ﰡ
تقدم الكلام على هذه اللام، وهل هي لنفي القسم أو لتأكيده، وذلك عند قوله تعالى :﴿ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾، إلاَّ أنها هنا ليست للنفي، لأن الله تعالى قد أقسم بهذا البلد في موضع آخر، وهو في قوله تعالى :﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ١ وَطُورِ سِينِينَ ٢ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ﴾، لأن هذا البلد مراد به مكة إجماعاً لقوله تعالى بعده :﴿ وَأَنتَ حل بهذا البلد ﴾.
وقد ذكر القرطبي وغيره نظائرها من القرآن، والشعر العربي مما لا يدل على نفي، كقوله تعالى :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾، مع أن المراد ما منعك من السجود، وكقول الشاعر : مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ { ، مع أن المراد ما منعك من السجود، وكقول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة | وكاد صميم القلب لا يتقطع |
وقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثاً مطولاً في دفع إيهام الاضطراب.
وقوله تعالى :﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾، حل : بمعنى حال، والفعل المضعف يأتي مضارعه من باب، نصر، وضرب، فإن كان متعدياً كان من باب نصر.
تقول : حل العقدة يحلها بالضم، وتقول : حل بالمكان يحل بالكسر إذا أقام فيه، والإحلال دون الإحرام.
وقد اختلف في المراد بحل هل هو من الإحلال بالمكان، أو هو من التحلل ضد الإحرام ؟
فأكثر المفسرين أنه من الإحلال ضد الإحرام، واختلفوا في المراد بالإحلال هذا.
فقيل : هو إحلال مكة له في عام الفتح، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده.
وقيل : حل : أي حلال له ما يفعل بمكة غير آثم، بينما هم آثمون بفعلهم.
وقيل : حل : أي أن المشركين معظمون هذا البلد وحرمته في نفوسهم، ولكنهم مستحلون إيذاءك وإخراجك.
وذكر أبو حيان : أنه من الحلول والبقاء والسكن، أي وأنت حال بها. ا ه.
وعلى الأول يكون إخباراً عن المستقبل ووعداً بالفتح، وأنها تحل له بعد أن كانت حراماً، فيقاتل أهلها وينتصر عليهم أو أنه تسلية له، وأن الله عالم بما يفعلون به، وسينصره عليهم.
وعلى الثاني : يكون تأكيداً لشرف مكة، إذ هي أولاً فيها بيت الله وهو شرف عظيم، ثم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حال فيها بين أهلها.
والذي يظهر واللَّه تعالى أعلم : أن هذا الثاني هو الراجح، وإن كان أقل قائلاً، وذلك لقرائن من نفس السورة ومن غيرها من القرآن الكريم.
منها : أن حلوله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد له شأن عظيم فعلاً، وأهمه أن الله رافع عنهم العذاب لوجوده فيهم، كما في قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾، فكأنه تعالى يقول : وهذا البلد الأمين من العذاب، وهؤلاء الآمنون من العذاب بفضل وجودك فيهم.
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم بحلوله فيها بين أظهرهم، يلاقي من المشاق ويصبر عليها.
وفيه أروع المثل للصبر على المشاق في الدعوة، فقد آذوه كل الإيذاء، حتى وضعوا سلا الجزور عليه وهو يصلي عند الكعبة، وهو يصبر عليهم، وآذوه في عودته من الطائف، وجاءه ملك الجبال نصرة له، فأبى وصبر ودعا لهم، ومنعوه الدخول إلى بلده مسقط رأسه فصبر، ولم يدع عليهم، ورضى الدخول في جوار رجل مشرك وهذا هو المناسب لقوله بعده ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في كَبَدٍ ﴾، وهذا من أعظمه.
فإذا كان كل إنسان يكابد في حياته، أياً كان هو، ولأي غرض كان، فمكابدتك تلك جديرة بالتقدير والإعظام، حتى يقسم بها. واللَّه تعالى أعلم.
قيل : الوالد هو آدم، ﴿ وَمَا وَلَدَ ٣ ﴾، قيل :{ ما { نافية. وقيل : مصدرية.
فعلى أنها نافية : أي وكل عظيم لم يولد له.
وعلى المصدرية : أي بمعنى الولادة من تخليص نفس من نفس، وما يسبق ذلك من تلقيح وحمل ونمو الجنين وتفصيله وتخليقه وتسهيل ولادته.
وقيل : ووالد وما ولد : كل والد مولود من حيوان وإنسان.
وقد رجح بعض العلماء أن الوالد هو آدم، وما ولد ذريته، بأنه المناسب مع هذا البلد لأنها أم القرى، وهو أبو البشر، فكأنه أقسم بأصول الموجودات وفروعها.
