ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣). في الآيات: نداء موجه إلى النبي يؤمر فيه بتقوى الله وعدم إطاعة الكافرين والمنافقين والاستجابة إلى ما يقولونه واتباع وحي الله فقط والاتكال عليه وحده.
فالله أعلم بمقتضيات الأمور ولا يأمر إلّا بما فيه الحكمة والصواب. وهو الخبير بكل ما يفعله الناس. وهو نعم الكافي لمن توكل عليه.
تعليق على الآيات الثلاث الأولى من السورة
لقد روى المفسرون «١» أن الآيات نزلت بمناسبة قدوم وفد من قريش فيهم أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل إلى المدينة بأمان من النبي فنزلوا على عبد الله بن أبي، ثم ذهبوا معه إلى النبي فطلبوا منه الموادعة، ويدع آلهتهم بدون سبّ وعقائدهم بدون تسفيه ويدعونه وشأنه فأثار ذلك عمر واستأذن النبي ﷺ بقتلهم فقال له إني أعطيتهم أمانا. ورووا كذلك أنها نزلت في وفد ثقيف الذي طلب من النبي أن يمتعهم باللات والعزّى سنة حتى تعلم قريش منزلة ثقيف عنده.
والروايات لم ترد في الصحاح ويلحظ أن الآيات التي تلي هذه الآيات قد نزلت في صدد وقعة الأحزاب التي كانت نتيجة لزحف عظيم من قبل قريش وحلفائهم على المدينة لاستئصال شأفة النبي. ومن المحتمل أن تكون آيات وقعة الأحزاب قد وضعت في موضعها القريب من هذه الآيات بسبب تناسب الظروف.
وهذا يجعلنا نستبعد أن يكون وفد من قريش قد قدم إلى المدينة في هذا الظرف لعرض الموادعة على النبي مما روته الرواية الأولى. إلّا أن يقال إن أبا سفيان قدم
والذي يتبادر لنا أن الآيات إمّا أن تكون نزلت في مناسبة مراجعة فريق آخر من الكفار والمنافقين في صدد التساهل في بعض الشؤون، وإما أن تكون مقدمة للآيات التالية التي فيها حملة على بعض التقاليد الجاهلية الراسخة وأمر بإلغائها على سبيل التثبيت والتشجيع والتنبيه على وجوب تنفيذ وحي الله وأمره وعدم المبالاة باعتراض الكفار والمنافقين. وهذا ما نرجحه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤ الى ٥]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
. (١) تظاهرون: هنا من الظهار وهو قول الزوج لزوجته أنت حرام عليّ كظهر أمي بقصد تحريم وطئها على نفسه.
(٢) أدعياءكم: كناية عن الأبناء بالتبني.
في هاتين الآيتين:
١- نفي تقريري بأن الله لم يجعل قلبين في جوف أي إنسان. ولم يجعل زوجة الرجل أمّه بمجرد استعماله صيغة الظهار. ولم يجعل دعي الرجل ابنا له
٢- وأمر بتسمية الأبناء بالتبني باسم آبائهم الحقيقيين ونسبتهم إليهم. فهو الأقسط عند الله والمتفق مع الحقّ والحقيقة. فإذا لم يعرف آباؤهم فهم إخوان متبنيهم في الدين ومواليهم وكفى.
٣- وتنبيه على أن الله غفور رحيم لا يؤاخذ المسلمين فيما أخطأوا به من غير علم وعمد. وإنما يؤاخذهم بما يصدر منهم من أخطاء عن عمد وعلم.
تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ... إلخ والآية التالية لها
روى المفسرون أن الفقرة الأولى من الآية الأولى نزلت لتكذيب شخص اسمه دهية أو أبو معمر على اختلاف الرواية كان يزعم أن له قلبين في جوفه. كما رووا أنها نزلت تكذيبا للمنافقين الذين كانوا يقولون إن للنبي قلبين قلبا معنا وقلبا معهم. أو تكذيبا لرجل كان يقول إن لي قلبين أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد.
رواية قول المنافقين رواها الترمذي عن ابن عباس بسند حسن ونصها: «قيل لابن عباس أرأيت قول الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ما عنى بذلك. قال قام رسول الله ﷺ يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله الآية» «١».
ولقد روى البغوي عن الزهري ومقاتل أن الجملة مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته وللمتبني لولد غيره، ومعناها أنه كما لا يكون للرجل قلبان فإن زوجة
ونحن نميل إلى الأخذ بهذا لأننا نراه الأوجه في توضيح مدى الجملة.
ولقد اكتفى السياق هنا في صدد الظهار بالتسفيه وتقرير النفي. ثم بيّن الحكم فيه في سورة المجادلة. في حين أن الحكم في التبني قد بيّن هنا. حيث يلهم هذا أن الظرف الذي نزلت فيه الآيات لم يكن يقتضي غير ذلك.
وننبه على أن في سورة المجادلة ما قد يلهم أنها نزلت قبل هذه الآيات على ما سوف نشرحه في تفسيرها. وإذا كان ما نستلهمه في محله فيكون تسفيه الظهار هنا تدعيما لتسفيه تقاليد التبني وتقريرا لكونها سخيفة مثل تقليد الظهار. وقد روى الطبري عن مجاهد ما يؤيد ذلك حيث روى أن هذا قال إن الآية قد نزلت في قضية زيد بن حارثة متبنّى النبي ﷺ التي ورد ذكرها في آيات أخرى في هذه السورة.
ولقد انطوى في الآية الثانية تلقينات جليلة مستمرة المدى في توطيد الأخوة الدينية بدون اعتبار لأي فارق طبقي. ثم في تقرير كون مسؤولية المرء عن أخطائه إنما تكون فيما يقع منه من ذلك عن علم وعمد وهو ما تكرر تقريره في مواضع عديدة في القرآن ونبهنا عليه.
وجملة وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) وإن كانت جاءت في معرض تدعيم ما سفهته ونفته الآية من دعاو وتقاليد فإنها شاملة مستمرة الفيض والإشعاع في صدد تقرير كون الله إنما يأمر دائما بما هو حق وإنما يهدي بما يأمر إلى سبيل الحقّ والخير. وداعمة لوجوب التزام حدود أوامر الله تعالى ونواهيه والإيمان بأنها تهدف دائما إلى ما فيه الحق والخير.
تقليد الظهار في الجاهلية
وظهار الزوجات الذي أشير إليه في الآيات عادة جاهلية لتحريم الزوج على نفسه وطء زوجته مع إبقائها في عصمته. حيث يقول لها أنت عليّ كظهر أمي.
تقليد التبني في الجاهلية ومداه
والتبنّي هو اتخاذ رجل ما طفلا أو صبيا غريبا ابنا له. وكان هذا من تقاليد العرب في الجاهلية. وكان يجري بشيء من المراسم حيث يعلن المتبني في ملأ من الناس تبني الطفل أو الصبي فيصبح في مقام ابنه من صلبه في كل الواجبات والحقوق فيرث كل منهما الآخر ويحرم على كل منهما ما يحرم بين الأب والابن من أنكحة. فلا يصح للمتبنّى أن يتزوج إحدى بنات متبنّيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا يصح للمتبنّى أن يتزوج بنات متبنّيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا أرملته ولا مطلقته. وقد كان للنبي ﷺ ابن على هذه الطريقة وهو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي. وكان مملوكا لزوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنهما فاستوهبه منها وأعتقه. وجاء أبوه فخيره بين البقاء عنده أو الالتحاق بأبيه فاختار البقاء فأعلن أبوه براءته منه فأعلن النبي تبنّيه له. وكان ذلك قبل نبوّته.
وصار يدعى زيد بن محمد. وظل الأمر على ذلك إلى أن نزلت هذه الآيات فصار يدعى زيد بن حارثة «١».
ولقد ظلّ النبي ﷺ يحبّه ويرعاه وقد عهد إليه بقيادة سرايا عديدة أكثر من أي
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا لم يذكر راويه رواه البغوي بطرقه عن سعد وأبي بكرة أنهما سمعا رسول الله ﷺ يقول: «من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرّم الله عليه الجنّة». ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الإنذار النبوي هو في صدد الدعوى الجدية التي تناقض ما سنّه الله وأبطله. أما أن يقول رجل لآخر أصغر منه يا بني أو يقول رجل لآخر أكبر منه يا أبي من قبيل التحبّب والتكريم فليس من هذا الباب. ولقد أورد ابن كثير في هذا المقام والمعنى حديثا رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أنّ النبيّ ﷺ قال له يا بني. وهذا من هذا الباب.
هذا، ولقد جرت عادة الناس ومن جملتهم المسلمون على تبنّي بعض الأيتام فينشئونهم في كنفهم ويعتنون بهم ويعاملونهم كأبنائهم وقد يكون هذا جائزا بل ومأجورا إذا لم يتجاوز الأمر نطاق البرّ والتربية والتنشئة والعناية. أما إذا تجاوز إلى الدعوة الجدية بالبنوّة والأبوّة وما يترتب عليهما من حقوق ومعاملات تحلّ ما حرّم الله وتحرّم ما أحلّ وتمنح وتسمح ما لم يمنحه الله ويسمح به، وتمنع ما لم يمنعه
(٢) ابن هشام ج ٤ ص ٣٢٩. [.....]
(٣) ص ٤٥٦.
تعليق على تعبير وَمَوالِيكُمْ
هذا التعبير الوارد في الآيات يفيد على الأرجح مدلولا تقليديا خاصّا. حيث كان من الجاري عند العرب قبل الإسلام أن يطلب شخص أو عشيرة أو قبيلة من العرب أن يلتحق بشخص أو عشيرة أو عشيرة أو قبيلة أخرى بقصد الحماية والاستنصار. فإذا قبل ذلك الملحق به أعلنه على الملأ حتى يعرف الناس وحينئذ يدعى مولى الشخص الملحق به إذا كان فردا أو موالي القبيلة الملحق بها إذا كانوا جماعة ويسمى ذلك مولى ولاء أو موالي ولاء. ويصبح المولى أو الموالي من عصبية الملحق به الاجتماعية لهم ما لهم وعليهم ما عليهم حتى إنهم كانوا يتوارثون «١».
وما يصادفه قارئ الكتب العربية القديمة من تعابير فلان مولى فلان أو مولى بني فلان أو القبيلة الفلانية موالي القبيلة الفلانية هو من هذا الباب. ومن هنا جاء إطلاق تعبير (موالي) على المسلمين من غير العرب فكأنهم بدخولهم الإسلام قد التحقوا بالعرب واندمجوا في عصبياتهم. وكلمة (مولى) تطلق كذلك على المملوك، غير أن تقليد الولاء الذي نشرحه هنا ليس من ذلك. والآية [٥] أرادت أن تقول إنه إذا لم يعرف آباء الأبناء بالتبنّي فهم إخوان المسلمين في الدين ومواليهم. لهم ما لهم وعليهم ما عليهم استمدادا من العرف الجاري في دلالة التعبير.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)
. في هذه الآية:
الجزء السابع من التفسير الحديث ٢٣
٢- وتقرير بحقّ أزواجه على المؤمنين فهن أمهاتهم أيضا.
٣- وتقرير الأولوية لذوي الأرحام من المؤمنين فيما بينهم.
٤- وتنبيه على أن تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام من المؤمنين لا يحول دون مساعدة المؤمنين لأوليائهم من غير ذوي الأرحام وإسداء المعروف إليهم.
وهذا هو حكم الله الذي كتب عليهم.
تعليق على الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إلخ
ولقد روى المفسرون أن الفقرة الأولى نزلت في جماعة ندبهم النبي إلى الجهاد فقالوا نذهب فنستأذن آباءنا وأمهاتنا «١». وأن الفقرة الثانية نزلت في صدد تحريم نكاح زوجات النبي على المؤمنين «٢». وأن الفقرة الثالثة في صدد نسخ ما كان يجري من التوارث بين المهاجرين والأنصار الذين آخى النبي ﷺ بينهم حين قدومه إلى المدينة أو لما كان يجري من التوارث بطريق الولاء والتبني والمؤاخاة وحصره بين ذوي الأرحام «٣».
ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح ويبدو غريبا أن تشتمل آية واحدة على فقرات، كل منها في صدد موضوع لا صلة له بالآخر.
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بالآيات السابقة وأنها جاءت معقبة عليها من جهة ومشرعة من جهة، ومستدركة من جهة، ومقررة لموضوع التوارث في نصابه الحق من جهة.
(٢) انظر تفسير الخازن والبغوي والطبرسي.
(٣) انظر المصدر نفسه.
ولقد رويت زيادة في الفقرة الأولى من الآية وهي جملة «وهو أبوهم» بعد كلمة (أنفسهم) وذكر في الرواية أن ذلك كان في مصحف أبي بن كعب أحد علماء القرآن من أصحاب رسول الله ﷺ «١» وقد تكون الجملة تفسيرية، وفيها على كل حال تدعيم لما شرحناه آنفا سواء أكانت تفسيرية أم أصلية كما جاء في الرواية. مع ترجيحنا أنها تفسيرية وليست أصلية إذا صحت الرواية. فالكلمة لم ترد في مصحف عثمان، ومصحف عثمان نقل عن مصحف أبي بكر ومصحف أبي بكر كتب بعد شهور من وفاة النبي ليكون إماما على ملأ الناس. وروجع على ما كان في أيدي المسلمين من مصاحف ومدونات.
وجملة إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين بوجوب البرّ وإسداء المعروف على اختلاف أنواعه لمن ينتمي إليهم من تابعين ومماليك وحاشية وحلفاء.
ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة. اقرأوا إذا شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فأي مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من
تعليق على مدى تعبير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ
وتعبير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يحتوي قيدا احترازيا على ما يتبادر لإخراج غير المؤمنين من ذوي الأرحام من الأولوية وحقوق الإرث وحصر ذلك بين المؤمنين. ولعلّ اختصاص المهاجرين بالذكر هو بسبب أن بعض ذوي أرحامهم كانوا ما يزالون كفارا. وعدم التوارث بين المسلم وغير المسلم من القواعد الشرعية الجارية النبوية. وقد تكون هذه الآية من مستندات ذلك. وقد روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أسامة بن زيد عن النبي ﷺ جاء فيه: «لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم» «٢».
ولقد جاء في آخر سورة الأنفال آية احتوت تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام بدون هذا القيد. فلعل الأمر ظلّ ملتبسا على المسلمين فاقتضت الحكمة توضيحه بهذه المناسبة في القرآن والحديث. أما القول بأن هذه الفقرة تحتوي نسخا لآية سورة الأنفال [٧٢] والتي روي أنها اعتبرت مقررة للتوارث بين المتآخين من مسلمي الأنصار ومهاجريهم فإننا لم نر في تلك الآية ولا في هذه الفقرة ما يلهمه أصلا أو نسخا على ما مرّ شرحه أيضا في سياق سورة الأنفال.
(٢) انظر التاج، ج ٢ ص ٢٢٩.
