تفسير سورة الإسراء

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم.
الجزء الخامس عشر من أجزاء القرآن. ( سورة بني اسرائيل مكية، إلا قوله :" وإن كادوا ليفتنونك "، إلى قوله :" وقل جاء الحق ". حروفها : ستة آلاف وأربعة مائة وستون. كلمها : ألف وخمسمائة وثلاثة وستون. آياتها مائة وإحدى عشر ).

بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الخامس عشر من أجزاء القرآن
(سورة بني إسرائيل
مكية إلا قوله وإن كادوا ليفتنونك إلى قوله وقل جاء الحق حروفها ٦٤٦٠ كلمها ١٥٦٣ آياتها ١١١)
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١ الى ٢١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)
وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)
321
القراآت:
يتخذوا بياء الغيبة: أبو عمرو وعباس مخيرا. الباقون بتاء الخطاب أَسَأْتُمْ بالمد: أبو عمرو ويزيد الأصبهاني عن ورش والأعشى وحمزة في الوقف.
ليسوء بياء الغيبة على التوحيد: ابن عامر وحمزة وأبو بكر وحماد ولنسوء بالنون:
علي. الباقون لِيَسُوؤُا على الجمع وَيُبَشِّرُ مخففا: حمزة وعلي. ويخرج بالياء مجهولا: يزيد ويخرج لازما: يعقوب الآخرون بالنون متعديا تلقاه مشددا: ابن عامر ويزيد، وروى النقاش عن ابن ذكوان بالإمالة. الباقون مخففة، وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة اقْرَأْ كِتابَكَ بغيرهم: الأعشى وأوقية وحمزة في الوقف: أمرنا من باب المفاعلة: يعقوب.
الوقوف:
آياتِنا ط الْبَصِيرُ هـ وَكِيلًا ط لمن قرأ تَتَّخِذُوا بتاء الخطاب لإمكان أن يجعل ذُرِّيَّةَ منادى نُوحٍ ط شَكُوراً هـ كَبِيراً هـ الدِّيارِ ط مَفْعُولًا هـ نَفِيراً هـ فَلَها ط لأن ما بعد عائد إلى قوله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما مع اعتراض العوارض تَتْبِيراً هـ يَرْحَمَكُمْ هـ للابتداء بالشرط مع العطف عُدْنا هـ حذرا من توهم العطف حَصِيراً هـ كَبِيراً هـ لا للعطف أَلِيماً هـ بِالْخَيْرِ ط عَجُولًا هـ وَالْحِسابَ، ط تَفْصِيلًا هـ عُنُقِهِ ط مَنْشُوراً هـ كِتابَكَ ط حَسِيباً هـ ط للابتداء بعد بالشرط لِنَفْسِهِ ج للشرط مع العطف عَلَيْها ط أُخْرى ط رَسُولًا هـ تَدْمِيراً
هـ نُوحٍ ط بَصِيراً هـ جَهَنَّمَ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف مَدْحُوراً هـ مَشْكُوراً هـ عَطاءِ رَبِّكَ ط مَحْظُوراً هـ بَعْضٍ ط تَفْضِيلًا.
التفسير:
لما عزم على نبيه في خواتيم النحل جوامع مكارم الأخلاق حكى طرفا مما خصه به من المعجزات فقال: سُبْحانَ الَّذِي وهو اسم علم للتسبيح وقد مر إعرابه في قوله: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: ٣٢] والمراد تنزيه الله من كل ما لا يليق بجلاله وأَسْرى وسرى لغتان.
يروى أنه لما وصل النبي ﷺ إلى المراتب العلية في معراجه أوحى الله إليه يا محمد: بم أشرّفك؟ فقال: يا رب تنسبني إلى نفسك بالعبودية. فأنزل فيه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ
وقوله: لَيْلًا نصب على الظرف وفيه تأكيد الإسراء، وفي تنكيره تقليل مدة الإسراء لأن التنكير فيه معنى البعضية،
322
أخبر أنه أسرى به في بعض الليل مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
عن النبي صلى الله عليه وسلم: بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق.
وقيل: المراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس: الحرم كله مسجد وإلى هذا القول ذهب الأكثرون. قالوا: إنه أسرى به من دار أم هانيء بنت أبي طالب قبل الهجرة بسنة. وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعثة. إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو بيت المقدس بالإتفاق سمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ولم يكن حينئذ وراءه مسجد. الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ يريد بركات الدين والدنيا لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى عليه السلام، ومهبط الوحي وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة. وقوله: أَسْرى مع قوله: بارَكْنا سلوك لطريقة الالتفات لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا بيان لحكمة الإسراء.
سؤال: أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض، وأرى محمدا ﷺ بعض آياته فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل؟
الجواب: لعل بعض الآيات المضافة إلى الله تعالى أشرف وأجل من ملكوت السموات والأرض كلها ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال محمد الْبَصِيرُ بأفعاله المهذبة الخالصة فيكرمه على حسب ذلك.
واعلم أن الأكثرين من علماء الإسلام اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقلون على أنه ما أسرى إلا بروحه. حكى محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن حذيفة أنه قال: كان ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله ﷺ ولكنه عرج بروحه. وحكى هذا القول عن عائشة أيضا. وقد احتج بعض العقلاء على هذا القول بوجوه منها: أن الحركة الجسمانية البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة: ومنها أن صعوده إلى السموات يوجب انخراق الفلك. ومنها أنه لو صح ذلك لكان من أعظم معجزاته فوجب أن يكون بمحضر من الجم الغفير حتى يستدلوا بذلك على صدقه، وما الفائدة في إسرائه ليلا على حين غفلة من الناس. ومنها أن الإنسان عبارة عن الروح وحده لأنه باق من أول عمره إلى آخره، والأجزاء البدنية في التغير والانتقال والباقي مغاير للمتغير، ولأن الإنسان يدرك ذاته حين ما يكون غافلا عن جميع جوارحه وأعضائه.
ومنها قوله سبحانه: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: ٦٠] وما تلك الرؤيا إلّا حديث المعراج. وإنما كانت فتنة للناس لأن كثيرا ممن آمن به حين سمعها
323
ارتد وكفر به. ومنها أن حديث المعراج الجسماني اشتمل على أشياء بعيدة عن العقل كشق بطنه وتطهيره بماء زمزم وركوب البراق وإيجاب خمسين صلاة، فإن ذلك يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته، وأنه يوجب البداء.
أجاب الأكثرون عن الأول بأنه حركة الرسول ﷺ من مكة إلى فوق الفلك الأعظم لم يكن إلّا نصف قطر الفلك، ونسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة أمثال وسبع هي نصف حركة الفلك في يوم بليلته، وإذا كان الأكثر واقعا فالأقل بالإمكان أولى، ولو كان القول بمعراج محمد ﷺ في ليلة واحدة ممتنعا لكان القول بنزول جبريل من العرش إلى مكة في لحظة واحدة ممتنعا، لأن الملائكة أيضا أجسام عند جمهور المسلمين، وكذا القول في حركات الجن والشياطين وقد سخر الله تعالى لسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، وقد قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل: ٤٠]. وكان عرش بلقيس في أقصى اليمن وسليمان في الشام. وعلى قول من يقول إن الإبصار بخروج الشعاع فإنما ينتقل شعاع العين من البصر إلى الكواكب الثابتة في آن واحد، فيثبت أن المعراج أمر ممكن في نفسه. أقصى ما في الباب الاستبعاد وخرق العادة ولكنه ليس مخصوصا بهذه الصورة وإنما ذلك أمر حاصل في جميع المعجزات. وعن الثاني أن انخراق الأفلاك عند حكماء الإسلام جائز. وعن الثالث أن فائدة الإسراء قد عادت إليه حيث شاهد العالم العلوي والعرش والكرسي وما فيها وعليها فحصل في قلبه زيادة قوة وطمأنينة، بها انقطعت تعلقاته عن الكونين ولم يبق مشغول القلب بشيء من أمور الدنيا والآخرة. وعن الرابع أن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد. وعن الخامس أن تلك الرؤيا هي غير حكاية المعراج كما سيجيء في تفسيره، ولو سلم أنها هي المعراج فالرؤيا بمعنى الرؤية.
وعن السادس أنه لا اعتراض على الله تعالى في شيء من أفعاله وأنه على كل شيء قدير.
واعلم أنه ليس في الآية دلالة على العروج من بيت المقدس إلى السموات وإلى ما فوق العرش إلّا أنه ورد الحديث به. ومنهم من استدل على ذلك بأول سورة النجم أو بقوله لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الإنشقاق: ١٩] وتفسير هما مذكور في موضعه.
يروى أنه ﷺ نائما في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال: مثل لي النبيون وصليت بهم. وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال: مالك؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم قال: وإن كذبوني. فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم
324
بحديث الإسراء به وأنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس ومنه عرج إلى السماء ورأى ما فيها من العجائب ولقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى. فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا، وارتد ناس ممن كان آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق. وكان فيهم من سافر إلى الشام فاستنعتوه المسجد فجلى له ﷺ بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا: أما النعت فقد أصاب. فقالوا: أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم:
هذه والله الشمس قد شرقت، وقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلّا سحر مبين.
ولما حكى طرفا من إكرام محمد ﷺ ذكر شيئا من إكرام موسى فقال: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أخرجناهم بواسطته من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين أَلَّا تَتَّخِذُوا من قرأ على الغيبة ف «أن» ناصبة ولام العاقبة محذوفة أي لئلا يتخذوا، ومن قرأ على الخطاب ف «أن» مفسرة معناها أي لا تتخذوا كقولك: كتبت إليه أن افعل كذا، وزائدة والقول مضمر يعني قلنا لهم لا تتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ربا تكلون إليه أمركم يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ قال قتادة: الناس كلهم ذرية نوح عليه السلام لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين: سام وحام ويافث، والناس كلهم من ذرية أولئك. فقوله «يا ذرية» قائم مقام قوله: يا أيها الناس وعلى القراءة الأولى انتصب ذُرِّيَّةَ على الاختصاص، وعلى القراءتين احتمل أن ينتصب على أنه مفعول آخر ليتخذوا أي لا تجعلوهم أربابا كقوله: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً [آل عمران: ٨٠] من ذرية المحمولين مع نوح وعيسى وعزيز. ثم علل النهي عن الإشراك بقوله: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً أي أنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم في الشكر لله وعدم اتخاذ الشريك له.
ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاص بني إسرائيل والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح فهم متصلون به، فلهذا استأهلوا الاختصاص. وجوز في الكشاف أن يكون ثناء على نوح بطريق الاستطراد.
يروى من شكره أنه كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني، وإذا اكتسى قال:
325
الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني، وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه، وكان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا آثر به.
ثم ذكر أن كثيرا من بني إسرائيل ما اهتدوا بهدى التوراة فقال: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أوحينا إليهم وحيا مقضيا مقطوعا به في الكتاب الذي هو التوراة وقول: لَتُفْسِدُنَّ جواب قسم محذوف، أو أجرى القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل: وأقسمنا لتفسدن فِي الْأَرْضِ أرض مصر مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ لتعظمن وتستولن على الناس عُلُوًّا كَبِيراً تسلطا عظيما وبغيا شديدا فَإِذا جاءَ وَعْدُ عقاب أُولاهُما أولى المرتين بَعَثْنا أرسلنا وسلطنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب نجدة وشدة قتال فَجاسُوا ترددوا للمارة خِلالَ الدِّيارِ أوساطها وفرجها يعني ديار بيت المقدس وَكانَ وعد العقاب وَعْداً مَفْعُولًا لا بد من وقوعه ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ الدولة والغلبة عَلَيْهِمْ على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو: وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً مما كنتم. والنفير من ينفر مع الرجل من قومه. احتجت الأشاعرة بقوله سبحانه: قَضَيْنا بعثنا وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا على صحة القضاء والقدر وأن الفساد والنهب والقتل والأسر كلها بفعله. وأجابت المعتزلة بأن المراد أنه خلى بينهم وبين ما فعلوا ولم يمنعهم عن تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظها. وضعف بأن تفسير البعث بالتخلية وعدم المنع خلاف الظاهر، على أن الدليل الكلي العقلي قد دل على وجوب انتهاء الكل إليه.
ولما حكى عنهم أنهم حين عصوا سلط عليهم أعداءهم مهد قاعدة كلية في الإحسان والإساءة قائلا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها لم يقل فعليها أو فإليها للتقابل، مع أن حروف الإضافة بعضها يقوم مقام البعض. قال أهل الإشارة: إنه أعاد الإحسان ولم يذكر الإساءة إلا مرة ففيه دليل على أن جانب الرحمة أغلب فَإِذا جاءَ وَعْدُ عقاب المرة الْآخِرَةِ بعثناهم حذف جواب «إذا» لدلالة ذكره أولا عليه. ومعنى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ليجعلها الله، أو الوعد، أو البعث، أو ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه، ويجوز أن يكون «ما» بمعنى المدة أي ما دام سلطانهم جاريا على بني إسرائيل. وقوله: تَتْبِيراً ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقا للخبر.
ويروى أن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا
326
الأنبياء وسفكوا الدماء وذلك أول الفسادين، فسلط الله عليهم بختنصر أو سنجاريب وجنوده أو جالوت.
عن ابن عباس: قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وسبوا منهم سبعين ألفا وبقوا في الذل إلى أن قيض الله ملكا آخر من أهل بابل وتزوج بامرأة من بني إسرائيل وطلبت من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم.
الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه، ثم أقدموا على قتل زكريا ويحيى عليهما السلام وقصدوا قتل عيسى ابن مريم عليه السلام، وهذا ثاني الإفسادين فانتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له قسطنطين الملك. وقال صاحب الكشاف: المرة الأولى قتل زكريا وحبس أرميا، والآخرة قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام، والمقصود الأصلي الذي دل عليه القرآن هو أنهم كلما عصوا وأفسدوا سلط الله عليهم أعداءهم. وفيه تحذير للعقلاء من محالفة أوامر الله ونواهيه، ثم قال: عَسى رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد لتقامه منكم في المرة الثانية وَإِنْ عُدْتُمْ للثالثة عُدْنا لها. قال أهل السير: ثم إنهم قد عادوا إلى فعل مالا ينبغي. وهو تكذيب محمد وكتمان ما ورد من نعته في التوراة والإنجيل. فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب، فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والإجلاء، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا حشمة لهم ولا عزة فيهم إلى يوم القيامة، وأما بعد ذلك فهو قوله وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي محبسا حاصرا ومحصورا لا يتخلصون منه أبدا. وعن الحسن: بساطا كما يبسط الحصير المنسوج.
ثم لما شرح فعله في حق عباده المخلصين كمحمد ﷺ وموسى عليه السلام وفي حق عبيده العاصين كأكثر بني إسرائيل، وكان في ذلك تنبيه على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته تقتضي كل شر وغرامة، عظم شأن القرآن المبين للأحكام الهادي للأنام فقال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي أي للحالة أو الشريعة أو الطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ وفي حذف الموصوف فخلفه بعرفها أهل البلاغة لعموم الاعتبار وذهاب الوهم كل مذهب. قيل: هذا الشيء أقوم من ذلك. إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة، ثم يكون للأول على الآخر. وكيف يتصور في غير هذا الدين شيء من الاستقامة حتى يستقيم هذا التفضيل؟ وأجيب بأن «أفعل» هاهنا بمعنى الفاعل كقولنا «الله أكبر» هو الكبير. وكقولهم «الناقص والأشج أعدلا بني مروان» أي عادلا بني مروان.
ويمكن أن يقال: لا شيء من الأديان إلا وفيه نوع من الاستقامة كالاعتراف بالله الواجب
327
بالذات، والالتزام لأصول الأخلاق ومكارم العادات وقوانين السياسات إلا أن بعض الخلل أبطل الكل فالكل ينهدم بانهدام الجزء. ثم إن كون القرآن هاديا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح له نتيجة وأثر وذلك هو البشارة بالأجر الكبير لأهل الإيمان والعمل الصالح وبالعذاب الأليم لغيرهم، وأنت خبير بأن لفظ البشارة بمعنى الإنذار يستعمل للتهكم إذ البشارة مطلق الخبر المغير للبشرة فكأنه قيل: ويخبر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن لهم عذابا. ويجوز أن يبشر المؤمنين ببشارتين: إحداهما بثوابهم والأخرى بعذاب أعدائهم. قال في الكشاف: كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ وأجاب على أصول الاعتزال بأن الناس كانوا حينئذ إما من أهل التقوى وإما من أهل الشرك، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك. قلت: هذا الجواب منه عجيب، فإن هذا الصنف لو سلم أنه لم يكن موجودا في ذلك العصر إلا أن حكمه يجب أن يذكر في القرآن الذي فيه أصول الأحكام، على أن ذكر الفساق من الأمة في القرآن المكي والمدني موجودة قال تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: ٣٢] يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٢] وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران: ١٣٥]. وإذا كان ذكرهم في القرآن واردا وأنه تعالى يعدد هاهنا أوصاف القرآن على جهة المدح فأي مقام أدعى إلى ذكر هذا الوصف من هاهنا. والجواب الحق أن الفسقة جعلوا بالعين أهل الإيمان والله أعلم. قيل: هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة. والجواب المنع من الخصوص ولو سلم فإيمانهم بالآخرة كلا إيمان، فبعضهم أنكروا المعاد الجسماني وبعضهم قالوا: لن تمسنا النار إلّا أياما. واعلم أنه سبحانه قال هاهنا: أَجْراً كَبِيراً وفي أول الكهف أَجْراً حَسَناً [الآية:
٢]، رعاية للفاصلة وإلا فالأجر الكبير والأجر الحسن كلاهما الجنة.
ولما بين أن القرآن كاف في الهداية ذكر أن الإنسان قد يعدل عن التمسك بأحكامه فقال: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ أي جنس الكافر. وقد ذكر جمع من المفسرين أنه النضر بن الحرث دعا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الأنفال: ٣٢]، الآية فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته صبرا. وكان بعضهم يقول: ائتنا بعذاب الله، وآخرون متى هذا الوعد جهلا منهم واعتقادا أن محمدا ﷺ كاذب. وقيل: المراد أنه يدعو الله عند غضبه وضجره فيعلن نفسه وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك.
ويروى أنه ﷺ دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئن بالليل فقالت له: مالك تئن؟ فشكا ألم القد فأرخت من كتافه، فلما نامت أخرج يده
328
وهرب. فلما أصبح النبي ﷺ دعا به فأعلم بشأنه فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اقطع يديها فرفعت سودة يديه تتوقع الإجابة وأن يقطع الله يديها قال النبي صلى الله عليه وسلم:
إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلترد سودة يديها.
وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يستعجل بالعذاب مع أنه آتيه أو يتسرع إلى طلبه كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله معتقدا أن خيره فيه وإن كان ذلك عند التأمل مضرا له. وقيل: أراد بهذا الإنسان آدم، وذلك أنه لما انتهى الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى فذهب لينهض فلم يقدر.
وليس هذا القول بالحقيقة مغايرا للأول لأن أصل الآدمي إذا كان كذلك كان كل فرد منه متصفا به لا محالة. قال أهل النظم: لما ذكر نعمة الدين وهو القرآن أردفها بنعمة الدنيا فقال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ وفيه أن القرآن لا يتم المقصود منه إلا بنوعية المحكم والمتشابه، فكذا الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بجزئيه الليل والنهار. فالمحكم كالنهار في وضوحه، والمتشابه بمنزلة الليل في خفائه. وبوجه آخر لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد أكدها بدليل آخر من عجائب الزمان. وبوجه آخر لما وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك فينتقل الهواء من الإنارة إلى الظلام وبالعكس، وينتقل القمر من النقصان إلى الامتلاء وبالضد.
فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ هي من إضافة الشيء إلى نفسه للبيان كقولك «نفس الشيء أو ذاته» أي فمحونا الآية التي هي الليل أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو وَجَعَلْنَا الآية. التي هي النَّهارِ مُبْصِرَةً ذات إبصار وذلك باعتبار من فيها أي تبصر فيها الأشياء وتستبان، أو أريد بالإبصار الإضاءة لأنها سببه. وقيل: المضاف محذوف والتقدير وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية غير بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتتوصلوا ببياض النهار أو بشعاع الشمس المستلزم للنهار إلى التصرف في وجوه معايشكم.
وَلِتَعْلَمُوا باختلاف الجديدين أو بزيادة ضوء القمر ونقصانه عَدَدَ السِّنِينَ الشمسية أو القمرية المركبة من الشهور وَلتعلموا جنس الْحِسابَ المبني على الساعات والأيام والشهور والسنين والأدوار. وقيل: أراد بمحو القمر الكلف الذي في وجهه. وسببه في الشرع ما
روي أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء فأرسل الله تعالى جبريل فأمر جناحه على وجه القمر فأذهب عنه أثر الضياء.
وسببه عند الفلاسفة أنه ارتكز في وجه
329
القمر أجسام قليلة الضوء كارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك، ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان. ونحن قد ذكرنا له وجها آخر في الهيئة، قال أهل التجارب: إن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه لا سيما في أحوال البحار والبحارين على ما يذكره الأطباء، إلا أن الكلف ليس له مدخل في ابتغاء فضل الله وفي معرفة الحسابات تفصيلا. نعم لو قيل: إن الكلف نقص من نور القمر حتى لم يقو على إزالة ظلام الليل بالكلية فبقي في وقت السكون والراحة بحالة ووقت التردد في طلب المعاش بحالة، وصار تعاقب الليل والنهار سببا لمعرفة الأيام وما يتركب منها كان متجها.
ثم قال: وَكُلَّ شَيْءٍ مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بيناه بيانا غير ملتبس حتى انزاحت العلل وزالت الأعذار فلا يهلك من يهلك إلا عن بينة فلذلك قال: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي عمله فِي عُنُقِهِ وبوجه آخر لما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل لابتغاء المعاش وللدعة والراحة ولمعرفة المواقيت، وكان الغرض الأصلي من الكل هو الاشتغال بخدمة المعبود وتهذيب الأفعال وإصلاح الأقوال، ذكر أن الإنسان مؤاخذ في عرصة القيامة بأقواله وأفعاله وسائر أحواله ليظهر أنه هل أتى بما هو المقصود من خلقه أم لا. قال أكثر أهل اللغة: إن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال اعتبروا أحوال الطائر أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه، وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا في الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على ما يسوقهم عملهم إليه من خير أو شر، فإطلاق الطائر على العمل تسمية للنبي باسم لازمه. وقال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ ويقال له البخت. فالطائر ما وقع للشخص في الأزل مما هو نصيبه من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة كأنه طائر يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيرانا لا نهاية له ولا غاية إلا إن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص وفي هذا دليل على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل، والكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية. وإنه سبحانه أكد هذا المعنى بإضافة الإلزام على نفسه ثم بقوله: فِي عُنُقِهِ. يقال: جعلت هذا الأمر في عنقك أي قلدتكه وألزمتك الاحتفاظ به.
فإن كان خيرا يزينه كان كالطوق، وإن كان شرا يشينه كان كالغل. ومن أمثال العرب «تقلدها طوق الحمامة» وَنُخْرِجُ لَهُ من قرأ بالنون فظاهر. وقوله: يَلْقاهُ مَنْشُوراً صفتان للكتاب أو يَلْقاهُ صفة مَنْشُوراً حال من مفعول يلقاه. ومن قرأ بالياء مجهولا
330
أو لازما فالضمير للطائر وكِتاباً حال منه، يقال: لقيت الشيء ولقانيه غيري. عن الحسن: يا ابن آدم بسطت الصحيفة وطويت في قبرك معك، ثم إذا بعثت قلدتها في عنقك اقْرَأْ كِتابَكَ على إضمار القول. قال قتادة: يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئا وبِنَفْسِكَ فاعل كفى وحَسِيباً تمييز بمعنى حاسب وإنه كثير من فعل بالضم كقريب وبعيد، ولكنه من فعل بالفتح غريب، منه ما قال سيبويه: ضريب القداح بمعنى ضاربها، وصريم بمعنى صارم. «وعلى» متعلق بحسيب من قولك حسب عليه كذا، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى الكافي ثم وضع. موضع الشهيد فعدي بعلى لأن الشاهد يكفي المدعي ما أهمه. وذكر حسيبا بمعنى رجلا حسيبا لأنه بمنزلة الشهيد، والغالب أن الشهادة يتولاها الرجال كالقضاء والإمارة والنفس مؤوّل بالشخص، أو حمل «فعيل» بمعنى «فاعل» على «فعيل» بمعنى «مفعول» كقتيل، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب. قال الحسن: عدل الله في حقك من جعلك حسيب نفسك. وقال السدي: يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
وروي أن يؤتى المؤمن يوم القيامة صحيفته وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها، حتى إذا ظن أنها قد أوبقته قال الله تعالى له: فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره ويصير من الذين قال الله في حقهم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس: ٣٨، ٣٩]
قال الحكيم: التكرار يوجب تقرير الآثار، فكل عمل يصدر من الإنسان خيرا أو شرا فإنه يحصل منه في جوهر روحه أثر مخصوص إلا أن ذلك الأثر يخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن مشتغلا بواردات الحواس والقوى، فإذا انقطعت علاقته عن البدن قامت قيامته لأن النفس كأنها كانت ساكنة مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي، فيزول الغطاء وتنكشف الأحوال ويظهر على لوح النفس نقش كل شيء عمله في مدة عمره، وهذا معنى الكتابة والقراءة بحسب العقل، وإنه لا ينافي ما ورد في النقل.
