تفسير سورة الحج

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الحج من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- ١ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
- ٢ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِتَقْوَاهُ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ بِمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَحْوَالِهِا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ، هَلْ هِيَ بَعْدَ قِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ نَشُورِهِمْ إِلَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، أَوْ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ زَلْزَلَةِ الْأَرْضِ قَبْلَ قِيَامِ النَّاسِ مَنْ أَجْدَاثِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة﴾ الآية، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ كَائِنَةٌ فِي آخِرِ عمر الدنيا وأول أحوال الساعة، عَنْ عَلْقَمَةَ فِي قَوْلِهِ ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ قال: قبل الساعة (ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم عن إبراهيم عن علقمة). وعن عامر الشعبي قَالَ: هَذَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وقد أورد الإمام ابن جرير في حادث الصور عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الصُّورُ؟ قَالَ: «قَرْنٌ»، قَالَ: فَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: "قَرْنٌ عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأول نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَأْمُرُهُ فَيَمُدُّهَا وَيُطَوِّلُهَا وَلَا يَفْتُرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فواق﴾، فتسير الجبال فتكون تراباً، وَتُرَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾، فَتَكُونُ الْأَرْضُ كَالسَّفِينَةِ الْمُوبِقَةِ فِي الْبَحْرِ تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ تَكْفَؤُهَا بِأَهْلِهَا، وَكَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ تُرَجِّحُهُ الْأَرْوَاحُ، فَيَمْتَدُّ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ وَيَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ فَتَلَقَّاهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا فَتَرْجِعُ وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ ينادي بعضُهم بعضاًن وهي التي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
527
﴿يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ من هاد﴾. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذِ انْصَدَعَتِ الْأَرْضُ من قطر إلى قطر ورأوا أَمْرًا عَظِيمًا، فَأَخَذَهُمْ لِذَلِكَ مِنَ الْكَرْبِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هِيَ كَالْمُهْلِ، ثم خسف شمسها وقمرها وَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا ثُمَّ كُشِطَتْ - عَنْهُمْ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «وَالْأَمْوَاتُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قمن اسْتَثْنَى اللَّهُ حِينَ يَقُولُ: ﴿فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ﴾ قَالَ: "أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ووقاهم اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَآمَنَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ اللَّهِ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ولكن عَذَابَ الله شديد﴾ " (الحديث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وغيرهم). وهذا الحديث دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ كَائِنَةٌ قَبْلَ يوم الساعة، أضيفت إِلَى السَّاعَةِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بل ذلك هول وفزع وزلزال كائن قبل يوم القيامة في العرصات بعد القيام مِنَ الْقُبُورِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاحْتَجُّوا بأحاديث:
(الحديث الأول): عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿يَا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ قَالَ: نزلت عليه هذه الآية وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذلك؟» قالوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمٌ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ"، فَأَنْشَأَ الْمُسْلِمُونَ يَبْكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهَا جَاهِلِيَّةٌ، قَالَ فَيُؤْخَذُ الْعَدَدُ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنْ تَمَّتْ وإلا كملت من المنافقين، وما مثلكم ومثل الأمم إِلَّا كَمَثَلِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ أَوْ كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ»، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجنة»، فكبروا، ثم قَالَ: وَلاَ أَدْرِي أَقَالَ الثُّلُثَيْنِ أَمْ لَا؟ (الحديث أخرجه الترمذي والإمام أحمد عن عمران بن حصين، وقال الترمذي: حديث صحيح).
(الحديث الثاني): قال البخاري عند تفسير هذه الآية، عن أبي سعيد الخدري قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ - أَرَاهُ قَالَ - تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ "، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ومنكم واحد، أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثور الأسود، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، ثم قال: شطر أهل الجنة"، فكبرنا (أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي سعيد الخدري).
528
(الحديث الثالث): عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إنكم تحشرون إلى الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ الْأَمْرَ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكَ» (أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين ورواه الإمام أحمد، وفي رواية: إن الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض).
(الحديث الرابع): عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَذْكُرُ الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَمَّا عِنْدَ ثَلَاثٍ فَلَا، أَمَّا عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يِثْقُلَ أَوْ يَخِفَّ فَلَا، وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يُعْطَى بِشَمَالِهِ فَلَا، وَحِينَ يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النار فيطوى عَلَيْهِمْ وَيَتَغَيَّظُ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ ذَلِكَ الْعُنُقُ: وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِمَنِ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَوُكِّلْتُ بِمَنْ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَوُكِّلْتُ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - قَالَ: فَيَنْطَوِي عَلَيْهِمْ وَيَرْمِيهِمْ فِي غَمَرَاتٍ جهنم، ولجهنم جسر أرق مِنَ الشِّعْرِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ عَلَيْهِ كَلَالِيبُ وحسك يأخذان من شآء الله، والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، والملائكة يقولون: يا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، فَنَاجٍ مسلَّم وَمَخْدُوشٌ مسلَّم، ومكور في النار على وجهه" (أخرجه الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا). وَالْأَحَادِيثُ فِي أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ جداً لها موضع آخر، ولهذا قال الله تَعَالَى: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ أَيْ أمر عظيم وخطب جليل، والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً﴾، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ هَذَا مِنْ بَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَلِهَذَا قَالَ مُفَسِّرًا لَهُ: ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ أي فتشتغل لِهَوْلِ مَا تَرَى عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَالَّتِي هِيَ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْهِ تَدْهَشُ عَنْهُ فِي حَالِ إِرْضَاعِهَا لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾ وَلَمْ يَقِلْ مُرْضِعٍ، وَقَالَ ﴿عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ أي عن رضعيها وفطامه، وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾ أَيْ قَبْلَ تَمَامِهِ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ صَارُوا فِيهِ قَدْ دَهِشَتْ عُقُولُهُمْ، وَغَابَتْ أَذْهَانُهُمْ فَمَنْ رَآهُمْ حَسَبَ أَنَّهُمْ سُكَارَى ﴿وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾.
529
- ٣ - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ
- ٤ - كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَأَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أَيْ عِلْمٍ صَحِيحٍ، ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ يَعْنِي الشَّيْطَانَ، يَعْنِي كُتِبَ عَلَيْهِ كِتَابَةً قَدَرِيَّةً ﴿أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ﴾ أَيِ اتَّبَعَهُ وَقَلَّدَهُ ﴿فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ أَيْ يُضِلُّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَقُودُهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَهُوَ الحار المؤلم المزعج، قال السدي: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وروى أَبُو كَعْبٍ الْمَكِّيُّ قَالَ: قَالَ خَبِيثٌ مِنْ خُبَثَاءِ قُرَيْشٍ: أَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّكُمْ مِنْ ذَهَبٍ هُوَ، أَوْ مِنْ فِضَّةٍ هُوَ، أَوْ مِنْ نحاس هو، فتقعقعت السَّمَاءُ قَعْقَعَةً - وَالْقَعْقَعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الرَّعْدُ - فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب المكي)، -[٥٣٠]- وقال مجاهد: جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ، مَنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ مِنْ دُرٍّ أَمْ مِنْ يَاقُوتٍ؟ قَالَ: فَجَاءَتْ صَاعِقَةٌ فَأَخَذَتْهُ.
- ٥ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج
- ٦ - ذلك بأن اللهو الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- ٧ - وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي الْقُبُورِ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمُخَالِفَ لِلْبَعْثِ الْمُنْكِرَ لِلْمَعَادِ، ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلِيلَ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى الْمَعَادِ، بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ بَدْئِهِ لِلْخَلْقِ فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ أَيْ فِي شَكٍّ، ﴿مِّنَ الْبَعْثِ﴾ وَهُوَ الْمَعَادُ، وَقِيَامُ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ أَيْ أَصْلُ بَرْئِهِ لَكُمْ مِنْ تُرَابٍ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ أَيْ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَاءٍ مَهِينٍ، ﴿ثُمَّ من علقة ثم من مضغة﴾، وذلك أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ مَكَثَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَذَلِكَ يُضَافُ إِلَيْهِ مَا يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَنْقَلِبُ عَلَقَةً حَمْرَاءَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَتَمْكُثُ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَسْتَحِيلُ فَتَصِيرُ مُضْغَةً قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ لَا شَكْلَ فِيهَا وَلَا تَخْطِيطَ، ثُمَّ يُشْرَعُ فِي التَّشْكِيلِ وَالتَّخْطِيطِ فَيُصَوَّرُ مِنْهَا رَأْسٌ وَيَدَانِ وَصَدْرٌ وَبَطْنٌ وَفَخْذَانِ وَرِجْلَانِ وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ، فَتَارَةً تُسْقِطُهَا الْمَرْأَةُ قَبْلَ التَّشْكِيلِ وَالتَّخْطِيطِ، وَتَارَةً تُلْقِيهَا وَقَدْ صَارَتْ ذَاتَ شَكْلٍ وَتَخْطِيطٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ أَيْ كَمَا تُشَاهِدُونَهَا، ﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أَيْ وَتَارَةً تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ لَا تُلْقِيهَا الْمَرْأَةُ وَلَا تُسْقِطُهَا، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ قَالَ: هُوَ السَّقْطُ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَهِيَ مضغة أرسل الله تعالى ملكاً إليها فَنَفَخَ فِيهَا الرَّوْحَ وسوَّاها كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، من حسن وقبح وَذَكَرٍ وَأَنْثَى، وَكَتَبَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، وَشِقِّيٌ أَوْ سعيد، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أربعين ليلة نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلِكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وعمله وأجله وَشَقِّيٌ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ».