وننبّه على أن النصّ على أمومة أزواج النبي للمسلمين في هذه الآية لم يكن من شأنه أن يبيح لرجال المسلمين ما أبيح لأبناء زوجات النبي الحقيقيين بالنسبة لأمهاتهم على ما يستفاد من الآيات [٥٣- ٥٥] من هذه السورة حيث منعت هذه الآيات رجال المسلمين من الدخول على زوجات النبي وطلب ما يريدون منهن من وراء حجاب واستثنت من ذلك آباءهن وأبناءهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن. وحرّمت نصّا التزوج بهن من بعد رسول الله حيث يفيد هذا أن النصّ على أن أمومتهن للمؤمنين في الآية لم يكن بسبيل تحريم زواجهن على المؤمنين كما روى المفسرون وأشرنا إليه قبل. وإنما هو تعبير أسلوبي بسبيل تقرير المعنى الذي عنّ لنا والذي نرجو أن يكون هو الصواب وهو كون النبي وأزواجه بمثابة والد المؤمنين وأمهاتهم فلا يكون من محل ليكون للنبي ابن خاص منهم بالتبنّي. والتعبير بعد يتضمن معنى تكريميا لزوجات النبي ﷺ يوجب التنبّه إليه.
الخلاصة
وبناء على ما تقدم وتعقيبا عليه يمكن أن يقال والله أعلم إن جملة النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ قد تضمنت تقريرا أو تنويها بما في قلب رسول الله ﷺ وفي قلوب زوجاته رضي الله عنهن من حبّ وعطف وحرص على المؤمنين واهتمام لأمورهم أشد من اهتمامهم لأنفسهم حتى صار رسول الله ﷺ بذلك أولى بهم من أنفسهم وبمثابة أبيهم وصارت زوجات رسول الله رضي الله عنهن بمثابة أمهاتهم دون أن يتجاوز ذلك ما يكون بين ذوي الأرحام من حقوق مادية ووراثية حيث يبقى ذوو الأرحام بعضهم أولى ببعض وحديث الشيخين فيه
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٧ الى ٨]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)
. في هاتين الآيتين:
١- تذكير على سبيل التقرير بأن الله قد أخذ من الأنبياء وبخاصة من النبي نفسه ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ميثاقا قويا مؤكدا على حمل رسالته وتبليغها للناس.
٢- وتقرير بأن الله تعالى سوف يسأل الذين صدقوا في التبليغ ويستشهدهم على أممهم، وبأنه أعدّ للذين كفروا برسالات أنبيائه ولم يصدقوهم عذابا أليما.
ولم نطلع على رواية في مناسبة الآيتين ولا على تعليل لوضعهما في مكانهما لأنهما يبدوان وحدة مستقلة لا علاقة لها بما سبق وبما هو آت.
وقد تبادر لنا مع ذلك أن يكون فيهما معنى التعقيب على الآيات السابقة جميعها بدءا من مطلع السورة الذي احتوى تثبيتا للنبي وأمرا له بتقوى الله وعدم إطاعة الكفار والمنافقين واتباع وحيه والاعتماد عليه وحده. فالله في تحميله إياه رسالته قد أخذ عليه عهدا بالقيام بالمهمة قياما تاما لا تساهل فيه ولا هوادة ودون تأثر بأي اعتبار كما أخذ مثل ذلك من الأنبياء السابقين وعليه أن يقوم بها وأن يعرف أنه مسؤول عنها يوم القيامة.
واختصاص النبي ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر قد تكرر في
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٩ الى ٢٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥)
(٢) وتظنون بالله الظنونا: تذهبون مذاهب في إساءة ظنكم بالله.
(٣) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا: حينئذ استشعر المؤمنون بالبلاء العظيم الذي ابتلوا به واضطربوا اضطرابا شديدا.
(٤) يثرب: اسم المدينة التي هاجر إليها رسول الله القديم وصارت تعرف باسم المدينة والمدينة المنورة. وقد أشير إليها باسم المدينة في آيات منها آية في هذه السورة.
(٥) بيوتنا عورة: أي مكشوفة في متناول العدو.
(٦) ولو دخلت عليهم من أقطارها: لو دخل العدو عليهم من أطراف المدينة.
(٧) ثم سئلوا الفتنة لأتوها: ثم طلب منهم الارتداد عن الإسلام لفعلوا.
(٨) وما تلبثوا بها إلّا يسيرا: وما كانوا يقاومون ذلك الطلب إلّا مقاومة خفيفة وظاهرة.
(٩) المعوّقين: المعطلين والمثبطين عن القتال.
(١٠) ولا يأتون البأس: ولا يشهدون الحرب والقتال أو يشتركون فيهما.
(١١) سلقوكم بألسنة حداد: طعنوكم وهاجموكم بألسنة ماضية بالبذاءة والأذى.
(١٢) يودوا لو أنهم بادون في الأعراب: يتمنوا لو أنهم كانوا في البادية
(١٣) من قضى نحبه: من مات أو استشهد.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [٢٥] وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسمّيت بوقعة الخندق لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي ﷺ بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة «١» عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلّا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي ﷺ والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها:
١- أن النبي ﷺ كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [٢١] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
٢- أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوّة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم. ثم تميزوا فالفئة المخلصة الصادقة التفّت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [٢٢- ٢٣] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (١٢) والتثبيط
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [٢٤] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد روى الطبري أن المعنيين في الآية [١٥] هم جماعة بني حارثة الذين
ومما رواه ابن هشام «١» أن النبي ﷺ بعث إلى قائدي قبائل غطفان يساومهما على الرجوع عن المدينة مقابل ثلث ثمارها فقبلا فاستدعى زعيمي الأوس والخزرج واستشارهما فسألاه هل هذا من الله أم من صنعك قال بل من صنعي حيث رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمر ما. فقال سعد بن معاذ لقد كنا وهؤلاء على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا ثمرة منها إلّا من قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا به وبك نعطيهم أموالنا. والله لا نعطيهم إلّا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فرجع رسول الله حينئذ عن رأيه حيث ينطوي في الخبر صورة رائعة من قوة نفوس المؤمنين وشجاعتهم واعتزازهم بالإسلام. وتلقين مستمر المدى سواء فيما كان من تفكير رسول الله في المساومة كتدبير وقائي ودفاعي في الظرف العصيب الذي واجهه المسلمون أم في رجوعه عنه لأنه كان اجتهادا منه.
ولقد روى البخاري وابن هشام خبر معجزات نبوية حدثت أثناء الخندق «٢».
منها إشباع أهل الخندق بثمرات قليلة بسطها رسول الله على ثوب، وإشباعهم بطعام من صاع برّ وذبيحة صغيرة صنعته زوجة جابر بن عبد الله لما قال لها إنه رأى
(٢) انظر التاج، ج ٣ ص ٢٥٠ و ٢٥١، وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٣- ٢٣٩ وروى الطبري وغيره هذه المعجزات أيضا في سياق تفسير الآيات.
ولقد روى الشيخان عن أنس قال: «خرج النبي ﷺ إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم.
فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهمّ إن العيش عيش الآخرة... فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا له مجيبين:
نحن الذين بايعوا محمّدا... على الجهاد ما بقينا أبدا»
«١» ورويا كذلك عن البراء أن النبي ﷺ كان يوم الأحزاب ينقل معهم التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول:
«والله لولا الله ما اهتدينا... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا... وثبّت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا... إذا أرادوا فتنة أبينا
ورفع بها صوته أبينا أبينا» «٢» حيث ينطوي في الحديثين صورة رائعة من مواساة النبي ﷺ لأصحابه وتشجيعهم ومشاركتهم فيها عظيم الأسوة والتلقين.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧).
(٢) المصدر نفسه ص ٣٧٤- ٣٧٥. [.....]
(٢) صياصيهم: حصونهم.
تعليق على الآية وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ... إلخ والآية التالية لها وشرح وقعة بني قريظة
عبارة الآيتين مفهومة. وقد احتوت إشارة إلى مشهد جهادي ضد فريق من أهل الكتاب. وتجمع روايات التفسير والسيرة على أنهم يهود بني قريظة في المدينة.
ومما ذكرته هذه الروايات أن جبريل أتى النبي فور انصراف الأحزاب وبلّغه وجوب الزحف حالا على بني قريظة فأرسل مناديا ينادي «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين إلّا ببني قريظة» حيث ينطوي في هذا شدة أثر ما أظهره بنو قريظة من غدر وعداء في الموقف العصيب الذي نجم من زحف أحزاب المشركين من كل صوب.
وعبارة ظاهَرُوهُمْ تلهم أنه بدا منهم أثناء حصار الأحزاب للمدينة أعمال ضارة بالمسلمين مظاهرة للأحزاب مما أثار في نفوس النبي وأصحابه الغيظ والسخط فوق ما أثاره إنكارهم لعهد رسول الله وإعلانهم العداء للمسلمين أمام زعيمي الأوس والخزرج على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة.
وملخص ما جاء في الروايات عن هذه الوقعة «١» أن النبي ﷺ حاصرهم مع المسلمين خمسا وعشرين ليلة ولم يقبل منهم إلّا الاستسلام بدون قيد وشرط. فلم
ولقد كانوا حلفاء الأوس فقال بعضهم لرسول الله إنهم موالينا فارفق بهم كما رفقت بموالي إخواننا الخزرج- يعنون بذلك بني قينقاع وبني النضير الذين قبل شفاعة الخزرج فيهم واكتفى بإجلائهم- فقال لهم هل ترضون أن يكون الحكم فيهم واحدا منكم قالوا بلى قال فذاك إلى سعد بن معاذ. وكان زعيمهم. وكان أصابه في حصار الخندق سهم فأمر النبي بنقله إلى خيمة في مسجده ووكل به امرأة مؤمنة من قبيلة أسلم كانت خبيرة بمداواة الجرحى. فجاءه بعض قومه وأبلغوه ذلك وحملوه على حمار وساروا في ركابه وهم يقولون له أحسن يا أبا عمرو في مواليك فقد ولاك رسول الله أمرهم فلما جاء إلى النبي وأبلغه قرار تحكيمه فيهم قال: آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم وإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسّم الأموال فبادره النبي قائلا: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. (أي سموات) » ثم نفذ الحكم فيهم عدا بعض أفراد أعلنوا إسلامهم فعصموا دماءهم وأموالهم.
ومما روي أن ما صادره رسول الله منهم ١٥٠٠ سيف و ٣٠٠ درع و ٢٠٠٠ رمح و ١٥٠٠ ترس وحجفة وخمر عدا كثير من الجمال النواضح والماشية. وكان عدد الذين قتلوا بين ٦٠٠ و ٧٠٠ وفي رواية ٤٠٠ واستثنى من القتل من لم ينبت شاربه وأسروا مع النساء والأطفال واعتبر الجميع رقيقا وأرسل قسم منهم على اختلاف في الروايات في عددهم إلى نجد حيث بيعوا واشتري بثمنهم خيل وسلاح «١».
ومما روي كذلك «٢» أن بني قريظة طلبوا من النبي أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي ليستشيروه في أمرهم فأرسله إليهم فسألوه عما إذا كان ينصحهم أن ينزلوا على حكم النبي وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه
(٢) المصدر نفسه.
ولقد انتقد بعض المستشرقين قسوة الحكم والتنكيل. وليس في نقدهم حق وصدق فالآية صريحة بأن اليهود ظاهروا الأحزاب. وهذا يعني أنه بدا منهم موقف حربي ما في الظرف العصيب الذي واجهه المسلمون والذي تعرضوا فيه لخطر الإبادة والاستئصال والذي وصفته الآيات أشد وصف. وتعجيل النداء للمسلمين بالسير نحوهم يوم انصراف الأحزاب بدون تريث دليل على ما كان من شدّة أثر موقفهم الطارد في نفوس النبي والمسلمين. ولقد غرّهم الموقف واستبشروا بزحف الأحزاب إلى درجة أنهم لم يتورعوا عن إنكار عهدهم وردّ زعيمي الأوس والخزرج ذلك الردّ اللئيم الذي رويناه قبل والذي جرح قلب زعيم الأوس حليفهم أشد جرح، بل ولقد استمروا في موقفهم بعد انصراف الأحزاب حيث روى الطبري أنهم أخذوا يبذأون في حقّ النبي ﷺ حينما دنت طلائعه لحصارهم على مسمع من حامل الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فلا جرم أن يكون عقابهم مناسبا مع موقفهم اللئيم الغادر. ولا سيما إنهم لم يعتبروا بإجلاء بني قينقاع وبني النضير قبلهم. ومع ذلك كله فإن القتل اقتصر على المقاتلة بعد أن عرض عليهم الإسلام فأباه أكثرهم وآمن أفراد منهم فسلموا. واستثنى من القتل الأولاد والنساء وفي كل هذا من التسامح والحلم ما يخالف ما سجلته الأسفار من خططهم الرهيبة تجاه أعدائهم حينما ينتصرون عليهم.
ولقد قال المفسرون إن الأرض التي أورثها الله المسلمين دون أن يطؤوها الجزء السابع من تفسير الحديث ٢٤
هذا، والذي نرجحه أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة في سياق واحد. وأن هذه وتلك قد نزلتا بعد الوقعتين بسبيل ما احتوته من تعقيب وتذكير وتنويه وتنديد ومنّ بفضل الله ونصره.
هذا، والآية [٢٦] وإن كانت حكت ما فعله النبي ﷺ والمسلمون في بني قريظة فإنها انطوت على إقرار رباني لما فعلوه جزاء الموقف الشديد الخطورة من الغدر والخيانة الذي وقفوه. ولقد كان نزولهم على حكم النبي بمثابة استسلام واستئسار. فبعدما فعله النبي ﷺ وأقرّه الله عليه من قتل بعضهم واسترقاق بعضهم تشريعا يقاس عليه في الظروف المتأتية والله تعالى أعلم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٨ الى ٣٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤).
(٢) قرن: من القرار أي أسكنّ أو التزمن بيوتكن.
(٣) التبرّج: إظهار المرأة محاسنها للناس عن قصد.
(٤) الرجس: هنا بمعنى ما ليس فيه لله رضا من أعمال ومظاهر منكرة ومريبة وآثمة.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (٢٨) وما بعدها إلى آخر الآية [٣٤]
عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون «١» روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر لأقولن شيئا أضحك به رسول الله فقال يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة- يعني زوجته- سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله
وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.
فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي ﷺ كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد وهو ما أيّدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسّع ظنّ نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن. ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصّت عليه آية سورة الأنفال [٤١]. وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.
وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكير في نعيم الدنيا ومتاعها فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه: فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملان كل فراغ منه.
وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء
وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [٣٢] وآية سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨).
يمكن أن يقال إن الله أمر رسوله ﷺ بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطيبات ما أحلّ الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.
والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه وراضية نفوسهن معا. ومما روي في
فتلا عليها الآيات فقالت أفيك أستأمر أبويّ بل أختار الله ورسوله وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلّا أخبرتها. ثم خيّر نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة» «١».