ثم بين أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضده مختص بفاعله لا يتعدى منه إلى غيره فقال: مَنِ اهْتَدى إلى قوله: وِزْرَ أُخْرى. قال الجبائي: فيها دلالة على أن الأطفال لا يعذبون بكفر آبائهم، وأن الوزر والإثم ليس من فعل الله وإلا لم يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره بل كان يجب أن لا وزر أصلا لأن الصبي لا يوصف بالوزر لأنه غير مختار. وجواب الأشاعرة أن الوزر مختص بأفعال المكلفين من الثقلين، وقدحت عائشة
331
بذلك في صحة ما
رواه ابن عمر «إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله» «١»
واستدل به جماعة من الفقهاء في الامتناع من ضرب الدية على العاقلة. ويمكن أن يجاب بأنه ما من عام إلا وقد خصص. أما قوله: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فقد استدل به الأشاعرة في أن وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع لأن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية. أجاب الخصم بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي لأن النبي إذا جاء وادعى المعجزة فهل يجب على المستمع قبول قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب، والثاني باطل بالاتفاق، وعلى الأوّل إن وجب بالعقل فهو المدعي، وإن وجب بالشرع فذلك الشارع إن كان ذلك النبي لزم إثبات الشيء؟؟؟؟، وإن كان غيره دار أو تسلسل. وبوجه آخر إذا أوجب النبي بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى لذلك إلا ترتب العقاب على الترك أو الفعل. ثم إنه يجب على المكلف أن يحترز عن العقاب أو لا يجب لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق، وعلى الأول يلزم الوجوب العقلي وإلا لزم الدور أو التسلسل. ثم إن مذهب أهل السنة جواز العفو عن عقاب الكبيرة فتكون ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب، ولا ذم مع جواز العفو فلم يبق إلا أن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب، ولا يكون هذا الخوف إلا بمحض العقل فثبت أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه. فأما أن تجري الآية على ظاهرها يقال: العقل هو رسول الله إلى الخلق، بل هو الرسول الذي لولا لما تقررت رسالة أحد من الرسل ومجيء الأنبياء كالتنبيه على النظر وكالإيقاظ من رقدة الغفلة والحجة وإن كانت لازمة لهم قبل بعثة الرسل إلا أنها بعد البعثة ألزم. وإما أن يخصص عموم الآية فيقال: المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع. ومما ارتضاه الإمام فخر الدين الرازي أن مجرد العقل سبب في أنه يجب عليها فعل ما ينتفع به وترك ما يستضر به، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله شيء وذلك أنا مجبولين على طلب النفع والاحتراز عن الضرر، والله تعالى منزه عن ذلك. ولقائل أن يقول: إنه سبحانه منزه عن الانتفاع والاستضرار إلا أنه حكيم جواد فلم لا يقبح من الحكيم الجواد ترك ما ينتفع به غيره وفعل ما يستضر به، وإذا قبح منه ذلك حسن منه ضده، والحكيم لا يترك الأحسن. فصدور ذلك الأحسن منه البتة هو
(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٣٢، ٣٣. مسلم في كتاب الجنائز حديث ١٨، ١٩.
الترمذي في كتاب الجنائز باب ٢٥. النسائي في كتاب الجنائز باب ١٤، ١٥. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ٥٤. الموطأ في كتاب الجنائز حديث ٣٧. أحمد في مسنده (١/ ٤٧).
332
الذي لك أن تسميه وجوبا كما وصف به نفسه في قوله: كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [مريم:
٧١] ولكم من آية في القرآن دالة على أن الفعل قد يصدر منه صدورا لا يحتمل النقيض من ذلك قوله: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها.
وللمفسرين في معنى أَمَرْنا
قولان: الأول أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي وعلى هذا اختلفوا في المأمور به، فالأكثرون على أن الطاعة والخير. وقال في الكشاف: معناه وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم بالفسق ففسقوا. ولما كان من أصول الاعتزال أنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ذكر أن الأمر بالفسق هاهنا مجاز، ووجهه أنه صب عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكان إيتاء النعمة سببا لإيثارهم الفسوق على الائتمار فكأنهم مأمورون بذلك. ثم إنه جعل تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا عن قبيل التكاليف بعلم الغيب، ولم يجوّز أن تكون من قبيل «أمرته فعصاني» فإنه يفهم منه أن المأمور به طاعته ولكنه حكم بأنه مثل أمرته فقام أو أمرته فقرأ فإنه لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة. ولقائل أن يقول: كما أن قوله «أمرته فعصاني» يدل على أن المأمور به شيء غير المعصية من حيث إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله: «أمرته ففسق» يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به كما أن كونها معصية ينافي كونها مامورا بها، وهذا ظاهر فلا أدري لم أصرّ جار الله على قوله مع ضعفه ومخالفته أصله. القول الثاني إن معنى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها
أكثرنا فساقها. قال الواحدي: تقول العرب: أمر القوم. إذا كثروا، وأمرهم الله إذا كثرهم، وآمرهم أيضا بالمد واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة
بقوله صلى الله عليه وسلم: «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» «١»
فالسكة النخيل المصطفة، والمهرة المأمورة كثيرة النتاج. وقد حمل بعضهم الحديث على الأمر ضد النهي أي قال الله لها: كوني كثيرة النسل فكانت،
وروي أن رجلا من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أرى أمرك هذا حقيرا. فقال صلى الله عليه وسلم: إنه سيأمر أي سيكثر وسيكبر.
والمترف في اللغة المنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش: فَفَسَقُوا فِيها
خرجوا عما أمرهم الله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
استوجبت العذاب فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أهلكناها على سبيل الاستئصال. قال الأشاعرة: ظاهرة الآية يدل على أنه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء، ثم توسل
(١) رواه أحمد في مسنده (٣/ ٤٦٨).
333
إلى إهلاكهم بهذا الطريق ويؤيده قوله: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي بالكفر ثم التعذيب. وقال الكعبي: إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب كقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: ١١] وقوله: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ فتلك الآيات محكمة وهذه المتشابهات فيجب حمل هذه على تلك.
قال في التفسير الكبير: أحسن الناس كلاما في تأويل هذه الآية القفال فإنه ذكر وجهين: الأول أخبر الله أنه لا يعذب أحدا بما علمه منه ما لم يعمل به أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره حتى يظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه.
ومعنى الآية وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم. الثاني أن نقول: وإذا أردنا إهلاك قوم بسبب ظهور العصيان منهم لم نعالجهم بالعذاب في أوّل ظهور المعصية منهم، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي. وخص المترفين بذلك لأن نعمة الله عليهم أكثر فكان الشكر عليهم أوجب، فإذا لم يرجعوا وأصروا صب عليهم البلاء صبا. وزعم الجبائي أن المراد بالإرادة الدنو والمشارفة كقولك إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة. ليس المعنى أن المريض يريد أن يموت والتاجر يريد أن يفتقر، وإنما عنيت أنه سيصير إلى ذلك، فمعنى الآية وإذا قرب وقت إهلاك قرية. وقد نقلنا مثله عن صاحب الكشاف، ولا يخفى أنه عدول عن الظاهر.
ثم ذكر عادته الجارية مع القرون الخالية فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا ف كَمْ مفعول أَهْلَكْنا ومِنَ الْقُرُونِ بيان لكم وتمييز له أراد بهم عادا وثمود ونحوهما. ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة قائلا وَكَفى بِرَبِّكَ الآية. قال الفراء: إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك «كفاك به» «وأكرم به رجلا» «وطاب بطعامك طعاما» ولا يقال: قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك. وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وإنذار شديد لغيرهم لأن العلم التام مع القدرة الكاملة والحكمة الشاملة يقتضي إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. ثم أكد المعاني المذكورة من قوله: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ومن قوله: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أي المنفعة أو الدار العاجلة عَجَّلْنا لَهُ فِيها ثم قيد المعجل بقيدين: أحدهما قوله: ما نَشاءُ ولهذا ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه.
وثانيهما قوله: لِمَنْ نُرِيدُ وهو بدل من لَهُ بدل البعض من الكل لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو للعموم، ولهذا ترى كثيرا منهم يتمنون البعض اليسير من الدنيا ولا يؤتون فيجتمع عليهم فقر الدنيا وحرمان الآخرة بل عذابها لقوله: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها
334
مَذْمُوماً مَدْحُوراً
مطرودا من رحمة الله. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ بأن يعقد بها همته ويتجافى عن دار الغرور وَسَعى لَها سَعْيَها أي حق السعي لأجلها وذلك أن يكون العمل الذي يتوسل به إلى الفوز بثواب الآخرة من جملة القرب والطاعات وعلى قوانين الشرع والعقل لا البدعة والهوى وَهُوَ مُؤْمِنٌ لأن شيئا من صور الأعمال الصالحة لا يوجب الثواب إلا بعد تقديم الإيمان فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً قال العلماء: الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة: اعتقاد كونه محسنا في تلك الأعمال، والثناء عليه بالقول، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظما عند ذلك الشاكر. والله سبحانه تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة لأنه يعلم كونهم محسنين في تلك الأعمال وأنه يثنى عليهم بكلامه ويعاملهم المعاملات الدالة على كونهم معظمين عند الله.
وفي قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ دون أن يقول: «من أراد العاجلة» كما قال:
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ إشارة إلى أن مريد نفع الدنيا لا يكون مذموما إلا إذا كان غالبا في ذلك ثابت القدم فسيح الأمل، ومريد الآخرة يكون محمودا بأدنى التفاتة بعد وجود الشرط. قالت الأشاعرة: إن مجموع القدرة مع الداعي هو الموجب للفعل ونحن نشكر الله على الإيمان لأنه أعطى القدرة والداعية، ولكنه حين حصل الإيمان للعبد واستتبع السعادات الباقية صار العبد أيضا مشكورا، ولا منافاة بين الأمرين. وقالت المعتزلة: نحن لا نشكر الله على الإيمان لأن المدح على عمل لم يعمله الممدوح قبيح. قال تعالى:
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ولكنا نشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل. واعلم أنه تعالى ذكر صنفين من الناس: قاصد خيرات الدنيا وقاصد خيرات الآخرة. وهاهنا ثلاثة أقسام أخر: الأوّل أن يكون طلب الآخرة في عمله راجحا فقيل إنه غير مقبول أيضا لما
روي أن النبي ﷺ قال حكاية عن رب العزة: «أنا أغنى الأغنياء عن الشكر من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه»
وقيل: يعارض المثل بالمثل ويبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فيقع في حيز القبول. الثاني أن يكون طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين. الثالث أن يكون طلب الدنيا راجحا. واتفقوا على أن هذين القسمين أيضا لا يقبلان إلا أنهما على كل حال خير من الرياء المحض. ثم بين كمال رأفته وشمول رحمته فقال: كُلًّا أي كل واحد من الفريقين نُمِدُّ أي نزيدهم من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع بالمعصية. وقوله: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بدل من كل ومِنْ عَطاءِ رَبِّكَ متعلق ب نُمِدُّ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ممنوعا من المكلف بسبب عصيانه انْظُرْ يا محمد أو يا من له أهلية النظر والاعتبار إلى عطائنا المباح
335
للفريقين في الدنيا كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فأوصلناه إلى مؤمن وقبضناه عن مؤمن آخر، وأوصلناه إلى كافر وقبضناه عن كافر آخر ليكون بعضهم تحت تسخير بعض.
وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا. وقيل: المراد أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين. وعن بعضهم: أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟!.
التأويل:
نزه نفسه بقوله: سُبْحانَ عن الاتحاد الكلي، ولكن أخبر عن مقام وصول حبيبه. فقوله: أَسْرى إشارة إلى الجذبة الخفية عن الأغيار، وقوله بِعَبْدِهِ إشارة إلى مقام تصحيح نسبة العبدية التي هي آخر مقامات السالكين، وقوله: لَيْلًا رمز إلى أن ذلك الجذب كاد يكون خفيا عن المجذوب إذا كان ذاهلا عن أنانيته. وقوله: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هو مقام يحرم فيه الالتفات إلى ما سوى الله. إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو مقام الفناء في الله الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بالبقاء بالله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا التي لم تسمع أذن ولا أبصرت عين إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فلا يصل أحد إليه إلا إذا سمع به وأبصر به. هذا ما خطر ببال هذا الضعيف في تأويل هذه الآية فإن كان صوابا فمن فضل الله وعطائه، وإلا فمني ومن الشيطان فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ الجسدانية بالقتل وفك التركيب وخلال الديار المعنوية حين استولت الصفات الذميمة على الخصال الحميدة لتخريب بيت مقدس القلب ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ باستيلاء داود القلب وقتل جالوت النفس وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ الطاعات وَبَنِينَ الإيمان والإيقان فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ حين ارتد عن الطريقة لِيَسُوؤُا وجوه قلوبكم بحجب سوء أعمالكم وَإِنْ عُدْتُمْ إلى الجهل عُدْنا إلى الفضل، أو وإن عدتم إلى الندم عدنا إلى الكرم، أو إن عدتم إلى العبودية عدنا إلى الربوبية، أو إن عدتم إلى التقربات عدنا إلى الجذبات وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ البشرية ونهار الروحانية فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وهي قمر القلب فني في نور العقل حين تطلع شمس شهود الحق وهي آية النهار، فإذا طلع الصباح استغنى عن المصباح لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وهو تجلي ذاته وصفاته، وقد اختص الإنسان به من بين المخلوقات. وَلِتَعْلَمُوا أيام الطلب وحساب الترقي من مقام إلى مقام وكل شيء يحتاج إليه السالك بيناه بالإشارات مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ فيه أن قلب الإنسان بين أصبعي قهر الرحمن ولطفه وبحسب ذلك
336
يحوّل وجه إلى الدنيا حتى يؤل أمره إلى درجات البعد أو يحوّله إلى الآخرة حتى يصل إلى درجات الوصال والله المستعان على ما تصفون.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٢ الى ٤٠]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١)
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
القراآت:
يبلغان مثنى: حمزة وعلي وخلف أُفٍّ بالجر والتنوين: أبو جعفر ونافع وحفص أف بالفتح: ابن كثير وابن ذكوان وابن عامر وسهل ويعقوب غير مجاهد والمفضل. والباقون بالكسر. تبصطها كل البصط مثل: بَصْطَةً خطأ بفتحتين من غير مد: يزيد وابن ذكوان غير ابن مجاهد خطأ بالفتح ثم السكون: ابن مجاهد عن ابن ذكوان خطاء بالكسر والمد: ابن كثير. الباقون بالكسر ثم السكون فلا تسرف على الخطاب: حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. بِالْقِسْطاسِ مكسور القاف حيث كان: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل.
وقرأ أبو نشيط والشموني غير النقاد بالصاد سَيِّئُهُ على إضافة سيء إلى ضمير كُلُّ:
337
حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر وسهل. الآخرون سيئة علم التأنيث.
الوقوف:
مَخْذُولًا هـ إِحْساناً، ط كَرِيماً هـ صَغِيراً، ط فِي نُفُوسِكُمْ ط غَفُوراً هـ تَبْذِيراً هـ الشَّياطِينِ ط كَفُوراً، مَيْسُوراً هـ مَحْسُوراً هـ وَيَقْدِرُ، ط بَصِيراً هـ إِمْلاقٍ ط وَإِيَّاكُمْ ط كَبِيراً هـ فاحِشَةً ط سَبِيلًا هـ إِلَّا بِالْحَقِّ ط لأن الشرط في أمر قد يقع نادرا خارجا عن النهي. فِي الْقَتْلِ ط مَنْصُوراً هـ أَشُدَّهُ ز بِالْعَهْدِ ج على تقدير فإن. مَسْؤُلًا هـ الْمُسْتَقِيمِ ط تَأْوِيلًا هـ بِهِ عِلْمٌ ط مَسْؤُلًا هـ مَرَحاً ج لاحتمال إضمار الفاء أو اللام طُولًا هـ مَكْرُوهاً هـ الْحِكْمَةِ ط مَدْحُوراً هـ إِناثاً ط عَظِيماً.
التفسير:
لما أجمل أعمال البر في قوله: وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ أخذ في تفصيل ذلك مبتدئا بأشرفها الذي هو التوحيد فقال: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ والخطاب للنبي ﷺ في الظاهر ولكنه في الحقيقة عام للمكلفين، ويحسن أن يقال: إن الخطاب للإنسان كأنه قيل: يا أيها الإنسان لا تجعل أو القول مضمر أي قل لكل مكلف لا تجعل ومما يؤيد ذلك قوله: وَقَضى رَبُّكَ فإن ذلك الخطاب لا يليق بالنبي ﷺ لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده. وانتصب قوله: فَتَقْعُدَ على أنه جواب للنهي والفاء في التحقيق عاطفة والتقدير: لا يكن منك جعل فقعود. وفيه وجوه منها. أن المراد به المكث يقال: ما يصنع فلان فيقال هو قاعد بأسوأ حال أي ماكث سواء كان قائما أو جالسا. ومنها أن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما متفكرا على ما فرط منه، فالقعود على هذا حقيقة. ومنها أنه كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام والعجز عنه يلزمه أن يبقى قاعدا عن الطلب. ومنه أنه بمعنى الصيرورة من قولهم: «شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة» بمعنى صارت. ولا ريب أن المشرك جامع على نفسه الذم والخذلان لأنه بشركه يضيف بعض النعم الحاصلة في حقه من الله إلى غيره فيستوجب الذم بالكفران ويستحق الخذلان من حيث إنه لما فوض أمره إلى الشريك المعدوم أو العاجز الناقص بقي بلا ناصر ومعين. وأيضا الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة، فمثبت الشريك واقع في جانب النقصان فيورثه الذم والخذلان.
ولما ذكر ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال:
وَقَضى رَبُّكَ أي أمر أمرا جزما وحكم حكما قطعا أَلَّا تَعْبُدُوا أي بأن لا تعبدوا
338
ف «أن» ناصبة ويجوز أن تكون مفسرة، والفعل النهي معناه أي لا يعبدوا. وقد روى الضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران عن ابن عباس أنه كان الأصل في هذه الآية «ووصى ربك» وبه قرأ علي وعبد الله فالتصقت الواو بالصاد فقرىء: وَقَضى رَبُّكَ ثم قال: ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع. وضعف هذا القول بأنه يوجب تجويز وقوع التحريف والتصحيف في القرآن. أمر بعبادة نفسه ثم أردفه بالأمر ببر الوالدين وتقدير الكلام بأن تحسنوا بالوالدين أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا، ولا يجوز أن يتعلق الباء في بِالْوالِدَيْنِ بالإحسان على ما ذهب إليه الواحد، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته وقد مر في أوائل البقرة تفسير قوله: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وأنه لم يجعل الإحسان إليهما تاليا لعبادة الله. يحكى أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للفقر والعمى والزمانة.
وقيل لأبي العلاء المعري: ماذا نكتب على قبرك؟ قال: اكتبوا عليه:
هذا ما جناه أبي علي... وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج والولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي... سبقت وصدّت عن نعيم العاجل
ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة... ترمى بهم في موبقات الآجل
وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منّة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعلمي حتى أرتعني في نور العلم، فأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن هنا قيل: «خير الآباء من علمك». وقال العقلاء: وهب أن الوالد في أول الأمر طلب لذة الوقاع إلا أن اهتمامه بإيصال الخيرات إلى الولد ودفع الآفات عنه من أول دخول الولد في الوجود إلى أوان كبره بل إلى آخر عمره لا ينكر ولا يكفر، ولهذا نكر إِحْساناً أي أحسنوا إليهما إحسانا عظيما كاملا جزاء على وفور إحسانهما إليك، على أن البادئ بالبر لا يكافأ لأنه أسبق منه.
ثم فصل طرفا من الإحسان المأمور به فقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» الإبهامية لتأكيد معنى الشرط، ثم أدخلت النون المشددة لزيادة التقرير والتأكيد كأنه قيل: إن هذا الشرط مما سيقع البتة عادة فليكن هذا الجزاء مرتبا عليه وإلا فالتقرير والتأكيد ليس يليق بالشرط الذي مبناه على تردد الحكم. وقال النحويون: إن الشرط أشبه
339
النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت فلهذا صح دخول النون المؤكدة فيه. من قرأ الفعل على التوحيد فقوله: أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فاعل له لكن الأول بالاستقلال والثاني بتبعية العطف، ومن قرأ على التنبيه فأحدهما يدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين، وكلاهما عطف على البدل فهو بدل مثله. ولا يصح أن يكون توكيد للضمير معطوفا على البدل لاستلزام العطف المشاركة دون المباينة. أَوْ كِلاهُما مفرد لفظا مثنى معنى، وألفه عن واو عند الكوفيين وأصله كل المفيد للإحاطة فخفف بحذف إحدى اللامين وزيد ألف التثنية ليعرف أن المراد الإحاطة في المثنى لا في الجمع. وضعف بأنه لو كان كذلك لوجب أن يقال في الخفض والنصب «مررت بكلي الرجلين» بكسر الياء كقوله طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: ١١٤] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف: ٤١] قال في الكشاف: معنى عِنْدَكَ هو أن يكبرا ويعجزا وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه. وفي أُفٍّ لغات: ضم الهمزة مع الحركات في الفاء الثلاث بالتنوين وبدونه.
وأف بكسرتين بلا تنوين. وأ في ممالا كبشرى، وأف كخذ، وأفة منونة وغير ممنونة وقد تتبع المنونة تفة فيقال: أفة وتفة وهي من أسماء الأفعال. وفي تفسيرها وجوه: قال الفراء: تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها أي يقول: أف أف. وقال الأصمعي:
الأف وسخ الأذن، والتف وسخ الأظفار. يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به. وقيل: معنى «أف» القلة من الأفيف وهو الشيء القليل، وتف اتباع له نحو شيطان ليطان وحيث بيث وخبيث نبيث. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأف الضجر. وقال القتيبي: أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله، فالصوت الحاص عند تلك النفخة هو القائل أف، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم، قال الزجاج: معناه النتن وبه فسر مجاهد الآية أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك حين كنت تخر أو تبول. وفي رواية أخرى عن مجاهد: إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف أي لا تقل تضجرت أو أتضجر.
قال بعض الأصوليين: منع التأفيف يدل على المنع من سائر أنواع الأذية دلالة لفظية. ومعنى الآية لا تتعرض لهما بنوع من أنواع الإيذاء والإيحاش كما أن قولك لا يملك فلان نقيرا ولا قطميرا يدل في العرف على أنه لا يملك شيئا أصلا. وقال الأكثرون منهم: إن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن صورة أخرى، فإذا أردنا إلحاق المسكوت عنها بالمنصوص عليها فإما أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكثر القياسات، وإما أن يتساويا
كقوله صلى الله عليه وسلم:
340
«من أعتق نصيبا من عبد حرم عليه الباقي»
فإن الحكم في الأمة والعبد يتساويان. وإما أن يكون الحكم في محل المسكوت أظهر وهو القياس الجلي ومثاله المنع من التأفيف فإنه مغاير للمنع من الضرب عقلا، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكا آخر عدوا له فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته. فهذا معقول في الجملة إلا أن قرينة تعظيم الوالدين صيره من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى، فدل على المنع من جميع أنواع الإيذاء.
