ﰡ
- ١ - حم
- ٢ - وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ
- ٣ - إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
- ٤ - وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
- ٥ - أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ
- ٦ - وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ
- ٧ - وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- ٨ - فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ أَيِ البِّين الواضح الجلي، المنزل بلغة أهل العرب التي هي أفصح اللغات، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ﴾ أَيْ أَنْزَلْنَاهُ ﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ أَيْ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَصِيحًا وَاضِحًا، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أَيْ تفهمونه وتتدبرونه، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مبين﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ بَيَّنَ شَرَفَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، لِيُشَرِّفَهُ وَيُعَظِّمَهُ وَيُطِيعَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَإِنَّهُ﴾ أَيِ الْقُرْآنَ ﴿فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ أَيِ اللوح المحفوظ ﴿لَدَيْنَا﴾ أي عندنا ﴿لَعَلِيٌّ﴾ أَيْ ذُو مَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ، وَشَرَفٍ وَفَضْلٍ ﴿حَكِيمٌ﴾ أَيْ مُحْكَمٌ بَرِيءٌ مِنَ اللَّبْسِ وَالزَّيْغِ، وهكذا كُلُّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، كَمَا قَالَ تبارك وتعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَا يمسه إلا المطهرون﴾، وقال تعالى: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كرام بررة﴾، ولهذا استنبط العلماء مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَمَسُّ المصحف، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُعَظِّمُونَ الْمَصَاحِفَ، الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقُرْآنِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَأَهْلُ الْأَرْضِ بِذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى، لِأَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ، وَخِطَابُهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أَحَقُّ أَنْ يُقَابِلُوهُ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالِانْقِيَادِ له بالقبول والتسليم، لقوله تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ﴾؟ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهَا فَقِيلَ مَعْنَاهَا: أَتَحْسَبُونَ أَنْ نَصْفَحَ عَنْكُمْ فَلَا نُعَذِّبَكُمْ، وَلَمْ تفعلوا ما أمرتم به (وهو قول مجاهد والسدي)، قاله ابن عباس واختاره ابن جرير، وقال قتادة: وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ رُفِعَ حِينَ ردته أوائل هذا الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عَلَيْهِمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُ قَتَادَةَ لَطِيفُ الْمَعْنَى جِدًّا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَقُولُ
- ١٠ - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
- ١١ - وَالَّذِي نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ - ١٢ - وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ
- ١٣ - لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
- ١٤ - وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ العابدين معه غيره ﴿مَّنْ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ أَيْ لَيَعْتَرِفُنَّ بأن الخالق لذلك هو الله وحده، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِنَ الأصنام والأنداد، ثم قال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً﴾ أَيْ فِرَاشًا قراراً ثابتة، تسيرون عليها وتقومون وتنامون، مَعَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ، لَكِنَّهُ أرساها بالجبال لئلا تميد، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾ أَيْ طُرُقًا بَيْنَ الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أَيْ فِي سَيْرِكُمْ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَقُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، ﴿وَالَّذِي نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ أَيْ بِحَسَبِ الْكِفَايَةِ لِزُرُوعِكُمْ وَثِمَارِكُمْ، وَشُرْبِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، ﴿فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ أَيْ أَرْضًا مَيْتَةً، فَلَمَّا جَاءَهَا الْمَاءُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كل زوج بهيج، ثم نَّبه تعالى بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ يَوْمَ الْمَعَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَقَالَ: ﴿كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾. ثُمَّ قَالَ عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ أَيْ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ، مِنْ نَبَاتٍ وَزُرُوعٍ وثمار وغير ذلك، وَمَن الْحَيَوَانَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا، وَأَصْنَافِهَا، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ﴾ أَيِ السُّفُنِ ﴿وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ﴾ أَيْ ذَلَّلَهَا لَكُمْ وسخَّرها وَيَسَّرَهَا، لِأَكْلِكُمْ لُحُومَهَا وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها، ولهذا قال جلَّ وعلا ﴿لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ﴾ أَيْ لِتَسْتَوُوا مُتَمَكِّنِينَ مُرْتَفِقِينَ ﴿عَلَى ظُهُورِهِ﴾ أَيْ عَلَى ظُهُورِ هَذَا الْجِنْسِ، ﴿ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ﴾ أَيْ فِيمَا سَخَّرَ لَكُمْ ﴿إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ أَيْ مُقَاوِمِينَ، وَلَوْلَا تَسْخِيرُ اللَّهِ لَنَا هَذَا ما قدرنا عليه.
(ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ)
(حَدِيثُ علي بن أبي طالب): عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِدَابَّةٍ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَيْهَا قَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ تعالى ثَلَاثًا وَكَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لي، ثم ضحك، فقلت له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل مثل ما فعلت، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "يعجب الرب تبارك وتعالى مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَيَقُولُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غيري" (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح).
(حديث عبد الله بن عمر): روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ»، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِي هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهم هوّن علينا السفر، واطوِ لنا البعد، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أهلنا». وكان ﷺ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَالَ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ إن شاء الله، عابدون لربنا حامدون». (أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والإمام أحمد).
- ١٦ - أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ
- ١٧ - وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
- ١٨ - أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ
- ١٩ - وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ
- ٢٠ - وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا افْتَرَوْهُ وَكَذَّبُوهُ، فِي جَعْلِهِمْ بَعْضَ الأنعام لطواغيتهم، وبعضها لله تعالى، وكذلك جعلوا له من الأولاد أَخَسَّهُمَا وَأَرْدَأَهُمَا وَهُوَ الْبَنَاتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى﴾، وقال جلَّ وعلا ههنا: ﴿وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ﴾، ثم قال جلَّ وعلا: ﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ﴾؟ وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ تمام الإنكار
وَمَا الْحَلْيُ إِلَّا زِينَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ * يتمِّم مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرا
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّراً * كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوّرا
وَأَمَّا نَقْصُ معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ وَقَدْ بُشِّرَ بِبِنْتٍ: «ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة». وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ أَيِ اعْتَقَدُوا فِيهِمْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَعَالَى قَوْلَهُمْ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ﴾؟ أَيْ شَاهَدُوهُ وَقَدْ خَلَقَهُمُ اللَّهُ إِنَاثًا؟ ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ﴾ أَيْ بِذَلِكَ ﴿وَيُسْأَلُونَ﴾ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، ﴿وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ أَيْ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، الَّتِي هي على صور الملائكة بنات الله، فإنه عالم بذلك وهو يقرنا عَلَيْهِ. فَجَمَعُوا بَيْنَ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْخَطَأِ: (أحدهما): جعلهم لله تعالى وَلَدًا، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، (الثَّانِي): دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، فَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً، (الثَّالِثُ): عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الآراء والأهواء، والتقليد للأسراف والكبراء، والخبط في الجاهلية الجهلاء، (الرابع): احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدراً، وَقَدْ جَهِلُوا فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ جَهْلًا كَبِيرًا، فَإِنَّهُ مُنْذُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ يَأْمُرُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَنْهَى عَنْ عبادة ما سواه، قال تَعَالَى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾؟ وقال جلَّ وعلا في هذه الآية: ﴿مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِّنْ عِلْمٍ﴾ أَيْ بِصِحَّةِ مَا قَالُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ أي يكذبون ويتقولون، وقال مجاهد: يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك.