وروى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن مسعود قال: النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك بكفه، فقال: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قِيلَ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ لَمْ تَكُنْ نَسَمَةٌ وَقَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإنْ قِيلَ: مُخَلَّقَةٌ، قَالَ: أَيْ رب ذَكَرٍ أَوْ أنثى، شقي أو سعيد، مَا الْأَجَلُ وَمَا الْأَثَرُ؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ؟ قَالَ، فَيُقَالُ لِلنُّطْفَةِ مَنْ رَبُّكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ مَنْ رَازِقُكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اذهب إلى الْكِتَابِ فَإِنَّكَ سَتَجِدُ فِيهِ قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، قَالَ: فَتُخْلَقُ فَتَعِيشُ فِي أَجَلِهَا وَتَأْكُلُ رِزْقَهَا، وَتَطَأُ أَثَرَهَا حَتَّى إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا مَاتَتْ فدفنت في ذلك؛ ثُمَّ تَلَا عَامِرٌ
530
الشَّعْبِيُّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مخلقة﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ)، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بأربعين يوماً أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، وَيَكْتُبَانِ فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أَنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، وَيَكْتُبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَرِزْقُهُ وَأَجَلُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يزاد على ما فيها ولا ينتقص" (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه مسلم بنحو معناه). ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ أَيْ ضَعِيفًا فِي بَدَنِهِ وسمعه وبصره وحواسه، ثُمَّ يُعْطِيهِ اللَّهُ الْقُوَّةَ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَلْطُفُ به ويحنن عليه والديه، ولهذا قال ﴿ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ﴾ أي بتكامل الْقُوَى، وَيَتَزَايَدُ وَيَصِلُ إِلَى عُنْفُوَانِ الشَّبَابِ وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ، ﴿وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى﴾ أَيْ فِي حَالِ شَبَابِهِ وَقَوَاهُ، ﴿وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ وَهُوَ الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ وَضَعْفُ الْقُوَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَتَنَاقُصُ الْأَحْوَالِ مِنَ الْخَرَفِ وَضَعْفِ الْفِكْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً﴾ هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، كَمَا يُحْيِي الأرض الميتة الهامدة وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شَيْءَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: غَبْرَاءُ مُتَهَشِّمَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَيْتَةٌ، ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾: أَيْ فَإِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْمَطَرَ ﴿اهْتَزَّتْ﴾ أَيْ تَحَرَّكَتْ بالنبات وَحَيِيَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا، ﴿وَرَبَتْ﴾ أَيِ ارْتَفَعَتْ لَمَّا سَكَنَ فِيهَا الثَّرَى، ثُمَّ أَنْبَتَتْ مَا فِيهَا من ثمار وزروع، وأشتات النبات فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَطَعُومِهَا، وَرَوَائِحِهَا وَأَشْكَالِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ أَيْ حَسَنِ الْمَنْظَرِ طَيِّبِ الرِّيحِ، وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ أَيِ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، ﴿وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى﴾ أَيْ كَمَا أَحْيَا الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ وَأَنْبَتَ مِنْهَا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كل شيء قدير﴾ ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ له كن فيكون﴾، ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ أَيْ كَائِنَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا مِرْيَةَ، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾ أَيْ يُعِيدُهُمْ بَعْدَ مَا صَارُوا فِي قُبُورِهِمْ رِمَمًا وَيُوجِدُهُمْ بعد العدم، كما قال تعالى: ﴿قل يحيها الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مرة وهوبكل شيء عليم﴾ والآيات في هذا كثيرة. وقد روى الإمام أحمد، عن لَقِيطُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَنْظُرُ إِلَى الْقَمَرِ مُخْلِيًا بِهِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَاللَّهُ أَعْظَمُ، قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: «أَمَا مَرَرْتَ بوادي أهلك ممحلاً؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الموتى وذلك آيته في خلقه» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة). وقال ابن أبي حاتم عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مِنْ عِلْمٍ إِنْ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي القبور؛ دخل الجنة (أخرجه ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل).
531
- ٨ - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ
- ٩ - ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ
- ١٠ - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الضلاَّل الجهَّال الْمُقَلِّدِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَن النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ ذَكَرَ فِي هَذِهِ حَالَ الدُّعَاةِ إلى الضلالة من رؤوس الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، فَقَالَ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ أَيْ بِلَا عَقْلٍ صَحِيحٍ، وَلَا نقل صَرِيحٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالْهَوَى، وَقَوْلُهُ: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ قال ابن عباس: مُسْتَكْبِرًا عَنِ الْحَقِّ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَقَالَ مجاهد وقتادة: لاوي عطفة وَهِيَ رَقَبَتُهُ يَعْنِي يُعْرِضُ عَمَّا يُدْعَى إِلَيْهِ من الحق، ويثني رَقَبَتَهُ اسْتِكْبَارًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لووا رؤوسهم وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مستكبرون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا﴾ الآية، وَقَوْلُهُ: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُقْصَدُ ذلك، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ وَهُوَ الْإِهَانَةُ وَالذُّلُّ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَكْبَرَ عَنِ آيَاتِ اللَّهِ لَقَّاهُ اللَّهُ الْمَذَلَّةَ فِي الدُّنْيَا وَعَاقَبَهُ فِيهَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهَا أَكْبَرُ هَمِّهِ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ
﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ أَيْ يُقَالُ لَهُ هَذَا تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ﴾ كقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾. عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَحَدَهُمْ يُحْرَقُ في اليوم سبعين ألف مرة (أخرجه ابن أبي حاتم).
- ١١ - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
- ١٢ - يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ
- ١٣ - يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ
قال مجاهد: ﴿على حَرْفٍ﴾ على شك، وقال غيره: على طرف، ومنه حرف الجبل أي ظرفه، أَيْ دَخَلَ فِي الدِّينِ عَلَى طَرَفٍ، فَإِنْ وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ سوء (أخرجه البخاري في صحيحه). وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُونَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوا عَامَ غَيْثٍ وَعَامَ خِصْبٍ، وَعَامَ وَلَادٍ حَسَنٍ قَالُوا: إِنَّ دِينَنَا هَذَا لَصَالِحٌ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَإِنْ وَجَدُوا عَامَ جُدُوبَةٍ وَعَامَ وِلَادٍ سُوءٍ وَعَامَ قَحْطٍ قَالُوا: مَا فِي دِينِنَا هَذَا خير، فأنزل
532
اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ الآية. وَهَكَذَا ذَكَرَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ: هُوَ الْمُنَافِقُ إِنْ صَلُحَتْ لَهُ دُنْيَاهُ أَقَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَإِنْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَتَغَيَّرَتْ انْقَلَبَ فَلَا يُقِيمُ عَلَى الْعِبَادَةِ إِلَّا لِمَا صَلُحَ مِنْ دُنْيَاهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ أَوْ شِدَّةٌ أَوِ اخْتِبَارٌ أَوْ ضِيقٌ تَرَكَ دِينَهُ ورجع إلى الكفر (في اللباب: وكذلك أخرج ابن مردويه: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإسلام، فقال: لم أصب من ديني هذا خيراً، فنزلت: ﴿ومن الناس﴾ الآية)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ أَيِ ارْتَدَّ كَافِرًا، وَقَوْلُهُ: ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ أَيْ فَلَا هُوَ حَصَلَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى شَيْءٍ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ فَهُوَ فِيهَا فِي غَايَةِ الشَّقَاءِ وَالْإِهَانَةِ، وَلِهَذَا قال تعالى: ﴿ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين﴾ أي هذه الْخَسَارَةُ الْعَظِيمَةُ وَالصَّفْقَةُ الْخَاسِرَةُ، وَقَوْلُهُ: ﴿يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ﴾ أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ يَسْتَغِيثُ بِهَا وَيَسْتَنْصِرُهَا وَيَسْتَرْزِقُهَا وَهِيَ لَا تَنْفَعُهُ وَلَا تَضُرُّهُ ﴿ذلك هُوَ الضلال البعيد﴾، وقوله: ﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾ أَيْ ضَرَرُهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فِيهَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَضَرَرُهُ مُحَقَّقٌ مُتَيَقَّنٌ، وَقَوْلُهُ: ﴿لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْوَثَنَ، يَعْنِي بِئْسَ هَذَا الَّذِي دعاه مِنْ دُونِ اللَّهِ مَوْلًى، يَعْنِي وَلِيًّا وَنَاصِرًا، ﴿وبئس الْعَشِيرُ﴾ وَهُوَ الْمُخَالِطُ وَالْمُعَاشِرُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ: لَبِئْسَ ابْنُ الْعَمِّ وَالصَّاحِبُ، ﴿مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وجهه﴾ وقوله مُجَاهِدٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَثَنُ أَوْلَى وَأَقْرَبُ إِلَى سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
533
- ١٤ - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ الضَّلَالَةِ الْأَشْقِيَاءَ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْأَبْرَارِ السُّعَدَاءِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِقُلُوبِهِمْ وَصَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَفْعَالِهِمْ، فَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ وَتَرَكُوا الْمُنْكَرَاتِ، فَأَوْرَثَهُمْ ذَلِكَ سُكْنَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، ولما ذكر تعالى أَنَّهُ أَضَلَّ أُولَئِكَ وَهَدَى هَؤُلَاءِ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾.
- ١٥ - مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ
- ١٦ - وَكَذَلِكَ أَنْزَلَنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ أَيْ بِحَبْلٍ ﴿إِلَى السَّمَاءِ﴾ أَيْ سَمَاءِ بَيْتِهِ، ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ يَقُولُ: ثُمَّ لِيَخْتَنِقْ به، وقال عبد الرحمن بن زيد: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾، أَيْ لِيَتَوَصَّلْ إِلَى بُلُوغِ السَّمَاءِ فَإِنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا يَأْتِي مُحَمَّدًا مِنَ السَّمَاءِ، ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ ذَلِكَ عَنْهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى وَأَبْلَغُ فِي التَّهَكُّمِ، فإن المعنى: من كان يظن أن الله ليس بناصر محمد وَكِتَابَهُ وَدِينَهُ فَلْيَذْهَبْ فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ غَائِظَهُ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ لَا مَحَالَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
533
﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدينا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد﴾ الآية، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي مِنْ شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَشْفِي ذَلِكَ مَا يَجِدُ فِي صَدْرِهِ مِنَ الْغَيْظِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ﴾ أَيِ الْقُرْآنَ ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ أَيْ وَاضِحَاتٍ فِي لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا حُجَّةً مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾ أَيْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ فِي ذَلِكَ، ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يفعل وهم يسألون﴾.
534
- ١٧ - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْيَهُودِ والصابئين (تقدم في سورة البقرة التعريف بهم واختلاف الأقوال فيهم فارجع إليه هناك)، والنصارى والمجوس، والذين أشركوا فعبدوا مع الله غيره فَإِنَّهُ تَعَالَى ﴿يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَيُدْخِلُ مَنْ آمَنَ بِهِ الْجَنَّةَ وَمَنْ كَفَرَ بِهِ النَّارَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، حَفِيظٌ لِأَقْوَالِهِمْ، عَلِيمٌ بِسَرَائِرِهِمْ وَمَا تكن ضمائرهم.