ثم أكد هذا المعنى بقوله: وَلا تَنْهَرْهُما والنهر والنهي أخوان يقال: نهره وانتهره وإذا استقبله بكلام يزجره. وَقُلْ لَهُما بدل التأفيف والنهر قَوْلًا كَرِيماً جميلا مشتملا على حسن الأدب ورعاية دقائق المروة والحياء والاحتشام. وقال عمر بن الخطاب القول الكريم أن يقول له: «يا أبتاه» «يا أماه» دون أن يسميهما باسمهما. وقول إبراهيم لأبيه آزر بالضم على النداء، تقديم لحق الله على حق الأبوين. قالوا: ولا بأس به في الغيبة كما قالت عائشة:
نحلني أبو بكر كذا، أو سئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين:
الأول أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحيه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك في حال صغرك. والثاني أن الطائر أذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع وترك الارتفاع. وفي إضافة الجناح إلى الذل وجهان: الأول أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك: «حاتم الجود» فالأصل فيه الجناح الذليل أو الذلول. والثاني سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذل جناحا ثم أثبت لذلك الجناح خفضا كقول لبيد: إذ أصبحت بيد الشمال زمامها. فأثبت للشمال يدا ثم وضع زمام الريح في يد الشمال. وقوله: مِنَ الرَّحْمَةِ في «من» معنى التعليل أي من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها وَلكن قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي ليس المراد رحمة مثل رحمتهما عليّ. وأما الكاف فلاقتران الشيئين في الوجود أي كما وقع تلك فتقع هذه. والتربية التنمية ربا الشيء إذا انتفخ وزاد. قال بعض المفسرين: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:
١١٣] وقيل: مخصوصة لأن التخصيص أولى من النسخ، وقيل: لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة
341
لهما بعد حصول الإيمان. ثم إن ظاهر الأمر للوجوب من غير تكرار فيكفي في العمر مرة واحدة رَبِّ ارْحَمْهُما وسئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه أفي كل يوم مرة أو في كل شهر أو في كل سنة؟ فقال: نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قد قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب: ٥٦]. وكانوا يرون الصلاة عليه في التشهد. وكما قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة: ٢٠٣] فهم يذكرون في أدبار الصلاة. قلت: ويشبه أن يدعو لهما أيضا كلما ذكرهما أو ذكر شيئا من إنعامهما. وسئل أيضا عن الصدقة عن الميت فقال: كل ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع له من الاستغفار، ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين،
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» «١»
وروى سعيد بن المسيب أن البارّ لا يموت ميتة سوء.
وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبويّ بلغا من الكبر أنّى، ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما؟ قال: لا، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما.
وشكا رجل إلى رسول الله ﷺ أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال: إنه كان ضعيفا وأنا قوي، وفقيرا وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئا من مالي.
واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني ويبخل عليّ بماله، فبكى ﷺ وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع ذلك إلا بكى، ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك. مرتين.
وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال: لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر. قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين. قال:
إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها. قال: لقد جازيتها. قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عاتقي. قال: ما جازيتها.
وقال الفقهاء: لا يذهب بأبيه إلى البيعة وإذا بعث إليه واحد منهما ليحمله فعل، ولا يناوله الخمر ويأخذ الإناء منه إذا شرب بها.
ثم قال سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين الصلاح والبر إلى الوالدين ثم فرطت منكم بادرة في حقهما فأنبتم إلى الله واستغفرتم منها وفَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً اللام للعهد كما روي عن سعيد بن جبير هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير، أو للجنس فيشمل كل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج تحته
(١)
رواه الترمذي في كتاب البر باب ٣ بلفظ «.... وسخط الرب في سخط الوالد».
[.....]
342
عن أبي علي الجانويه النائب من جنايته لوروده على أثره. ثم وصى بغير الأبوين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ قيل: الخطاب لرسول الله ﷺ أمره أن يؤتى أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة، وأوجب عليه إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضا من هذين المالين. والأظهر أنه خطاب لكل إنسان كل في قوله: وَقَضى رَبُّكَ وأما الحق المأمور به للأقارب فهو إذا كانوا محارم كالأبوين والولد وكانوا فقراء عاجزين عن الكسب وكان الرجل موسرا أن ينفق عليهم بقدر الحاجة. وعند الشافعي: لا ينفق إلا على الولد والوالدين وإن كانوا مياسير ولم يكونوا محارم كأبناء العم فحقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة على السراء والضراء.
وفي عطف المسكين وابن السبيل على ذي القربى دليل على أن المراد بالحق الحق المالي، وقد تقدم وصف المسكين وابن السبيل في «البقرة» وفي «التوبة». ثم نهى عن التبذير وهو تفريق المال كما يفرق البذر وهو الإسراف المذموم. كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتنفق أموالها في الفخر والسمعة كما ذكروا ذلك في أشعارها فنهوا عن ذلك وأمروا بالإنفاق فيما يقرب إلى الله. قال ابن مسعود: التبذير إنفاق المال في غير حقه.
وعن مجاهد: لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا. ثم بالغ في تفظيع شأن التبذير قائلا: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أمثالهم في الشرارة وأصدقاءهم من حيث إنهم يطيعونهم في الأمر بالإسراف، أوهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً لأنه يستعمل قواه البدنية في المعاصي والإفساد والإضلال، وكذلك من رزقه الله مالا أو جاها فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفورا لنعمة الله.
ثم علم أدبا حسنا في رد السائل إن أفضى الأمر إلى ذلك ضرورة فقال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ
وكان النبي ﷺ إذ سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء.
والقول الميسور الرد بالطريق الأحسن. وقيل: اللين السهل. قال الكسائي: يسرت أيسر له القول أي لينته. وقيل: القول المعروف كقوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ [البقرة: ٢٦٣] وذلك أن القول المتعارف لا يحتاج إلى تكلف. وقيل: ادع لهم بأن يسهل الله عليهم أسباب الرزق أي دعاء فيه يسرة. قال جار الله قوله: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ أما أن يتعلق بجواب الشرط متقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا ابتغاء رحمة من الله تَرْجُوها بسبب رحمتك عليهم، وإما أن يتعلق بالشرط أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فردهم ردا جميلا، فسمى الرزق رحمة وضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له. فالفقد سبب الابتغاء فأطلق
343
المسبب على السبب وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم الإعطاء، فإن من أبى أن يعطى أعرض بوجهه، ولما ذكر أدب المنع ونهى عن التبذير صرح بأدب الإنفاق فقال:
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وهو مثل لغاية الإمساك بحيث يضيق على نفسه وأهله في سلوك سبيل الإنفاق وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي لا توسع في الإنفاق بحيث لا يبقى في يدك شيء. وحين نهى عن طرفي التفريط والإفراط المذمومين بقي الخلق الفاضل المسمى بالجود وهو العدل والوسط، ثم بين غاية استعمال الطرفين قائلا: فَتَقْعُدَ مَلُوماً عند الناس بالبخل مَحْسُوراً بالإسراف أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر. فقير محسور منقطع عن السير. ولا شك أن المال مطية الحوائج والآمال وكثيرا ما يلام الرجل على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة.
وعن جابر: بينا رسول الله ﷺ جالس أتاه صبي فقال: إن أمي تستكسيك درعا فقال صلى الله عليه وسلم: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا. فذهب إلى أمه فقالت له:
قل إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك. فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة فنزلت الآية.
وقيل: أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن فجاء عباس بن مرداس وأنشأ يقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع. وما كان حصن ولا حابس، يفوقان مرادس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما، ومن تضع اليوم لا يرفع. فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل فنزلت.
ثم إنه تعالى سلى نبيه ﷺ بأن الذي يرهقه من الإضافة ليس لهوان منه على الله ولا لبخل به عليه ولكنه تابع لمشيئة الخالق الرازق فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يضيق إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ وبمصالحهم خَبِيراً بَصِيراً فالتفاوت في الأرزاق ليس لأجل البخل ولكن لرعاية الصلاح. ويمكن أن يكون مراد الآية أن البسط الكلي والقبض الكلي من شأن الرب الخبير والبصير وليس للعباد الاقتصاد.
ويحتمل أن يراد أنه تعالى مع غاية قدرته وسعة جوده يراعي أوسط الحالين. فلا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه، فاستنوا بسنته وتخلقوا بأخلاقه. وفي الآية دلالة على أنه هو المتكفل بأرزاق العباد فلذلك قال بعده: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وأيضا لما علم كيفية البر بالوالدين أراد أن يعلم كيفية البر بالأولاد، فبر الآباء مكافأة وبر الأبناء ابتداء اصطناع. وفيه نظام العالم وبقاء النوع الإنساني لأن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو لسوء الظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على
344
البنات فهو سعي في تخريب العالم. والأول ضد التعظيم لأمر الله والثاني ضد الشفقة على خلق الله، ومن رغب عن محبة الولد فكأنه رغب عن جزئه قال:
ولد المرء منه جزء وما حا ل امرئ يودع الثرى منه جزءا
وكانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على القتل والغارة. وأيضا كانوا يخافون أن فقرها ينفر أكفاءها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء وفي ذلك عار شديد، فبين الله سبحانه أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولدا فلهذا قال: أَوْلادَكُمْ وبين أن الخوف من الفقر لا وجه له لأن الله هو الرزاق للكل، وكثيرا ما يكون لابن أخرق من البنت بعد البلوغ، وكلا الصنفين يشتركان في الإنفاق عليهما قبل البلوغ. ولما نهى عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى مثل ذلك ولا أقل من اختلاط النسب فقال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى وهذا آكد من أن يقال «لا تزنوا» ثم علل النهي بقوله: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي خصلة متزايدة في القبح وَساءَ سَبِيلًا سبيله فاستدل القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين بهذا التعليل في الأشياء لا تحسن ولا تقبح لذواتها بل لوجوه عائدة إليها في أنفسها، وأن تكاليف العباد واقعة على وفق مصالحهم في المعاش والمعاد. ومن مفاسد الزنا اختلاط الأنساب وتضييع الأولاد وإهمال تربيتهم؟ فإن الولد إذا لم يكن منسوبا إلى شخص معين لم يكن أحد بالتزام تربيته أولى من الآخرة كذا المرأة التي ولدته إذا لم يوجد سبب شرعي للزاني صارت هي به أولى بالرجل فلا يحصل الألف والمحبة، ولا يتم السكون والازدواج.
ويتواثب كل رجل على كل امرأة أراد بحسب شهوته ومقتضى طبعه، فتهيج بالفسوق الحروب بعد التشبه بالبهائم. وأيضا ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة ولكن المقصود الكلي هو أن تكون شريكة له في ترتيب المنزل وإعداد مهماته والقيام بأمور الأولاد والعبيد، ولن تتم هذه المقاصد إلا إذا كانت مقصورة الهمة على رجل واحد منقطعة الطمع عن غيره. وأيضا الوطء يوجب الذل والعار ولهذا لا يرتكب إلا في الأماكن المستورة وفي الأوقات المعلومة. فاقتصار المرأة على الواحد من الرجال سعي في تقليل ذلك العمل، وكفى في قبح الزنا مرتكبه من الرجال والنساء يستقذره كل عقل سليم وينحط بذلك عن درجة الاعتبار. وقد زعم في التفسير الكبير أنه تعالى وصف الزنا في آية أخرى بكونه مقتا لأن الزانية تصير ممقوتة مكروهة وهو وهم، لأن ذلك قد ورد في أول سورة النساء في نكاح منكوحات الأب قال: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما
345
قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً [النساء: ٢٢]. وإنما نبهناك عليه لئلا يقتدي به غيره في السهو.
ولما فرغ من التكليف بالاحتياط في مبدأ حال الإنسان شرع بالتكليف بالاحتياط في آخر عمره فقال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وفي التصريح بالتحريم بعد النهي تأكيد للخطر. ولا ريب أن الأصل في قتل الإنسان هو التحريم لأنه ضرر، والأصل في المضار الحرمة، ولأن الإنسان خلق للاشتغال بالعبادة وإنه لا يتم إلا بالحياة وكمال البنية، ولكن الحل إنما يثبت لأسباب عرضية فلهذا قال: إِلَّا بِالْحَقِّ وهذا بحمل فبين ذلك الحق بقوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أي تسلطا على استيفاء القصاص. فظاهر الآية دل على أنه لا سبب لحل القتل إلا إذا قتل مظلوما، وظاهر
قوله عليه السلام «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» «١».
يقتضي ضم شيئين آخرين إليه فرعا على القول بتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. ويحتمل أن يقال قوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً. كلام مستأنف، والحديث بتمامه تفسير لقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ فلا يلزم التفريع المذكور. ثم إنه دلت آية أخرى على حصول سبب رابع هو قوله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: ٣٣] وآية أخرى على سبب خامس وهو الكفر الأصلي: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة: ١٩١] هذا وقد أبدى الفقهاء أسبابا أخر منها: أن تارك الصلاة يقتل عند الشافعي دون أبي حنيفة، وكذا اللائط. ومنها الساحر إذا قال: قتلت فلانا بسحري.
وجوز بعضهم قتل من يمنع الزكاة أو يأتي البهيمة، والذين منعوا القتل في هذه الصور قالوا: الأصل حرمة القتل كما بيناه فلا يترك هذا الدليل إلا لمعارض أقوى لا أقل من المساوي وهو النص المتواتر. ثم إنه سبحانه أثبت لوليّ الدم سلطانا. ولم يبين أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فقيل: إنه قال: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ عرف أن تلك السلطنة إنما تحصل في استيفاء القتل. وقيل: معنى قوله: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص وسلطنة استيفاء الدية بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى إلى قوله: فَمَنْ عُفِيَ [البقرة: ١٧٨] الآية. فالأولى به أن لا يقدم على استيفاء القتل
(١) رواه البخاري في كتاب الديات باب ٦. مسلم في كتاب القسامة حديث ٢٥، ٢٦. أبو داود في كتاب الحدود باب ١. الترمذي في كتاب الحدود باب ١٥. النسائي في كتاب التحريم باب ٥، ١١. الدارمي في كتاب السير باب ١١. أحمد في مسنده (١/ ٦١) (٦/ ١٨١).
346
وأن يكتفي بالعفو وأخذ الدية، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص. وعن الشافعي أن التنوين في قوله: مَظْلُوماً للتنكير فيدل على أن المقتول ما لم يكن كاملا في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص، فيعلم منه أن المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك فإن ذنبه غير مغفور كالمشرك، ولأن النصارى قائلون بالتثليث وقد قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥] فثبت أن الذمي غير كامل في المظلومية فلا يندرج في الآية. وأيضا ليس فيها دلالة على أن الحر يقتل بالعبد لأنها وإن كانت عامة إلا أن قوله الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة: ١٧٨] خاص والخاص مقدم على العام. من قرأ فلا تسرف بالتاء الفوقانية فعلى خطاب الولي أو قاتل المظلوم، ومن قرأ على الغيبة فالضمير للولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة الجاهلية. وعن مجاهد أن الضمير الأول للقاتل، أما الضمير في قوله: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً فإما للولي أي حسبه أن الله قد نصره بإيجاب القصاص فلا يستزاد عليه، أو نصره بمعونة السلطان والمؤمنين فلا يتبع ما وراء حقه، وإما للمظلوم فإن الله نصره في الدنيا بإيجاب القصاص على قاتله، وفي الآخرة بإعطاء الثواب. وأما الذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف.
ولما ذكر النهي عن إتلاف النفوس في المبادئ وفيما وراءها أتبعه النهي عن إتلاف الأموال وكان أهمها بالحفظ والرعاية مال اليتيم فقال: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ وهي تثميره وإنماؤه. وروى مجاهد عن ابن عباس: إذا احتاج الولي أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه وإن لم يوسر فلا شيء عليه ويتصرف الولي في مال اليتيم على الوجه المذكور حَتَّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ بأن تكمل قواه العقلية والحسية كما مر في آخر «الأنعام» وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ يتناول كل عهد جري بين إنسانين على وفق الشرع وقانونه في المعاملات والمناكحات وغيرها إلا إذا دلّ دليل خاص على ضده. إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به، أو هو على حذف المضاف والمراد أن صاحب العهد مسؤول أو هو تخييل كأنه يقال للعهد: لم نكثت تبكيتا للناكث كقوله: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ [التكوير: ٨] ثم أمر بإيفاء الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن. والقسطاس بضم القاف وكسرها هو القبان المسمى بالقرسطون. وقيل:
كل ميزان صغير أو كبير والأصح أنه لغة العرب من القسط النصيب المعدل، وقيل رومي أو سرياني ذلِكَ الإيفاء والوزن المعدل خَيْرٌ من التطفيف وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا عاقبة من آل إذا رجع. أما في الدنيا فلانة إذا اشتهر بالاحتراز عن الخيانة مالت القلوب إليه
347
وعول الناس عليه فينفتح عليه أبواب المعاملات، وأما في الآخرة فظاهر. وقال الحكيم:
إن نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد عليه شديد والعار فيه عظيم فيجب على العاقل أن يحترز عنه. ثم أمر بإصلاح اللسان والقلب فقال: وَلا تَقْفُ أي لا تتبع من قولك «قفوت فلانا» أي اتبعت أثره ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت، والقبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوالهم في النسب. والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به، وهذه قضية كلية ولكن المفسرين حملوها على صور مخصوصة فقيل: نهى المشركين عن تقليد أسلافهم في الإلهيات والنبوات والتحليل والتحريم والمعاد كقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم: ٢٣] هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام:
١٤٨] وعن محمد بن الحنيفة: المراد شهادة الزور. ومثله عن ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. وقيل: أراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب. وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه. وقال قتادة: معناه لا تقل سمعت ورأيت وعلمت ولم تسمع ولم تر ولم تعلم.
وقيل: القفو هو البهت وهو في معنى الغيبة لأنه قول يقال في قفاه ومنه
الحديث: «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج» «١»
أي يتوب. وردغة الخبال بفتح الدال وسكونها هي غسالة أهل النار من القيح والصديد.
احتج نفاة القياس بالآية زعما منهم أن الحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم. وأجيب بأن العلم قد يراد به الظن قال تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: ١٠] ولا ريب أنه إنما يمكن العلم بإيمانهن بناء على إقرارهن، وإنه لا يفيد إلا الظن. سلمنا لكن الظن وقع في الطريق لأن الشرع قد أقام الظن الغالب مقام العلم وأمر بالعمل به، وزيف بأنه لا دليل قاطعا على وجوب العمل بالظن الغالب لأن ذلك الدليل ليس عقليا بالاتفاق، ولا نقليا لأنه إنما يكون قطعيا لو كان منقولا نقلا متواترا وكانت دلالته على ثبوت هذا الطلب دلالة قطعية غير محتملة للنقيض، ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولم يبق خلاف، ونوقض بأن الدليل الذي عولتم عليه- وهو هذه الآية- تمسك بعام مخصوص للاتفاق على أن العمل بالشهادة عمل بالظن وهو جائز. وكذا الاجتهاد في القبلة وفي قيم المتلفات وأروش الجنايات، وكذا الفصد
(١) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٨٢).
348
والحجامة وسائر المعالجات، وكذا الحكم بكون الشخص المعين كالذبائح مؤمنا لتحل ذبيحته، أو الوارث لحصول التوارث، أو الميت ليدفن في مقابر المسلمين. وبالحقيقة أكثر الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المعينة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة.
وقال صلى الله عليه وسلم: نحن نحكم بالظاهر.
والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن. فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لزم أن لا يجوز التمسك بهذه الآية، وكل ما يفضي ثبوته إلى نفيه يسقط الاستدلال به. وأجيب بأنا نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد ﷺ أن التمسك بآيات القرآن جائز. ورد بأن كون العالم المخصص حجة غير معلوم بالتواتر، ثم علل النهي بقوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ إشارة إلى الأعضاء الثلاثة وإن لم تكن من ذوات العقول كقوله: والعيش بعد أولئك الأيام. كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا قال في الكشاف: عَنْهُ في موضع الرفع بالفاعلية مثل غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:
٧] وفيه نظر لأن المسند إليه الفعل أو شبهه لا يتقدم عليه. والصواب أن يقال: إنه فاعل مَسْؤُلًا المحذوف والثاني مفسر له. وكيف يسأل عن هذه الجوارح؟ قيل: يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات والمستعمل لها هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخيرات استحق الثواب وإلا فالعقاب. وقيل: إنه تعالى ينطق الأعضاء ثم يسألها عن أفعالها. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً نصب على الحال مع أنه مصدر أي ذا مرح وهو شدة الفرح. وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع من التأكيد مثل «أتاني ركضا» ونهي عن مشية أهل الخيلاء والكبر. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تثقبها بشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول، أو تمييز، أو مفعول له، أو مصدر من معنى تبلغ. بيّن ضعف الآدمي بأنه في حال انخفاضه لا يقدر على خرق الأرض، وحال ارتفاعه لا يقدر على الوصول إلى رؤوس الجبال، فلا يليق به أن يتكبر.
وبوجه آخر كأنه قيل له: إنك خلق ضعيف محصور بين حجارة من فوقك وتراب من تحتك، فلا تفعل فعل المقتدر القوي. وقيل: إنه مثل ومعناه: كما أنك لن تخرق الأرض في مشيتك ولن تبلغ الجبال طولا فكذلك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك وفيه يأس للإنسان من بلوغ إرادته.
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ من قرأ بالإضافة فظاهر لأن المذكور من قوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بعضها أحسن وهو المأمورات وبعضها سيىء وهو المنهيات، فالمعنى أن ما كان من تلك الأشياء سيئا فإنه مكروه عند الله. ويمكن أن يراد بسيىء تلك الخصال طرف الإفراط أو التفريط. ومن قرأ سَيِّئُهُ على التأنيث فقوله: كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى
349
المنهيات خاصة. وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وقوله: كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى ما نهى عنه في قوله: وَلا تَقْفُ وَلا تَمْشِ وإنما قال: سيئة على التأنيث مع قوله: مَكْرُوهاً على التذكير لأنه جعل السيئة في معنى الذنب والإثم. قالت المعتزلة: الكراهة نقض الإرادة ففي الآية دلالة على أن المنهيات لا تكون مرادة لله تعالى لأنها مكروهة عنده. وإذا لم تكن مرادة لم تكن مخلوقة له لأن الخلق بدون الإرادة محال. أجابت الأشاعرة بأن المراد من كراهتها كونها منهيا عنها، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع لزوم التكرار لأن كونها سيئة يدل على كونها منهية. وأجيب بأنه لا بأس بالتكرار لأجل التأكيد ذلِكَ الذي ذكر من قوله: لا تَجْعَلْ إلى هذه الغاية وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفا مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ سمي حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. روي عن ابن عباس أنها كانت في ألواح موسى عليه السلام. وباصطلاح الحكماء أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به. لا ريب أن الأمر بالتوحيد رأس الحكمة النظرية وسائر التكاليف مشتملة على أصول مكارم الأخلاق وهي الحكمة العملية، ولقد جعل الله سبحانه فاتحة هذه التكاليف النهي عن الشرك وكذا خاتمتها لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن فقده لم ينفعه شيء من العلوم وإن بذ فيها الأقران والأكفاء وحك بيافوخه السماء. وقد راعى في هذا التكرار دقيقة فرتب على الأول كونه مذموما مخذولا وذلك إشارة إلى حال المشرك في الدنيا، ورتب على الثاني أنه يلقى في جهنم ملوما مدحورا وأنها حاله في الآخرة. وفي القعود هناك والإلقاء هاهنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة والله أعلم بمراده. وقد يفرق بين الذم واللوم فيقال: الذم هو أن يذكر أن الفعل الذي قدم عليه قبيح منكر، واللوم هو أن يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت من هذا العمل إلّا إلحاق الضرر بنفسك. ويفرق بين المخذول والمدحور بأن المخذول عبارة عن الضعيف يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت. والمدحور والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة.
ثم أنكر على المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله فقال: أَفَأَصْفاكُمْ أي أفخصكم رَبُّكُمْ على وجه الخلوص والصفاء بِالْبَنِينَ الذين هم أفضل الأولاد وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ أولادا إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بإضافة الأولاد إلى من لا يصح له الولد لقدمه وتنزهه عن صفات الأجسام، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون وهذا خلاف معقولكم وعادتكم فإن العبيد لا
350
يؤثرون بالأجود والأصفى والسادة بالأدون والأردإ، ثم بجعلكم الملائكة الذين هم أعلى خلق الله على الإطلاق أو التقييد على المذهبين أخس الصنفين وهو الإناث.
