ﰡ
حكى القرطبي أنها مدنية بالإجماع، وبعضهم نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب: أنه سمع آيات من أول سورة الحديد عند أخته فأسلم، وعلى هذا تكون هذه الآيات مكية، والظاهر أنها مدنية كلها كما حكى القرطبي، وعدد آياتها تسع وعشرون آية وتشمل هذه السور الحث على التسبيح لله، ثم طلب الإيمان والإنفاق، ثم التعرض لجزاء الإيمان والإنفاق يوم القيامة، ووعظ المؤمنين بالعظات البالغات، ثم بيان الدنيا وحقيقتها، وبيان دعائم الحكم، وضرب الأمثال بالأنبياء وأممهم، وعلى العموم فالسورة تدور حول الحث على الإنفاق والبذل في سبيل الله.
التسبيح لله وحده [سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
سَبَّحَ لِلَّهِ التسبيح: التنزيه والتقديس لله ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص. أَيَّامٍ: جمع يوم وهو الوقت المحدد بطلوع الشمس إلى غروبها.
اسْتَوى: تطلق في اللغة على معان كثيرة: بمعنى استقر. ومنه استوى على الكرسي، وعلى ظهر الدابة، واستوى بمعنى: قصد، وبمعنى: استولى وظهر، ومنه:
«استوى بشر على العراق» والمراد: استولى وتصرف بما يريد. الْعَرْشِ: هو سرير الملك، وعليه قوله تعالى نَكِّرُوا لَها عَرْشَها وقد يطلق على سقف البيت، وعلى هودج المرأة، وعلى الملك والسلطان، وعليه قولهم: ثل عرشه وسقط: إذا ذهب ملكه. يَلِجُ: يدخل. يَعْرُجُ فِيها: يصعد. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ:
يدخل أحدهما في زمن الآخر. بِذاتِ الصُّدُورِ: صاحبات الصدور، والمراد الأسرار العميقة التي لا تفارق الصدر أبدا.
المعنى:
التسبيح: تنزيه الله- تعالى- في القول والاعتقاد والعمل، عما لا يليق به، ووصفه بكل كمال، والسمو به عن كل نقص، والله- جل جلاله- يسبح له كل ما في السموات وما في الأرض بلسان المقال أو بلسان الحال وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «١» فتسبيح العقلاء تنزيه وتقديس وعبادة. وتسبيح غيرهم دلالة على الصانع وأنه صاحب كل كمال ومنزه عن كل نقص، أو هو الانقياد والخضوع لأمر الله وتصريفه، ولا شك أن الكل بهذا المعنى يسبح له «٢»، سبح لله ما في السموات والأرض، وهو العزيز الذي لا يغلب- سبحانه وتعالى- الحكيم في كل ما يفعل- جل شأنه- لله «٣» ملك السموات والأرض، وله التصرف المطلق فيهما وكأن سائلا سأل وقال: ما مظاهر ملكه؟ فأجيب بأنه يحيى من يشاء ويميت من يشاء وهو على كل شيء قدير.
(٢) وقد عبر القرآن عن التسبيح تارة بالمصدر كما في أول سورة الإسراء، وبالماضي كما هنا وفي سورة الحشر والصف، وعبر في سورة الجمعة والتغابن بالمضارع، وفي سورة الأعلى بالأمر عبر بذلك استيفاء لأنواع الكلمة وليسبح كل إنسان في جميع الأوقات والأحوال الله سبحانه وتعالى.
(٣) هذه الجملة مستأنفة بمنزلة التوكيد المعنوي لما قبلها، ولذلك فصل بينهما.
روى في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة: «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنّا الدّين وأغننا من الفقر!»
. هو الذي خلق السموات والأرض «١» في ستة أيام، الله أعلم بمقدارها، وهو القادر على خلقها في لحظة إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «٢» لكنه ذكر هذه المدة ليعلم العباد التأنى والتثبت في الأمور، وليعلمهم أن خلق السموات والأرض أكبر من خلقهم، وليس هو بالهين لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «٣».
