تفسير سورة المزّمّل

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

سورة المزّمّل
في السورة نداء للنبي صلّى الله عليه وسلّم للقيام بالليل وتلاوة القرآن والاستعداد لما يوحى إليه، وتثبيت له إزاء مواقف الزعماء والأغنياء المكذبين، وحمله عليهم. وإشارة إلى موقف فرعون من رسالة موسى عليه السلام ونكال الله به على سبيل الإنذار والتذكير، وتخفيف من شدة قيام الليل وتهجده. والآية الأخيرة التي فيها هذا التخفيف مدنية وقد ألحقت بالسورة لمناسبة ما جاء في أولها. وترتيبها كثالث سورة نزولا بسبب رواية نزول آياتها التسع الأولى لحدتها كثالث مجموعة نزولا، غير أن هذه الرواية وترتيب السور بسببها موضع نظر على ما يرد شرحه بعد. ولقد تكرر بدء مطالع السور بنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يصح أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وشخصياتها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)
. (١) المزمّل: المتزمل. والتزمل هو الالتفاف بالثوب.
405
(٢) الترتيل: هنا بمعنى التجويد والتمهل في القراءة. وجاءت الكلمة في سورة الفرقان بمعنى تنزيل القرآن مفرقا قسما بعد قسم.
(٣) ناشئة الليل: النهوض من النوم في الليل.
(٤) أشد وطئا: قيل إن معناها أشد وقعا، وقيل أكثر موافقة وملاءمة وأدعى إلى التنبيه والإخلاص.
(٥) أقوم قيلا: القيل هو القول، ومعنى الجملة هو أسد وأقوم للمقال والتلاوة.
(٦) سبحا طويلا: مجالا طويلا للعمل والمشاغل.
(٧) التبتل: الخشوع.
في هذه الآيات أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتخصيص قسم كبير من الليل للتهجد والخشوع والعبادة وتلاوة القرآن، لأنه يتمكن فيه من تفريغ القلب وتصفية النفس والذهن والسداد في القول أكثر من النهار، بسبب ما في النهار من شواغل كثيرة. وأمر له كذلك بالاستعداد لما سوف يلقى عليه من المهام العظمى والأعباء الثقيلة. وباتخاذ الله وحده وكيلا ومعتمدا له وهو الذي لا إله إلّا هو ربّ المشرق والمغرب.
وقد جاء في بعض الروايات «١» أن هذه الآيات أول ما نزل من القرآن، كما جاء في بعضها «٢» أنها نزلت حينما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من غار حراء بعد نزول الوحي عليه لأول مرة وقلبه يرجف فقال لأهله: «زملوني». ومضمون الآيات يجعل الرواية الثانية أقوى وهو ما عليه جمهور المفسرين. وهذه الروايات تعني والحالة هذه أن هذه الآيات نزلت وحدها. لأن الآيات التالية لها احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلّا بعد أن يكون قد نزل جملة من القرآن وسار النبي صلى الله عليه وسلّم في الدعوة شوطا غير يسير. وفي هذه الحالة يكون ترتيب السورة كثالثة السور نزولا بسبب ذلك.
(١) انظر تفسير الآلوسي لهذه السورة.
(٢) المصدر أيضا.
406
على أن ما بين هذه الآيات والآيات التالية لها من انسجام وتوازن قافية وعطف ما بعدها عليها وما فيها من حكاية لموقف المكذبين وتثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلم يمكن أن يدل على أنها ليست منفصلة عما بعدها وأنها جاءت كمطلع تمهيدي له فيه تثبيت وإعداد. وإذا صح هذا فإن أولية الآيات وبالتالي فإن ترتيب السورة لا يكون صحيحا.
والآيات على كل حال مما نزل مبكرا جدا، ويصح أن يقال والحالة هذه إن ما احتوته من أوامر بشأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله فيه كان خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بالدرجة الأولى بحسب إعداده للمهمة العظمى التي اصطفاه الله لها.
ولعل الضمير المفرد المخاطب يقوم قرينة على ذلك. ولا بد من أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قام بما أمر به أحسن قيام وهو ما تواترت فيه الآثار «١».
والناقد البصير يقرأ والحالة هذه في هذه الآيات صفحة من حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم الروحية وسيرته التعبدية واستغراقه في الله في الخلوات وهدأة الليل في معظمه، ويلمس ما كان لهذا من أثر في صفاء نفسه وقوة روحه. ولا سيما إذا تذكر ما كان من مثل هذه الخلوات والاعتكافات الروحية قبل بعثته صلّى الله عليه وسلّم على ما جاء في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها الذي أوردناه في تفسير العلق، حيث جاء فيه فيما جاء: «ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد»، وكان لذلك من دون ريب أثر في استعداده لتلقي وحي ربه. وكان من أسباب اصطفاء الله له لتلك المهمة.
وقد روي «٢» أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأولين السابقين ما لبثوا أن اقتدوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك حتى صارت تنتفخ أقدامهم من قيام الليل والوقوف في الصلاة، وكان ذلك مما يزيدهم قوة وإيمانا وصفاء نفس وصلابة أمام المناوئين.
ولقد روي هذا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه في حديث رواه البخاري والترمذي
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير.
(٢) المصدر نفسه.
407
والنسائي عن المغيرة قال: «إن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول أفلا أكون عبدا شكورا» وفي رواية الترمذي: «حتى انتفخت قدماه فقيل له تتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا». وفي سورة الذاريات المكية آيات تصدق ما كان عليه المؤمنون الأولون من ذلك وهي: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩). ولقد أكد على ذلك في آية مكية أخرى في سورة الإسراء جاء فيها: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩). ولقد استمر النبي صلّى الله عليه وسلّم على هذا في العهد المدني أيضا على ما تفنده الآية الأخيرة من السورة التي هي آية مدنية بإجماع الروايات وبما يدل عليه نصها حيث شاءت حكمة الله التخفيف عن المسلمين فيها على ما سوف نشرحه بعد مما هو أثر من آثار الأمر القرآني الوارد في الآيات.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في فضل قيام الليل والصلاة والقراءة فيه أوردنا طائفة منها في سياق تفسير سورة العلق. وهي على ما هو المتبادر تعكس ما كان من الأثر القرآني للنبي صلّى الله عليه وسلّم في نفسه ثم ما كان من قصده في حث المسلمين على قيام الليل في مختلف الأزمنة والأمكنة لما في ذلك من تربية روحية وخلقية جليلة. والآية المدنية التي ألحقت بآخر هذه السورة لا تنسخ قيام الليل وإنما تخفف وبخاصة على أصحاب الأعذار على ما هو المتبادر منها والله تعالى أعلم.
والآية الأخيرة تنطوي على دعم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية إعداده واستعداده. فالله هو رب كل الكون مشرقه ومغربه، وليس من إله غيره، وعلى النبي أن يجعل اعتماده عليه وحده. فهو الكفيل بإنجاحه في مهمته، وفي كل هذا تثبت وتطمين وبث قوة وروح.
وإلى هذا فإن فيها لأول مرة إعلانا لوحدة الله وشمول ربوبيته، ودعوة إلى
408
جعله وحده وكيلا ومعتمدا في محيط اتخذ أهله مع الله شركاء وأندادا، وجعلوا لهم من دونه أولياء وشفعاء ونصراء، واستكبر زعماؤه حتى كاد الناس يتخذون منهم أربابا من دون الله. وهكذا تسجل هذه الآية أول جملة قرآنية على الشرك وعبادة غير الله والدعاء لغير الله والاتجاه لغير الله، وأول دعوة قرآنية إلى جعل الله وحده المتجه والوكيل والمعتمد، وتخليص النفس من أي سيطرة وخضوع لغيره، وهذا هو أساس الإسلام وجوهر دعوته.