التأويل:
خاطب نبيه ﷺ ليقطع تعلقه عن الكونين من بين الثقلين فقال: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ من الدنيا والآخرة، ثم شرف أمته بتبعيته قائلا:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وإنما قال: رَبُّكَ لأنه أصل في التربية والأمة تبع له، فمن حكم في الأزل أنه لا يعبد غير الله لم يعبد غير الله وَبِالْوالِدَيْنِ والد الروح ووالدة البدن. والإحسان بهما أن يراقبهما في العبودية ليعبد الله كأنهما يريانه إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ يخاطب القلب ويوصيه بأن يواسي والد الروح عند كبره وهو بلوغه أعلى مراتب القرب وعجزه عند سطوات تجلي صفات الألوهية، ويداري والدة البدن حينئذ فلا يستعملها عند العجز وَلا تَنْهَرْهُما عند الاستراحة وأرفق بهما عند استعمالهما في العبودية ولا تتكبر عليهما فإنك أخذت التربية منهما لأن القلب طفل تولد بازدواج الروح والبدن، وقد وجد التربية منهما صورة ومعنى إلى أن صار قابلا للتجلي والخلافة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من الاستعداد إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ مستعدين للخلافة فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ الراجعين من أنانيته إلى هويته دون من كان مقيدا بنفسه غَفُوراً سائرا بأنوار جماله. ثم أخبر عن آداب الخلافة قائلا وَآتِ ذَا الْقُرْبى وهو النفس حقه فإن لنفسك عليك حقا من غير إسراف وتقتير.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤١ الى ٦٠]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥)
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠)
أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
351
القراآت:
لِيَذَّكَّرُوا من الذكر وكذلك في «الفرقان» : حمزة وعلي وخلف.
الآخرون بتشديد الذال والكاف من التذكر. كَما يَقُولُونَ على الغيبة: ابن كثير وحفص عما تقولون على الخطاب: حمزة وعلي وخلف. تُسَبِّحُ بتاء التأنيث: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل والخزاز عن هبيرة. الآخرون على التذكير أَإِذا أَإِنَّا القول فيه كما مر في «الرعد» وكذلك في آخر هذه السورة وفي سورة «قد أفلح» وفي سورة السجدة.
الوقوف:
لِيَذَّكَّرُوا ط نُفُوراً هـ سَبِيلًا هـ كَبِيراً هـ فِيهِنَّ ط تَسْبِيحَهُمْ ط غَفُوراً هـ مَسْتُوراً لا للعطف وَقْراً ط نُفُوراً ط مَسْحُوراً هـ سَبِيلًا هـ جَدِيداً هـ حَدِيداً لا صُدُورِكُمْ ج للفاء مع أن السين للاستئناف يُعِيدُنا ط أَوَّلَ مَرَّةٍ ج لما قلنا مَتى هُوَ ط قَرِيباً هـ قَلِيلًا هـ أَحْسَنُ ط بَيْنَهُمْ ط مُبِيناً هـ أَعْلَمُ بِكُمْ هـ يُعَذِّبْكُمْ ط وَكِيلًا ط وَالْأَرْضِ ط زَبُوراً هـ شَدِيداً ط هـ مَسْطُوراً هـ الْأَوَّلُونَ ط لأن الواو للاستئناف فَظَلَمُوا بِها ط تَخْوِيفاً هـ بِالنَّاسِ ط فِي الْقُرْآنِ ط الكل لما مر.
وَنُخَوِّفُهُمْ لا لصحة عطف المستقبل على المستقبل كَبِيراً هـ.
التفسير:
لما بين أنواع الحكم ومكارم الأخلاق ذكر غاية مظلومية الإنسان وجهوليته فقال: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي بينا أحسن بيان لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع ومن مثال إلى مثال حتى ينتهي به إلى ما هو مراده من الإيضاح. ومفعول التصريف متروك أي أوقعنا التصريف فِي هذَا الْقُرْآنِ أو محذوف للعمل به والمراد
352
صرفنا فيه ضروبا مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وأراد بهذا القرآن إبطال إضافتهم البنات إلى الله لأنه مما كرر ذكره، والمقصود ولقد صرفنا القول في هذا المعنى. وقيل: لفظة «في» زائدة كقوله وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي [الأحقاف: ١٥] قال الجبائي: في قوله: لِيَذَّكَّرُوا دلالة على أنه أراد منهم فهمها والإيمان بها. والمراد بالذكر هاهنا فيمن قرأ مخففا هو التذكر والتأمل لا الذكر الذي هو نقيض النسيان. وقالت الأشاعرة: قوله: وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً دلت على عكس ذلك لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سببا لعسره وتعذره والنفرة عنه يقبح منه الأمر بذلك الفعل. ولما أخبر أن هذا التصريف يزيدهم نفورا علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم. عن سفيان الثوري أنه كان إذا قرأها قال:
زادني ذلك خضوعا ما زاد أعداءك نفورا. ثم دل على التوحيد الذي أمر به في قوله: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فقال: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي كما يقول المشركون من إثبات آلهة من دونه أو كما تقولون أيها المشركون. وفي قوله إِذاً دلالة على أن ما بعدها وهو لَابْتَغَوْا جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل «لو» قاله في الكشاف. قلت: ولعل إِذاً هاهنا ظرف لما دل عليه لَابْتَغَوْا أي لطلبوا إذ ذاك إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم ببعض ومثله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] ويسمى في عرف المتكلمين دليل التمانع وسيجيء بحثه في سورة الأنبياء إن شاء الله العزيز. وقيل: معنى الآية لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها المراتب العالية والدرجات الرفيعة، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلا إلى الله فكيف يعقل أن تهديكم إلى الله. ثم نزه نفسه عن أقوالهم فقال سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً فوضع الثلاثي وهو العلوّ موضع المتشعبة وهو التعالي كقوله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] ثم وصف العلو بالكبر مبالغة في النزاهة وتنبيها على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين الغني المطلق والفقير المطلق مباينة لا تعقل الزيادة عليها.
ثم بين غاية ملكه ونهاية عظمته بقوله: تُسَبِّحُ لَهُ الآية: قالت العقلاء: تسبيح الحي المكلف يكون تارة باللسان بأن يقول «سبحان الله» وأخرى بدلالة أحواله على وجود الصانع الحكيم، وتسبيح غيره لا يكون إلا من القبيل الثاني. وقد تقرر في أصول الفقه أن اللفظ المشترك لا يحمل على معنييه معا في حالة واحدة فتعين حمل التسبيح هاهنا على المعنى الثاني ليشمل الكل هذا ما عليه المحققون. وأورد عليه أنه لو كان المراد بالتسبيح ما ذكرتم لم يقل وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ لأن التسبيح بهذا الوجه مفقوه معلوم.
353
وأجيب بأن دلالة كل شيء على وجود الصانع معلومة على الإجمال دون التفصيل لأنك إذا أخذت تفاحة واحدة فلا شك أنها مركبة من أجزاء لا تتجزأ، ولكن عدد تلك الأجزاء وصفة كل منها من الطبع والطعم واللون والحيز والجهة وغيرها لا يعلمها إلا الله. وأيضا الخطاب للمشركين، وإنهم وإن كانوا مقرين بالخالق، إلا أنهم لما أثبتوا له شريكا وأنكروا قدرته على البعث والإعادة ولم ينظروا في المعجزات الدالة على نبوة محمد ﷺ فكأنهم لم يفقهوا التسبيح إذ لم يتوسلوا به إلى نتيجة النظر الصحيح ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم، وزعم بعض الظاهريين أن ما سوى الحي المكلف يسبح الله باللسان أيضا كل بلغته ولسانه الذي لا نعرفه نحن ولا نفقهه. وزعم أيضا أن الحيوان إذا ذبح لا يسبح وكذا غصن الشجرة إذا كسر، فأورد عليه أن كونه جمادا لا يمنع من كونه مسبحا فكيف صار ذبح الحيوان مانعا له عن التسبيح. وكذا كسر الغصن، ويمكن أن يجاب بأن تسبيح كل شيء لعله يختص بتركيبه الذي خلق عليه فإذا أبطل ذلك التركيب وفك ذلك النظم لم يبق مسبحا مطلقا ولا على ذلك النحو. واعترض عليه أيضا بأنه إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله سبحانه وبصفاته مسبحة له مع أنها ليس بأحياء انسدّ علينا باب العلم بكونه تعالى حيا لأنا نستدل بكونه عالما قادرا على كونه حيا. ويمكن أن يجاب بأنا نستدل على حياته تعالى بالإذن الشرعي، ولو سلم أن العلم يستلزم الحياة عقلا فقد قيل: إن لكل موجود حياة تليق به.
ولما فرغ من الإلهيات شرع في النبوّات فقال: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ قيل: نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله ﷺ إذا قرأ القرآن عليهم.
يروى أنه كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. وعن أسماء. كان رسول الله ﷺ جالسا ومعه أبو بكر إذا أقبلت امرأة أبي لهب ومعها حجر فهر تريد الرسول ﷺ وهي تقول:
مذمما أتينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا. فقال أبو بكر: يا رسول الله إن معها حجرا أخشى عليك. فتلا رسول الله ﷺ هذه الآيات. فجاءت وما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت: إن قريشا قد علمت أني ابنة سيدها وإن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: ورب هذه الكعبة ما هجاك.
وعن ابن عباس: أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون الرسول ﷺ ويسمعون حديثه. فقال النضر يوما: ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحركان بشيء. وقال أبو سفيان: إني
354
أرى بعض ما يقوله حقا. وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو لهب: كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر نزلت.
وكان رسول الله ﷺ إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات وهن في سورة الكهف جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الآية: ٥٧] وفي النحل: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية: ١٠٨] وفي «حم الجاثية» أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الآية: ٢٣].
وكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وذلك قوله: جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً أي ذا ستر وقد جاء مفعول بمعنى ذا كذا كما جاء فاعل على ذلك كثيرا نحو «لابن وتامر» من ذلك قولهم «رجل مرطوب» أي ذو رطوبة، و «مكان مهول» و «ذهول» و «سبل مفعم» ذو إفعام. وجوّز الأخفش مجيء مفعول بمعنى فاعل مثل «مشؤوم» و «ميمون». وقيل: إنه حجاب يخلقه الله في عيونهم بحيث يمنعهم الحجاب عن رؤية النبي ﷺ وذلك الحجاب شيء لا يراه أحد فهو مستور. وعلى هذا يصح قول الأشاعرة إنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة والمرئي حاضرا والرؤية غير حاصلة لأجل أنه تعالى يخلق في العيون شيئا يمنعهم من الرؤية، ويحتمل أن يراد حجاب من دونه حجاب أو حجب فهو مستور بغيره أو حجاب يستر أن يبصر فكيف يبصر المحتجب به. والقول الثاني في الآية أن المراد بالحجاب الطبع والختم فاستدلت الأشاعرة به وبقوله: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ [الأنعام: ٢٥] الآية. على صحة مذهبهم في خلق الكفر والإيمان كما مر في سورة الأنعام في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا [الأنعام: ٣٥]. وأجاب الجبائي بأن المراد أنهم يطلبون موضعه بالليالي ليقتلوه ويستدلون عليه باستماع قراءته فأمنه الله من شرهم بأن جعل في قلوبهم ما شغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما منعهم عن سماع صوته. وقال الكعبي: أراد به التخلية والخذلان كالسيد إذا لم يراقب حال عبده فساءت أخلاق العبد يقول: أنا ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني لم يراقب حال عبده فساءت أخلاق العبد يقول: أنا ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك ورأيك. وقال جار الله: هذه حكاية لما كانوا يقولونه من قولهم قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب. ومن قبائح أهل الشرك أنهم كانوا يحبون أن تذكر آلهتهم كلما ذكر الله فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا وانهزموا عن المجلس فلذلك قال تعالى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وهو مصدر سدّ مسد الحال والتقدير يحد وحده مثل «وأرسلها العراك» وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً مصدر من غير لفظ التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود فأوعدهم الله على ذلك بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ من الهزء بك وبالقرآن. قاتل جار الله بِهِ في موضع الحال كما تقول يستمعون
355
بالهزء أي مصاحبين الهزء أو هازئين وإِذْ يَسْتَمِعُونَ نصب بما دل عليه أعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وَإِذْ هُمْ نَجْوى أي يتناجون به إذ هم ذوو نجوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ «إذ» بدل من «إذ هم» إِنْ تَتَّبِعُونَ أي على تقدير الإتباع لأنهم لم يتبعوا رسول الله إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً سحر فاختلط عقله وزال على حد الاعتدال. وقيل:
المسحور الذي أفسد من قولهم «طعام مسحور» إذا أفسد عمله «أرض مسحورة» أصابها من المطر أكثر مما ينبعي فأفسدها. وقال مجاهد مَسْحُوراً مخدوعا لأن السحر حيلة وخديعة، زعموا أن محمدا يتعلم من بعض الناس وأولئك الناس كانوا يخدعونه بهذه الحكايات، أو زعموا أن الشيطان يخدعه فيتمثل له بصورة الملك. وقال أبو عبيدة: يريد بشرا ذا سحر وهو الرئة. قال ابن قتيبة: لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستنكر مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ شبهك كل منهم بشيء آخر فقالوا: إنه كاهن وشاعر وساحر ومعلم ومجنون فَضَلُّوا في جميع ذلك عن طريق الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى والبيان ضلال من تحير في التيه الذي لا منار به.
وحين فرغ من شبهات القوم في النبوّات حكى شبهتهم في أمر المعاد. وأيضا لما ذكر أن القوم وصفوه بأنه مسحور فاسد العقل ذكر ما كان في زعمهم دالا على اختلاط العقل وهو دعوى الإنسان أنه يصير حيا بعد أن كان عظاما أو رفاتا، والرفات الأجزاء المفتتة من كل شيء ينكسر وهو اسم كالرضاض والفتات ويقال منه: رفت عظام الجزور رفتا إذا كسرها. وتقرير الشبهة أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع؟ فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بأن إعادة بدن الميت إلى حالة الحياة أمر ممكن، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي وغضاضته ومن جنس ما ركب منه البشر كالحجارة أو الحديد فهو كقول القائل: أتطمع فيّ وأنا فلان؟ فيقول: كن ابن الخليفة أو من شئت فسأطلب منك حقي.
أما قوله: خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. فالمراد فرضوا شيئا آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث تستبعد عقولكم كونه قابلا لوصف الحياة، وعلى هذا لا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء. وقال مجاهد: أراد به السموات والأرض. وعن ابن عباس أنه الموت أي لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله يعيد الحياة إليها. وهذا إنما يحسن على سبيل المبالغة كما يقال: هو روح مجسم أو وجود محض. وإلا فالموت عرض وانقلاب
356
الجسم عرضا محال. وبتقدير التسليم فالموت كيف يقبل الحياة لأن الضد يمتنع أن يقبل الضد. وفي قوله: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بيان كاف وبرهان شاف لأنه لما سلم أن خالق الحيوان هو الله فتلك الأجسام في الجملة قابلة للحياة والعقل وإله العالم عالم بجميع الجزئيات والكليات فلا يشتبه عليه أجزاء بدن كل من الأموات، وإذا قدر على جعلها متصفة بالحياة في أول الأمر فلأن يقدر على إعادتها إلى الحياة في ثاني الحال أولى. ألزمهم أوّلا بأن البعث أمر ممكن وإن فرضتم بدن الميت أي شيء أردتم فكأنهم سلموا إمكانه ولكن تجاهلوا وتغافلوا عن تعيين المعيد فقالوا: مَنْ يُعِيدُنا فأجاب بأنه الفاطر الأول. ثم زادوا في الاعتراض فسألوا عن تعيين الوقت يقينا وذلك قوله:
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي فسيحركونها نحوك تعجبا واستهزاء. قال أبو الهيثم: يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إلى فوق وإلى أسفل إنكارا له أنغض رأسه. قال المفسرون «عسى» من الله واجب فعلم منه قرب وقت البعث، ولكن وقته على التعيين مما استأثر الله بعلمه. لا يقال كيف يكون قريبا وقد انقرض أكثر من سبعمائة سنة ولم يظهر لأنا نقول: كل ما هو آت قريب، وإذا كان ما مضى أكثر مما بقي فإن الباقي قليل. قوله:
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ منتصب باذكروا والمراد يوم يدعوكم كان ما كان، أو هو بدل من قَرِيباً والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة.
يروى أن إسرافيل ينادي: أيها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت.
والاستجابة موافقة الداعي فبما دعا إليه وهي مثل الإجابة بزيادة تأكيد لما في السين من طلب الموافقة، قال في الكشاف: الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز، والمعنى يوم يبعثكم فتبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون.
وقوله: بِحَمْدِهِ حال منهم أي حامدين وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بأمر يشق عليه: ستأتي به وأنت حامد شاكر أي متهيء إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفى منك بذلك العمل، وهذا يذكر في معرض التهديد. وقال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك. وقال قتادة: بحمده أي بمعرفته وطاعته لأن التسبيح والتحميد معرفة وطاعة ومن هنا قال بعضهم: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال آخرون: الخطاب مختص بالمؤمنين لأنهم الذين يليق بهم الحمد لله على إحسانه إليهم وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا عن قتادة: تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة ومثله قول الحسن: معناه تقريب
357
وقت البعث وكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل. وقال ابن عباس: يريد ما بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزول عنهم هول العذاب في ذلك الوقت. وقيل: أراد استقصار لبثهم في عرصة القيامة حين عاينوا هول النار. ثم أمر المؤمنين بالرفق والتدرج عند إيراد الحجة على المخالفين فقال: وَقُلْ لِعِبادِي أي المؤمنين لأن لفظ العباد يختص بهم في أكثر القرآن فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ [الزمر: ١٧] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الدهر: ٦]، فَادْخُلِي فِي عِبادِي [البقرة: ٢٩]، يَقُولُوا الكلمة أو الحجة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وألين وهي أن لا تكون مخلوطة بالسب واللعن والغلظة. ثم نبه على وجه المنفعة بهذا الطريق فقال: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي بين الفريقين جميعا فيزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود. ثم قال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أيها المؤمنون بالإنجاء من كفار مكة إيذائهم أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بتسليطهم عليكم وَما أَرْسَلْناكَ يا محمد عليهم وكيلا أي حافظا موكولا إليك أمرهم إنما أنت بشير ونذير. والهداية إلى الله.
وقال جار الله: الكلمة التي هي أحسن مفسرة بقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إلى آخره أي قولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم إنكم من أهل النار، وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يزيد غيظهم. وقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ اعتراض. وقيل: المراد بالعباد الكفار أي قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عباد إلي يقولوا الكلمة التي هي أحسن وهي كلمة التوحيد والبراءة من الشركاء والأضداد، لأن ذلك أحسن بالبديهة من الإشراك.
ووصفه بالقدرة على الحشر أحسن من وصفه بالعجز عنه، والحامل على مثل هذه العقائد هو الشيطان المعادي. ثم قال لهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بتوفيق الهداية، وإن يشأ يعذبكم بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فلا تقصروا في الجد والطلب. ثم قال لرسوله: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا حتى تقسرهم على الإسلام وما عليك إلا البلاغ على سبيل الرفق والمداراة وهذا قبل نزول آية السيف. وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب شتمه رجل فأمره الله بالعفو.
وقيل: أفرط إيذاء المشركين للمسلمين فشكوا إلى رسول الله ﷺ فنزلت.
وحين قال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ عمم الحكم فقال: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات وبما يليق بكل منها وبذلك حصل التمايز والتفاضل كما قال: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وفيه رد على أهل مكة في إنكارهم أن يكون يتيم أبي طالب مفضلا على الخلائق ونبيا دون صناديد قريش
358
وأكابرهم. وأنما ختم الآية بقوله: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ليعلم أن التفضيل ليس بالمال والملك وإنما هو بالعلم والدين فإن داود كان ملكا عظيما ولم يذكره الله سبحانه إلا بمزية إيتاء الكتاب. وفيه أيضا إشارة إلى أن محمدا ﷺ خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم بدليل قوله:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: ١٠٥] أي محمد وأمته. ومعنى التنكير في «زبور» أنه كامل في كونه كتابا. والزبور وزبور كالعباس وعباس والحسن وحسن، أو المراد بعض الزبر أو الزبور كما يسمى بعض القرآن قرآنا. وقيل:
إن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدال بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات، وكانت اليهود تقول: إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة، فنقض الله كلامهم بإنزال الزبور على داود بعد موسى.
ثم رد على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة، أو على طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بإلهية عيسى ومريم وعزير فقال: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ وقيل: أراد بالذين زعمتم نفرا من الجن عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا. وإنما خصصت الآية بإحدى هؤلاء الطوائف لأن قوله بعد ذلك يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ لا يليق بالجمادات. قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم فهو بمعنى الكذب. وتقرير الرد أن المعبود الحق هو الذي قدر على إزالة الضر وتحويله من حال إلى حال أو مكان إلى مكان، وهذه التي زعمتم أنها آلهية لا تقدر على شيء من ذلك فوجب القطع بأنها ليست بآلهة. سؤال: ما الدليل على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر؟ فإن قلتم لأنا نرى أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها ولا تحصل الإجابة قلنا: إن المسلمين أيضا يتضرعون إلى الله ولا يجابون، وبتقدير الإجابة في بعض الأوقات فالكفار أيضا يحصل مطلوبهم أحيانا فيقولون إنه من الملائكة.
جوابه أن الملائكة مقرّون بأن الإله الأعظم خالق العالم، فكمال قدرته معلوم متفق عليه وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله قليلة حقيرة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الإله الأعظم أولى وأجدر أخذا بالمعلوم المتيقن دون المظنون الموهوم. على أن أهل السنة قاطعون بأنه لا تأثير لشيء في الوجود إلا لله تعالى. يقول مؤلف هذا التفسير: أضعف عباد الله تعالى وأحوجهم إليه الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاه وأخراه. رأيت
في بعض الكتب مرويا عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: من وقع في ملمة أو طلب كفاية مهم فليسجد في خلوة وليقل في سجدته إلهي أنت الذي قلت: قُلِ
359
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا
فيا من يملك كشف الضر عنا وتحويله اكشف ما بي، فإنه إذا قال ذلك كشف الله عنه ضره وكفى مهمه.
وقد جرب فوجد كذلك.
ثم إنه تعالى أكد عدم اقتدار معبوديهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله تعالى في جذب المنافع ودفع المضار فقال: أُولئِكَ وهو مبتدأ والَّذِينَ يَدْعُونَ صفته ويَبْتَغُونَ خبره يعني أولئك المعبودين يطلبون إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أي القربة في الحوائج وأَيُّهُمْ بدل من واو ويَبْتَغُونَ وهو موصول وصدر صلته محذوف أي يبتغي من هو أقرب الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟ والدليل على هذا الافتقار إقرار جميع الكفار بإمكانهم الذاتي وجوز في الكشاف أن يضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل:
يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله وذلك بازدياد الخير والطاعة والصلاح، ويرجون ويخافون كغيرهم من العباد. وقيل: أولئك الذين يدعون هم الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله: لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ أي الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء الداعون للأمم إلى الله، لا يعبدون إلا الله ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه فأنتم أحق بالعبادة. واحتج هذا القائل على صحة قوله بأن الله تعالى قال: يَخافُونَ عَذابَهُ والملائكة لا يعصون الله فكيف يخافون عذابه؟ وأجيب بأنهم يخافون عذابه لو أقدموا على الذنب لقوله: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: ٢٩]، إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً أي حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلا عن غيرهم، فإن لم يحذره بعض الجهلة فإنه لا يخرج من كونه واجب الحذر. ثم بين مآل حال الدنيا وأهلها فقال: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالموت والاستئصال أَوْ مُعَذِّبُوها بالقتل وأنواع العذاب كالسبي والاغتنام. وقيل: الهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ وهو اللوح المخفوظ مَسْطُوراً فلا يوجد له تبديل قط.
ثم ذكر نوعا آخر من سننه فقال: وَما مَنَعَنا استعار المنع للترك من أجل لزوم خلاف الحكمة والمشيئة. عن سعيد بن جبير أن كفار قريش اقترحوا منه آيات باهرة كإحياء الموتى ونحوه.
وعن ابن عباس أنهم سألوا الرسول أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي، فطلب النبي ﷺ من الله تعالى ذلك فقال: إن شئت فعلت لكنهم إن كفروا بعد ذلك أهلكتهم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
لا أريد ذلك وأنزل الله الآية.
والمعنى وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من
360
الآيات إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا عذاب الاستئصال على ما أجرى الله تعالى به عادته. والحاصل أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعث إليهم إلى يوم القيامة، ويحتمل أن يراد أنهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون البتة كما لم يؤمنوا فيكون إرسال الآيات ضائعا. ثم استشهد عى ما ذكر بقصة صالح وناقته لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة يبصرها صادرهم وواردهم وهذا معنى قوله مُبْصِرَةً أو المراد حال كون الناقة آية بينة يبصر المتأمل بها رشده فَظَلَمُوا أنفسهم بقتلها أو فكفروا بِهَا بمعنى أنهم جحدوا كونها من الله قاله ابن قتيبة وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب العاجل بمعنى أن من أنكرها وقع عليه، أو المراد وما نرسل بآيات القرآن وغيرها من المعجزات إلا إنذارا بعذاب الآخرة على المعنى المذكور. وحين امتنع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للمصارف المذكورة قوى قلبه بوعد النصر بالغلبة فقال:
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أي واذكر إذا أوحينا إليك أن ربك أَحاطَ بِالنَّاسِ أي أنهم في قبضته وقدرته فلا يقدرون على خلاف إرادته فينصرك ويقويك حتى تبلغ الرسالة. عن الحسن:
حال بينهم وبينه أن يقتلوه كما قال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: ٦٧] وقيل:
أراد بالناس أهل مكة، وأحاط في معنى الاستقبال إلا أن خبر الله تعالى لما كان واجب الوقوع عبر عنه بلفظ الماضي، وعد نبيه بأنه سيهلك قريشا في وقعة بدر.
