تفسير سورة السجدة

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا، وقوله :﴿ تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي لا شك فيه ولا مرية أنه منزل ﴿ مِن رَّبِّ العالمين ﴾، ثم قال تعالى مخبراً عن المشركين ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه ﴾ بل يقولون افتراه أي اختلقه من تلقاء نفسه، ﴿ بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ في يتبعون الحق.
يخبر تعالى أنه خالق الأشياء، فخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وقد تقدم الكلام على ذلك، ﴿ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ ﴾ أي بل هو المالك لأزمة الأمور، الخالق لكل شيء، المدبر لكل شيء، القادر على كل شيء، فلا ولي لخلقه سواه، ولا شفيع إلاّ من بعد إذنه، ﴿ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ﴾ يعني أيها العابدون غيره، المتوكلون على من عداه، تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير، لا إله إلاّ هو ولا رب سواه. وقوله تعالى :﴿ يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ﴾ أي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة، كما قال تعالى :﴿ الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ ﴾ [ الطلاق : ١٢ ] الآية، وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا، ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة، وسمك السماء خمسمائة سنة، وقال مجاهد والضحاك : النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام، وصعوده في مسيرة خمسمائة عام، ولكنه يقطعها في طفة عين، ولهذا قال تعالى :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ * ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة ﴾ أي المدبر لهذه الأمور الذي هو شهيد على أعمال عباده، يرفع إليه جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها، هو العزيز الذي قد عز كل شيء فقهره وغلبه، ودانت له العباد والرقاب، ﴿ الرحيم ﴾ بعباده المؤمنين.
يقول تعالى مخبراً أنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها قال زيد بن أسلم :﴿ الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾ قال : أحسن خلق كل شيء، كأنه جعله من المقدم والمؤخر؛ ثم لما ذكر تعالى خلق السماوات والأرض، شرع في ذكر خلق الإنسان، فقال تعالى :﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ﴾ يعني خلق أبا البشر آدم من طين، ﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ أي يتناسلون كذلك من نطفة، تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة ﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ ﴾ يعني آدم لما خلقه من تراب خلقه سوياً مستقيماً، ﴿ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة ﴾ يعني العقول، ﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ أي بهذه القوى التي رزقكموها الله عزَّ وجلَّ، فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عزَّ وجلَّ.
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في استبعاهدم المعاد حيث قالوا ﴿ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض ﴾ أي تمزقت أجسامنا، وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت، ﴿ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي أئنا لنعود بعد تلك الحال؟ يستبعدون ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾، الظاهر أن ملك الموت شخص معين، وقد سمي في بعض الآثار بعزرائيل وهو المشهور، وله أعوان؛ وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد، حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت، قال مجاهد : حويت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها متى شاء، وقال كعب الأحبار : والله ما من بيت فيه أحد من أهل الدنيا إلاّ وملك الموت يوقم على بابه كل يوم سبع مرات ينظر هل فيه أحد أمر أن يتوفاه، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ أي يوم معادطم وقيامكم من قبوركم لجزائكم.
يخبر تعالى عن حال المشركين يوم القيامة، حين عاينوا البعث وقاموا بين يدي الله عزَّ وجلَّ، حقيرين ذليلين ناكسي رؤوسهم أي من الحياء والخجل، يقولون ﴿ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ﴾ أي نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك كما قال تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ [ مريم : ٣٨ ] وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار بقولهم :﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير ﴾ [ الملك : ١٠ ]، وهكذا هؤلاء يقولون ﴿ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا ﴾ أي إلى دار الدنيا ﴿ نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ أي قد أيقنا وتحققنا فيها أن وعدك حق ولقائك حق، وقد علم الرب تعالى منهم أنه لو أعادهم إلى الدنيا لكانوا كفاراً يكذبون بآيات الله، ويخالفون رسله، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ﴾ [ الأنعام : ٢٧ ] الآية، وقال هاهنا :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً ﴾ [ يونس : ٩٩ ]، ﴿ ولكن حَقَّ القول مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ أي من الصنفين فدارهم النار لا محيد لهم عنها ولا محيص لهم منها، نعوذ بالله وكلماته التامة من ذلك ﴿ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ ﴾ أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ، ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به، واستبعادكم وقوعه، ﴿ إِنَّا نَسِينَاكُمْ ﴾ أي سنعاملكم معاملة الناسي، لأنه تعالى لا ينسى شيئاً ولا يضل عنه شيء، بل من باب المقابلة، كما قال تعالى :﴿ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا ﴾ [ الجاثية : ٣٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي بسبب كفركم وتكذيبكم، كما قال تعالى :﴿ فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٠ ].