ولقد روى الشيخان والترمذي هذا الحديث بخلاف يسير حيث رووا عن عائشة أنها قالت: «لما أمر رسول الله ﷺ بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال إن الله جلّ ثناؤه قال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبويّ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت» «٢».
ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرّخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة «٣». ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا.
(٢) انظر التاج ج ٤ ص ١٨٤.
(٣) انظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٣٨ و ٣٨٨ و ٤١٧ و ٤٢٦.
هذا، وكلمة الرِّجْسَ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [١٤٥] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «١» [٩٠] وقد تكون في الآية [٣٤] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي ﷺ ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل جملة مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول إنها تتحمل أن يكون معناها (الزنا) أيضا وقد يكون في جملة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ قرينة على ذلك والله أعلم.
وفي تأويل النهي عن التبرّج روى المفسرون أنه في صدد النهي عن إظهار الزينة وإبراز المفاتن أمام غير المحارم. وهو تأويل وجيه. وتفيد جملة وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى
أن نساء العرب قبل البعثة كنّ يفعلن ذلك. ولقد نهى النساء عن إظهار مفاتنهنّ وزينتهنّ أمام غير المحارم في إحدى آيات سورة النور، وهذا مما يلهم ذاك، وبسبيل توكيد نهيه لنساء المسلمين عامة.
وهناك من أوّل جملة وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بمعنى (الزمن الوقار والسكينة في بيوتكن). وهناك من أوّلها بمعنى (المكوث في البيوت وعدم الخروج). وقد يكون التأويل الثاني هو الأوجه مع التنبيه على أن الأمر لم يكن يعني عدم خروجهن بالمرة، وإنما يعني عدم الإكثار من الخروج على غير ضرورة. وروح العبارة يلهم هذا فيما نعتقد. فهناك حاجات وضرورات ملزمة للخروج. والروايات متواترة على أن نساء النبي كن يخرجن في حاجاتهن وضروراتهن في حياة النبي وبعده... ولقد روى الشيخان عن عائشة حديثا جاء فيه: «خرجت سودة لحاجتها بعد أن نزل الحجاب وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر فقال يا سودة أما والله لا تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. فانكفأت راجعة ورسول الله في بيتي يتعشّى وبيده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن» «١». وننبه على كل حال أن الآيات صريحة بأنها
ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة حديثا رواه البزار عن أنس جاء فيه:
«جئن النساء إلى رسول الله فقلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين فقال من قعدت في بيتها منكن فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله». وحديثا ثانيا رواه البزار أيضا جاء فيه: «قال النبيّ ﷺ إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربّها وهي في قعر بيتها». والحديثان ليسا من الصحاح. والآية [١٩٥] من آل عمران تجمع الرجال والنساء معا في الهجرة والقتال في سبيل الله على ما شرحناه في تفسيرها. وهناك آيات في سورة النور تلهم جواز خروج النساء وقضاء حاجاتهن المتنوعة في نطاق الاحتشام والبعد عن أسباب الفتنة على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها. وهناك أحاديث عديدة صحيحة تذكر أن المؤمنات كنّ يخرجن مع رسول الله وغيره للجهاد. من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس قال: «كان النبيّ ﷺ يغزو بأمّ سليم ونسوة من الأنصار معه فيسقين الماء ويداوين الجرحى» «١». وحديث رواه الشيخان عن أنس قال: «لمّا كان يوم أحد انهزم الناس عن النبيّ، وقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأمّ سليم مشمّرتين أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم» «٢». وحديث رواه البخاري جاء فيه: «قالت الربيع بنت معوّذ كنّا نغزو مع النبيّ فنسقي القوم ونخدمهم ونردّ الجرحى والقتلى إلى المدينة» «٣». وحديث رواه مسلم جاء فيه: «قالت أمّ عطية غزوت مع النبيّ سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى» «٤». يضاف إلى هذا التواتر الذي لم ينقطع في تردد
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه. [.....]
(٤) المصدر نفسه.
هذا، ومع أن مقام النبوة في عظمة أخلاق النبي وإيمانه وروحه واستغراقه في الله ودعوته لا يمكن أن يدانى. ومع أن الآيات متعلقة بخصوصيات النبي وزوجاته موضوعا وظرفا فإن هذا لا يمنع أن تكون منبع إلهام فياض ومدد تلقين جليل لكلّ من يتصدّر للزعامة السياسية والإصلاحية والجهادية استلهاما من الآية [٢١] من آيات السورة التي تحثّ المؤمنين على اتخاذ رسول الله لهم أسوة حسنة.
ولقد حمّلت الآيات نساء النبي واجبات مهمة في تقدير مركزهن بالنسبة لخطورة مركز النبي. وفي هذا المعنى تلقين جليل لنساء زعماء المسلمين وقوادهم بل وعامتهم كما هو المتبادر...
تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى
كتبنا تعليقا على تعبير (الجاهلية) في تفسير سورة آل عمران. وقد رجحنا أن إطلاق هذا التعبير على دور ما قبل الإسلام هو إطلاق قرآني. ولقد أورد المفسرون في سياق تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى في الآيات التي نحن في صددها أقوالا معزوة
ويبدو لنا أن هذا التقسيم غير مستقيم مع الواقع. من حيث إن بروز النساء العربيات وإظهار محاسنهن للرجال كان معروفا ممارسا في عصر النبي ﷺ قبل البعثة وقد نهى نساء النبي عن ذلك الذي وصف بتبرّج الجاهلية الأولى. وهو ما لا يدخل في نطاق الدور المسمى في التقسيم بالجاهلية الأولى. وعلى كل حال فالجملة القرآنية أسلوبية فيما يتبادر لنا هدفت إلى النهي عن التبرّج الذي كان السابقون يعرفونه ويمارسونه قبل البعثة. لأن ذلك لا ينبغي للمؤمنات وبخاصة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على ما روي من أحاديث في صدد تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ
ومع أن دلالة الآيات صريحة كل الصراحة في كون تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ في الآية [٣٣] هو كناية عن نساء النبي ﷺ اللائي هن موضوع الخطاب فيها وراجع إليهن فقد رويت بعض أحاديث تدخل في شمولها غير نساء النبي بل ويخرج بعضها نساء النبي من شمولها. منها حديث رواه مسلم والترمذي عن أم سلمة أم المؤمنين جاء فيه: «نزلت الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) في بيتي فدعا النبي ﷺ فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء وعليّ خلف ظهره ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فقلت: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير» «١». ومنها حديث عن عائشة أم المؤمنين رواه مسلم والترمذي جاء فيه: «خرج النبي غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن عليّ فأدخله ثمّ جاء الحسين
«إن رسول الله ﷺ حين نزول الوحي عليه بالآية أخذ عليا وابنيه وفاطمة وأدخلهم
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر تفسير الطبرسي وابن كثير والطبري والبغوي.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
ونقف أمام هذه الأحاديث- وبخاصة أمام ما يخرج نساء النبي ﷺ من مدلول تعبير أهل البيت ومنها والذي يتمسك به الشيعة تمسكا شديدا- موقف الحيرة بل التحفظ والتوقف إزاء دلالة الآيات الصريحة وسياقها. ولا سيما إن الآية التي جاءت بعد الجملة هي استمرار للخطاب الموجه إلى نساء النبي بحيث لا يمكن أن يصرف التعبير في هذا المقام إلى غيرهن. هذا فضلا عن أن تعبير أهل البيت قد ورد في آيات أخرى كناية عن الزوجة. منها آيات سورة هود هذه في سياق قصة إبراهيم: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
(٧٣) وآية سورة النمل هذه:
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) «٢»، بل لقد روى الشيخان والترمذي حديثا في سياق الآية [٥٢] من هذه السورة سوف نورده بعد، جاء فيه أن النبيّ ﷺ كان يمرّ على حجرات زوجاته فيقول السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله «٣». ولقد روى ابن كثير عن عكرمة أحد كبار علماء التابعين أنه كان يقول إن هذه الجملة قد نزلت في نساء النبي خاصة ومن شاء باهلته بذلك. ولقد قال ابن كثير معلقا على الجملة إنها نصّ في دخول أزواج النبي ﷺ في أهل البيت هاهنا لأنهن سبب نزولها وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول عكرمة أو مع غيره على الصحيح. ولقد
(٢) ومثل هذه الآية آيتان في سورة طه وهي [١٠] وفي سورة القصص وهي [٢٩].
(٣) انظر التاج فصل التفسير ج ٤ ص ١٨٧. وفي هذا الحديث انسجام نبوي مع الخطاب القرآني الذي يصف نساء النبيّ بأنهن أهل البيت ويمكن أن يقال والحالة هذه إذا صحت الأحاديث السابقة فيكون قصد النبي توكيد اللحمة العصبية الدنيوية بينه وبين أولاده وأحفاده ويكون في الحديث توفيق بين موقفي النبي ﷺ والله أعلم.
ويلحظ أن الحديث الصحيح الذي روي عن أمّ سلمة ذكر أن آية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) قد نزلت في بيتها مع أنها ليست آية برأسها وإنما هي تتمة لآية ثم جزء من سياق. ومثل هذه الملاحظة واردة بالنسبة للحديث الصحيح المروي عن أبي سعيد الخدري والحديث المروي عن سعد الذي أورده الطبري. ومما يتمسك به الشيعة بسبيل تدعيم تأويلهم استعمال ضمير المخاطب لجمع المذكر في الجملة مع أن الجملة التي قلبها وبعدها استعمل فيهما ضمير الجمع المخاطب المؤنث. وليس في هذا حجة ما.
فضمير الجمع المخاطب المذكر استعمل أيضا في حكاية الخطاب الموجه إلى زوجة إبراهيم وزوجة موسى عليهما السلام في آيات سورتي هود والنمل التي أوردناها آنفا.
ولسنا بسبيل نفي أقرب الناس إلى النبيّ ﷺ من معنى (أهل بيته) أو الانتقاص مما هم أهل له بسبب ذلك من التوقير والاحترام. ولكن من الحق أن يقال إن هذا الشمول أو الحصر لا يكون مستقيما إذا أريد الاستناد فيه إلى هذه الجملة القرآنية وسياقها وظروف نزولها. وكل ما يسوغ قوله إن الأحاديث المنسوبة إلى النبي ﷺ إذا صحت قد قصدت تعميم مدلول الجملة القرآنية لتشمل الأربعة المطهرين عليا وفاطمة والحسن والحسين بالإضافة إلى نساء النبي رضوان الله عليهم جميعا.
ونصوص الأحاديث قد تفيد هذا. لأنها ليس فيها قصد الحصر بأسلوب صريح وقاطع. والله تعالى أعلم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٥]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)
تعليق على الآية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ... إلخ
عبارة الآية واضحة. وهي بسبيل التنويه بكل مسلم ومسلمة يتصفان بالصفات التي وردت فيها ويفعلان الواجبات التي نبهت عليها. وبسبيل بشرى استحقاقهما عظيم الأجر ورفيع المنزلة عند الله تعالى.
ويلحظ أن الصفات والواجبات قد جمعت كل صفات الخير وعناوين البرّ وضمانات النجاح والسعادة في الدنيا والآخرة حيث ينطوي في هذا ما يتوخّاه القرآن من الارتفاع بالمسلمين والمسلمات إلى ذرى الكمال في مختلف المجالات.
ومع أن أسلوب الآية مطلق ينطوي فيه حكمة ربانية لتكون مستمرة المدى لكل وقت ومكان فإنه يتبادر لنا أنها تنطوي في الوقت نفسه على الإشادة بصفات فريق من أصحاب رسول الله ﷺ من الرجال والنساء كانوا يتصفون فعلا بهذه الصفات ويفعلون تلك الواجبات. وأن فيها والحالة هذه صورة رائعة من صورهم رضوان الله عليهم.
ولقد رويت بضع روايات في مناسبة نزول الآية اختلفت فيها الأسماء والكيفيات واتفقت الغاية وهي تساؤل بعض المسلمات عن سبب اختصاص القرآن الرجال بالذكر والتنويه. أو مراجعة بعضهن النبي ﷺ في ذلك وممن ذكرت الروايات أسماءهن أم سلمة أم المؤمنين وأسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي
«عن أم عمارة قالت يا رسول الله ما أرى كلّ شيء إلّا للرجال وما أرى النساء يذكرون بشيء فنزلت الآية» «١». ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [١٩٥] من سورة آل عمران حديثا رواه الترمذي عن أم سلمة مماثلا لهذا الحديث وذكر فيه أن آية آل عمران هذه نزلت بناء على مراجعتها النبي ﷺ في صدد عدم ذكر النساء مع الرجال. والآية تبدو وحدة تامة مستقلة لأول وهلة. وقد يقوي هذا صحة رواية سبب نزولها وهو مراجعة أم عمارة أو غيرها.
غير أننا نلاحظ أن القرآن لم يغفل قبل نزول هذه الآية المرأة المسلمة الصالحة والتنويه بها في المكي منه والمدني «٢». وأن الآية التالية قد أشير فيها إلى واجب المؤمن والمؤمنة على السواء من أمر الله ورسوله وقضائهما. فهذا وذاك يوردان على البال أن تكون الآية متصلة بالسياق التالي لها، وبمثابة مقدمة تمهيدية.
كما لا يبعد أن تكون جاءت معقبة على الآيات السابقة بعد ذكر نساء النبي وواجباتهن ولتستطرد إلى ذكر الأجر العظيم عند الله لكل مؤمن ومؤمنة يقوم بواجبه ويلتزم حدود الله.
ومهما يكن من أمر فإن صيغة الآية قوية رائعة من ناحية ذكر النساء مع الرجال في ما احتوته من تنويه وأوجبته من واجبات. وهي حاسمة الصراحة في اعتبار المرأة مخاطبة في القرآن كالرجل سواء بسواء بكل التكاليف التعبدية والأخلاقية وأهلا لكل ما يترتب على ذلك كالرجل سواء بسواء.
وننبه بهذه المناسبة على أن العلماء والمفسرين متفقون على أن كل خطاب قرآني موجّه للمؤمنين والمسلمين أو فيه ذكر للمؤمنين والمسلمين في أي شأن وليس فيه قرينة على اختصاص الرجال دون النساء هو شامل للمسلمات والمؤمنات.
(٢) من الآيات المدينة آية سورة آل عمران [١٩٥] ومن الآيات المكية آية سورة النحل [٩٧] وآية سورة غافر [٤٠] وآية سورة البروج [١٠].
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠). (١) الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: جمهور المفسرين على أن الجملة تعني زيد بن حارثة الذي كان ابنا بالتبنّي للنبي وقد كان مملوكا فأعتقه.
(٢) إذا قضوا منهن وطرا: كناية عن الوطء والجماع.
في هذه الآيات:
١- تنبيه في صيغة النهي المشدد على أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله ورسوله بشيء يتعلق بخاصة أمورهم أن يختاروا غير ما أمر الله ورسوله. فإن العاصي لله ورسوله في شيء هو عظيم الضلال والانحراف عن الحق.