أما قوله: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ففيه أقوال: الأول أنه تعالى أراه في المنام مصارع كفار قريش حتى قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يأتي الأرض ويقول: هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية وكانوا يستعجلون بما وعد. الثاني: أنه رؤياه التي رأى أن يدخل مكة وبذلك أخبر أصحابه، فلما منع من البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم. وقال عمر لأبي بكر: قد أخبرنا رسول الله ﷺ أنا ندخل البيت فنطوف به.
فقال أبو بكر: إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى. فلما جاء العام القابل دخلها وأنزل الله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الفتح:
٢٧]. الثالث:
قول سعيد بن المسيب وابن عباس في رواية عطاء أن رسول الله ﷺ رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك.
الرابع وهو قول أكثر المفسرين: أن المراد بهذه الرؤيا هي حديث الإسراء. ثم اختلفوا، فالأكثرون على أن
361
الرؤيا بمعنى الرؤية يقال: رأيت بعيني رؤية ورؤيا، أو سماها رؤيا على قول المكذبين حين قالوا لعلها رؤيا رأيتها وخيال خيل إليك. والأقلون على أن الإسراء كان في المنام وقد مر هذا البحث في أول السورة. قوله: وَالشَّجَرَةَ فيه تقديم وتأخير، والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. قال الأكثرون: إنها شجرة الزقوم لقيت في القرآن حيث لعن طاعموها. قال عز من قائل: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ أو وصفت باللعن لأنه إلا بعاد وهي في أصل الجحيم أبعد مكان من الرحمة، أو العرب تقول لكل طعام مكروه ضارّ ملعون. والفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا: زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ثم يقول ينبت فيها الشجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. ونظيره قوله: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات: ٦٣]. ومن شاهد حال السمندل والنعامة كيف يتعجب من قدرة الله على إنبات الشجرة من جنس لا تعمل فيه النار. وعن ابن عباس: الشجرة الملعونة بنو أمية. وعنه هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب. وقيل: هي الشيطان. وقيل: اليهود سؤال: أي تعلق لحديث الرؤيا والشجرة إلى ما قبله من الكلام؟ جوابه كأنه قيل: إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا ينبغي أن يكون سببا في توهين أمرك. ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا والشجرة صار سببا لوقوع الشبهة العظيمة، ثم إنها ما أوجبت ضعفا في أمرك ولا فتورا في اجتماع المحقين عليك. ثم ذكر سببا آخر في أنه تعالى لا يظهر المقترحات عليهم فقال:
وَنُخَوِّفُهُمْ بمخاوف الدنيا والآخرة فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً متماديا.
التأويل:
لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا يشتمل معنيين لأنهم إن كانوا أكبر منه أو أمثالا له طلبوا طريقا إلى إزعاج صاحب العرش ونزع الملك منه قهرا، وإن كانوا أدون منه طلبوا إليه الوسيلة بالخدمة والعبودية على أن الناقص لا يصلح للإلهية وهذا قريب من التفسير: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوت لقوله:
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [يس: ٨٣] والملكوت باطن الكون وهو الآخرة، والآخرة حيوان لا جماد لقوله: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [العنكبوت: ٦٤] فلكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح والحمد تنزيها لصانعه وحمدا له على ما أولاه من نعمه، وبهذا اللسان ينطق الحصى في كف النبي ﷺ وبه تنطق الأرض يوم القيامة يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [الزلزلة: ٤] وبه تنطق الجوارح أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: ٢١] وبه نطق السموات والأرض قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١]
362
وإِنَّهُ كانَ حَلِيماً في الأزل إذا أخرج من العدم من يكفر به ويجحده غَفُوراً لمن تاب عن كفره: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فيه إشارة إلى أن من قرأ القرآن بتمامه وصل إلى أعلى معارج القدس وأقصى مدارج الأنس كما
جاء في الحديث «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق» «١».
قال أبو سليمان الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة فمن استوفى جميع آي القرآن استولى على أقصى درجات الجنة. قال المحققون: استيفاء جميع آي القرآن هو أن يتخلق بأخلاقه وصفاته بل بأخلاق الله وصفات الله. وهذا يكون بعد العبور عن الحجب الظلمانية والنورانية فيكون بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. لم يقل «ساترا» لأن الحجاب يستر الواصل عن المنقطع ولا يستر المنقطع عن الواصل فيكون الواصل مستورا بالحجاب المنقطع. وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ لأنهم من سوء مزاجهم لا يكادون يقبلون الغذاء الصالح، فالحلاوة في مذاقهم مرارة إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ من ظلمهم لأنهم وضعوا المسحور مكان المبعوث أي خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي لو كانت قلوبكم التي في صدوركم أشد من الحجارة والحديد فالله قادر على إحيائه وتليينه في قيام قيامة العشق يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من شرف من عبيده، فبتشريف الإضافة يظهر منه القول الأحسن وهو الدعاء إلى الله بلا إله إلا الله مخلصا، والفعل الأحسن وهو أن يكون متأدبا بآداب الشريعة والطريقة، والخلق الأحسن وهو أن يكون محسنا إليهم بلا طمع الإحسان والشكر منهم ويتجاوز عن سيئاتهم ويعيش فيهم بالنصيحة، يأمرهم بالمعروف بلا عنف وينهاهم عن المنكر بلا فضيحة إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إذ لم يعيشوا بالنصيحة. وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فيه أن فضل النبي ﷺ على داود كفضل القرآن على الزبور. وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ من قرى قالب الإنسان إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها بموت قلبه وروحه قبل موت قالبه فمن مات فقد قامت قيامته أَوْ مُعَذِّبُوها بأنواع الرياضات والمجاهدات ففي السير إلى الله ذوبان الأفعال، وفي السير بالله ذوبان الصفات، وفي السير في الله ذوبان الذات: أَحاطَ بِالنَّاسِ علم مقتضى كل نفس من الخير والشر وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ كان الوحي يصل إلى النبي ﷺ في مبدأ أمره بطريق المنام وكان في ذلك اختبار للناس، فمن وقته يظهر الموافق من المنافق والصديق من الزنديق، وهكذا كان في شجرة وجود إبليس ابتلاء للناس ولم يكن للمحيط بأحوال الناس حاجة إلى الابتلاء ولكنه يعامل معاملة المختبر والله أعلم بالصواب.
(١) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ١٨. أحمد في مسنده (٢/ ١٩٢، ٤٧١).
363

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٧٢]

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
القراآت:
أَخَّرْتَنِي بالياء في الحالين: ابن كثير غير الهاشمي عن ابن فليح وسهل ويعقوب وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل. الباقون بالحذف وَرَجِلِكَ بكسر الجيم: حفص وأبو زيد عن المفضل الآخرون بسكونها. أن نخسف، أو نرسل، أن نعيدكم، فنرسل، فنغرقكم كلها بالنون: ابن كثير وأبو عمرو. والباقون على الغيبة إلا يعقوب ويزيد فإنهما قرأ فتغرقكم بالتاء الفوقانية على أن الضمير للريح من الرياح على الجمع يزيد: هذِهِ أَعْمى بالإمالة أَعْمى بالتفخيم: أبو عمرو ونصير والبرجمي ورويس. وقرأ حمزة وعلي غير نصير وخلف ويحيى وحماد جميعا بالإمالة.
الباقون جميعا بالتفخيم.
الوقوف:
إِبْلِيسَ ط طِيناً هـ لاتحاد فاعل فعل قبله وفعل بعده بلا حرف عطف عَلَيَّ ز لحق القسم المحذوف مع اتحاد الكلام قَلِيلًا هـ مَوْفُوراً هـ وَعِدْهُمْ ط للعدول غُرُوراً هـ سُلْطانٌ ط وَكِيلًا هـ مِنْ فَضْلِهِ ط رَحِيماً هـ إِلَّا إِيَّاهُ ج أَعْرَضْتُمْ ط كَفُوراً هـ وَكِيلًا هـ لا للعطف تَبِيعاً هـ تَفْضِيلًا هـ بِإِمامِهِمْ ج فَتِيلًا هـ سَبِيلًا.
364
التفسير:
قال أهل النظم: إنه لما ذكر أن الرسول ﷺ كان من قومه في بلية عظيمة ومحنة شديدة، أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك حتى آدم عليه السلام. وأيضا إن القوم كان منشأ نزاعهم واقتراحاتهم الفاسدة أمرين: الكبر والحسد.
فبين الله سبحانه أن هذه عادة قديمة سنها إبليس لعنة الله عليه. وأيضا لما وصف القوم بزيادة الطغيان عقيب التخويف أراد أن يذكر السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ وهذه القصة ذكرها الله تعالى في سبع سور: البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص. ونحن قد استقصينا القول فيه فلا حاجة إلى الإعادة فلنقتصر على تفسير الألفاظ. قال جار الله طِيناً حال إما من الموصول والعامل فيه أَسْجُدُ معناه أأسجد له وهو طين في الأصل؟ وإما من الراجع إلى الموصول من الصلة تقديره أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا؟ ومعنى الاستفهام إنكار أمر الأشرف على زعمه بخدمة الأدون ولذلك قالَ أَرَأَيْتَكَ أي أخبرني عن هذا الذي كرمته أي فضلته عَلَيَّ لم كرمته وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام لكونه معلوما. ويمكن أن يقال: هذا مبتدأ والاستفهام فيه مقدر معناه أخبرني أهذا الذي كرمته عليّ؟ والإشارة هنا تفيد الاستحقار. وقيل: إن هذا مفعول: أَرَأَيْتَكَ لأن الكاف لمجرد الخطاب كأنه قال على وجه التعجب والإنكار: أبصرت أو علمت هذا بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا يكرّم عليّ. ثم ابتدأ فقال لئن أخرتني واللوم موطئة للقسم المحذوف وجوابه لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستأصلنهم بالإغواء من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا من الحنك. ومنه ما ذكر سيبويه «أحنك الشاتين» أي آكلهما. وقال أبو مسلم: هو افتعال من الحنك يقال منه حنك الدابة يحنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به كأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه. وإنما ظن إبليس بهم ذلك لأنه سمع قول الملائكة في حقهم تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠] أو نظر إليه فتوسم أنه خلق شهواني إلى غير ذلك من قواه السبعية والوهمية والبهيمية، أو قاس ذرية آدم عليه حين عمل وسوسته فيه. وضعفه جار الله بأن الظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة قالَ أي الله تعالى اذْهَبْ ليس المراد منه نقيض المجيء وإنما المراد امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخيلة وإمهالا. ثم رتب على الإمهال قوله: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أراد جزاؤهم وجزاؤك فغلب المخاطب على الغائب لأنه الأصل في المعاصي وغيره تبع له. وجوز في الكشاف أن يكون الخطاب لتابعيه على طريقة الالتفات. وانتصب جَزاءً مَوْفُوراً على المصدر والعامل فيه معنى تجازون المضمر، أو
365
المدلول عليه بقوله: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أو على الحال الموطئة. والموفور الموفر من قولهم «فر لصاحبك عرضه فرة». وقيل: هو بمعنى الوافر.
ثم أكد الإمهال والخذلان بقوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أفزه الخوف واستفزه أزعجه واستخفه، وصوته دعاؤه إلى معصية الله. وقيل: الغناء واللهو واللعب وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قال الفراء وأبو عبيدة: أجلب من الجلبة والصياح أي صح عليهم. وقال الزجاج: أي أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك.
فالإجلاب الجمع والباء في بِخَيْلِكَ زائدة. وقال ابن السكيت: الإجلاب الإعانة، والخيل يقع على الفرسان
قال صلى الله عليه وسلم: يا خيل الله اركبي.
وعلى الأفراس جميعا. والرجل بسكون الجيم جمع راجل كتاجر وتجر وصاحب وصحب. وبكسر الجيم صفة معناه وجمعك الرجل. وتضم جيمه أيضا مثل ندس وندس وحذر وحذر. عن ابن عباس: كل راكب وراجل في معصية الله فهو من خيل إبليس وجنوده. وقيل: يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضها راكب وبعضها راجل، والأقرب أن هذا كلام ورد تمثيلا فقد يقال للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك. قال في الكشاف: مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة حتى إذا استأصلهم. أما المشاركة في الأموال فهي كل تصرف في المال لا على وجه الشرع سواء كان أخذا من غير عوض أو وضعا في غير حق كالربا والغضب والسرقة. وقيل: هي تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة. والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب وتحصيله بالدعاء إلى الزنا، أو تسميتهم بعبد اللات وعبد العزى، أو تربيتهم لا كما ينبغي حتى ينشأوا غير راشدين ولا مؤدبين ولا متدينين بدين الحق. وَ- عِدْهُمْ بتزيين المعاصي في أعينهم وترغيبهم فيها وتثقيل الطاعات والعبادات عليهم وتنفيرهم عنها، وهذه قضية كلية وربما يخصه المفسرون، فعن بعضهم أن المراد وعدهم بأنه لا جنة ولا نار. وقيل:
تسويف التوبة. وقيل: بالكرامة على الله بالأنساب والأحساب. وقيل: بشفاعة الأصنام والأماني الباطلة وإيثار العاجل عى الآجل. ثم نفى أن يكون لوعد الشيطان عاقبة حميدة فقال: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً لأنه إنما يدعو إلى الذات البهيمية أو السبعية أو الخيالية، وأكثرها دفع الآلام وكلها لا أصل لها ولا دوام. ومن أراد الاستقصاء في هذا الباب فعليه بمطالعة باب «ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين» للشيخ الإمام محمد الغزالي رحمه الله.
366
ولما قال للشيطان على سبيل الوعيد والتهديد افعل ما تقدر عليه ربط جأش سائر المكلفين بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢] قال الجبائي: المراد كل عباده لأنه استثنى متبعيه في غير هذا الموضع قائلا: إلّا من تبعك [الحجر: ٤٢] وقال أهل السنة: المراد عباد الله المخلصين. ثم زاد في تقوية جانب المكلف فختم الآية بقوله: وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا فهو يدفع كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه. ثم عدد على بني آدم بعض ما أنعم به عليهم ليكون تذكيرا لهم وتحذيرا فقال: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ أي يسير لأجلكم الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ والإزجاء سوق الشيء حالا بعد حال لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الربح بالتجارة إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فلذلك هداكم إلى مصالح المعاش المؤدية إلى منافع المعاد وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أي خوف الغرق فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم إِلَّا إِيَّاهُ وحده فإنكم تعقدون برحمته رجاءكم، أو المراد ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله هو الذي ترجونه وحده فكان الاستثناء منقطعا فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من ذلك الضر وأخرجكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الإخلاص وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً لنعمة الله لأنه عند الشدة يتمسك برحمة الله وفي الرخاء يعرض عنه. ثم أنكر عليهم سوء معاملتهم قائلا:
أَفَأَمِنْتُمْ تقديره أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض أَنْ يَخْسِفَ أصله دخول الشيء في الشيء ومنه عين خاسفة للتي غارت حدقتها في الرأس، وخسف القمر دخل تحت الحجاب وهو دائرة الظل عند الحكماء بِكُمْ حال، وإنما قال: جانِبَ الْبَرِّ لأنه ذكر البحر في الآية الأولى وهو جانب والبر جانب، وخسف جانب البر بهم قلبه وهم عليه فالخسف تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء، فهبوا أنكم نجوتم من هول البحر فهل أمنتم من هول البر فإنه قادر على تسليط آفات البر عليكم. إما من جانب التحت بالخسوف، وإما من جانب الفوق بإمطار الحجارة وذلك أن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا وهي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء. وقال الزجاج: الحاصب التراب الذي فيه حصباء، فالحاصب ذو الحصباء كاللابن والتامر. ولا يخفي أن هذين العذابين أشد من غرق البحر. ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا يصرف ذلك عنكم أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوب البحر فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً وريحا لها قصيف أي صوت شديد أو القاصف الكاسر. وقوله: مِنَ الرِّيحِ بيان له فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ بسبب كفركم ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً مطالبا يتبعنا لإنكار ما نزل بكم أو لنصرفه عنكم فهو كقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: ١٦].
367
ثم أجمل ذكر النعمة بقوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وقد ذكر المفسرون في تكريمه وجوها منها: الخط فيه يقدر الإنسان على إيداع العلوم التي استنبطها- هو أو غيره- الدفاتر فتبقى على وجه الدهر مصونة عن الاندراس محفوظة عن الانطماس اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: ٣، ٤] ومنها الصورة الحسنة وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: ٦٤]، ومنها القامة المعتدلة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: ٤] ومنها أن كل شيء يأكل بقية إلا ابن آدم. يحكى عن الرشيد أنه حضر لديه طعام فأحضرت الملاعق- وعنده أبو يوسف- فقال له: جاء في تفسير جدك ابن عباس أن هذا التكريم هو أنه جعل لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه. ومنها ما قال الضحاك: إنه النطق والتمييز فإن الإنسان يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه بخلاف سائر الحيوان، ويدخل الأخرس في هذا الوصف لأنه يعرف بالإشارة أو الكتابة، ويخرج الببغاء ونحوه لأنه لا يقدر على تعريف جميع الأحوال على الكمال. ومنها تسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم، فالأرض لهم كالأم الحاضنة مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه:
٥٥] وهي لهم فراش ومهاد، والماء ينتفعون به في الشرب والزراعة والعمارة وماء البحر ينتفع به في التجارة واستخراج الحلي منه، والهواء مادة الحياة ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على المعمورة، والنار ينتفع بها في الطبخ والإنضاج ودفع البرد وغير ذلك، وانتفاعهم بالمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية ظاهر. وبالجملة فهذا العالم بأسره كقرية معمورة أو خوان معد، والإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع، فأي تكريم يكون أزيد من هذا؟ ولا شك أن الإنسان- لكونه مستجمعا للقوة العقلية القدسية وللقوتين الشهوية البهيمية والغضبية السبعية ولقوّتي الحس والحركة الإرادية وللقوى النباتية وهي الاغتذاء والنموّ والتوليد- يكون أشرف مما لم يستجمع الجميع سوى المجردات المحضة.
وقال بعضهم: إن هذا التكريم هو أنه تعالى خلق آدم بيده وأبدع غيره بواسطة «كن».
يروى عن زيد بن أسلم أن الملائكة قالت: ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة. فقال: وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له «كن» فكان.
ثم خص بعض أنواع التكريم بالذكر فقال: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قال ابن عباس: في البر أي على الخيل والبغال والحمير وفي البحر أي على السفن وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من كل غذاء نباتي أو حيواني ألطفه وألذه. واعلم أن التكريم لا يدل على التفضيل لأن تكريم زيد لا ينافي تكريم غيره بأزيد من ذلك ولذلك ختم التكريم بقوله:
368
وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا فسر بعض الأشاعرة الكثير هاهنا بمعنى الجميع فشنع عليه جار الله بأنه شجى في الحلق وقذى في العين لبشاعة قول القائل: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا. والإنصاف أن كون الكثير مفيدا لمعنى الجميع لا يوجب هذا التشنيع، لأنه لا يلزم من إفادة اللفظ معنى لفظ آخر بمعنى أنه يرجع الحاصل إلى ذلك بدلالة الالتزام، أو بحكم العرف أن يوضع ذلك اللفظ موضعه وينطق به على أن التفسير لا يقوم مقام المفسر البتة، لأن هذا معجز دون ذلك فكيف يبقى الذوق بحاله؟ وأيضا فالحاصل هو قولنا على جميع من خلقنا لا على جميع ممن خلقنا، فإن الدعوى هو أن كثيرا من الشيء أقيم مقام كل ذلك الشيء لا كل من ذلك الشيء حتى تلزم البشاعة من قبل الجمع بين لفظي الكل و «من» التبعيضية. هذا وإن الحق في المسألة هو إجراء الكلام على ظاهره، وإن الآية تدل على أنه حصل في مخلوقات الله شيء لا يكون للإنسان تفضيل عليه، لأنه سبحانه ذكر في هذا الكلام في معرض المدح، ولو كان الإنسان مفضلا على الكل لم يقع من الله تعالى الاقتصار على ذكر البعض. وكل من أثبت هذا القسم قال: إنه هو الملائكة. فلزم القول بأن كل الإنسان ليس أفضل من كل الملائكة بل بعض الملك أفضل من أكثر الإنسان وإن كان يوجد في خواص الإنسان من هو أفضل من عوام الملائكة بل من خواصهم، وإلى هذا ذهب ابن عباس واختاره الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط. وأما أن كل الملائكة أفضل من كل البشر- على ما زعم جار الله وأمثاله- فإنه تحكم محض.
ولما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا شرح أحوال درجاته في الآخرة فقال:
يَوْمَ نَدْعُوا وهو منصوب بإضمار «اذكر» أو بقوله: فَضَّلْناهُمْ على عادة الله في الإخبار أي ونفضلهم في هذا اليوم بما نعطيهم من الكرامة والثواب، وعلى هذا يكون التكريم في الدنيا والتفضيل في الآخرة ولا وقف على تَفْضِيلًا والإمام في اللغة كل ما يؤتم به من نبي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين. والباء في قوله: بِإِمامِهِمْ للإلصاق كما تقول أدعوك باسمك. عن أبي هريرة مرفوعا أنه ينادى يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد، فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم ينادى يا أتباع فرعون وفلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر. ويجوز أن يتعلق الباء بمحذوف وهو الحال والتقدير: تدعو كل أناس متلبسين بإمامهم أي يدعون وإمامهم في نحو «ركب بجنوده». وروى الضحاك وابن زيد أنه ينادى في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل. وقال الحسن: يدعون بكتابهم الذي فيه أعمالهم
369
فيقال: يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر. وهو قول الربيع وأبي العالية أيضا.
قال صاحب الكشاف: ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع «أن» وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهامتهم. والحكمة في ذلك في رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين عليهما السلام وأن لا يفتضح أولاد الزنا. ثم قال: وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته؟ وقال في التفسير الكبير: كل خلق يظهر من الإنسان حسن كالعفة والشجاعة والعلم، أو قبيح كأضدادها فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن كالإمام له وكالمنبع والمنشأ، ويوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق فَمَنْ أُوتِيَ هو في معنى الجمع ولذلك قيل في جزائه فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ وخص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم لأن قراءة أصحاب الشمال كلا قراءة لما يعرض لهم فيه من الحياء والخجل والتتعتع وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب. وأما قوله: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى فيحتمل أن يراد به عمى البصر كقوله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [طه: ٢٥] وفي هذا زيادة العقوبة. ويحتمل أن يراد عمى القلب. قال ابن عباس: المراد ومن كان أعمى في هذه النعم التي عددها من قوله: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي إلى قوله:
تَفْضِيلًا فهو في الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى بالطريق الأولى، لأن الضلال عن معرفة أحوال الآخرة أقرب وقوعا، فعلى هذا يكون الأعمى في الموضعين في الدنيا، ومثله ما روى أبو روق عن الضحاك. من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرته في خلق السماء والأرض والبحار والجبال والناس والدواب، فهو عن أمر الآخرة وتحصيل العلم به أعمى. قال المفسرون: لا يبعد أن يكون أعمى على هذا التفسير «أفعل» التفضيل ودليله قراءة أبي عمر وبإمالة الأول وتفخيم الثاني، لأن الأول ألفه واقعة في الطرف فكانت عرضة للإمالة ومظنة لها بخلاف الثاني فإن تمامه بمن فكانت ألفه في حكم وسط الكلمة.
هذا قول صاحب الكشاف تابعا لأبي علي الفارسي. وأقول: في هذا الوجه نظر، لأن الإمالة ليست مختصة بآخر الكلمة مثل «شيئان» «والكافرين» ونحوهما ولهذا قرىء بإمالة كليهما مع قيام هذا الاحتمال في الثاني، ولعل من لم يمل الثاني راعى المشاكلة بينه وبين أضل والله أعلم. قال الحسن: في الآخرة أي في الدار الآخرة وذلك أنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل. وقيل: المراد بالعمى في الآخرة أنه لا يهتدي إلى طريق الجنة وإلى طيباتها والابتهاج، بها ولا يمكن أن يراد بها الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة.