- ١٨ - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لِعَظَمَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَسُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ مما يختص به كما قال تعالى: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وهم داخرون﴾ وقال ههنا ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾، أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ، وَالْحَيَوَانَاتِ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ﴾ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ عَلَى التَّنْصِيصِ لِأَنَّهَا قَدْ عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا تَسْجُدُ لِخَالِقِهَا وَأَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ، ﴿لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ﴾ الآية. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، ثُمَّ تُسْتَأْمَرُ فَيُوشِكُ أَنْ يُقَالَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ». وفي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ خَلْقَانِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إِذَا تجلى لشيء من خلقه خشع له» (أخرجه الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ).
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ إِلَّا يَقَعُ لِلَّهِ ساجداً حين يغيب ثم يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ
534
فَيَأْخُذَ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَطْلَعِهِ، وَأَمَّا الْجِبَالُ وَالشَّجَرُ فَسُجُودُهُمَا بِفَيْءِ ظِلَالِهِمَا عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ فسجدتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِيَ بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ، قال ابن عباس: فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَةً، ثُمَّ سَجَدَ فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وابن حبان). وَقَوْلُهُ: ﴿وَالدَّوَابُّ﴾ أَيِ الْحَيَوَانَاتُ، كُلُّهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ ظُهُورِ الدَّوَابِّ مَنَابِرَ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ وأكثر ذكراً لله تعالى مِنْ رَاكِبِهَا. وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ أَيْ يَسْجُدُ لِلَّهِ طَوْعًا مُخْتَارًا مُتَعَبِّدًا بِذَلِكَ، ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ أَيْ مِمَّنِ امْتَنَعَ وَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾. وَقَالَ ابن أبي حاتم: قيل لعلي إن ههنا رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَشِيئَةِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، خَلَقَكَ اللَّهُ كَمَا يَشَاءُ أَوْ كَمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ كَمَا شَاءَ، قَالَ: فَيُمَرِّضُكَ إِذَا شَاءَ أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قال: بل إذا شاء، قال: فشفيك إِذَا شَاءَ أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ إِذَا شَاءَ، قَالَ: فَيُدْخِلُكَ حَيْثُ شِئْتَ أَوْ حَيْثُ يَشَاءُ، قَالَ: بَلْ حَيْثُ يَشَاءُ. قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ قُلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ لَضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ بِالسَّيْفِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد لها اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بالسجود فأبيت فلي النار" (أخرجه مسلم في صحيحه).
535
- ١٩ - هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ
- ٢٠ - يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ
- ٢١ - وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
- ٢٢ - كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق
ثبت في الصحيحين عَنِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ يوم برزوا في بدر (هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير)، وروى البخاري عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بن عتبة. وقال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ قَالَ: اخْتَصَمَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ كُلِّهَا وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ فَأَفْلَجَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ، وَأَنْزَلَ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ﴾. وقال مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَّثَلُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ اختصما في البعث، وقال مجاهد وَعَطَاءٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
535
وَالْكَافِرُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ قَالَ: هِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، قَالَتِ النَّارَ: اجْعَلْنِي لِلْعُقُوبَةِ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: اجْعَلْنِي لِلرَّحْمَةِ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْكَافِرُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَيَنْتَظِمُ فِيهِ قِصَّةُ يَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرُهَا، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُونَ نُصْرَةَ دِينِ الله عزَّ وجلَّ، وَالْكَافِرُونَ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ الْإِيمَانِ وَخُذْلَانَ الْحَقِّ وَظُهُورَ الْبَاطِلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ حَسَنٌ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نار﴾ أي فصللت لهم مقطعات من النار، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ نُحَاسٍ وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ حَرَارَةً إِذَا حَمِيَ ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ أي إذا صب على رؤوسهم الْحَمِيمُ وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ أَذَابَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الشَّحْمِ وَالْأَمْعَاءِ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وغيرهم)، وكذلك تذوب جلودهم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ الْحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رؤوسهم فينفذ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلِتُ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ الصِّهْرُ ثم يعاد كما كان» (رواه ابن جرير والترمذي وقال: حسن صحيح وأخرجه ابن أبي حاتم بنحوه). وفي رواية: يَأْتِيهِ الْمَلَكُ يَحْمِلُ الْإِنَاءَ بِكَلْبَتَيْنِ مِنْ حَرَارَتِهِ، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْ وَجْهِهِ تَكَرَّهَهُ، قَالَ: فَيَرْفَعُ مِقْمَعَةً مَعَهُ فَيَضْرِبُ بِهَا رَأْسَهُ، فَيُفْرِغُ دِمَاغَهُ، ثُمَّ يُفْرِغُ الْإِنَاءَ مِنْ دِمَاغِهِ فَيَصِلُ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ دِمَاغِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ مِقْمَعًا مِنْ حَدِيدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ فَاجْتَمَعَ لَهُ الثَّقَلَانِ مَا أَقَلُّوهُ من الأرض» (أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري). وروى الإمام أحمد: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ ضُرِبَ الْجَبَلُ بِمِقْمَعٍ مِنْ حَدِيدٍ لَتَفَتَّتَ ثُمَّ عَادَ كَمَا كَانَ، وَلَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غسَّاق يُهْرَاقُ فِي الدُّنْيَا لأنتن أهل الدنيا» (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ قَالَ: يُضْرَبُونَ بِهَا فَيَقَعُ كُلُّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ فَيَدْعُونَ بِالثُّبُورِ، وَقَوْلُهُ: ﴿كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾، قال سلمان: النَّارُ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا وَلَا جَمْرُهَا، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا﴾، وَقَالَ زَيْدُ بن أسلم في هذه الآية: بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ لَا يَتَنَفَّسُونَ، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: وَاللَّهِ مَا طَمِعُوا فِي الْخُرُوجِ، إِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ وَإِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَلَكِنْ يَرْفَعُهُمْ لَهَبُهَا وَتَرُدُّهُمْ مَقَامِعُهَا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يُهَانُونَ بِالْعَذَابِ قَوْلًا وَفِعْلًا.
536
- ٢٣ - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
- ٢٤ - وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ
لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حال أهل النار، وما هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَالْحَرِيقِ وَالْأَغْلَالِ، وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الثِّيَابِ مِنَ النَّارِ، ذكر حال أهل الْجَنَّةَ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
536
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا يَصْرِفُونَهَا حيث شاءوا وأين أرادوا، ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ مِنْ الحلية، ﴿مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً﴾ أَيْ فِي أَيْدِيهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ». وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ فِي مُقَابَلَةِ ثِيَابِ أَهْلِ النَّارِ الَّتِي فُصِّلَتْ لَهُمْ، لِبَاسُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْحَرِيرِ إِسْتَبْرَقِهِ وَسُنْدُسِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾، وَفِي الصَّحِيحِ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ»، وَقَالَ عبد الله بن الزبير: من لَمْ يَلْبَسِ الْحَرِيرَ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عليكم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما﴾ فَهُدُوْا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَسْمَعُونَ فِيهِ الْكَلَامَ الطيب، ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وسلاما﴾ لَا كَمَا يُهَانُ أَهْلُ النَّارِ بِالْكَلَامِ الَّذِي يوبخون فيه ويقرعون به، يقال لَهُمْ: ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ أَيْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَحْمَدُونَ فِيهِ رَبَّهُمْ عَلَى مَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْعَمَ بِهِ وَأَسْدَاهُ إليهم، كما جاء في الحديث الصَّحِيحِ: «إِنَّهُمْ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ»، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ أَيِ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ، ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ أَيِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا، وَكُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
537
- ٢٥ - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ فِي صَدِّهِمُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ إِتْيَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وقضاء مناسكهم فيه، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ والمسجد الحرام﴾ أي ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَيْ وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْ أَرَادَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ فِي نفس الأمر، وَقَوْلُهُ: ﴿الذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ أي يمنعون عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ جَعَلَهُ الله للناس لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُقِيمِ فِيهِ وَالنَّائِي عَنْهُ الْبَعِيدِ الدَّارِ مِنْهُ، ﴿سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِوَاءُ النَّاسِ فِي رِبَاعِ مكة وسكناها، كما قال ابن عباس: يَنْزِلُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ وقال مجاهد: ﴿سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ فيه سواء في المنازل، وقال قَتَادَةَ: سَوَاءٌ فِيهِ أَهْلُهُ وَغَيْرُ أَهْلِهِ؛ وَهَذِهِ المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن رَاهْوَيْهِ بِمَسْجِدِ الْخِيفِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَاضِرٌ أيضاً. فذهب رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ تُمَلَّكُ وتورث وتؤجر، واحتج بحديث الزهري عَنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ» ثُمَّ قَالَ: «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا المسلم الكافر» (هذا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ)، وَبِمَا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اشْتَرَى مِنْ (صَفْوَانَ بْنِ أُمية) دَارًا بِمَكَّةَ فَجَعَلَهَا سِجْنًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ درهم، وذهب
537
إسحاق بن راهوية إلى أنها لا تُوَرَّثُ وَلَا تُؤَجَّرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ السلف، واحتج إسحاق بن راهوية بما روي عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إِلَّا السَّوَائِبَ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن (رواه ابن ماجه عن علقمة بن نضلة). وقال عبد الله بن عمرو: لَا يَحِلُّ بَيْعُ دَوْرِ مَكَّةَ وَلَا كِرَاؤُهَا، وكان عطاء يهنى عن الكراء في الحرم. وقال عمر بن الخطاب: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدَوْرِكُمْ أَبْوَابًا لينزل البادي حيث يشاء، وروى الدارقطني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا: "مِنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ أَكَلَ نَارًا: ، وَتَوَسَّطَ الإمام أحمد فقال: تملك ولا تورث وَلَا تُؤَجَّرُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ قال بعض المفسرين: الباء ههنا زائدة، كقوله: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ أَيْ تُنْبِتُ الدُّهْنَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ تقديره إلحاداً. والأجود أنه ضمن الفعل ههنا بمعنى يَهُمُّ، وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالْبَاءِ فَقَالَ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ أَيْ يَهُمُّ فِيهِ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ مِنَ الْمَعَاصِي الْكِبَارِ، وَقَوْلُهُ: ﴿بِظُلْمٍ﴾ أَيْ عَامِدًا قَاصِدًا أَنَّهُ ظلم ليس بمتأول، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ يُعْبَدَ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِظُلْمٍ هُوَ أَنْ تَسْتَحِلَّ مِنَ الْحَرَمِ مَا حرم الله عليك من إساءة أَوْ قَتْلٍ فَتَظْلِمَ مَنْ لَا يَظْلِمُكَ وَتَقْتُلَ مَنْ لَا يَقْتُلُكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ لَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِظُلْمٍ يعلم فِيهِ عَمَلًا سَيِّئًا، وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْحَرَمِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ الْبَادِي فِيهِ الشَّرَّ إِذَا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُوقِعْهُ كَمَا قَالَ ابن مسعود: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً). وقال الثوري عن عبد الله بن مسعود قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَهُمُّ بِسَيِّئَةٍ فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنِ أَبَيْنَ هَمَّ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا بِهَذَا الْبَيْتِ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ من العذاب الأليم؛ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: شَتْمُ الْخَادِمِ ظُلْمٌ فما فوقه؛ وقال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مَعَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا مُهَاجِرٌ وَالْآخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَافْتَخَرُوا فِي الْأَنْسَابِ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَقَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ، ثم ارتد عن الإسلام، ثم هرب إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ يَعْنِي مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ بِإِلْحَادٍ يَعْنِي بِمَيْلٍ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْإِلْحَادِ، وَلَكِنْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا هَمَّ أَصْحَابُ الْفِيلِ عَلَى تَخْرِيبِ الْبَيْتِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴿طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ أَيْ دَمَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِكُلِّ مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم» وعن سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى عبدُ اللَّهِ بن عمر عبدَ الله بن الزُّبَيْرِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْحِجْرِ فَقَالَ: يَا ابن الزُّبَيْرِ إِيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي الْحَرَمِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَحِلُّهَا وَيَحِلُّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لو وُزِنَتْ ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَوَزَنَتْهَا» قَالَ: فَانْظُرْ لا تكن هو (أخرجه الإمام أحمد).