ثم استوى على عرشه، واستقام أمره، واستقر على حسب ما يريده مما لا يعلم ذلك إلا هو، وهذا هو رأى السلف، وأما الخلف فيؤولون قائلين: استوى على عرشه بعد تكوين خلقه بمعنى أنه يدبر الأمر ويفصل الآيات، يعلم ما يلج في الأرض ويدخل فيها من نبات وبذور، وإنسان ومعادن وكنوز، وما يخرج منها من زروع وثمار، ومياه وجثث وغيرها، وهو يعلم ما ينزل من السماء من مطر أو شهب أو ملك أو آيات، وما يعرج فيها ويصعد إليها من عمل أو ملك أو غيره، وهو معكم بعلمه وقدرته أينما كنتم، والله بما تعملون بصير.
له ملك السموات والأرض، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وإلى الله وحده ترجع الأمور، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، بمعنى أنه يدخل هذا في زمن ذاك، وبالعكس، ونحن في مصر نرى الليل في الشتاء طويلا بينما يكون النهار في الصيف قصيرا، وفي الصيف يكون العكس، وفي الربيعين يتساوى الليل والنهار، سبحانه من قادر حكيم! وهو العليم بذات الصدور ومكنوناتها التي لا تفارقها يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ «٤» سبحانه وتعالى عما يشركون؟
(٢) - سورة يس آية ٨٢.
(٣) - سورة غافر آية ١٩.
(٤) - سورة غافر آية ٥٧.
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
المفردات:
مُسْتَخْلَفِينَ: خلفاء عن الله فيه، أو خلفاء عمن سبقكم ليأخذه من بعدكم.
الْحُسْنى أى: الجنة. يُقْرِضُ المراد: ينفق في سبيل الله.
وهذه الآيات تدعو إلى الإيمان بالله ورسوله وإلى الإنفاق في سبيل الله بعد ما مضى من وصفه جل شأنه.
المعنى:
البذل والتضحية أول الدعائم في حياة الأمم، وأساس نجاح الدعوات والإنفاق في سبيل الله للقيام بأعباء الأمة وما تتطلبه حياتها فريضة فرضها الإسلام الذي هو النظام الإلهى والدستور السماوي وهو حين يعالج مشكلة، يوقظ أولا الضمير، ويحيى الروح الديني، ويربط علاجه بالإيمان ورضا الله ورسوله وكان الإسلام في مستهل حياته- ولا زال كذلك- في أشد الحاجة إلى البذل والتضحية والإنفاق ليسد حاجة المحتاج، ويلم شعث الدولة ويدعم أركان الجيش.
آمنوا أيها الناس بالله ورسوله، فإن كنتم كفارا فكونوا مؤمنين، وإن كنتم مؤمنين فآمنوا بالله إيمانا كاملا، وداوموا عليه، وأنفقوا في سبيل الله، وسبيل الله كل خير يعود عليكم وعلى وطنكم ودينكم، أنفقوا مما تحت أيديكم من الأموال وأنتم خلفاء الله عليها، فالمال مال الله والخير خيره، فأنفقوا منه ولا تبخلوا، وثقوا أنكم ورثتم غيركم فيه وخلفتموه عليه وهو بلا شك سينتقل إلى غيركم، ولن ينفعكم منه إلا ما قدمتموه لله،
والحديث: «ليس لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت».
وإذا كان الأمر كذلك فالذين آمنوا منكم، وأنفقوا جزءا من مالهم، لهم أجر عند ربهم كبير.
وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم؟ أى شيء استقر لكم وثبت عندكم حالة كونكم غير مؤمنين «١» والحال أن الرسول يدعوكم والقرآن في يمينه
هو الذي ينزل على عبده محمد آيات بينات هي القرآن الكريم، وينزل معجزات واضحات، كل ذلك ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وينقذكم من الكفر إلى الإيمان ويهديكم الصراط السوى، وإن الله بكم لرءوف رحيم.
وأى شيء ثبت لكم غير منفقين في سبيل الله بعد هذا؟! ولله ميراث السموات والأرض وما فيهن، فستخرجون من الدنيا، والله هو الذي يرث الأموال ويعطيها لمن يشاء، ويبقيها عند من يشاء ولن تستفيد إلا ما قدمته من خير، وأما الوارث فأمره عند ربه، وله رزقه وحظه في الدنيا، وكم رأينا من جمع المال الكثير من طريق الحلال أو الحرام ثم تركه لوارثه، فلم يبقه الوارث أكثر من شهور، وأما من جمع فالويل له إن لم يكن قد أدى الزكاة وأنفق في سبيل الله، وتوخى الحق في جمع المال، وكم رأينا أناسا جمعت القليل أو لم تجمع أصلا، وكانت في حياتها مثلا أعلى للمسلم في المعاملة فلم يغش ولم يخادع ولم يكن في جمع المال كحاطب ليل، ثم ترك أولاده ولهم الله فلم يمض غير القليل حتى من الله عليهم بالمال والجاه والغنى والسعادة وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً.