تعليق على كلمة القرآن
وكلمة «القرآن» ترد هنا لأول مرة، وهي مصدر القراءة. وتعني المقروء أيضا، ومع أنها صارت علما على جميع محتويات المصحف منذ عهد النبي ﷺ والخلفاء الراشدين فإنها كانت تطلق على ما نزل من القرآن قبل أن يتم تمامه أيضا على ما تدل عليه آية سورة النمل هذه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦)، وآية سورة الأنعام هذه: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [١٩]. ومثل آية سورة طه هذه: طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) وآية سورة البقرة هذه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [١٨٥].
وإلى هذا فإنها كانت تعني القسم الذي يحتوي مبادئ الدعوة ومؤيداتها دون حكاية مواقف تكذيب الكفار وحجاجهم والرد عليهم على ما تدل عليه آية سورة الإسراء هذه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (٨٢)، ومثل آيات سورة يونس هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)، ومثل آية سورة الفرقان هذه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ
409
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا
(٣٢)، ومثل آية سورة فصلت هذه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦)، ومثل آية سورة الحشر هذه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)، وآية سورة إبراهيم هذه: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١).
وواضح من آيات يونس/ ١٥- ١٦، والفرقان/ ٣٢ وفصلت/ ٢٦ وأمثالها الكثيرة التي حكت أقوال الكفار عن القرآن أنهم كانوا يعنون بالقرآن ما فيه دعوة إلى الله وحده وحملة على شركهم وتسفيه لعقولهم ومخالفة لتقاليدهم وعقائدهم، وما فيه من المبادئ الإيمانية والاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والأخلاقية التي رأوا فيها بدعة ورأوها تهدد مراكزهم ومصالحهم. وعلى أي حال لا يدخل فيما كانوا يعنونه من الكلمة حكاية أقوالهم والرد عليها، وهذا شغل جزءا كبيرا من القرآن المكي. كذلك فإن ذلك هو الذي عنته على ما هو المتبادر آيات الأنعام/ ١٩ والبقرة/ ١٨٥ والإسراء/ ٨٢ والحشر/ ٢١ وإبراهيم/ ١ وأمثالها الكثيرة جدا.
تعليق على مدى تعبير وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا
وما روي في صدد أدب تلاوة القرآن لقد رويت أحاديث وقيلت أقوال عديدة في صدد أدب تلاوة القرآن في سياق تفسير جملة وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا من ذلك حديث رواه البخاري وأبو داود جاء فيه: «أن أنس سئل كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: إنها كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ ببسم الله ويمدّ بالرحمن ويمدّ بالرحيم» «١». وحديث
(١) التاج، ج ٤ ص ٨- ٩.
410
رواه الترمذي عن أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته يقول الحمد لله ربّ العالمين ثم يقف، الرحمن الرحيم ثم يقف، وكان يقرأ ملك يوم الدين» «١».
وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي موسى: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» «٢». وحديث رواه البخاري وأبو داود عن عبد الله بن مغفّل قال: «قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في مسير له على راحلته سورة الفتح فرجّع في قراءته. قال معاوية لولا خوفي من اجتماع الناس عليّ لحكيت لكم قراءته». وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصوت يتغنّى بالقرآن يجهر به» «٣». وحديث رواه البخاري وأبو داود عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم. ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن» «٤» وقد علق مؤلف التاج على الحديث الأخير بقوله شارحا إن تحسين الصوت بالقرآن يزيد في بهائه وجلاله ويصل بمواعظه إلى أعماق القلوب مع مراعاة علم التجويد فإن زاد القارئ في المد والغن أو تركهما كان مكروها في قول وحراما في قول وأثم القارئ ووجب على السامع الإنكار.
ولقد روى الطبري في سياق شرح العبارة عن مجاهد أن معناها (ترسل فيه ترسلا) وعن قتادة (بينه بيانا) وقال النسفي: إن معناها وجوب القراءة بتأنّ وتثبت وإشباع الحركات. وروى البغوي عن ابن عباس أنها بمعنى: «اقرأه على هينتك ثلاث آيات أو أربعا أو خمسا». وروي عن ابن مسعود أنه قال في شرحها: «لا تنثروه نثر الدقل- الرمل- ولا تهذوه هذّ الشعر. قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة». ويعني بالجملة الأخيرة عدم السرد السريع.
(١) المصدر السابق، ص ٨- ٩.
(٢) المصدر نفسه. [.....]
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
411
وعلى ذلك يمكن أن يقال إن من أدب تلاوة القرآن وترتيله تلاوته بتأنّ وتثبت وتبيين وأداء وعظي وخاشع نافذ إلى العقول والقلوب وحسن إخراج الحروف ومراعاة علم التجويد. وإنه لا بأس في ترجيعه بصوت حسن إذا لم يزد عن الحد الذي يخرجه إلى ما لا يستحب ولا ينسجم مع قدسيته من أساليب الغناء.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٠ الى ١٤]
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤)
. (١) اهجرهم: اعتزلهم أو تجنبهم.
(٢) أولي النعمة: المتنعمين، وتعني الأغنياء والزعماء والمترفين.
(٣) الأنكال: الأغلال والقيود.
(٤) الجحيم: النار الشديدة.
(٥) ذا غصة: الذي يسبب الغصة.
(٦) الكثيب: تل الرمل.
(٧) المهيل: الرخو المتداعي للتبعثر والانسياح.
وفي هذه الآيات:
١- تثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء تكذيب الأغنياء المترفين الذين لا يخجلون من ذلك وهم يتمتعون بنعم الله، وأمره بتركهم لهم فهو قادر عليهم.
٢- وأمر آخر له بهجرهم هجرا لينا.
٣- ووعيد لهم بما سوف يلقونه يوم القيامة من أغلال وعذاب وجحيم وطعام يغصون به لمرارته وسوئه.
٤- ووصف لهول هذا اليوم حيث ترجف الأرض والجبال وتصبح الجبال فيه ككثبان الرمل المهيلة.
412
ولم نطلع على رواية تذكر أسباب نزول الآيات. ومطلعها يفيد أن الزعماء والمترفين كانوا يتقولون على النبي صلّى الله عليه وسلّم الأقاويل فاحتوت ما احتوته من تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنذار ووعيد قاصمين لهم. وحرف العطف الذي بدأت به الآيات بعد أن طلبت الآية الأخيرة السابقة لها من النبي صلّى الله عليه وسلّم اتخاذ الله وكيلا قد يكون قرينة على اتصال الكلام بين هذه الآيات وسابقاتها، وتوازن القافية قد يكون قرينة على ذلك أيضا.
وذكر الأغنياء والزعماء والمترفين كأصحاب القول تكرار لما احتوته آيات سورتي العلق والقلم، وتوكيد لما قلناه قبل من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قوبل بموقف الصدّ والتكذيب من هذه الطبقة منذ خطواته الأولى لأن رجالها رأوا في دعوته وحركته خطرا على مراكزهم ومصالحهم وأدى ذلك إلى نشوب المعركة بينهم وبينه منذ عهد مبكر، ثم استمرت إلى أن أظفره الله بهم في بدر وما بعدها.
وليس في الآيات ما يشير إلى موقف شخص بعينه كما هو الحال في آيات السورتين السابقتين. وبمعنى آخر إن الحملة قد جاءت عامة على المكذبين من الأغنياء والمترفين بسبب موقف الصد والتكذيب الذي أخذوا يقفونه. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع منهم شيء جديد من ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إنزال هذه الآيات.
تعليق على مدى الأمر بهجر الزعماء والأغنياء وسرّية الدعوة
والأمر بهجر المكذبين لا يمكن أن يكون بتركهم وشأنهم بالمرة، لأن هذا لا يتسق مع طبيعة رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم التي تقضي بالاستمرار في الدعوة. ويبدو لنا أن فيه تفريجا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء شدة الموقف الذي واجهه منذ البدء، وتلقينا بأن لا يهتم له، وتوجيها له إلى الفريق الصالح الطيب الذي استجاب أو الذي يمكن أن يستجيب إلى الدعوة، مع عدم قطع الحبل مع الزعماء والأغنياء بالمرة، وعدم الغلظة والشدة في الهجر، وهذا مستلهم من الآية الأولى أيضا. كما أنه قد تكرر
413
في القرآن المكي كلما حزب النبي صلّى الله عليه وسلّم موقف الكفار المعاندين وأحزنه مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)، ومثل ما جاء في آية سورة النحل هذه: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧)، ومثل ما جاء في سورة يونس: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)، وقُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)، ومثل ما جاء في آية ق: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥).
