكر ﴿الشمس﴾ في قوله: ﴿هذا رَبِّي﴾، على معنى: " هذا البازغ ربي "، أو " هذا الشيء
2084
ربي "، أو " هذه النور ربي "، أو " هذا الطالع ربي ".
قوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ (لِلَّذِي)﴾ الآية.
هذا خبر عما قال إبراهيم بعد أن أوقفهم على نقص الكوكب والشمس والقمر في الأفول، فقال الحق ولم يبال بخلافهم، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ أي: قصدت في عبادتي: ﴿لِلَّذِي فَطَرَ﴾ (أي خلق) السماوات والأرض ﴿حَنِيفاً﴾ أي: مائلا إلى ربي، وما أنا مشرك مثلكم.
قوله: ﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ (قَالَ أتحاجواني فِي الله)﴾ الآية.
المعنى: وجادل إبراهيم قَومُه في الله، فقال لهم إبراهيم عليه السلام: أتحاجوني في توحيد الله وقد هداني للإيمان به، وإخلاص العمل له، ولست أخاف ما تشركون به أن ينالني بسوء ومكروه.
2085
والهاء للضم، (وهو (ما)). وقيل: الهاء لله جل ذكره، يعني أصنامهم، وذلك أنهم قالوا له: إنَّا نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء: من مرض أو خَبْلٍ لِسَبِّك لها. ثم قال لهم: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً﴾ أي: إن أراد أن يصيبني بسوء " أو خير "، فهو لاحقي لا شك.
ووجه حذف النون من ﴿أتحاجواني﴾ أنه استثقل التشديد فحذفت النون الزائدة [لا] التي للإعراب، قال سيبويه: حذفت لكراهة التضعيف.
2086
وقال (أبو) عبيدة: حذفت كراهة الجمع بين ساكنين.
وقد أنكر أبو عمرو الحذف وقال: هو لحن، لأنه تأول أن المحذوف النون التي للإعراب. والمحذوف عند سيبويه والخليل النون الزائدة.
قوله: ﴿وَسِعَ [رَبِّي] كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ أي: [وسع] علم ربي كل شيء، فلا يخفى عليه شيء، وليس كآلهتكم التي لا تنفع ولا تضر، ﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾ أي: تعقلون أنها لا
2087
تنفع ولا تضر.
قوله: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ﴾ الآية.
هذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه بآلهتهم، فقال: ﴿وَكَيْفَ [أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ]﴾ أي: كيف أرهب أصنامكم التي لا تضر ولا تنفع، وأنتم لا تخافون إذا أشركتم بمن خلقكم ورزقكم، وهو قادر على ضركم ونفعكم، أشركتم به ما ليس معكم في عبادته حجة ولا برهان /، ﴿فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن﴾ من العذاب؟:
مَن آمن برب واحد يضر ويَنْفَعَ، أو مَن آمن بأرباب كثيرة لا تضر ولا تنفع، ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ صدق ما أقول لكم.
قوله: ﴿الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ الآية.
يجوز أن يكون من قول إبراهيم، ويجوز أن يكون مستأنفاً من قول الله، فصل " الله " بين إبراهيم وقومه، فأخبر لمن الأمن.
والحجة التي أوتي إبراهيم هو قوله: ﴿فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن﴾ [الأنعام: ٨١]. ومعنى: ﴿وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ أي: لم يخلطوه بشرك، ولما نزلت هذه الآية، اشتد ذلك على أصحاب النبي، فقال لهم النبي: ليس الأمر كما تظنون، لهو كما قال لقمان: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
قوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءاتيناهآ إبراهيم (على قَوْمِهِ)﴾ الآية.
﴿تِلْكَ﴾: إشارة قول إبراهيم لقومه: ﴿فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١].
وقيل: إنهم قالوا " له ": إنّا نخاف أن تُخَبِّلك آلهتنا لسبك لها، فقال لهم: أفلا تخافون أنتم منها - إذ سوَّيتم بين الصغير والكبير منها، والذكر والانثى - أن تخبلكم، ثم قال لهم: أمن يعبد إلهاً واحداً يضر وينفع أحقُّ بالأمن، " أم " من يعبد آلهة كثيرة لا تضر ولا تنفع؟، فهذه حجته التي آتاه الله على قومه ولقنه إياها.
وفي الكلام حذف والمعنى: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، فرفعنا درجته عليهم: ﴿نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَآءُ﴾، وهذا كله تنبيه لمحمد في الحجة على أمته، وتنبيه له على التأسي بمن قبله من الأنبياء. ﴿على قَوْمِهِ﴾: وقف حسن.
قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ الآية.
قوله: ﴿دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ عطف على " كل "، أي: وهدينا داوود. وقيل: هو عطف ﴿إِسْحَاقَ﴾ أي: وهبنا له داوود. وقيل: هو عطف على ﴿وَنُوحاً﴾. والهاء في ﴿[ذُرِّيَّتِهِ]﴾: تعود على (إبراهيم).
وقيل: على " نوح "، وهو قول الطبري، قال: لأن في سياق الكلام المعطوف ﴿لُوطاً﴾، ولوط لم يكن من ذرية إبراهيم، إنما هو من ذرية نوح، فالمعنى: وهدينا نوحاً من قبل إبراهيم، وهدينا من ذرية نوح داود ومن بعده.
2090
﴿كُلاًّ هَدَيْنَا﴾: وقف حسن، ﴿وَإِلْيَاسَ﴾: أيضاً وقف عند أبي حاتم، ولا يحسن عند غيره، لأن بعده ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ معطوف عليه.
واختلف " الناس " في ﴿إِلْيَاسَ﴾: فقيل: " هو " من ذرية هارون أخي موسى، بينهما ثلاثة آباء. وقال ابن مسعود: إلياس هو إدريس.
وإدريس جد نوح، بينهما أربعة آباء. فمحال أن يُنْسَب إلى نوح وهو جده الأعلى، والذي عليه " أهل " الأنساب: أن إلياس غير إدريس.
و ﴿اليسع﴾: اسم أعجمي، جرى على غير قياس. وقد قال أبو عمرو:
2091
إنما هو " يَسَعُ " ثم أدخلت الألف واللام عليه، وليس بفعل، ولو كان فعلاً لم يجز إدخال الألف واللام عليه، (ألا ترى) أنهم أدخلوها على " يزيد " إذ هو اسم، فقالوا: " اليزيد "، كما قالوا: " الوليد "، وأنشد الفراء:
وَجَدْنا الوْليدَ بْنَ الْيَزيد. (مُبارَكاً،... ورد الكسائي هذه القراءة، وقال: لا تجوز، كما لا يجوز " اليحيى ")، وهذا لا يلزم، لأنا لو نكّرنا " يحيى " لأدخلنا عليه الالف واللام، والعرب تقول: / " اليعملة ".
ومن قرأ (الَّليْسَع) فأصله " ليسع "، مثل: ضيغم وزينب، ثم دخلت
2092
الألف واللام للتعريف. وأنكر " أبو " حاتم هذه القراءة، وقال: (لا يوجد) " ليسع ". وهذا لا يلزم، لأنه مثل: " ضيغم " و " زينب ".
واختار الطبري أن يكون بلام واحدة، لأنه أعجمي، وقد تواترت الأخبار بهذا الاسم بهذا اللفظ، وقال: ولم يُحفظ عن أحد من أهل العلم أنَّ اسمه " ليسع "، (إنما قالوا: اسمه " اليسع ").
قال زيد بن أسلم: كان يوشع بن نون خليفة موسى في قومه، وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، فشكر الله له ذلك، و [نبّأه]. بعد موسى في بني إسرائيل، وسماه " اليسع " بلسان العرب.
قال ابن عباس: الأنبياء كلهم من بني إسرائيل - وهو يعقوب - إلا عشرة: نوح وهود ولوط وصالح وشعيب وإبراهيم وإسماعيل " وإسحاق " وعيسى ومحمد.
قوله: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ الآية.
المعنى: وهدينا من آباء هؤلاء المذكورين، ومن ذرياتهم، ومن إخوانهم)،
أي: بعض ذلك، ﴿واجتبيناهم﴾ أي: أَخْلَصْنَاهم، ﴿وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي: سدّدناهم وأرشدناهم إلى طريق الحق، وهو الإسلام. وهو مشتق من " جَبَيْتُ الماءَ في الحوض: إذا جمعته ".
قوله: ﴿ذلك هُدَى الله﴾ الآية.
أي ذلك الهدى الذي هُدِي به هؤلاء ﴿ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾: أي: يوفق به من يشاء، ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ﴾ أي: " لو " أشرك هؤلاء الأنبياء لذهب عنهم جزاء أعمالهم، لأن الله لا يقبل مع الشرك عملاً.
قوله: ﴿أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ الآية.
المعنى: أولئك الذين سميناهم من الأنبياء هم الذين أعطوا الكتاب، يعني صحف إبراهيم وموسى، وزبور داوود، وإنجيل عيسى، ﴿والحكم﴾ يعني: الفهم بالكتاب.
2094
قال مجاهد: ﴿الحكم﴾: اللب.
وقوله: ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء﴾ أي: بالآيات التي أنزلت عليك يا محمد، يريد القرآن، (هؤلاء) " أي " مَن بحضرتك من المشركين. وقيل: الإشارة إلى قريش، ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ يعني الأنصار:
قال قتادة: ﴿هؤلاء﴾: إشارة إلى أهل مكة، والقوم الذين ليسوا بالآيات بكافرين: أهل المدينة، وكذلك قال الضحاك والسدي، وروي عن ابن عباس ذلك.
وقال: (أبو رجاء): ﴿قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾: الملائكة.
وعن قتادة قال: هم الأنبياء المذكورون، فهم ثمانية عشر.
2095
وأكثرهم قال: الإشارة في هؤلاء لكفار قريش.
قوله تعالى: ﴿أولئك الذين هَدَى الله﴾ الآية.
المعنى: أن ﴿أولئك﴾ إشارة إلى من تقدم ذكره من النبيين، فأمر النبي ﷺ أن يقتدي بهداهم، ويسلك طريقهم، والاقتداء: الاتباع. والمراد: اتّباعهم على ما كانوا عليه من الإسلام والتوحيد، لا ما كانوا عليه من الشرائع، لأن شرائعهم كانت مختلفة، وغير جائز أن يؤمر النبي باتباع " شرائع " مختلفة، ولا يمكن ذلك، لأن ما حرم " عليهم " في شريعة نبي، أُحِلَّ في شريعة نبي آخر، فكيف يَقْدِر النبي ﷺ على اتباع ذلك؟، والعمل بالشيء وضده - في حال هذا - لا يمكن ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: ٤٨] فهذا هو الصحيح، ليست الآية في الاقتداء بشرائعهم لاختلافها، إنما الآية في الاقتداء بهم فيما لم يختلفوا فيه، وهو التوحيد ودين الإسلام. وأما الشرائع فقد اختلفوا فيها بأمر الله " لهم " بذلك وفَرضِه على كل واحد ما شاء.
2096
وأكثر النحويين " على " تلحين " من كسر الهاء من ﴿اقتده﴾ وهي قراءة ابن عامر، إلا ما قال أحمد بن محمد بن عرفة: إنه يجوز أن تكسر على التشبيه بهاء الإضمار، كما جاز إسكان هاء الإضمار على التشبيه بهاء السكت.
وقال بعض النحويين: من كسر الهاء، يجوز أن تكون الهاء لغير السكت، وأن تكون للمصدر، كأنه: " فبهداهم (اقتد الاقتداء) "، " قال ": ويجوز أن تكون كناية عن الهدى، والمعنى: فبهداهم اقتد " هداهم "، على التكرير للتأكيد.
2097
والوقف على هذه الهاء أسلم، وهو الاختيار عند أكثر النحويين، لأنه تمام، ولأنه إنما جيء بها للوقف.
ثم قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لا أسألكم على تذكيري إياكم أجراً " ولا " عوضاً، إن القرآن الذي جئتكم به ﴿إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ﴾.
2098
قوله: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ الآية.
المعنى: وما عظموا الله حق عظمته ﴿إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾.
وقيل: المعنى: وما عرفوه حق معرفته.
والذي قال ذلك هو " رجل من اليهود، جاء يخاصم النبي، فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟، وكان الرجل حبراً سميناً، فغضب اليهودي وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء!، فقال له: أصحابه: ويحك، ولا على موسى؟. فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء!، فأنزل الله: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ الآية ".
وقال محمد بن كعب القرظي: جاء ناس من اليهود إلى النبي فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحاً يحملها من عند الله؟، فأنزل الله ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء﴾ [النساء: ١٥٣] الآية، ثم ﴿قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾، فأنزل اللهُ: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ الآية، ثم قال الله لنبيه محتجا عليهم:
2099
﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى " نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ "﴾ إلى قوله: ﴿قُلِ الله﴾.
وقيل: إن هذا خبر عن مشركي العرب أنكروا أن يكون الله أنزل على أحد كتاباً.
وقوله: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً﴾ هم يهود أخفوا من التوراة ما أرادوا، وأبدوا ما أرادوا.
واختيار الطبري أن يكون ذلك خطاباً لقريش، لأنه في سياق الحديث عنهم، ولأن اليهود لم يَجْرِ لهم ذكر.
قال مجاهد: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ هو خطاب لمشركي العرب، ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً﴾ إخبار عن اليهود، ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَءَابَآؤُكُمْ﴾ للمسلمين.
فمن قرأ بالياء في (يجعلونه) و (يبدون) و (يخفون)، رَدَّهُ على الناس.
2100
ومن قرأ بالتاء، فعلى المخاطبة لليهود، والمعنى: علمتم علماً فلم يكن لكم علم لتضييعكم إياه، ولا لآبائكم لتضييعهم إياه، لأن من عَلِمَ شيئاً وضيّعه، فليس له علم.
ويجوز أن يكون المعنى: وعلمتم علماً لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم، على الامتنان عليهم بإنزال التوراة عليهم، والأول: قول أهل التفسير.
﴿وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ وقف على قراءة من قرأ بالياء في ﴿تَجْعَلُونَهُ﴾ وما بعده، ﴿وَلاَءَابَآؤُكُمْ﴾ تمام عند نافع، ﴿قُلِ الله﴾ التمام عند الفراء، لأن المعنى عنده: قل الله عَلَّمَكُم.
وقيل: المعنى: قل يا محمد: الله أنزله، ولا جواب لقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب﴾.
2101
وقوله: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ﴾ أي: دعهم في باطلهم، وهذا تهديد من الله لهم.
قوله: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ الآية.
المعنى: وهذا القرآن - يا محمد - كتاب، - ومعنى الكتاب هنا -: مكتوب - أنزلناه إليك مباركاً، ﴿مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: يصدق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، ﴿وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى﴾ أي: لتنذر عذاب الله وبأسه أم القرى.
وأم القرى: مكة، (ومن حولها): شرقاً وغرباً.
وسميت: ﴿أُمَّ القرى﴾، لأن الأرض دُحيت منها، أي: بُسِطَت. وقيل: سميت بذلك، لأن فيها أول بيت وضع للناس. وقيل: سميت بذلك لأنها تُقصد من كل قرية.
ومن قرأ (وليَنذِرَ) رَدَّهُ على (الكتاب)، ومن قرأ بالتاء فعلى المخاطبة
للنبي عليه السلام.
وقوله: ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ أي: يصدقون بالبعث، ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي: بهذا الكتاب والهاء في (به) للقرآن، وقيل: لمحمد.
وقيل: إنه لما نزل ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] إلى آخر القصة، عجب ابن أبي سرح من خلق الإنسان وانتقاله من حال إلى حال، فقال: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤]، فقال له النبي ﷺ: أكُتبْها، فكذلك نُزِّلَت عليّ.
قوله: ﴿وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ أي: على الصلوات التي افترضها الله.
قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ الآية.
قوله: وَ (مَن) قال في موضع جر، عطفٌ على (مَن) الأولى.
2103
المعنى: ومن أخطأُ قولاً ممن اختلق على الله الكذب، فادَّعى أنه بعثه نبياً. وهذا تسفيه من الله تعالى لمشركي العرب في معارضة عبد الله بن أبي سرح ومسيلمة للنبي، ادعى أحدهما النبوة، وادعى الآخر أنه جاء بمثل ما جاء به النبي.
فالَّذي قال: ﴿أُوْحِيَ إِلَيَّ﴾ هو مسيلمة الكذاب، والذي قال: ﴿سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله﴾ عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان عبد الله هذا قد كتب للنبي، فكان يملي عليه (عزيزٌ حكيمٌ) فيكتب (غفورٌ رحيمٌ)، وقال: قد أنزل " عليّ " مثل الذي أنزل على محمد، قد كتبتُ ما لم يُمْل عليَّ. وكان يقرأ على النبي ما يكتب، فيقول له النبي: نعم سواء.
2104
وقيل: إنه لمّا نزل ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] إلى آخر القصة، عجب ابن أبي سرح من خلق الإنسان وانتقاله من حال إلى حال، فقال ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤]، فقال له النبي: أكتُبها، فكذلك نُزِّلَت عليّ. فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وأخبرهم بما كان يصنع، وأن النبي ﷺ يقول له في الذي يكتب: نعم سواء. ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة. وفيه نزل: ﴿ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾ [النحل: ١٠٦].
وقيل: إن قائل القولين هو عبد الله هذا. وقيل: هو مسيلمة. وقال ابن عباس: الذي افترى على الله كذباً هو مسيلمة، والذي قال: " سأنزل مثل ما أنزل الله " هو عبد الله بن أبي سرح.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت﴾ / أي: لو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين المفترين على الله الكذب وقد قرب
2105
" فناء " آجالهم، والملائكة قد بسطت أيديها، يضربون وجوههم وأدبارهم.
قال ابن عباس: البسط هنا: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم. وقال الضحاك: بسطت الملائكة أيديها بالعذاب. وقيل المعنى: (باسِطو أَيْديهم) لإخراج أنفسهم
﴿أخرجوا أَنْفُسَكُمُ﴾ أي: يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم من العذاب، أي: خلصوها اليوم.
قوله: ﴿اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون﴾ أي: عذاب جهنم، وهو عذاب الهوان، وهذا إخبار من الملائكة للكفار " بما " يصيرون إليه في الآخرة.
والهون - بالضم -: الهوان، والهَوْن بالفتح: الرفق والدَّعَة، تقول: " هُوَ هَوْنُ الْمؤوَنه "، ومنه قوله: ﴿يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً﴾ [الفرقان: ٦٣] يعني بالرفق والسكينة.
2106
قال أبو أمامة: يقبضون [روح الكافر] ويعدونه بالنار ويشدد عليه وإن رأيتم أنه (يُهّون عليه، ويقبضون روح المؤمن ويعدونه بالجنة ويهون عليه وإن رأيتم) " أنه " يُشَّدد عليه.
قوله: ﴿فِي غَمَرَاتِ الموت﴾ ليس يوقف، لأن ما بعده في موضع الحال. و ﴿مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله﴾: وقف حسن. ﴿أَيْدِيهِمْ﴾: وقف، ﴿غَيْرَ الحق﴾ وقف عند نافع، ﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾ تمام حسن، لأنه آخر قول الملائكة.