تقدم بيانه عند قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ٦ ﴾.
لم يبين أيراه أحد ؟ ومن الذي يراه ؟
ومعلوم أنه سبحانه وتعالى يراه، ولكن جاء الجواب مقروناً بالدليل والإحصاء في قوله تعالى بعده ﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ٨ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ٩ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ﴾، لأن من جعل للإنسان عينين يبصر بهما ويعلم منه خائنة الأعين، ولساناً ينطق به ويحصى عليه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وهداه الطريق، طريق البذل وطريق الإمساك، وإذا كان الأمر كذلك فلن ينفق درهماً إلاَّ وهو سبحانه يعلمه ويراه.
النجد : الطريق، وهو كما تقدم في سورة الإنسان بعد تفصيل خلق الإنسان ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ٢ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ﴾، أي الطريق على كلا الأمرين بدليل ﴿ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ٣ ﴾.
وتقدم المعنى هناك، ويأتي في السورة بعدها عند قوله تعالى :﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾.
زيادة إيضاح له، إن شاء الله تعالى.
وقد بين المراد بالعقبة فيما بعد بقوله :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴾.
وقد ذكر أن كل ما جاء بصيغة وما أدراك، فقد جاء تفصيله بعده كقوله تعالى :﴿ الْقَارِعَةُ ١ مَا الْقَارِعَةُ ٢ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ٣ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴾، وما بعدها.
وتقدم عند قوله تعالى :﴿ الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ﴾.
وفي تفسير العقبة بالمذكورات، فك الرقبة، وإطعام اليتيم والمسكين توجيه إلى ضرورة الإنفاق حقاً لا ما يدعيه الإنسان بدون حقيقة في قوله :﴿ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً ﴾.
أما فك الرقبة : فإنه الإسهام في عتق الرقيق والاستقلال في عتقها يعبر عنه بفك النسمة.
وهذا العنصر من العمل بالغ الأهمية، حيث قدم في سلم الاقتحام لتلك العقبة.
وقد جاءت السنة ببيان فضل هذا العمل حتى أصبح عتق الرقيق أو فك النسمة، يعادل به عتق المعتق من النار كل عضو بعضو، وفيه نصوص عديدة ساقها ابن كثير، وفي هذا إشعار بحقيقة موقف الإسلام من الرق، ومدى حرصه وتطلعه إلى تحرير الرقاب.
فها هو هنا يجعل عتق الرقبة، سلم اقتحام العقبة، وجعله عتقاً للمعتق من النار كل عضو بعضو. ومعلوم أن كل مسلم يسعى لذلك وجعله كفارة لكل يمين وللظهار بين الزوجين، وكفارة القتل الخطأ، كل ذلك نوافذ إطلاق الأسارى وفك الرقاب في الوقت الذي لم يفتح للاسترقاق إلا باب واحد، هو الأسر في القتال مع المشركين لا غير، وهما مما سبق تنبيهاً عليه رداً على المستشرقين ومن تأثر بهم. في ادعائهم على الإسلام أنه متعطش لاسترقاق الأحرار.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ في سورة الإسراء.
وقد ذكر أن كل ما جاء بصيغة وما أدراك، فقد جاء تفصيله بعده كقوله تعالى :﴿ الْقَارِعَةُ ١ مَا الْقَارِعَةُ ٢ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ٣ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴾، وما بعدها.
وتقدم عند قوله تعالى :﴿ الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ﴾.
وفي تفسير العقبة بالمذكورات، فك الرقبة، وإطعام اليتيم والمسكين توجيه إلى ضرورة الإنفاق حقاً لا ما يدعيه الإنسان بدون حقيقة في قوله :﴿ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً ﴾.
أما فك الرقبة : فإنه الإسهام في عتق الرقيق والاستقلال في عتقها يعبر عنه بفك النسمة.
وهذا العنصر من العمل بالغ الأهمية، حيث قدم في سلم الاقتحام لتلك العقبة.
وقد جاءت السنة ببيان فضل هذا العمل حتى أصبح عتق الرقيق أو فك النسمة، يعادل به عتق المعتق من النار كل عضو بعضو، وفيه نصوص عديدة ساقها ابن كثير، وفي هذا إشعار بحقيقة موقف الإسلام من الرق، ومدى حرصه وتطلعه إلى تحرير الرقاب.