538
- ٢٦ - وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
- ٢٧ - وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فج عميق
ذكر تَعَالَى أَنَّهُ بَوَّأَ إِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَيْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمَهُ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي بِنَائِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى البيت العتيق وأنه لم يبن قبله، كمت ثبت في الصحيحين عَنِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بَيْتُ الْمَقْدِسِ» قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً»، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للَّذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾ الآيتين، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائفي والعاكفين والركع السجود﴾ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَا وَرَدَ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْآثَارِ بِمَا أَغْنَى عَنِ إعادته ههنا، وقال تعالى ههنا: ﴿أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً﴾ أَيِ ابْنِهِ عَلَى اسْمِي وَحْدِي ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ قال مجاهد: مِّن الشِّرْكِ ﴿لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ أَيِ اجْعَلْهُ خَالِصًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَالطَّائِفُ بِهِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَخَصُّ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ سِوَاهَا ﴿وَالْقَائِمِينَ﴾ أَيْ فِي الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ فَقَرَنَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُشْرَعَانِ إِلَّا مُخْتَصَّيْنِ بِالْبَيْتِ.
وقوله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ أَيْ نَادِ فِي الناس بالحج داعياً لهم لحج هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِبِنَائِهِ فَذُكِرَ أَنَّهُ قال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: نَادِ وَعَلَيْنَا الْبَلَاغُ، فَقَامَ عَلَى مَقَامِهِ، وَقِيلَ عَلَى الْحَجَرِ، وَقِيلَ عَلَى الصَّفَا، وَقِيلَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ رَبَّكُمْ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجِبَالَ تَوَاضَعَتْ حَتَّى بَلَغَ الصَّوْتُ أَرْجَاءَ الْأَرْضِ، وَأَسْمَعَ مَنْ فِي الْأَرْحَامِ وَالْأَصْلَابِ، وَأَجَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ سَمِعَهُ مِنْ حَجَرٍ وَمَدَرٍ وَشَجَرٍ، وَمَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لبيك اللهم لبيك؛ هذا مضمون ما ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وأوردها ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُطَوَّلَةً، وَقَوْلُهُ: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضامر﴾ (الضامر: البعير الذي قد هزل من كثرة المشي) الآية. قَدْ يَسْتِدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ رَاكِبًا لِأَنَّهُ قَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ، فَدَلَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَقُوَّةِ هممهم وشدة عزمهم، وقال ابن عباس: ما أساء على شَيْءٍ أَلاَ أني وددت أني كنت حججت ماشياً، لأنه الله يقول: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالاً﴾، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْحَجَّ رَاكِبًا أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ حَجَّ رَاكِبًا مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ: ﴿يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ﴾ يَعْنِي طَرِيقٍ، كَمَا قَالَ: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً﴾، وقوله: ﴿عَميِقٍ﴾ أي بعيد، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ﴾، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَهُوَ يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يَقْصِدُونَهَا مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ وَالْأَقْطَارِ.
- ٢٨ - لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ
- ٢٩ - ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
539
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ﴾، قَالَ: مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا مَنَافِعُ الْآخِرَةِ فَرِضْوَانُ الله تعالى، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَمَا يُصِيبُونَ مِنْ مَنَافِعِ البدن والذبائح وَالتِّجَارَاتِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهَا مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تتبغوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾، قَالَ ابن عباس: الأيام المعلومات أيام العشر، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ حنبل، وقال البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا الْعَمَلُ فِي أَيْامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ» قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ يَخْرُجُ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بشيء»، وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيْامٍ أعظم عند الله ولا أحب إليه العلم فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد»، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيْامِ الْعَشْرِ فَيُكَبِّرَانِ ويكبر الناس بتكبيرهما، وقد روى عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا إِنَّ هَذَا هُوَ الْعَشْرُ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ﴾؛ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بعشر﴾.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ هَذَا الْعَشْرَ، وَهَذَا الْعَشْرُ مُشْتَمِلٌ عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وقد سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: أَحْتَسِبْ عَلَى الله أن يكفر السنة الماضية والآتية (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه)، وَيَشْتَمِلُ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَيْامِ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْعَشْرُ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ أَفْضَلُ أَيْامِ السَّنَةِ كَمَا نطق به الحديث، وفضّله كَثِيرٌ عَلَى عَشْرِ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ، لِأَنَّ هَذَا يُشْرَعُ فِيهِ مَا يُشْرَعُ فِي ذَلِكَ مِنْ صلاة وصيام وصدقة وغيرها، وَيَمْتَازُ هَذَا بِاخْتِصَاصِهِ بِأَدَاءِ فَرْضَ الْحَجِّ فِيهِ، وقيل ذلك أَفْضَلُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ وَتَوَسَّطَ آخَرُونَ فَقَالُوا: أَيْامُ هَذَا أَفْضَلُ وَلَيَالِي ذَاكَ أَفْضَلُ؛ وَبِهَذَا يَجْتَمِعُ شَمْلُ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (قَوْلٌ ثَانٍ) في الأيام المعلومات: قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَيْامُ الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أيام بعده؛ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عنه. (قول ثالث): عن نافع عن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات المعدوات هُنَّ جَمِيعُهُنَّ أَرْبَعَةُ أَيْامٍ، فَالْأَيْامُ الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النحر ويومان بعده، والأيام المعدوات ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهو مذهب الإمام مالك بن أنَس. (قَوْلٌ رَابِعٌ): إِنَّهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمٌ آخَرُ بَعْدَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُهُ: ﴿عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ كَمَا فَصَّلَهَا تَعَالَى في سورة الْأَنْعَامِ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْأَضَاحِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَتُطْبَخُ فَأَكَلَ مِنْ لحمها وحسا من مرقها، وقال مَالِكٌ أُحِبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، لِأَنَّ الله يقول: ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾، وقال سفيان الثوري عن إبراهيم ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ قال: الْمُشْرِكُونَ لَا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، فَرُخِّصَ لِلْمُسْلِمِينَ، فمن شاء أكل ومن لم يشأ لم يأكل. وعن مجاهد في قوله:
﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ قال: هي كقوله: ﴿فإذا حللتم فاصطادوا﴾ ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض﴾، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.
540
وقوله تعالى: ﴿الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ قَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي يظهر عليه البؤس وهو الفقير الْمُتَعَفِّفُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي لَا يَبْسُطُ يَدَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الزَّمِن. وَقَالَ مُقَاتِلُ: هُوَ الضَّرِيرُ، وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ﴾، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ وَضْعُ الْإِحْرَامِ مِنْ حَلْقِ الرأس، ولبس الثيابن وقص الأظافر ونحو ذلك، وقوله: ﴿وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ﴾ يَعْنِي نَحْرَ مَا نَذَرَ مِنْ أَمْرِ الْبُدْنِ، وقال مُجَاهِدٍ ﴿وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ﴾ نَذْرَ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَمَا نَذَرَ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْحَجِّ، وعنه: كل نذر إلى أجل، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الطواف الواجب يوم النحر، وقال أبو حَمْزَةَ قَالَ، قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَقْرَأُ سورة الحج، يقول الله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾؟ فَإِنَّ آخِرَ الْمَنَاسِكِ الطَّوَافُ بالبيت العتيق (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس)، قُلْتُ: وَهَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى مِنى يوم النحر بدأ برمي الْجَمْرَةَ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ نَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَفِي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ، وَقَوْلُهُ: ﴿بِالْبَيْتِ العتيق﴾، قال الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ قال: لأنه أول بيت وضع للناس، وَقَالَ خَصِيفٌ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ لم يظهر عليه جبار قط. وعن مجاهد: لم يرده أحد بسوء إلا هلك، وفي الحديث: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عليه جبار» (أخرجه الترمذي عن عبد الله بن الزبير مرفوعاً وكذا رواه ابن جرير وقال الترمذي: حديث حسن غريب). روي مرفوعاً ومرسلاً.