يقول تعالى :﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ﴾ أي إنما يصدق بها ﴿ الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً ﴾ أي استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً، ﴿ وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي عن اتباعها والانقياد لها، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة، قال الله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [ غافر : ٦٠ ]، ثم قال تعالى :﴿ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع ﴾ يعني بذلك قيام الليل وترك النوم، والاضطجاع على الفرش الوطيئة، قال مجاهد الحسن : يعني بذلك قيام الليل، وعن أنس وعكرمة : هو الصلاة بين العشاءين، وعن أنس أيضاً : هو انتظار صلاة العتمة، وقال الضحاك : هو صلاة العشاء في جماعة وصلاة الغداة في جماعة ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ أي خوفاً من وبال عقابه، وطمعاً في جزيل ثوابه ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية، عن معاذ بن جبل قال :« كنت مع النبي صلى الله عليه سولم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير، فقلت : يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال :» لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على ن يسره الله عليه، وتعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفىء الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ ﴿ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع ﴾ حتى بلغ ﴿ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ « فقلت : بلى يا رسول الله، فقال :» رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله «؟ فقلت : بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه ثم قال :» كفْ عليك هذا « فقلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم ».
وروى ابن أبي حاتم، عن معاذ بن جبل قال :« كنت مع النبي ﷺ في غزوة تبوك فقال :» إن شئت نبأتك بأبواب الخير، الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل « ثم تلا رسول الله ﷺ :﴿ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع ﴾ الآية، عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله ﷺ :» إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء منادي فنادى بصوت يسمع الخلائق « سيعلم أهل الجمع الجمع اليوم من أولى بالكرم » ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضادجع الآية فيقومون وهم قليل «
2001
، وقال بلال : لما نزلت هذه الآية ﴿ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع ﴾ الآية، كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب رسول الله ﷺ يصلون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت هذه الآية ﴿ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات، من النعيم المقيم، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد، لما أخفوا أعمالهم، كذلك أخفى الله لهم من الثواب، جزاء وفاقاً، فإن الجزاء من جنس العمل، قال الحسن البصري : أخفى قوم عملهم فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر، قال البخاري : قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ الآية، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال :« قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر » قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم ﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾. وفي الحديث :« من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر »، وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي ﷺ قال : سأل موسى عليه السلام ربه عزَّ وجلَّ ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال : هو رجل يجيء بعدما أُدخِلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، فيقال له : ادخل الجنة، فيقول : أي رب كيف وقد أخذ الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول : رضيت رب، فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة : رضيت ربي، فيقول : هذا لك وعشرة أمثاله معه، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول : رضيت رب، قال رب فأعلاهم منزلة، قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر. قال : ومصداقه من كتاب الله عزَّ وجلَّ ﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ الآية.
2002
يخبر تعالى عن عدله وكرمه، أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة، من كان مؤمناً بآياته متبعاً لرسله بمن كان فاسقاً، أي خارجاً عن طاعة ربه، مكذباً رسل الله، كما قال تعالى :﴿ أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢١ ]، وقال :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار ﴾ [ ص : ٢٨ ] وقال تعالى :﴿ لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة ﴾ [ الحشر : ٢٠ ] الآية، ولهذا قال تعالى ههنا :﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ﴾ أي عند الله يوم القيامة، وقد ذكر عطاء والسدي أنها نزلت في ( علي بن أبي طالب ) و ( عقبة بن أبي معيط ) ولهذا فصل حكمهم فقال :﴿ أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ أي صدقت قلوبهم بآيات الله، وعملوا بمقتضاها وهي الصالحات، ﴿ فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى ﴾ أي التي فيها المساكن والدور والغرف والعالية ﴿ نُزُلاً ﴾ أي ضيافة وكرامة، ﴿ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ ﴾ أي خرجوا عن الطاعة، ﴿ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾، كقوله :﴿ كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ الآية، قال الفضيل بن عياض : والله إن الأيدي لموثقة، وإن الأرجل لمقيدة، وإن اللهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم، ﴿ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً، وقوله تعالى :﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر ﴾، قال ابن عباس : يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها، وما يحل بأهلها مما يبتلى الله به عباده ليتوبوا إليه، وقال مجاهد : يعني به عذاب القبر، وقال عبد الله بن مسعود : العذاب الأدنى ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر، قال السدي : لم يبق بيت بمكة إلاّ دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير فأصيبوا أو غرموا، ومنهم من جمع له الأمران، وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ ﴾ أي لا أظلم ممن ذكره الله بآياته وبينها له ووضحها، ثم بعد ذلك تركها وجحدها، وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها، قال قتادة : إياكم والإعراض عن ذكر الله، فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة وأعوز أشد العوز، ولهذا قال تعالى متهدداً لمن فعل ذلك :﴿ إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ ﴾ أي سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام.