٢- وتذكير موجّه للنبي فيه معنى العتاب لأنه أمر الذي أنعم عليه وأنعم الله عليه بأن يمسك زوجته ولا يطلقها ويتقي الله في أمرها في حين أن هذا القول قد صدر منه خشية من كلام الناس وإخفاء لأمر يريد الله إظهاره وفعله. مع أن الله هو أحق بالخشية فلا يصح إخفاء أمره خشية من الناس.
٣- وإشارة إلى هذا الأمر الذي يريد الله إظهاره وهو زواجه من زوجة زيد ابنه بالتبني المكنّى عنه بجملة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه بعد قضاء وطره الجزء السابع من التفسير الحديث ٢٥
٤- وتعقيب على الحادث ينطوي على التثبيت: فليس على النبي من حرج في تنفيذ ما أمر الله وفي الاستمتاع بما فرضه الله له. فهذه سنّة الله في أنبيائه السابقين أيضا. فهو قد اختار أنبياءه لتبليغ رسالاته وتنفيذ أوامره وعدم خشية أحد غيره. وكفى به معتمدا ووكيلا. وإن أوامر الله مقدّرة بمقتضيات المصلحة وهي واجبة التنفيذ.
٥- وتعقيب آخر ينطوي على التعليل والتوضيح موجه إلى المؤمنين:
فمحمد ليس هو أبا زيد أو غيره منهم. وإنما هو رسول الله وخاتم النبيين. وكان الله وما يزال العليم بكل شيء.
تعليق على الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وما بعدها لغاية الآية [٤٠] وتمحيص زواج النبي ﷺ بزينب بنت جحش رضي الله عنها
لقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآية الأولى «١». منها أنها نزلت حينما خطب النبي ﷺ بنت عمته زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاعترض أهلها أو اعترضت هي وقالت أنا خير منه. ومنها أنها نزلت في أم كلثوم بنت عتبة بن أبي معيط وكانت من أول من هاجر من النساء فوهبت نفسها للنبي فزوجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا إنما أردنا رسول الله. ومنها أنها نزلت بمناسبة خطبة النبي جارية من الأنصار لمسلم غريب يتعاطى الجلب فاستنكف أهلها.
ويلاحظ أن الآية الأولى منسجمة مع الآيات التالية ونرجح أنها نزلت معها وفي الصدد الذي احتوته الآيات التالية لها. ومن المحتمل أن تكون الآية الأولى كانت تتلى في المناسبات التي كان بعض المسلمين يترددون فيها في تلبية اقتراحات رسول الله في صدد تزويج بناتهم لمسلمين كانوا يرونهم أقلّ مرتبة منهم، وكان النبي يريد باقتراحاته القضاء على مثل هذا الشعور الطبقي بين المسلمين فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت في هذه المناسبات.
ولقد كانت قصة زواج النبي من مطلقة ابنه بالتبني موضوع تعليق ونقد وأخذ ورد قديما وحديثا. ولقد كان تساهل بعض المفسرين في إثبات الروايات البعيدة عن منطق الوقائع وروح الآيات باعثا لاستغلال الأغيار للقصة واستخراج ما يمسّ
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وليست موثقة. ولم ترد في كتب ابن هشام وابن سعد وهي أقدم ما وصل إلينا من كتب تؤرخ السيرة النبوية. وقد أثبت مؤلفوها ما أثبتوه فيها نقلا عن مدونات قديمة أو تسجيلا لروايات معنعنة من راو إلى راو إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مهم في بابه. ولا نستبعد أن تكون الرواية التي تذكر إعجاب النبي بجمال زينب حينما رآها بدرع وخمار وميل قلبه إليها وما ترتب على ذلك من نتائج من مدسوسات الزنادقة والشعوبيين غير المؤمنين في القرنين الثالث والرابع الذين كانوا يحاولون هدم الإسلام وتشويهه بكثير من الدسائس والمقالات بل نحن نكاد نجزم بذلك.
ومن الحق أن تكون الآيات نفسها هي السند الأوثق والمستلهم الأقوى. فإذا أمعن في نصها وروحها ظهر أن المسألة في أصلها متعلقة بتقليد التبني أصلا وفرعا. وأمكن استلهاما من نصوصها ومن بعض الروايات الواردة في صددها تسلسل صورها على النحو التالي:
١- خطب النبي ﷺ زينب لزيد فاعتذرت وتمنّعت لأسباب قد يكون منها أن زيدا على كل حال ليس ابن النبي وأنها أنبل أرومة منه. ومسألة الكفاءة كانت مسألة مهمة في الاجتماع العربي. فأنزل الله الآية الأولى فلم يسعها إلّا الاستجابة لله ورسوله ولكنها ظلّت تشعر بالغضاضة وهذا ما ذكره الطبري.
٢- وشعر زيد بذلك فصبر على مضض. فلما استمر صار الأمر مزعجا له وباعثا لشكواه وراجع النبي ﷺ في شأن طلاقها.
فألهم الله النبي أن يقدم عليه بنفسه. ولكنه تردد في تنفيذ ما ألهمه الله تحسبا لانتقاد الناس فأمر زيدا بتحمل زوجته. وكان هذا سبب العتاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فرسل الله هم حملة رسالته ومبلّغوها. ولا ينبغي لهم أن يحسبوا حسابا لغيره...
ثم ثبت الله قلبه وأزال تردده وألهمه أن في العمل إتماما لتنفيذ حكم الله في إبطال التبني وتوابعه فتزوج بزينب بعد أن طلقها زيد.
٤- وقد كان هذا مثيرا لما توقعه النبي من انتقاد حيث لاكت بعض الأفواه على الأرجح أفواه المنافقين ومرضى القلوب الحادث. ووجه نقد هامس أو غير هامس للنبي فكان ذلك سببا لنزول الآيات التي قررت ما اقتضت الحكمة تقريره.
ومن جملة ذلك التنبيه على أن محمّدا ليس أبا حقيقيا لأي من المؤمنين وبالتالي فإنه ليس والد زيد حتى تحرّم عليه مطلقته.
وهذا التسلسل يستتبع القول إن الحادثة وظروفها النفسية والتنفيذية قد جرت بإلهام ربّاني ولكن بدون وحي قرآني. إلّا ما كان من التنديد بالتبني وإعلان عدم إقرار الله له في أول السورة الذي يمكن أن يكون هو مصدر ذلك الإلهام. وإن الآيات نزلت بعد ذلك للردّ والتثبيت والتبرير والعتاب وشرح سنة الله وواجبات الأنبياء في تبليغ رسالات الله وتنفيذ أوامره دون اهتمام لنقد ذلك ومعارضته.
وموضوع عتاب النبي ﷺ في صيغة الآية الثانية واضح وهو التريث في ما ألهمه الله من قبول رغبة زيد في تطليقه زينب ليتزوجها. وصيغة الآيات كلّها منصبة بصراحة تامة على وجوب الرضاء بقضاء الله ورسوله وبيان حكمة الله وأمره في إزالة الحرج عن المؤمنين- وليس عن النبي فقط- في تزوج زوجات أبنائهم بالتبني
وهذا لا يمكن أن يسوغ استخراج ما استخرج من القصة مما يمكن أن يكون فيه مساس بالنبي وخاصة ما استغلّه الأغيار من رواية كونه أعجب بجمال زينب وعشقها وما قالوه من أن النبي دبّر تطليق زينب من زيد ليتزوجها. ولقد كان زيد وزينب رضي الله عنهما يعرفان بطبيعة الحال أن التقاليد لا تسمح بتزوّج النبي منها.
بل وإن الآية الأولى لتلهم أن زينب استعظمت خطبة النبي لها تأثرا بهذه التقاليد.
وقد أوردنا رواية تذكر أن زينب قالت لزيد أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني. وهذه نقطة هامة من شأنها أن تهدم ركنا من أركان الرواية هدما تاما وأن تسوغ الجزم بأن زيدا إنما أراد أن يطلقها بسبب ما بدا منها من مواقف رأى فيها غضاضة وإزعاجا.
وربما كان ذلك السبب هو إلغاء التبنّي، فصار زيد ليس ابنا للنبيّ ﷺ فرأت نفسها ذات نسب لا يتناسب مع زيد بعد إلغاء التبنّي.
وفي الآية الأولى منها بخاصة توطيد لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومقياس لإخلاص المؤمنين لهما. وكلاهما مستمر المدى. فالواجب على كل مسلم في كل وقت ومكان أن يقف عند ما قضى الله ورسوله إيجابا وسلبا. وتنفيذا وامتناعا.
وسواء أتبيّن حكمته أم لم يتبينها. مع الإيمان بأنه لا بدّ من أن يكون لكل أمر وحكم وتقرير وإيذان رباني ونبوي حكمة وإن أعياه إدراكها. وقد تكرر هذا في آيات كثيرة بأساليب متنوعة ممّا مرّ منه أمثلة عديدة وممّا هو الأساس الرئيسي للشريعة الإسلامية. والقرآن يمثّل حكم الله وقضاءه والسنن القولية والفعلية الثابتة عن رسول الله تمثّل حكم رسول الله وقضاءه.
ونخلص من كل ذلك بكلمة ختامية وهي أن المتبادر والمستلهم من فحوى الآيات ونصوصها وهي أن مفتاح الحادث في الآية التالية فالله سبحانه وتعالى أمر بإلغاء التبني فكان المقتضى أن تلغى أحكامه أيضا وكان فيها حرمة
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨). ثم هذه الآيات: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (٦١) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٦٢).
والمتبادر أن المنافقين أطالوا ألسنتهم على النبي ﷺ وعلى زينب رغم ما في الآيات السابقة من قوة تضع الأمور في نصابها الحقّ، فأنزل الله تلك الآيات وبعد قليل من هذه الآيات جاءت هذه الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً
(٧١) والمتبادر أن بعض المؤمنين المخلصين أيضا اندمجوا في المقالات فنبههم الله سبحانه وتعالى إلى ما هو أولى بهم من تقوى الله والقول السديد وطاعة الله ورسوله والله أعلم.
تعليق على مدى جملة وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ
ولقد علّق المفسرون «١» على هذه الجملة فقالوا إنه ينطوي فيها أنه يكون خاتم الرسل أيضا لأن كل رسول نبيّ وليس كل نبي رسولا فما دام أنه خاتم النبيين فهو خاتم الرسل. ثم رووا في سياقها أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الترمذي عن أبي بن كعب جاء فيه: «مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تمّ موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع هذه اللبنة» «٢». ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك جاء فيه: «إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي بعدي» قال فشقّ ذلك على الناس فقال: «ولكن المبشرات، قالوا يا رسول الله وما المبشرات؟ قال رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة» «٣». ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الترمذي جاء فيه: «فضلت على الأنبياء بستّ أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافّة، وختم بي النبيون». ومنها حديث عن جبير بن مطعم أخرج في الصحيحين جاء فيه: «إنّ لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي». ومنها
(٢) روي هذان الحديثان بطرق عديدة مع خلاف يسير.
(٣) انظر المصدر السابق نفسه.
ولقد رشح القرآن الدين الإسلامي الذي جاء به محمد ﷺ في آيات عديدة ليكون دين البشرية جميعا في كلّ زمن ومكان مثل آية الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨) [٢٨] «٢» وآية سورة النور هذه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥).
ولقد احتوى القرآن من الأسس والمبادئ والتشريعات والتلقينات والنظم والمعالجات في صدد العقائد والمعاملة والحياة الدنيوية والأخروية ما يكفل حلّ جميع الإشكالات والتمشي مع كل طور وزمن ومكان وصلاح البشرية وسعادتها على أتمّ وجه وأفضله. وجاءت السنن النبوية متممة موضّحة مفسّرة فلم يعد هناك حاجة إلى أنبياء ورسل من بعده وذلك هو مصداق قول الله وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ صلوات الله وسلامه عليه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤١ الى ٤٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥)
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٤٨).
(٢) هذا المعنى جاء أيضا في آية سورة التوبة [٣٣] وفي آية سورة الصف [٩].
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة.
والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار.
وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثّون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عزّ وجلّ منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله تعالى» «١». ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النصّ قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عزّ وجلّ أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» «٢».
حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة.
ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا
(٢) المصدر نفسه ص ٧٨ و ٧٩ وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [٤٥ و ٤٦] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة. قال: أجل. والله إنّه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيّها النبي إنّا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة. ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملّة العوجاء بقول لا إله إلّا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا» وقال ابن كثير إن البخاري روى هذا في البيوع «١».
والحديث ليس صادرا عن النبي ﷺ ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة «٢». ومهما يكن من أمر فالآية [١٥٧] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي ﷺ مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)
. (١) إذا نكحتم: هنا بمعنى إذا تزوجتم أو عقدتم نكاحكم.
(٢) لم نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. وهي كما تبدو فصل جديد. أو بداية فصل جديد من فصول السورة. وقد جاءت موضحة أو مستدركة لآيات سورة البقرة [٢٣٦- ٢٣٧] التي وردت في صدد المطلقات قبل المسيس.
وقد احتوت آيات البقرة هذه تشريعا في صدد متعتهن ومهورهن دون عدتهن. ولقد ذكر في آية سورة البقرة [٢٢٨] أن المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء. فمن المحتمل أن يكون الأمر قد التبس على المسلمين فاستفتوا النبي ﷺ فنزلت الآية بعد مدة من نزول آيات البقرة فأمر النبي بوضعها في مقامها لحكمة غابت عنّا.
ولعل ذلك بسبب كون آيات البقرة كانت مرتبة فلم ير النبي ضرورة لإخلال ترتيبها والله أعلم. وقد انطوى في الآية تعليل أو حكمة تشريع. فالعدة هي لاستبراء الرحم ولإعطاء مجال للزوج المطلق لمراجعة زوجته. فإذا لم يقع مسّ فلا يبقى محل لذلك.
ولقد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلوة الصحيحة توجب العدة ولو لم يكن وطء «١». غير أن الجمهور على أن العدّة إنما تجب بالوطء. وهذا هو المنسجم مع نصّ الآية وحكمة تشريع العدّة. وهذا غير كون الخلوة الصحيحة موجبة للمهر
وصيغة الآية تلهم أن الحثّ على الرفق بالمرأة وأداء حقها وحسن معاملتها في حالة طلاقها هو هدف رئيسي فيها. وهذا متسق مع النصوص القرآنية العديدة التي استهدفت ذلك أيضا.
ولقد استنبط بعض الأئمة مثل الإمامين الشافعي وابن حنبل من هذه الآية ومن حديث رواه جابر عن رسول الله جاء فيه «لا طلاق قبل النكاح» أنه لا يقع طلاق قبل عقد نكاح بحيث لو قال رجل إن تزوجت فلانة فهي طالقة وتزوجها فلا يقع عليه طلاق. وذكر ابن كثير أن هذا مذهب طائفة كبيرة من السلف «١». ويظهر من هذا أن هناك رأيا فقهيا يخالف هذا. ونحن نرى القول وجيها أكثر من نقيضه.