قوله: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى﴾ الآية.
قرأ أبو حَيْوَةَ ﴿فرادى﴾ بالتنوين، وهي لغة تميم، ويقولون في الرفع " فُرادٌ " وحكى أحمد بن يحيى " فُرادُ " بغير تنوين مثل " رُباع ".
2107
قال القتبي: ﴿فرادى﴾ جمع فَرْدٍ، كأنه جمع على " فَرْدان "، ثم جمع على " فرادى "، ككَسْلان وكُسالى.
وقال الطبري: واحد ﴿فرادى﴾: " فَرَدٌ "، بالفتح.
ومن قرأ (بَيْنَكم) بالنصب، فمعناه: لقد تقطع (الأمر بينكم) والسبب بينكم، ونصبه على الظرف.
ومن رفع، جعله غيرَ ظرف، بمعنى الوَصْل، تقديره: لقد تقطع وصلُكم.
2108
ومعنى الآية: أنها خبر من الله عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء المشركين، يقول لهم: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى﴾ أي: وُحداناً لا مال معكم، ولا أثاث، ولا شيء مما كان الله خَوَّلَكُم في الدنيا. ومعنى ﴿كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: قيل: منفردين لا شيء لكم، وقيل: عراة.
وروي " أن عائشة رضي الله عنها قرأت هذه الآية فقالت: يا رسول الله، واسوأتاه إن الرجال (والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟، فقال لها رسول الله ﷺ: ﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾، لا ينظر الرجال) إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شُغِل بعض عن بعض ".
ومعنى ﴿وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ أي: في الدنيا، ﴿مَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ﴾ أي: ليس نرى معكم مَن كنتم تزعمون أنهم (لكم شفعاء) عند ربكم يوم القيامة.
2109
وكان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الآلهة، لأنها تشفع لهم عند الله، و [إنها] شركاء له.
قال عكرمة: قال النضر بن [الحارث]: " سوف تشفع لي اللات والعزى "، فنزلت هذه الآية.
قوله: ﴿إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى﴾ الآية.
معنى الآية: أنها تنبيه لهؤلاء المشركين على قدرة الله، وأن ما يعبدون لا يقدر على ذلك. ومعنى فَلْقِه الحبَّ والنوى: يريد به النبات، فلق الحبة عن السنبلة، والنوى عن النخلة.
وقال الضحاك: معنى ﴿فَالِقُ الحب والنوى﴾ خالقهما، وروي ذلك عن ابن عباس.
2110
وقيل: معنى ذلك أنه هو الذي جعل الشق في النواة وفي الحبة، قال مجاهد: هما (الشقان اللّذان) فيهما.
واختيار الطبري أن يكون المعنى: فلقهما للنبات، لأنه أتبع ذلك بقوله: ﴿يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾، (فخروج الحي من الميت) كخروج النبات عن الحب والنوى، قال: ولا يعرف في اللغة " فلق " بمعنى خلق.
وقوله: ﴿يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ معناه: يخرج السنبل الحي من الحب الميت، ويخرج " الحب " الميت من السنبل الحي، والشجر الحي من النوى الميت، والنوى الميت من الشجر الحي. والعرب تسمي النبات والشجر ما دام لم يَيْبَس " حياً "، فإذا يبس وجف سمي " ميتاً ". فتقديره: يخرج النبات الأخضر الغض من الحبة اليابسة، ويخرج اليابس من الأخضر الغض.
2111
وقال ابن عباس في معنى ذلك: يخرج النطفة الميتة من الحي، ويخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة.
﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي: من أين تُصْرَفون عن الحق ولا تتدبرون.
قوله: ﴿فَالِقُ (الإصباح) وَجَعَلَ الليل سَكَناً﴾ الآية.
قرأ الحسن: (فالِقُ الأَصباح) بفتح الهمزة، " و " جعله جمع صبح.
وقرأ النخعي ﴿فَالِقُ الإصباح﴾ بالنصب في (الإصباح) وكسر الهمزة، يقدر حذف التنوين لالتقاء الساكنين، كأنه " قال " فالق الإصباح، فالإصباح: مفعول به، لكن حذف التنوين لسكونه وسكون اللام.
2112
ومعنى ﴿فَالِقُ الإصباح﴾: مضيء الصبح عن سواد الليل.
﴿وَجَعَلَ الليل سَكَناً﴾ أي: يَسْكُن فيه كل مُتحرك، ويستقر فيه كل متصرف.
قوله ﴿والشمس والقمر حُسْبَاناً﴾ أي: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب. قال ابن عباس: يعني عدد الأيام والشهور والسنين.
وقال قتادة: ﴿حُسْبَاناً﴾: ضياء.
والحسبان - بضم الحاء - " و " الحِساب بكسر الحاء: جمع حسبانة، وهي الوسادة الصغيرة.
2113
قال الأخفش: " حُسبان " جمع " حساب ": كشهبان وشهاب. وقال يعقوب: حسبان: مصدر " حَسِبْت الشيء حُسباناً "، والحساب: الاسم.
﴿ذلك تَقْدِيرُ العزيز﴾ أي: هذا الفعل الذي فعله الله: تقدير عزيز عليم، أي: عزيز في سلطانه، وعليم بمصالح خلقه.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم﴾ الآية.
المعنى: والله " الذي " جعل لكم النجوم أيها المشركون به، جعلها أدلة في ظلمات البر والبحر لكم إذا ضللتم وتحيرتم ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات﴾ أي: " قد " بيناها لِتَفْقَهوها وتعلموا أن الله مدبر ذلك كله، فلا تعبدوا غيره.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة﴾ الآية.
2114
المعنى: والله الذي قد تركتم عبادته هُوَ الذي أنشأكم من نفس واحدة، وهو آدم.
﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾ أي في الرحم، ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ أي: في الصلب.
وعن ابن مسعود: المستودع: المكان الذي يموت فيه، وقوله: ﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا﴾ [هود: ٦] أي في الأرحام، ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ [هود: ٦] أي في الأصلاب، / وقيل: حيث تموت.
وقال ابن جبير: المستودع: ما كان في الأصلاب، والمستقر: ما كان في البطون وعلى الأرض وفي بطنها.
وقال ابن عباس: ﴿مُسْتَقَرَّهَا﴾ [هود: ٦]: ما كان على وجه الأرض وفي الأرض،
2115
﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ [هود: ٦]: في الصلب. وعن ابن عباس " أيضاً ": المستقر: في الأرض، والمستودع: " عند الله، وكذلك روي عن مجاهد. وقال الحسن: المستقر: في القبر، والمستودع ": في الدنيا يوشك أن يلحق بصاحبه.
ومن قرأ بالفتح في ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾، فمعناه: أن الله استقره. ومن كسر، رد الفعل إلى المذكور عند الاستقرار.
﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات﴾ أي: بيّنّا الحجج والعلامات، ﴿لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ مواقِعَ
2116
الحجة. ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾، وقف، و ﴿يَفْقَهُونَ﴾ التمام.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء﴾ الآية.
قوله: ﴿وجنات﴾ قراءة الجماعة بالنصب والتاء مكسورة، عطف على ﴿نَبَاتَ﴾، كأنه [قال]: وأخرجنا به جنات. وقيل: هو معطوف على ﴿خَضِراً﴾.
وقرأ الأعمش بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولهم جنات.
وقيل: هو معطوف على المعنى، (فعطف) على القنوان، كأنه قال: وثم قنوان وجنات.
2117
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن: ﴿وَيَنْعِهِ﴾ بالضم: لغة، وقرأ محمد بن السَّمَيفَع ﴿وَيَنْعِهِ﴾ أي: مدركه.
والمعنى: والله هو الذي أنزل من السماء (ماء ففعل) به ما ذكر، وأخرج به ما ذكر.
ومعنى ﴿خَضِراً﴾ (أخضر)، أي: نباتاً أخضر، ﴿نُّخْرِجُ مِنْهُ﴾ أي: من الخضر، ﴿حَبّاً مُّتَرَاكِباً﴾ وهو السنبل ونخرج من الماء من النخل من طلعها ما قنوانه دانية، أي: قريبة مُتَهَدَلة، يعني قصار النخْل التي قد لصقت عُذُوقُها بالأرض،
2118
والقنوان طلعه.
وقوله: ﴿مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه﴾ أي: (قد) اشتبه في الخلق واختلف في الطعم.
قوله: ﴿وَيَنْعِهِ﴾ أي: نضجه. ومن قرأ (يانعة) فمعناه: ناضجة.
وقد قيل: إن ﴿يَنْعِهِ﴾ - بالفتح - جمع يانع، كتاجر وتَجْر. و (قد) قيل: هو مصدر " يَنِع الثمر يَنْعاً " اذا نضج.
وقرأ محمد بن السَّمَيفَع اليماني (ويانعه)، وقرأه ابن أبي اسحاق (ويُنْعه) بالضم، على معنى: ونُضجه.
2119
﴿دَانِيَةٌ﴾ وقف إن رفعت " الجنات "، ﴿وَيَنْعِهِ﴾ تمام.
قوله: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن﴾ الآية.
﴿الجن﴾: مفعول أول لِ (جَعَلوا)، و ﴿شُرَكَآءَ﴾: مفعول ثان، ويجوز " أن يكون ﴿الجن﴾ بدلاً من ﴿شُرَكَآءَ﴾ "، والمفعول الثاني: اللام في (لله) وما عملت (فيه)، وأجاز الكسائي رفع (الجن) على معنى: هم الجن.
وقرأ يحيى بن يعمر: ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾ بالنصب وإسكان اللام، على معنى: وجعلوا لله خَلْقَهُم شركاء، لأنهم يخلقون الشيء، بمعنى: يقدرونه ويعبدونه.
2120
ومعنى: ﴿وَخَرَقُواْ لَهُ): اختلقوا كذباً. والتشديد فيه معنى التكثير.
ومعنى الآية: أن المشركين جعلوا الجن شركاء لله، كما قال عنهم {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾
[الصافات: ١٥٨]، ومعنى جَعلِهم الجن شركاء لله: أنهم أطاعوهم كطاعة الله. وقيل: نسبوا إليهم الأفاعيل التي لا تكون إلا لله.
قال ابن جريج: هم الزنادقة. وقال القتبي: هم " الزنادقة جعلوا إبليس يخلق الشر، والله يخلق الخير ".
ومعنى الآية ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾: أي: والله خلقهم، والهاء والميم تعود على الفاعلين
2121
ذلك.
﴿وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وبنات (بِغَيْرِ عِلْمٍ)﴾ قالت العرب: الملائكة بنات الله، وجعلوا له البنات، ولهم ما يشتهون، وهم البنون، وقال اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله كذباً واختراقاً منهم.
﴿سبحانه﴾: أي: تنزيهاً له عما يقولون، ﴿وتعالى﴾ عن ذلك.
قوله: ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَد﴾ الآية.
المعنى: هو بديع السماوات، أي: (مبتدعها ومحدثها) بعد أن لم تكن.
﴿أنى يَكُونُ لَهُ وَلَد﴾ أي: من أي: وجه يكون له ولد ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة﴾؟ أي: إن الولَدَ إنما يكون للذَّكَر من الأنثى، ولا ينبغي أن تكون له صاحبة، فيكون له وَلد، لأنه خالق كل شيء. وقيل: المعنى: من أين يكون له ولد وولد كل شيء يشبهه، ولا شبيه لله. وهو خالق كل شيء، وهو عليم بكل شيء، لا يمكن أن يكون وَلدٌ لِمَن هذه صِفَته، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
قوله: ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ﴾ الآية.
والمعنى: فذلكم الذي ذكرت صفته هو الله ربكم، لا إله إلا هو، خالق كل شيء.
وقد تعلق القائلون بخلق القرآن بقوله: ﴿خالق كُلِّ شَيْءٍ﴾، قالوا: القرآن شيء، فهو داخل تحت الخلق. وقد جرت هذه المسألة بين عبد العزيز بن يحيى المكي وبين بشر
2123
ابن غياث المريسي القدري بحضرة المأمون، اختصرت الحكاية لطولها:
قال عبد العزيز: قلت لبشر: ما حجتك في خلق القرآن؟، وانظر: إلى أَحدّ سهمٍ في كنانتك فَاْرمِنِي به. قال: فقال لي بشر: تقول: إن القرآن شيء أم غير شيء؟. (قال عبد العزيز): فقلت له إن كنتَ تريد أنَّه شيء إثباتاً للوجود ونفياً للعدم، فَنَعَم هو شيء، وإن كنت تريد أن الشيء اسم لذاته وأنه كالأشياء فلا. قال له بشر: قد أَقْرَرْتَ أنه شيء وادّعيتَ أنه لا كالأشياء، فأت بنصٍ على ما زَعَمتَ. قال عبد العزيز: فقلت: قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠]، فبِقولِه تكون الأشياء، وليس هو كهي. وإنما تكون الأشياء بقوله وأمْرِه. فقولُه خارج
2124
عن الأشياء المخلوقة، ألا ترى إلى قوله: ﴿أَلاَ لَهُ الخلق والأمر﴾ [الأعراف: ٥٤]، فجمع في لفظة " الخلق " جميع المخلوقات، ثم قال: ﴿والأمر﴾ يريد الذي كانت به هذه المخلوقات كلها. والأمر غير المخلوقات، وهو قوله: ﴿كُنْ﴾ [النحل: ٤٠]. وقال (الله) تعالى: ﴿لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم: ٤] أي: من قبل الخلق ومن بعد الخلق. وقد أخبر عن الأشياء المخلوقات في غير موضع من كتابه، وأنه خلقها بأمره وقوله، فقال تعالى: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾ [الأنعام: ٧٣]، وقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق﴾ [الحجر: ٨٥، الأحقاف: ٣]، والحقُّ هو كلامُه. فأمُره، كلامُه، وكلامُه: أمرُه، وأمرُه: الحقُّ، والحقُّ: أمرُه، وكلامُه: الحقُّ، والحقُّ: كلامُه.
فهذا يدل على أن كلامه لا كالأشياء المخلوقة، لأنها به كانت (وحَدَثَت). وأما ما يدل على أنه " شيء " فقوله: ﴿إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: ٩٣]، فدل على أن الوحي شيء، ودل ما تَقدَّم على أنه لا كالأشياء.
قال بشر: قد زعمت أن الله يخلق الأشياء، وادّعيتَ أنَّها تكون بقوله، وأنَّها
2125
تكون بالحق، وأنَّها تكون بأمره، وهذا متناقض.
قال عبد العزيز: إِنّ قولَه هو كلامُه، وقولَه هو الحقُّ، وأمرَه هو كلامُه: فالألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد، كما سمى كلامه: نوراً وهدىً وشفاءً ورحمةً و ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ﴾، وكله يرجع إلى شيء واحد، [كذلك ذاك. وكما سمى نفسه: فرداً صمداً واحداً]، وهو شيء واحد لا كالأشياء. وهذا إنّما منعه بِشْر لجِهلِه بِلُغةِ العرب.
قال بشر: (لَستُ) أَقْبَلُ لغةَ العرب، ولا أَقَبل إلا النص.
قال عبد العزيز: فقلت: قال الله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله﴾ [الفتح: ١٥]، ثم قال: ﴿كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ﴾ [الفتح: ١٥]، فسمى القرآن كلامه، ثم سماه: قوله، وقال: ﴿وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٩١]، فسمى القرآن حقاً، وقال: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق﴾ [الأنعام: ٦٦]، وقال:
2126
﴿لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ [يونس: ٩٤]، ومثل هذا كثير.
قال بشر: قد أقررت يا عبد العزيز أن القرآن شيء على صفة ما، وقد قال تعالى: ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْ﴾ [الأنعام: ١٠٢، الرعد آية ١٦، الزمر آية ٦٢، غافر آية ٦٢]، وهذه لفظة لم تدع شيئاً من الأشياء إلا أدخلته في الخلق، ولا يخرج عنها شيء، قد تقَصَّتْ جميع الأشياءِ، فصار القرآن مخلوقاً بنص القرآن.
قال عبد العزيز: فقلت: قال الله: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٥]، فهل أبقت الريح - يا بشر - شيئاً لم تدمره؟
قال بشر: لا. قال عبد العزيز: فقلت له: قد - والله - أَكْذَب الله قائل هذا بقوله: ﴿فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥]، فأخبر أن مساكنهم كانت باقية وهي أشياء كثيرة، وقال تعالى: ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم﴾ [الذاريات: ٤٢]، وقد أتت على الجبال والشجر والأرض فلم تجعله رميماً، وقال تعالى: ﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣]، يعني بلقيس، فهل
2127
أوتيت ملك سليمان وهو أضعاف ملكها؟. فهذا تكسير لقولك يا بشر. ولكن ما تقول - يا بشر - في قوله تعالى: ﴿أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ [النساء: ١٦٦]، وقال تعالى: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، وقال: ﴿أُنزِلَ بِعِلْمِ الله﴾ [هود: ١٤].
وقال: ﴿وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ [فاطر: ١١، فصلت: ٤٧]!، فأخبر تعالى أن له علماً. أفتقرُّ - يا بشر - أن له علماً كما أخبر في كلامه أو تخالف التنزيل؟.
فعلم بشر أنه (إنْ) قال: " له علم "، فيقول له: أهو داخل في الأشياء المخلوقة أم لا؟. فإن قال: " دخل "، كفر. وإن قال: لا. أجاز ما منع في الكلام. وأبى أن ينفي العلم فخالف التنزيل، فحاد، ثم قال: معنى علمه: أنه لا يجهل.
قال عبد العزيز: لم أسألك عن هذا، قد علمت أن الله لا يجهل، انما سألتك:
2128
هل تثبت له علماً كما أثبته لنفسه؟، وليس نفيك السوء - يا بشر - عن الله يوجب إيجاب المدح، لأن قولك: " هذه الأسطوانة لا تجهل " ليس هو إثباتاً أن لها علماً. ولم يمدح الله ملكاً (ولا نبياً ولا مؤمنا بِنَفِي الجهل) ليدل على (أنه) إثبات العلم، وإنما مدحهم بالعلم، فقال: ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: ١٢]، ولم يقل: " لا يجهلون "، وقال لنبيه: ﴿(وَتَعْلَمَ) الكاذبين﴾ [التوبة: ٤٣]، ولم يقل: " ولا تجهل "، وقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ [فاطر: ٢٨]، ولم يقل: " الذين لا يجهلون "، فمن أثبت العلم نفى الجهل، وليس (كل) من نفى الجهل أثبت العلم، (و) على الخلق جميعاً أن يثبتوا ما أثبت الله لنفسه.
2129
فقال بشر: أتقول: ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج: ٧٥، لقمان: ٢٨] وإن له (سمعاً وبصراً) كما أثبت (له عِلْماً)؟.
قال عبد العزيز: فقلت: إنما على الناس أن يُثبتوا ما أثَبتَ، وينفوا ما نفى، ويُمسكوا عن ما أمسك الله. فأخبرنا تعالى أن له علماً، فقلت: " له علم "، ولم يخبرنا أن له سمعاً ولا بصراً، فأمسكنا عن ذلك.