[الكهف ٨٢] يا أخى ثق أنك لن تغني ابنك، والمورث هو الله وحده فأد حقوق الله واحذر الدنيا والمال!! وليس معنى هذا أن تنفق كل مالك، لا: بل اعمل كما أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم على سائله في هذا قائلا معناه: أنفق الثلث والثلث كثير لأن تذر أولادك أغنياء خير من أن تتركهم عالة على الناس يتكففون السؤال. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء آية ٢٩].
لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل وقتئذ مع من أنفق وقاتل بعده أولئك السابقون أعظم درجة عند الله من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلهم خير بلا شك، وقد وعدهم الله الجنة، مثوى لهم، والله بما تعملون خبير.
لهذا المنفق المقرض هذا الأجر الكريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم، وعن أيمانهم وفي كل جهاتهم، ويقال لهم: بشراكم اليوم دخول جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك هو الفوز العظيم، وهل هناك أرفع درجة من هذا؟!
المنافقون يوم القيامة [سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٣ الى ١٥]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
انْظُرُونا أى: انتظرونا، وفي قراءة: أنظرونا، أى: أمهلونا، أو انتظرونا.
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ: نستضيء بنوركم. بِسُورٍ: هو حائط بين الجنة والنار.
بَلى: نعم. فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: امتحنتموها بالنفاق واستعملتموها في الفتنة.
الْأَمانِيُّ: طول الأمل وامتداد الأجل. فِدْيَةٌ: ما يفتدى به. مَوْلاكُمْ أى: أولى بكم.
المعنى:
اذكر يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا، والحال أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون لهم: انظرونا لعلنا نقتبس من نوركم، ونستضيء به، وذلك أنه
روى أنه يعطى المؤمنون النور يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط المستقيم، ويستضيء المنافقون بنورهم ولا يعطون النور، فبينما هم يمشون على نورهم- كما كانوا يسيرون ظاهرا معهم في الدنيا- إذ يبعث الله فيهم ريحا وظلمة فيطفئ بذلك نور المنافقين
، ويقول المؤمنون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا «١» خوف أن يسلبوا النور كما سلب من المنافقين، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواقع أقدامهم قالوا للمؤمنين: انتظرونا نقتبس من نوركم. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً والقائل هم الملائكة أو المؤمنون، فلما رجعوا وانصرفوا يطلبون النور ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور ضخم باطنه فيه الرحمة لأنه جهة الجنة التي فيها المؤمنون، وظاهره أى:
جانبه مما يلي المنافقين من قبله العذاب.
ينادى المنافقون المؤمنين قائلين: ألم نكن معكم نصلى ونصوم ونحارب معكم؟
قالوا: بلى! ولكنكم فتنتم أنفسكم وامتحنتموها بالنفاق واستعملتموها في الفتنة وغركم بالله الغرور. فحقّا السعيد من لا يغتر بالطمع ولا يركن إلى الخداع، ومن ذكر المنية وهولها نسى الأمنية وما حولها، ومن أطال الأمل، قصر في العمل، بل غفل عن الأجل وجاء الغرور بالباطل، وقانا الله شره.
وعظ وإرشاد [سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٦ الى ١٩]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
المفردات:
يَأْنِ المراد: ألم يأت وقته، مأخوذ من أن يأنى، وفي قراءة: يئن مأخوذ من آن يئين يقال: آن لك أن تفعل كذا، أى: حان وقرب وقت الفعل. تَخْشَعَ:
تذل وتلين، والمراد تمتثل جميع أحكام القرآن. الْأَمَدُ: الزمن. فَقَسَتْ:
المعنى:
أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم، أى: تلين عند الذكر وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتطيعه! أما آن لطائفة من المؤمنين- وهم الذين فترت قلوبهم نوعا ما عن الخشوع- أن تخشع قلوبهم، وتقبل على امتثال أمر الله بأرواح مطمئنة، ونفوس راضية مرضية، لأجل تذكيرهم بالله، ولأجل استماعهم لوعظ القرآن!! روى عن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا... الآية.