ولقد ذكرت الروايات «١» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اتخذ له مركزا سرّيا عرف بدار الأرقم يجتمع فيه مع المؤمنين، فيقيمون فيه صلواتهم معه، ويتلقون تعاليم دينهم عنه، كما أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يدعو الله بأن يعزّ دينه ببعض الأقوياء «٢» وأن هذه الحالة دامت نحو ثلاث سنين «٣»، إلى أن أسلم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وغيرهما من الأقوياء المعروفين. فإذا صحت هذه
(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ٢٨٣.
(٢) انظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص ٨٧ وما بعدها.
(٣) السيرة الحلبية نفس الجزء والصفحة. وننبه على أن ابن هشام لم يذكر مدة السنين الثلاث وإنما ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أسلم جماعة فيهم ضعفاء صار يجتمع ويصلي بهم مستخفيا في دار الأرقم في الصفا وفي شعاب مكة إلى أن صار عدد المسلمين أربعين وأسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب فخرجوا (انظر ج ١ ص ٢٥٣- ٢٦٤) واحتمال أن تكون مدة اجتماع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمؤمنين الأولين في دار الأرقم وصلاته بهم مستخفيا امتدت ثلاث سنين وارد لأن عمر وحمزة رضي الله عنهما لم يسلما إلّا في السنة الثالثة أو الرابعة. غير أن سياق ابن هشام يدعم ما قلناه من أن الاستخفاء إنما كان رفقا بالمسلمين الأولين ولم يكن انقطاعا عن الدعوة.
414
الروايات فإن من الممكن أن يقال إن هذا كان بتلقين الآية الأولى، ولا سيما أنها من الآيات المبكرة المتسقة مع ما ورد من الروايات، ومن الممكن أن تلهم بسبب ذلك معنى عمليا أكثر مما تلهمه مثيلاتها التي نزلت فيما بعد. ومع كل هذا فإننا نعتقد أن هذا قد كان لحماية أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأولين الذين كان فيهم الضعفاء والفقراء والذين كانوا يتعرضون للعدوان والبغي والأذى وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتوقف عن دعوته. وكل ما يحتمل أنه صار يتجنب الأعداء الألداء لدعوته وحركته من الزعماء أو يتحاشى مخاشنتهم وهذا ما تلهمه جملة وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أيضا.
ولقد استمرت الآيات متواصلة في الأمر بالدعوة والإنذار. وفي حكاية ما كان يقع بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وزعماء الكفار من محاورات ومشادات مما فيه تأييد لذلك على ما سوف يأتي بعد.
تعليق على رواية نسخ حكم الآية: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا
ولقد روى الطبري وتابعه المفسرون عن قتادة وغيره من علماء التابعين أن هذه الآية نسخت بآية القتال أو آية السيف في سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا وهي: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(٥).
ويورد المفسرون هذا القول في مناسبة كل آية مكية فيها أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين أو التحريض والترقب وانتظار أمر الله أو فيها تنبيه إلى أنه ليس عليهم مسيطرا ولا جبارا وإنما هو منذر ومذكر.
والأمر يتحمل شيئا من البيان، فمن جهة أولى إن هذه الآيات في ظرف نزولها ومقامها استهدفت تسلية النبي وتثبيته وتهوين موقف الصد والمناوأة الذي
415
يقفه الكفار والمشركون منه في الدرجة الأولى والمباشرة وتظل تعبر عن هذا الهدف.
ومن جهة ثانية إن القول وجيه بالنسبة لكل كافر ومشرك كان وظل في موقف العدوان على الإسلام والمسلمين الذي كان يتمثل في العهد المكي بالطعن بالإسلام وتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقذفه ومناوأته وصد الناس عن دعوته وتأليبهم عليه وأذيته وأذية الذين اتبعوه وفتنتهم عن الإسلام بالإكراه والإغراء وهو موقف زعماء المشركين أو معظمهم في العهد المكي. أما الذين لم يكن منهم مثل هذا الموقف العدواني والذين يقفون من الإسلام والمسلمين موقف الموادة والمسالمة والحياد فلا يصح ذلك القول بالنسبة إليهم على ما سوف نشرحه في مناسبات آتية أكثر ملاءمة والله أعلم.
تعليق على تبدل نواميس الكون عند قيام الساعة
وبمناسبة ما ورد في الآية الأخيرة من رجفان الأرض والجبال يوم القيامة وصيرورتها كثيبا مهيلا نقول: إن الإشارة إلى تبدل مشاهد الكون ونواميسه يوم القيامة قد تكررت في القرآن كثيرا. وأكثر هذا التبدل في المشاهد التي تملأ عظمتها وروعتها نفوس الناس، على مختلف طبقاتهم، هيبة ورهبة، كالأرض والجبال والسماء والشمس والقمر والنجوم والبحار كما في مطالع سور التكوير والانفطار والانشقاق. وقد تنوعت أساليب وصف هذا التبدل وعباراته. فالأرض والجبال هنا ترجف، والجبال تصبح كثيبا ومهيلا. والأرض والجبال في سورة الحاقة تحمل وتدك دكة واحدة، والجبال في سورة طه تنسف ويصبح مكانها مستويا، وفي سورة النمل تسير سير السحاب وفي سورة النبأ تكون سرابا وفي سورة القارعة تكون كالعهن المنفوش. ومثل هذا التنوع وارد بالنسبة للبحار والنجوم والسماء والشمس والقمر أيضا.
والمتبادر أنه بالإضافة إلى ما في هذه الإشارات القرآنية من حقائق إيمانية غيبية عن تبدل نواميس الكون ومشاهده عند انتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة
416
الأخرى، ثم إلى كونها في نطاق قدرة الله الذي خلقها وسوّاها أول مرة، فإنها قد جاءت بسبيل وصف يوم القيامة وإثارة الرعب في قلوب السامعين الذين تدهش نفوسهم من عظمة هذه المشاهد والنواميس وروعتها، وعلى وجه التقريب والتمثيل لإنذار المكابرين المعاندين وحملهم على الارعواء والشعور بسوء العاقبة إن هم ظلوا في موقفهم الجحودي العنيد. ولعل تنوع الصيغ الواردة مما يقوم قرينة على ذلك، بالإضافة إلى ما في آيات الوصف وسياقها من القرائن والدلالات التي يلمسها من أنعم النظر فيها.
والقرينة قائمة في الآيات التي نحن في صددها والتي ترد لأول مرة، حيث احتوت إنذارا وإعلانا بما لدى الله من الأنكال والجحيم في ذلك اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال وتكون الجبال كثيبا مهيلا.
ولقد توسع كثير من المفسرين المطولين في وصف مشاهد التبدل وحاول بعضهم أن يوفقوا بين ما ظنوه موهما للتناقض بسبب تنوع الوصف. وليس من طائل وراء ذلك كله. وفيه تكلف لا ضرورة له فيما هو المتبادر عدا أنه لا يستند إلى روايات وثيقة متصلة بالنبي صلّى الله عليه وسلم. فالحياة الأخروية حقيقة إيمانية مغيبة في جميع مشاهدها. والزيادة على ما جاء في القرآن أو تفسيره وتفصيله لا يمكن أن يكون صحيحا إذا لم يكن متصلا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأن ذلك من الأمور التي لا يجوز الكلام فيها بالتخمين. ويجب- والحال هذه- أن يوقف منها عند ما وقف القرآن أو الآثار النبوية الثابتة دون تزيد وتوسع وتخمين وتكلف مع ملاحظة استهدافها التدعيم والانذار والترغيب والترهيب الذي تكرر في القرآن كثيرا تلميحا حينا وتصريحا حينا آخر، والذي يلمح في الآيات التي نحن في صددها.