فقال بشر: قد زعمت أن لله علماً، فما معنى علم الله؟.
قال عبد العزيز: هذا ما لا يعلمه إلا الله، قد تَفرَّد بذلك، وقد أمرني بشر أن أترك قول الله وأَمرَه، واتبع أمر الشيطان، لأن الله أخبر عن الشيطان أنه (يأمرنا أن) نقول (على) الله ما لا نعلم، وحرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم بقوله: ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٦٩، الأعراف: ٣٣]، فقد اتبع بشر طريق الشيطان، وارتكب ما حرم الله علينا.
2130
قال عبد العزيز: فانقطع بشر، فقلت له: يا بشر، ألست تقول إن لله نَفْساً بقوله: ﴿واصطنعتك لِنَفْسِي﴾ [طه: ٤١]، وبقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: ٢٨، ٣٠]؟.
قال بشر: نعم له نفس كما أخبرنا.
قال عبد العزيز: فقلت له: قال الله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ (الموت)﴾ [آل عمران: ١٨٥]، أفتقول - يا بشر - إن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس المخلوقة؟. فأبى بشر من القول بذلك، فقال له عبد العزيز: وكذلك كلام الله ليس بداخل في الأشياء المخلوقة. فسكت بشر.
قال عبد العزيز ثم قلت له: القرآن نزل على أربعة أخبار:
- خبر مخرجه مخرج الخصوص، ومعناه الخصوص، كقوله: ﴿اسجدوا لأَدَمََ﴾ [البقرة: ٣٤، الأعراف: ١١، الاسراء: ٦١، الكهف: ٥٠، طه: ١٦٦]، وكقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩]: هذا خاص في لفظه ومعناه.
- والثاني: خبر مخرجه مخرج العموم، ومعناه معنى العموم، كقوله: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ﴾ [النمل: ٩١]، فكل شيء له، مخلوقاً كان أو غيرَ مخلوقٍ، وصفاته له، وخلقه له.
2131
- والثالث: خبر مخرجه العموم ومعناه الخصوص، نحو قوله: -ayah text-primary">﴿يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى﴾ [الحجرات: ١٣]، و (النّاسُ) يجمع آدم وعيسى وغيرهما، ولم يكونا من ذكر وانثى. ومنه: -ayah text-primary">﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] وهي لم تَسَع إبليس والكفار، لقوله: -ayah text-primary">﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ﴾ [ص: ٨٥].
- والرابع: (خبر) مخرجه الخصوص ومعناه العموم، كقوله: ﴿وَأَنَّهُ (هُو (َ رَبُّ الشعرى﴾ [النجم: ٤٩]، فخص " الشعرى "، والمعنى: أنه رب كل شيء: الشعرى وغيرها، ولكن خصّها الله باللفظ، لأنهم كانوا يعبدونها.
فهذا اختصار بعض ما جرى بينهما، فنرجع إلى ما كنا فيه. قوله: ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾: قال الفراء: الوكيل: الكافي. ومنه قولهم: "
2132
﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ [آل عمران: ١٧٣]، أي: كافينا الله ونعم الكافي ". وقال قتادة: الوكيل: الحفيظ. وقيل: الوكيل: الولي. وقيل: الرب. وقيل: الكفيل.
قوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ الآية.
قال ابن عباس: معناه: لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها.
وليس معناه: لا تراه، كما زعمت المعتزلة القدرية، وقد قال الله عن فرعون: ﴿إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق﴾ [يونس: ٩٠] فوصف بأن الغرق أدرك فرعون) ولم يخبر أنه رآه، لأن الغرق ليس مما يُرى، فليس الإدراك هو الرّؤيةَ، وقد يرى الشيءُ الشيءَ ولا يُدرِكه، كما حكي عن أصحاب موسى حين قرب منهم أصحاب فرعون: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: ٦١]، وكان أصحاب فرعون قد رأوا أصحاب موسى، ولم يكونوا
2133
ليدركوهم، لأن الله قد وعد نبيَّه أنهم لا يُدرَكون بقوله: ﴿لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى﴾ [طه: ٧٧]، ولذلك قال لهم موسى: (كَلاّ) أي: ليس يُدرِكونا، فليس (قوله): ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ بمعنى: لا تراه الأبصار. وإنما معناه: لا تحيط به الأبصار، لأنه غير جائز أن تحيط به الأبصار، ومثل هذا وصفه بأنه يُعلم ولا يحاط به.
وقيل: معناه: لا تراه الأبصار في الدنيا، قال السدي وغيره.
والكلام على جواز رؤية الله جل ذكره في الآخرة يطول، وبجوازه يقول أهل السنة والجماعة، و (به) تواترت الأخبار وتتابعت الروايات عن النبي
2134
عليه السلام، وهو معنى قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢، ٢٣]، وهو المفهوم من قوله تعالى في الكفار: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥]، فلو كان الخلق كلهم محجوبين عن ربهم، ما خص ذكر الكفار بالحجاب. وفي تخصيصه الكفار (بالحجاب) دليل على أن المؤمنين غير محجوبين عن ربهم، فأما قول من قال: إن معناه: " عن رحمة ربك " وقال في (الآية الأخرى): " إلى رحمة ربها ناظرة "، فهو قول متقاحم بالباطل، مُدَّعٍ ما ليس لفظُه في الكلام، مُخرِج للخطاب عن ظاهره، متكلِّف إضمارَ ما ليس في الكلام عليه دليل، ألْجَأَهُ إلى ذلك كله نَصْرُ باطله (بباطل مثله)، أعاذنا الله من ذلك كله.
2135
وقيل: معنى (الأبصار) هي في هذا: أبصار العقول، كما قال: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾ [الأنعام: ١٠٤]، فالمعنى: لا يدركه نفاذ العقول فتتوهمه وتُكيّفه إذ ليس كمثله شيء متوهّم محدود.
قوله: ﴿وَهُوَ اللطيف الخبير): (اللطيف)﴾: مشتق من اللطف وهو التأني يقال: " أُلطُفْ لِفُلانٍ في هذا الأمرِ "، أي: " تأن له " من وجه يَخلُص (منه) إلى بغيته، (فالله لطيف بالخلق) حتى صاروا إلى ما يصلحهم. وقيل: ﴿اللطيف﴾
2136
هو الذي فعل أفعالاً لطيفة، و ﴿الخبير﴾: العالم بالشيء. فهو لطيف لإِحْكامهِ الخَلْقَ، وهو العظيم، لأنه خلق الخلق العظيم.
قوله: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أمر نبيه أن يقول للمشركين ذلك. والبصائر: الهدى. وقيل: الآيات الدالة على الهدى.
﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ أي: استدل وعرف نفع نفسه، ﴿وَمَنْ عَمِيَ﴾: أي: من ضَلّ فعلى نفسه، ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أي: لست عليكم برقيب أحصي أعمالكم، إنما أنا مُبلِّغ.
وقيل: المعنى: (لست) آخذُكم بالإيمان أخذَ الوكيل عليكم، وهذا قبل الأمرِ بالقتال، فلّما أُمِر النبي بالقتال، صار حفيظاً ومسيطراً على كل من تولى. وقيل: المعنى لم أُؤْمَرْ بحفظكم عن أن تَهلكوا.
قوله: ﴿وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾ الآية.
المعنى: وكما صرفنا لكم الحجج والعلامات فيما تقدم مثل ذلك أفعل في كل ما جهلتموه ولم تعرفوه، ومعنى (نُصَرّف): نبيّن.
وقوله: ﴿وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾ أي: " ولئلا يقولوا درست ".
وقيل: المعنى: وليقولوا درست صرفناها، لأنهم لما آل أمرهم بَعدُ - (عند تصريف الآيات) - إلى أن يقولوا لمحمد: " درست ". صار كأنه إنما صرَّفها ليقولوا ذلك، مثل ﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ﴾ [يونس: ٨٨]، و ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً (وَحَزَناً)﴾ [القصص: ٨] وشبهه، وأهل اللغة
2138
يسمون هذه اللام لام الصيرورة، لأن السبب الذي " صيرهم ليقولوا له ": " درست "، هو تصريف ﴿الآيات﴾.
ومعنى (دَرَسْتَ): قَرأْتَ وتَعلَّمْتَ كتب الأولين.
ومن قرأ (دارَسْتَ) فمعناه: قارَأْتَ أهل الكتاب فتعلمت منهم وتعلموا منك.
ومن قرأ (دَرَسَتْ) / بإسكان التاء، فمعناه: تقادمت وَاّمَحتْ، أي: الذي
2139
تتلوه علينا قد مَرَّ بنا قديماً و (تطاولت) مدته.
وروى الحسن: (دَارَسَتْ) بألف وإسكان التاء. ولا يجيزها أبو حاتم، لأن الآيات لا تدارس. ومعنى الآية عند غيره: وليقولوا: دارستك أمتك.
﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي: صرفناها لنبين القرآن لقوم يعلمون. فالهاء (في) ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ﴾ للقرآن، وقيل: للتصريف.
قوله: ﴿اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أمر نبيه باتباع القرآن والإعراض عن المشركين ثم نسخ ذلك بآية القتال في " براءة ".
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ﴾ الآية.
أعلم الله نبيه أنه لو شاء الله لهداهم فلم يشركوا. وقيل: المعنى: لو شاء لأنزل عليهم آية تضطرهم إلى الإيمان.
ثم قال لنبيه: وما أرسلناك عليهم حفيظاً، أي: إنما أرسلناك مبلغاً، لم ترسل لتحفظ عليهم أعمالهم، ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ أي: بِقَيّم تقوُمُ بأرزاقهم وأقواتهم. وهذا كله قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نُسخَ الأمرُ بالقتال هذا كله.
قوله: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ الآية.
﴿عَدْواً﴾: مصدر، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله.
2141
وفي قراءة المكيين: ﴿عَدْواً﴾ جعلوه واحداً يدل على الجمع، كما قال: ﴿إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً﴾ [النساء: ١٠١]، ونصبه على الحال. وقد روي عنهم: (عُدُوّاً) بضمتين، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، ونصبه على المصدر، يقال: عدا يعدو عَدْوا (وعُدُوّاً) وعُدْواناً.
ومعنى الآية: أن المشركين قالوا: لتنتهن عن سَبّ آلهتنا أو نهجو ربكم، فأمر (الله) المسلمين ألا يسبوا آلهتهم لئلا يسبوا الله جهلاً منهم بخالقهم ورازقهم.
2142
(ثم قال تعالى): ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ (أي) كما زيّنَا لهؤلاء عبادة الأوثان، كذلك زيَنّا لكل جماعةٍ - اجتمعت على عمل من الأعمال، طاعة أو معصية - عَمَلَهم، ثم مرجعهم بعد ذلك إلى الله فيخبرهم بأعمالهم ويجازيهم عليها.
قوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم﴾ الآية.
المعنى: أن الله جل ذكره لمّا نزّل في " الشعراء " ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤]، أقسم كفار قريش: ﴿لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾، فقال المؤمنون: يا رسول الله، سل ربَّك أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فأنزل الله ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، وهو خطاب للمؤمنين السائلين النبي في ذلك.
وقيل: معنى الآية: أن الكفّار سألوا النبي ﷺ أن يأتيهم بآية، وحلفوا ليؤمنن إِنْ أتت، فقال المؤمنون: يا رسول الله، سل ربك أن ينزلها (عليهم) حتى يؤمنوا،
2143
(فأنزل الله): وما يشعركم أيُّها المؤمنون بذلك؟، أي: بصحة قولهم (ثم قال) مستأنفاً مخبراً عنهم - بما يفعلون لو نزلت -: إنها إذا جاءت لا يؤمنون. وهذا معنى الكسر، وهو الاختيار عند أكثر النحويين.
وهذه الآية هي التي توعّدوا بها / في الشعراء في قوله: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤]، فقال الله لنبيه: ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله﴾ وهو القادر على إنزالها.
والذي سألوه هم أنهم قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً. فسأل النبي ﷺ في ذلك،
2144
فجاءه جبريل فقال: إن شئت أصبح ذهباً، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك لَيُعذِبَنّهم الله، وَ (إِنْ) شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال النبي ﷺ: " بل يَتوبُ تائِبُهم "، فأنزل الله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله﴾ الآية.
ومن قرأ بالتاء، فإنما هو خطاب للمشركين الذي سألوا الآية، ويحتمل وجهين:
- أحدهما: أن تكسر (إِنّ) على معنى: وما يشعركم ذلك، ثم استأنف بالإخبار عما سبق في علمه، وعِلم ما لو كان كيف كان يكون، فقال: إنها إذا
2145
جاءت لا تؤمنون أيها المشركون.
- ويحتمل أن تفتح (أنَّ)، ويكون المعنى: وما يُشعركم - أيُّها المشركون - أنها إذا جاءت تؤمنون؟، وتكون (لا) زائدة.
ومن قرأ بالياء فهو خطاب للمؤمنين الذين سألوا النبي أن يسأل آية ليؤمن المشركون عند نزولها على ما سألوا، وأقسموا إنهم يؤمنون إذا نزلت، ويحتمل معنيين:
أحدهما: فتح (أنَّ) ويكون المعنى: وما يشعركم - أيُّها المؤمنون - أنَّها إذا جاءت يؤمنون؟، أي: (ما) يدريكم أنَّهم يؤمنون إذا نزلت الآية. وتكون (لا) زائدة.
- والوجه الآخر: أن تكون (إنِّ) مكسورة، ويكون المعنى: وما يشعركم - أيها
2146
المؤمنون - ذلك. ثم استأنف فقال: ﴿أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُون﴾، يخبر بما يكون لو فعل بهم ذلك.
ويجوز في القراءتين جميعاً - الياء والتاء - أن تكون (أنَّها) - إذا فتحت - بمعنى " لعلها "، وتكون (لا) غير زائدة.
والياء اختيار الطبري مع فتح (أنَّ) بمعنى " لعلها ".
ولو فتحت (أنَّها) ولم تقدر زيادة (لا) ولا كون (أنَّها) بمعنى " لعلها "، لكان ذلك عذراً لهم.
ولا يتم فتح (أنَّها) إلا بأحد وجهين:
- إمَّا أَنْ تقدرها بمعنى " لعلها " - أو تقدر زيادة (لا). فاعلم ذلك.
2147
وقد حكى الخليل عن العرب: " ائت السوق أنَّكَ تشتري لنا "، أي: لعلك. وسمع الكسائي رجلاً يقول: " ما أدري أنه صاحبها "، أي: لعله. وسمع الفراء أبا الهيثم العُقيلي يقول: " أنَّها (تركته لفاقة حاله) "، يريد " لعلها تركته ". وفي قراءة أُبيّ ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، وفي حرف عبد الله: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ إِذَا (جَاءَتْ) لاَ يُؤْمِنُونَ).
ومن قدر زيادة (لآ) هنا، أوقع ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾ على ﴿أَنْ﴾ ففتحها، ويجعل (لا) صلة كهي في قوله: ﴿وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥]، المعنى: حرام عليهم أن
2148
يرجعوا، ومثله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢]. قال الفراء: العرب تجعل " لا " صلة في كل كلام دخل في آخره (أو في أوله) جحد، أو في أوله جحد غير مصرح.
وقيل: في الآية قول حسن، وهو أن يكون المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون. ثم حذف الأخير لدلالة الأول عليه، فيِعمل (يُشْعِرُكُم) في (أَنَّها)، ويفتح (أَنَّ)، ولا يقدر زيادة / (لا)، ولا يقدر (أنَّها) بمعنى " لعلها "، ولا تكون عذرا لهم.
(والوقف على (يُشْعرِكُم) في قراءة من كسر (إنّ)، وفي قراءة من فتح على تقدير " لعلها " حسن، ولا يحسن الوقف على (يُشعِركم) على غير هذين الوجهين).
قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم﴾ الآية.
المعنى: أنهم لما أشركوا وجَحدوا، لم يثبت الله قلوبهم على شيءٍ. قال ابن
2149
زيد: (المعنى): نمنعهم من الإيمان كما فعلنا بهم أول مرة. وقيل: المعنى: لو جئناهم بآية ما آمنوا كما لم يؤمنوا أول مرة، لأن الله حال بينهم وبين ذلك.
وقال مجاهد: المعنى: يَحُولُ بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنون كما حُلْنا بينهم وبين الإيمان أولَ مرةٍ. كأن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ كما لم يؤمنوا به أول مرة، وذلك قبل إتيان الآية: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم﴾، ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
وقيل: المعنى: أن الله جل ذكره جعل عقوبة الإعراض عن الحق - بعد أن بين لهم - الطبعَ على قلوبهم، و (الغشاوة) على أبصارهم.
والهاء في (بِهِ) للقرآن. وقيل: لمحمد. وقيل: للمسؤول، أي: كما لم يؤمن أوائلهم بما سألوا من الآيات بعد نزولها، فكذلك يفعل كفار قريش لو نزل عليهم ما سألوا من الآيات.
2150
وعن ابن عباس: (أن المعنى): أن الله (أخبرنا ما يفعل بعباده) لو ردهم إلى الدّنيا، فقال: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، أي: لو ردُّوا إلى الدنيا لَحِيلَ بينهم وبين الهدى، كما حيل بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.
قال الطبري: المعنى: ونُقلّبُ أفئدتهم فنزيغها عن الإيمان، وأبصارهم عن رؤية الحقِّ، كما لو لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبل مجيئها أول مرة، أي: قبل ذلك.
والهاء عنده تعود على التقليب، وفيما تقدّم من الأقوال، تعود على الهدى، أو على الإيمان، وقد قيل: على الرسول، وقيل: (على القرآن). وقيل: على الله جل ذكره.
وقوله: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي: نتركهم في حيرتهم يترددون. قال النحاس: المعنى: نُقلّب أفئدتهم وأبصارهم على لهب النَّار كما لم يؤمنوا به في الدنيا. ثم قال: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، أي: ونمهلهم في الدنيا فلا نعاقبهم، أي: ونتركهم
2151
في طغيانهم يتحيرَّون.
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة﴾ الآية.
وهذه الآية من الله (إعلام) يُزيل بها طمع النبي من (أن يؤمن) هؤلاء العادلون بربهم الأوثانَ، الذين سألوا الآية وأقسموا إنهم يؤمنون إذا نزلت، فأخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آيةٍ، فقال تعالى: لو نزّلتُ إليهم الملائكة، أي: عياناً ﴿وَكَلَّمَهُمُ الموتى﴾ بأنك مُحِقٌّ فيما تقول، ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: جمعنا عليهم، ﴿كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً﴾ أي: عياناً.
وقيل: معناه: آتيناهم بما غاب عنهم من أمور الآخرة، ما آمنوا ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾، عزى الله نبيه بهذا، وأعلمه أن من سبق في علم الله ألا يؤمن، فلا ينفعه شيء.
قوله: ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾: أي: يجهلون ما في مخالفتك - يا محمد - وهم يعلمون أنك نبي صادق فيما جئتهم به.