وَلا يَكُونُوا «١» كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ نهى الله المؤمنين أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم كاليهود والنصارى، فطال عليهم الزمن. وجرفتهم حوادث الأيام فطغت عليهم حتى قست قلوبهم وصارت كالحجارة أو أشد قسوة، وبعدوا بذلك عن الدين الحق فكتبوا كتبا نسبوها لله، والواقع أنها لهم، هذه الكتب فيها شيء من الحق، وكثير من الباطل، فكان منهم لهذا قليل من المؤمنين لم يغيروا ولم يحرفوا، وكثير منهم فاسقون.
فيا أيها المسلمون: لا تكونوا كهؤلاء، وقد كان المسلمون كذلك- حافظوا على القرآن، ولم يغيروا فيه، ولم يبدلوا، ولقد صدق الله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ، والحمد لله كان للأزهر نصيب كبير في المحافظة على عقائد المسلمين ألا ترى إلى عقائد كثير من المسلمين في إيران والعراق وغيرهما، وإن كان الأزهر الآن، يجحد فضله الكثير من المصريين، ولا يعرف فضله حقيقة إلا في غير مصر.
أيها المسلمون: لقد عاتب الله المؤمنين في العصر الأول بهذه الآية، ونحن نعرف للرعيل الأول كله على العموم فضله وسبقه وحسن إيمانه، وكمال إسلامه فما بالنا نحن
إن الذين تصدقوا من الرجال والنساء، وأقرضوا الله قرضا حسنا، حيث بذلوا أموالهم خالصة لوجه الله، لا يريدون جزاء ولا شكورا، هؤلاء يضاعف لهم أجرهم أضعافا، ويعطون في مقابلة الحسنة عشر أمثالها، وقد يزاد على ذلك إلى سبعمائة ضعف، ولهم أجر كريم، وثواب جزيل، والذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا كاملا أولئك- والإشارة إلى بعد مرتبتهم وكمال جزائهم- هم الصديقون والشهداء عند ربهم أى: أولئك عند ربهم وفي حكمه بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل، والصديقون هم الذين سبقوا إلى الإيمان ورسخوا فيه، والشهداء هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وسموا بذلك لأن الله والملائكة شهدوا لهم بالجنة، وقيل: لأنهم أحياء فهم شهود، لهم أجرهم الكامل ونورهم الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
والذين كفروا بالله ورسوله، وكذبوا بآياته القرآنية، والكونية، أولئك- والإشارة لبعد منزلتهم في النار- أصحاب النار الخالدون فيها الملازمون لها، وهي لهم وبئس القرار قرارهم.
حقيقة الدنيا والآخرة [سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
لَعِبٌ وَلَهْوٌ: هما شيء واحد، وقيل: اللعب: ما رغب في الدنيا، واللهو:
ما شغل عن الآخرة. وَزِينَةٌ الزينة: ما يتزين به من اللباس والحلي ونحوها.
وَتَفاخُرٌ: التباهي بالأموال والأولاد. غَيْثٍ: مطر. الْكُفَّارَ أى:
الزراع. وسمى الزارع كافرا لأنه يستر البذر في الأرض وقيل: هم غير المسلمين.
يَهِيجُ: يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له. حُطاماً أى: هشيما متكسرا من اليبس.
المعنى:
الدنيا الغرور هي سبب البعد عن الدين، الدنيا الفانية هي التي يؤثرها ضعفاء العقول والنفوس على الآخرة الباقية، وهي سبب الإعراض عن الله، والبعد عن الخشوع، وحبها رأس كل خطيئة، وهي مركب الشيطان بها يعد الإنسان بالفقر ويأمره بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، فالدنيا هي سبب قسوة القلب، وتغيير الذمم، وتحريف أهل الكتاب الكلم من بعد مواضعه، وهي التي تدعو إلى الشح وعدم البذل، هذه الدنيا ما هي!! أليس من الخير أن نعرفها على حقيقتها.