تعليق على النار الأخروية
وبمناسبة ورود ذكر الجحيم التي توعد الله بها الكفار لأول مرة نقول: إن الجحيم أو النار أو جهنم أو السعير- وكلها مترادفة- قد جعلت في القرآن عنوانا الجزء الأول من التفسير الحديث ٢٧
417
لما سينال الكافرين الآثمين من حياة العذاب والآلام في الاخرة. لأن الناس في الدنيا وبخاصة الذين وجه إليهم الخطاب لأول مرة قد اعتادوا أن يجدوا في شدة الحرارة والنار أشد الآلام الجسمانية فاقتضت حكمة الله أن يوعد الكافرون الآثمون بأشد ما اعتاده الناس من أسباب العذاب والألم.
وفي بعض الآيات في سور أخرى ذكرت وسائل ومشاهد عذاب أخرى غير النار. وقد وصفت هي الأخرى بأوصاف وتشبيهات متساوقة مع المألوفات الدنيوية ومن ذلك ما جاء في الآية التي ورد فيها ذكر الجحيم. أي الطعام ذي الغصة والأنكال أي القيود والأغلال. ومن ذلك آيات سورة الغاشية هذه تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وآيات سورة النبأ هذه: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) وآيات سورة الدخان هذه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ
(٤٩). ويلحظ أن هذه الوسائل والمشاهد من أشد ما يؤلم الناس في الحياة الدنيا أيضا.
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن من المشاهد الأخروية وكونها في نطاق قدرة الله تعالى فإنه يجب الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ولعل قصد التقريب للأذهان والتأثير في النفوس وإثارة الفزع والخوف، والحمل على الارعواء من تلك الحكمة، والنفوس تتأثر بما تعرف وتمارس من آلام وعذاب.
والآيات القرآنية في النار ووسائل العذاب الأخروية كثيرة جدا كالجنة ووسائل النعيم الأخرى. وهي كذلك من خصوصيات القرآن تبعا لخصوصيته في وصف الحياة الأخروية بوجه عام. وننبه كذلك إلى أن القرآن لم يقصر ما سوف ينال الكافر الآثم من آلام الحياة الأخروية وعذابها على النار والوسائل المادية
418
الأخرى، بل ذكر كذلك ما سوف يناله من سخط الله وغضبه وبعد عن رضائه ومن ذلّ وهوان، بأساليب متنوعة وفي مواضع عديدة، مما هو متسق مع طبائع الأمور من حيث إن الله يعلم أن هناك من يرى في هذه آلاما شديدة وأن هناك من يرى في تلك الآلام الشديدة.
وكما أثرت أحاديث نبوية عديدة في الجنة وأوصاف النعيم الأخروي أثرت أحاديث نبوية عديدة في النار والعذاب الأخروي. منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أئمة الحديث الآخرون. وقد رأينا أن نورد بعضها هنا، ونرجىء بعضها إلى مناسبات أكثر ملاءمة كما فعلنا في أحاديث الجنة والنعيم الأخروي. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنم.
قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها»
. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم:
تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين»
.
وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة». وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة».
وحديث رواه الترمذي عن أبي سعيد أيضا قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الصعود جبل من نار يتصعد فيه الكافر سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا». وحديث رواه الترمذي عن عتبة بن غزوان قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما وما تفضي إلى قرار معا» قال عتبة وكان عمر يقول: «أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد».
وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الحميم
419
ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلق ما في جوفه حتى يحرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان».
وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢]، ثم قال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه» وحديث رواه الترمذي عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا وصلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم فيقولون ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى، قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلّا في ضلال. قال: فيقولون: ادعوا مالكا فيقولون له يا مالك ليقض علينا ربك فيجيبهم إنكم ماكثون. قال فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون. قال فيجيبهم اخسئوا فيها ولا تكلمون. قال فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفرة والحسرة والويل». وحديث رواه الشيخان والترمذي عن النعمان بن بشير قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه».
وواضح من هذه الأمثلة كذلك أن الأحاديث النبوية في النار والعذاب الأخروي متساوقة هي الأخرى مع الآيات القرآنية في وصف النار ووسائل العذاب الأخروية بأشد ما يكون إيلاما للنفوس والأجسام. والإيمان بالمشاهد الأخروية التي يثبت خبرها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكونها في نطاق قدرة الله تعالى واجب كالإيمان بما جاء في ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذكر ذلك لا بد من أن يكون له حكمة وهدف. وإثارة الفزع والخوف والارعواء عن الكفر والغي
420
وسيء الأعمال من الملموح في الأحاديث من تلك الحكمة كما هو الشأن في الآيات القرآنية.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٥ الى ١٩]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)
. (١) وبيلا: شديدا أو ثقيلا.
(٢) منفطر: متشقق ومتصدع.
الخطاب في الآيات موجه إلى سامعي القرآن أو المكذبين منهم وينطوي على الإنذار والزجر حيث:
١- يقرر لهم أن الله قد أرسل إليهم رسولا شاهدا عليهم كما سبق وأرسل إلى فرعون رسولا.
٢- ويذكرهم بمصير فرعون الذي عصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذه الله أخذا شديدا.
٣- وينذرهم بيوم القيامة بأسلوب السؤال الإنكاري عن الوسيلة التي يتقون بها- إذا كفروا بالله وجحدوا رسالة رسوله- هول ذلك اليوم الذي يجعل الأطفال شيبا وتكون السماء فيه متصدعة.
٤- ويؤكد لهم أن هذا الوعد الرباني آت لا ريب فيه، لأن وعد الله صادق.
٥- ويقرر بأسلوب عام أن ما يسمعونه من إنذار ودعوة، هو تذكير وتنبيه وبلاغ. وأن الناس بعد ذلك موكولون إلى اختيارهم ومشيئتهم، فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان به وتصديق رسالة رسوله.
421
والآيات غير منفصلة عن السياق السابق موضوعا ولا نظما. وقد جاءت بأسلوب انتقال والتفات، وهو ما جرى عليه النظم القرآني.
والآية الأولى منها تحتوي أول تنزيل قرآني صريح في مهمة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم ونعته بنعت الرسول ثم توالى ذلك وتنوع حيث نعت بالنبي وبالنذير وبالبشير، وهي نعوت توضيحية لمهمة الرسالة.
تعليق على قصة موسى وفرعون
والإشارة إلى فرعون وموقفه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه أولى إشارة قرآنية إلى أخبار ومواقف المكذبين الأولين عامة وفرعون خاصة.
واقتضاب الإشارة من جهة وأسلوب الآيتين الأوليين من جهة أخرى يدلان أولا على تلك الأولية، وثانيا على أن قصة موسى وفرعون ليست غريبة عن سامعي القرآن. ولقد ذكرت قصة موسى وفرعون بتفصيل كثير في سفر الخروج. وهو من أسفار العهد القديم. وكانت هذه الأسفار متداولة بين أيدي اليهود والنصارى في بيئة النبي. صلّى الله عليه وسلم. ولا بد من أن العرب غير الكتابيين قد سمعوا القصة منهم. ويبدو هدف الإنذار والتذكير للكفار في مضمون الآيات وأسلوبها واضحا وهو الهدف الرئيسي من الإشارة والقصة في القرآن. وقد سبقت بآيات تنديدية وإنذارية وألحق بها مثل ذلك جريا على أسلوب النظم القرآني الذي نوهنا به سابقا وفيه توكيد لذلك الهدف أيضا.
ولقد تكرر ورود قصة موسى وفرعون وأخبار بني إسرائيل وأنبيائهم أكثر من غيرهم من الأنبياء والأمم الأولين، كما أن هذه القصة والأخبار جاءت مسهبة أكثر من غيرها أيضا.