2152
وروي " أن النبي عليه السلام كان يداعب أبا سفيان بمِخْصَرَة في يده، يطعن بها أبا سفيان، فإذا أخرقته قال له: نح عني مخِصَرَتَك، فوالله لو أسلمتُ إليك هذا الأمر، ما اختلف عليك فيه اثنان. فقال له النبي: أسألك بالذي أسلمت له، (عن أي: شيء كان قتالُك إيّايَ)؟.
قال له أبو سفيان: تظنُّ (أنيِّ كَنْتُ) أقاتلك تكذيباً مني، والله ما شككت في صِدقك، وما كنت أقاتلك إلا حسداً مني لك، فالحمد لله الذي نزع ذلك من قلبي. فكان النبي يشتهي ذلك منه، ويَتَبَسَّم إليه " ومن قرأ (قُبُلاً) بالضم، احتمل ثلاثة أَوْجُهٍ:
2153
- أحدها: أن يكون جمع " قبيل "، كرغيف ورُغُف. والقبيل: الضمين والكفيل، ويكون المعنى: وجمعنا عليهم كل شيء يَكتفِل الملائكة لهم بصحة هذا، لم يؤمنوا، كما قال: -ayah text-primary">﴿أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً﴾ [الاسراء: ٩٢] أي: ضميناً.
- والوجه الثاني: أن يكون " القُبُل " واحداً، بمعنى المقابلة، تقول: " أَتَيْتُكَ قِبَلاً لا دُبُرا ": إذ أتيته من قِبَل وجهه، فالمعنى وجمعنا عليهم كل شيء من قِبَل وُجوهِهم.
- والوجه الثالث: أن يكون (قُبُلاً) جمع " قبيل " أيضاً، ويكون " قبيل " بمعنى: فِرْقة وصنف. فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء صنفاً صنفاً وقبيلة (قبيلة)، فيكون (قبلاً) جمع " قبيل " و " قبيل " جمع " قبيلة ". ومن قرأ (قِبَلاً) فمعناه: عياناً، أي: معاينة.
2154
وهذا (إعلام) للنبي كإعلام نوح: ﴿أَنَّهُ (لَن يُؤْمِنَ) مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦].
وقال المبرد: (قِبَلاً) بمعنى ناحية: أي: وجمعنا عليهم كل شيء ناحية، كما تقول: " لي قِبَلَ فلانٍ مالٌ "، أي: ناحِيتَه، فكان نصبه - على هذا - على الظرف، وعلى الأقوال المتقدمة: على الحال.
قوله: ﴿وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شياطين الإنس﴾ الآية.
﴿عَدُوّاً﴾ مفعول أول ل (جَعَلنْا)، و ﴿لِكُلِّ نِبِيٍّ﴾: المفعول الثاني، و (شياطين) بدل من ﴿عَدُوّاً﴾. ويجوز أن يكون (شياطينَ) مفعولاً ثانياً، و (عَدُوّاً) أولا.
حكى سيبويه أنَّ (" جَعَلَ " بمعنى: " وَصَفَ ")، فَيَتَعدَّى إلى مفعولين،
2155
ويكون التقدير: وكذلك جعلَّنا شياطين الإنسِ والجنِّ أعداء للأنبياء.
﴿غُرُوراً﴾ مصدر، أي: يَغرُّون غُروراً. ويجوز أن يكون في موضع بالحال. ومعنى الآية: أنه فيها حذف، والمعنى: وكما جعلنا لك - يا محمد - ولأمَّتِك شياطين الإِنِّسِ والجنِّ أعداء يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً، كذلك جعلنا لكل من تقدمك من الأنبياء وأممهم، وهذا تسلِّية للنبي عليه السلام فيما لقي من (كفر) قومه.
ومعنى (شياطينَ الإنس (والجنِّ): قال السدي: للإنسِ شياطينِ تضلهم، ومثله للجن، فَيَلْقى شيطان الإنسي شيطان الجنِّي، فيقول أحدهما للآخر: " إني قد أضللت صاحبي بكذا وكذا، (فأَضْلِلْ أنت) صاحبك بذلك "، فيُعَلِم بعضهم بعضاً، فشياطينِ الإِنس من الجِنِّ، وشياطين الجنِّ من الجِنِّ. وكذلك قال عكرمة.
2156
وقيل: المعنى: أن مَرَدَة الإنس شياطينَ، ومثل ذلك من مردة الجِنِّ، يوحي بعضهم إلى بعضٍ من القولِ ما يؤذونهم به. وقال مجاهد: شيَّاطين الإنِّسِ: كفارهم /، وشياطينَ الجِنِّ: كفارهم.
والشيِّطان - في اللغة - هو المتمرِّد في معاصي الله.
ومعنى ﴿زُخْرُفَ القول﴾ هو تزيين الباطل، يُقال: " زَخرفَ باطِلَه ": إذا حسَّنه، فهو تزيين الباطل بالألسنة.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ أي لو شاء الله ما فعل هؤلاء الشياطين العداوة بالأنبياء وأممهم، ولكن لم يشأ ذلك ليبتلي بعضهم ببعض، فيستحق كلُّ فريقٍ
2157
منهم ما سبق له في (أم) الكتاب.
والهاء في قوله: ﴿مَا فَعَلُوهُ﴾ تعود على الإيحاء لدلالة (يوحي) عليه، وقيل: على العداوة وذكر لأن التأنيث غير حقيقي.
وقوله: ﴿فَذَرْهُمْ﴾ أي: دعَّهم وافتراءهم. هذا فيه معنى التهديد والوعيد.
قوله: ﴿ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ (الآية).
يقال: صَغَى يَصْغَى، وصَغَا يَصْغُو، (وَصَغَا يَصْغَا).
قرأ الحسن: ﴿وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ﴾ بإسكان اللامين.
ومعنى الآية: أنَّها معطوفة على ما قبلها، والتقدير: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعضٍ المُزَيّن من القول ليَغرُّوا به المؤمنين، و (لكي تصغى) إليه أفئدة الذين لا يؤمنون [بالآخرة].
فالهاء في (إليْهِ) تعود على (زُخْرُف الْقَوْل)، وهو المُزَيَّن له. ومعنى " تصغى ": تميل إليه.
ومعنى ﴿وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾ أي: وليكتسبوا ما هم مكتسبون. يُقال: خرج فلان يقترف لأهله "، أي: يكتسب.
قوله: ﴿أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً﴾ الآية.
﴿حَكَماً﴾ نَصْبٌ على البيان أو على الحال.
والمعنى: قل لهم يا محمد: (أأبتغي) غير الله حَكَماً؟، أي: [أأبتغي] حُكماً غير حُكمِه ولا حُكْمَ أَعْدَلُ من حُكْمِهِ، ﴿وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب﴾ (أي القرآن)، ﴿مُفَصَّلاً﴾ أي: مبيّناً.
﴿والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق﴾ يريد أهل التوراة والإنجيل المؤمنين منهم بمحمد، يعلمون أنه حق، ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ أي: من الشاكين فيما جاءك من الأنباء، وفي ﴿والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق﴾.
قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ (الآية).
حجة من قرأ (كلمات) - بالجمع - أنها في المصحف بالتاء، ولإجماع
2160
الجميع على قوله: ﴿لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ﴾.
ومة قرأ بالتوحيد، احتج بإجماع الجميع على التوحيد في قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ [هود: ١١٩]، ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى﴾ [الأعراف: ١٣٧]. وإنما كتبت بالتاء عند من وحّد، لأنها كتبت على اللفظ، بمنزلة ﴿وَمَعْصِيَتِ الرسول﴾ [المجادلة: ٨، ٩] و ﴿فِطْرَتَ الله﴾ [الروم: ٣٠] وشبهه.
والمعنى: أن الله سمى القرآن (كلمة)، كما تقول العرب للقصيدة: " هذه كلمة
2161
فلان "، والموصوف هنا بالتمام هو القرآن، لا مبدل له، أي: لا مغير لما أخبر في كتابه أنه كائن، وهذا مثل قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله﴾ [الفتح: ١٥] والذي أرادوا أن يبدلوا هو قوله: ﴿لَّن تَتَّبِعُونَا كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ﴾ [الفتح: ١٥]، فتقدم في علم الله أنهم لا يتبعون النبي، فأرادوا أن يبدلوا ذلك فقالوا للنبي: ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ [الفتح: ١٥]، وقد تقدم من الله أنهم لا يتبعونهم فأرادوا أن يغيِّروا ما تقدَّم في علم الله وقد كان أخبره الله في كتابه بقوله: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ (فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن)﴾ [التوبة: ٨٣] إلى ﴿الخالفين﴾ [التوبة: ٨٣]، فكلام الله هنا: ما أخبر أنهم لن يتبعوا، فأرادوا أن يبدلوا خبر الله ويتبعوه، وكذلك قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أي: أنَّه لا بُدَّ واقع كل ما أخبر به، لا يحيلهُ أحد ولا يغيره.
2162
﴿وَهُوَ السميع﴾ أي: السميع لما يقول العادلون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئِّن جاءتهم آية ليؤمنن بها، وغير ذلك مما يَقولُ خَلْقهُ، ﴿العليم﴾ بما يؤول إليه أمرهم من صدق وإيمان أو كفر.
قوله: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض (يُضِلُّوكَ)﴾ الآية.
والمعنى: أن هذه الآية نزلت في أكل الميتة، قال المشركون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم، فأنزل الله تعالى خطاباً للنبي وأمّته: وإن تطيعوا هؤلاء وأكثر من في الأرض فيما دعوكم إليه من أكل الميتة أو أكل ذبائحهم لآلهتهم وما أهلوا به لغير الله، يضلوكم عن الحق، فإنهم ليس يتبعون في أمرهم إلا الظن، وليس ما يصنعون على يقين من أمرهم، إذ ليس عندهم به كتاب ولا رسول، ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ الكذب، ويقولون ما لا يحب الله، والله (يعذب) الكفار على ظنهم وجهلهم. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ [ص: ٢٧] ثم قال:
﴿ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار﴾ [ص: ٢٧].
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ﴾ الآية.
(مَن) استفهام، وهي في موضع رفع بالابتداء، والمعنى: هو أعلم أي: الناس يضل بمنزلة ﴿أَيُّ الحِزْبَيْنِ﴾ [الكهف: ١٢].
وقيل: موضعها خفض بإِضَّمَارِ الباء.
وقد قيل: هي في موضع نصب، و ﴿أَعْلَمُ﴾ بمعنى: يعلم، وهذا بعيد، لأن بَعدَه ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾، فدخول الباء هنا يدل على أن ﴿أَعْلَمُ﴾ ليس بفعل، إذ لو كان فعلا لم يصل بالباء، لا يقال: " هو يعلم بزيد " بمعنى: " يعلم زيداً ".
فالمعنى: أن الله أعلم بأهل الإضلال عن سبيله، ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ إلى الحق من غيره.
قوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ﴾ الآية.
هذا أمر للنبي وأمته أن يأكلوا مما ذبحوا وذكروا اسم الله عليه. وفي هذا دليل على النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه متعمداً، ثم بَيَّنَ ذلك فقال: ﴿(فَكُلُواْ) مِمَّا ذُكِرَ اسم الله﴾، وقال: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١].
قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ﴾ الآية.
المعنى: وأي شيء لكم في ترك أكل ما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم الحرام من الحلال؟
وقرأ عطية العَوْفي (وَقَدْ فَصَلَ) بالتخفيف، على معنى: (أبان لكم)،
2165
﴿إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ﴾ يريد لحم الميتة للمُضطَّر.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ﴾ من فتح الياء أضاف الضلال إليهم في أنفسهم، وتصديقه قوله ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ﴾ [النحل: ١٢٥، النجم: ٣٠، القلم: ٧] و ﴿قَدْ ضَلُّواْ﴾ [النساء: ١٦٧، المائدة: ٧٧، الأنعام: ١٤٠، الأعراف: ١٤٩] و ﴿هُمُ الضآلون﴾ [آل عمران: ٩٠].
وحجة من ضم أنه أبلغ، لأنَّ كلُّ من أضلَّ غيره فهو ضَالْْ، وليس كل من ضلَّ أضلَّ غَيْرَهُ، فالضم أبلغ في الإخبار عنهم. وحجَّته أيضاً، أنَّهم قد وصفوا قبل بالكفر الذي هو الضَّلال، فلا معنى لوصفهم بذلك، فوجب وَصْفُهم بأنَّهم مع ضلالتهم يُضِلُّون غيرهم. وكذلك الحجة فيما كان مثله مثل ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾ [لقمان: ٦]، الضم أبلغ لأنَّ شراء لهو الحديث ضلال،
2166
(فوصفه بفائدة) أخرى أولى من وصفه بما قد دَلَّ عليه الكلام الاول.
فالإضلال - هنا - أمكن من الضلال. وقد أجمع الجميع / على قوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس﴾ [الأنعام: ١٤٤] أنه بالضم، وعلى ﴿فَأَضَلُّونَا السبيلا﴾ [الأحزاب: ٦٧].
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ (بالمعتدين)﴾ أي: بمَنْ اعتدى حدوده فتجاوزها.
قوله: ﴿وَذَرُواْ ظاهر الإثم (وَبَاطِنَهُ)﴾ الآية.
المعنى: أن الله أمر بأن يترك الإثم، (علانيته وسرّه)، قليله وكثيره.
وقيل: الظاهر هو ما نهى عنه من قوله:
﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٢٢]، والباطن: الزنى، قاله ابن جبير.
وقال السدي: الظاهر: الزواني [اللاتي] في الحوانيت، والباطن: الصديقة تؤتى سراً، (و) قال الضحاك في قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام: ١٥١] قال: كان أهل الجاهلية يستسرّون بالزنى ويرونه سراً حلالاً، فحرّم الله السر والعلانية. وقال ابن زيد: الظاهر: التعري والتجرد في الطواف، والباطن: الزنا، وقال في: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)﴾ [الأنعام: ١٥١]: الظاهر: تعريتهم إذا طافوا، والباطن: الزنا.
قوله: ﴿إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم﴾ أي: يعملون به، سيجزون به.
قوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ الآية.
2168
المعنى: ولا تأكلوا - أيها المؤمنون - مما مات ومما ذبح لغير الله، أو ذبحه (غير) مسلم، أو مما تُعُمِّدَ ترك (ذكر) اسم الله عليه، فإن أكله فسق.
قال ابن عباس: هذا جواب للمشركين حين قالوا للنبي: لا تأكل ما قتل ربك وتأكل ما قتلت. فالمعنى على هذا: إنما هو (النهي) عن أكل الميتة.
ومذهب مالك وأكثر الفقهاء أن المسلم إذا نسي التسمية وذبح، أنه تؤكل ذبيحته.
ومعنى التسمية - عند أكثر المفسرين - في هذه الآية: المِلّة، لأن المجوس لو سموا ذبائحهم لم تؤكل.
2169
وتؤكل ذبائح اليهود والنصارى، لأنهم آمنوا بالتوراة والانجيل. (وكره) مالك ما ذبحوا لِكنائسهم ولم يحرمه.
وقوله: ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾ يعني بذلك شياطين فارس، وهم مَرَدَتُهم من المجوس يوحون إلى أوليائهم من مردة قريش زخرف القول ليجادلوا به المؤمنين. قال عكرمة: كاتب مشركو قريش فارس على الروم، وكتبت فارس إلى مشركي قريش: " إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، (فما ذبحه) (الله) بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه، وما ذبحوا هم يأكلون "، فكتب به المشركون إلى أصحاب محمد، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت: ﴿(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وَإِنَّ الشياطين﴾ الآية.
2170
وقال ابن عباس: إبليس هو الذي يوحي إلى مشركي قريش، (يقول): كيف تعبدون شيئاً لا تأكلون ما قتل.
قوله: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ أي: في أكل الميتة، ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ أي: إنكم مثلهم، وهذا يدل على من حلَّل ما حرَّم الله أنه مشرك. قال الحسن وعكرمة: حُرِمَ أكل ما لم يُذكرْ اسم الله عليه في هذه الآية، واستثنى من ذلك فقال: ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ﴾ [المائدة: ٥].
وقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ أي: لمعصية. وقيل: لكفر.
والهاء تعود على أكل الميتة، أو على أكل ما ذبح للأصنام وشبهه.
قوله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه﴾ الآية.
2171
رَوَى المسيَّبي عن نافع (أومَنْ كان) بإسكان الواو.
والمعنى: أن هذا الكلام جرى على التحذير من طاعة المشركين، والأخذ بطاعة المؤمنين، والمعنى: أطاعة من كان ميتاً فأحييناه، وهو المؤمن كان كافراً فصار مؤمناً، كطاعةِ من مَثَلُه كَمَثل من في الظلمات ليس بخارج منها، يتردَّدُ فيها، وهو الكفر يتردَّدُ فيه الكفار؟، فكان تحقيق ذلك: أطاعة المؤمنين كطاعة الكافر؟.
وهذه الآية نزلت في رجلين مؤمن وكافر: فالمؤمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ، والكافر أبو جهل.
وقيل: المؤمن عمار بن ياسر، والكافر أبو جهل. وقيل: المؤمن حمزة حيي بالإيمان بعد أن كان ميتاً بالكفر، وقيل: هو النبي حيي بالنبوة.
2172
﴿كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات﴾ أي: كمن هو في الظلمات، وهي الكفر، يراد به أبو جهل، ﴿لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ إلى نور الإسلام أبداً.
روي أن أبا جهل رَمَى النبي بفرث - وحمزة عم النبي عليه السلام، لم يؤمن بَعْدُ - فأخبر أبو جهل حمزة بما فعل بالنبي، وبيد حمزة قوس، فَعَلا به أبا جهل غضباً للنبي، فأقبل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول: يا أبا يعلى، أما ترى ما جاء به: سفَّه عقولنا وعقول آبائنا؟. فقال له حمزة رضي الله عنهـ: ومن أسفهُ منكم وأحمقُ حيث تعبدون الحجارة من دون الله؟، أشهد (أن لا) إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فحيي بالإيمان الذي وَفَّقَه الله إليه، وبقي أبو جهل في ظلمات الكفر حتى مات كافراً، وفيهما نزل ﴿أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ﴾ [القصص: ٦١] يعني حمزة، ﴿كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا﴾ [القصص: ٦١] يريد أبا جهل.
2173
ومعنى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً﴾ قال ابن عباس: يعني بالنور القرآن يَهتدِي به وقال ابن زيد: (نوراً) هو " الإسلام الذي هداه الله إليه ".
قوله: ﴿وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا﴾.
المعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا في كل قرية عظماء مجرميها، يعني أهل الكفر والمعصية ﴿لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾، ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ﴾ أي: ما يحيق مكرهم ذلك إلا بأنفسهم، لأن الله من وراء عقوبتهم على ما يمكرون. والأكابر: العظماء، جمع أكبر.
وذكر ابن قتيبة أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير عنده: وكذلك " (جعلنا) في (كل) قرية مجرميها (أكابر) ". فَنَصَب (مُجْرمِيها بـ (جَعَلْنَا) و (أكَابِرَ) مفعول ثان ل " جَعَلَ "، كأن جعل عنده بمعنى " صَيَّرَ "، يتعدى الى
مفعولين.
وحُكِيَ عن العرب " الأكابرة " بالهاء.