541
- ٣٠ - ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
- ٣١ - حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
يَقُولُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي أَمَرْنَا بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ وما يلقى عليها مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، ﴿وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه، ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ أَيْ فَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، فَكَمَا فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات. قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله﴾ قال: الحرمات مَكَّةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ من معاصيه كلها، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أي أحللنا لكم جميع الأنعام، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغير الله به والمنخقة الآية، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحَكَاهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، أَيِ اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَقَرَنَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ بِقَوْلِ الزُّورِ، كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وَمِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ"؛ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى
541
قلنا: ليته سكت. وعن خُرَيْمِ بْنِ فَاتَكٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ عزَّ وجلَّ»، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ به﴾ (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وَقَوْلُهُ: ﴿حُنَفَآءَ للَّهِ﴾: أَيْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مُنْحَرِفِينَ عَنِ الْبَاطِلِ قَصْدًا إِلَى الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾، ثُمَّ ضَرَبَ لِلْمُشْرِكِ مَثَلًا فِي ضَلَالِهِ وَهَلَاكِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْهُدَى، فَقَالَ: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ﴾ أَيْ سَقَطَ مِنْهَا، ﴿فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ﴾ أَيْ تَقْطَعُهُ الطُّيُورُ فِي الْهَوَاءِ، ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ أَيْ بَعِيدٍ، مُهْلِكٍ لِمَنْ هَوَى فِيهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَوَفَّتْهُ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ وَصَعِدُوا بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، بَلْ تُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا مِنْ هناك، ثم قرأ هذه الآية: ﴿فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾.
542
- ٣٢ - ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ
- ٣٣ - لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ أَيْ أَوَامِرَهُ، ﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾، وَمِنْ ذَلِكَ تعظيم الهدايا والبدن، كما قال ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها. وقال أبو أمامة عن سَهْلٍ: كنَّا نسمِّن الْأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يسمِّنون (رواه البخاري في صحيحه). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ»، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالُوا: وَالْعَفْرَاءُ - هِيَ الْبَيْضَاءُ بَيَاضًا لَيْسَ بِنَاصِعٍ، فَالْبَيْضَاءُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَغَيْرُهَا يُجْزِئُ أَيْضًا لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أن رسول الله ﷺ ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوئين، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن نستشرف العين والأذن، وأن لا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا شَرْقَاءَ وَلَا خرقاء؛ وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِي: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، والعرجاء البيّن ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي" (رواه أحمد وأصحاب السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ)، وَهَذِهِ الْعُيُوبُ تَنْقُصُ اللَّحْمَ لضعفها وعجزها عن اسكتمال الرَّعْيِ، لِأَنَّ الشَّاءَ يَسْبِقُونَهَا إِلَى الْمَرْعَى، فَلِهَذَا لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ من الأئمة كما هو ظاهر الحديث، ولهذا جاء في الحديث: أمرنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ أَيْ أَنْ تَكُونَ الْهَدْيَةُ أَوِ الْأُضْحِيَّةُ سمينة حسنة ثمينة، كما روى عبد الله بن عمر: أهدي عمر نجيباً فأعطى بها ثلثمائة دِينَارٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَهْدَيْتُ نُجَيْبًا فأعطيت بها ثلثمائة دِينَارٍ، أَفَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهَا بُدْنًا؟ قَالَ: «لَا، إنحرها إياها» (رواه الإمام أحمد وأبو داود). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْبُدْنُ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى: الْوُقُوفُ وَمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ والرمي والحلق والبدن مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ؛ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْظَمُ الشعائر البيت.
542
وقوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ أَيْ لَكُمْ فِي الْبُدْنِ مَنَافِعُ مِنْ لَبَنِهَا وَصُوفِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَرُكُوبِهَا إلى أجل مسمى، قال مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ قَالَ: الرُّكُوبُ وَاللَّبَنُ وَالْوَلَدُ، فَإِذَا سُمِّيَتْ بَدَنَةً أَوْ هَدْيًا ذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ (كذا قال عطاء والضحاك وقتادة وَغَيْرُهُمْ)، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ هَدْيًا إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً قَالَ: «ارْكَبْهَا» قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: «ارْكَبْهَا وَيْحَكَ» فِي الثَّانيَةِ أو الثالثة، وفي رواية لمسلم: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها». وعن عَلِيٍّ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً وَمَعَهَا وَلَدُهَا، فَقَالَ: لَا تَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا مَا فَضُلَ عَنْ وَلَدِهَا فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَاذْبَحْهَا وَوَلَدَهَا، وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ أَيْ مَحِلُّ الْهَدْيِ وَانتِهَاؤُهُ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾، وقال: ﴿والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾. وقال عَطَاءٍ، كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾.
543
- ٣٤ - وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ
- ٣٥ - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ذَبْحُ الْمَنَاسِكِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ مَشْرُوعًا فِي جميع الملل، قال ابن عباس ﴿مَنْسكا﴾: عِيدًا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذَبَحًا، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾: إنها مكة لَّمْ يَجْعَلِ الله لأمة مَنْسَكًا غَيْرَهَا، وَقَوْلُهُ: ﴿لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ فسمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، وقال الإمام أحمد بن حنبل عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ، قُلْتُ أَوْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ»، قَالُوا: مَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ»، قَالُوا: فَالصُّوفُ؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ﴾ أَيْ مَعْبُودُكُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ وَنَسَخَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالْجَمِيعُ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون﴾
، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَلَهُ أَسْلِمُواْ﴾ أَيْ أَخْلِصُوا وَاسْتَسْلِمُوا لِحُكْمِهِ وَطَاعَتِهِ، ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُطْمَئِنِّينَ، وقال الضحاك: المتواضعين، وقال السدي: الوجلين، وقال الثوري: الْمُطْمَئِنِّينَ الرَّاضِينَ بِقَضَاءِ اللَّهِ الْمُسْتَسْلِمِينَ لَهُ، وَأَحْسَنُ مَا يُفَسَّرُ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أَيْ خَافَتْ مِنْهُ قُلُوبُهُمْ، ﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ﴾ أَيْ من المصائب، قال الحسن البصري: والله لنصبرن أو لنهلكن، ﴿والمقيمي الصلاة﴾ أَيِ الْمُؤَدِّينَ حَقَّ اللَّهِ فِيمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أَيْ وَيُنْفِقُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ طَيِّبِ الرِّزْقِ على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله.
- ٣٦ - وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْبُدْنِ وَجَعَلَهَا مِنْ شَعَائِرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَهَا تُهْدَى إِلَى بَيْتِهِ الحرام بل هي أفضل ما يهدى إليه. قال عطاء ﴿والبدن﴾ الْبَقَرَةُ وَالْبَعِيرُ (وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إنما البدن من الإبل، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَقَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا ذَلِكَ شرعاً كما صح الْحَدِيثِ، ثُمَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُجْزِئُ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، كَمَا ثبت عن جابر بن عبد الله قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْأَضَاحِيِّ: الْبَدَنَةُ عَنْ سبعة، والبقرة عن سبعة (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه)، وَقَوْلُهُ: ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ أَيْ ثَوَابٌ فِي الدار الآخرة، لما روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إهراق دم وإنها لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يقع من الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ والترمذي وحسنه)، وقال سفيان الثوري: كان أبو حازم يَسْتَدِينُ وَيَسُوقُ الْبُدْنَ، فَقِيلَ لَهُ: تَسْتَدِينُ وَتَسُوقُ الْبُدْنَ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ ﴿لَكُمْ فيها خَيْرٌ﴾، وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ قَالَ: أَجْرٌ وَمَنَافِعُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَرْكَبُهَا وَيَحْلِبُهَا إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ﴾، وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدَ الْأَضْحَى، فَلَمَّا انصَرَفَ أَتَى بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ، فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهِ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمَّ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبو داود والترمذي). وروى محمد بن إسحاق عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ له بذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ عن محمد وأمته»، ثم سمَّى وَكَبَّرَ وَذَبَحَ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ضَحَّى اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ النَّاسَ أُتِيَ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلَّاهُ فَذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أمتي جميعاً مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ، ثُمَّ يُؤتى بِالْآخَرِ فَيَذْبَحُهُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: «هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» فَيُطْعِمُهَا جَمِيعًا للمساكين وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ ماجه). وقال الاعمش عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ
الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ﴾
قال: قياماً عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ مَعْقُولَةٌ يَدُهَا الْيُسْرَى يَقُولُ: باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله، اللهم منك ولك، وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِذَا عُقِلَتْ رِجْلُهَا اليسرى قامت عَلَى ثَلَاثٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وَهُوَ يَنْحَرُهَا فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سنَّة أبي القاسم ﷺ (أخرجه البخاري ومسلم)، وعن جابر
544
أن رسول الله ﷺ وأصحابه: كانوا ينحرون البدون مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قوائمها (رواه أبو داود في سننه). وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ يعني نحرت، وقال ابن أَسْلَمَ: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ يَعْنِي مَاتَتْ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنَ الْبَدَنَةِ إِذَا نُحِرَتْ حَتَّى تَمُوتَ وَتَبْرُدَ حَرَكَتُهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حديث مرفوع: «لا تعجلوا النفوس أن تزهق»، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (أخرجه مسلم في صحيحه). وَقَوْلُهُ: ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَوْلُهُ: ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَجِبُ، واختلفوا في المراد بالقانع والمعتر، فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَانِعُ الْمُسْتَغْنِي بِمَا أَعْطَيْتَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَكَ وَيُلِمُّ بِكَ أَنْ تُعْطِيَهُ مِنَ اللَّحْمِ وَلَا يَسْأَلُ، وكذا قال مجاهد، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَانِعُ الْمُتَعَفِّفُ، وَالْمُعْتَرُّ السَّائِلُ (وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةٍ عنه)، وقال سعيد ابن جبير: القانع هو السائل، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّمَّاخِ:
لمَالُ المرءِ يُصْلِحُهُ فيغني * مفاقَره أعفُّ من القنوع
أي: يغني من السؤال، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْقَانِعُ الْمِسْكِينُ الَّذِي يطوف، والمعتر الصديق والضعيف الذي يزور، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ الْقَانِعَ هُوَ السَّائِلُ لِأَنَّهُ مَنْ أَقْنَعَ بِيَدِهِ إِذَا رَفَعَهَا لِلسُّؤَالِ، والمعتر من الاعتراء وهو الذي يتعرص لأكل اللحم، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنَّاسِ: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَكَلُّوا وَادَّخِرُوا مَا بَدَا لَكُمْ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فكلوا وادخروا وتصدقوا».