ولقد كانت كتلة كبيرة من بني إسرائيل مستوطنة في بيئة النبي عليه السلام منذ بضعة قرون قبل البعثة، وشغلوا حيزا كبيرا في هذه البيئة اجتماعيا ودينيا وثقافيا
422
واقتصاديا «١» وكان ذلك مما جعل أهل هذه البيئة يعرفون الشيء الكثير من قصة موسى وفرعون ومن أخبار بني إسرائيل وأنبيائهم، فاقتضت حكمة التنزيل أن يكثر الاستشهاد بذلك في معرض العظة والإنذار والتذكير والتأييد.
بيان مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلم
وفي الآية الأخيرة شرح موجز وضمني لمهمة الرسول ومداها. فالرسول مذكر وداع إلى الله. والناس بعد ذلك موكولون إلى قابلية الاختيار وقوة التمييز اللتين أو دعهما الله فيهم فمن شاء اختار طريق الهدى واتخذ إلى ربه سبيلا فكان سعيدا ناجيا. وهكذا تكون الآية في نفس الوقت قد تضمنت تقرير قابلية الإنسان وقدرته على التمييز والاختيار. وهذا وذاك من المبادئ القرآنية المحكمة التي تكرر تقريرها بأساليب متنوعة على ما سنشير إليه في مناسباته. وهو المتسق مع حكمة الله في إرسال الرسل وتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين كما هو واضح.
ولقد رأينا المستشرق الطلياني كايتاني في كتابه «تاريخ الإسلام» يزعم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقدم نفسه كرسول من الله في أوائل دعوته، تهيبا وتحفظا، وأنه اكتفى بقوله إنه نذير لهم مع صراحة ذكر نعته بالرسول في هذه الآيات التي وردت في سورة من أبكر السور نزولا. هذا بالإضافة إلى أن القرآن استعمل كلمات نذير وبشير ونبي ورسول في مقامات متجانسة وفي آيات مبكرة ومتأخرة ومكية ومدنية ووصف النبي في آية مبكرة مكية بوصف الرسول النبي الأمي كما جاء في آية سورة الأعراف [١٥٧] كما وصف بهما في آيات عديدة أخرى ضمنا وصراحة ومقارنة على ما سوف يأتي التنبيه إليه بعد مما يدل على أن الاستعمال كان متسقا مع ما تقتضيه حكمة الخطاب والأسلوب. ولقد جمعت هذه الصفات جميعها للنبي صلّى الله عليه وسلم
(١) انظر الفصل الثالث من الباب الأول من كتابنا «عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته قبل البعثة» ص ٩٥ وما بعدها.
423
في آية واحدة هي آية سورة المائدة هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(١٩) وهذا من غرائب مفارقات المستشرقين ومثل على إرسالهم الكلام جزافا.
تعليق على السماء وانفطارها يوم القيامة
والسماء تذكر هنا لأول مرة، ولقد ذكرت في القرآن مرارا كثيرة جدا. مفردة حينا وجمعا مطلقا بصيغة (السموات) حينا وبصيغة (سبع سموات) و (السموات السبع) حينا، وأحيط ذكرها بحفاوة عظيمة وأقسم بها مرات عديدة.
ومعنى السماء اللغوي هو العالي، وقد وصفت بالعلو في بعض الآيات كما جاء في آية سورة طه هذه: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) ووصفت بالفوقية التي هي في نفس المعنى كما جاء في آية سورة الشورى هذه: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ.
وليس في القرآن شيء صريح عن ماهية القرآن، ولم نطلع على حديث صحيح صريح في ذلك أيضا.
وقد يقال إن ذكر انفطار السماء قد يفيد قرآنيا أنها جسم صلب قابل للتشقق، غير أن الأسلوب الذي جاء به ذلك هو أسلوب إنذار وترهيب ووصف لهول يوم القيامة مثل ما جاء قبل قليل عن مصير الجبال. ومثل ما جاء في الجملة نفسها من صيرورة الولدان شيبا في ذلك اليوم استهدافا لإثارة الرهبة في نفوس المكذبين وحملهم على الارعواء واتقاء غضب الله تعالى. وهو ما تستهدفه الآيات المماثلة بصورة عامة على ما نبهنا إليه قبل، وما دامت حكمة الله ورسوله لم تشأ ذكر ماهية السماء بصراحة وقطعية فالأولى من ناحية التفسير القرآني الوقوف من ذلك عند الحد الذي وقف عنده القرآن والذي فيه تحقيق للهدف الذي استهدفه منه.
424
تعليق على مدى كلمة الكفر في القرآن
وبمناسبة ورود أحد اشتقاقات كلمة الكفر في القرآن لأول مرة في الآيات وهو (كفرتم) نقول: إن هذه الكلمة اشتقاقاتها قد وردت كثيرا في القرآن.
وجاءت في معظم آياته التي وردت فيها بمعنى جحود رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الأنبياء من قبله وإنكار الله وآياته ونعمه. ولا تدل على عقيدة دينية خاصة. وهي في أصلها وصف أسلوبي يصح أن يوجه إلى كل إنسان جاحد بشيء ما. غير أنها صارت في القرآن ومنذ عهد النبي وما بعده وصف تشنيع أيضا. وقد استعملت من أجل معناها المذكور في معرض الإشارة إلى إنكار المشركين والوثنيين والكتابيين وجحودهم جميعا على أنها استعملت في بعض الآيات في وصف الذين أنكروا وحدة الله مطلقا أو اعتقدوا بألوهية السيد المسيح لما جاء في آيات المائدة هذه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)، ولَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [٧٣].
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٢٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
. (١) يقدّر: يحسب.
(٢) لن تحصوه: هنا بمعنى لن تصلوا إلى الغاية من عبادته أو لن تطيقوه.
425
(٣) فتاب عليكم: هنا بمعنى خفف عنكم وتسامح معكم.
(٤) الضرب في الأرض: كناية عن السعي في سبيل الرزق.
تعليق على الآية: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ إلخ
وما روي في سياقها من روايات وما انطوى فيها من صور وتلقين معنى الآية واضح، والجمهور على أنها مدنية «١». والمصحف الذي اعتمدناه ذكرها كذلك. وطابع المدنية عليها واضح مثل ذكر القتال في سبيل الله الذي إنما كان بعد الهجرة ومثل تعبير إقراض الله الذي لم يرد إلّا في الآيات المدنية حثا على الإنفاق في سبيل الله. ويلحظ أن هناك مناسبة بين موضوع الآية وموضوع الآيات الأولى من السورة، فقيام الليل موضوع مشترك بينهما. وفي الآيات الأولى معنى الإلزام به وفي هذه الآية تخفيف. وفي هذا صورة من صور التأليف القرآني وخاصة في وضع الآيات المدنية في السور المكية. ونعتقد أن ذلك كان يتم بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وفي حياته. ومن البراهين القرآنية على ذلك الآية الأخيرة من سورة النساء. فقد نزلت بعد أن تم تأليف السورة وفيها تتمة لتشريع الإرث الذي احتوته آيات السورة الأولى فأمر النبي بإلحاقها بالسورة ولو في آخرها للتناسب الموضوعي.
ولقد روى الطبري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أجعل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصيرا يصلي عليه من الليل فتسامع به الناس فاجتمعوا فخرج كالمغضب وكان بهم رحيما، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال يا أيها الناس أكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير الأعمال ما دمتم عليه. ورأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم وأنزل الآية».
ومهما يكن من أمر ففي الآية تنطوي صورة من صور حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه
(١) انظر كتب تفسير الطبري والنسفي والطبرسي والخازن وابن كثير والبغوي.
426
الأولين التعبدية، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم ظل ملازما لما أمره الله به من قيام الليل والتهجد فيه وتلاوة القرآن. وأصحابه الأولون حذوا حذوه في ذلك كما هو صريح في الآية وكما ذكرته آيات سورة الذاريات التي أوردناها قبل قليل. واستمر ذلك ردحا في العهد المدني على ما تدل عليه الآية. فلما نما عدد المسلمين وكثرت مشاغلهم وواجباتهم اقتضت الحكمة التخفيف تمشيا مع الظروف والمصلحة وطبائع الأمور.