370
التأويل:
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي بكلمات المبتدعة ومقالات أهل الطبيعة إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ لأنهم بخصوصية العبودية تخلصوا عن رق الكونين وتعلق العالمين وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا في تربيتهم وتهيئة صلاح أحوالهم. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ فلك الشريعة في بحر الحقيقة لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ جذبة العناية فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلى بر الوصول والوصال أَعْرَضْتُمْ بحجب العجب ورؤية الأعمال حاصِباً من مطر القهر قاصِفاً من ريح الابتلاء ببليات البدع والأهواء فَيُغْرِقَكُمْ في بحر الشهوات وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ بالكرامات البدنية العامة للمؤمن والكافر وهي تخمير طينته بيده وتصويره في الرحم بنفسه، وبالكرامات الروحانية العامة وهي أن نفخ فيه من روحه وشرفه بخطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وأنطقه بجواب بَلى وأولده على الفطرة وأرسل الرسل وأنزل الكتب، وبالكرامات الروحانية الخاصة من النبوة والولاية والهداية والجذبة كما قال: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي عبرنا بهم من بر البشرية وبحري الروحانية إلى ساحل الربانية وَرَزَقْناهُمْ مِنَ طيبات المواهب ونوال الكشوف وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ أي على الملائكة لأنهم الخلق الكثير من مخلوقات الله. وبيان تفضيله حسن استعداده في قبول فيض نور الله بلا واسطة وهو المراد بالأمانة في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [الأحزاب: ٧٢] نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ من الدنيا والآخرة وغير هما فيقال: يا أهل الدنيا ويا أهل الآخرة ويا أهل الله فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فيه إشارة إلى أن أهل الله لا يؤتون كتابهم كما لا يحاسبون حسابهم، وأهل الشمال يؤتون الكتاب ولكنهم لا يقدرون على القراءة لأنهم عمي والقراءة تحتاج إلى الإبصار بالأبصار وبالبصائر والله أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٣ الى ٨٩]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)
371
القراآت:
خَلْفَكَ ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وأبو بكر وحماد.
الآخرون خِلافَكَ بكسر الخاء بالألف وَنُنَزِّلُ مِنَ مخففا: أبو عمرو ويعقوب.
الباقون بالتشديد وياء تحتانية وناء بجانبه مثل «ناع» : يزيد وابن ذكوان وَنَأى بفتح النون وإمالة الهمزة مثل «رمى». حمزة غير خلف والعجلي وحماد ويحيى وعباس وأبو شعيب ونصير مثله ولكن بكسر النون على غير نصير، وخلف والعجلي وخلف لنفسه.
الباقون بفتحتين كرمى.
الوقوف:
خَلِيلًا هـ قَلِيلًا هـ لا لتعلق «إذا» نَصِيراً هـ قَلِيلًا هـ تَحْوِيلًا هـ وَقُرْآنَ هـ الْفَجْرِ ط مَشْهُوداً هـ نافِلَةً لَكَ قف والوصل أولى لأن «عسى» وعد على التهجد مَحْمُوداً هـ نَصِيراً هـ وَزَهَقَ الْباطِلُ ط زَهُوقاً هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ لا لأن ما بعده من صلة «ما» خَساراً هـ بِجانِبِهِ ج لعطف حملتي الظرف يَؤُساً هـ شاكِلَتِهِ ط سَبِيلًا هـ عَنِ الرُّوحِ ط قَلِيلًا هـ وَكِيلًا هـ لا مِنْ رَبِّكَ ط كَبِيراً هـ ظَهِيراً هـ مَثَلٍ ز لعطف المتفقين معنى المختلفين لفظا كُفُوراً هـ.
التفسير:
لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على بني آدم وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس الأشقياء.
عن ابن عباس في رواية عطاء أن وفد ثقيف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب، لا نعشر- أي لا تؤخذ عشور أموالنا- ولا نحشر ولا نجبي في صلاتنا أي لا نسجد، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره فإذا سألتك العرب لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله أمرني به وجاؤا بكتابهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف لا يعشرون ولا يحشرون فقالوا: ولا يجبون، فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب: اكتب «ولا يجبون»
372
والكاتب ينظر إلى رسول الله. فقام عمر بن الخطاب فسل سيفه وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم نارا. فقالوا: لسنا نكلمك إنما نكلم محمدا. وقال عمر:
أما ترون رسول الله ﷺ أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله الآية.
وهذه القصة وقعت بعد الهجرة فلهذا قال المفسرون إنها ليست بمكية. وروي أن قريشا قالوا له اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة فنزلت. وقال الحسن: إن الكفار أخذوا رسول الله ﷺ بمكة قبل الهجرة فقالوا: كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها، ولو كان ذلك حقا كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك. فوقع في قلب رسول الله أن يكف عن شتم آلهتهم.
وعن سعيد بن جبير أنه ﷺ كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون: لا ندعك حتى تستلم بآلهتنا فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية فنزلت.
قال القفال: من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله ﷺ بأقصى ما يقدرون عليه، فتارة كانوا يقولون: لو عبدت آلهتنا عبدنا آلهك فنزلت: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون: ١، ٢] وقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: ٩] وتارة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فنزلت وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا [طه: ١٣١] وأخرى دعوه إلى طرد المؤمنين فنزل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الأنعام: ٥٢] وكل ذلك دليل على أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ويزيلوه عن منهجه. فلو لم يكن شيء من الروايات المذكورة موجودا لكان للآية محمل صحيح. والمعنى وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين. وأصل الفتنة الاختبار ومنه فتن الصائغ الذهب ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حده وجهته، وذلك في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ أي لو اتبعت مرادهم لا تخذوك خَلِيلًا ولكنت لهم وليا وخرجت من ولايتي وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لولا تثبيتنا وعصمتنا لك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ لقاربت أن تميل إلى مرادهم شَيْئاً قَلِيلًا أي ركونا قليلا. قال ابن عباس: يريد حيث سكت عن جوابهم.
قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
ثم توعده في ذلك أشد الوعيد فقال: إِذاً لَأَذَقْناكَ أي لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركون لأذقناك ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. والضعف عبارة عن ضم الشيء إلى مثله. وقال صاحب الكشاف: المراد عذاب الممات وهو عذاب القبر، وعذاب الحياة وهو عذاب حياة الآخرة أي عذاب النار. والعذاب
373
يوصف بالضعف كقوله: فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ [ص: ٦١] بمعني مضاعفا فكان أصل الكلام عذابا ضعفا في الحياة الدنيا وعذابا ضعفا في الممات، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، ثم أضيفت الصفة كإضافة الموصوف فقيل: ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل: لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. وقال في التفسير الكبير: حاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة، ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة. والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعالى في حق الأنبياء أكثر فكانت ذنوبهم وكذا عقوبتهم أعظم نظير يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: ٣٠]. ثم إن إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه لأن دليل الخطاب لا حجة فيه فقد يرتقى الضعف إلى مالا حد له كما
جاء في الحديث: «من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» «١»
ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يعني لو أذقناك ذلك لم تجد أحدا يخلصك من عذابنا. واعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها. والتهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها فلا يلزم من الآية طعن في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه لا عصمة من المعاصي إلا بتوفيق الله وتثبيته على الحق. وقالت المعتزلة: المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة عن ذلك وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده كونه نبيا من عنده. وأجيب بأنه لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك الفعل المحذور لم يكن إلى إيجاد المانع حاجة، وليس ذلك المقتضي إلا القدرة مع الداعي ولا ذلك المانع إلا داعية أخرى معارضة للداعي الأول وقد أوجدها الله تعالى عقيب ذلك.
ثم ذكر طرفا آخر من مكايدهم فقال: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ «إن» مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة كما في الآية الأولى ومعنى لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك كما مر في قوله: وَاسْتَفْزِزْ [الآية: ٦٤] والأرض إما أرض مكة، كما قال قتادة ومجاهد ويرد عليه أن «كاد» للمقاربة لا للحصول لكن الإخراج قد حصل لقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: ١٣] ويمكن أن يقال: إنهم هموا بإخراجه ولكن الله منعهم من ذلك حتى هاجر بأمر ربه، فأطلق الإخراج على إرادة الإخراج مجوزا
(١) رواه الدارمي في كتاب المقدمة باب ٤٤. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٤. أحمد في مسنده (٤/ ٣٦٢).
374
يؤيده قوله: وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ وهو معطوف على لَيَسْتَفِزُّونَكَ أي لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا أي لو أخرجوك لاستؤصلوا لكنه لم يقع الاستئصال فدل ذلك على عدم وقوع الإخراج. ومن جوز وقوع الإخراج قال: المراد بعدم اللبث أنهم أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل. واما أرض المدينة على ما
روي عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم وقالوا: يا أبا القاسم إن الأنبياء بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مهاجر إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك. وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم. فعسكر رسول الله ﷺ على أميال من المدينة أو بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت الآية فرجع.
وعلى هذا القول تكون هذه الآية أيضا مدنية، والخلاف في معنى الخلف كما مر في قوله: بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: ٨١] وقرىء: وإذا لا يلبثوا بحذف النون على إعمال «إذن» فتكون الجملة برأسها معطوفة على جملة قوله: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ. ثم بين أن عادته تعالى جارية بأن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فإنه يهلكهم فقال سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا وهو منصوب على المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا لأن الأسباب الكلية في الأزل اقتضت توزع كل من أجزاء الزمان على حادث معين بسبب معين، فتبديل إحدى الحوادث وتحويلها إلى وقت آخر يقتضي تغيير الأسباب عن أوضاعها وهو محال عقلا وعادة.
وقال أهل النظم: لما قرر الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة. وأيضا لما قال: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ أمره بالاشتغال بعبادته تفويضا للأمور إلى الله وتعويلا على فضله في دفع شر أعدائه نظيره قوله في سورة طه: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طه: ١٣٠]. ذهب كثير من المفسرين كابن قتيبة وسعيد بن جبير منقولا عن ابن عباس، أن دلوك الشمس هو غروبها. وعلى هذا لا تشمل الآية صلاتي الظهر والعصر. وأكثر الصحابة والتابعين على أن دلوك الشمس زوالها عن كبد السماء ويؤيده ما
روي أنه ﷺ قال: أتاني جبرائيل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر.
قالوا: واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه إذ ينظر إليها وهي في كبد السماء. وعلى هذا التفسير تشمل الآية جميع الصلوات الخمس. وحمل كلام الله على ما هو أكثر فائدة أولى واللام
375
بمعنى الوقت أو للتعليل أي أدم الصلاة في هذا الوقت أو لأجل دخول هذا الوقت إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي ظلمته. قال الكسائي: غسق الليل غسوقا أي أظلم، والاسم الغسق بفتح السين والتركيب يدور على السيلان ومنه يقال: غسقت العين إذا هملت وكأن الظلام انهمل على الدنيا وتراكم. وهذا عند سيبويه الشفق الأبيض، فاستدل به بعض الشافعية على أن أول وقت العشاء الآخرة يدخل بغروب الشفق الأحمر لأن المحدود إلى غاية يكون مشروعا قبل حصول تلك الغاية. وهذا الاستدلال مبني على أن الغاية لا تدخل في ذي الغاية، وعلى أن الآية يجب أن تشمل جميع الصلوات، وللخصم المنع في المقامين.
ثم إن المفسرين أجمعوا على أن المراد بقرآن الفجر هو صلاة الصبح تسمية للشيء ببعض أجزائه، ومثله تسمية الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا. قال جار الله: إنه حجة علي ابن علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن. قلت: أجزاء الصلاة أعم من أركانها ولهذا قسمت الفقهاء الصلاة إلى أركان وأبعاض وهيئات فلا يتم هذا الاعتراض.
وفي الآية مسائل: الأولى: استدل بعض الشيعة بها على جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقا. وأجيب بأن الآية مخصوصة بفعل الرسول أو
بقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» «١»
ويستثنى منه عذر السفر والمطر لعدم الدليل المخصص في تلك الصورة فلزم إبقاؤها على الجواز الأصلي.
الثانية: استدل بعض الشافعية بها على أن التغليس في صلاة الصبح أفضل من التنوير لوجوه منها: أنه أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير: أقم قرآن الفجر. وظاهر الآية للوجوب فلا أقل من الندب حتى لا تكثر مخالفة الدليل. والفجر انفجار ظلمة الليل فيلزم أن تكون إقامة الفجر في أول الوقت أفضل. ومنها أنه خص الفجر بإضافة القراءة إليه فدل ذلك على أن طول القراءة في هذه الصلاة مطلوب، ولن يتم هذا المطلوب إلا إذا شرع في أدائه في أول الوقت. ومنها أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهودا فقيل: أي يشهده الكثير من المصلين في العادة، أو من حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة. وقال أكثر المفسرين: معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح تنزل هؤلاء وتصعد هؤلاء في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. وقيل: إنهم يجتمعون خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الصبح قبل أن تعرج ملائكة الليل. فإذا فرغ
(١) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ١٨. الدارمي في كتاب الصلاة باب ٤٢. أحمد في مسنده (٥/ ٥٣).
376
الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار. ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت: يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك، وتقول ملائكة النهار: ربنا لقينا عبادك وهم يصلون. فيقول الله لملائكته: اشهدوا فإني قد غفرت لهم. والغرض أن المكلف إذا شرع في صلاة الصبح في آخر الظلمة الذي هو أول الفجر كانت ملائكة الليل حاضرين بعد. ثم إذا امتدت هذه الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة بالكل أو بالأكثر وحضرت ملائكة النهار، وهذا المعنى لا يحصل إذا ابتدئ بها وقت التنوير. قال أهل التحقيق: إذا شرع في صلاة الصبح في أول وقتها شاهد في أثنائها انقلاب العالم من الظلمة- التي هي نظيرة الموت- إلى الضياء الذي هو نظير الحياة، فإنه يفيء عقله من هذه الحالة إلى عجيب صنع الخلاق المدبر للأنفس والآفاق، فيزداد بصيرة وإيقانا ومعرفة وإيمانا، وتنفتح عليه أبواب المكاشفة والمشاهدة. وإذا كان هذا المعنى في الجماعة الكثيرة صارت نفوسهم كالمرايا المشرقة المتقابلة المتعاكسة أضواؤها الواقعة على كل منها، فيزداد كل منهم نورية وبهاء. فيحتمل أن يكون قوله: مَشْهُوداً إشارة إلى هذه الأحوال المشاهدة. ولا ريب أنه إذا شرع في الصلاة أول انتباهه من النوم قبل أن يرد على لوح عقله وفكره النقوش الفاسدة من الأمور الدنيوية الدنية، كان أولى فإن الأنبياء ما بعثوا إلا لإزالة مثل هذه الأمراض عن النفوس.
ثم حث على قيام الليل فقال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ قال أبو عبيدة وابن الأعرابي: هذا من الأضداد لأنه يقال: هجد الرجل إذا نام وهجد أيضا إذا صلى من الليل، ويوسط الأزهري فقال: الهجود في الأصل هو النوم بالليل، ولكن تاء التفعل فيه لأجل التجنب به ومنه «تأثم» «وتحرج» إذا ألقى الإثم والحرج عن نفسه. فكأن به المتهجد يدفع الهجود عن نفسه. وبوجه آخر لما كان غرض المصلي بالليل أن يطيب رقاده وهجوده بعد الموت سمي بذلك الاعتبار متهجدا. وربما يقال: سمي تهجدا لأن الأصل فيه أن يرقد ثم يصلي ثم يرقد ثم يصلي، فهو صلاة بعد رقاد كما كانت لرسول الله ﷺ ولداود كما
جاء في الحديث: «أفضل القيام قيام داود كان ينام ثلثه ويقوم سدسه ثم ينام ثلثه ويقوم سدسه» «١»
قال جار الله: معنى وَمِنَ اللَّيْلِ وعليك بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ وقال في التفسير الكبير: تقديره وأقم الصلاة في بعض الليل فتهجد به أي بالقرآن. ومعنى نافلة زائدة كما مر في أول «الأنفال». ثم من ذهب إلى أن صلاة الليل
(١) رواه ابن ماجه في كتاب الصيام باب ٣١.
377
كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم. زعم أن معناها كونها فريضة له زائدة على الصلوات الخمس، أو المراد أن فرضيتها نسخت عنك فصارت تطوعا زائدة على الفرائض.
ويرد عليه أن الأمر ظاهره الوجوب فيكون بين قوله: فَتَهَجَّدْ وبين قوله نافِلَةً تعارض، وكذا الاعتراض على قول من يقول إن صلاة الليل لم تكن واجبة عليه. ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله: نافِلَةً قرينة صارفة للوجوب إلى الندب. وعن مجاهد والسدي أن كل طاعة يأتي بها النبي سوى المكتوبة فإن تأثيرها لا يكون في كفارة الذنوب لأنه غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، وإنما تكون مؤثرة في زيادة الدرجات وكثرة الثواب ولا كذلك حال الأمة فكأنه قيل للنبي: إن هذه الطاعات زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك، لأن غيرك يحتاج إليها في تكفير السيئات ومن تقييد التهجد بقوله: نافِلَةً لَكَ يعلم أن قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ عام له ولكل أمته وإن كان ظاهره خطابا معه.
ثم وعده على إقامة الفرائض والنوافل بقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ ولا ريب أن «عسى» من الكريم أطماع واجب قال في الكشاف: انتصب مَقاماً مَحْمُوداً على الظرف أي عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاما محمودا، أو ضمن يبعثك معنى يقيمك، أو هو حال أي يبعثك ذا مقام محمود، وقيل: إنه مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات. والأولى أن يخص ذلك بالشفاعة لأنه الحمد إنما يكون بإزاء إنعام ولا إنعام للنبي على أمته في الآخرة إلا إنعام الشفاعة، أو لا إنعام أجل منها لأن السعي في تخليص الغير من العقاب أهم من السعي في إيصال الثواب إليه، ويؤيده
رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي.
وأما ما روي عن حذيفة أن المقام المحمود هو أن يجمع الناس في صعيد واحد ولا تتكلم نفس، فأول مدعو محمد فيقول: لبيك وسعديك والشر ليس إليك، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت. فليس بقوي لأن هذا القول من محمد لا يوجب حمدا له من أمته إلا أن يكون من مقامات الشفاعة فيرجع إلى الأول. وقيل: أراد مقاما تحمد عاقبته. وروى الواحدي عن ابن مسعود أن ذلك حين يقعد محمد معه على العرش وزيف بلزوم التحيز له تعالى. قوله:
مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ مصدران بمعنى الإدخال والإخراج، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو «حاتم الجود» أي إدخالا يستأهل أن يسمى إدخالا ولا يرى فيه ما يكره. قال الحسن وقتادة: نزلت حين أمر بالهجرة يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة، وقيل: إن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء وعزم
378
رسول الله ﷺ على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فداوم على الصلاة وارجع إلى مقرك ومسكنك. وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي في المدينة مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي منها إلى مكة مُخْرَجَ صِدْقٍ أي افتحها لي فعلى هذين القولين يكون الكلام عودا إلى الواقعة المذكورة في قوله وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ والأولى أن يقال إنه عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه ثم يتركه من أمر ومكان. وقيل: أراد إدخاله مكة ظاهرا عليها بالفتح وإخراجه منها آمنا من المشركين.
وقيل: إدخاله الغار وإخراجه منه سالما. وقيل: إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر وهو النبوّة، وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط. وقيل: أراد رب أدخلني الصلاة وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص والقيام بلوازم الحضور، أو أدخلني في مجاري دلائل التوحيد وأخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول. وقال صاحب الكشاف: أدخلني القبر إدخالا مرضيا وأخرجني منه عند البعث ملقى بالكرامة. يدل على هذا التفسير ذكره على أثر ذكر البعث وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً حجة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني أو ملكا وعزا ناصرا للإسلام وذويه.
ثم شرفه باستجابة دعائه بقوله: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام وَزَهَقَ الْباطِلُ اضمحل الشرك من زهقت نفسه إذا خرجت إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً غير ثابت في كل وقت وإن اتفقت له دولة وصولة كانت كنار العرفج.
عن ابن مسعود أن النبي ﷺ دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما لقبائل العرب. صنم كل- قوم بحيالهم- فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل. فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة- وكان من قوارير صفر- فقال: يا علي ارم به. فحمله رسول الله ﷺ حتى صعد فرمى به فكسره،
فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلا أسحر من محمد فلا جرم كذبهم الله وصدق نبيه بقوله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ «من» للبيان كقوله: مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠] أو للتبعيض أي ننزل ما هو شفاء. وهو هذا القرآن أو بعض هذا الجنس. وقيل: زائدة.
ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة ذكر كون القرآن شفاء من الأمراض الروحانية كالعقائد الفاسدة والأخلاق الدميمة ومن الأمراض الجسمانية أيضا لما في قراءته من التيمن والبركة وحصول الشفاء للمرض كما
قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله».
ثم بين أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من كيفية اقتناص العلوم الجليلة والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار الملائكة
379
المقرّبين بل إلى جناب رب العالمين، ولما كان قبول القابل شرطا في ظهور الأثر من الفاعل فلا جرم لا يَزِيدُ القرآن الظَّالِمِينَ الذي وضعوا التكذيب مقام التصديق والشك موضع الإيقان والاطمئنان إِلَّا خَساراً لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرا فلا يزال سماع القرآن يزيد المشركين غيظا وحنقا ويدعوهم ذلك إلى زيادة ارتكاب الأعمال القبيحة وهلم جرا إلى أن يدفع الله مكرهم ونكرهم.
ثم ذكر قبح شيمة الإنسان الذي جبل عليه فقال: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أي على هذا الجنس بالصحة والغنى. وعن ابن عباس أنه الوليد بن المغيرة. وفي التخصيص نظر إلا أن يكون سبب النزول أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ النأي البعد، والباء للتعدية أو للمصاحبة وهو تأكيد للإعراض، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي ناحيته. والنأي بالجانب أن يلوي عن عطفه ويوليه ظهره، أو أراد الاستكبار لأن هذا الفعل من شأن المستكبرين. ومن قرأ ناء فإما من النوء بمعنى النهوض مستثقلا، وإما مقلوب كقولهم «راء» في رأى. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر كانَ يَؤُساً شديد اليأس من روح الله. والحاصل أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود الدني نسي المنعم الحقيقي، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف حتى كاد يتلف أو يدنف، وكلتا الخصلتين مذمومة ولا مقتضى لهما إلا العجز والطيش وكل بقدر كما قال: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي كل واحد من الخلائق إنما يتيسر له أن يعمل على سيرته وطريقته التي تشاكل حاله التي جبل عليها من قولهم «طريق ذو شواكل» وهي الطرق التي تتشعب منه.
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا لأنه الذي خلق كل شيء ورباه وهو عالم بخاصية كل نفس وبمقتضى جوهرها المشرق، أو المظلم سواء قلنا إن النفوس مختلفة بالماهيات، أو هي متساوية الحقائق واختلاف أحوالها لاختلاف أمزجة أبدانها، كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه.
ولما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل هو عليه لزم البحث عن ماهية الروح فلذلك قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ذكر المفسرون في سبب نزوله أن اليهود قالوا لقريش: سلوا محمدا عن ثلاث: عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح. فإن أجاب عن الأولين وأبهم الثالثة فهو نبي لأن ذكر الروح مبهم في التوراة، وإن أجاب عن الكل أو سكت فليس بنبي. فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح إذ قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي مما استأثر الله بعلمه فندموا على سؤالهم. ومن الناس من طعن في هذه الرواية لوجوه منها: أن الروح ليس أعلى شأنا من الله تعالى، وإذا كانت معرفة الله تعالى
380
ممكنة بل حاصلة فما المانع من معرفة الروح. ومنها أن هذه المسألة تعرفها الفلاسفة والمتكلمون فكيف يليق بالنبي ﷺ أن يقول إني لا أعرفها مع وفور علمه وكمال معرفته؟ وكيف يصح ما روي عن ابن أبي بريدة لقد مضى النبي ﷺ وما يعلم الروح. ومنها أن جعل الحكاية دليلا على النبوة غير معقول. ونحن نتقصى عن المسألة فنقول: السؤال عن الروح إما أن يكون عن حقيقته أو عن حال من أحواله ككونه متحيزا أو غير متحيز، أو قديما أو حادثا أو باقيا بعد البدن أو فانيا، وعلى تقدير البقاء ما سعادته وشقاوته. وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة. وقوله تعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ليس فيه ما يدل على تعيين شيء من هذه المسائل، فالأولى أن يحمل السؤال على السؤال عن الحقيقة لأن معرفة حقيقة النبي أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله، فيكون قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي رمز إلى أن الروح جوهر بسيط مجرد حصل بمجرد الأمر وهو قوله: كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢] لأن الآية دلت على أن الروح من أمر الرب. وقال في آخر سورة يس إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢] ينتج أن الروح إذا أراده فإنما يقول له كن فيكون، ومنه يعلم أنه شيء مغاير للأجسام المتوقعة على المادة والمدة وللأعراض الموقوفة على الأجسام، وأنه بسيط محض وإلا لتوقف على انضمام أجزائه. ولا يلزم من كون الروح كذلك كونه مشاركا للباري تعالى في الحقيقة، فإن الاشتراك في اللوازم لا يقتضي الاشتراك في الملزومات.