وقوله تعالى: ﴿لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾ هو مِثْل ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً﴾ [القصص: ٨]، لما كان عاقبة أمرهم فيما تقدم من علمه تؤول إلى ذلك، صار كأنهم جُعِلُوا في كل قرية ليمكروا.
قوله: ﴿وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ﴾ الآية.
المعنى: وإذا جاءت هؤلاء المشركين آية، (أي علامة)، تدل على نبوتك - يا محمد - وصدق ما جئت به، ﴿قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ﴾ بما جئتنا به، ﴿حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله﴾ أي: حتى نؤتى من المعجزات مثل ما أوتي موسى وعيسى، ثم قال تعالى: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ أي: إن الآيات لم يعطها الله من البشر إلا (رسولاً)، ولستم - أيها العادلون - بِرُسلٍ فَيُعْطيَكم الآيِات، بل هو أعلم من هو أولى بها. /
وقيل: المعنى: الله يعلم من يصلح لنبوته ويختص بالرسالة، كما قال: ﴿وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين﴾ [الدخان: ٣٢].
(ثم قال): ﴿سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ﴾ أي: ذلة، أي: هم وإن كانوا أكابر، فَستُصِيبهُم ذلَّة عند الله، ومعنى ﴿صَغَارٌ عِندَ الله﴾ أي: عند الله صغار. وقيل: المعنى: صغار ثابت عند الله. وقال الفرَّاء: المعنى: صغار من عند الله.
والصغار: المصدر من قول القائل: " صَغَرَ صغاراً ".
قوله: ﴿فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام﴾ الآية.
من قرأ (ضَيْقاً) بالتخفيف، فيحتمل أن يكون مخففاً " ضَيقِ "، مثل (" ميْت، "
2176
وميّت ")، ويحتمل أنْ مصدر " ضاقَ ضَيْقاً ".
ومن قرأ (حَرِجاً) بالكسر، فهو اسم الفاعل ل " حَرِجَ يَحَرجُ، فهو حَرِجٌ "، ومن فتحه جعله مصدرا ل " حَرِجَ حَرَجاً ".
ومعنى الكسر: ضَيقاً (ضيّقاً)، وهو الذي قد ضاق فلم يجد منفذاً إلا أن يصعد في السماء، وليس يقدر على ذلك. ومن فتح جعله صفة ل (ضيقاً)، كما يقال: " رجلٌ عدْلٌ " و " رضىً "، فكأنه يجعل صدره شديد الضيق.
ومعنى الآية: من يرد الله أن يهديه للإيمان، ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ﴾ أي: يفسحه ويهون
2177
عليه ويُسَهّله.
قال النبي عليه السلام - وقد سُئِلَ عن هذه الآية: " إذا دخل النور القلب، انفسح وانشرح، قالوا: هل لذلك من علامة تعرف؟. قال نعم، الإنابة إلى دار الخلود، و (التجافي عن) دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ".
وقال ابن جريج: " ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام﴾ بلا إله إلا الله ".
﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ﴾ أي: إضلاله عن سبيله، ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً﴾ بخذلانه إياه، وغَلَبةِ الكفر عليه.
والحرج: أشدُّ الضيق، وهو الذي لا ينفذه من شدَّةِ ضيقه شيءٌ "، وهو - هنا - الصدر الذي لا تصل إليهُ موعظة، ولا يدخله نور الإيمان، وأصل (حرجاً)
2178
أنه جمع " حَرَجَة " وهي الشجرة الملتف بها الأشجار، لا يدخل بينها وبينها شيء من شدة التفافها.
وسأل عُمَرُ رجلاً من العرب فقال له: ما الحرجة فيكم؟ فقال: الحرجة فينا: الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشيّة ولا شيء، فقال عمر: وكذلك قلب المنافق لا يصل اليه شيء من الخير.
وقال مجاهد: معنى ﴿ضَيِّقاً حَرَجاً﴾: شاكاً. وقال قتادة: ملتبساً وقال ابن جبير: لا يجد الإيمان إليه منفذاً ولا مسلكاً.
وهذه الآية (من) أدل دليل على أن قدرة الطاعة غير قدرة المعصية، وأن كلا القدرتين من عند الله تعالى، لأنه أخبر أنه يشرح صدر من أراد (هدايته، ويضيق صدر من أراد) دَفْعَهُ عن الإيمان، فَتَضْيِيقُه للصدر منع الإيمان، ولو كان
2179
يوصل إلى الإيمان مع تضييق الصدر عنه، لم يكن بين تضييقه وشرحه فرق.
وقوله: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء﴾: هذا مثل ضربه الله لصدر الكافر في شدة ضيق صدره عن قبول الإسلام ونفوره عنه، فهو بمنزلة من تكلَّف ما لا يُطِيْقُهُ، كما أن من تكَلَّف صعود السماء تكلَّفَ ما لا يُطَاق.
ومعنى التشديد - على قراءة من شدد: أنه أتى به على " يَتَفَعَّل " ثم أدغم كأنه يتكلف شيئاً بعد شيء، وكُلُّهُ لا يطيقه.
ومن قرأ (يَصّاعد) أراد " يتصاعد "، ثم أدغم، ومعناه: كأنه يتعاطى ما لا يقدر عليه، لأن الله قد خذله عن أن يقبل الإيمان، وضيّق صدره عن قبوله.
2180
وتحقيق معنى ﴿ضَيِّقاً حَرَجاً﴾ - فيمن كسر -: ضيّقا جداً، كقولك: " مريض دَنِفٌ ". ومن فتح فمعناه: ضيقاً ذا حرج، كقولك: " رجل عدلٌ "، أي: ذو عدلٍ.
(والرّجْسُ) هنا: " ما لا خير فيه "، قاله مجاهد.
وقال ابن زيد: " الرجس: عذاب الله ".
وقال بعض البصريين: الرِّجزُ والرّجسُ: العذاب والرّجس (و) النجسُ: الشيء القذر. وقيل: " الرجس: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ".
قوله: ﴿وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً﴾ الآيتان.
المعنى: وهذا الذي بيَّنّا لك في هذه السورة وغيرها، ﴿صِرَاطُ رَبِّكَ﴾ أي:
طريق ربك، ودينه الذي جعله مستقيماً، ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات﴾ أي: بيّناها لقومٍ يذكرون.
(و) قال ابن عباس: " يعني به الإسلام ".
وقوله: ﴿لَهُمْ دَارُ السلام﴾ أي: للقوم الذين يذّكّرون دار السلام، والسلام: اسم من أسماء الله.
فالله هو السلام، والدار: الجنة. وقيل: المعنى: دار السلامة أي: الدار التي يُسلِّم فيها من الآفات.
﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾ أي: والله ناصرهم بعملهم، أي: جزاء بعملهم.
﴿مُسْتَقِيماً﴾ تمام.
قوله: ﴿وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يامعشر الجن﴾ الآية.
﴿جَمِيعاً﴾ نصب على الحال. والمعنى: واذكر يوم نحشر هؤلاء العادلين (و)
2182
أولياءَهُم من الشياطين، ﴿يامعشر الجن﴾ أي: يقول لهم: يا معشر الجن، ومعنى ﴿قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس﴾ أي: قد استكثرتم من إضلال الإنس.
﴿وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم﴾ أي: أولياء الشياطين من الإنس، ﴿رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ ومعنى الاستمتاع هنا: (أن) الرجل كان في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: " أعود بكبير هذا الوادي "، فهذا استمتاع الإنس. وأما استمتاع الجن فهو تشريف الإنس لهم واستعاذتهم بهم واعتقادهم أن الجن يقدرون على ذلك.
وقيل: معنى الاستمتاع: أن الجن أَغْوَتِ الإنس، وقَبِلت الإنس منها.
وقيل: المعنى: أن الإنس تلذذوا بقبولهم من الجن، (وأن الجن) تلذذوا
2183
بطاعة الإنس لهم.
وقالوا: ﴿وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ وهو الموت. (قَالَ) الله: ﴿النار مثواكم﴾ أي: مقامكم بها خالدين.
وقوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ استثناءٌ ليس من الأول، والمعنى: إلا ما شاء الله من الزيادة في عذابكم. وسيبويه يمثل هذا بمعنى " لكنَّ ". والفراء يمثّله بمعنى: " سوى ".
ومثله في " هود ": ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ أي: ما شاء من الزيادة، وقال الزجاج: معنى الاستثناء هنا إنِّما هو: إلاّ ما شاء رَبُّك من محشرهم ومحاسبتهم. وقال
2184
الطبري: المعنى فيه أنه استثنى مدة محشرهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم، فتلك المدة التي استثنى الله تعالى من خُلُودِهِمِ في النَّار. (و) قال ابن عباس: جعل الله أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إلى مشيئته، وروي عنه أنه قال: هذه آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، لا ينزلهم جنةٌ ولا ناراً. وقال: هذا الاستثناء لأهل الايمان.
﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ﴾ العليم: هو العالم الذي كمل فيه علمه، والحكيم: / الذي قد أكمل في حكمته، ويكون " الحكيم ": الحاكم، أو بمعنى الحكم.
قوله: ﴿وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً﴾ الآية.
المعنى: وكما فعلنا بهؤلاء ما ذكرنا، نجعل بعضهم لبعض ولياً على الكفر
بالله، استدراجاً لهم وجزاء على مخالفتهم أمر الله، وما اجترحوا من المعاصي.
قال مجاهد: يجعل بعضهم ولياً لبعض. وقال قتادة: المؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أين كان وحيث كان.
وقيل: المعنى: يتبع بعضهم بعضاً في النار. قال ابن زيد: المعنى: يسلط ظَلَمَةِ الجن على ظَلَمَةَ الإنس. وقيل: المعنى: يجعل ظَلَمَةَ الجن أولياء لَظَلَمَةِ الإنس جزاء بما كانوا يكسبون، وهذا كقوله: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦] إلى ﴿فَبِئْسَ القرين﴾ [الزخرف: ٣٨].
قوله: ﴿يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ﴾ (الآية).
معنى الآية: أنها خبر من الله ما هو قائل لهم يوم القيامة، ومعنى:
2186
﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ أي: يخبرونكم بحجتي وأدلتي على توحيدي، ﴿وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾ أي: يحذرونكم لقاء عذاب يومكم هذا، وهذا تقريع يكون لهم يوم القيامة على ما سلف منهم.
قال الضحاك: أرسل الله إلى الجن رسلاً منهم بدلالة هذه الآية ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾.
وقيل: معناه: أَنَّ (مِنْكُمْ) للإنس خاصة، والرسل من الإنس لا غير، وهذا كقوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢]، واللؤلؤ إنّما يخرج من الملح دون العذب.
وتأول ابن عباس أن رسلُ الإنس رسلٌ من الله، ورسل الجن رسلٌ (رسلِ) الله منهم، وهم النذر، وهم الذين سمعوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم منذرين. فهذا قول حسن.
2187
وقيل: إنه لما كانت الإنس والجن تخاطب وتعقل، قيل: ﴿رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾ وإن كان من أحد النوعين، ومعنى (مِنْكُمْ): أي: منكم في الخلق والتكليف والمخاطبة.
(و) قرأ الأعرج ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ بالتاء، على تأنيث المخاطبة.
وقوله: ﴿قَالُواْ شَهِدْنَا﴾ أخبر الله عنهم بما يقولون يوم القيامة إذا قيل لهم ذلك، ومعنى الشهادة: أنهم شهدوا أن الرسل قد أتتهم بآياته وأنذرتهم عذابه، ولم يؤمنوا، ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ أي: غرتهم زينتها فلم يؤمنوا، ﴿وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ﴾ (بالكفر).
قوله: ﴿ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ (مُهْلِكَ) القرى (بِظُلْمٍ)﴾ إلى ﴿(يَعْمَلُونَ)﴾ [الآيتان].
﴿ذلك﴾ في موضع رفع على معنى: الأمر ذلك، هذا مذهب سيبويه. وهو
2188
عند الفراء في موضع نصب، (المعنى: فعل) ذلك.
والمعنى: لم يكن ربك - يا محمد - مهلك القرى بشرك من أشرك وأهل القرى غافلون عن شرك من أشرك، فمعنى ﴿بِظُلْمٍ﴾: بشرك قوم آخرين فيهم، وهذا مِثْلُ: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [فاطر: ١٨].
وقيل: المعنى: لم يكن الله يعاجل قوماً بالعقوبة قبل أن يرسل إليهم الرسل، ولم يكن بالذي يأخذهم غفلة، [فيقولوا]: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيظلمهم.
وقوله: ﴿وَلِكُلٍّ درجات مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ أي: ولكل عامل - في طاعة أو معصية - منازل ومراتب يبلغه الله إياها، إن خيراً فخيراً وإن شراً (فشراً) وليس الله بغافلٍ عما يعملون.
2189
وروي عن النبي أنه قال: " الدَّرجةٌ في الجنَّةِ فوقَ الدرجةِ كما بين السماءِ والأرض، وَإِنَّ العَبْدَ - من أهلِ الجنةِ - لَيَرْفَعُ بصرَهُ فَيَلْمَع له برقٌ يكاد يَخطَف بصرَهُ، فيقول: ما هَذا؟ فيقال له: هذا نورُ أخيكَ فلان. فيقول: أخي فلان!، كنا في الدُّنيا نعمَلُ جميعاً، وقد فُضِّلَ عَليَّ هَكذا! فيُقالُ: إِنَّهُ أفضلُ منكَ عملاً. ثم يُجْعَلُ في قلبِه الرِضى فَيَرْضى بمنزلتِهِ ".
قوله: ﴿وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة﴾ الآية.
المعنى: وربك - يا محمد - الغني عن عبادة من أَمَرَهُ بالعبادة، وطاعة من أمره بالطاعة؛ وهم المحتاجون إليه، لأن بيده موتهم وحياتهم ورحمتهم وعقابهم.
وقوله: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ معناه: إن يشأ الذي خلَق خلْقَه لغير حاجة منه إليهم، يذهبهم، أي: يهلكهم، ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ﴾ (أي) يأتي بخلقٍ غيرهم. ﴿كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾: أي: أنشأكم مكان خَلَقٍ آخرين، لم يرد أنهم من أصلاب قوم آخرين، انما المعنى: مكانهم. كما تقول: " أعطيتك من دينارك
ثوباً "، بمعنى: مكان الدينار ثوباً، وليبس معناه: أن الثوب بعض الدينار.
وقرأ زيد بن ثابت (ذِرِيّةِ) بالكسر، وقرأ أبان بن عثمان (ذَريَّة) بفتح الذال وتخفيف الراء.
قوله: ﴿(إِنَّ مَا) تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ الآية.
المعنى: أن الذي توعدون به - أيها المشركون - آت، أي: واقِعٌ بكم، ﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ أي: ليس تعجزون ربكم هرباً، (أنتم) في قبضته.
قوله: ﴿قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ الآية.
المعنى: قل لهم يا محمد: اعملوا على مكانتكم: أي: على حيالكم وناحيتكم.
2191
وقال القتبي: " على موضعكم ".
وتحقيق معناه: اعملوا على ما أنتم عليه، كما تقول للرجل: " اثبت مكانك "، أي: اثبت على ما أنت عليه.
وفي الكلام تهديد، فلذلك جاز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه، وهو الكفر، إنّما هو توعد وتهديد، كما قال: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً﴾ [التوبة: ٨٢]، ودل على ذلك قوله: ﴿(فَسَوْفَ) تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار﴾، فالمعنى: اثبتوا على ما أنتم عليه إن رضيتم بالنار، فأنا عامل بما أمرني به ربي، فسوف تعلمون غداً من هو على الحق، وتكون له العاقبة الحسنة، ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾.
وقوله: ﴿مَن تَكُونُ﴾: (مَنْ) في موضع رفع على أنه استفهام، وفعل " العلم "
2192
معلق، والجملة في موضع المفعولين. ويجوز أن تكون (مَنْ) في موضع نصب، وهي بمعنى: " الذي "، ويكون ﴿تَعْلَمُونَ﴾ بمعنى: " تعرفون "، (و) يتعدى إلى مفعول واحد.
قوله: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث (والأنعام نَصِيباً)﴾ الآية.
المعنى: أنه حكاية عما كان يعمل أهل الجاهلية:
كانوا يجعلون لله نصيباً من حرثهم وأنعامهم، ولآلهتهم وشياطينهم (نصيباً، وهو) شركاؤهم من الأوثان والشياطين: قال ابن عباس: كانوا يجعلون الطعام حُزَماً، يجعلون منها لله، ومنها لآلهتهم، فكان إذا هبت الريح من نحو الذي
2193
جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم /، وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، لم يردوه، فذلك قوله: ﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أي: ساء الحكم في حكمهم، قال: وكذلك جعلوا من ثمرهم نصيباً لله، ونصيباً للشياطين ولأوثانهم، فإن سقط من نصيب الله شيء في نصيب الأوثان تركوه، وإن سقط من نصيب الأوثان (شيء في نصيب الله) ردوه في نصيب الأوثان، وإن انفجر من سِقْيِ ما جعلوه لله في نصيب الشيطان والأوثان تركوه، وإن انفجر من سِقْي ما للأوثان في نصيب الله رَدُّوه (وسَدُّوهُ)، فهذا ما جعلوا من الحرث، وأما الأنعام: فهو جعلهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وقد ذكر ذلك في " المائدة ".
وقال السدي: كانوا يزرعون زرعاً يجعلونه لله يتصدقون به، ويزرعون آخر يجعلونه لآلهتهم وينفقونه عليها، فاذا أَجْدَبَ ما لآلهتهم، أخذوا ما كان لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أَجْدَب ما كان لله، لم يأخذوا مما لآلهتهم شيئاً،
2194
(و) يقولون: " لَوْ شَاءَ اللهُ لَزَكَّى الذي لَهُ ".
وقال ابن زيد: كل شيء جعلوه لله من ذبح لا يأكلونه حتى يذكروا عليه اسم الآلهة، وما كان من ذبح للآلهة لا يذكرون عليه اسم الله.
وفي الكلام حَذْفٌ، والمعنى: " من الحرث والأنعام نصيباً، وجعلوا لأصنامهم نصيباً "، ودل على ذلك قوله: ﴿وهذا لِشُرَكَآئِنَا﴾.
والفتح في " الزعم " لغة أهل الحجاز، والضم: لغة بني أسد، والكسر: لغة تميم وقيس، وقد أنكر أبو حاتم الكسر، وحكاه الكسائي والفراء.
قوله: ﴿وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَآؤُهُمْ﴾ الآية.
روي عن ابن عامر (زُيِّنَ) بالضم، (قَتْلُ) بالرفع: اسم ما لم يسم فاعله، (أوْلادِهِم) بالخفض على الإضافة، (شركاؤُهم) بالرفع على إضمار فعل دل عليه
2195
(زُيِّنَ)، كأنه قيل: زَيَّنَهُ شركاؤهم، وحكى النحويون أنه يجوز: " ضُرِبَ زَيْدٌ عَمْرُو "، كأنه قيل: " ضَرَبَهُ عَمْرُو "، كما قال (الشاعر):
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارعٌ لخُصومةٍ.... كأنه قال: يبكيه ضارع.