فنزلت الآية وألحقت بالسورة التي أمرت آياتها الأولى النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيام قسم كبير من الليل وحفزت أصحابه الأولين على الاقتداء به.
وواضح أنه ليس في الآية نسخ وإنما تخفيف وتعديل في أمر ليس أساسيا في العقيدة والتكليف. فالصلاة والزكاة فرضان أساسيان في التكليف فأمرت بالتزامهما. والتهجد الليلي الطويل هو أمر إضافي مستحب، فلم تر حكمة الله بأسا في تخفيفه وتعديله مراعاة لطاقة المسلمين وظروفهم. وفي هذا مشهد من مشاهد التطور في التكليف والتشريع والتنزيل. وفيه تلقين جليل يصح أن يقاس عليه. وفيه إيذان بأن الله لا يكلف في عبادته إلّا المستطاع الذي لا يكون فيه مشقة وضنى، ولا يسبب إهمالا وانصرافا وعجزا عن الواجبات المشروعة الأخرى شخصية كانت أم عمومية. فالله يعلم أن الناس مهما حرصوا واشتدوا في العبادة فلن يوفوا الله حقه ولن يبلغوا الغاية. وإن منهم المريض ومنهم الساعي في سبيل الرزق والمرابط والمقاتل في سبيل الله. وكل هذه واجبات وأعذار مشروعة للتخفيف، ومثل هذه التلقينات قد تكرر في القرآن بأساليب متنوعة على ما سوف نشير إليه في مناسباته.
وننبه على أن هذا التلقين وأمثاله يجب أن يبقى في نطاق ما لم يرد فيه نصّ قرآني أو نبوي ثابت قاطع وصريح، وفي نطاق الرخص الصريحة ومدى التسهيلات القرآنية والنبوية الثابتة.
تعليق على الزكاة
وبمناسبة ورود كلمة «الزكاة» لأول مرة هنا ولو في آية مدنية نقول إن أصل
427
الكلمة زكا بمعنى نما وطلب. وقد وردت الكلمة في القرآن بمعنى التطهير أو مرادفة له مثل ما جاء في آية سورة البقرة هذه: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)، وفي آية سورة التوبة هذه: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [١٠٣]، وإطلاقها على الصدقات مجازي يراد به أنها مطهرة أو منمية للمال.
ونرجح أنها كانت تستعمل في هذا المعنى قبل البعثة بدليل ورودها به في آيات مبكرة جدا مثل آيات سورة الأعلى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥)، وآيات سورة الليل هذه: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) على اعتبار أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وكل ما فيه بهذا اللسان الذي كان هو لسان العرب وأهل بيئة النبي قبل نزوله «١». غير أنها صارت علما على الفريضة التي فرضت على أموال الأغنياء للفقراء والمحتاجين وسبل الخير ومصلحة المسلمين العامة.
وقد ذكرت بلفظها في سورة مبكرة نوعا ما مثل آية سورة الأعراف هذه:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)، وآية سورة مريم هذه: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١). وفي سورتي النمل ولقمان المبكرتين نوعا ما في النزول أيضا وردت بلفظها في سياق وصف المسلمين الأولين كما ترى في هذه الآيات:
١- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) [النمل/ ٣].
٢- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) [لقمان/ ٤- ٥].
حيث ينطوي في هذه الآيات دليل على أن الزكاة كانت ممارسة من قبل المسلمين الأولين قبل نزولها بمدة ما.
(١) انظر فصل الحياة العقلية في كتابنا «عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيئته قبل البعثة».
428
وهذه الآيات وإن جاءت بأسلوب التنويه والحثّ فإن ذلك هو صفة جميع المأمورات والمنهيات القرآنية في السور المكية لأنه هو المتسق مع طبيعة العهد المكي على ما سوف ننبه عليه في مناسباته ولا يمنع القول إن النبي صلّى الله عليه وسلّم استلهاما من آيات سورتي الأعلى والليل اللتين يرجح أنهما نزلتا في السنة الأولى من البعثة قد يكون اعتبرها ركنا من أركان الإسلام منذ عهد مبكر وأمر المسلمين الأولين الميسورين بأدائها لأن الحاجة كانت ماسة إلى ذلك سواء أكانت من أجل أغراض الدعوة أم من أجل مساعدة الذين آمنوا من الفقراء والمساكين والأرقاء وكانوا يتعرضون للأذى والحرمان.
ويلحظ أن أسلوب الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة جاء في آية سورة البقرة هذه: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)، التي نرجح أنها من أبكر الآيات المدنية في بابها حيث يسوغ القول إن هذا الركن قد ثبت بأسلوب الأمر والتشريع حالما سنح الظرف المناسب وهو الهجرة التي قوي بها الإسلام وصار له بها سلطان ودولة يتمثلان في النبي صلّى الله عليه وسلّم والمجتمع الإسلامي الجديد في المدينة.
وليس في القرآن المكي ولا المدني مقدار محدد للزكاة، وقد حدد ذلك في الأحاديث النبوية. وهذه الأحاديث على ما يلمح من أسماء رواتها هي أحاديث مدنية «١» غير أن آيات في سور المعارج والذاريات والأنعام يمكن أن تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد حدد لها مقادير معينة في العهد المكي كما ترى فيما يلي:
١- كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام/ ١٤١].
٢- وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) [المعارج/ ٢٤- ٢٥].
ومن المحتمل أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم في العهد المدني أدخل تعديلات على
(١) انظر نصوص الأحاديث وأسماء رواتها في كتاب «التاج الجامع»، ج ٢ ص ٨- ٢١.
429
المقادير التي حددها في العهد المكي. ومع أن مصارف الزكاة قد ذكرت في آية من آيات سورة التوبة هذه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠). التي نزلت في وقت متأخر من العهد المدني فإن أسلوبها والسياق الذي جاءت فيه يلهمان أن هذه المصارف كانت مما جرى عليه قبل نزولها، وبالتالي أنها تشريع نبوي ثبت في هذه الآية. وقد ذكرت بعض هذه المصارف بألفاظها في إحدى آيات سورة البقرة المبكرة في النزول في العهد المدني وهي: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ [١٧٧].
والزكاة في الآية التي نحن في صددها قرنت إلى الصلاة. وهذا تكرر في معظم الآيات التي ذكرت فيها الصلاة. وفي هذا القرآن من جهة وفي جعلها من صفات المؤمن الرئيسية كما جاء في آية النمل التي أوردناها قبل، وكما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وغيرهما. وبعبارة أخرى في جعلها عنوانا من عناوين الإيمان وركنا من أركان الإسلام من جهة ثانية توطيد لمبدأ المعونة المالية للمحتاجين إليها وللمصالح العامة بصورة إلزام وفرض، وعدم ترك ذلك للتطوع والاختيار. ولقد روي أن ابن عباس سئل عن حكمة قرن الصلاة إلى الزكاة في القرآن فقال لأن الصلاة والزكاة توأمان في الإسلام لا تقبل إحداهما بدون الأخرى. تلك حق الله وهذه حق الناس.
ولعل فريضة الزكاة بهذه الصفة والمعنى من أعظم التشريعات الإسلامية سعة مدى وأثرا في صلاح المجتمع الإسلامي وأمنه وتضامنه، وتخفيف أزمات بنيه ومحتاجيه، وتقليل أسباب الأحقاد والضغائن والحسد بين المحتاجين، وغير المحتاجين، وتيسير تغذية المشاريع العامة التي لا تقوم إلّا بالمال. وهي من أعظم
430
مميزات الشريعة الإسلامية على غيرها، على هذا الاعتبار والمعنى ومن أعظم مرشحاتها للخلود.
ولقد ذكرت الزكاة حضا عليها وإيجابا لها وتنويها بفاعليها وتنديدا بمانعيها ووعدا بمضاعفة ثوابها وبإخلاف الله على فاعليها في آيات كثيرة جدا مكية ومدنية تغني كثرتها عن التمثيل حيث ينطوي في ذلك مقدار العناية التي أعارتها حكمة التنزيل للزكاة ومدى ما كان وقدر لها من أثر وخطورة في حياة المجتمع الإسلامي. ولقد ورد مثل ذلك في أحاديث نبوية عديدة أيضا.