وليس في الآية دلالة على حدوث الروح إلا بحسب الذات، بل لمستدل أن يستدل بها على قدمه بالزمان إذا لو كان متوقفا على الزمان لم يكن حاصلا بمجرد الأمر والمفروض خلافه.
ولما كان أمر الروح مشتبها على الناس كلهم أو جلهم ختم الآية بقوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وذلك أن الإنسان وإن كمل علمه وكثرت معرفته بحقائق الأشياء ودقائقها فإن ما علم يكون أقل مما لم يعلم، فإذا نسب معلومه إلى معلومات الله المشار إليها بقوله: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان: ٢٧] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الكهف: ١٠٩] كان كلا شيء فإنه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا. وقال بعض المفسرين: هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: ٢٦٩] فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله. وذكر الإمام فخر الدين الرازي أن قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي يدل على أن الروح حادث
381
لأن الأمر قد جاء بمعنى الفعل. قال تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: ٩٧] أي فعله وقال: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا [هود: ٩٤] أي فعلنا. وإذا حصل الروح بفعل الله وتكوينه كان من المحدثات. قلت: هذا عين النزاع فإن الخصم لا يسلم أن كل ما هو من فعل الله وبإيجاده فإنه حادث. ثم ذكر حجة أخرى على حدوث الروح مستنبطة من قوله سبحانه:
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ووجه تقريرها أن الإنسان بل روحه في مبدأ الفطرة خال عن العلوم والمعارف، ثم لا يزال يحصل له المعارف فهو دائما في التبدل والتغير من النقصان إلى الكمال وكل متغير محدث. ومنع كلية هذه القضية عند الخصم مشهور على أن حمل وقت قلة العلم على أول الفطرة تخصيص من غير دليل، مع أن ظاهر الآية يدل على أن الإنسان وإن أوتي حظا من العلم وافرا، فإنه قليل بالإضافة إلى علم عالم الذات.
وقيل: الروح المذكور في الآية هو القرآن الذي تسبب لحياة الروح كأن القوم استعظموا أمره فسألوا إنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله. وقيل: هو ملك في غاية العظم والشرف وهو المراد من قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: ٣٨] ونقل عن علي عليه السلام أن له سبعين ألف وجه، ولكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة يوم القيامة ولم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش، ولو شاء الله أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع بلقمة واحدة لفعل. وأمثال هذه الروايات مسرحة إلى بقعة الإمكان ولا وجه للاعتراض عقلا عليه. وقال الحسن وقتادة: هذا الروح جبرائيل كأنهم سألوا الرسول كيف جبرائيل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي؟ فأمر بأن يقول الروح من أمر ربي أي نزوله بأمر الرب كقوله: ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: ٦٤] وقال مجاهد: الروح خلق ليسوا بالملائكة على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون كما يأكل الناس، وليسوا بالناس. وزيفت هذه الأقوال بأن صرف السؤال عن الروح الإنساني الذي تتوفر دواعي العقلاء على معرفته إلى أشياء مجهولة الوجود مستنكر.
واعلم أن للعقلاء في حقيقة الإنسان اختلافات كثيرة، وإذا كان حال العلم بأقرب الأشياء إلى الإنسان وهو نفسه هكذا، فما ظنك بما هو الأبعد! ولنذكر بعض تلك المذاهب فلعل الحق يلوح في تضاعيف ذلك فنقول: العلم الضروري حاصل بوجود شيء يشير إليه كل واحد بقوله «أنا» فذلك المشار إليه إما أن يكونه جوهرا مفارقا، أو جسما هو
382
هذه البنية، أو جسما داخلا فيها أو خارجا عنها أو عرضا. أما المتكلمون فالجمهور منهم ذهبوا إلى أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس، وزيف بأن البدن دائما في التغير والتبدل. والمشار إليه بأنا واحد من أول العمر إلى آخره، وبأن الإنسان غير غافل عن نفسه حين ما يكون ذاهلا عن أجزاء بدنه، بأن النصوص الواردة في القرآن والخبر كقوله عز من قائل: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ [البقرة: ١٥٤]، يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي [الفجر: ٢٨] النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [الرمز: ٤٦]
وكقوله صلى الله عليه وسلم: «أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار» «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» «١»
وقوله في خطبة طويلة: «حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله وغير حله فالهناء لغيري والتبعة عليّ فاحذر وأمثل ما حل بي»
توجب مغايرة النفس للبدن، وبأن جميع فرق الدنيا من أرباب الملل والنحل يتصدقون عن موتاهم يزورونهم ويدعون لهم بالخير، وبأن الميت قد يرى في المنام فيخبر عن أمور غائبة وتكون كما أخبر، وبأن الإنسان قد يقطع عضو من أعضائه ويعلم يقينا أنه هو الذي كان قبل ذلك، وبثبوت المسخ في حق طائفة من أهل الكتاب وليس المسخ إلا تغيير البنية مع بقاء الحقيقة، وبأن جبرائيل قد رؤي في صورة دحية، وإبليس رؤي في صورة الشيخ النجدي، فعلم أن لا عبرة بالبنية، وبأن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره، فعلم أن المتلذذ والمتألم شيء آخر سوى العضوين، وبأنا نعلم ضرورة أن العالم الفاهم للخطاب إنما هو في ناحية القلب ليس جملة البدن ولا شيئا من الأعضاء. أما إن قيل: الإنسان جسم هو في داخل البدن. فاعلم أن أحدا من العقلاء لم يقل بأن الإنسان عبارة عن الأعضاء الكثيفة الصلبة التي غلبت عليها الأرضية كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد، ولكن منهم من قال: إنه الجسم الذي غلب عليه المائية من الأخلاط الأربعة، أعني الدم بدليل أنه إذا خرج لزم الموت. ومنهم من قال: إنه الذي غلب عليه الهوائية والنارية وهو الروح الذي في القلب، أو جزء لا يتجزأ في الدماغ، ومنهم من يقول: اختلطت بهذه الأرواح القلبية والدماغية أجزاء نارية مسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان. ومنهم من قال: إذا تكوّن بدن الإنسان وتم استعداده نفذت فيه أجرام سماوية نورانية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس غير قابلة للتبديل والتحويل ولا للتفرق والتمزق، نفوذا يشبه نفوذ النار في الفحم والدهن في
(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ٢٦.
383
السمسم وماء الورد في الورد. وهذا النفوذ هو المراد بقوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: ٧٢] ثم إذا تولد في البدن من أخلاط غليظة منعت من سريان تلك الأجسام فيها، فانفصلت لذلك عن البدن فحينئذ يعرض الموت للجوهر.
وقال الإمام فخر الدين الرازي: هذا مما ذهب إليه ثابت بن قرة وغيره وهو مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت. قلت: أما نفوذ الجوهر النوري في البدن كنفوذ الدهن في السمسم فمسلم، وأما أنه أجرام وأجسام ففيه نظر، واعلم أنه لم يذهب أحد إلى أن الإنسان جسم خارج عن البدن، ولا إلى أنه عرض حال في البدن إلا ما نقل عن الأطباء، وعن أبي الحسين البصري من المعتزلة، أن الإنسانية عبارة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص وعلى نسبة معلومة تخص هذا الصنف. ومن شيوخ المعتزلة من قال: الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة بشرط كونها موصوفة بأعراض مخصوصة هي الحياة والعلم والقدرة.
ومنهم من قال: إنه يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه. والصحيح من المذاهب عند أكثر علماء الإسلام- كالشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي، من قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي، ومن الشيعة الشيخ المفيد رضي الله عنه، ومن الكرامية جماعة، ومن الفلاسفة الإلهيين كلهم- أن الروح الإنساني جوهر مجرد ليس داخل العالم الجسماني ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعلم إلا على سبيل التصرف والتدبير، ومهما انقطعت علاقته عن البدن بقي البدن معطلا ميتا. واستدلوا على هذا المطلوب بحجج منها ما اختاره الإمام فخر الدين الرازي وهي لو كان الإنسان جوهرا متحيزا لكان كونه متحيزا عن ذاته المخصوصة إذ لو كان صفة قائمة بها لزم كون الشيء الواحد متحيزا مرتين ولزم اجتماع المثلين. وأيضا لم يكن جعل أحدهما ذاتا والآخر صفة أولى من العكس. وأيضا التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود، وإن كان صفة لزم التسلسل، وإذا كان التحيز عين ذاته لزم أنه متى عرف ذاته عرف تحيزه لكنا قد نعرف ذاتنا مع الجهل بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاث وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان، وإذا كان اللازم باطلا فالملزوم منتف وعورض بأنه لو كان الإنسان جوهرا مجردا لكان كل من عرف ذاته عرف تجرده وليس كذلك. وأجيب بالفرق بين التحيز- وهو صفة ثبوتية- وبين التجرد وهو صفة سلبية، ومنها أن الشيء الذي يشير إليه كل
384
واحد بقوله: «أنا واحد» بالبديهة، ولأن الغضب مثلا حالة نفسانية تحدث عند محاولة دفع المنافي مشروطا بالشعور بكون الشيء منافيا. فالذي يغضب لا بد أن يكون هو بعينه مدركا، ولأن اشتغال الإنسان بالغضب وانصبابه إليه يمنعه من الاشتغال بالشهوة والانصباب إليها، فعلمنا أنهما صفتان مختلفتان لجوهر واحد إذ لو كان لكل منهما مبدأ مستقل لم يكن اشتغال أحدهما بفعله مانعا للآخر، وأيضا شيئا فقد يكون الإدراك سببا لحصول الشهوة، وقد يكون سببا للغضب، فعلمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة والغضب. وأيضا النفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه، وهذا يقتضي أن المتحرك بالإرادة هو بعينه المدرك للخير والشر واللذيذ والمؤذي والنافع والضار، وهو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيّل والمتفكر والمشتهي والغاضب بوساطة آلات مختلفة وقوى متغايرة. وإذا ثبت ذلك فلو كانت النفس عبارة عن جملة البدن كان للكل أثر واحد، ولو كانت جزءا من أجزاء البدن كانت قوة سارية في جميع أجزاء البدن، والوجود بخلاف الكل فحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لكل البدن ولكل جزء من أجزائه. ومنها أن الاستقراء يدل على أحوال النفس بالضد من أحوال الجسد لأن الجسم إذا قبل شكل التثليث مثلا امتنع أن يقبل حينئذ شكل التربيع ولا كذلك حال النفس، فإن إدراك كل صورة يعينها على إدراك ما عداها ولذلك يزداد الإنسان فهما وذكاء بازدياد العلوم. وأيضا كثرة الأفكار توجب قوة للنفس وتستدعي استيلاء النفس على الدماغ وقد تصير أبدان أرباب الرياضة في غاية النحافة والهزال وتقوى نفوسهم بحيث لا يلتفتون إلى السلاطين وأصحاب الشوكة والقوة، ومما يختص بهذه الآية التي نحن في تفسيرها أن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام متغيرة من صفة إلى صفة، فحيث سئل رسول الله ﷺ عن الروح كان الأنسب أن يقول: إنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا كما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم صار علقة ثم مضغة إلى آخره. والأحاديث الواردة في أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد تؤكد ذلك الرأي الذي ادعينا من أن النفس شيء مغاير للبدن ولأجزائه والله أعلم بحقائق الأمور.
قال أهل النظم: لما بين أنه ما أتاهم من العلم إلا القليل أراد أن يبين أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل لقدر عليه فقال: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قلت:
في نسبة علم القرآن إلى القلة خروج من الأدب فالأولى في وجه النظم أن يقال: إنه لما
385
كشف لهم الغطاء عن مسألة الروح، وبين أن ذلك من العلوم الإلهية التي لا نهاية لها لا من العلوم الإنسانية القليلة، وكان فيه بيان كمال علمه تعالى ونقصان علم الإنسان، أراد أن يبين غاية قدرته ونهاية ضعف الإنسان أيضا فبين أنه قادر على ذهاب القرآن ونحوه عن الصدور والمصاحف، وسيكون ذلك في آخر الزمان كما جاء في الروايات ثم لا يجد النبي- الذي هو أكمل أنواع الإنسان- من يتوكل عليه باسترداده فضلا عن غيره إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استثناء متصل أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كأن رحمته تتوكل عليه بالرد، أو منقطع معناه ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به إِنَّ فَضْلَهُ بإيحاء القرآن إليك ثم إبقائه عليك أو بهذا وبسائر الخصائص والمزايا كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً وفيه أن نعمة القران وبقاءه محفوظا في الصدور مسطورا في الدفاتر من أجلّ النعم وأشرفها، فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن شكرها والقيام بمواجبها جعلنا الله ممن يراعي حق القرآن ويعمل بمقتضاه. واحتج الكعبي بالآية على أن القرآن مخلوق لأن ما يمكن إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديما، وأجيب بأن إزالة العلم عن القلوب والذهاب بالنقوش الدالة عليه في المصاحف لا يوجب حدوث الكلام النفسي الذي هو محل النزاع. ثم دل على أن الذي أوحي إليه ليس من جنس كلام المخلوقين فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ الآية. وقد مرّ وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة. فإن قيل: هب أنه ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف يعرف عجز الجن عن معارضته، ولم لا يجوز أن يقال: إن الجن أعانوه على هذا التأليف سعيا في إضلال الخلق؟ وإخبار محمد بأنه ليس من كلام الجن يوجب الدور وليس لأحد أن يقول: إن الجن ليسوا بفصحاء، فكيف يعقل أن يكون القرآن كلامهم لأنا نقول: التحدي مع الجن إنما يحسن لو كانوا فصحاء؟ فالجواب أن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزا. ثم إن الصادق الذي ثبت صدقه بظهور المعجز على وفق دعواه أخبر أن الجن أيضا عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن فسقط السؤال بالكلية. على أنه سبحانه قد أجاب عنه في آخر سورة الشعراء بقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ [الشعراء: ٢٢١] وسوف يجيء تفسيره إن شاء الله تعالى. قالت المعتزلة: التحدي بالقديم محال. وأجيب بمثل ما مر أن محل النزاع هو الكلام النفسي لا الألفاظ التي يقع التحدي بها وبفصاحتها. ثم بين أنهم مع ظهور عجزهم بقوا مصرين على كفرهم فقال: وَلَقَدْ صَرَّفْنا رددنا وكررنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ «من كل» معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه وذلك كدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وكالقصص اللائقة وغيرها من المواعظ والنصائح. فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ فيه معنى النفي كأنه قيل: فلم يرضوا إِلَّا كُفُوراً وجحودا. قال أهل البرهان: إنما لم يذكر الناس في أوائل السورة
386
حين قال: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا [الآية: ٤١] لتقدم ذكرهم في السورة وذكرهم في «الكهف» إذا لم يجر ذكرهم وذكر الناس هاهنا وإن جرى ذكرهم دفعا للالتباس، لأن ذكر الجن أيضا قد جرى وقدم للناس على قوله: فِي هذَا الْقُرْآنِ كما قدمه في قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وأما في «الكهف» فعكس الترتيب لأن اليهود سألته عن قصة أصحاب الكهف وغيرها. وقد أوحاها الله تعالى إليه في القرآن فكانت العناية بالقرآن أكثر فكان تقديمه أجدر.
التأويل:
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ أي من عمى قلوبهم وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ بالقول الثابت وهو قول «لا إله إلا الله» إلى أن بلغت حقيقة «لا إله إلا الله» شَيْئاً قَلِيلًا وإنما وصفه بالقلة لأن بشريته مغلوبة وروحانيته غالبة. ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي نحيي نفسك وأذقناك عذاب حياتها واستيلائها على الروح ونميت قلبك. وأذقناك عذاب مماته وضعف روحك وبعده عن الحق. سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا أي جرت عادة الله تعالى بأن يجعل لكل نبي عدوا يؤذيه ويمكر به. ثم بين طريق خلاص الأنبياء والأولياء عن ورطة الابتلاء فقال: أَقِمِ الصَّلاةَ أي أدّها بالقلب الحاضر نهارا وليلا. إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً بشواهد الحق بل الحق مشهود له. ثم أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ يعني السير في الله بالله وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ من حولي وأنانيتي وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ لا من لدن غيرك. وفيه أن كل ذي مقام فإنه لا يصل إلى مقام إلا بسعي يلائم الوصول إلى ذلك المقام كقوله وَسَعى لَها سَعْيَها [الإسراء: ١٩].
روي أن رجلا جاء إلى النبي ﷺ يعرض حاجة فقال صلى الله عليه وسلم: ما تريد؟ فقال: مرافقتك في الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ فقال الرجل: بلى مرافقتك في الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأعني على نفسك بكثرة السجود
جاءَ الْحَقُّ من الواردات والشواهد وتجلي صفات الجمال والجلال وَزَهَقَ الْباطِلُ وهو كل ما خلا الله من الموجودات ومن الخواطر كقوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ لأن كلام الحبيب طبيب القلوب إن الأحاديث من سلمى تسليني قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي قال العارفون: لله تعالى عالمان: عالم الأمر الذي خلق لا من شيء، وعالم الخلق الذي خلق من شيء ويعبر عنهما بالآخرة والدنيا والملكوت والملك والغيب والشهادة. والمعنى والصورة والباطن والظاهر والأرواح والأجسام، وما
روي
387
أنه ﷺ قال: «أول ما خلق الله جوهرة» -
وفي رواية- «درّة فنظر إليها فذابت» «أول ما خلق الله اللوح» «أول ما خلق الله روحي»
وفي رواية «نوري» «وأول ما خلق الله العقل» «وأول ما خلق الله القلم» «١»
وما قيل عن بعض السلف إن أول ما خلق الله على الإطلاق ملك كروبي. فالأسماء مختلفة والمسمى واحد وهو روح النبي صلى الله عليه وسلم.
فباعتبار أنه كان درة صدف الموجودات سمي درة وجوهرة، وباعتبار نورانيته سمي نورا، وباعتبار وفور عقله سمي عقلا، إذ قال له أقبل إلى الدنيا رحمة للعالمين فأقبل. ثم قال له: أدبر أي ارجع إلى ربك فأدبر عن الدنيا ورجع إلى المعراج، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إليّ منك، بك أعرف، وبك آخذ، يعني طاعة من أخذ منك الدين والشريعة، وبك أعطي أي بشفاعتك أعطي الدرجات العالية، وبك أعاقب الكافرين وبك أثبت المؤمنين. وباعتبار جريان الأمور على وفق متابعته والاقتداء به سمي قلما وباعتبار غلبات صفات الملائكة عليه سمي ملكا كروبيا، ولأن كل الأرواح خلقت من روحه كان أم الأرواح وروحها فلهذا قيل له «أمي».
وقد ورد في الحديث: «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة» «٢»
ولما كان الروح خليفة الله تعالى اتصف بالأزلية دون الأبدية، ولما كان الجسد خليفة الروح فبالروح قوامه وقيامه لم يكن الجسد أزليا ولا أبديا إلا بتبعية الروح. ثم أخبر عن عزة القرآن وغيرة الرحمن بقوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ الآية. وفيه أنه لا يقدر على الإتيان والذهاب به إلا الله تعالى لكنه أكد هذا المعنى بقوله:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ والمراد بالجن كل ما هو مستور عن العيون فيتناول الملائكة أيضا. وفيه أنه لا مثل لصفاته حتى الكلام كما أنه لا مثل لذاته والله تعالى أعلم بالصواب.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ١١١]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
(١) رواه أبو داود في كتاب السنة باب ١٦. الترمذي في القدر باب ١٧. أحمد في مسنده (٥/ ٣١٧).
(٢) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب ١. أحمد في مسنده (١/ ٢٨١، ٢٩٥).
388
القراآت:
فَتُفَجِّرَ من الفجر: يعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف سوى المفضل وابن الغالب. الآخرون من التفجير تكثيرا للفعل وإن كان الفاعل والمفعول مفردا حَتَّى تُنَزِّلَ بالتخفيف: أبو عمرو ويعقوب. الآخرون بالتشديد كِسَفاً بفتح السين: أبو جعفر ونافع وعاصم وابن ذكوان. الباقون بالإسكان قال سبحان بلفظ الماضي: ابن كثير وابن عامر الباقون قُلْ على الأمر فَهُوَ الْمُهْتَدِي بإثبات الياء في الحالين: سهل ونافع وأبو عمرو وفي الوصل. الباقون بحذف الياء رَبِّي إِذاً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو خَبَتْ زِدْناهُمْ بإدغام التاء في الزاي: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وسهل.
لقد علمت بضم التاء، على التكلم: عليّ. الآخرون بالفتح على الخطاب قُلِ ادْعُوا بكسر اللام للساكنين: عاصم وحمزة وسهل ويعقوب وعباس. الآخرون بضمها للإتباع أَوِ ادْعُوا بكسر الواو: عاصم وحمزة وسهل. الباقون بالضم أَيًّا ما حمزة ورويس
389
يقفان على أَيًّا ثم يبتدئان ما تَدْعُوا ويسمى هذا الوقف وقف البيان. الباقون على كلمة واحدة.
الوقوف:
يَنْبُوعاً هـ لا تَفْجِيراً هـ لا قَبِيلًا هـ لا فِي السَّماءِ ط لابتداء النفي بعد طول القصة. وقيل: الأصح الوصل لأن قوله: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ من كلامهم نَقْرَؤُهُ ط رَسُولًا هـ رَسُولًا هـ رَسُولًا هـ وَبَيْنَكُمْ ط بَصِيراً هـ الْمُهْتَدِ ج لعطف جملتي الشرط مع التضاد مِنْ دُونِهِ لا لأن الواو لا يحتمل الاستئناف وَصُمًّا هـ جَهَنَّمُ ط سَعِيراً هـ جَدِيداً هـ لا رَيْبَ فِيهِ ط لتناهي الاستفهام إلى الإخبار كُفُوراً هـ الْإِنْفاقِ ط قَتُوراً هـ مَسْحُوراً هـ بَصائِرَ ط للابتداء بأن مع اتحاد القائل مَثْبُوراً هـ جَمِيعاً هـ لا للعطف لَفِيفاً، ط لانقطاع النظام والمعنى.
نَزَلَ ط لابتداء النفي وَنَذِيراً، احترازا من إيهام العطف تَنْزِيلًا هـ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ط سُجَّداً، لا لَمَفْعُولًا هـ خُشُوعاً هـ الرَّحْمنَ ط لتصدير الشرط الْحُسْنى ج لانقطاع نظم الشرط إلى النهي مع اتحاد المراد. سَبِيلًا هـ تَكْبِيراً هـ.
التفسير:
ليس من شرط كون النبي صادقا تواتر المعجزات وتتالي الآيات، لأن فتح هذا الباب يوجب نقيض المقصود وهو أن لا تثبت نبوته أبدا، ولكن المعجز الواحد يكفي في صدق النبي، واقتراح الزيادة من جملة العناد فلا جرم لما بين الله سبحانه إعجاز القرآن حكى مقترحات المعاندين بيانا لتصميمهم على الكفر.
قال ابن عباس: إن رؤساء مكة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهم جلوس عند الكعبة- فأتاهم فقالوا:
يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لتتسع وفجر لنا ينبوعا نزرع فيها. فقال: لا أقدر عليه. فقال قائل منهم: أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا.
فقال: لا أقدر عليه. فقيل له: أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا.
فقال: لا أقدر عليه. فقيل له: فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا. فقال عبد الله ابن أمية المخزومي- وأمه عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- لا والذي يحلف به لا أؤمن بك حتى تتخذ سلما فتصعد عليه ونحن ننظر فتأتي بأربعة من الملائكة فيشهدون لك بالرسالة، ثم بعد ذلك لا أدري أؤمن بك أم لا. فأنزل الله هذه الآيات.
ولنشرع في تفسير اللغات. فقوله: يَنْبُوعاً أي عينا غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع، والياء زائدة كيعبوب من عب الماء. وقوله: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ معناه هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك. وقوله: كَما زَعَمْتَ إشارة إلى قوله سبحانه: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ:
390
٩] أو إشارة إلى ما مرّ في السورة من قوله: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً [الإسراء: ٦٨] أي أجعل السماء قطعا متفرقة كالحاصب وأسقطها علينا.