فها هو هنا يجعل عتق الرقبة، سلم اقتحام العقبة، وجعله عتقاً للمعتق من النار كل عضو بعضو. ومعلوم أن كل مسلم يسعى لذلك وجعله كفارة لكل يمين وللظهار بين الزوجين، وكفارة القتل الخطأ، كل ذلك نوافذ إطلاق الأسارى وفك الرقاب في الوقت الذي لم يفتح للاسترقاق إلا باب واحد، هو الأسر في القتال مع المشركين لا غير، وهما مما سبق تنبيهاً عليه رداً على المستشرقين ومن تأثر بهم. في ادعائهم على الإسلام أنه متعطش لاسترقاق الأحرار.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ في سورة الإسراء.
أي شدة وجوع. والساغب : الجائع. قال القرطبي : وأنشد أبو عبيدة :
فلو كنت جَاراً يابن قيس لعاصم | لما بتَّ شَبعانا وجَارك ساغبا |
وهذا القيد لحال الإطعام دليل على قوة الإيمان بالجزاء وتقديم ما عند الله على ما في قوله تعالى :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾، على ما تقدم من أن الضمير في حبه أنه للطعام، وهذا غالب في حالات الشدة والمسغبة، وقوله :﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾، فهي أعلى منازل الفضيلة في الإطعام.
وذا مقربة : أي قرابة، وخص به، لأن الإطعام في حقه أفضل وأولى من غيره، وفيه الحديث " أن الصدقة على الغريب صدقة وصلة، وعلى البعيد صدقة فقط ".
والأحاديث في الإحسان إلى اليتيم متضافرة، ويكفي قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذين " أي السبابة والتي تليها.
قيل : المسكين من السكون وقلة الحركة، والمتربة : اللصوق بالتراب.
وقد اختلف في التفريق بين المسكين والفقير أيهما أشد احتياجاً وما حد كل منهما، فاتفقوا أولاً على أنه إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا، وإذا ذكر أحدهما فقط، فيشمل الثاني معه، ويكون الحكم جامعاً لهما كما هو هنا، فالإطعام يشمل الاثنين معاً، وإذا اجتمعا فرق بينهما بالتعريف.
فالمسكين كما تقدم والفقير، قالوا : مأخوذ من الفقرة وهي الحفرة تحفر للنخلة ونحوها للغرس، فكأنه نزل إلى حفرة لم يخرج منها.
وقيل : من فقار الظهر، وإذا أخذت فقار منها عجز عن الحركة، فقيل : على هذا الفقير أشد حاجة، ويرجحه ما جاء في قوله تعالى :﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ في الْبَحْرِ ﴾ فسماهم مساكين مع وجود سفينة لهم يتسببون عليها للمعيشة، ولقوله صلى الله عليه وسلم " اللَّهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً " الحديث. مع قوله صلى الله عليه وسلم " اللّهم إني أعوذ بك من الفقر "، وهذا الذي عليه الجمهور، خلافًا لمالك.
وقد قالوا في تعريف كل منهما : المسكين من يجد أقل ما يكفيه، والفقير : من لا يجد شيئًا، واللَّه تعالى أعلم.
هذا قيد في اقتحام العقبة، بتلك الأعمال من عتق أو إطعام، لأن عمل غير المؤمن لا يجعله يقتحم العقبة يوم القيامة لإحباط عمله ولاستيفائه إياه في الدنيا، وثم هنا للترتيب الذكري لا الزمني، لأن الإيمان مشروط وجوده عند العمل.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان شروط قبول العمل وصحته في سورة الإسراء عند قوله تعالى :﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾، وكقوله :﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾، وقوله :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾، لأن الإيمان هو العمل الأساسي في حمل العبد على عمل الخير يبتغي به الثواب، وخاصة الإنفاق في سبيل اللَّه، لأنه بذل بدون عوض عاجل.
وقد بحث العلماء موضوع عمل الكافر الذي عمله حالة كفره ثم أسلم، هل ينتفع به بعد إسلامه أم لا ؟
والراجح : أنه ينتفع به، كما ذكر القرطبي أن حكيم بن حزام بعد ما أسلم قال : يا رسول اللَّه إنا كنَّا نتحنث بأعمال في الجاهلية فهل لنا منها شيء ؟ فقال عليه السلام " أسلمت على ما أسلفت من الخير "، وحديث عائشة قالت : " يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب، ويحمل على إبله لله، فهل ينفعه ذلك شيئاً ؟ قال : لا، إنه لم يقل يوماً : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".
ومفهومه أنه لو قالها، أي لو أسلم فقالها كان ينفعه، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ﴾.
تتمة لصفاتهم، والصبر عام على الطاعة وعن المعصية، والمرحمة زيادة في الرحمة، والحديث " الراحمون يرحمهم الرحمن ".
وذكر المرحمة هنا يتناسب مع العطف على الرقيق والمسكين واليتيم، واللَّه تعالى أعلم.