من ذلك ما رواه الشيخان والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهمّ أعط ممسكا تلفا» «١». وما رواه كذلك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما تصدّق أحد بصدقة من طيّب ولا يقبل الله إلّا الطيّب إلّا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربّي أحدكم فلوّه أو فصيله» «٢». وروى الترمذي زيادة على ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» «٣».
وما رواه النسائي عن أبي سعيد قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فقال: والذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم أكبّ فأكبّ كلّ رجل منّا يبكي لا ندري على ماذا حلف ثمّ رفع رأسه في وجهه البشرى فكانت أحبّ إلينا من حمر النّعم ثم قال ما من عبد يصلّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر إلّا فتحت له أبواب الجنة فقيل له (ادخل بسلام) » «٤». وما رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثمّ يأخذ
(١) التاج الجامع، ج ٢ ص ٤- ٥.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه، ص ٥- ٧.
431
بلهزميه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران/ ١٨٠] «١». مما ينطوي فيه كذلك تساوق مع العناية والخطورة اللتين أعارتهما حكمة التنزيل للزكاة.
وفي القرآن آيات عديدة تنبه المسلمين بل والناس جميعا إلى أمر هام وهو أن ما في أيديهم من مال هو مال الله الذي رزقهم إياه وجعلهم مستخلفين فيه ليكون في ذلك تلقين جليل هو أنهم وكلاء على هذا المال وأن صاحبه الأصلي هو الله وهو الذي يأمرهم بالإنفاق منه فليس لهم من جهة منة على أحد فيما ينفقون وليس لهم من جهة أخرى حق في الامتناع عن الإنفاق. من ذلك آية سورة الحديد هذه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)، وآية سورة النور هذه: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [٣٣]، وآية سورة البقرة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ [٢٥٤].
والزكاة ضريبة سنوية على رأس المال وليست على الربح بالنسبة للنقود والعروض والمواشي والأنعام وعلى جميع الغلات الزراعية غير الصافية. وبكلمة أخرى إن المعوزين المفتقرين إلى المعونة حقا يستحقون في كل سنة جزءا معينا من كل ذلك واجب الأداء في كل سنة جزءا معينا من رؤوس الأموال التي في أيدي الناس يبلغ مقداره اثنين ونصفا من المائة بالنسبة للنقود والعروض وعشرة من المائة بالنسبة للغلات الزراعية ونحوا من ذلك بالنسبة للمواشي. وهو مقدار لم تصل الأمم الحديثة التي تقرر حصة من مواردها للإنفاق على المعوزين إلى مثله.
وننبه على أنه ليس هناك ما يمنع أن ينفق هذا المورد الكبير أو قسم منه على
(١) المصدر السابق ج ٢ ص ٥- ٧. [.....]
432
إنشاء المياتم ودور العجزة والصنائع ودور الضيافة والمشافي والعيادات والملاجئ والمعاهد المتنوعة لمصلحة الفئات المعوزة فيكون الانتفاع به أشمل وأدوم وأجدى.
وإذا لوحظ أن التشريع الإسلامي لم يقتصر على هذه الضربية لمصلحة المعوزين بل أوجب لهم جزءا آخر من كل مورد مالي رسمي ذكر في القرآن وهو الفيء والغنائم على ما سوف نشرحه في مناسباته ومما يمكن أن يقاس عليه الموارد الرسمية المالية الأخرى. ثم إذا لوحظ أن القرآن احتوى إلى جانب ذلك آيات كثيرة تغني كثرتها عن التمثيل فيها حثّ على التصدق على الفقراء والمساكين والمحتاجين والإنفاق في سبيل الله بأسلوب يلهم أن المقصود منها صدقات تطوعية زيادة على الفريضة على ما سوف ننبه عليه في مناسباته بدت قوة وروعة حكمة الله بهذه الفئات وقصد ضمان صلاح المجتمع الإسلامي وأمنه وتضامنه وتخفيف أزمة بنيه والمحتاجين وتقليل أسباب الأحقاد والضغائن والحسد على ما ألمحنا إليه آنفا.
وبدت قوة جريمة الذين لا يراعون قصد الله عز وجل فلا يؤدون الحق المفروض لهذه الفئات وشدة مسؤوليتهم عن ما يتعرض له المجتمع من هزات وأزمات بسبب ذلك.
وآية التوبة التي أوردناها صريحة الدلالة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي كان يجبي الزكاة بواسطة عمال يعينهم وينفقها على مصارفها في حدود ما يراه من مصلحة وحاجة وظرف. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يمثل بذلك سلطان الدولة في الإسلام، وهذا يسوغ القول أن سلطان الدولة في الإسلام هو صاحب الحق في جباية الزكاة وإنفاقها في حدود ما رسمه القرآن والسنة النبوية الثابتة «١».
ونكتفي هنا بما تقدم، وهناك أحاديث نبوية وصحابية واجتهادات فقهية حول مقادير الزكاة والفئات والجهات التي تستحقها سنوردها ونتوسع في شرحها في سياق آية سورة التوبة التي هي أكثر ملاءمة.
(١) اقرأ بحث النظام المالي في كتابنا الدستور القرآني في شؤون الحياة.
الجزء الأول من التفسير الحديث ٢٨
433
تعليق على تعبير وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
وبمناسبة ورود هذا التعبير لأول مرة نقول إنه كما هو المتبادر تعبير استحثاثي على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على المحتاجين وقد تكرر في آيات مدنية عديدة.
وفيه معنى لطيف يزيد في قوة الحث وهو أن الذي ينفق أمواله في سبيل الله ويتصدق بها على المحتاجين كأنما يقرض الله وأن الذي يقرض الله يستحق الوفاء أضعافا مضاعفة. وهذا ما ورد في آيات عديدة مثل آية سورة البقرة هذه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) وورود هذا التعبير بعد الأمر بإيتاء الزكاة في الآية التي نحن في صددها ذو مغزى عظيم حيث يفيد أن المطلوب من الميسورين ليس الزكاة فقط بل أكثر منها وأن الزكاة هي الحد الأدنى الواجب الذي يكون تركه معصية كبيرة. ويتبادر لنا أن هذا المعنى هو المقصود في كل موضع جاء فيه التعبير والله أعلم.
تعليق على تعليم الاستغفار
ولقد انتهت الآية بطلب استغفار الله، والغفران في الأصل بمعنى الستر والوقاية، ثم صار بمعنى التسامح والإغضاء عن الذنوب. والمرجح أنه كان بهذا المعنى قبل البعثة أيضا.
وفي الأمر تلقين رباني بأن الله يعلم أن أكثر الناس لا يمكنهم أن يكونوا في نجوة من الهفوات والأخطاء، وأنه هو الغفور الرحيم الذي من شيمته التسامح والإغضاء وشمول عباده بالرحمة الواسعة إذا آمنوا به واعترفوا بذنوبهم وندموا عليها ولجأوا إليه يطلبون غفرانه ورحمته. وفي هذا ما فيه من حث المذنب على الندم والتوبة وتأميله بالغفران والرحمة وبعبارة أخرى فيه وسيلة من وسائل التربية الروحية وقصد إصلاح المسلم وصلاحه وهو مما تتوخاه الآيات القرآنية بصورة عامة.
ولقد تعددت الآيات التي تأمر المؤمنين بالاستغفار في السور المكية والمدنية
434
مما فيه تدعيم لهذا التلقين. وفي إحدى آيات سورة النساء حض للمسيئين بالاستغفار وتأميل بغفران الله لمن يستغفره وهي: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
(١١٠). وفي إحدى آيات سورة آل عمران تنويه بالمستغفرين وهي: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥).