- ٢٢ - بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ
- ٢٣ - وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ
- ٢٤ - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
- ٢٥ - فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِن
- ٢٧ - إِلاَّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ
- ٢٨ - وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- ٢٩ - بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ
- ٣٠ - وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ
- ٣١ - وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
- ٣٢ - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
- ٣٣ - وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ
- ٣٤ - وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ
- ٣٥ - وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِي تَنْتَسِبُ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي نَسَبِهَا ومذهبها، وأنه تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ فَقَالَ: ﴿إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ أي هذه الكلمة وَهِيَ ﴿لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ أَيْ جَعَلَهَا دَائِمَةً فِي ذُرِّيَّتِهِ، يَقْتَدِي بِهِ فِيهَا مَنْ هداه الله تعالى، من ذرية أبراهيم عليه الصلاة والسلام ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي إليها، قال عكرمة ومجاهد ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ يَعْنِي لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ من يقولها، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إلى ما قاله الجماعة، ثم قال جلَّ وعلا: ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء﴾ يعني المشركين ﴿وَآبَآءَهُمْ﴾ فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فِي ضَلَالِهِمْ ﴿حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ﴾ أَيْ بَيِّنُ الرِّسَالَةِ وَالنِّذَارَةِ. {وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا
وقوله جلَّت عظمته: ﴿لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً﴾ أي لِيُسَخِّرَ بعضُهم بَعْضًا فِي الْأَعْمَالِ، لِاحْتِيَاجِ هَذَا إلى هذا وهذا إلى هذا، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أَيْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ، خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الأموال ومتاع الحياة الدنيا، ثُمَّ قال سُبْحَانَهُ وتعالى ﴿وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمّة وَاحِدَةً﴾ أَيْ لَوْلَا أَنْ يَعْتَقِدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْجَهَلَةِ، إن أعطانا الْمَالَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِنَا لِمَنْ أَعْطَيْنَاهُ، فَيَجْتَمِعُوا على الكفر لأجل المال ﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ﴾ أي سلالم ودرجاً من فضة ﴿عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ أَيْ يَصْعَدُونَ ﴿وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً﴾ أَيْ أَغْلَاقًا عَلَى أَبْوَابِهِمْ ﴿وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ﴾ أَيْ جَمِيعُ ذَلِكَ يَكُونُ فِضَّةً ﴿وَزُخْرُفاً﴾ أَيْ وَذَهَبًا، قاله ابن عباس والسدي، ﴿وإنْ كلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، الزَّائِلَةِ الْحَقِيرَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ يُعَجِّلُ لَهُمْ بِحَسَنَاتِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا مَآكِلَ وَمَشَارِبَ، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها. ثم قال سُبْحَانَهُ وتعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ هِيَ لَهُمْ خَاصَّةً لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رآه على رمال الحصير، قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَاهُ بِالْبُكَاءِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِيمَا هم فِيهِ، وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فجلس وقال: «أو في شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» ثُمَّ قَالَ
صلى الله عليه وسلم: «أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهم الدنيا ولنا الآخرة»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلاَ تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ» وَإِنَّمَا خوَّلهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَةَ مَاءٍ أبداً» (أخرجه الترمذي وابن ماجة عن سهل بن سعد، وقال التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ).
- ٣٧ - وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ
- ٣٨ - حتى إِذَا جاءنا قال يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ
- ٣٩ - وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
- ٤٠ - أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
- ٤١ - فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ
- ٤٢ - أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ
- ٤٣ - فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- ٤٤ - وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ
- ٤٥ - وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ﴾ أَيْ يَتَعَامَى وَيَتَغَافَلُ وَيُعْرِضُ ﴿عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾، والعشا في العين ضعف بصرها، والمراد ههنا عَشَا الْبَصِيرَةِ، ﴿نقيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أزاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ ولهذا قال تبارك وتعالى ههنا: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾، ﴿حَتَّى إِذَا جَآءَنَا﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي تَغَافَلَ عن الهدى، إذا وافى الله عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَبَرَّمُ بِالشَّيْطَانِ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ ﴿قال يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ وَالْمُرَادُ بالمشرقين ههنا هُوَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ ههنا تغليباً كما يقال: القمران والعُمَران والأبوان، قاله ابن جرير وغيره، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ أَيْ لَا يُغْنِي عَنْكُمُ اجْتِمَاعُكُمْ فِي النَّارِ وَاشْتِرَاكُكُمْ فِي العذاب الأليم. وقوله جلَّت عظمته: ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾؟ أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، ثم قال تعالى ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ﴾ أَيْ لابد أَنْ نَنْتَقِمَ مِنْهُمْ وَنُعَاقِبَهُمْ وَلَوْ ذَهَبْتَ أَنْتَ، ﴿أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ﴾ أي نحن قادرون على هذا ولم يقبض الله تعالى رسول الله ﷺ حتى أَقَرَّ عَيْنَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَحَكَّمَهُ فِي نَوَاصِيهِمْ، واختاره ابن جرير، وقال قتادة: ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَتِ النقمة، ولن يُرِيَ اللهُ تبارك وتعالى نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمته شَيْئًا يَكْرَهُهُ، حَتَّى مَضَى وَلَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قط إلا وقد رأى الْعُقُوبَةَ فِي أُمته إِلَّا نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ مَا يُصِيبُ أُمته مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رُئِيَ ضَاحِكًا منبسطاً حتى قبضه الله عزَّ وجلَّ (رواه ابن جرير عن قتادة رضي الله عنه)، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أَيْ خُذْ بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى قَلْبِكَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا يَهْدِي إِلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ، الْمُفْضِي إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُوصِلِ إلى جنات النعيم.