وروى أبو عبيد عن ابن عامر (زُيّنَ) بالضم مثل الأول، (قَتْلُ) بالرفع، (أولادَهم) بالنصب، (شركائِهم) بالخفض على التفريق بين المضاف والمضاف اليه، وهو بعيد في الكلام، وبذلك قرأنا لابن عامر، وهي رواية الشاميين عنه، وإنما يجوز في (الظرف وحروف) الخفض. وقد روي بيت يجوز ذلك فيه وهو:
2196
فَزَجَجْتُها مُتَمَكّناً زَجَّ القَلوصَ أبي مَزادَه وهو بعيد.... وقد روي عن ابن عامر أيضاً مثل القراءة الأولى، إلا أنه خفض الشركاء مع خفض " الأولاد "، فهذا يجوز على أن تبدل " الشركاء " من " الأولاد "، لأن الأولاد شركاؤهم في النسب والميراث.
وأما قراءة الجماعة بفتح الزاي، ونصب (قَتْلَ)، وخفض " الأولاد "، ورفع " الشركاء " فهو ظاهر الكلام ووجهه.
2197
ومعنى الآية: (و) كما زين لهؤلاء أن جعلوا لله نصيباً، ولآلهتهم نصيباً، فحكموا فيه بما لا يجب، كذلك زين لكثير من المشركين قتلهم: أن قتلوا أولادهم خيفة العَيْلَةٍ، وهو وَأد البنات ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ أي: ليهلكوهم، / ﴿وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ﴾ أي: فعلوا ذلك (بهم) ليخلطوا عليهم دينهم) فيضلوا، ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ﴾: أي: لوفقهم إلى الصواب، ولكن خذلهم فقتلوا أولادهم وأطاعوا الشياطين. ولم يضطرهم إلى ذلك، إنما خَذَلَهُم وحَالَ بينهم وبين التوفيق.
قوله: ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ هذا تهدد وتوعد من الله لهم، أي: ذرهم - يا محمد - وما يكذبون، فإني لهم بالمرصاد.
2198
قوله: ﴿وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ الآية.
قرأ أبان بن عثمان (حُجُر) بالضم (للحاء والجيم). وقرأ قتادة والحسن (حُجْر) بضم الحاء وإسكان الجيم. وهي لغات في (حِجْر).
والحِجْرُ: الحرام، يقال: حُجُرٌ وحُجْرٌ وحِجْرٌ، وفيها لغة أخرى وهي " حِرْجٌ " بتقديم الراء، مثل: " جَبَذَ " و " جذب ".
وقيل: معنى " حِرْج ": ضيق، من قولهم: " فلان يتحرَّج " أي: يُضَيِّق على نفسه.
وعن ابن عباس: (وحَرْثٌ حِرْجٌ الراء قبل الجيم، وكذا في مصحف
2199
أبُيّ، ومعناه ما ذكرنا.
ومعنى الآية: أن الله حكى عن المشركين أنهم يحرمون ويحللون من عند أنفسهم تَخرُّقاً منهم وتَقُّولاً بما لم ينزل الله ولا أمر به، و " الحرث " - هنا - (هو) ما ذكر في الآية الأولى من جعلهم لله ثم يردونه إلى آلهتهم، و (الانعام: قيل) إنهم كانوا يجعلون لله أنعاماً، فإذا ولدت الأنثى أكلوه، ويجعلون لآلهتهم أنعاماً، فإذا ولدت الأنثى عظموه، ويأكلون الميتة مما لله. وقيل: الأنعام هنا (هي) البحيرة وما بعدها مما ذكر في " المائدة ".
والحجر: الحرام، ومنه: ﴿وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً﴾ [الفرقان: ٢٢] أي: حراماً محرماً.
2200
﴿وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ هو الحامي: وقيل: هي البحيرة كانوا لا يحجون عليها. والحامي: البعير الذي يحمى ظهره، وهو الذي قد ألقح ولد ولده، فلا يركب ولا يجز (له وبر)، ولا يمنع من مرعى، وأي إبل ضرب فيها لم (يمنع منها).
والبحيرة: هي التي يبحر أذنها، أي: يشق، ويحرم لحمها على الرجال والنساء. وقيل: البحيرة: ابنة السائبة. والسائبة: الناقة كانت إذا نتجت سبعة أبطن سيبت فلم تركب ولم يجز لها وَبَرٌ، وبحرت أذن ابنتها وأجريت مجراها. وقد ذكر هذا في " المائدة " بأشبع من هذا.
وقوله: ﴿وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا﴾: هو ما ذبحوه لآلهتهم، لا يذكرون اسم الله [عليه]. وقوله: ﴿إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ﴾ كانوا يذبحون أشياء لا يأكلها إلا خدمة
2201
الأصنام. وقيل: كانت البحيرة لا تركب ولا يحمل عليها شيء ذكر عليه اسم الله.
﴿افترآء عَلَيْهِ﴾ أي: كذباً على الله، سيجزيهم بكذبهم.
وقد روي عن الدوري عن الكسائي (افتراء) بالإمالة، والفتح أشهر، وكذلك ذكر أبو الحارث عن الكسائي، (قال الكسائي) لأنه مصدر لا أميله.
قوله: ﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام﴾ الآية.
قوله: ﴿خَالِصَةٌ﴾: أُنّثت (ما) لتأنيث (الأنْعَامِ)، لأن ما في بطونها
2202
ملتبس بها، كما قال:
قُل لِمَنْ ساد ثمَّ ساد أَبوهُ ثُمَّ قَدْ سادَ بَعْدَ ذَلَكَ جَدُّه
(مشين كما اهتزّت رماح) تَسَفّهَتْ أعاليها مَرُّ الرِيّاح النواسم
فأنِّث، لأن المَرُّ من الرياح، هذا قول الفراء. وقال الكسائي والأخفش: دخل التأنيث للمبالغة. وقيل: " التأنيث على معنى (ما)، / والتذكير على اللفظ "، كذا قرأ ابن عباس (خَالِصُهُ) بالتذكير، والمعنى: ما خلص منه حياً لذكورنا.
﴿وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا﴾ يعني الإناث ".
وقرأ الأعمش (خَالصٌ) بغير هاء، على التذكير على اللفظ، ولأن بعده
2203
﴿وَمُحَرَّمٌ﴾.
وهذه الآية - في قراءة الجماعة - أتت على خلاف نظائرها في القرآن، لأن ما يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة، إنما يتقدم أولاً الحمل على اللفظ ثم يليه الحمل على المعنى، نحو: ﴿مَنْ آمَنَ بالله﴾ [البقرة: ٦٢] ثم قال: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ [البقرة: ٦٢]، ونحو ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ [الرعد: ١٥] ثم قال: ﴿وَظِلالُهُم﴾ [الرعد: ١٥]، وهو كثير، هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب، يتقدم الحمل على اللفظ، ثم يحمل بعد ذلك على المعنى. وهذه الآية تقدم الحمل (فيها) على المعنى فقال: (خالِصَة)، ثم حمل بعد ذلك على اللفظ فقال ﴿وَمُحَرَّمٌ﴾. ومثله قوله: ﴿كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾ [الإسراء: ٣٨]، فقال أولاً (سَيئةً) فأنث وحمل على معنى (كل)، لأنها اسم لجميع ما تقدم مما نهى عنه من الخطايا، ثم قال بعد ذلك (مَكْروهاً)، فذكّر على لفظ (كل)، وهذا إنما هو على قراءة نافع ومن تابعه.
2204
وكذلك ﴿مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ﴾ [الزخرف: ١٢ - ١٣]، فجمع " الظهور " حملاً على معنى (ما)، ووحّد الهاء حملاً على لفظ (ما). وحكي عن العرب: " ليت هذا الجراد قد ذهب فأراحنا (من) أَنْفُسِهِ "، فجمع " الأنفس " ووحّدُ الهاء وذكّرَها.
ومن قرأ (يَكُن) بالياء، رده على لفظ (ما)، وردّه أيضاً على ما بعده، لأن بعده (فَهُمْ فيه)، ولم يقل: " فيها "، والمعنى: (وإن) يكن ما في بطونها ميتةً.
ومن رفع (مَيْتَةٌ) جعل " كان " بمعنى " وقع "، وقال الأخفش: التقدير: " وإن تكن في بطونها ميتةٌ "، جعل الخبر محذوفاً.
2205
ومن قرأ بالتاء، أنّث على معنى (ما). وقيل: التقدير: " وإن تكن النّسمة ميتةً ".
و (هي لما) في بطون الأنعام التي يسمونها الوصيلة، وهي الشاة: كانت إذا ولدت ستة أبطن: عناقَيْن (عناقيْن)، وولدت في السابع عناقاً وجدياً، قالوا: وصلت أخاها، فكان لبنها حلالاً للرجال حراماً للنساء، فإن ماتت أحل لحمها للرجال والنساء، فعابهم (الله) بهذه الأحكام التي لم يؤمروا بها.
ومعنى الآية - في قول ابن عباس - أن الذي ذكروه مما في بطون الأنعام: هو اللبن، جعلوه حلالاً للذكور، (وحراماً على الإناث.
قال قتادة: هو ألبان البحائر، حلّلوه للذكور)، وحرموه على الإناث، وإنْ يَكن ميتة اشترك فيه الذكور
2206
والإناث. قال ابن عباس: كانت الشاة اذا ولدت ذكراً وذبحوه، أكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، (وإن) كانت ميتة فهم فيه شركاء. قال السدي وغيره: عنى بذلك ما في بطون الأنعام من الحمل، إن ولد حياً، فهو للرجال دون النساء، وإن ولد ميتاً أكله الرجال والنساء.
والأزواج هنا: نساؤهم. وقال ابن زيد: الأزواج هنا: بناتهم. ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ أي: سيكافئهم وصفهم، أي: على وصفهم، وهو قولهم الكذب، قال قتادة: وصفهم: كذبهم، أي: يجزيهم عليه.
قوله: ﴿قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أولادهم﴾ / الآية.
المعنى: قد هلك الذين قتلوا أولادهم وحرموا ما رزقهم الله، وهم الذين تقدم ذكرهم، وقوله ﴿سَفَهاً﴾ أي: جهلاً منهم، افتراء عليه، أي: كذباً عليه وتخرصاً، ﴿قَدْ ضَلُّواْ﴾ أي: تركوا الحق في فعلهم، ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ أي: لم يهتدوا إلى الحق في
فعلهم ذلك، ولا وقفوا له.
قال قتادة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر، كانوا يقتلون بناتهم خوف السباء والفاقة، ونسبوا البنات إلى الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقوله: ﴿وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله﴾: هو تحريمهم أكل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي أَنشَأَ جنات معروشات﴾ الآية.
هذه الآية إعلام من الله وتذكير لعباده بنعمه، ومعنى ﴿أَنشَأَ﴾ أحدث وابتدع، الجنات وهي البساتين، والمعروشات: ما عُرِشَ كهيئة الكرم ﴿وَغَيْرَ معروشات﴾: ما لم يُعرَش.
وقيل: المعروشات: ما غرس الناس، وغير معروشات: ما نبت في البر والجبال من غير غرس (الناس) له من الثمرات. وقيل: معروشات:
2208
" عليها حيطان ".
﴿والنخل والزرع﴾ أي: وأنشأ ذلك. ﴿مُخْتَلِفاً﴾ أي: مقدراً فيه الاختلاف ولم ينشأ في أول مرة مختلف، وهذا كما تقول: " لَتَدْخُلَنَّ الدَّارَ آكلِينَ شَارِبينَ "، أي: مقدرين ذلك.
والمعنى: " مختلفاً ما يخرج منه مما يؤكل ". ﴿والزيتون والرمان﴾ أي: وأنشأ الزيتون والرمان ﴿متشابها﴾ ((أي)) في اللون والمنظر، ﴿وَغَيْرَ متشابه﴾ ((أي)) في الطعم. وقيل: المعنى: أن منه ما يشبه بعضه بعضاً في الطعم، ومنه ما لا يشبه بعضه بعضاً في الطعم والمنظر. ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ﴾ أي: من رُطَبِهِ
2209
(وعنبه).
قوله: ﴿حَصَادِهِ﴾: بالفتح تميمية، وبالكسر حجازية.
وقوله: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾: قال سعيد بن جبير: هذا منسوخ بالزكاة، وهو قول عكرمة، وبه يقول الطبري.
و" قال الضحاك: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ".
وقال ابن عباس: هو منسوخ بالسنة، بقول النبي: العشر ونصف العشر،
2210
وهو قول السدي وابن الحنيفة والنخعي؟.
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: " هو ما يسقط من السنبل " والآية - على هذا - نَدْبٌ.
وقال أنس بن مالك: هي محكمة، والمراد بها الزكاة المفروضة، وهو قول الحسن وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم، وهو مروي عن مالك.
واختلف فيه أصحاب الشافعي: فمنهم من تأول عنها أنَّها منسوخة، لأنه ليس في الرمان ولا في شيء من الثمار زكاة إلا في النخل والكرم. ومنهم من قال: هي محكمة على تأويل مذهبه.
2211
وقال سفيان: الآية في شيء آخر سوى الزكاة، وهو أن [يدع] المساكين لما يسقط من الحصادين، (وهي) محكمة. و (قد) قيل: إنَّها على الندب.
وقد عورض من قال: إنَّها في الزكاة المفروضة، بأنَّ هذه الآية مكية والسورة كذلك، ولم يختلف العلماء أنَّ الزكاة إنما فرضت بالمدينة، ولو كانت الزكاة المفروضة لوجب أن تعطى وقت الحصاد على نص الآية وقد جاءت السُّنَة أنَّ الزكاة لا تعطى إلا بعد الكيل.
وفي / الآية: ﴿وَلاَ تسرفوا﴾ فلا يجوز أَنْ يكون هذا في الزكاة، لأَنَّها معلومة محدودة، ويجب أَنْ تكون الزكاة في كل الثمر ولو كانت في الزكاة المفروضة، وهذا لا يقوله أحد، وقد قال أبو حنيفة: إن في كل ما أخرجت الأرض الزكاة إلا الحطب
2212
والحشيش والقَصَبِ.
فخص الآية ولم يجرها على عمومها، وتفرد بذلك.
وروي أن قوله ﴿وَلاَ تسرفوا﴾ نزل في ثابت بن قيس لما صرم نخله خلى بين الناس وبينه كله فلم يبق لأهله شيئاً منه، فنزل ﴿وَلاَ تسرفوا﴾، أي: في العطاء فتبقوا لا شيء لكم.
ولم يختلف العلماء أن في أربعة أشياء الزكاة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب.
وجماعة منهم على أنه لا تجب الزكاة إلا في هذه الأربعة، وهو قول الحسن والشعبي والثوري وابن المبارك وابن أبي ليلى والحسن بن
2213
صالح وابن سيرين ويحيى بن آدم وغيرهم.
وزاد ابن عباس على هذه الأربعة: الزيتون (والسلت.
وزاد الزهري على هذه الأربعة: الزيتون) والحبوب كلها. وهو قول عطاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول ومالك والأوزاعي والليث، وهو قول
2214
الشافعي بالعراق، ثم رجع بمصر. عن الزيتون فلم ير فيه زكاة، قال: لأنه أُدُمٌ وليس يُؤْكَلُ بنفسه.
وهذا كله يدل على أَنَّ الآية منسوخة، إذ ليس أحد منهم أوجب ظاهر نص الآية. ومن قال: إنَّها محكمة وإنَّها في شيء غير الزكاة، احتج بحديث رواه الخدري عن النبي عليه السلام أنه فسره فقال: " ما سقط عن السنبل " وهذا الحديث، لو صح لكان منسوخاً بالإجماع، لأنه قد أجمع على أنه لا فرض في المال سوى الزكاة.
فأما من قال بالندب فهو جائز، إلا أن قائله غير معروف. ومعنى
2215
﴿وَلاَ تسرفوا﴾ - عند ابن المسيب -: لا تمتنعوا من الزكاة المفروضة.
وقال أبو العالية: كانوا يعطون حتى يجحفون في الإعطاء، فأنزل الله ﴿وَلاَ تسرفوا﴾، وهذا قبل فرض الزكاة. قال السدي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء.
قال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس جَدَّ نخلاً (له)، فحلف ألا يأتيه أحد إلا أعطاه، فأمسى ليست له ثمرة فأنزل الله ﴿وَلاَ تسرفوا﴾.
وقال مجاهد: ((و) لا تُسْرِفوا): لا تحرموا ما حرمت الجاهلية من الحرث والأنعام.
2216
وقال ابن زيد: هذا للسعاة، أي: لا تأخذوا للولاة ما لا يجب على الناس.
قال أصبغ بن الفرج: (و) لا تُسْرِفوا) (أي) لا تأخذوه بغير حقه ولا تضعوه في غير حقه.
قوله: ﴿وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً﴾ (الآية).
﴿حَمُولَةً﴾ منصوبة بـ (أَنْشأَ)، أي: وأنشأ من الأنعام حمولةً وفرشاً مع ما أنشأ من الجنات.
والحمولة: ما حمل عليه من الإبل، والفرش: الصغار التي لم يحمل عليها بعد، وقيل: الحمولة: الإبل والبقر التي يحمل عليها.
2217
وقيل: هي ما حمل عليه من الإبل والخيل والبغال وغير ذلك، والفرش: ما لم يحمل عليه من الصغار، وقيل: الفرش الغنم قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وقال السدي: الفرش: الفصلان والعجاجيل والغنم، وما حمل عليه فهو " حمولة ". قال ابن زيد: " الحمولة ": ما تركبون، والفرش: ما تأكلون وتحلبون ".
وقيل: الحمولة المُذَلَّلَة للحمل، والفرش: ما / خلقه الله من الجلود والصوف مما يُتَمَهَّدُ عليه ويُتَوَطَّأُ به.
ومما يدل على أَنَّها الإبل والبقر والغنم قوله: ﴿ثمانية أزواج﴾ [الأنعام: ١٤٣] بعده، فجعل: ﴿ثمانية﴾ بدلاً من ﴿حَمُولَةً﴾، ثم فسرها بالإبل والبقر والغنم. فلا معنى للصوف
2218
والجلود في قوله: ﴿كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ الآية: هذا (أمر للمؤمنين)، معناه: الإباحة لهم بأن يأكلوا من ثمراتهم وحروثهم ولحوم أنعامهم، ولا يحرموا ما حرم المشركون، ثم قال: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان﴾ كما اتبعها هؤلاء، بحروا البحائر وسيبوا السوائب. ومعنى ﴿خطوات الشيطان﴾ أي: طرقه التي يتخطى فيها الحلال إلى الحرام والأنعام: الإبل. وقيل: الإبل والبقر والغنم. وقيل: هي كل ما أحله من الحيوان.
قوله: ﴿ثمانية أزواج﴾ الآية.
في نصب ﴿ثمانية﴾ خمسة أقوال:
- قال الكسائي: (هو) منصوب بـ ﴿أَنشَأَ﴾ [الأنعام: ١٤١].
2219
- وقال الأخفش: نصبه على البدل من -ayah text-primary">﴿وَفَرْشاً﴾ [الأنعام: ١٤٢]- وإن شئت: على الحال.