مسْألة
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فإنما هو لحم قدمه لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ» (أَخْرَجَاهُ في الصحيحين)، فَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أول وقت ذبح الأضاحي إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَضَى قَدْرُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْخُطْبَتَيْنِ، زَادَ أَحْمَدُ: وَأَنْ يَذْبَحَ الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ، لِمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مسلم: وأن لا تَذْبَحُوا حَتَّى يَذْبَحَ الْإِمَامُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أما أهل السواد من القرى ونحوها فَلَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِذْ لا صلاة عيد تشرع عِنْدَهُ لَهُمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَمْصَارِ فَلَا يَذْبَحُوا حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قِيلَ: لَا يُشْرَعُ الذَّبْحُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمٌ بَعْدَهُ لِلْجَمِيعِ، وَقِيلَ: ويومان بعده، وبه قال الإمام أَحْمَدُ، وَقِيلَ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أيام التشريق كلها ذبح» (رواه الإمام أحمد وابن حبان)، وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، يَقُولُ تَعَالَى مَّنْ أَجْلِ هَذَا ﴿سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ﴾ أَيْ ذللناها لكم وجعلناها مُنْقَادَةً لَكُمْ خَاضِعَةً إِنْ شِئْتُمْ رَكِبْتُمْ وَإِنْ شئتم حلبتم وإن شئتم ذبحتم ﴿كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
545
- ٣٧ - لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ
يَقُولُ تعالى إنما شرع لكم نحر هذه الضحايا لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها، فهو الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، وَقَدْ كَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ إِذَا ذَبَحُوهَا لِآلِهَتِهِمْ، وَضَعُوا عَلَيْهَا مِنْ لُحُومٍ قَرَابِينِهِمْ وَنَضَحُوا عَلَيْهَا مِنْ دِمَائِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَن يَنَالَ اللهَ لحومُها وَلاَ دِمَآؤُهَا﴾. عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَنْضَحُونَ الْبَيْتَ بِلُحُومِ الْإِبِلِ وَدِمَائِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَنْضَحَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم) أَيْ يَتَقَبَّلُ ذَلِكَ وَيَجْزِي عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قلوبكم وأعمالكم». وجاء في الحديث: «أن الصدقة لتقع فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بمكان قبل أن يقع إلى الأرض» (تقدم الحديث عن عائشة مرفوعاً وقد رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه)، وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَّكُمْ﴾ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَخَّرَ لَكُمُ الْبُدْنَ ﴿لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى ما هَدَاكُمْ﴾ أي لتعظموه على مَا هَدَاكُمْ لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه، وَنَهَاكُمْ عَنْ فِعْلِ مَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ أَيْ وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ الْمُحْسِنِينَ فِي عَمَلِهِمُ، الْقَائِمِينَ بِحُدُودِ اللَّهِ، الْمُتَّبِعِينَ مَا شُرِعَ لَهُمُ، الْمُصَدِّقِينَ الرَّسُولَ فِيمَا أَبْلَغَهُمْ وَجَاءَهُمْ به من عند ربه عزَّ وجلَّ.
- ٣٨ - إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
يُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَأَنَابُوا إِلَيْهِ، شَرَّ الْأَشْرَارِ وَكَيْدَ الْفُجَّارِ، وَيَحْفَظُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾؟ وَقَالَ: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ أَيْ لَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذَا، وَهُوَ الْخِيَانةُ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، لا يفي بما قال، والكفر: والجحد لِلنِّعَمِ فَلَا يَعْتَرِفُ بِهَا.
- ٣٩ - أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
- ٤٠ - الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبَّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عزيز
قال ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ حِينَ أخرجوا من مكة، وقال مجاهد والضحاك وغير وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ في الجهاد، وقال ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَيُهْلَكُنَّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ
546
عزَّ وجلَّ: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾، قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال، زاد أحمد: وهي أول آية نزلت في القتال (أخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن). وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلَكِنْ هُوَ يُرِيدُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يبذلوا جهدهم في طاعته كما قال: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ الله أعمالهم﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مؤمنين﴾، وقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين﴾، وقال: ﴿ولنبلوكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ وقد فعل، وإنما شرع تَعَالَى الْجِهَادَ فِي الْوَقْتِ الْأَلْيَقِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِمَكَّةَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ عَدَدًا، فلو أمر المسلمون وهم أقل بِقِتَالِ الْبَاقِينَ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا بَايَعَ أَهْلُ يَثْرِبَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا نَيِّفًا وَثَمَانِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَمِيلُ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، يَعْنُونَ أَهْلَ مِنًى لَيَالِيَ مِنًى فَنَقْتُلُهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لم أومر بِهَذَا»، فَلَمَّا بَغَى الْمُشْرِكُونَ وَأَخْرَجُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَهَمُّوا بقتله وشردوا أصحابه، فلما استقروا بالمدينة وَصَارَتْ لَهُمْ دَارُ إِسْلَامٍ، وَمَعْقِلًا يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ، شَرَعَ اللَّهُ جِهَادَ الْأَعْدَاءِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ﴾
قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أُخْرِجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ يَعْنِي مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، ﴿إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبَّنَا اللَّهُ﴾ أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ إساءة ولا ذنب، إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾، وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ: ﴿وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الحميد﴾.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أُنَاسٍ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِمَا يَخْلُقُهُ وَيُقَدِّرُهُ مِنَ الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف، ﴿لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ﴾ وهي المعابد للرهبان (قاله ابن عباس ومجاهد وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ)، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَعَابِدُ الصابئين، وفي رواية عنه: صوامع المجوس، ﴿وَبِيَعٌ﴾ وهي أوسع منها وهي للنصارى أيضاً، وَحَكَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا كنائس اليهود، وعن ابن عباس: أنها كنائس اليهود، وقوله: ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّلَوَاتُ الْكَنَائِسُ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ وَهُمْ يُسَمُّونَهَا صلوات، وحكى السدي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا كَنَائِسُ النَّصَارَى، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ: الصَّلَوَاتُ مَعَابِدُ الصَّابِئِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٍ: الصَّلَوَاتُ مَسَاجِدُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِأَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالطُّرُقِ، وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ فَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾، فَقَدْ قِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ﴿يُذْكَرُ فِيهَا﴾ عَائِدٌ إِلَى الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْجَمِيعُ يُذْكَرُ فيها اللَّهِ كَثِيرًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّوَابُ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ وَبِيَعُ النَّصَارَى وَصَلَوَاتُ الْيَهُودِ وَهِيَ كَنَائِسُهُمْ وَمَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله
547
كَثِيرًا، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا تَرَقٍ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَهِيَ أَكْثَرُ عُمّاراً وَأَكْثَرُ عبَّاداً، وَهُمْ ذَوُو الْقَصْدِ الصَّحِيحِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾، كقوله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ؛ فَبِقُوَّتِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَبِعِزَّتِهِ لَا يَقْهَرُهُ قَاهِرٌ، وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ ذَلِيلٌ لَدَيْهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ نَاصِرَهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ، وَعَدُوُّهُ هُوَ الْمَقْهُورُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ لقوي عزيز﴾.
548
- ٤١ - الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ ولله عاقبة الأمور
قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: فِينَا نَزَلَتْ ﴿الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فَأُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ قُلْنَا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ مُكِّنَّا فِي الْأَرْضِ، فَأَقَمْنَا الصَّلَاةَ وَآتَيْنَا الزَّكَاةَ، وَأَمَرْنَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْنَا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، فَهِيَ لِي وَلِأَصْحَابِي (أخرجه ابن أبي حاتم عن عثمان رضي الله عنه). وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ للمتقين﴾، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ وَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ مَا صَنَعُوا.
- ٤٢ - وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
- ٤٣ - وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ
- ٤٤ - وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
- ٤٥ - فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ
- ٤٦ - أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَكُذِّبَ مُوسَى﴾ أَيْ مَعَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الآيات وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، ﴿فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ﴾ أَيْ أَنْظَرْتُهُمْ وَأَخَّرْتُهُمْ، ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ﴾ أَيْ فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عليهم ومعاقبتي لهم؟! وذكر بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لقومه ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ وَبَيْنَ إِهْلَاكِ اللَّهِ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَفِي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثُمَّ قرأ ﴿وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إذ أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شديد﴾ (أخرجه البخاري ومسلم)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ أي كم
548
مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْتُهَا ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أَيْ مُكَذِّبَةٌ لرسلها، ﴿فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾، قَالَ الضَّحَّاكُ: سُقُوفُهَا، أَيْ قَدْ خُرِّبَتْ مَنَازِلُهَا وَتَعَطَّلَتْ حَوَاضِرُهَا، ﴿وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ﴾ أَيْ لَا يُسْتَقَى مِنْهَا وَلَا يَرِدُهَا أَحَدٌ، بَعْدَ كَثْرَةِ وَارِدِيهَا وَالِازْدِحَامِ عَلَيْهَا، ﴿وَقَصْرٍ مشيد﴾ قال عكرمة: يعني المبيض بالجص، وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ الْمَنِيفُ الْمُرْتَفِعُ، وَقَالَ آخَرُونَ: المشيد الْمَنِيعُ الْحَصِينُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْمِ أهلَه شدةُ بِنَائِهِ وَلَا ارْتِفَاعُهُ وَلَا إِحْكَامُهُ وَلَا حَصَانَتُهُ عَنْ حُلُولِ بَأْسِ اللَّهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يدركم الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ بِأَبْدَانِهِمْ وبفكرهم أيضاً، وذلك للاعتبار، أي انظروا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنَ النِّقَمِ وَالنَّكَالِ، ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ أَيْ فَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ أَيْ لَيْسَ الْعَمَى عَمَى الْبَصَرِ، وَإِنَّمَا الْعَمَى عَمَى الْبَصِيرَةِ، وَإِنْ كَانتِ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ سَلِيمَةً فَإِنَّهَا لَا تَنْفُذُ إِلَى الْعِبَرِ وَلَا تدري ما الخبر.
549
- ٤٧ - وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
- ٤٨ - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُلْحِدُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ واليوم الآخر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كان هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أليم﴾، ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ أَيِ الَّذِي قَدْ وَعَدَ مِنْ إِقَامَةِ السَّاعَةِ، وَالِانتِقَامِ مِنْ أعدائه، والإكرام لأوليائه، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ أَيْ هُوَ تَعَالَى لَا يُعَجِّلُ فَإِنَّ مِقْدَارَ أَلْفِ سَنَةٍ عِنْدَ خَلْقِهِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُكْمِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الِانتِقَامِ قَادِرٌ، وَأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وإن أجّل وأنظر، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإليَّ المصير﴾. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» (أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ قَالَ:
مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي خلق فيها السماوات والأرض. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تعدون﴾.