وهناك قضية أخرى من هذا الباب وهي حالة رجل يقول: «أيما امرأة تزوجتها فهي طالق» حيث ذكر ابن كثير أن الإمامين أبا حنيفة ومالك يقولان بوقوع الطلاق في حين أن الإمامين الحنبلي والشافعي يقولان بعدم وقوعه «٢». ونحن نرى هذا أوجه من القول الأول أيضا فالطلاق قد شرّع للفراق بعد الزواج في حالة تعذر الوفاق على ما شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة. وهذا إنما يتحقق بعد الزواج والله تعالى أعلم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢).
(٢) المصدر نفسه. [.....]
(٢) وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك: وما أصبح ملك يمينك من السبي الذي يسّره الله لك.
(٣) ترجى: بمعنى تترك وتهمل أو تؤجل.
(٤) وتؤوي إليك: وتدخل إليك.
(٥) ومعنى جملة وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ: أي تؤوي إليك من ابتغيت ممن أرجأتهنّ سابقا.
في الآيات:
خطاب للنبي بشأن أنكحته على سبيل التشريع يؤذن فيه:
١- أن الله قد أحلّ له زوجاته اللائي تزوج بهن سواء أكن اللائي أدى مهورهن من بنات أعمامه وعماته وأخواله وخالاته المهاجرات معه أم اللائي وهبن أنفسهن له، أم اللائي هن ملك يمينه مما أفاءه الله عليه من سبي الأعداء.
٢- وأن هذا مباح له على وجه التخصيص دون سائر المؤمنين الذين شرع لهم ما شرع في آيات أنزلها قبل هذه الآيات حتى لا يكون في حرج وإشكال من أمر زوجاته وحياته الزوجية والله غفور رحيم.
٣- أن الله قد أحلّ له كذلك أن يتصرف بما يتراءى له معهن في المعاشرة الجنسية فيترك أو يهمل أو يؤجّل من يشاء منهن ويؤوي إليه للنكاح من يشاء منهن ويعود إلى من ترك وأجّل منهن.
٥- وأنه ليس له بعد الآن أن يتزوج بامرأة زواجا بعقد ولا يترك إحدى زوجاته ليأخذ مكانها غيرها ولو أعجبه حسنها باستثناء ملك اليمين الذي يظل مباحا له، والله رقيب على كل شيء.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إلخ والآيتين التاليتين لها
والذي يتبادر لنا استلهاما من فقرة قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أن هذه الآيات نزلت بعد آيات سورة النساء [٣ و ١٨- ٢٨] التي احتوت تشريعات في صدد الأنكحة وعدد الزوجات التي يستطيع الرجل جمعهن في عصمته وما يحلّ له وما لا يحلّ إلخ وبمناسبتها. فقد كان تعدد الزوجات جاريا من دون تحديد فتعددت زوجات النبي ﷺ كما تعددت زوجات غيره. فلما نزلت آيات النساء المذكورة وبخاصة الآية الثالثة التي اعتبر نصّها تحديدا تشريعيا للتعدد وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (٣) بحيث لا يزيد عدد الزوجات التي يستطيع المسلم أن يجمعهن في عصمته معا عن أربع باستثناء ملك اليمين احتفظ الذين كان عندهم أكثر من أربع زوجات بأربع منهن وسرّحوا العدد الزائد. وبرزت مشكلة زوجات النبي اللائي كن أكثر من العدد المحدد محرجة له ولهن، ونعتقد أن هذا مفتاح القضية في هذا المقام. فقد كان في إمكان زوجات المسلمين الزائدات عن العدد اللائي سرّحهن أزواجهن بعد نزول الآية أن يتزوجن فلم يكن هناك ضرر عظيم من تسريحهن، فاقتضت حكمة
كذلك يتبادر لنا من روح الآية الثانية وصلتها بالأولى حتى كأنما هي استمرار لها أنها في صدد التحديد بأسلوب خاص وأنها احتوت شبه إيعاز للنبيّ بالاكتفاء بمعاشرة أربع من نسائه معاشرة جنسية في وقت واحد وإرجاء الأخريات بدون تعيين مع إعطائه حقّ معاشرة إحدى المرجئات تطييبا لنفسها وإزالة لحزنها من الهجر على أن يرجىء واحدة من اللائي كان يعاشرهن وهكذا دواليك. والفقرة الأخيرة من هذه الآية مما يصحّ أن يكون قرينة على ذلك. ولقد روى الزمخشري في كشّافه أن النبيّ ﷺ قد عاشر بعد هذه الآيات أربعا فقط من نسائه وهن: عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة رضي الله عنهن.
وروى الطبري أن النبي آوى أربعا وأرجأ خمسا بدون أسماء. والروايات لم ترد في الصحاح. ونصّ الآية يجعل النبي في الخيار في الإرجاء والإيواء ومعاودة الإيواء لمن أرجأ. بحيث يسوغ التوقف في هذه الروايات والقول إن النبيّ ﷺ لا بدّ من أنه طبق الآية نصا وروحا والله أعلم.
ولقد روى الطبري والبغوي عن ابن رزين أنه لما نزلت آية التخيير أشفقت زوجات النبي ﷺ أن يطلقهن فقلن يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا. والذي نرجحه أن هذا كان منهن كما خمّنا حين نزلت آية تحديد العدد وفكر النبيّ في تطليق الزائد عن العدد وأن في الرواية لبسا، لأن ظرف التخيير انقضى في موقف آخر باختيار نساء النبي البقاء في عصمته كما شرحناه في الجزء السابع من التفسير الحديث ٢٦
ولقد رأينا المفسرين يديرون الكلام في سياق الآية [٥٠] على مفهوم كونها مطلقة وبسبيل إعلان كون الله تعالى قد أحلّ له فيها نوع النساء الموصوفات فيها دون غيرهن اللائي لا يتصفن بهذه الصفات «١». وقد أوردوا حديثا عن بنت عمّه أبي طالب جاء فيه: «خطبني رسول الله فاعتذرت له فعذرني. ثم أنزل الله الآية فلم أعد أحلّ له لأني لم أهاجر معه وكنت من الطلقاء». وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن أم هانىء بنت أبي طالب «٢» ونحن نتوقف في هذا ونرجح استئناسا بفحوى الآية وروحها أنها بسبيل إقرار ما كان قد تمّ من زيجات النبي ﷺ قبل نزول الآية استدراك أمر التحديد بالنسبة إليه. ولعلّ في نص الآية إما قرينة بل دليلا على ما نقول. ولقد روى الطبري مع اشتراكه في القول المذكور آنفا عن أبيّ بن كعب كلاما قد يكون فيه تأييد حيث قال ما مفاده أن الله قد أحلّ في الآية للنبي النساء اللاتي كان تزوجهن مما ذكرت الآية أوصافهن في حين أحلّ للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع بدون تحديد أوصاف والله تعالى أعلم.
ولقد كان في عصمة النبي ﷺ على ما تكاد تتفق عليه الروايات حين نزول الآيات عشر زوجات هنّ عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث وزينب
(٢) انظر التاج، ج ٤ ص ١٨٦ و ١٨٧ وكلمة الطلقاء أطلقها النبي على أهل مكة الذين استسلموا يوم الفتح وأسلموا ومنّ عليهم. ولم يعد من هاجر منهم إلى المدينة يعدّ مهاجرا لأن النبي قال: (لا هجرة بعد الفتح). على ما أوردناه في سياق الآية [٧٧] من سورة الأنفال.
ولقد احتوت الآية [٥٢] تشريعا استثنائيا سلبيا بالنسبة للنبي ﷺ مقابل التشريع الاستثنائي الإيجابي الذي احتوته الآية [٥١] على ما يتبادر لنا. فبعد أن أبيح له في الآية [٥١] الاحتفاظ بزوجاته جميعهن حرّم عليه في الآية [٥٢] التزوج بالمرة باستثناء ملك اليمين. ونصّ الآية صريح بأن الحظر مؤبد أي أنه يظل قائما لو ماتت بعض نسائه أو جميعهن أو طلقهن. هذا في حين أن المسلمين يستطيعون أن يغيروا مع الاحتفاظ بالعدد المحدد ويتزوجوا تمام العدد المحدد.
ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير بعض أحاديث في صدد هذه الآية.
منها حديث عن عائشة وآخر عن أم سلمة قالتا فيهما: «ما مات النبيّ حتى أحلّ الله النساء». ومنها حديث عن أبيّ بن كعب يفيد أن الآية لم تحرّم الزواج على النبي بالمرة وإنما حرمت عليه ضربا من النساء من غير النوع الذي أحلّه الله له في الآية [٥٠] والأحاديث ليست من الصحاح.
ونصّ الآية فيما نرى، وبخاصة جملة مِنْ بَعْدِهِ صريح بالنهي إطلاقا.
ولذلك فنحن نتوقف فيها. ولقد قال ابن كثير فيما قال أيضا: إن غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم قالوا إن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبيّ ﷺ ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله حينما نزلت آية التخيير [٢٨] فقصره عليهن وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن مما فيه توثيق لما قلناه. هذا مع التنبيه على أن هذه الأقوال إنما يحتمل صدورها
ولقد قال بعض المفسرين «١» في مدى تعبير وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أن فيه إشارة إلى عادة عربية قبل الإسلام حيث كان العرب يتبادلون الزوجات فيتنازل واحد عن زوجته لآخر مقابل تنازل هذا عن زوجته له. والذي يتبادر لنا أن القصد منه هو نهي النبيّ عن تطليق إحدى نسائه لأجل أخذ غيرها مكانها تقيدا بالعدد الذي أباحه الله له. أو بعبارة ثانية عدم التزوج بعد الآية باستثناء ملك اليمين كما قلنا قبل قليل.
وصيغة الجملة وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها صيغة أسلوبية ولا تعني في مقامها على ما يتبادر لنا أن ذلك بالنسبة للمستقبل.
ونصّ الآية [٥٠] التي وردت فيها هذه الجملة يفيد بقوة أن المرأة التي وهبت نفسها هي من جملة ما شملته جملة إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلخ.
ولقد تعددت الروايات في شخصية هذه المرأة منها أنها ميمونة بنت الحارث التي تزوجها النبي في ظرف زيارته الكعبة في السنة السابعة من الهجرة بناء على الاتفاق الذي تمّ بينه وبين قريش في الحديبية ومنها أنها زينب بنت خزيمة المعروفة بأم المساكين ومنها أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك بن جابر. والاثنتان الأوليان هما من زوجات النبي فعلا دون الأخريين على ما يستفاد من الأسماء المروية التي أوردناها آنفا. ويبدو أن رواية كونها ميمونة هي الأقدم والأوثق. وقد نبّه المفسرون
ولقد كان استثناء القرآن النبيّ ﷺ من تحديد الزوجات الوارد في حق سائر المؤمنين موضع انتقاد وغمز من قبل الأغيار بزعم أنه يضع لنفسه قوانين خاصة كما كانت كثرة زوجاته موضع غمز ونقد أيضا بزعم أن ذلك يدلّ على شدة شهوانيته.
ولقد ردّ كتّاب المسلمين على هذا وذاك ردودا متنوعة وجيهة. منها أن النبي ﷺ في تعدد زوجاته لم يكن شاذّا عن بيئته وعن الطبيعة البشرية. ومنها أن لأكثر زوجاته ظروفا غير دواعي الرغبة الجنسية إذ توخّى في بعضها تكريم صاحبيه أبي بكر وعمر وفي بعضها توثيق الرابطة بين الإسلام وبعض القبائل كزيجته بجويرية المصطلقية التي كان من نتائجها إسلام جميع قبيلتها وفي بعضها تكريم الزوجات التي مات أزواجهن في الحبشة أو استشهدوا في الجهاد مثل أم حبيبة وأم سلمة «٢» وسودة. ومنها أن نصف زوجاته كنّ من المتقدمات في السنّ وأمهات أولاد كبار ممن تقلّ الرغبة الجنسية فيهن عادة. وجوهر ومدى الردود صحيحان كلّ الصحة «٣».
(٢) أورد ابن كثير في سياق الآية [١٥٥] من سورة البقرة حديثا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة جاء فيه: «إن النبي ﷺ خطبها بعد انتهاء عدّة حدادها على زوجها أبي سلمة الذي مات شهيدا في حرب، فقالت له: أنا امرأة قد دخلت السن وأنا ذات عيال وأنا امرأة شديدة الغيرة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبا الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي».
(٣) انظر كتاب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص ٣٠٣- ٣١٧ وتاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم ج ١ ص ١٣٠- ١٣٦، وحقائق الإسلام وأباطيل خصومه لعباس محمود العقاد ص ١٩٦- ١٩٩.
ونقول على سبيل المساجلة إن النبي لم يكن في حاجة إلى تشريع خاصّ لو لم يكن هناك ظروف قاهرة. وكان بإمكانه أن يستغني عن المتقدمات في السنّ وذوات الأولاد وغير الجميلات لو كانت دواعيه هي الرغبة الجنسية وحسب. وقد شرحنا هذه الظروف في سياق تفسير الآية [٥١] التي تضمنت إشارة إليها. وهي ظاهرة الصواب والحكمة والسموّ لا يكابر فيها منصف. ولقد تضمنت هذه الآية بالإضافة إلى ذلك إيعازا بعدم مباشرة أكثر من العدد المحدد على ما شرحناه كذلك فكان فيه توفيق بين هذه الظروف والتحديد القرآني. يضاف إلى هذا أن الآية [٥٢] قد حرّمت التزوج على النبي بالمرة بعدها حتى ولو لم يبق في عصمته زوجة من زوجاته بالطلاق أو الموت على ما رجّحنا أنه المتبادر منها. وفي هذا ردّ مفحم آخر على الغامزين.
هذا، والآيات كما رجحنا قد تضمّنت استدراكا لآية سورة النساء [٣] التي اعتبرت تشريعية في تحديد عدد الزوجات الذي يصحّ للمسلم جمعه في عصمته في
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤)
. (١) إلّا أن يؤذن لكم: إلّا أن تدعوا ويؤذن لكم بالدخول.
(٢) غير ناظرين: غير منتظرين.
(٣) إناه: نضجه.
(٤) فانتشروا: انصرفوا وتفرقوا.
(٥) ولا مستأنسين لحديث: ولا تبقوا بقصد الائتناس والتسلّي بالكلام.
(٦) متاعا: شيئا ما.
(٧) حجاب: ستر.
(٨) تنكحوا أزواجه: بمعنى تتزوجوهن.