- وقال علي بن سليمان: (هو) منصوب بـ ﴿كُلُواْ﴾، أي: كلوا [لحم] ثمانية أزواج.
- وقيل: هو منصوب على البدل من (ما) على الموضع.
وقوله: ﴿اثنين﴾ بدل من (ثَمانِيَةَ، وكذا ﴿وَمِنَ المعز اثنين﴾.
وقرأ أبان بن عثمان: (مِنَ الضَّأنِ اثْنَان) برفع " الاثْنَيْنِ " على الابتداء والخبر.
ومعنى الآية: أَنَّ الله نَبَّه المؤمنين على ما أحل لهم لَئلاَّ يكونوا كمن ذكر ممن يحرموا ما أحل الله. ومعنى: ﴿ثمانية أزواج﴾ أي: أفراد لأن كل فرد يحتاج إلى غيره، فهو زوج، والثمانية الأزواج قد فسرها (تعالى)، وهي الضأن والمعز والإبل
2220
والبقر، وسماها ثمانية وهي أربعة، لأن (كل) واحد: ذكر وأنثى، ألا ترى إلى قوله: ﴿مَّنَ الضأن اثنين﴾ أي: ذكر وأنثى، وكذلك: ﴿وَمِنَ المعز اثنين﴾، وما بعده مثله. وقوله: ﴿قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ (أَمِ) الأنثيين﴾ أي: ما الذي حُرِّمَ عليكم فيما زعمتم: (أذكر) الضأن والمعز، أم أنثى الضأن والمعز؟، فإن كان التحريم من جهة الذكر فيجب أن تحرموا على أنفسكم كل ذكر، وأنتم تستمتعون ببعض الذكور وتأكلونه، وإن كان من جهة الأنثى فحرموا كل أنثى، أم حرم عليكم ما اشتملت عليه أرحام (الانثيين؟، فيلزمكم أن تحرموا كل ما اشتملت (عليه) الأرحام، فتحرموا الذكر والأنثى.
قال الطبري: أَمَرَ الله نبيه أن يقول لهم ذلك، فإن ادعوا تحريم الذكرين أَوْجَبُوا تحريم كل ذكر من ولد الضأن والمعز، وهم لا يفعلون ذلك، بل يستمتعون بلحوم بعض الذكران وظهورها، وإن قالوا: الأنثيين، أوجبوا تحريم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم، وهم لا يفعلون ذلك، وإنما هذا إبطال لما ادعوا أن الله حرم عليهم ذلك.
2221
﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ﴾ أي: أخبروني عن علم ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾.
ثم قال: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وصاكم الله﴾ الآية.
أي: أجاءكم به نبي، أم حضرتم ربكم إذْ أَمَر بهذا، فسمعتم ذلك منه، وهذا على التبكيت لهم والقطع لحجتهم، ثم قال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله﴾ أي: اخترق الكذب ﴿لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي: من أشد ظلماً منه.
قوله: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ﴾ الآية.
المعنى: قل لهم يا محمد: لست أجد شيئاً قد حرمه الله على / آكل يأكله - فيما أوحي إليَّ من كتاب الله - إلا الميتة، والدم المسفوح - وهو الجاري السائل - ولحم الخنزير، وما ذبح للأصنام والأوثان: وهو قوله: ﴿أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾
2222
ثم قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ﴾ (أي) إلى أكل هذا المحرم، ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾: (أي يبغي) الميتة، ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ في الأكل. وقيل: باغ على المسلمين، من خرج لقطع السبيل، فليس له اذا جاع أن يأكل الميتة، قال ابن جبير. قال ابن عباس: من أكل الميتة غير مضَّطَر فقد بغى واعتدى. وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة.
ومن قرأ (تكون) بالتاء ونصب ﴿مَيْتَةً﴾ فتقديره: إلا أن ﴿يَكُونَ﴾ المأكولة ميتة.
ومن قرأ بالتاء ورفع " الميتة " جعل " كان " بمعنى " وقع "، وعطف ﴿أَوْ دَماً﴾
2223
على (أَنْ) المستثناةِ.
والرجس هنا: النجس.
وفي هذه الآية خمسة أقوال:
- قيل: إنها منسوخة بالسنة، لأن النبي عليه السلام قد حرّم لحوم الحَمُر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. والآية تدل على أنه لا محرّم إلا ما فيها. وهذا قَولٌ مَرْدودٌ، لأنه خبر، والأخبار لا تنسخ.
- وقيل: إن الآية محكمة ولا حرام إلا ما فيها. وهو قول ابن جبير والشعبي، وبه قالت عائشة: لا حرام إلا ما في الآية.
- وقال الزهري ومالك بن أنس وغيرهما. الآية محكمة، ويضم ما سَنَّهُ النبي ﷺ، فيكون داخلاً في المحرمات.
2224
والقول الرابع: إن الآية جواب لقوم سألوا عن أشياء فأجيبوا عنها، ثم بيّن النبي عليه السلام تحريم ما لم يسألوا عنه، ودل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث﴾ [الأعراف: ١٥٧]. فالنبي عليه السلام يحرم بالوحي الذي في القرآن، ويحرم بما ليس في القرآن، وعلى الناس اتباع ذلك لقوله: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى﴾ [النجم: ٣]: ولقوله: ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ﴾ [النور: ٥٤].
وأكثرهم يرى الضبع صيداً، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس. قال عكرمة: رأيتُها على مائدة ابن عباس. وأجازه ابن عمر.
وقال أبو هريرة: الضبع نَعْجَةُ الغنم. وكَرِهَهَا مالك.
2225
وقال الحسن البصري والنخعي والزهري: الثعلب سبع. وبه قال مالك، وكذلك روي عن أبي هريرة. ورخص في أكله عطاء وطاوس وقتادة والشافعي وأبو ثور.
وأكثرهم على منع أكل الهَرِّ. وبه قال مالك. ورخص فيه الليث. وذكره مجاهد وطاوس ثمن السنَّوِر، وبيعه، وأكل لحمه، وأنْ يُنْتَفَعَ بجلده.
وكلهم على أن ما قطع من الحي مما يؤلمه فهو ميتة. ورخص مالك رحمه الله في
2226
جواز قطع أَلْيَةِ الكبش ليُكْثِرَ لحمه، ومنع من أكل ما قطع.
وكره عمر بن الخطاب إخصاء الذكور، وكذلك ابن عمر، ورخص. فيه الحسن وطاوس وعروة بن الزبير. ولم ير مالك بإخصاء ذكور الغنم بأساً، لأنه صلاح للحومها.
قال ابن عمر: نهى النبي ﷺ عن إخصاء الإبل والبقر والغنم والخيل.
وأكثرهم على منع أكل لحم القرد.
وأجاز الشعبي أكل لحم الفيل، ولم يجزه الشافعي، ومنع من الانتفاع بعظمه.
2227
وأرخص مالك لحوم الحيات، يعمل بها الدّرْيَاقُ، وقال: تَذّكى.
وكره ذلك سفيان والحسن البصري وابن سيرين.
وسُئِلَ الأوزاعي عن أكل الذُبَّانِ، فقال: ما أراه حراماً.
وأكثرهم / على جواز شرب أبوال ما أُكِلَ لحمه.
وقال مالك C: أكره الفأر والعقارب والحيَّةَ من غير أن أراه حراماً بَيِنّاً، ومن أكل حيَّةَ فلا يأكلها حتى يذبحها.
2228
(وسُئِلَتْ عائشة رضي الله عنها عن الفأرة، فقرأت: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً﴾ إلى آخر الآية، تريد تحليلها).
ولا يجوز - عند الشافعي - أكل شيء مما أبيح للمحرم قتله.
وسُئِل مالك رحمه الله عن أكل الغراب والحِدَإِ، فقال: لم أدرك أحداً ينهى عن أكل ذلك (ولا يأمر بأكلها.
وكره جماعة أكل الخيل، وكرهه مالك)، وأجازه جابر بن عبد الله وعطاء والحسن وغيرهم، وبه قال الشافعي وابن حنبل.
2229
وأكثرهم على إجازة أكل (لحم) الضَّبِّ والأرنب واليربوع، وهو مذهب مالك والشافعي، ووقف مالك في القنفد.
قوله: ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية.
قرأ الحسن ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ بالإسكان، وقرأ أبو السمّأل ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ بكسر الظاء، وأنكر ذلك أبو حاتم.
(و) قوله: ﴿أَوِ الحوايآ﴾ في موضع رفع على معنى: " أو إلاّ ما حملت الحوايا "،
2230
فهو عطف على " الظهور "، فتكون داخلة في الذي هو حلال، وكذلك (ما) الثانية داخلة في الحلال، وقيل: هي في موضع نصب، عطف على المستثنى وهو (ما). وقيل: هو معطوف على " الشحوم "، والمعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فتكون الحوايا داخلة في التحريم على هذا، و (ما) الثانية عطف عليها.
ومعنى الآية أن الله أخبر نبيه أنه حرم على اليهود - جَزاءً بِبغْيِهِمْ - كل ذي ظُفُرٍ، وهو من البهائم (و) الطير ما لم يكن مشقوق [الأصابع] كالإبل والنَّعَام والإوز والبط، وأَنَّهُ حُرَمَ عليهم شحوم ثروب الغنم والبقر. وقيل: إنَّما حرّم
2231
عليهم كل شحمٍ غير مختلط بعظمٍ ولا على عظمٍ.
وقال السدي: الذي حرّم عليهم هو شحوم الثروب و [الكلى]. ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾: يعني شحوم الجنب والظهر ونحوه.
وواحد " الحوايا ": " حاوياء "، مثل نافقاء، هذا مذهب سيبويه. وقال الكسائي: واحدها " حاوية "، مثل ضاربة. وهي ما تَحَوّى في البطن ويَسْتَدير، وهي " المباعر "، فاستثنى في الحلال ما حملت الحوايا، فهذا يدل على عطف " الحوايا " على " الظهور " في موضع رفع. وأكثرهم على أن الحوايا: المباعر، تدعى عند العرب: " المرابض ".
﴿أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ﴾: يعني شحم الألية وشبهه حلال.
2232
وقيل: واحد الحوايا " حوية ".
قوله تعالى: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ﴾ الآية.
المعنى: فإِنْ (كذبك) - يا محمد - (هؤلاء) اليهود فيما أوحينا إليك أَنَّا حرمنا عليهم، ﴿فَقُلْ: رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ بالمؤمنين، تَسَعُ المسيء والمحسن منهم، ولا يعاجل من كفر به بالعقوبة، ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين﴾ إذا أراد حلوله بهم، و " المجرمون ": الذين أجرموا أي: اكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات.
وكان نزول هذه الآية بسبب أن اليهود قالت: لم يحرم الله علينا شيئاً، إنَّما حرُّمَ إسرائيل على نفسه الثرب وشحم الكليتين، فنحن نحرمه. فذلك قوله: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ﴾، أي: قالوا: لم يحرم الله علينا ذلك، فقل: ربكم ذو رحمة واسعة.
قوله: ﴿سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا﴾ (الآية).
2233
والمعنى: سيقول المشركون من قريش وغيرهم - الذين تقدم ذكرهم - إذا تبين لهم أنُّهم على باطل، قالوا: لو شاء الله ما فعلنا ذلك، ثم أخبرنا الله أن قولهم هذا (قد) قال به من كان قبلهم حتى نزلت بهم العقوبة، وهو قوله: ﴿كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ أي: نزلت بهم عقوبة فعلهم.
وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية فقالوا: إن الله لم يشأ شرك المشركين، لأن الله لم يذكر هذه الآية إلا على جهة الذم لهم في قولهم: إن الله لو شاء ما أشركوا. فأضافوا ما هم عليه من الشرك أنه عن مشيئته كان ولو أن قولهم صحيح. ما ذَمَّهُمْ عليه. قالوا: فَدَلَّ ذلك على أن الله لم يشأ شرك المشرك.
وفي قوله تعالى - بعد الآية -: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ [الأنعام: ١٤٤، الأعراف: ٣٧، يونس: ١٧، هود: ١٨، الكهف: ١٥] ما يدل على بطلان كذلك، بل الله المقدر لكل أمر من شرك وغيره.
ومعنى: ﴿لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ أي: لو شاء لأرسل إلى آبائنا رسولاً يردهم
2234
عن الشرك، فنتبعهم. وقيل: إِنَّما قالوا ذلك على جهة الهُزْء واللعب والاستخفاف، ولو قالوه على يقين وحق لما رَدَّ عليهم ذلك.
ثم قال لنبيه: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ﴾: (قل) لهم يا محمد: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ﴾ على ما تقولون وتدّعون أن الله رضي ما صنعتم من عبادتكم الأوثان وتحريمكم ما لم يأمركم به؟، ﴿فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ﴾ أي: فتظهروا العلم بذلك، وما تتبعون إلا الظن في عبادتكم وتحريمكم، وما أنتم إلاّ تخرصون، أي: تتقَوّلون الكذب والباطل على الله ظناً بغير علم ولا برهان.
قوله: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الآية.
والمعنى: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد بعد عجزهم عن إقامة الحُجَّة فيما ادَّعَوا: لله
الحُجَّة البالغة عليكم. ومعنى ﴿البالغة﴾ التي تبلغ مراده في ثبوتها على من احَتَجَّ بها عليه من خلقه، ﴿فَلَوْ شَآءَ﴾ ربكم، ﴿لَهَدَاكُمْ﴾ أي: لوفقكم للهدى. وذلك أنْهم جعلوا قولهم ﴿لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] حُجَّة في إقامتهم على شركهم، جعلوا أنّ كل من كان على شيء من الأديان فهو على صواب، لأنه يجري - فيما يعتقدون - على مشيئة الله.
وهذا يريدون به إبطال الرسالة، إذ لا معنى لها على هذا القول فيُقَال لهم: فالذين على خلافكم في الدّينِ، أليس هم أيضاً على مشيئة الله؟، فينبغي أن لا تقولوا إنهم ضالون، والله يفعل ما يشاء، قادر على أن يهدي الخلق أجمعين، وليس للعباد عليه أن يفعل بهم كل ما يقدر عليه، لا معقب لحكمه، ولا راد لفعله.
قوله: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن الله حَرَّمَ عليهم ما ذكروا من الأنعام والحروث وغيرها: هاتوا شهداءكم يشهدون أن الله حرم عليكم ما ذكرتم،
﴿فَإِن شَهِدُواْ﴾ أي: فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حرم ما يزعمون، ﴿فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ فإنهم كذبة.
وهذا خطاب للنبي، والمراد به أصحابه.
﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي: لا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب وتحريم ما لم يحرِم الله، ﴿والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي: يجعلون / له عديلاً، أي: ولا تتبع أهواء هؤلاء أيضاً.
قوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
(ألا تشركوا): (أن) في موضع نصب على البدل من (ما). وقيل: هي في موضع نصب على معنى: " كراهة ألا تشركوا "، ويكون - على ذلك - المتلو عليهم غير الإشراك.
ويجوز أن تكون في موضع رفع على معنى: " هو (أَنْ لاَ) تشركوا "
2237
فيكون متلواً كالقول الأول، و ﴿تُشْرِكُواْ﴾ في موضع جزم على أَنْ (لا) للنهي، وهو اختيار الفراء، قال: لأن بعده: " ولا تفعلوا كذا ".
وإن شئت جعلت ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ﴾ خبراً في موضع نصب، كما تقول: " أمرتك ألا تذهب إلى زيد "، و " ألا تذهب " بالجزم والنصب. ولك أن تجعل ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ﴾ نصباً، وما عطفته عليه جزماً على النهي.
قوله: ﴿مَا ظَهَرَ﴾: ﴿مَا﴾ في موضع نصب بدل من ﴿الفواحش﴾.
قوله: ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ﴾: " ذلك " في موضع رفع على معنى: الأَمْرُ ذلكم. ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: بَيَّنَ ذلكم.
2238
ومعنى الآية: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المحرمين ما لم يحرمه الله عليهم: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ حقاً يقيناً (ووحياً) أوحي إلي، (وتنزيلاً) أنزله علي: ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ أي: وأوصى بالوالدين إحساناً، ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ أي: خشية الفقر، فإنَّ الله هو رازقكم وإيَّاهم، وعنى بالأولاد هنا: الموؤدة التي زين قتلها للمشركين شركاؤهم، والإملاق: (مصدر " أملق) الرجل من (الزاد) " إذا فني زاده وافتقر، ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ أي: الظاهر منها والباطن.
والظاهر: هو ما كان من الزنى الظاهر، والباطن: هو ما كان منه في خفاء، قاله السدِّي وغيره. وقيل: هو كل منهي عنه وكل محرم (و) لا يأتونه ظاهراً ولا باطناً. وقيل: إنَّهم كانوا يستقبحون الزنى (الظاهر) ولا يرون بأساً
2239
بالبالطن، فنهوا عن الظاهر والباطن، قاله الضَحَّاك. وقيل: الظاهر: الجمع بين الأختين وتزويج الرجل امرأة أبيه بعده، والباطن: الزنى: قاله ابن عباس. وقال ابن جبير: ﴿مَا ظَهَرَ﴾: نكاح الأمهات، ﴿وَمَا بَطَنَ﴾: الزنى.
قوله: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق﴾ أي: بنفس مؤمنةٍ أو مُعَاهَدَةٍ أو يزني وهو محصن، أو يرتد عن دينه الحق ولا يعود، ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ أي: هذا الذي وصاكم به وإيانا، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي تعقلون ما وصاكم به. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ تمام إن جعلت (أَنْ) رفعاً.
قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الآية.
والمعنى: وأوصى ألا تقربوا مال اليتيم، ﴿إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾: يعني التجارة فيه. وقال السَدِّي: يُثَمَّرُ ماله.
2240
وقال الضَحَّاك: يبتغي له فيه الربح ولا يأخذ من ربحه شيئاً. وقال ابن زيد: أن يأكل بالمعروف إن افتقر، ولا يأكل منه إن استغنى.
﴿حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾: الحُلُم عند مالك وغيره. قال السَدَّي: ﴿أَشُدَّهُ﴾: ثلاثون سنة. وروي عنه: ثلاث وثلاثون. وقيل: بلوغ الأشد: أن يؤنس مع بلوغ الحلم. وهذا قول حسن، وبه يقول أهل المدينة.
ومعنى: ﴿حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ أي: فإذا بلغ فادفعوا إليه ماله إن آنستم منه
2241
قوله رشداً، هذا المعنى محذوف من الكلام للدلالة عليه، إذ / لو تركنا والظاهر، ولم نقدر حذفاً، لكان المعنى: أن يقرب ماله إذا بلغ أَشُدَّه، لأنَّ النهي إنَّما وقع على المدة التي هي قبل الأشدِ. قوله: ﴿وَأَوْفُواْ الكيل والميزان﴾ أي: لا تبخسوا الناس الكيل والميزان، ولكن اعطوهم حقوقهم، (بالقسط) أي: بالعدل، ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾: أي: لا نكلفها في إيفَاءِ الكيل والوزن إلا طاقتها، لا نُضِيّقُ عليها إلا أن تعطي الحق مبلغ طاقتها، قوله: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا﴾ أي: إذا تكلمتم بين النَّاس فأَنْصِفُوا وقولوا الحَقَّ، ولو كان الذي يتوجه عليه الحَقَّ ذا قرابة منكم، فلا تحملنكم قرابته على القول بغير الحقِّ.