اعلموا أيها الناس أن الدنيا عرض زائل، ومتاع حائل كل ما فيها لعب يتعب صاحبه، ولا خير فيه كلعب الصبيان، وكل ما فيها لهو يشغل الإنسان عما ينفعه
هذه الدنيا الفارغة سريعة الزوال والانصرام. فهي كمثل غيث نزل بأرض فأنتج زرعا أعجب الكفار نباته أما المسلمون حقا فهم لا يعجبون به ولا يغترون بل إذا رأوه قالوا: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله! وذكرهم هذا بربهم الواحد الأحد.
عيون من لجين شاخصات | على أطرافها ذهب سبيك |
على قضب الزبرجد شاهدات | بأن الله ليس له شريك |
هكذا الدنيا تقبل سريعة ثم تزداد وتقوى زمنا يسيرا ثم تراها وقد انفضت من حولك أو خرجت منها، كما يخرج الإنسان من الدنيا صفر اليدين إلا من العمل الصالح.
وفي الآخرة عذاب شديد للعصاة والمذنبين، وفيها مغفرة ورضوان من الله كبير وما الحياة الدنيا إلا متاع يغتر به من يطمئن له.
سابقوا أيها العقلاء إلى ما يكون سببا للمغفرة «١» والرضوان من ربكم، وسارعوا مسارعة السابقين إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض، أعدت للذين آمنوا بالله
وعمل الطيبات.
ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
الأمر كله لله [سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
المفردات:
مُصِيبَةٍ هي لغة: كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، وخصها العرف بالشر. نَبْرَأَها: نخلقها. تَأْسَوْا: تحزنوا. مُخْتالٍ فَخُورٍ: المتكبر، والفخور: المباهي بماله أو جاهه.
المعنى:
يعالج القرآن الكريم مرضا في النفوس قد يحول دون الجهاد والبذل في سبيل الله، فإن الإنسان قد يترك هذا خوفا من الفقر أو القتل، ولكنه إذا علم أن للقدر سهاما لا ترد،
أخبركم الحق- تبارك وتعالى- لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، فإن من علم أن ما قدر أزلا لا بد من حصوله حتما لم يفرح لشيء لم يكن ليخطئه، ولا يحزن على شيء لم يكن ليدركه، فالمؤمن عند المصيبة يصبر، ومع الغنيمة يشكر، والفرح والحزن المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، والله لا يحب كل متكبر مغتر بنفسه، فخور بماله أو جاهه على الناس فإن النعمة من الله لا من نفسه.
والمختال الفخور غالبا يكون بخيلا لأنه لا يرى لغيره حقا عليه، على أنه شحيح النفس قصير العقل ويأمر الناس بالبخل، وينهاهم عن البذل، ومن يعرض عن تلك الأدوية الإلهية، فإن الله هو الغنى عنه، المحمود في السماء والأرض فليس في حاجة إليه.
أسس الحكم في الإسلام [سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٥]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
تالله لقد أرسلنا رسلنا كلهم بالحجج والمعجزات، مؤيدين بالبرهان والآيات وأنزلنا معهم الكتاب، أى: جنسه الشامل لكل كتاب كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن وأنزل معهم الميزان، أى: العدل في الأحكام، أى: أمر الرسل بذلك وهم أولو الأمر ومن يأتى بعدهم خلفا لهم كذلك، إذ هم الحراس على تنفيذ الأحكام.
أنزل الكتب من السماء، وأمر بالعدل في كل شيء ليقوم الناس بالقسط في معاشهم ومعادهم، وفي كل أمورهم الدينية والدنيوية.
وأنزل الحديد- خلقه وأنشأه- فيه بأس شديد، وقوة صارمة.
الله سبحانه قرن إنزال الكتب، والأمر بالعدل بإنزال الحديد، وفي هذه إشارة إلى أن الكتاب يمثل القوة التشريعية، والعدل يمثل القوة القضائية، وإنزال الحديد يمثل القوة التنفيذية، فإن تشريع السماء لا بد له من قاض يحكم به بالعدل، ولا بد لها من قوة تنفذ حكمها، فإن الحق وحده لا يسير إلا بالقوة، وكل ذلك ليقوم الناس بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس وطبائعها.