الخطاب في الآيات موجه إلى المؤمنين:
١- تنهاهم فيه عن عدم دخول بيوت النبي إلّا بدعوة إلى طعام على أن لا يأتوا قبل إيذانهم بنضجه بقصد انتظار ذلك في هذه البيوت. فإذا نضج الطعام
٢- وتنبههم فيه إلى أن ما كان من تصرف مخالف منهم لهذا كان مما يثقل على النبي ويؤذيه ولكنه كان يستحيي منهم فلا يصارحهم. والله لا يستحيي من الحقّ. ولذلك فهو ينهاهم وينبههم إلى ما يقتضي من الأدب في هذا الباب. وإذا ما كان لهم حاجة ما عند نساء النبي فعليهم أن يسألوهن عنها من وراء ستار. فهذا هو أطهر لقلوبهم وقلوبهن. وعليهم أن يلتزموا هذه الآداب ولا يؤذوا رسول الله بمخالفتها. وليس لهم كذلك أن يتزوجوا بزوجاته من بعده أبدا فإن إثم ذلك عند الله عظيم. وعليهم أن يذكروا دائما أن الله عليم بكل شيء سواء أأظهروه أم أخفوه في صدورهم.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ... إلخ والآية التالية لها
وقد روى المفسرون ورواة الحديث في صدد القسم الأول من الآية الأولى بعض أحاديث وروايات. ومما رواه الشيخان والترمذي من ذلك «أن النبي صنع طعاما في مناسبة بنائه على زينب وأمر أنسا أن يدعو الناس فصار يدعوهم فيأتون فيأكلون ويخرجون ثم يجيء غيرهم فيأكلون فيخرجون حتى لم يجد أحدا يدعوه، فقال: يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم. وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج رسول الله فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ثم رجع النبي فإذا ثلاثة رهط يتحدثون وكان النبي شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فأخبر أن القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في
وقد روى الشيخان في صدد القسم الثاني من الآية: «أن عمر قال: قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آيات الحجاب وهي: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» «٢».
والحديث الأول أكثر اتساقا مع مضمون الآية. ويفيد الحديث الثاني أن عمر كان يتمنى حجبهن شخصيا بحيث لا يراهن أو يجلس إليهن الناس وفيهم البرّ والفاجر في حين أن مضمون الآية لا ينطوي على هذا القصد تماما.
ولقد روى الطبري حديث عمر ثم روى أن أنس بن مالك قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية ثم ساق حديث وليمة النبي ﷺ في مناسبة زواجه بزينب على النحو الذي جاء في الحديث الأول كأنما يصحح المناسبة. وهذا لا ينفي أن يكون عمر اقترح على النبي قبل نزول الآية حجب نسائه وأن يكون اعتبر الآية حين نزلت استجابة لاقتراحه. وقد روى البخاري عن ابن عمر حديثا عن عمر قال: «وافقت أبي في ثلاث. قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى البقرة [١٢٥] وقلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلّمهن البرّ والفاجر فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي في الغيرة عليه فقلت لهن عسى ربي إن طلّقكن أن يبدله خيرا منكن فنزلت آية التحريم عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ... إلخ الآية». حيث ينطوي في الحديث دليل آخر على هذا الاعتبار.
(٢) المصدر نفسه.
وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الفقرة الأخيرة لم تنزل لحدتها وأن الآيتين نزلتا معا. ومن المحتمل أن يكون هذا القول المروي قد صدر قبل نزولهما فاقتضت الحكمة التنبيه على ما فيه من إثم عظيم للمناسبة الموضوعية.
وواضح من نصّ الآية الأولى أنها في صدد بيوت النبي ﷺ وزوجاته بخاصة. كما أن من الواضح منها أن الحجاب المذكور فيها لا يعني نقاب الوجه وإنما يعني ستار الباب أو حجابه وأن الأمر بسؤالهن من وراء حجاب إذا أريد سؤالهن متاعا مستتبع للأدب الذي تعلمه الآية بعدم الدخول لبيوت النبي إلّا بإذن ودعوة إلى طعام وعدم إطالة المكث للسمر والحديث، حتى إن حديث عمر لا يفيد ذلك قط. ووجه المرأة ويداها ليسا عورة فهي تصلي وهما مكشوفان. وتؤدي مناسك الحج وهما مكشوفان. بل هناك حديث نهى النبي فيه عن النقاب والقفازين في إحرام المرأة على ما أوردناه في تفسير آيات الحج في سورة البقرة.
وفي سورة النور آيات فيها تعليم عام بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات عامة في صدد دخول بعضهم على بعض وتناول الطعام والدخول على المخادع وما يجوز للمرأة إظهاره من زينتها لمحارمها إلخ مما يقوي الدليل على خصوصية حكم الآية الأولى ببيوت النبي. والمتبادر أن حالة بيوت النبيّ التي لم تكن إلّا حجرات في طرف الساحة المسورة التي اتخذ النبيّ قسما منها للصلاة والاجتماع بالناس هي التي اقتضت هذا النهي. وقد ذكر الطبري في سياق الآيات وسبب نزولها أن زينب كانت موجودة في البيت الذي ظلّ بعض المدعوين سامرين فيه. وتحريم التزوج بنساء النبي بعده في الآية الأولى دليل قطعي على أن حكمها ومداها محصوران
أما تحريم التزوج بزوجات النبي من بعده فحكمته ظاهرة، فقد سماهن القرآن بأمهات المؤمنين وقد جعل الله لهن بعض الخصوصيات بسبب هذه الكرامة التي كرّمهنّ بها فلا يصح لمسلم أن يفعل أو ينوي أن يفعل فيه إخلال. فيها. وصيغة النهي عن التزوج بزوجات النبي من بعده يؤيد ما قلناه. وسياق الآية التي وصفهنّ فيها بأمهات المؤمنين في هذه السورة من أن هذا الوصف هو من باب التكريم ولم ينطو على تحريمهن على المؤمنين في حالة طلاقهن أو ترملهن حيث اقتضت حكمة التنزيل النصّ على ذلك في الآية التي نحن في صددها.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٥]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)
. (١) واتقين الله: أمر موجه لنساء النبي على سبيل الالتفات الخطابي.
وفي هذه الآية استدراك لآداب الحجاب والدخول التي احتوتها الآيات السابقة. والضمائر فيها عائدة بالتبعية إلى نساء النبي فليس من جناح أن يدخل على نساء النبي آباؤهن وأبناؤهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن ونساؤهن
تعليق على الآية لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ... إلخ
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآية. فإما أن تكون نزلت مع الآيتين الأوليين وإما أن يكون النهي قد أحدث بعض الحرج بالنسبة لمحارم نساء النبي فنزلت للاستدراك. وإذا صحّ الاحتمال الثاني دون الأول فتكون الآية قد وضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية.
ويلحظ أن الأعمام والأخوال لم يذكروا في المستدركين. ولقد قال بعض المفسرين «١» إن الأعمام والأخوال في مقام الآباء ولذلك لم يذكروا ولكن حكم الإباحة يجري عليهم كما قال بعضهم «٢» إنهم ممن كره أن يدخلوا بدون إذن وحجاب على نساء النبي حتى لا ينعتوهن لأبنائهن الذين هم غير محارم عليهن.
والقول الأول هو الأوجه فيما نرى. ومسألة نعت النساء للأبناء ولغيرهم واردة في حقّ الإخوان وأبناء الإخوان وأبناء الأخوات والنساء جميعا ومهما يكن من أمر ومهما كانت حكمة عدم ذكر الأعمام والأخوال خافية فإننا نقول إن القرآن يتمم بعضه بعضا. والأعمام والأخوال من محارم المرأة بنص آية النساء هذه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ [٢٣] بحيث يكون في هذا تأييد ما لوجاهة ذلك القول. ولقد أورد المفسر القاسمي حديثا عن البخاري عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه: «أنها قالت: استأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس بعد ما أنزل الحجاب فقلت لا آذن حتى أستأذن النبي فلما دخل عليّ قلت له: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن
(٢) المصدر نفسه.
وقد قال المفسرون «١» في تعبير وَلا نِسائِهِنَّ قولين، أحدهما أن المقصود به النساء المؤمنات. وأن غير المؤمنات داخلات في النهي. وثانيهما أن التعبير عام يقصد به النساء عامة لوحدة الجنس، والنفس تطمئن بالقول الثاني أكثر. ويتبادر لنا أن صيغة وَلا نِسائِهِنَّ قد جاءت للتوافق اللفظي أكثر منها للاختصاص.
كذلك فإن لهم في تعبير وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قولين «٢»، أحدهما أن المقصود به الإماء دون العبيد. وثانيهما أن الجنسين سواء في القصد. وإطلاق التعبير يتناول الجنسين كما هو واضح. ولذلك فإن النفس تطمئن بوجاهة القول الثاني أكثر. ولا سيما أن مالكة العبد من محارمها على ما تفيده آية سورة النور [٣١] على ما سوف يأتي شرحها بعد.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٦]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)
. تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)
في هذه الآية:
١- تقرير تنويهي بما للنبي ﷺ عند الله وملائكته من عظيم المنزلة ورفعة
(٢) المصدر نفسه.
٢- وأمر للمسلمين بأن يصلّوا هم عليه ويسلّموا صلاة وتسليما متناسبين مع رفعة شأنه وعلّو منزلته بالدعاء والتعظيم والإجلال.
والمتبادر أن الآية متصلة بما قبلها وما بعدها معا. ومعقبة على ما جاء قبلها من التعليم والتأديب والنهي وممهدة لما جاء بعدها من الإنذار للذين يتعمدون مكايدة النبي ﷺ وأذاه. وأنها استهدفت تلقين المسلمين ما يجب عليهم إزاء النبي من التوقير والإخلاص واجتناب كلّ ما يؤذيه ويحزّ في نفسه قولا وعملا سرا وجهرا واتباع كل ما فيه رضاؤه وقرة عينه وفعله.
ومع خصوصية الآية فإن إطلاق العبارة فيها يجعلها عامة شاملة لكل مسلم ومسلمة في كل وقت ومكان وموجبة عليهم أداء حق النبي ﷺ من التوقير والتعظيم والدعاء والترحم وعظيم الشكر في سبيل تسجيل الاعتراف بما له عليهم من فضل خالد الأثر في هداهم إلى الحق والخير وسعادة الدارين وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ولقد أثرت أحاديث كثيرة مختلفة الرتب في صدد الصلاة على النبي ووجوبها وفضلها من ذلك حديث رواه البخاري والترمذي جاء فيه: «قيل لرسول الله حينما نزلت الآية: أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلّي عليك؟ فقال: قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» «١». ومنها حديث عن عبد الله بن مسعود قال: «إذا صليتم على النبي فأحسنوا الصلاة عليه. قالوا له: علّمنا، فقال: قولوا اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك
يا رسول الله إنّا لنرى السرور في وجهك! فقال: إنه أتاني الملك فقال يا محمّد أما يرضيك أن ربّك عزّ وجلّ يقول إنه لا يصلّ عليك أحد من أمتك إلّا صلّيت عليه عشرا ولا يسلّم عليك أحد إلّا سلّمت عليه عشرا» «٣». ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه: «أتاني آت من ربي عزّ وجلّ فقال: من صلّى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وردّ عليه مثلها» «٤». ومنها حديث جاء فيه: «من صلّى عليّ صلاة صلّت عليه الملائكة ما صلّى، فليقلل العبد من ذلك أو ليكثر» «٥». ومنها حديث عن ابن مسعود قال: «قال لي رسول الله إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة» «٦».
صلوات الله على سيدنا محمد وسلامه صلاة وسلاما متناسبين مع فضله وجهاده وعظمة منزلته ورفعة شأنه وأثر نوره الوهاج الذي سيبقى ساطعا في الخافقين والذي سيزداد سطوعا كلما استقامت عقول الناس وحسنت نواياهم واستنارت بصائرهم فاستبانوا سبل الهدى والسعادة بفضل ذلك النور والقرآن معجزة نبوّته العظمى.
(٢) ابن كثير.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) البغوي وهناك أحاديث عديدة أخرى استوعبها ابن كثير من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم.
(٦) المصدر نفسه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨). تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) والآية التالية لها
عبارة الآيتين واضحة. وفيهما إنذار شديد بلعنة الله في الدنيا والآخرة وعذابه المهين لمن يؤذي الله ورسوله، وبيان شدّة إثم الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات وينسبون إليهم ما لم يصدر عنهم بقصد أذيتهم.
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية الأولى نزلت في الذين طعنوا على النبي ﷺ في تزوجه صفية اليهودية وروى الخازن في نزول الآية الثانية ثلاث روايات بلفظ (قيل) إنها نزلت في الذين كانوا يؤذون علي بن أبي طالب بالكلام أو في الذين آذوا عائشة أو في الفساق والزناة الذين كانوا يتعرضون للنساء في الليل ويؤذونهم. وإلى هذا فقد قال المفسرون «١» إن أذى الله هو نسبة الولد والشريك والفقر إليه واتخاذ النصارى وعبادتها من دون الله والإلحاد في أسماء الله وصفاته وإن أذى النبي هو تكذيبه ونسبة السحر والشعر والكهانة والجنون والافتراء إليه وما كان من شجّ وجهه وكسر رباعيته في يوم أحد، كما قالوا إن هناك محذوفا مقدرا في جملة يؤذون الله، وهو: يؤذون أولياء الله.
وليس شيء من هذه الروايات في الصحاح، والذي يتبادر لنا استئناسا بمضمونها ومضمون وروح الآيات السابقة واللاحقة أن الآيتين متصلتان موضوعا وسياقا بما قبلهما وما بعدهما ومعقبتان على ما قبلهما وممهدتان لما بعدهما
والآيتان في حدّ ذاتهما جملة تامة. وإطلاق العبارة فيهما يجعلهما شاملين لكل نوع من أنواع الأذى وسوء الأدب والبذاءة والقذف والإحراج والبغي والغمز واللمز في حق الله وحق رسوله وحق المؤمنين والمؤمنات. وبهذا الاعتبار فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في شجب الذين يصدر منهم شيء من مثل ذلك في كل وقت ومكان ومناسبة وفي التشنيع عليهم والدعوة إلى الوقوف منهم موقف الشدّة والتأنيب والتنكيل.
وجملة بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات تزيد في قوة الإنذار بالإثم كما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين أحاديث عديدة. فمما رواه البغوي بطرقه حديث قدسي عن النبي جاء فيه: «قال الله يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار». وحديث قدسي آخر عن النبي جاء فيه:
«من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ومن أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة».
ولقد أورد ابن كثير الحديثين وأورد بالإضافة إليهما أحاديث أخرى منها حديث رواه الإمام أحمد عن النبي جاء فيه: «من آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» «١». وحديث آخر أخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة جاء فيه: «قال رسول الله أي الربا أربى عند الله قالوا الله ورسوله أعلم قال أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» «٢». وبعض الأحاديث لم ترد في الصحاح ولا مانع من صحتها.
(٢) في التاج حديث قريب لهذا برواية أبي داود عن أبي هريرة ونصه: (إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق). التاج ج ٥ ص ٢٤.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٩]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)
. (١) الجلباب: قيل إنه الملاءة التي تشتمل بها المرأة وقيل إنه المقنعة التي تغطي المرأة بها جبهتها ورأسها وقيل إنه الخمار الذي تستر به شقوق ثيابها.