وقيل المعنى: إذا شَهِدتُم فقولوا الحقَّ ولو كان المشهود عليه ذا قرابة منكم. ﴿وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ﴾ أي: بوصيته التي وصاكم بها أوفوا، {ذلكم وصاكم
2242
(بِهِ)} أي: وصاكم الله بهذه الأمور التي في هاتين الآيتين، وأمركم بالعمل بها لا بما قد سننتم من البحائر والسوائب والوصائل والحامي وقتل الأولاد ووَأْدِ البنات وتحريم بعض الأنعام واتباع خطوات الشيطان، ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي: أمركم بذلك لعلكم تذكرون نعمته عليكم وما قد هداكم إليه.
وكان ابن عباس يقول: هذه الآيات من الآيات المحكمات. وقال كعب: - وقد سمع رجلاً يقرأ ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١]-: والذي نفس كعب بيده إنّ هذا لأول شيء في التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] إلى آخر الآية.
قوله: ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً (فاتبعوه)﴾ الآية.
2243
قوله ﴿وَأَنَّ هذا﴾ من فتح، جعلها في موضع نصب عطف على ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ﴾ [الأنعام: ١٥١]، أو في موضع رفع عطف على ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ﴾ [الأنعام: ١٥١] على مذهب من أضمر الابتداء مع ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ﴾ [الأنعام: ١٥١].
ومذهب الفراء أنها في موضع خفض بإضمار الخافض، تقديره عنده: " ذلكم وصاكم به وبأن هذا صراطي "، وهذا بعيد، لأن المضمر المخفوض لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض عند سيبويه وجميع البصريين. ومن خفف (أن) جعلها مخففة من الثقيلة. وقيل: خففها عطفاً على أن لا تشركوا)، فخفف كما كان المعطوف
2244
عليه مخففاً. ويجوز أن تكون (أن) في موضع رفع بالابتداء.
ويجوز أن تكون مخففة حكمها حكم المثقلة. ويجوز أن تكون (أَنْ) زائدة للتوكيد.
و ﴿هذا﴾ في موضع رفع على قراءة من خفف ومن جعل (أن) زائدة، وفي موضع نصب على قراءة من شدد.
ومعنى الآية: وهذا الذي وصاكم به ربكم - في هاتين الآيتين - وأمركم بالوفاء به: هو صراطه، أي: طريقه. ودينه المستقيم، (أي) الذي لا اعوجاج به، ﴿فاتبعوه﴾ أي: اجعلوه منهاجاً تتبعونه، ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل﴾ أي: تسلكوا طرقاً غيره، ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي: عن طريقه ودينه، وهو الإسلام، ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ﴾: وصاكم بذلكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
قوله: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً﴾ الآية.
2245
﴿تَمَاماً﴾ مفعول من أجله، وقيل: مصدر، و ﴿أَحْسَنَ﴾ فعل ماضي صلة ﴿الذي﴾، وأجاز الكسائي والفراء أن يكون (اسماً) نعتاً " للذي " في موضع جر، وأجازا: " مررت بالذي أخيك "، ينعتان " الذي " بالمعرفة / وما قاربها. وهذا خطأ عند البصريين، لأن " الذي " لم يتم بعد، فكيف ينعت بعض الاسم؟. والمعنى عند البصريين: تماما على (المحسن).
وأجاز الكسائي والفراء أن يكون ﴿الذي﴾ بمعنى " الذين " هنا. وقال المبرد: تقديره: تماماً على الذي أحسنه (الله) إلى موسى من الرسالة، والهاء محذوفة.
قال مجاهد: معناه تماماً على المحسنين، ومعناه: أنه آتاه الكتاب فضيلة له على
2246
ما آتى المحسنين من عباده. فهذا يرد قول الكسائي والفراء: إن ﴿الذي﴾ بمعنى " الذين ". وروي عنه أن المعنى: تماماً على (المحسن)، فهو اسم للجنس كله من المحسنين، كما قال البصريون.
قال الحسن: كان في قوم موسى محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتابا تماماً على المحسنين، وقرأ ابن مسعود: (تماما على الذين أحسنوا). وقيل: المعنى: تماماً على الذي ﴿أَحْسَنَ﴾ موسى من طاعة ربه.
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق (تماماً على ﴿تَمَاماً﴾ ﴿الذي﴾ ﴿أَحْسَنَ﴾
2247
بالرفع على إضمار " هو " والمعنى: تماما على الذي هو أحسن الأشياء.
قوله: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ﴾ الآية.
المعنى: وهذا القرآن - الذي أنزلناه إليك - كتاب منزل لنا مبارك، ﴿فاتبعوه﴾ أي: اجعلوه (إماماً) تعملون بما فيه، ﴿واتقوا﴾ أي: احذروا أن تضيعوا العمل (بما) فيه وتتعدوه ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. (فاتبعوه) وقف حسن.
والتقوى: الحذر من مخالفة ما أمر الله في السر والعلانية، وحقيقة ذلك القيام بما أوجب الله لله، وترك ما نهى الله عنه (لله).
قوله: ﴿أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب﴾ الآية.
2248
﴿أَن تقولوا﴾: (أنْ) في موضع نصب على تقدير: كراهية أن تقولوا.
وقال الفراء: المعنى: (واتقوا أن تقولوا إنما أنزل الكتاب وهو متعلق بالآية التي قبلها. وقيل: المعنى:) لئلا تقولوا، أي: أنزلناه مباركاً لئلا تقولوا، أو: كراهية أن تقولوا.
ومعنى الآية: أنها خطاب للمشركين أنه تعالى أنزل عليه كتابا مباركا، وأمرهم باتباعه، وإنما أنزله لئلا تقول قريش - ومن دان بدينها -: ﴿إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا﴾، وهم اليهود والنصارى، ولم ينزل علينا، ولا نعلم ما (يقرأون)، وما كنا عن دراستهم إلا غافلين، أي: ما نعلم ما هي، لأنه ليس بلساننا، فيجعلوا ذلك حجة لهم، فقطع الله
2249
حجتهم بإنزال القرآن بلسانهم، فقال: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: ١٥٥] لئلا / (يقولوا: " إنما) أُنزِلَ الكتاب على اليهود والنصارى، ولم يَنزِل علينا شيء "، وفي هذا عذر لهم في تخلفهم عن الإيمان بالتوراة والإنجيل إذ لم ينزل عليهم ولا أرسل موسى وعيسى إليهم. وفيه بيان (أن لا) عذر لهم في التخلف عن الإيمان بالقرآن إذ محمد رسول إلى جميع الخلق، وإذ القول بلسانهم.
قوله: ﴿أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب﴾ الآية.
والمعنى: ولئلا تقولوا: ﴿لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ﴾، (أي) من هاتين الطائفتين: اليهود والنصارى، ثم قال لهم: ﴿فَقَدْ جَآءَكُمْ﴾ - أيها المشركون - ﴿بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي: كتاب بلسانكم تعرفون ما يتلى عليكم فيه، فهو لا يغيب
عنكم كما غاب ((عنكم)) ما أنزل على الطائفتين ((من)) قبلكم، إذ هو بغير لسانكم، فهو حجة عليكم ﴿وَهُدًى﴾ أي: بيان للحق، ﴿وَرَحْمَةٌ﴾: أي: لمن عمل به.
وقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ أي: من أشد ظلماً منكم إذ كذبتم بآيات الله وصدفتم عنها، أي: أعرضتم فلم تؤمنوا بها. ﴿سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ﴾ أي: سنثيب الذين يعرضون عن ﴿آيَاتِنَا سواء العذاب﴾ أي:
شديده، ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ﴾ أي: يعرضون عن آيات الله في الدنيا.
قوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)﴾ الآية.
(والمعنى): هل ينظر هؤلاء المشركون ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة﴾، يعني عند
2251
الموت، تقبض أرواحهم، ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ أي: لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة، ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ﴾ وذلك طلوع الشمس من مغربها، قاله مجاهد.
ثم قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا﴾ أي: إذا طلعت (الشمس) من مغربها، لم ينفع الكافر إيمانه. روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها "، فذلك حين ﴿لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْراً﴾.
وعنه ﷺ أنه قال: " إن باب التوبة مفتوح قبل المغرب عرضُهُ مسيرة سبعين عاما، لا يزال مفتوحاً حتى تطلع من قبله الشمس "، ثم قرأ الآية.
2252
قال عبد الله بن عمر: يمكث الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة.
قال النبي عليه السلام: " وآية تلكم الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال " وقال ابن مسعود: بقي من الآيات أربع: " طلوع الشمس من مغربها، ودابة الأرض، والدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، والآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها ".
المعنى: ﴿أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْراً﴾ أي (و) عملت في تصديقها بالله عملاً صالحاً، فمن عمل - قبل الآية - خيراً قُبِل منه ما يعمله بعد الآية، ومن لم يعمل - قبل الآية - خيراً لم يُقْبَل منه ما يعمله بعد الآية.
ثم قال تعالى: ﴿قُلِ انتظروا﴾ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: انتظروا
2253
إتيان الملائكة لقبض أرواحكم، أو يأتي ربكم لفصل القضاء بينكم، أو يأتي بعض آيات ربكم، أي: التي (أنا) منتظر لذلك معكم.
قوله: ﴿إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ (وَكَانُواْ شِيَعاً)﴾ الآية.
من قرأ (فارقوا) بألف، فمعناه تركوا دينهم / الذي أمرهم الله به، وخرجوا عنه وارتدوا.
ومن قرأ (فرَّقوا)، فمعناه: تَنَصَّر بعضهم وتَهَوَّد بعضهم وَتَمَجَّس
2254
بعضهم، وتصديق ذلك قوله: ﴿وَكَانُواْ شِيَعاً﴾ أي: فرقاً وأحزاباً. وقيل المعنى: آمنوا ببعضه وكفروا ببعض. قال قتادة: " هم اليهود والنصارى ". وقال مجاهد: هم اليهود.
قال أبو هريرة عن النبي عليه السلام: " هم أهل البدع من هذه الأمة " وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " هم أهل الضلالة والبدع و (أهل) الشبهات من هذه (الأمة) ".
وروي عنه ﷺ أنه قال: " هم الخوارج ".
2255
(و) قوله: ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله﴾ نزل هذا قبل إيجاب فرض القتال ثم نسخه الأمر بالقتال في " براءة "، قال السدي وغيره.
وقيل: الآية محكمة، وإنما هو خبر من الله لنبيه أن من أمته من يُحدِثُ بعده في دينه، أي يكفر.
وقال ابن عباس: نزلت بمكة ونسخها: ﴿(قَاتِلُواْ الذين) لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ [التوبة: ٢٩].
وقيل: المعنى: إنما أمرهم - في مجازاتهم - إلى الله فينبئهم بما كانوا يفعلون، فهي محكمة خبر من الله لنبيه.
قوله: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (الآية).
المعنى: من جاء يوم القيامة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم بالتوبة عماهم
2256
عليه، فله - من الجزاء - عشرة أضعاف ما يجب له، ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة﴾ أي: (و) من وافى يوم القيامة - وهو مقيم على مفارقة دينه - فلا يجزى إلا مثل عمله ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾، وليس معنى ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾: " عشر أمثال التوبة "، إنما المعنى: فله ثواب عشر أمثالها.
وقيل: المعنى: " فله عشر حسنات أمثالها "، أي: أمثال الحسنات العشر التي حسنة العامل موازنة لها، فالهاء في ﴿أَمْثَالِهَا﴾ ترجع على الحسنات المحذوفة، وفي حذف الهاء من عشر دليل على أن المعنى: فله عشر حسنات أمثال (حسنة)، وهو من باب حذف المنعوت وإقامة النعت مقامه إن قدرت الانفصال في (أمثالها)، أي: " أمثال لها "، وإن لم تقدر الانفصال، فهو من باب حذف المبدل منه وإقامة البدل
2257
مقامه.
وقرأ الحسن: (عَشْرٌ) منون، (أمثالُها) بالرفع على الصفة للعشر. وهي قراءة عيسى بن عمر ويعقوب.
وكن حذف الهاء من (عشر) للحمل على المعنى، لأن المراد: عشر حسنات وقيل: الهاء تعود على الحسنة المذكورة
والمثل المجازى به على الحسنة، هو معروف عند الله، لكنه تعالى يجازيه على
2258
حسنته (عشرة أمثال) ذلك القدر - الذي هو معلوم عنده - جزاء على الحسنة فإنما يقع التضعيف على قدر معلوم عنده يجازي به على حسنة (حسنةً) واحدة.
وقال سفيان وغيره: الحسنة هنا: لا إله إلا الله، والسيئة: الشرك، وهو قول مجاهد والقاسم وابن عباس والضحاك والحسن.
وروى قتادة أن النبي عليه السلام كان يقول: " الأعمال ستة: موجبة وموجبة، ومضْعِفَة (ومضْعِفة) ومثل (ومِثْلٌ)، فأما الموجبة والموجبة: فمن لقي الله
2259
لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار / وأما المُضْعِفة (والمُضْعِفة): فنفقة الرجل المؤمن في سبيل الله سبع مائة ضعف، ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها. وأما مِثْل (ومِثْل): فإذا هَمَّ العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة (واحدة)، وإذا هم بسيئة فعملها كتبت عليه سيئة ".
وقال أبو سعيد الخدري: هذه الآية للأعراب، وللمهاجرين سبع مائة ضعف وقال ابن عمر: هذا للإعراب، وللمهاجرين ما هو أعظم من ذلك.
قال: الربيع: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، ويؤدون عُشر أموالهم فنزلت هذه الآية، ثم نزلت الفرائض - بعد - بصوم (رمضان) والزكاة.
2260
قوله: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ الآية.
قوله: ﴿دِيناً﴾ نصب عند الأخفش (ب (هدَاني). وقيل: المعنى: أنه نصب بـ " عَرَّفَني ديناً ". كما تقول: " (هو يَدَعُهُ) ترْكا ".
وقيل: هو بدل من (صراطٍ) على الموضع. وقيل: هو منصوب على المصدر، والمعنى: فَدِنْتُ ديناً. وقيل: المعنى: هداني فَاهْتَدَيتُ ديناً، ودل (هداني) على " اهْتَدَيْتُ ".
و ﴿مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ مثله في التقدير. وقيل: هو بدل من " دين ". وشاهد من قرأ
(قيّما) - بالتشديد - قوله: ﴿ذلك الدين القيم﴾ [التوبة: ٣٦، يوسف: ٤٠، الروم: ٣٠]، و ﴿دِينُ القيمة﴾ [البينة: ٥]، و ﴿كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣]، فأجمعوا على تشديد ذلك.
ومن قرأ (قِيَماً) بالتخفيف، جعله مصدراً مثل: الصِّغَر والكِبَر. و ﴿حَنِيفاً﴾ حال من ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: هو نصب بإضمار " أعني ".
ومعنى الآية: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء العادلين: ﴿إِنَّنِي هَدَانِي ربي﴾، أي: أرْشَدَني ودَلّني على الصراط المستقيم، أي: الطريق القويم، وذلك الحنيفية.
قوله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ﴾ الآية.
2262
روى أحمد بن صالح عن ورش أنه فتح ﴿وَمَحْيَايَ﴾. وروى داود بن (أبي) طيبة وأبو الأزهر ويونس والأصبهاني عن أصحابه عن ورش بالإسكان. واختار ورش الفتح فيما روى هؤلاء عنه:
2263
روى أبو بكر الأدفوي عن أحمد بن إبراهيم عن بكر بن سهل الدمياطي عن أبي الأزهر عبد الصَّمَدِ عن ورش أنه اختار من نفسه الفتح.
ومعنى الآية: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء العادلين، ﴿إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي﴾ أي: ذبحي، ﴿وَمَحْيَايَ﴾ أي: حياتي، ﴿وَمَمَاتِي﴾ أي: وفاتي، ﴿لِلَّهِ﴾ أي: ذلك كله له خالصاً.
﴿وبذلك أُمِرْتُ﴾ أي: أمرني ربي، ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين﴾ أي: أول من خضع وذل لربه.
2264
وقرأ ابن (أبي) إسحاق وعيسى وعاصم الجحدري (ومحييّ) بياءٍ شديدة من غير ألف، ووجه ذلك أن ياء الإضافة يكسر ما قبلها، فلما لم يكن سبيل إلى كسر الألف، غُيِّرت الألف إلى الياء وأدغمت في الياء التي بعدها، جعل قلبها عِوضاً من تغييرها إلى الكسر.
والنُّسُك هنا: الذَّبْحُ في الحج والعمرة.
قوله: ﴿قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي (رَبّاً)﴾ الآية.
(و) المعنى: ﴿قُلْ﴾ (يا محمد لهم): ﴿أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً﴾، أي: طلب رباً ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي: مالك كل شيء.
وأصل " الرب " أنه مصدر " ربه يربه (رباً)، إذا قام بصلاحه. وإنما سمي به، كما قيل: " رجل عدلٌ " و " رضىً "، فرّبٌّ الدار، معناه: مالكها، وحقيقته ذو ملكها.
﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾ (أي لا تجترح (إثماً إلا) عليها)، أي: لا تؤخذ نفس إلاّ بما كسبت، ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ أي: لا يؤخذ أحد بذنب آخر، كل ذي إثم معاقب بإثمه.
وحقيقة / معناه: أن الله أمر نبيه عليه السلام أن يخبر المشركين أنهم مأخوذون بآثامهم، وأنّا لسنا مأخوذين بإجرامكم ولا معاقبين بها، ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض﴾ الآية.
" جعل " - هنا - بمعنى " صيّر "، فلذلك تعدت إلى مفعولين. وإذا كانت بمعنى " خلق " تعدت إلى مفعول واحد.
2266
ومعنى الآية: أنها خطاب للنبي وأمته، والمعنى: والله (الذي) جعلكم تخلفون مَن كان قبلكم من الأمم، والخلائفُ: جمع خليفة.
وقيل: هذا لأمة محمد ﷺ، لأنهم آخر الأمم، قد خلفوا في الأرض مَن كان قبلهم من الأمم، ومحمد ﷺ خاتم النبيين، وقيل: سموا (خلائف)، لأن بعضهم (يخلف بعضاً) إلى قيام الساعة.
﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ أي: فضَّل هذا على هذا بسعة الرزق (و) بالقُوَّة، ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ﴾ أي: (ليختبركم فيما) آتاكم من ذلك، فيعلم الشاكر من غيره، والمطيع من العاصي، ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب﴾ أي: لمن (لم) يتبع أمره و (ينته) عن نهيه. وإنما وصف عقابه بالسرعة من أجل أن الدنيا بعيدُها قريب.
2267
﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ﴾ أي: غفور لمن تاب وأطاعه، و ﴿رَّحِيمٌ﴾ بترك عقوبته على سالف ذنوبه.
2268
Icon