وفي الحديد بأس شديد، وفيه منافع للناس. أليس هذا الكلام من أربعة عشر قرنا، في الوقت الذي لم يعرف العالم للحديد فيه كل منافعه، أليس هذا دليلا صادقا على أن محمدا ما قال هذا الكلام من عنده، وإنما هو الوحى الصادق من عند الله العالم بكل شيء، وأما منفعة الناس بالحديد فأمر ظاهر معروف لكل من عاش في هذا العصر، خلق الله كل ذلك لينتفع الناس، وليعلم الله من ينصره، وينصر رسله بالغيب، يا سبحان الله! كأن الله شرع الأحكام، وأمرنا بالعدل فيها ثم أرشدنا إلى السلاح والحديد لنعلم أنه لن تقوم قيامة هذا الدين إلا بالجهاد والاستعداد التام للحرب، والاستعداد للحرب يمنع الحرب كما يقولون، ولقد أضمر الله لفظ «لينتفع الناس» «١» وأظهر قوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ للإشارة إلى أن هذا هو المقصود وأن نفع الناس نفعا ماديا مقدمة له، إن الله لقوى عزيز، وهذا تذييل محكم في
الغرض من إرسال الرسل [سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
قَفَّيْنا قفى أثره: اتبعه، وقفى على أثره بفلان: أتبعه إياه، وعليه قوله: قفينا على آثارهم برسلنا، والمراد جعلناهم تابعين متأخرين عنهم في الزمان. رَأْفَةً وَرَحْمَةً وهما: شيء واحد، قال بعضهم: إذا اجتمعا كانت الرأفة درء الشر ورأب الصدع، وكانت الرحمة جلب الخير والمودة. وَرَهْبانِيَّةً الرهبنة والرهبانية: هي المبالغة في العبادة والرياضة الروحية، والانقطاع عن الناس مع حمل النفس على المشقة والامتناع عن لذيذ المطعم والمشرب والنكاح. كِفْلَيْنِ الكفل: الحظ والنصيب:
وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط، وعلى ذلك فالمراد:
يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلاك المعاصي.
المعنى:
وتالله لقد أرسلنا نوحا، وهو الأب الثاني للبشر، وأرسلنا إبراهيم وهو أب العرب، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب، فكل الأنبياء من نسلهما، فكان من الذين أرسل إليهم رسل مهديون، وكان كثير منهم فاسقون، وتلك سنة الله مع الأنبياء جميعا، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ثم أتبعناهم بعيسى بن مريم، فجاء متأخرا عنهم في الزمان، وآتيناه الإنجيل الصحيح الذي لم يحرف بعد، لا الإنجيل الذي هو موجود عند المسيحيين اليوم، فإن فيه التثليث والصلب، والله هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، والله قد نجى الأنبياء أولى العزم من أعدائهم وعصمهم من الكفار بهم فنجى نوحا من الغرق، ونجى إبراهيم من النار، ونجى موسى من فرعون، ونجى عيسى من اليهود، ونجى محمدا من كيد المشركين، وكفاهم جميعا شر المستهزئين، على أن نظرية الصلب التي في الإنجيل الموجود نظرية دليل بطلانها معها، ولا يقبلها عقل، ولا تقرها شريعة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وجعل ربك في قلوب حوارى المسيح وأصحابه السابقين رأفة ورحمة «رحماء فيما بينهم».
فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا سليما- سواء مات قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم أو عاش حتى أسلم به- أجرهم، وكثير منهم فاسقون لأنهم لم يؤمنوا بالإنجيل الصحيح فلم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسله وداوموا على تقوى الله وعلى الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم إن تفعلوا ذلك يؤتكم بسبب ذلك نصيبين عظيمين يكفلان لكم الخلوص من هلاك المعاصي، ويجعل لكم نورا تمشون به، ويغفر لكم، والله غفور رحيم، وقيل المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد يؤتكم كفلين من رحمته كفل على الإيمان بعيسى وكفل على الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
أعلمناكم بذلك ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم ليعلم هؤلاء أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله، أى:
من الأجرين أو غيرهما، ولن يصيبهم خير ما لم يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فإيمانهم بالنبي عيسى لا ينفعهم بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين، فقولهم للمسلمين: من لم يؤمن بكتابكم منا فله أجر: باطل باطل.
واعلموا أن الفضل بيد الله وحده يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.