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في حض المؤمنين على الاستغفار وتعليم بعض صيغه وبيان فوائده. منها حديث رواه البخاري والترمذي وأبو داود عن شداد بن أوس قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سيد الاستغفار أن تقول اللهمّ أنت ربّي لا إله إلّا أنت. خلقتني وأنا عبدك. وأنا على عهدك ما استطعت. أعوذ بك من شرّ ما صنعت. أبوء لك بنعمتك عليّ. وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت. قال ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» «١». وحديث رواه أبو داود والترمذي عن زيد مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فرّ من الزحف» «٢». وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي بكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» «٣» وحديث رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ ضيق مخرجا ومن كلّ همّ فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب» «٤». وحديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
(١) التاج، ج ٥ ص ١٣٤- ١٣٥.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه ص ١٣٥- ١٣٧.
(٤) المصدر نفسه.
435
«أنزل الله عليّ أمانين لأمتي، وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال/ ٣٣] فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» «١». وحديث أورده ابن كثير في سياق آية النساء المار ذكرها أخرجه ابن مردويه عن علي قال: «سمعت أبا بكر هو الصديق يقول سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ما من عبد أذنب فقام فتوضّأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلّى واستغفر من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له لأنّ الله يقول: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء/ ١١٠] الآية»
، حيث ينطوي في كلّ هذا تلقين نبوي متسق مع التلقين القرآني.
ويحسن بنا أن ننبه في هذا المقام على نقطة هامة، وهي أن الاستغفار يعني التوبة أو هو صيغة من صيغها. وللتوبة شروط وهي الندم على الذنب والعزم على الإصلاح وعدم الرجوع إليه في فسحة من العمر والعافية على ما تفيده الآيات الكثيرة التي سوف نوردها ونعلق عليها في سياق سورة البروج التي ذكرت فيها التوبة لأول مرة والتي يأتي تفسيرها في هذا الجزء. وفائدة الاستغفار إنما تتحقق بذلك ولا تكون بحركة اللسان والشفتين وحسب. ومن الأولى أن تحمل الأحاديث النبوية الخاصة على الاستغفار والمبشرة بفوائده على ذلك.
تعليق على تعبير سبيل الله
وتعبير «سبيل الله» يأتي لأول مرة في الآية التي نحن في صددها وإن كانت مدنية. ولقد التبس مفهومه بحيث صار كثير من الناس يظنون أنه الجهاد ووسائله لأنه جاء كثيرا في آيات الجهاد، غير أن إمعان النظر في هذه الآيات يكشف أنه غير الجهاد وأنه أعم منه وأن الجهاد بالمال والنفس إنما شرع لأجله، وأنه في الحقيقة مرادف لمعنى طريق الله ودعوته ودينه وتعاليمه الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية والسياسية والتهذيبية التي احتواها القرآن
(١) التاج، ج ٤ ص ١٠٩.
436
وهدى إليها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبعبارة ثانية إنه الدعوة الإسلامية نفسها.
وهذا ما يبدو واضحا بقوة في آية سورة النحل هذه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
(١٢٥) [١٢٥]. وإذا كان تعبير سبيل الله اقترن في القرآن كثيرا بالجهاد فلا يعني هذا أن الجهاد قد شرع لنشر الدعوة الإسلامية. فالقرآن قد قرر خطة حكيمة مثلى لنشر الدعوة منطوية في آية النحل وفي آيات كثيرة أخرى مكية ومدنية. وقد ظلت هذه الخطة خطة النبي صلّى الله عليه وسلّم في عهديه المكي والمدني ثم خطة خلفائه من بعده. أما الجهاد فقد شرع لمقابلة العدوان ودفع الأذى وحماية الدعوة من الصد والتعطيل والطعن مما احتوى القرآن كثيرا من الآيات في صدده سوف نشرحها في مناسباتها.
ويروي الخمسة حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قالها عصم منّي ماله ونفسه إلّا بحقّه وحسابه على الله» «١». ولما كانت جميع الغزوات التي قادها النبي صلّى الله عليه وسلّم وجميع السرايا التي سيرها كانت ضد أعداء بادئين بالعدوان ومقابلة لعدوان وتنكيلا بمعتدين ومتآمرين على العدوان وناقضين للعهد وصادين عن دين الله ولم يرو أية رواية أن النبي قاتل أناسا لأنهم كفار ودون أن يبدو منهم عمل عدواني ما. فنحن نحمل هذا الحديث على قصد أنه أمر بمقاتلة الأعداء حتى يقولوا لا إله إلّا الله كما جاء في آية سورة التوبة هذه: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [٥]، وعبارة فَإِنْ تابُوا صريحة الدلالة على أن المقصودين هم أعداء معتدون. وبعد هذه الآية آيات أكثر صراحة في هذا الباب وهي: فَإِنْ تابُوا
(١) «التاج»، ج ٤ ص ٣٢٦. وهناك حديث في بابه في صيغة أخرى رواه أصحاب السنن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلّا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» ج ٤ ص ٣٢٦.
437
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)، وهذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن لأن سورة التوبة هي آخر ما نزل وقد نزلت بعد فتح مكة. وبالإضافة إلى هذا فإن هذا الحديث روي في مناسبتين أخريين، أولاهما رواها الترمذي في سياق آيتي سورة الغاشية: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)، فقال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال نفس الحديث ثم تلا هاتين الآيتين» «١» حيث يفيد هذا أنه إنما قال الحديث ليكون مفسرا لخطته بالنسبة لمن يعصمون بقولهم لا إله إلّا الله دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وليقول إنه يترك حساب ما لا يعرف من أعمال الناس الذين يقولون لا إله إلّا الله إلى الله وليس هو محاسبا على خفاياهم وأسرارهم. فإذا كان الحديث في أصله قد صدر من النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الموقف وحسب فيكون لذلك دلالته الخطيرة في صدد ما نحن بسبيل تقريره. أما المناسبة الثانية فهي عزيمة أبي بكر رضي الله عنه على حرب الممتنعين عن الزكاة بعد وفاة النبي حيث جاءه عمر رضي الله عنه فقال له: كيف تقاتلهم وهم يقولون لا إله إلّا الله وقد قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فإن قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله؟ فقال له أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حقّ المال، والله لو منعوني عناقا لقاتلتهم على منعها فلم يلبث أن شرح الله صدر عمر وجعله يرى موقف أبي بكر هو الحقّ «٢». وهذه الرواية يرويها أصحاب الكتب الخمسة. وخطورة دلالتها لا تقل عن خطورة دلالة رواية المناسبة الأولى إن لم تفقها. ويتبادر لنا أن رواية الترمذي هي أصل ظرف صدور الحديث وأن رواية
(١) «التاج»، ج ٤ ص ٢٥٨.
(٢) المصدر نفسه، ج ٢ ص ٧- ٨.
438
أصحاب الكتب الخمسة هي المتأخرة وهي في مثابة تطبيق للحديث في مقام مماثل للمقام الذي صدر فيه الأصل.
وكان رد أبي بكر رضي الله عنه واضعا للأمر في نصابه من حيث إنه أصرّ على قتال الممتنعين عن الزكاة لأنهم امتنعوا عن أداء حق المال. ومع ذلك حتى لو أردنا أن نأخذ الحديث مجردا من زيادة الترمذي وملابسة حرب الممتنعين عن الزكاة فإن حمله على قصد مقاتلة الأعداء هو الأولى بل الأوجب كما قلنا ما دام أنه لم يرو قط أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاتل حياديين ومسالمين وموادين أو أمر بقتال غير المقاتلين من ذوي الأعداء من شيوخ ونساء وأطفال.
وفي سورة الممتحنة آية فيها فيما نعتقد القول المحكم الفيصل في هذا الباب وهي: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)، ولقد قال المفسر الطبري في صدد هذه الآية إن أولى الأقوال بالصواب قول من قال إنها عنت جميع من لم يقاتل المسلمين في الدين من جميع أصناف الملل والأديان وأنه لا معنى لقول من قال إن ذلك منسوخ لأن برّ المؤمن لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا. إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. والله سبحانه وتعالى أعلم.
439
Icon