- ٤٩ - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
- ٥٠ - فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
- ٥١ - وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَبَ مِنْهُ الْكَفَّارُ وُقُوعَ الْعَذَابِ وَاسْتَعْجَلُوهُ بِهِ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْكُمْ نَذِيرًا لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنْ حِسَابِكُمْ مِنْ شَيْءٍ، أَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَجَّلَ لَكُمُ الْعَذَابَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ عَنْكُمْ، وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَى مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَضَلَّ مَنْ كَتَبَ
549
عليه الشقاوة وهو الفعال لما يشاء، ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَصَدَقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، ﴿لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أَيْ مَغْفِرَةٌ لِمَا سَلَفَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَمُجَازَاةٌ حَسَنَةٌ عَلَى القليل من حسناتهم، قال القرظي (هو محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه): إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ فَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ مُرَاغِمِينَ ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ وَهِيَ النار الحارة الوجعة، الشديد عذابها ونكالها أجارنا الله منها.
550
- ٥٢ - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نبيٌّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
- ٥٣ - لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
- ٥٤ - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مستقيم
قد ذكر كثير من المفسرين ههنا (قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ) وَمَا كَانَ مِنْ رُجُوعِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أن مشركي قريش قد أسلموا، وخلاصتها عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ «النَّجْمَ» فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْمَوْضِعَ: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ قَالَ: فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لسانه: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى»، قَالُوا: مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَبْلَ الْيَوْمِ فَسَجَدَ وَسَجَدُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نبيٌّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾؛ وَقَدْ ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره ثم سأل ههنا سُؤَالًا: كَيْفَ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا مَعَ الْعِصْمَةِ المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ حَكَى أَجْوِبَةً عَنِ النَّاسِ، مِنْ أَلْطَفِهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْقَعَ فِي مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ من صنيع الشيطان، لا عن رَسُولِ الرَّحْمَنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أعلم. وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلاة الله وسلامه عليه، قَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿إِذَا تَمَنَّى﴾ يَعْنِي إِذَا قَالَ؛ ويقال أمنيته قراءته ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ يقرؤون وَلَا يَكْتُبُونَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿تَمَنَّى﴾ أَيْ تَلَا وَقَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ أَيْ فِي تِلَاوَتِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي عُثْمَانَ حِينَ قُتِلَ:
تمنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ * وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَام الْمَقَادِرِ
وَقَالَ الضَّحَّاكُ ﴿إِذَا تَمَنَّى﴾: إِذَا تَلَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بتأويل الكلام.
وقوله تعالى: ﴿فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ حَقِيقَةُ النَّسْخِ لغة الإزالة والرفع، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ فَيُبْطِلُ
550
الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان (قال السيوطي بعدما ذكر هذه الروايات في اللباب: وكلها إما ضعيفة وإما منقطعة، قال الحافظ ابن حجر: لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، وقال ابن العربي: إن هذه الروايات باطلة لا أصل لها)؛ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَسَخَ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ أي بما يكون من الأمور والحوداث لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ ﴿حَكِيمٌ﴾ أَيْ فِي تَقْدِيرِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، لَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أَيْ شَكٌّ وَشِرْكٌ وَكُفْرٌ وَنِفَاقٌ كَالْمُشْرِكِينَ حِينَ فَرِحُوا بِذَلِكَ واعتقدوا أنه صحيح من عند الله وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ﴿لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، ﴿وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ هم المشركون، وقال مقاتل بن حيان: هم الْيَهُودُ، ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ أَيْ فِي ضَلَالٍ وَمُخَالَفَةٍ وَعِنَادٍ بَعِيدٍ أَيْ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ﴾ أَيْ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ النَّافِعَ الَّذِي يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الحق والباطل، والمؤمنون بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ، هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَحِفْظِهِ، وَحَرَسَهُ أَنْ يَخْتَلِطَ بِهِ غَيْرُهُ، بَلْ هُوَ كتاب عَزِيزٌ ﴿لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿فَيُؤْمِنُواْ بِهِ﴾ أَيْ يُصَدِّقُوهُ وَيَنْقَادُوا لَهُ ﴿فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ أي تخضع وتذل لَهُ قُلُوبُهُمْ، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَيُوَفِّقُهُمْ لِمُخَالَفَةِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَهْدِيهِمْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوصِلِ إِلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّاتِ، وَيُزَحْزِحُهُمْ عَنِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَالدَّرَكَاتِ.
551
- ٥٥ - وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ
- ٥٦ - الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
- ٥٧ - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ فِي ﴿مِرْيَةٍ﴾ أَيْ فِي شَكٍّ وَرَيْبٍ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ ﴿مِّنْهُ﴾ أَيْ مِمَّا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: فَجْأَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿بَغْتَةً﴾ بَغَتَ الْقَوْمَ أَمْرُ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ قوماً إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنِعْمَتِهِمْ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ قال ابن أبي كعب: هو يوم بدر؛ وقال عكرمة ومجاهد: هُوَ يَوْمَ القيامة لا ليل له، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُوعِدُوا بِهِ لَكِنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عسيرا﴾ ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَصَدَّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُواْ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمُوا مع توافق قلوبهم وأقوالهم ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ أَيْ لَهُمُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَا يَبِيدُ، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا﴾ أَيْ كَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ بالحق وجحدته، وَكَذَّبُوا بِهِ وَخَالَفُوا الرُّسُلَ، وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أَيْ
551
مقابلة استكبارهم وإبائهم عَنِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ أي صاغرين.
552
- ٥٨ - وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
- ٥٩ - لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
- ٦٠ - ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَطَلَبًا لِمَا عِنْدَهُ وَتَرَكَ الْأَوْطَانَ وَالْأَهْلِينَ وَالْخِلَّانَ، وَفَارَقَ بِلَادَهُ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنُصْرَةً لِدِينِ اللَّهِ ﴿ثُمَّ قُتِلُوا﴾ أَيْ فِي الجهاد ﴿أَوْ مَاتُواْ﴾ أي حتف أنفهم مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ عَلَى فُرُشِهِمْ، فَقَدْ حَصَلُوا عَلَى الْأَجْرِ الْجَزِيلِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على الله﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ أَيْ لَيُجْرِيَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِ وَرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ﴾ أَيِ الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وجنة نعيم﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الرَّاحَةُ وَالرِّزْقُ وَجَنَّةُ النعيم، كما قال ههنا: ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً﴾، ثُمَّ قَالَ: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ﴾ أَيْ بِمَنْ يُهَاجِرُ وَيُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، ﴿حَلِيمٌ﴾ أَيْ يَحْلُمُ وَيَصْفَحُ وَيَغْفِرُ لَهُمُ الذُّنُوبَ، فأما من قتل في سبيل الله فَإِنَّهُ حَيٌّ عِنْدَ رَبِّهِ يُرْزَقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾
. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَأَمَّا من توفي في سبيل الله فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مَعَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِجْرَاءَ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، وَعَظِيمِ إِحْسَانِ اللَّهِ إليه، قال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عُقْبَةَ يَعْنِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عقبة قال، قال شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ: طَالَ رِبَاطُنَا وَإِقَامَتُنَا عَلَى حِصْنٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، فَمَرَّ بِي سَلْمَانُ يَعْنِي الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْأَجْرِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الرِّزْقَ وَأَمِنَ مِنَ الفتَّانين» واقرأوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ وعن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني أَنَّهُ حَضَرَ (فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ) فِي الْبَحْرِ مَعَ جِنَازَتَيْنِ، أَحَدُهُمَا أُصِيبَ بِمَنْجَنِيقٍ وَالْآخَرُ تُوُفِّيَ، فَجَلَسَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ عِنْدَ قَبْرِ الْمُتَوَفَّى، فَقِيلَ لَهُ: تَرَكْتَ الشَّهِيدَ فَلَمْ تَجْلِسْ عِنْدَهُ، فَقَالَ: مَا أُبَالِي مِنْ أَيِّ حُفْرَتَيْهِمَا بُعِثْتُ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ الآيتين، فَمَا تَبْتَغِي أَيُّهَا الْعَبْدُ إِذَا أُدْخِلْتَ مُدْخَلًا تَرْضَاهُ وَرُزِقَتْ رِزْقًا حَسَنًا! وَاللَّهِ مَا أُبَالِي من أي حفرتيهما بعثت (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بنحوه). وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ الآية، نَزَلَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَقُوا جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي شَهْرِ مُحَرَّمٍ، فَنَاشَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ لِئَلَّا يُقَاتِلُوهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا قِتَالَهُمْ وَبَغَوْا عَلَيْهِمْ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَنَصَرَهُمُ الله عليهم ﴿إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ (ذكره مقاتل بن جيان وابن جرير).
- ٦١ - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
- ٦٢ - ذلك بأن اللهو الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، كَمَا قَالَ: ﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تشاء﴾ الآية، وَمَعْنَى إِيلَاجِهِ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَالنَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، إِدْخَالُهُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا، وَمِنْ هَذَا فِي هَذَا، فَتَارَةً يُطَوِّلُ اللَّيْلَ وَيُقَصِّرُ النَّهَارَ كَمَا فِي الشِّتَاءِ، وَتَارَةً يُطَوِّلُ النَّهَارَ وَيُقَصِّرُ اللَّيْلَ كَمَا فِي الصَّيْفِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أَيْ سَمِيعٌ بِأَقْوَالِ عِبَادِهِ بَصِيرٌ بِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم، ولما تبين أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْوُجُودِ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ قَالَ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ أَيِ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، لِأَنَّهُ ذُو السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ، الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، ذَلِيلٌ لَدَيْهِ ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾، كَمَا قَالَ: ﴿وَهُوَ العلي العظيم﴾، وقال: ﴿وهو الكبير المتعال﴾ فَكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ وَعَظْمَتِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، لِأَنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، الْعَلِيُّ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ، الْكَبِيرُ الَّذِي لَا أَكْبَرَ منه، تعالى وتقدس وتنزه عزَّ وجلَّ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
- ٦٣ - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
- ٦٤ - لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
- ٦٥ - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ الله بالناس لرؤوف رَحِيمٌ
- ٦٦ - وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ
وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه، وأنه يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيُمْطِرُ عَلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا وَهِيَ هَامِدَةٌ يابسة سوداء ممحلة ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وربت﴾، وقوله: ﴿فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ أَيْ خَضْرَاءَ بَعْدَ يُبْسِهَا ومحولها، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ أَيْ عَلِيمٌ بِمَا في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها، لا يخفى عليه خافية، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ الله لَطِيفٌ خبير﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ مُلْكُهُ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ عَبْدٌ لَدَيْهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ كَمَا قَالَ: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ﴾ أَيْ مِنْ إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ ﴿وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ أَيْ بِتَسْخِيرِهِ وَتَسْيِيرِهِ، أَيْ فِي الْبَحْرِ الْعَجَاجِ وَتَلَاطُمِ الْأَمْوَاجِ، تَجْرِي الْفُلْكُ بأهلها بريح طيبة فيحملون فيها ما شاءوا من بضائع وَمَنَافِعَ، مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَقُطْرٍ
553
إلى قطر ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ
أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾
أَيْ لَوْ شَاءَ لَأَذِنَ لِلسَّمَاءِ فَسَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ فَهَلَكَ مَنْ فِيهَا، وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّ الله بالناس لرؤوف رَحِيمٌ﴾ أَيْ مَعَ ظُلْمِهِمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأُخرى ﴿وَإِن رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ ومعنى الكلام كيف تجعلون لله أَنْدَادًا وَتَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّصَرُّفِ، ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ﴾ أَيْ خَلَقَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا يُذْكَرُ فَأَوْجَدَكُمْ، ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ﴾ أي جحود لربه.