وقال عكرمة: كما زعمت يا محمد أنك نبي فاسقط السماء علينا. وقيل: كما زعمت أن ربك إن شاء فعل. قال في الكشاف: الكسف بسكون السين وفتحها جمع «كسفة» بالسكون كسدرة وسدر وسدر. وقال أبو علي: الكسف بالسكون الشيء المقطوع كالطحن للمطحون. واشتقاقه- على ما قال أبو زيد- من كسفت الثوب كسفا إذا قطعته. وقال الزجاج: من كسفت الشيء إذا غطيته كأنه قيل: أو تسقطها طبقا علينا، وهو نصب على الحال في القراءتين. ومعنى قَبِيلًا كفيلا بما تدعي من صحة النبوة والمراد أو تأتي بالله قبيلا وبالملائكة قبيلا فاختصر، أو المراد المقابل كالعشير بمعنى المعاشر. وفيه دليل على غاية جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى لا يجوز عليه المعاينة نظير قولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان: ٢١] وقال ابن عباس: أراد فوحا بعد فوج. وقال الليث: كل جند من الجن والإنس قبيل وقد مر في تفسير قوله: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ [الأعراف: ٢٧].
قوله: بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأينا في قراءة عبد الله «أو يكون لك بيت من ذهب». وقال الزجاج: هو الزينة ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب. أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي في معارجها فحذف المضاف. يقال: رقي في السلم وفي الدرجة. والمصدر «رقى» وأصله «فعول» كقعود وَمعنى لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ لن نؤمن لك لأجل رقيك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً من السماء فيه تصديقك. قال الرسول: متعجبا من اقتراحاتهم أو تنزيها لله من تحكماتهم أو من قولهم: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ أي لست إِلَّا بَشَراً رَسُولًا فإن طلبتم هذه الأشياء أن آتي بها من تلقاء نفسي فالبشر لا يقدر على أمثال ذلك فكيف أقدر أنا عليها؟ وإن أردتم أن أطلب من الله إظهارها على يدي فالرسول إذا أتى بمعجز واحد وجب الاكتفاء به، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله بما ليس بضروري في الدعوة.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى فقال: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا أي الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وهو الوحي المعجز الهادي إلى طريق النجاة إِلَّا أَنْ قالُوا منكرين أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا ثم أجاب عن شبهتهم بقوله: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ على الأقدام كما يمشي الإنس مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لأن الرسول لا بد أن يكون من جنس المرسل إليهم. فكأنه اعتبر
391
لتنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين: أحدهما كون سكان الأرض ملائكة، والثاني كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا أو سمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملك إليهم فائدة. وجوز في الكشاف أن يكون قوله: بَشَراً ومَلَكاً منصوبين على الحال من رَسُولًا بل زعم أن المعنى له أجوب، ولعل ذلك لأن الإنكار توجه إلى كون الرسول متصفا بحالة البشرية لا الملكية، وإذا كان أحد الصنفين المتقابلين حالا لزم أن يكون الآخر كذلك.
ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد قائلا: قُلْ كَفى بِاللَّهِ الآية. وذلك أن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله تعالى له على الصدق. فإذا لم تسمع هذه الشهادة وهو عليم ببواطن الأمور وخفيات الضمائر فكيف بظواهرها؟ علم أن هذا مجرد الحسد والعناد من العباد فيجزيهم على حسب ذلك. ثم بين أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته وتقديره فقال: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ الآية. وقد مر خلاف المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة في مثله في آخر «الأعراف» وغيره. وقوه: فَهُوَ الْمُهْتَدِ حمل على اللفظ وقوله: فَلَنْ تَجِدَ حمل على المعنى. والخطاب في فَلَنْ تَجِدَ إما للنبي أو لكل من يستحق الخطاب. والأولياء الأنصار، والحشر على الوجوه إما بمعنى السحب عليها كقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: ٤٨] واما بمعنى المشي عليها كما
روي أنه ﷺ سئل عن ذلك فقال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» «١».
وقيل لابن عباس: قد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يرون وينطقون ويسمعون حيث قال: رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً سَمِعُوا لَها الجمع بين ذاك تغيظا وزفيرا فكيف وبين قوله: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا؟ فأجاب بأنهم لا يرون ما يسرهم، ولا ينطقون بحجة تقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم. وفي رواية عطاء أنهم عمي عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه، بكم عن مخاطبة الله ومخاطبة الملائكة المقربين، صم عن ثناء الله على أوليائه، وقال مقاتل: هذه الأحوال بعد قوله تعالى لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨] أو بعد أن يحاسبوا فيذهب بهم إلى النار. وإنما جعلوا مؤوفي الحواس جزاء على ما كانوا عليه في الدنيا من التعامي والتصامم عن الحق ومن عدم النطق به كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهبها.
(١) رواه البخاري في تفسيره سورة ٢٥ باب ١. مسلم في كتاب المنافقين حديث ٥٤. الترمذي في كتاب التفسير سورة ١٧ باب ١٢. أحمد في مسنده (٢/ ٣٥٤، ٣٦٣).
392
خبت النار تخبو خبوا وأخباها غيرها أي أخمدها زِدْناهُمْ سَعِيراً قال ابن قتيبة: أي تسعرا وهو التلهب. ولا ريب أن خبو النار تخفيف لأهليها فكيف يجمع بينه وبين قوله:
لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [البقرة: ١٦٢] وأجيب بأنه يحصل لهم في الحال الأولى خوف حصول الحالة الثانية فيستمر العذاب، أو يقال: لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في الوقتين غير مشعور به، ويحتمل أن يقال: المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس أو معتد به بين الخبو والتسعر. وقال في الكشاف: لأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجرامهم تأكلها وتفنيها. ثم يعيدها، وفيه زيادة في تحسرهم وفي الانتقام منهم. ومما يدل على هذا التفسير قوله:
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ الآية.
ثم أبدى للجاحدين حجة يستبصر المذعن للحق إذا تأمل فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا الآية. وذلك أن من قدر على خلق السموات والأرض كان على إعادة من هو أدون منها أقدر، وعلى هذا فالمراد من خلق مثلهم إعادتهم بعد الإفناء كما يقول المتكلمون من أن الإعادة مثل الابتداء. ومن قال: أراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم بصورتهم ليوحدوه ويتركوا الاعتراض عليه كقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر:
١٦] أي يبعثهم. وحين بيّن أن البعث أمر ممكن في نفسه ذكر أن لوقوعه وقتا معلوما ما عنده فقال: وَجَعَلَ لَهُمْ أي لبعثهم أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ قال جار الله: قوله:
وَجَعَلَ معطوف على قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا والمعنى قد علموا بدليل العقل أنه قادر على خلق أمثالهم وجعل لهم. وأقول: يحتمل أن يكون الواو للاستئناف ووجه النظم كما مر لما طلبوا إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتسع معايشهم بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله وهي رزقه وسائر نعمه عى خلقه التي لا نهاية لها لبقوا على بخلهم وشحهم فضلا أن يملكوا خزائن هن بصدد الفناء والنفاد. قال النحويون: كلمة «لو» حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء، لأنها حين تكون على معناها الأصلي تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال لا الذوات. وأيضا إنها هاهنا بمعنى «إن» الشرطية وهي مختصة بالفعل فلا بد من تقدير فعل بعدها، فأصل الكلام: لو تملكون تملكون مرتين. فأضمر «تملك» إضمارا على شريطة التفسير فصار الضمير المتصل منفصلا لسقوط ما كان يتصل هو به ف أَنْتُمْ فاعل الفعل المضمر تَمْلِكُونَ تفسيره. وقال علماء البيان: فائدة هذا التصرف الدال على الاختصاص أنهم هم المختصون بالشح المتبالغ، وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل
393
المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر من حيث إنه لا يقصد الفعل بل الفاعل كما في قول حاتم: لو ذات سوار لطمتني. لا يقصد اللطمة بل اللاطمة أي لو حرة لطمتني وقوله: خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي خوف الفقر من أنفق ماله إذا ذهب وأمسكتم متروك المفعول معناه لبخلتم وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا شحيحا، والقتر والإقتار والتقتير التقصير في الإنفاق. وهذا الخبر لا ينافي ما قد يوجد في الإنسان من هو كريم جواد لأن اللام للجنس أي هذا الجنس من شأنه الشح إذ كان باقيا على طبعه لأنه خلق محتاجا إلى ضرورات المسكن والملبس والمطعوم والمنكوح، ولا بد له في تحصيل هذه الأشياء من المال فيه تندفع حاجاته وتتم الأمور المتوقفة على التعاون، فلا جرم يحب المال ويمسكه لأيام الضرورة والفاقة. ومن الناس من يحب المال محبة ذاتية لا عرضية فإذا الأصل في الإنسان هو البخل والجود منه إنما هو أمر تكلفي أو عرضي طلبا للثناء أو الثواب. وقيل: المراد بهذا الإنسان المعهود السابق ممن قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن الأرض لبخلوا بها.
ثم قال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ فكأنه أراد أنا آتيناه معجزات مساوية لهذه الأمور التي اقترحتموها بل أقوى منها وأعظم، فليس عدم الاستجابة إلى ما طلبتموه من البخل ولكن لعدم المصلحة أو لعدم استتباع الغاية لعلمنا بإصراركم والختم على قلوبكم، عن ابن عباس: أن الآيات التسع هن: العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل. وعن الحسن: الطوفان والسنون ونقص الثمرات. مكان الحجر والبحر والطور. وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب عنهن فذكر من جملتها: حل عقدة اللسان والطمس على أموالهم. فقال له عمر: لا يكون الفقيه إلا هكذا. أخرج يا غلام الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة.
وعن صفوان بن عسال أن بعض اليهود سأل رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: «أوحى الله إلى موسى أن قل لبني إسرائيل: لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تفشوا سر أحد إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت، فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالا: «إنك نبي ولولا أنا نخاف القتل لاتبعناك» «١».
قال الإمام فخر الدين
(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة ١٧ باب ١٥. أحمد في مسنده (٤/ ٢٣٩).
394
الرازي: هو أجود ما قيل في الآيات التسع. وأقول: عد الأحكام من الآيات البينات فيه بعد، اللهم إلا أن يقال: النهي عن مساوئ الأخلاق والعادات من جملة علامات النبوة.
قال بعد العلماء: أجابهم النبي ﷺ بتسع وزاد واحدة تختص بهم.
وروى أبو داود هذا الحديث ولم يذكر: «ولا تقذفوا محصنة»
وشك شعبة في أنه صلى الله عليه وسلم:
«ولا تقذفوا محصنة»
أو قال: «تولوا الفرار». وقيل: إنه كان لموسى آيات أخر كإنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه، وكالآيات التي عدها بعضهم من التسع وتركها بعضهم. إلا أن تخصيص العدد بالذكر لا يقدح في الزيادة عليه. هكذا قال الأصوليون، ولكن الذوق يأبى أن لا يكون للتخصيص فائدة.
والذي يدور في خلدي أن سبب التخصيص هو أن مرجع جميع معجزاته إلى تسع أنواع كلمتين ونقص الثمرات مثلا فإنهما نوع واحد وهو القحط وقد يعسر إبداء ما به الاشتراك ولكن لا بد عندي من اعتقاد الانحصار في التسع لأجل خبر الصادق. أما قوله:
فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ فالخطاب فيه للنبي ﷺ والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت. والمسئولون مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله: إِذْ جاءَهُمْ يتعلق ب آتَيْنا وينتصب بإضمار «اذكر»، أو هو للتعليل. والمراد فاسألهم يخبروك لأنه جاءهم أي جاء أباهم. ويحتمل أن يكون الخطاب لموسى بتقدير القول أي فقلنا له حين جاءهم سل بني إسرائيل أي سلهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل، أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم أو سلهم عن أن يعاضدوك ويساعدوك في الأمور والمسحور الذي سحر فخولط عقله. وقيل: هو بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون قاله الفراء. وعن محمد بن جرير الطبري أن معناه أعطى علم السحر. من قرأ «علمت» بضم التاء فظاهر لأن موسى كان عالما بصحة الأمر وأن هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض، فأراد أني لا أشك في أمري بسبب تشكك مكذب مثلك. ومن قرأ بفتحها فالمراد تبين أن كفر فرعون كفر جحود وعناد كقوله وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: ١٤]. وقوله للآيات: هؤُلاءِ كقوله:
والعيش بعد أولئك الأيام ومعنى بَصائِرَ بينات مكشوفات وانتصابها على الحال كأنه أشار بقوله: ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى أنها أفعال خارقة للعادة، وبقوله: بَصائِرَ إلى أن فاعله إنما فعله لغرض تصديق المدعي فتم حد المعجز بمجموع القيدين. ثم قارع
395
موسى ظن فرعون بظنه فقال: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال الفراء: أي ملعونا محبوسا عن الخير من قولهم «ما ثبرك عن هذا» أي ما منعك وصرفك. وقال مجاهد وقتادة، أي هالكا من الثبور الهلاك. ولا ريب أن ظن موسى أصح من ظنه لأن إنكار ما علم صحته يستعقب لا محالة ويلا وثبورا وحسرة وندامة ولهذا قال: فَأَرادَ أي فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي يستخف موسى وقومه من بسيط الأرض أو من أرض مصر بالقتل والاستئصال أو بالنفي والإخراج. والحاصل أن فرعون عورض بنقيض المقصود فأغرق هو وقومه وأسكن بنو إسرائيل مكانه تحقيقا لقوله: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: ٣٤] ثم أخبر عن المعاد قائلا فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وهو قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ يعني معشر المكلفين كلهم لَفِيفاً جماعات من قبائل شتى ذوي أديان ومذاهب مختلفة، وذلك لأجل الحكم والجزاء والفصل والقضاء.
ولما بين إعجاز القرآن وأجاب عن شبهات القوم أراد أن يعظم شأن القرآن ويذكر جلالة قدره فقال: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ التقديم للتخصيص أي ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق في مركزه وتمكين الصواب في نصابه. قال جار الله: أي ما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبسا بالحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظ بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين. وقال آخرون: الحق هو الثابت كما أن الباطل هو الزاهق، ولا ريب أن هذا الكتاب الكريم يشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام، وعلى تعظيم الملائكة وإقرار النبوات وإثبات المعاد، وعلى أصول الأديان والملل التي لا يتطرق إليها النسخ والتبديل، وكل هذه الأمور تدل على المعنى المذكور لأنها مما تبقى ببقاء الدهور. قال أبو علي الفارسي: بالباء في الموضعين بمعنى «مع» كما في قولك «خرج بسلاحه» أي أنزل القرآن مع الحق ونزل هو مع الحق. ويحتمل أن تكون الباء الثانية بمعنى «على» كما في قولك «نزلت بزيد» فيكون الحق عبارة عن محمد صلى الله عليه وآله لأن القرآن نزل به أي عليه وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً بالجنة وَنَذِيراً من النار ليس إليك وراء هذين شيء من إكراه على الدين والإتيان بشيء مما اقترحوه. ثم إن القوم كأنهم من تعنتهم طعنوا في القرآن من جهة أنه لم ينزل دفعة واحدة فأجاب عن شبهتهم بقوله:
وَقُرْآناً وهو منصوب بفعل يفسره فَرَقْناهُ أي جعلنا نزوله مفرقا منجما. وعن ابن عباس أنه قرأه مشددا وقال: إنه لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة يعني أن فرق بالتخفيف يدل على فصل مقارب. وقال أبو عبيدة: التخفيف
396
أعجب إليّ لأن تفسيره بيناه وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقا. فالفرق يتضمن التبين ويؤكده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام. وأقول: إن ابن عباس اعتبر الفصل بين أول نزوله وبين آخره، فرأى التشديد أولى. ولعل المراد الفصول المتقاربة التي فيما بين المدة بدليل قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ بضم الميم أي على مهل وتؤدة ولقوله: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي على حسب المصالح والحوادث.
ثم خاطب نبيه ﷺ بأن يقول للمقترحين آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا وهو أمر وعيد وتهديد وخذلان. قال جار الله: قوله إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إما أن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية كأنه قيل: تسل عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء الذي قرأوا الكتب من قبل نزول القرآن. قال مجاهد: هم أناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد ﷺ خروا وسجدوا منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام. وفي قوله: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً دون أن يقول «يسجدون» مبالغة من وجهين: أحدهما أنه قيد الخرور وهو السقوط بالذقن. فقال الزجاج: لأن الذقن مجتمع اللحيين، وكما يبتدىء الإنسان بالخرور للسجود فأول ما يحاذي به الأرض من وجهه الذقن. قلت: هذا تصحيح للمعنى ولا يظهر منه لتغيير العبارة فائدة. وقال غيره: المراد تعفير اللحية في التراب فإن ذلك غاية الخضوع وإن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض مغشيا عليه. وثانيهما أنه لم يقل «يخرون على الأذقان» كما هو ظاهر وإنما قال لِلْأَذْقانِ لأن اللام للاختصاص فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور، أو خصوا الخرور بأذقانهم. ثم حكى أنهم في سجودهم أنهم يراعون شرائط التنزيه والتعظيم قائلين سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا بإنزال القرآن وبعثة محمد ﷺ في كتبنا لَمَفْعُولًا أي منجرا «وإن» مخففة من الثقيلة ولهذا دخلت اللام في خبر كان، ثم ذكر أنهم كما خروا لأذقانهم في حال كونهم ساجدين فقد خروا لها حال كونهم باكين، ويجوز أن يكون التكرير لأجل الدلالة على تكرير الفعل منهم بدليل قوله وَيَزِيدُهُمْ أي القرآن خُشُوعاً لين قلب ورطوبة عين، ثم أراد أن يعلمهم كيفية الخشوع والدعاء فقال: قُلِ ادْعُوا عن ابن عباس: سمعه أبو جهل يقول: يا الله يا رحمن. فقال: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر. وقيل: أن أهل الكتاب قالوا: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. قال جار الله:
الدعاء بمعنى التسمية لا النداء وهو يتعدى إلى مفعولين. تقول: دعوته زيدا ثم تترك أحدهما استغناء عنه فتقول: دعوت زيدا و «أو» للتخيير والمعنى على السبب الأول سموه
397
بهذا الاسم أو بهذا، وعلى السبب الثاني اذكروا إما هذا وإما هذا أَيًّا ما تَدْعُوا يعني أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم فالتنوين عوض عن المضاف إليه «وما» صلة زيدت لتأكيد الإبهام. والضمير «في فَلَهُ لا يرجع إلى أحد الاسمين ولكن إلى مسماهما، وكان أصل الكلام أن يقال: فهو أي ذلك الاسم حسن فوضع موضعه. قوله: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان. ومعنى حسن الأسماء استقلالها بنعوت الجلال والإكرام وقد مر في آخر «الأعراف».
ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت لا الصلاة أفعالها فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، ومنه يقال: خفت صوته خفوتا إذا انقطع كلامه أو ضعف وسكن، وخفت الزرع إذا ذبل، وخافت الرجل بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كان يرفع صوته لعله
أو من إطلاق الصلاة على بعض أفعالها فهو ألح تأمل. مصححه بالقراءة، فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله إليه وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمعه المشركون فيسبوا الله عدوا بغير علم وَلا تُخافِتْ بِها فلا تسمع أصحابك وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ الذي ذكر من الجهر المخافتة سَبِيلًا وسطا،
وروي أن النبي ﷺ طاف بالليل دور الصحابة فكان أبو بكر يخفي صوته في صلاته ويقول: أناجي ربي وقد علم حاجتي.
وكان عمر يرفع صوته ويقول: أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان. فأمر النبي ﷺ أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وأمر عمر أن يخفض قليلا فنزلت الآية
على حسب ذلك. وقيل: معناه ولا تجهر بصلاتك كلها، ولا تخافت بها كلها، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل، وتخافت بصلاة النهار، وعن عائشة وأبي هريرة ومجاهد أن الصلاة هاهنا الدعاء. وقد يروى هذا مرفوعا. قال الحسن: لا يرائي بعلانيتها ولا يسيء بسريرتها، وأيضا في الجهر إسماع غيره الذنوب وهو الموجب للتغيير والتوبيخ، وعلى هذا ذهب قوم إلى أن الآية منسوخة بقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: ٥٥] قال جار الله:
ابتغاء السبيل مثل لابتغاء الوجه الوسط في القراءة.
ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادي إلا بأسمائه الحسنى نبه على كيفية التحميد بقوله:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية قال في الكشاف: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ وأجاب بأن هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة، فهو الذي
398
يستحق جنس الحمد، وأقول: الولد يتولد من جزء من أجزاء الوالد، فالوالد مركب وكل مركب محدث والمحدث محتاج والمحتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد، وأيضا الولد مبخلة لا يستحق الحمد والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يستقل بالمالكية فيفتقر إلى من يتم بمشاركته أمور مملكته ومصالح تمدنه، وكل من كان كذلك كان عاجزا بالنظر إلى ذاته، فلا يتم فيضانه فلا يستحق الحمد على الإطلاق، وهكذا حكم من كان له لي من الذل أي اتخذ حبيبا من أجل ذل به واستفادة لا من عزة وقوة إفاضة، أو الولي بمعنى الناصر أي ناصر من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته. وأيضا قد يمنعه الشريك من إصابة الخير إلى أوليائه، والذي يكون له ولي من الذل يكون محتاجا إليه فينعم عليه دون من استغنى عنه. أما إذا كان منزها عن الولد وعن الشريك وعن أن يكون له ولي ينصره ويلي أمره كان مستوجبا لأعظم أنواع الحمد ومستحقا لأجلّ أقسام الشكر. قال الإمام فخر الدين الرازي: التكبير أنواع منها: تكبير الله في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته غني عن كل ما سواه. ومنها تكبيره في صفاته بأن يعتقدها كلها من صفات الجلال والإكرام وفي غاية العظمة ونهاية الكمال وأنها منزهة عن سمات التغير والزوال والحدوث والانتقال. ومنها تكبيره في أفعاله وعند هذا تعود مسألة الجبر والقدر. قال:
سمعت أن الأستاذ أبا إسحق الإسفرايني كان جالسا في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني. فلما رآه قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء. فقال الأستاذ: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء. ومنها تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أن أحكامه كلها جارية على سنن الصواب وقانون العدالة وقضية الاستقامة. ومنها تكبيره عن هذا التكبير وتعظيمه عن هذا التعظيم، وكان النبي ﷺ إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية والله أعلم.
التأويل:
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ كانوا أرباب الحس فلم يبصروا شواهد الحق ودلائل النبوة ولم يطلبوا منه ما كان هو عليه من تزكية النفوس وتصفية القلوب وتجلية الأرواح وتفجير ينابيع الحكمة من أرض القلوب لإنبات نخيل المشاهدات وأعناب المكاشفات في جنات المواصلات. أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا تعجبوا من كون البشر رسولا حين ظن أن الملك أعلى حالا من البشر، وغفلوا عن رتبة الإنسان الكامل حيث جعل سجود الملائكة المقربين وأودع فيه سر الخلافة مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ الحرص والشهوات، كلما سكنت نار شهوة باستيفاء حظها زِدْناهُمْ سَعِيراً باشتعال طلب شهوة أخرى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ قال الشيخ المحقق نجم الحق: والدين المعروف بداية إرادة الآيات التي تدل على نبوته فيما
399
يتعلق بنفسه خاصة كإلقائه في اليم وإخراجه منه وتربيته في حجر العدوة وتحريم المراضع عليه ونحو ذلك. وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ لأن الأرواح المتعلقة بالعالم السفلي احتاجت في الرجوع إلى عالم العلو إلى حبل متين هو القرآن كقوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران: ١٠٣]، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ التميز بين أهل السعادة والشقاوة بالاتباع وعدمه إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قبل نزوله في الأزل إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ في الأزل عنه خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: ١٧٢] يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً للإجابة يقولون «بلى» وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ في عالم الصورة يبكون. فالتواضع والسجود من شأن الأرواح والبكاء والخشوع عن شأن الأجساد. ثم بين أن الأرواح إنما أرسلت إلى الأبدان للعبودية وذكر الله فقال: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي كل اسم من أسمائه حسن فادعوه حسنا وهو الدعاء بالإخلاص وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ رياء وسمعة وَلا تُخافِتْ بِها أن تخفيها بالكلية فيحرموا المتابعة والأسوة الحسنة وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا بإظهار الفرائض وإخفاء النوافل والله تعالى أعلم.
400
Icon