ثم قال جلَّ جلاله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾، قِيلَ مَعْنَاهُ لَشَرَفٌ لك ولقومك، وفي الحديث: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُنَازِعُهُمْ فيه أحد إلا أكبَّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» (أخرجه البخاري عن معاوية رضي الله عنه)، ومعناه أَنَّهُ شَرَفٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أُنْزِلَ بَلُغَتِهِمْ، فَهُمْ أَفْهَمُ النَّاسِ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا أَقْوَمَ النَّاسِ بِهِ، وَأَعْمَلَهُمْ بِمُقْتَضَاهُ، وَهَكَذَا كَانَ خِيَارُهُمْ وَصَفْوَتُهُمْ مِنَ الْخُلَّصِ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَتَابَعَهُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ {وَإِنَّهُ
- ٤٧ - فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَضْحَكُونَ
- ٤٨ - وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- ٤٩ - وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ
- ٥٠ - فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ ورسوله ﴿موسى﴾ عليه الصلاة والسلام، أَنَّهُ ابْتَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، مِنَ الْأُمَرَاءِ والوزراء والقادة والأتباع مِنَ الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُ آيَاتٍ عِظَامًا كَيَدِهِ وَعَصَاهُ، وَمَا أَرْسَلَ مَعَهُ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ والقمَّل وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ، وَمِنْ نَقْصِ الزُّرُوعِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهَا وَالِانْقِيَادِ لها، وضحكوا ممن جاءهم بها، ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾، وَمَعَ هَذَا مَا رَجَعُوا عَنْ غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ وَخَبَالِهِمْ، وَكُلَّمَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ يَضَّرَّعُونَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَتَلَطَّفُونَ لَهُ فِي الْعِبَارَةِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ﴾ أي العالم (قاله ابن جرير، فليس قولهم ذلك على سبيل الانتقاص، وإنما هو تعظيم في زعمهم كما قال ابن كثير)، وَكَانَ عُلَمَاءُ زَمَانِهِمْ هُمُ السَّحَرَةَ، وَلَمْ يَكُنِ السحر في زمانهم مذموماً عندهم، فَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يَعِدُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به وَيُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ ينكثون ما عاهدوا عليه، وهذا كقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ * فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾.
- ٥٢ - أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ
- ٥٣ - فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ
- ٥٤ - فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
- ٥٥ - فَلَمَّآ آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
- ٥٦ - فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخرين
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، قَالَ ابن عباس: ﴿آسفونا﴾ أسخطونا، وعنه: أغضبونا (وهو قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وغيرهم من المفسرين)، روى ابن أبي حاتم، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ منه له» ثم تلا صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر مرفوعاً). وقال طارق بن شهاب: كنت عند عبد الله رضي الله عنه فَذُكِرَ عِنْدَهُ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، فَقَالَ: تَخْفِيفٌ عَلَى المؤمن وحسرة على الكافر، ثم قرأ رضي الله عنه: ﴿فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، وَقَالَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَجَدْتُ النِّقْمَةَ مَعَ الْغَفْلَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ﴾ قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: ﴿سَلَفاً﴾ لمثل من عمل بعملهم، ﴿وَمَثَلًا﴾ أَيْ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
- ٥٨ - وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
- ٥٩ - إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
- ٦٠ - وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ
- ٦١ - وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
- ٦٢ - وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
- ٦٣ - وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- ٦٤ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
- ٦٥ - فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَعَنُّتِ قُرَيْشٍ فِي كُفْرِهِمْ وَتَعَمُّدِهِمُ الْعِنَادَ وَالْجَدَلَ: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾. قال ابن عباس أي (يضحكون) أُعْجِبُوا بِذَلِكَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَجْزَعُونَ وَيَضْحَكُونَ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يُعْرِضُونَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُمْ، وَفِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَفْحَمَهُ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لها واردون﴾ الآيات؛ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقبل عبد الله بن الزبعري حَتَّى جَلَسَ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَهُ: وَاللَّهِ مَا قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمَا قَعَدَ، وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدٌ أنَّا وَمَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ، سَلُوا مُحَمَّدًا أَكُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ؟ فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَالْيَهُودُ تعبد عزيراً، والنصارى تعبد المسيح ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى، وَرَأَوْا أَنَّهُ قَدْ احْتَجَّ وَخَاصَمَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «كُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ وَمَنْ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ أَيْ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَمَنْ عُبِدَ مَعَهُمَا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فاتخذهم مِن بَعْدِهِم مِّن أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه يعبد من دون اللَّهُ ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ أَيْ يَصِدُّونَ عَنْ أَمْرِكَ بذلك من قوله، ثم ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ أي ما وضع عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ فَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ يَقُولُ: ﴿فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ (ذكره ابن أبي إسحاق في السيرة، ورواه ابن جرير بنحوه). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ» فَقَالُوا لَهُ:
وقوله تبارك وتعالى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً﴾ أَيْ مِراءً وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْآيَةِ لأنها لما لا يعقل (مراده أن «ما» في اللغة العربية لما لا يعقل، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ ولم يقل: ومن تعبدون) وهي قوله تَعَالَى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جهنم﴾ ثُمَّ هِيَ خُطَّابٌ لِقُرَيْشٍ، وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْأَنْدَادَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ حتى يورده فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَقَالَتَهُمْ إِنَّمَا كَانَتْ جَدَلًا مِنْهُمْ ليسوا يعتقدون صحتها، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عليه إلا أورثوا الجدل» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خصمون﴾ (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صحيح). وروى ابن جرير، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى كَأَنَّمَا صُبَّ عَلَى وجهه الخل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَإِنَّهُ مَا ضَلَّ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ»، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: "مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ خَصِمُونَ}، وقوله تَعَالَى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ يَعْنِي عيسى عليه الصلاة والسلام مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ ﴿وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أَيْ دَلَالَةً وَحُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى قدرتنا على ما نشاء، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ﴾ أَيْ بَدَلَكُمْ ﴿مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ﴾، وقال السدي: يخلفونكم فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا يَخْلُفُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهَذَا الْقَوْلُ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُعَمِّرُونَ الْأَرْضَ بَدَلَكُمْ.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ مَا بُعِثَ بِهِ عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمه وغير ذلك من الأسقام وفيه نظر. والصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نُزُولُهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عَلَيْهِ الصلاة والسلام، ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الْقِرَاءَةَ الأُخْرى ﴿وَإِنَّهُ لعَلَمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ أَيْ أَمَارَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ السَّاعَةِ، قال مجاهد: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ الساعة﴾ أَيْ آيَةٌ لِلسَّاعَةِ خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ)، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخبر بنزول عيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامًا عَادِلًا وحكماً مقسطاً، وقوله تعالى: ﴿فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ أَيْ لَا تَشُكُّوا فِيهَا إِنَّهَا وَاقِعَةٌ وَكَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، ﴿واتبعونِ﴾ أَيْ فِيمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ أَيْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، {إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ
وقوله عزَّ وجلَّ ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَيْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ ﴿وأطيعونِ﴾ فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أَيْ وأنا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ لَهُ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ مُشْتَرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ هُوَ الصراط المستقيم وهو عبادة الرب جلَّ وعلا وحده، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ﴾ أي اختلف الْفِرَقُ وَصَارُوا شِيَعًا فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْحَقُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وُلَدُ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، ولهذا قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾.