في هذه الآية خطاب موجّه للنبي ﷺ يأمر فيه بالإيعاز إلى أزواجه وبناته وسائر نساء المؤمنين بضمّ جلابيبهن على أجسامهن حتى يعرفن بهذا الزيّ فلا يؤذين ببذيء الكلام.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)
وقد روى المفسرون «١» أن الفساق كانوا يتعرضون للنساء في الليل حين يذهبن لحاجاتهن بدون تفريق بين الحرائر والإماء والعفيفات وغير العفيفات وأن الآية نزلت لجعل زيّ خاصّ لحرائر المؤمنات يميزهن عن غيرهن حتى يسلمن من التعرض والأذى. ومنهم من قال إن الفساق كانوا إذا رأوا المرأة متجلببة كفوا عنها وقالوا إنها حرة. فأمرت الآية نساء المؤمنين بعدم إهمال الجلباب. وقد روى البغوي في سياق الآية عن أنس قال: «مرّت بعمر بن الخطاب جارية مقنّعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع» والروايات ليست في الصحاح ولكنها متسقة مع مضمون الآية وروحها كما هو المتبادر.
وتبدو الآية لأول وهلة مستقلة. غير أن من الممكن أن يلمح شيء من
وفي هذا قرينة أخرى على أن الحجاب الذي ذكر في الآية [٥٣] ليس النقاب.
وعلى أن الأمر بقرار نساء النبي الوارد في الآية [٣٣] ليس مطلقا وباتا. والنصّ يؤيد كذلك ما قلناه في سياق الآيات [٢٨- ٣٤] من أن ما في هذه الآيات من أوامر وتنبيهات هو خاصّ بنساء النبي. ففي ذلك المقام اقتصر الكلام عليهن. ولما اقتضت الحكمة تعليم جميع المؤمنات إطلاقا ذكرن في جملتهن في هذا المقام.
وقد اختلف القول في الجلباب ومفهوم إدنائه. وأوجه الأقوال في الجلباب هو الملاءة أو العباءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار. أما الإدناء فمن المفسرين من قال إنه تغطية الرأس والوجه. ومنهم من قال إنه ليس تغطية تامة للوجه وإنما هو تغطية جزئية بحيث يكشف عن العيون أو عين واحدة أو يغطي شقا من الوجه. وعلى كل حال فجملة يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ لا تفيد أن اتخاذ المؤمنات للجلباب شرعا إسلاميا جديدا وإن الذي تفيده هو أن اتخاذ النساء للجلباب كان زيّا ممارسا في بيئة النبي ﷺ فأمرت بإدنائه كتعليم بزيّ خاص يعرف به المؤمنات ويفرّق به بين الحرائر والعواهر. ليمتنع بذلك أذى الفسقة والفجار عنهن.
وصيغة الآية تشريعية مستمرة الشمول من دون ريب. غير أن الذي يتبادر لنا من روحها وظرف نزولها أن شمول التشريع فيها قياسي أكثر منه شكليا. أي أنه يوجب على المؤمنات زيّا أو مظهرا خاصا يميزهن عن العواهر ويمنع عنهن أذى الفساق دون التقيد بنفس الشكل الذي كان جاريا وقت نزول الآية.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٦٢)
. (١) المرجفون: من الإرجاف. وهو إشاعة الشائعات السيئة لتخويف الناس وإثارتهم.
(٢) المدينة: يثرب وقد سميت في الإسلام باسم المدينة ومدينة الرسول.
في هذه الآيات:
١- إنذار قاصم لفئات المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة بأنهم إذا لم ينتهوا عمّا يبثونه من وساوس ودسائس ويوقعونه من أذى وقلاقل فإن الله يغري نبيّه بهم ويسلّطه عليهم ويقدّره على طردهم من المدينة مدموغين بدمغة اللعنة مهدوري الدم ليقتلوا قتلا ذريعا بدون هوادة واستثناء وتساهل أين ما وجدوا.
تعليق على الآية لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا (٦٠) والآيتين التاليتين لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزولها. وإنما قال المفسرون «١» إن المنافقين كانوا يشيعون أخبار السوء عن سرايا النبي ﷺ وبعوثه الجهادية بسبيل إلقاء الرعب في قلوب المسلمين وتخويفهم وتخذيلهم. وإن الآيات هي في صدد ذلك. وهذا هو معنى الإرجاف على ما قالوه وقد روى الطبري عن عكرمة تأويلا لجملة وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أنهم أصحاب شهوة الزنا الذين يتبعون النساء والآيات شملت هؤلاء وهؤلاء.
والذي يتبادر لنا من روحها ومن السياق السابق أن الإنذار هو بصدد ما كان يبدو من الفئات المذكورة فيها من سوء أدب وذوق وبذاءة وأذى وكيد ودسّ وولوغ في الأعراض وإثارة الريب والفتنة سواء أكان في حقّ الله ورسوله أم في حقّ المؤمنين والمؤمنات، وأنها بناء على ذلك متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا.
ولقد احتوت الآيات حكما قرآنيا موكولا تنفيذه للنبي ﷺ بتأديب هذه الفئات إذا لم تنته عن أذاها وإرجافها بعد الإنذار وهو الطرد وإهدار الدم والقتل دون هوادة وتسامح. واحتوت بالتبعية توطيدا لسلطان النبي وإيذانا باستعمال القوة والصرامة بحقها.
والإنذار والتنديد الشديدان في الآية موجهان إلى الفئات الثلاث على السواء حيث يتبادر من هذا أنها تصدر عن موقف واحد هو عدم الإخلاص في الإيمان بالله ورسوله والوقوف عند أوامرهما ونواهيهما وأن التعدد آت من كون كل منها كانت تتميز بعمل من أعمال الضرر والشرّ والأذى فيكون ديدن واحدة هو الإرجاف وواحدة هو الاستهتار بالقيم والأعراض وواحدة هو الرياء والخداع والوقوف من النبي والإسلام والمسلمين موقف التربّص. والله تعالى أعلم.
ولم نطلع على روايات وثيقة تذكر أن النبي ﷺ قد طرد هذه الفئات من المدينة وأهدر دمها، بل هناك آيات كثيرة في سور عديدة يجيء ترتيبها بعد هذه السورة تدل على أن النبي قد وسّع صدره وحلمه لهم مع ما تكررت حكاية القرآن عنهم من مواقف الدسّ والتشكيك والتعطيل والتثبيط وإشاعة الفاحشة والقلق والخوف بين المسلمين في مختلف الظروف بل مع ما ذكرته إحدى آيات التوبة من أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم [٧٤] ومع ما أمرته إحدى آيات هذه السورة وإحدى آيات سورة التحريم من مجاهدتهم والإغلاظ عليهم هم والكفار سواء: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ التوبة [٧٣]، والتحريم [٩] وأنه ظلّ على هذه الخطة إلى آخر حياته.
وأن باب التوبة ظلّ مفتوحا لهم في جميع الظروف كما جاء في السور المدنية التي نزلت بعد هذه السورة مضافا إليها ما جاء في السور المدنية السابقة لهذه السورة معا. فمن المحتمل والحالة هذه أن الآيات قد أثرت التأثير المطلوب في أفراد هذه الفئات في الصدد والظروف التي نزلت فيها فلزموا حدودهم وكفوا أذاهم وكفي
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فالذي يتبادر لنا أن حكمها عام شامل ومستمر، وموكول لأولي الأمر في المسلمين. حيث توجب عليهم سلوك سبيل الشدة في القمع والتنكيل مع من لم يرتدع عن موقف الأذى والدسّ والإرجاف لسلامة المجتمع وطمأنينته.
ولقد يرد على هذا أن وصف المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة هو وصف متصل بالعهد النبوي. غير أن الذي ينعم النظر في حالة المجتمعات في أي ظرف ومكان يجد بدون ريب هذه الفئات فيها وإن تنوعت صورها حيث تتمثل في الذين يتخذون الطغاة والظالمين والأعداء أولياء يبتغون عندهم العزة ويساعدونهم على إذلال أمتهم واستعبادها ويخونون مصالح بلادهم وأمنها بسبيل منافعهم أو أحقادهم أو الاثنتين معا. وتتمثل كذلك في الذين يشيعون الفاحشة بين الناس ويثيرون فيهم الشكوك والهواجس والفزع في أوقات الأزمات ويستهترون بالقيم الأخلاقية والإنسانية والروحية والاجتماعية والأسروية الصالحة المستحبة بسبيل نزواتهم وأهوائهم. ويقصرون في واجبات الإخلاص والتضامن والتعاون والتضحية المتنوعة، ولا يبالون بما يقع على أمتهم من مصائب ومظالم وبغي ونكبات ولا يهتمون إلّا لمصالحهم الخاصة. حيث يبدو من هذا مدى الإعجاز القرآني في وصف ومعالجة حالات تقع في كل ظرف ومكان وفي شمول
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٣ الى ٦٨]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)
. تعليق على الآية يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) والآيات الثلاث التالية لها
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية سؤال للنبي عن الساعة وما أمره الله من جواب على السؤال. ثم أعقب ذلك إيذان بلعنة الله للكافرين وما أعدّه لهم من سعير حيث يخلدون فيها دون أو يجدوا وليّا ولا نصيرا وحيث تقلب وجوههم في النار وتأخذهم الحسرة والندامة ويتمنون لو كانوا أطاعوا الله ورسوله ويدعون على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلّوهم باللعنة ومضاعفة العذاب.
وتبدو الآيات فصلا جديدا. ولم نطلع على رواية خاصة لنزولها. وإنما ورد في الخازن: قيل إنّ المشركين كانوا يسألون رسول الله عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزؤ وكان اليهود يسألون النبيّ عن ذلك امتحانا لأن الله أعمى عليهم علمها في التوراة فأمر الله نبيه بأن يجيبهم بما في الآيات.
وقيام الساعة أو القيامة كان من أهم ما دار حوله الجدل بين النبي والكفار في العهد المكي على ما حكته آيات كثيرة حكت في الوقت نفسه سؤالهم النبي أكثر من
والجواب الذي احتوته من باب الأجوبة التي احتوتها الآيات المكية حيث يؤمر فيها النبي بأن يعلن أن علمها عند الله وليس هو إلّا نذيرا وبشيرا ولا يعلم من أمر الغيب إلّا ما شاء الله «١».
وتعبير الناس يشمل كل فئات المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن تعقيب حكاية السؤال وجوابه بجملة على الكفار يمكن أن يكون قرينة على أنه أورد من بعض الكفار أو الشاكين في الآخرة من المنافقين ومرضى القلوب. ولقد تبع هذه الآيات آيات فيها تحذير للمسلمين من أن يكونوا كالذين آذوا موسى بما قد يمكن أن يكون قرينة على أن لليهود يدا أو دخلا في هذا السؤال الجديد بقصد التشكيك بالنبي ورسالته. وإذا صحّ هذا فإن احتمال كون السؤال من بعض المسلمين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم واردا أيضا بتحريض وإيعاز من اليهود فاحتوت الآيات حملة على الكفار ومصيرهم الرهيب على سبيل التنبيه والإنذار. والله تعالى أعلم.
والآيتان الأخيرتان تؤكدان ما حكته آيات مكية عديدة عن أدوار الزعماء والأغنياء والكبراء في مناوأة الرسالة النبوية وتعطيلها. وتفيدان أن من أغنياء اليهود والعرب وزعمائهم وكبرائهم في المدينة من كان يقوم بمثل هذه الأدوار في العهد المدني أيضا.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية وانطوائهما على ما يتبادر على قصد إثارة الحسرة والندم في السامعين للقرآن مباشرة على طاعة المفسدين الكفار من كبرائهم وسادتهم وإنذارهم بما سيلقونه من نكال ويستشعرونه من ندم وحسرة في الآخرة فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في تجنّب مواقف النساء والتعطيل التي يقفها الكبراء والزعماء من كلّ حركة ودعوة فيها خير وبرّ وصلاح. وصرخة داوية ضدهم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى... إلخ والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد حذّر فيها المسلمون من أذية النبي كما فعل بنو إسرائيل مع موسى على ما كان من وجاهته وطهارته عند الله، وأمروا فيها بتقوى الله وعدم التفوّه بغير ما فيه السداد وإطاعة الله ورسوله وبذلك يصلح الله أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم ويضمنون لأنفسهم الفوز العظيم. والآيات وإن بدت لأول وهلة فصلا جديدا فإننا نرجح أن بينها وبين السياق السابق صلة ما على ما شرحناه قبل قليل. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون في موضوع الآيات أحاديث متنوعة. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله: إنّ موسى كان رجلا حيّيا ستّيرا ما يرى من جلده شيء فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقال: ما يستتر هذا الستر إلّا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة «١» وإما آفة. فأراد الله عزّ وجلّ أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ وأقبل إلى ثيابه عدا الحجر بثوبه فلحق به حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا
والأحاديث الثلاثة هي في بيان ما أوذي به موسى، وفيها ما هو صحيح فيوقف عنده.
والحديث الرابع فيه حادث واقعي إزاء النبي ﷺ فجاء فيه ما جاء من حكاية تأسي النبي ﷺ بموسى عليه السلام ويتضح به هدف الآيات التحذيري والتنبيهي أيضا.
وفي الآيات تأديب رباني مستمر التلقين في وجوب الامتناع عن اتهام الناس بما ليس فيهم والتزام حدود الحق والسداد في كل ما يصدر عن المرء من قول.
ولقد روى ابن كثير حديثا عن النبي ﷺ في سياق الآية وفي مناسبتها جاء فيه: «لا يبلّغني أحد عن أحد شيئا فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر».
وقد انطوى في الحديث كذلك تأديب نبوي في وجوب الامتناع عن نقل ما يسيء من أقوال الناس إلى من قيلت فيهم لما في ذلك من إثارة للكراهة والبغضاء وأذى النفس.
(٢) انظر كتب التفسير المذكورة.
(٣) انظر المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣). تعليق على الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ... إلخ والتي بعدها
عبارة الآيتين واضحة من الناحية اللغوية. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزولهما. ويتبادر لنا أنهما معقبتان على الآيات السابقة في صدد النهي عن أذى الناس الأبرياء واتهامهم بما ليس فيهم. ففي هذا إخلال بالأمانة التي حملها الإنسان. ثم في صدد الأمر بتقوى الله والتزام حدود الحق والقول السديد. فإن هذا من مقتضيات الأمانة وما يؤدي إلى الصلاح والفوز ورضاء الله وغفرانه.