554
- ٦٧ - لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ
- ٦٨ - وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ
- ٦٩ - اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أنه جعل لكل قوم منسكاً، وَأَصِلُ الْمَنْسَكِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْمَوْضِعُ الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه، ولهذا سميت مناسك الحج بذلك، لتردد الناس إليها وعكوفهم عليها، والمراد لكل أمة نبي جعلنا منسكاً، ﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ﴾ أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، ﴿هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ أي فاعلوه، فالضمير ههنا عَائِدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ مَنَاسِكُ وَطَرَائِقُ، فَلَا تَتَأَثَّرْ بِمُنَازَعَتِهِمْ لَكَ وَلَا يَصْرِفْكَ ذَلِكَ عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ أَيْ طَرِيقٍ وَاضِحٍ مُسْتَقِيمٍ مُوصِلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إليك﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ كَقَوْلِهِ: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شيهدا بيني وبينكم﴾، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾، وهذه كقوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كتاب﴾ الآية.
- ٧٠ - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَمَالِ عِلْمِهِ بِخَلْقِهِ، وَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِمَا فِي السماوات وما في الأرض، وَأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ الْكَائِنَاتِ كُلَّهَا قَبْلَ وُجُودِهَا وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قدَّر مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء» (أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو)، وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "قَالَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كائن إلى يوم القيامة"، وقال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مِائَةِ عَامٍ، وَقَالَ لِلْقَلَمِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: اكْتُبْ فقال الْقَلَمُ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ عِلْمِي فِي خَلْقِي إِلَى يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هو كائن
554
فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ عِلْمِهِ تَعَالَى عَلِمَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا وَقَدَّرَهَا وَكَتَبَهَا أَيْضًا، فَيَعْلَمُ قَبْلَ الْخَلْقِ أَنَّ هَذَا يُطِيعُ بِاخْتِيَارِهِ وَهَذَا يَعْصِي بِاخْتِيَارِهِ وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَهُوَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾.
555
- ٧١ - وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَّصِيرٍ
- ٧٢ - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير
يقول مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا جَهِلُوا وَكَفَرُوا، وَعَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، يَعْنِي حُجَّةً وَبُرْهَانًا كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾، ولهذا قال ههنا ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أَيْ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ وَائْتَفَكُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ تَلَقَّوْهُ عَنْ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ، وَأَصْلُهُ مِمَّا سوَّل لَهُمُ الشَّيْطَانُ وَزَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ أَيْ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ فِيمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ؛ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أَيْ وَإِذَا ذُكِرَتْ لَهُمْ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْحُجَجُ وَالدَّلَائِلُ الواضحات على توحيد الله ﴿يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ أَيْ يَكَادُونَ يُبَادِرُونَ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِالدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَبْسُطُونَ إِلَيْهِمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ﴿قُلْ﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ ﴿أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أَيِ النَّارُ وَعَذَابُهَا وَنَكَالُهَا أَشَدُّ وَأَشَقُّ، وَأَطَمُّ وَأَعْظَمُ مِمَّا تخَّوفون بِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ عَلَى صَنِيعِكُمْ هَذَا أَعْظَمُ مِمَّا تَنَالُونَ مِنْهُمْ إِنْ نِلْتُمْ بِزَعْمِكُمْ وَإِرَادَتِكُمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أَيْ وَبِئْسَ النَّارُ مقيلاً ومنزلاً ومرجعاً ومؤئلاً ومقاماً ﴿إِنَّهَا سَآءَتْ مستقرا ومقاما﴾.
- ٧٣ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
- ٧٤ - مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى حَقَارَةِ الْأَصْنَامِ وَسَخَافَةِ عُقُولِ عَابِدِيهَا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ أَيْ لِمَا يَعْبُدُهُ الْجَاهِلُونَ بِاللَّهِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ أَيْ أَنْصِتُوا وَتَفَهَّمُوا ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ أَيْ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ مَا تَعْبُدُونَ مِن الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، عَلَى أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى خَلْقِ ذُبَابٍ وَاحِدٍ مَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؟ فَلْيَخْلُقُوا
555
ذرة، فليخلقوا شعيرة" (أخرجاه في الصحيحين ورواه الإمام أحمد)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى أَيْضًا: ﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ أَيْ هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ خَلْقِ ذُبَابٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ عَاجِزُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ وَالِانتِصَارِ مِنْهُ، لَوْ سَلَبَهَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي عَلَيْهَا مِنَ الطِّيبِ، ثم أرادت أن تستنفذه مِنْهُ لَمَا قَدَرَتْ عَلَى ذَلِكَ، هَذَا وَالذُّبَابُ مِنْ أَضْعَفِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَأَحْقَرِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّالِبُ الصنم، والمطلوب الذباب؛ واختاره ابن جرير، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الطَّالِبُ الْعَابِدُ وَالْمَطْلُوبُ الصَّنَمُ، ثُمَّ قَالَ: ﴿مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أَيْ مَا عَرَفُوا قَدْرَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ حِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ مِنْ هَذِهِ الَّتِي لَا تُقَاوِمُ الذُّبَابَ لِضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أَيْ هُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، وَقَوْلُهُ ﴿عَزِيزٌ﴾ أَيْ قَدْ عزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ، فَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ، لِعَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
556
- ٧٥ - اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
- ٧٦ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً فِيمَا يَشَاءُ مِنْ شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَمِنَ النَّاسِ لإبلاغ رسالته، ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ بَصِيرٌ بِهِمْ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ أَيْ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ بِرُسُلِهِ فِيمَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ، فَلَا يَخْفَى عليه شيء من أمورهم، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ عَلَى مَا يُقَالُ لَهُمْ، حَافِظٌ لَهُمْ، نَاصِرٌ لِجَنَابِهِمْ.
- ٧٧ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
- ٧٨ - وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
اختلف في هذه السجدة الثانية على قولين وقد قدمنا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا»، وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ أَيْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿اتقوا الله حَقَّ تقاته﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾ أَيْ يَا هَذِهِ الْأُمَّةُ اللَّهُ اصْطَفَاكُمْ وَاخْتَارَكُمْ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَفَضَّلَكُمْ وَشَرَّفَكُمْ وَخَصَّكُمْ بِأَكْرَمِ رَسُولٍ وَأَكْمَلِ شَرْعٍ، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ أَيْ مَا كَلَّفَكُمْ مَا لَا تُطِيقُونَ، وَمَا أَلْزَمَكُمْ بشيء يشق عَلَيْكُمْ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، ولهذا قال عليه السلام: «بعثت بالحنيفة السَّمْحَةِ» وَقَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا أَمِيرَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا»، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾
556
يَعْنِي مِنْ ضِيقٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ قال ابن جرير: نصب على تقدير ﴿ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ أَيْ مِنْ ضِيقٍ بَلْ وسَّعه عَلَيْكُمْ كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ إبراهيم، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ الْزَمُوا مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.
(قُلْتُ): وَهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ الآية، وَقَوْلِهِ: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ قال: الله عزَّ وجلَّ. وقال ابن أَسْلَمَ ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلَ وَفِي هَذَا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: اللَّهُ سماكم المسلمين في قَبْلُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِي الذِّكْرِ، ﴿وَفِي هَذَا﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. (قُلْتُ): وهذه هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ ثم حثهم وأغراهم على ماجاء بِهِ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ملة إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنَّتَهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، بِمَا نَوَّهَ بِهِ مِنْ ذِكْرِهَا وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فِي سَالِفِ الدَّهْرِ وَقَدِيمِ الزَّمَانِ، فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ يُتْلَى عَلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، فَقَالَ: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ ﴿وَفِي هذا﴾، روى النسائي عن الْحَارِثُ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِثِيِّ جَهَنَّمَ»، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: «نَعَمْ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى» فَادْعُوَا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" (أخرجه النسائي في سننه)، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أَيْ إِنَّمَا جَعَلْنَاكُمْ هَكَذَا أُمَّةً وَسَطًا، عُدُولًا خِيَارًا مَشْهُودًا بِعَدَالَتِكُمْ عِنْدَ جَمِيعِ الأُمم لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ﴾ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ مُعْتَرِفَةٌ يومئذٍ بِسِيَادَتِهَا وَفَضْلِهَا عَلَى كُلِّ أُمّة سِوَاهَا، فَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِي أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، وَالرَّسُولُ يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ بلَّغها ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطا﴾، وقوله: ﴿أقيموا الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ أَيْ قَابِلُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حَقَّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ، وَتَرْكِ مَا حَرَّمَ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ إِقَامُ الصلاة وإيتاء الزكاة، ﴿وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ﴾ أَيِ اعْتَضِدُوا بِاللَّهِ وَاسْتَعِينُوا بِهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَتَأَيَّدُوا بِهِ، ﴿هُوَ مَوْلاَكُمْ﴾ أَيْ حَافِظُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ وَمُظَفِّرِكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، ﴿فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾: يَعْنِي نِعْمَ الْوَلِيُّ، وَنِعْمَ النَّاصِرُ من الأعداء.
557
- ٢٣ - سورة المؤمنون
558
Icon