- ٦٧ - الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين
- ٦٨ - يا عباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
- ٦٩ - الَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ
- ٧٠ - ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ
- ٧١ - يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- ٧٢ - وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
- ٧٣ - لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: هَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ ﴿إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ فَإِنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ وَوَاقِعَةٌ، وَهَؤُلَاءِ غَافِلُونَ عَنْهَا، فَإِذَا جَاءَتْ إِنَّمَا تَجِيءُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بها، فحيئذ يَنْدَمُونَ كُلَّ النَّدَمِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يدفع عنهم، وقوله تَعَالَى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ كُلُّ صَدَاقَةٍ وَصَحَابَةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدَاوَةً إِلَّا مَا كَانَ للَّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنَّهُ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لِقَوْمِهِ: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار ومالكم من ناصرين﴾ قال ابن عباس ومجاهد: صَارَتْ كُلُّ خِلَّةٍ عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا المتقين. وروى الحافظ ابن عساكر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ أَحَدُهُمَا بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله تعالى بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ هَذَا الَّذِي أَحْبَبْتَهُ فيَّ» وقوله تبارك وتعالى: ﴿يا عبادي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ ثُمَّ بَشَّرَهُمْ فَقَالَ: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ، وَانْقَادَتْ لِشَرْعِ الله جوارحهم وظواهرهم، قال المعتمر ابن سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ النَّاسَ حِينَ يُبْعَثُونَ لَا يَبْقَى أَحَدٌ منهم إلا فزع فينادي منادٍ ﴿يا عبادِي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ فَيَرْجُوهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ، قَالَ، فَيُتْبِعُهَا: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ قَالَ: فَيَيْأَسُ النَّاسُ مِنْهَا غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ﴿أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ﴾ أَيْ نُظَرَاؤُكُمْ ﴿تُحْبَرُونَ﴾ أي تتنعمون وَتَسْعَدُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ الرُّومِ. ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ﴾ أَيْ زَبَادِيِّ آنِيَةِ الطَّعَامِ ﴿وَأَكْوَابٍ﴾ وَهِيَ آنِيَةُ الشَّرَابِ أَيْ مِنْ ذَهَبٍ لَا خَرَاطِيمَ لَهَا وَلَا عُرَى {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ
وقوله تعالى: ﴿وَأَنتُمْ فِيهَا﴾ أَيْ فِي الْجَنَّةِ ﴿خَالِدُونَ﴾ أَيْ لَا تَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا تَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، ثم قيل لهم على مجه التَّفَضُّلِ وَالِامْتِنَانِ: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ أَعْمَالُكُمُ الصَّالِحَةُ كَانَتْ سَبَبًا لِشُمُولِ رَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أحداً عملُه الجنة ولكن برحمة الله وفضله، وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات. روى ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فيكون له حَسْرَةً، فَيَقُولُ: ﴿لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، وَكُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ فيكون له شكراً"، قال: وما مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ ومنزل في النار، الكافر يَرِثُ الْمُؤْمِنَ مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ، وَالْمُؤْمِنُ يَرِثُ الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تعملون﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً)، وقوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ﴾ أَيْ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ ﴿مِّنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ أَيْ مهما اخترتم وأردتم، ولما ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتمم النعمة والغبطة، والله تعالى أعلم.