ولقد تعددت أقوال المفسرين «١» في مفهوم الأمانة وتأويل الآية الأولى عزوا إلى ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم من أصحاب رسول الله وتابعيهم. من ذلك أن الأمانة هي الطاعة لله والتزام ما فرضه أمرا ونهيا. ومنها أنها أركان الإسلام التعبدية والمالية. ومنها أنها عدم خيانة الودائع وأداء الدين. ومنها أنها التكليف عامة. ومنها أن الله عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فاعتذرن وقلن نحن مسخرات وكفى فقال لآدم إني عرضتها على السموات والأرض والجبال فأشفقن منها، فقال آدم وما فيها يا ربّ، فقال له إن قمت بحقها جوزيت وغفر لك وإن قصرت فيها عوقبت وعذبت فقبل وتحملها،
والذي يتبادر لنا أن الأمانة هي أهلية التكليف، أو التكليف نفسه بما فيه من الإخلاص لله وعبادته والتزام أوامره ونواهيه.
وإن جملة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ قد جاءت بلفظ الواقع على وجه التقدير بقصد تقرير خطورة التكليف وأهليته وواجباته بحيث لو عرض ذلك على السموات والأرض والجبال وهي ما هي من العظمة والسعة والجلال لخافت من التقصير فيه وأبت حمله فحمله الإنسان أو اختص بحمله نتيجة لتأهيل الله له بالتمييز والإرادة وقابلية الخير والشرّ والاختيار بينهما مما لم يكن حظّ غيره من المخلوقات. غير أنه لم يرعها حقّ رعايتها، فنمّ بذلك عن جهل لخطورة ما حمل وعن ظلم لنفسه بتقصيره في القيام بما حمل.
ويتبادر لنا من روح الآيتين أن النعت التنديدي بالإنسان بكونه ظلوما جهولا هو موجه في الدرجة الأولى إلى من لم يرع الأمانة حقّ رعايتها. أو أن هذا هو المقصود بذلك. ويتبادر لنا كذلك أن اللام التي بدئت الآية الثانية بها هي سببية.
وأن هذه الآية متممة للمعنى المنطوي في الآية الأولى حيث تكون احتوت تقرير كون الله قد اختصّ الإنسان بالأمانة التي هي بمعنى التكليف كوسيلة لاختبار الناس حتى يميز خبيثهم من طيبهم وطالحهم من صالحهم ومقصرهم من القائم بواجباته منهم فيعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يكونون قد انحرفوا عن طريق الحقّ والواجب واندفعوا بما اختاروه من طريق بالتقصير والظلم والجهالة. ويشمل المؤمنين والمؤمنات الذين يكونون بإيمانهم قد اختاروا طريق الحق المستقيم وكان ذلك حافزا لهم على القيام بواجبهم ورعاية الأمانة حقّ رعايتها بعطفه وتوفيقه ورحمته وغفرانه.
ويتبادر لنا أن تأويل وَحَمَلَهَا بمعنى خانها غير سليم من ناحية اللغة
مدى التنويه القرآني بالإنسان
والآيتان بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب قد احتوتا تنويها جديدا بالإنسان وخطورة شأنه. وتقريرا لأهليته للتكليف وقابليته لاختيار الخير والشرّ والاستقامة والانحراف وإنذارا للذين يختارون الضلال ويسيرون في طريقه وبشرى للذين يختارون الهدى ويسيرون في طريقه كذلك. بل نكاد أن نقول إن الآيتين وبخاصة أولاهما احتوت مفتاح كل ما أفاده القرآن للإنسان من اهتمام عظيم خاصة كل ما سواه بل وكان محور كل أو جلّ آياته حيث جعله على ما تفيده الآيات القرآنية الكثيرة جدا والعبارة القرآنية فيها قطب الكون والمخلوقات الأخرى وخليفة الله في أرضه وسخّر له كل ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وكرّمه وفضّله على كثير من خلقه وامتازه عن غيره من الحيوان فجعله خلقا آخر واختصّه بالبعث والحساب والثواب والعقاب وسّواه بيده ونفخ فيه من روحه وجعله في أحسن تقويم وعلى أحسن الصور وأعدلها وعلّمه البيان وعلّمه كل العلوم وكان من حكمة خلقه قصد ابتلاء نوعه أيهم أحسن عملا. فجاءت هذه الآيات لتكون ذروة ذلك الاهتمام ومفتاحه وهو كونه الذي أهلّه الله تعالى لحمل الأمانة والتكليف دون سائر مخلوقاته.
وهناك دلالات عديدة لذكر هذه الفئات بالأسلوب الذي جاء به رأينا فائدة في التنبيه عليها على حدة.
فأولا: إنه مع شمول ما انطوى في الآيات من مقاصد لجميع الناس في جميع الأزمان فإن ذكر الفئات في الآية الثانية يجعل الصلة وثيقة بينها وبين سامعي القرآن الأولين من مختلف الفئات. أو بعبارة ثانية يعطي صورة لما كان عليه المجتمع في العهد النبوي.
وثانيا: إن ذكر المؤمنات والمشركات والمنافقات يفيد أن الميدان في عهد النبي ﷺ وإزاء دعوته ورسالته لم يكن خاليا من المرأة وأنه كان هناك مؤمنات مخلصات كما كان هناك مشركات عنيدات ومنافقات خائنات فاستحقت الأوليات بشرى الله بالتزامهن حدود الله وتكليفه واستحقت الأخريات إنذار الله وعذابه لانحرافهن عن هذه الحدود.
وثالثا: إن ذكر الرجال والنساء نصّا في الآية الثانية هو تابع لذكر الْإِنْسانُ في الآية الأولى. وبعبارة أخرى إن كلمة الْإِنْسانُ قد عنت الذكر والأنثى معا.
وفي هذا توكيد لما احتوته آيات كثيرة في كون الذكر والأنثى هم إزاء التكليف وواجباته وتبعاته سواء بدون أي تمييز مع القول إن هذا المعنى في الآيتين أشدّ بروزا والله تعالى أعلم.
وما بعدها إلى الآية [٢٦] من روايات وأقوال وما فيها من تلقينات ٢٨ تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ والآيتين اللتين بعدها ٣٣ تعليق على الآية وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ ٣٥ استطراد إلى ظروف وكيفية هجرة النبي والمسلمين ٣٧ تعليق على الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ٤١
إلخ والآيتين التاليتين لها ٨٨ تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ والآية التالية لها ٩٥ تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلخ والآيات التالية لها إلى آخر السورة ٩٧ تفسير سورة آل عمران ١٠٥ تعليق على الآيات الست الأولى من السورة وخلاصة عن وفد نصارى نجران ١٠٨ تعليق على الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ... إلخ والآيتين التاليتين لها ومداها في صدد التنزيل القرآني ١١٤ تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ والآيات الثلاث التالية لها ١٢٣ تعليق على الآية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها ١٢٧ تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ...
إلخ والآية التالية لها ١٣١ تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [٧] ١٣٣ تعليق على الآية لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ...
إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [٣٢] ١٣٧ تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى
وما بعدها إلى الآية [٦٤] ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران ١٤٧ تعليق على ما روي في صدد آية المباهلة ١٥٩ استطراد إلى حديث مروي في صدد الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ... إلخ من آيات السلسلة ورسالة النبي إلى هرقل ملك الروم وشهادة لأبي سفيان وتعليق على ذلك ١٦٢ تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وما بعدها الآيات [٦٦- ٦٨] ١٦٥ تعليق على الآية وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ... إلخ والآيات التابعة لها إلى الآية [٧٤] ١٦٩ تعليق على الآية وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... إلخ والآيتين التاليتين لها ١٧٣ تعليق على الآية وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ... إلخ والآيتين التاليتين لها ١٧٨ تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ... إلخ والآية التالية لها ١٨٠ تعليق على الآية أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... إلخ والآيتين التاليتين لها ١٨٣ تعليق على الآية كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ... إلخ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [٩١] ١٨٥ تعليق على الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ... إلخ ١٨٨ تعليق على الآية كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ... إلخ والآيتين التاليتين لها ١٩١ تعليق على الآية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ... إلخ والآية التالية لها ١٩٣
إلخ والآيتين التاليتين لها ٢١٠ تعليق على الآية لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ... إلخ والآيتين التاليتين لها ٢١٥ تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ... إلخ والآيتين التاليتين لها ٢١٩ تعليق على الآية وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وما بعدها لغاية الآية [١٢٩] وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد ٢٢٤ تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وما بعدها إلى آخر الآية [١٣٦] ٢٣٠ تعليق على الآية قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [١٤٢] وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة ٢٣٤ تعليق على الآية وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ والآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... وما بعدهما إلى الآية [١٤٨] ٢٣٩ تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى
وما بعدها لغاية الآية [١٥٤] وما فيها من مشاهد وقعة أحد ٢٤٥ تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ ٢٤٨ تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ٢٤٩ تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى... إلخ والآيتين التاليتين لها ٢٥١ تعليق على الآية فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ... إلخ وأمر الشورى في الإسلام ٢٥٢ تعليق على الآية وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ٢٥٩ تعليق على الآية أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ... إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [١٦٨] ٢٦٥ تعليق على الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ والآية التي بعدها ٢٦٧ تعليق على الآية الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ والآيتين اللتين بعدها ٢٧٠ تعليق على الآية إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والآيتين التاليتين لها ٢٧٤ تعليق على الآية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ٢٧٤ شرح الآية ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ... إلخ وتعليق عليها ٢٧٦ تعليق على الآية لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
إلخ والآيات الثلاث التالية لها ٢٨٠ تعليق على الآية كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ... إلخ ٢٨٢ تعليق على الآية لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ... إلخ ٢٨٣ تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ والآيتين التاليتين لها ٢٨٥ تعليق على الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ وما بعدها إلى الآية [١٩٥] ٢٩١ تعليق على الآية لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ والآيتين التاليتين لها ٢٩٦ تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٢٩٩ تفسير سورة الحشر ٣٠٢ تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وحادث إجلاء بني النضير ٣٠٤ تعليق على الآية وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ... إلخ والآية التالية لها وتشريع الفيء ٣٠٩ تعليق على جملة وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ٣١١ تعليق على جملة كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ٣١٣ تعليق على الآية لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ والآيتين التاليتين لها ٣١٤ تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [١٧] ٣٢١ تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ... إلخ والآية التالية لها ٣٢٤
والآيات الثلاث التالية لها ٣٣٢ تعليق على آيات صلاة الجمعة وتنويه بخطورتها الدينية والاجتماعية ولمحة عن تاريخ الجمعة قبل الإسلام ومسألة اتخاذ يوم الجمعة يوم عيد وعطلة عاما للمسلمين ٣٣٤ كلمة في حالة اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد ٣٤١ استطراد إلى الأذان في الإسلام ٣٤١ تفسير سورة الأحزاب ٣٤٥ تعليق على الآيات الثلاث الأولى من السورة ٣٤٧ تعليق على الآية ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ... إلخ والآية التالية لها ٣٤٩ تقليد الظهار في الجاهلية ٣٥٠ تقليد التبني في الجاهلية ومداه ٣٥١ تعليق على تعبير وَمَوالِيكُمْ ٣٥٣ تعليق على الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ... إلخ ٣٥٤ تعليق على مدى تعبير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ٣٥٦ تعليق على مدى ذكر أمومة أزواج النبي للمؤمنين في الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ٣٥٧ الخلاصة ٣٥٧
والآيات الثلاث التالية لها ٤٢٤ تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى... إلخ والآيتين التاليتين لها ٤٢٦ تعليق على الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ...
إلخ والتي بعدها ٤٢٨ مدى التنويه القرآني بالإنسان ٤٣٠ دلالات ذكر المؤمنين والمؤمنات والمشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات ٤٣١
السور المفسّرة في هذا الجزء «١» ١- النساء.
٢- محمد.
٣- الطلاق.
٤- البينة.
٥- النور.
٦- المنافقون.
٧- المجادلة.
٨- الحجرات.
٩- التحريم.
١٠- التغابن.
١١- الصفّ ١٢- الفتح
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة. تحتوي أحكاما وتشريعات وتوكيدات ووصايا في اليتامى وحقوقهم. وحلال الأنكحة ومحرماتها. والمواريث والعلاقة الزوجية وحق كل من الزوجين وحماية المرأة وتوطيد شخصيتها وحقوقها. وواجبات الناس في احترام حقوق بعضهم. ورعاية حقوق الضعفاء ومعاونتهم. والتيمم وأحكام الجنابة والنهي عن الصلاة في حالة السكر. وتوطيد سلطان النبي وأولي الأمر من المسلمين. وتوطيد أحكام القرآن والسنة النبوية لتكون أصولا في مختلف الشؤون ومرجعا. وتوطيد صلاحية الاستنباط والاجتهاد في الفروع والأشكال وما لا يكون فيه نصوص صريحة من قرآن وسنة لذي العلم والخبرة والأمر. وواجب الحذر والاستعداد للعدو. والنضال والجهاد ضد الظلم وفي سبيل المستضعفين. وواجب تضامن المسلمين وتكتلهم مع بعضهم وعدم قبول دعوى الإسلام بدون ذلك، وتنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين من حياديين ومعاهدين ومحاربين. وأحكام القتل الخطأ والعمد.
ووجوب قبول ظواهر الناس وعدم اتخاذ الجهاد وسيلة للغنائم وصلاة الخوف.
وواجبات القاضي وآداب القضاء وتحري الحق والعدل بقطع النظر عن أي اعتبار.
وحملات شديدة على المنافقين ومواقفهم. وتوطيد الإيمان بجميع الرسل والأنبياء. وبيان حكمة الله في إرسال الرسل. وبيان حقيقة أمر عيسى وردود على اليهود والنصارى في شأنه. وهتاف بالناس جميعا من كتابيين ومشركين للاستجابة إلى دعوة الحق والسير في طريق الله القويم. وقد تخلل فصول السورة صور كثيرة عن السيرة النبوية. ومواعظ ومعالجات وتلقينات بليغة مستمرة المدى.
وأكثر روايات ترتيب النزول تجعل هذه السورة سادسة السور المدنية نزولا ومنها ما يجعلها ثامنة «١». ولعلّ ذلك بسبب تبكير مطلعها الذي يبرز عليه طابع المطلع.
ولقد جاءت آخر آية منها في أحكام إرث الكلالة لا يمكن تعليل وضعها في مكانها إلّا بكونها نزلت بعد تأليف فصول السورة فألحقت بها لأنها متصلة بأحكام المواريث التي احتوتها السورة. وفي ذلك عندنا دليل حاسم على أن تأليف السورة قد تمّ في حياة النبي ﷺ وإرشاده وفي زمن متأخر من العهد المدني. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا ولقد أورد السيوطي في الإتقان حديثا أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده عن عبد الله بن مسعود قال «ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس ففي مكة» وأخرج الإمام أبو عبيد هذا الحديث في الفضائل مرسلا. وفي الآية الأولى لهذه السورة التي لا خلاف في مدنيتها نقض ما لهذا القول على إطلاقه كما هو ظاهر. وقد لا حظ ذلك غير واحد من العلماء ونبهوا عليه على ما جاء في الإتقان أيضا «٢». وليست هذه الآية هي الوحيدة المحقق مدنيتها والتي فيها خطاب يا أيها الناس. ففي بعض السور المدنية مثل ذلك أيضا. والله تعالى أعلم.
(٢) الإتقان ج ١ ص ١٨.