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله ( موسى ) عليه السلام، أنه آتاه الكتاب وهو التوراة، وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ ﴾ قال قتادة : يعني به ليلة الإِسراء، وفي الحديث :« رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلاً آدم جعداً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلاً مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، ورأيت مالكاً خازن النهار، والدجال » في آيات أراهن الله أياها ﴿ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ ﴾ أنه قد رأى موسى ولقي موسى ليلة أسري به. وروى ابن عباس عن النبي ﷺ في قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ ﴾ قال من لقاء موسى ربه عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهُ ﴾ أي الكتاب الذي آتيناه ﴿ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ ﴾، كما قال تعالى في الإسراء :﴿ وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٢ ]. وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ أي لما كانوا صابرين على أوامر الله، وترك زواجره، وتصديق رسله، واتباعهم فيما جاؤوهم به، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله، ويدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ثم لمّا بدّلوا وحرّفوا سلبوا ذلك المقام، وصارت قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه، فلا عمل صالحاً ولا اعتقاداً صحيحاً، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب ﴾ قال قتادة : لما صبروا عن الدنيا، وقال سفيان : هكذا كان هؤلاء، ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا، وسئل سفيان عن قول علي رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ألم تسمع قوله :﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ﴾ ؟ قال : لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤساء، قال بعض العلماء : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب والحكم والنبوة وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين ﴾ [ الجاثية : ١٦ ]، كما قال هاهنا :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي من الاعتقادات والأعمال.
يقول تعالى أو لم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل، ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية، بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به، فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثر ﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ﴾ [ مريم : ٩٨ ]، ولهذا قال :﴿ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ﴾ أي وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين، فلا يرون فيها أحداً ممن كان يسكنها ويعمرها ذهبوا منها كأن لم يغنوا فيها، كما قال :﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا ﴾ [ النمل : ٥٢ ]، وقال :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ [ الحج : ٤٥ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾ أي إن في ذهاب أولئك القوم ودمارهم، وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل، ونجاة من آمن بهم، لآيات وعبراً مواعظ ودلائل ﴿ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ ﴾ أي أخبار من تقدم كيف كان من أمرهم. وقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز ﴾ يبين تعالى لطفه بخلقه وإحسانه إليهم، في إرساله الماء من السماء أو من السيح، وهو ما تحمله الأنهار ويتحدر من الجبال، إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته، ولهذا قال تعالى :﴿ إِلَى الأرض الجرز ﴾ وهي التي لا نبات فيها، كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ﴾ [ الكهف : ٨ ]، وأرض مصر رخوة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطراً لتهدمت أبنيتها فيسوق الله تعالى إليها النيل، بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم، وطين جديد من غير أرضهم فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبداً. روى قيس بن حجاج قال : لما فتحت مصر أتى أهلها ( عمرو بن العاص ) وكان أميراً بها، فقالوا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجي إلاّ بها، قال وما ذاك؟ قالوا إذا كانت ثنتا عشر ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون في الإِسلام، إن الإِسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء، فكتب ( عمرو ) إلى ( عمر بن الخطاب ) بذلك فكتب إليه عمر إنك قد أصبت البطاقة ففتحها فإذا فيها : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد : فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك، قال فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقد قطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم. ولهذا قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ﴾ [ عبس : ٢٤-٢٥ ] الآية، ولهذا قال ههنا :﴿ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ﴾ ؟ وقال ابن عباس في قوله ﴿ إِلَى الأرض الجرز ﴾ قال : هي التي لا تمطر إلاّ مطراً لا يغني عنها شيئاً إلاّ ما يأتيها من السيول، وقال عكرمة والضحاك : الأرض الجرز الي لا نبات فيها وهي مغبرة، قلت وهذا كقوله تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا ﴾ [ يس : ٣٣ ] الآيتين.
يقول تعالى مخبراً عن استعجال الكفار وقوع بأس الله بهم، وحلول غضبه ونقمته عليهم، استبعاداً وتكذيباً وعناداً ﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح ﴾ أي متى تنصر علينا محمد؟ كما تزعم أن لك وقتاً تدال علينا وينتقم لك منا، فمتى يكون هذا؟ ما نراك أنت وأصحابك إلاّ مختفين خائفين ذليلين، قال الله تعالى :﴿ قُلْ يَوْمَ الفتح ﴾ أي إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا وفي الأخرى ﴿ لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم ﴾ [ غافر : ٨٣ ] الآيتين. والمراد بالفتح القضاء والفصل، كقوله :﴿ فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً ﴾ [ الشعراء : ١١٨ ] الآية، وكقوله :﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق ﴾ [ سبأ : ٢٦ ] الآية، ثم قال تعالى :﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ ﴾ أي أعرض عن هؤلاء المشركين، وبلّغ ما أنزل إليك من ربك، كقوله تعالى :﴿ اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ١٠٦ ] الآية، وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعدك، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد، وقوله :﴿ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ ﴾ أي أنت منتظر وهم منتظرون، ويتربصون بكم الدوائر ﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون ﴾ [ الطور : ٣٠ ] وسترى عاقبة صبرك عليهم، وعلى أداء رسالة الله في نصرتك وتأييدك، وسيجدون غب ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك، من وبيل عقاب الله لهم، وحلول عذابه بهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
Icon