- ٧٥ - لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
- ٧٦ - وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين
- ٧٧ - وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ
- ٧٨ - لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
- ٧٩ - أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ
- ٨٠ - أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ ثنَّى بِذِكْرِ الْأَشْقِيَاءِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ أَيْ سَاعَةً وَاحِدَةً ﴿وَهُمْ فِيهِ مُّبْلِسُونَ﴾ أَيْ آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين﴾ أي بأعمالكم السيئة بعد قيام الحجة عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوا وَعَصَوْا فَجُوزُوا بِذَلِكَ جَزَاءً وِفَاقًا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ، ﴿ونادوا يا مالك﴾ وهو خازن النار، ﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ أي يقبض أَرْوَاحَنَا فَيُرِيحَنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ من عذابها﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا﴾، فَلَمَّا سَأَلُوا أَنْ يَمُوتُوا أَجَابَهُمْ مَالِكٌ ﴿قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكَثَ أَلْفَ
- ٨٢ - سُبْحَانَ رَبُّ السماوات وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
- ٨٣ - فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ
- ٨٤ - وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
- ٨٥ - وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السماوات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
- ٨٦ - وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
- ٨٧ - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يؤفكون
- ٨٨ - وقيله يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ - ٨٩ - فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ ولدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ أَيْ لَوْ فُرِضَ هذا لعبدته على ذلك، لأني مِنْ عَبِيدِهِ مُطِيعٌ لِجَمِيعِ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ، لَيْسَ عِنْدِي اسْتِكْبَارٌ وَلَا إِبَاءٌ عَنْ عِبَادَتِهِ، فلو فرض هذا لكان هَذَا، وَلَكِنْ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجوار أيضاً، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الواحد القهار﴾، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾ أي الآنفين، وقال ابن عباس ﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ﴾ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الشَّاهِدِينَ، وَقَالَ قتادة: هي كلمة من كلام العرب أَيْ إِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَنْبَغِي، وقال أبو صخر ﴿فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ أَيْ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهُ بِأَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ وحده، وقال مجاهد: أي أول من عبده وحده وَكَذَّبَكُمْ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ ﴿فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ الْآنِفِينَ وَهُمَا لُغَتَانِ: رَجُلٌ عَابِدٌ وَعَبِدٌ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ على شرط وجزاء ولكن هو ممتنع (قال البيضاوي: لا يلزم منه صحة وجود الولد وعبادته له، بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه، وإنكاره للولد ليس لعناد ومراء، بل لو كان أولى الناس بالاعتراف به، فإن النبي يكون أعلم بالله وبما يصح له وما لا يصح. انتهى وهو قول جيد)، وقال السدي: معناه ولو كَانَ لَهُ وَلَدٌ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عَبَدَهُ بأن له ولداً، ولكن لَا وَلَدَ لَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، ولهذا قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبُّ السماوات وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾
وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ أَيْ هُوَ إِلَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَعْبُدُهُ أَهْلُهُمَا، وَكُلُّهُمْ خَاضِعُونَ لَهُ أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ العليم﴾ وهذه الآية كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ أي هو المدعو الله فِي السماوات والأرض ﴿وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أَيْ هُوَ خَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا بِلَا مُدَافَعَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ، فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْوَلَدِ ﴿وَتَبَارَكَ﴾ أَيِ اسْتَقَرَّ لَهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، لِأَنَّهُ الرَّبُّ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْمَالِكُ لِلْأَشْيَاءِ، الَّذِي بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ نَقْضًا وَإِبْرَامًا، ﴿وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ أَيْ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أَيْ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ ﴿الشَّفَاعَةَ﴾ أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الشَّفَاعَةِ لَهُمْ ﴿إِلاَّ
مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ، فَإِنَّهُ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُ عنده بإذنه له، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أَيْ وَلَئِنْ سَأَلْتَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ ﴿مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ أَيْ هُمْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالسَّفَاهَةِ وَسَخَافَةِ الْعَقْلِ، ولهذا قال تعالى: ﴿فأنى يُؤْفَكُونَ﴾؟
وقوله جلَّ وعلا: ﴿وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ أي وقال محمد ﷺ ﴿قِيلُهُ﴾ أَيْ شَكَا إِلَى رَبِّهِ شَكْوَاهُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى في الآية الأُخْرى: ﴿وَقَالَ الرسول يا رب إن قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً﴾، وقال مجاهد في قوله: ﴿وقيله يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ قال: يؤثر الله عزَّ وجلَّ قول مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ قَوْلُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو قَوْمَهُ إِلَى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى ﴿فاصفح عَنْهُمْ﴾، أي عن الْمُشْرِكِينَ، ﴿وَقُلْ سَلاَمٌ﴾ أَيْ لَا تُجَاوِبْهُمْ بِمِثْلِ ما يخاطبونك به من الكلام السيء، وَلَكِنْ تَأَلَّفْهُمْ وَاصْفَحْ عَنْهُمْ فِعْلًا وَقَوْلًا، ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ هذا تهديد من الله تَعَالَى لَهُمْ، وَلِهَذَا أَحَلَّ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَأَعْلَى دِينَهُ وَكَلِمَتَهُ، وَشَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الْجِهَادَ وَالْجِلَادَ، حَتَّى دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْمَشَارِقِ والمغارب، والله أعلم.