ﰡ
نزلت بمكة إلا قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وقيل قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ عوضا عن قوله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وقيل فيها ثلاث آيات مدنيات من قوله: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى قوله: لا تَشْعُرُونَ وهي اثنتان وقيل خمس وسبعون آية وألف ومائة واثنتان وسبعون كلمة وأربعة آلاف وتسعمائة وثمانية أحرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)قوله عز وجل: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي هذا الكتاب وهو القرآن تنزيل مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي لا من غيره إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي لم ننزله باطلا لغير شيء فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي الطاعة أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل لا يستحق الدين الخالص إلا الله وقيل يعني الخالص من الشرك وما سوى الخالص ليس بدين الله الذي أمر به لأن رأس العبادات الإخلاص في التوحيد واتباع الأوامر واجتناب النواهي وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون الله أَوْلِياءَ يعني الأصنام ما نَعْبُدُهُمْ أي قالوا ما نعبدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى يعني قربة وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من خلقكم وخلق السموات والأرض ومن ربكم قالوا الله فقيل لهم فما معنى عبادتكم الأصنام فقالوا ليقربونا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي لا يرشد لدينه مَنْ هُوَ كاذِبٌ أي من قال إن الآلهة تشفع له كَفَّارٌ أي باتخاذه الآلهة دون الله تعالى لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى أي لاختار مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ يعني الملائكة ثم نزه نفسه فقال تعالى: سُبْحانَهُ أي تنزيها له عن ذلك وعما لا يليق بطهارة قلبه هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ أي في ملكه الذي لا شريك له ولا ولد الْقَهَّارُ أي الغالب الكامل القدرة.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٥ الى ٧]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ يعني يغشى هذا هذا، وقيل يدخل أحدهما على الآخر وقيل ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر فما نقص من الليل زاد في النهار وما نقص من النهار زاد في الليل ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة وقيل الليل والنهار عسكران عظيمان يكرّ أحدهما على الآخر وذلك بقدرة قادر عليهما قاهر لهما وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى يوم القيامة أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ معناه أن خلق هذه الأشياء العظيمة يدل على كونه سبحانه وتعالى عزيزا كامل القدرة مع أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء، ولما ذكر الله تعالى قدرته في خلق السموات والأرض وتكوير الليل على النهار ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان عقبه بذكر خلق الحيوان فقال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني الإبل والبقر والغنم والمعز والمراد بالأزواج الذكر والأنثى من هذه الأصناف، وفي تفسير الإنزال وجوه. قيل إنه هنا بمعنى الإحداث والإنشاء وقيل إن الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وهو ينزل من السماء فكان التقدير أنزل الماء الذي تعيش به الأنعام وقيل إن أصول هذه الأصناف خلقت في الجنة ثم أنزلت إلى الأرض يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لما ذكر الله تعالى أصل خلق الإنسان ثم أتبعه بذكر الأنعام عقبه بذكر حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات وإنما قال في بطون أمهاتكم لتغليب من يعقل ولشرف الإنسان على سائر الخلق خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قال ابن عباس ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وقيل ظلمة الصلب وظلمة الرحم وظلمة البطن ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي الذي خلق هذه الأشياء ربكم لَهُ الْمُلْكُ أي لا لغيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا خالق لهذا الخلق ولا معبود لهم إلا الله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي عن طريق الحق بعد هذا البيان.
قوله عز وجل: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ يعني أنه تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه نفعا أو ليدفع عن نفسه ضررا وذلك لأنه تعالى غني عن الخلق على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ولأنه لو كان محتاجا لكان ذلك نقصانا والله تعالى منزه عن النقصان فثبت بما ذكرنا أنه غني عن جميع العالمين فلو كفروا وأصروا عليه فإن الله تعالى غني عنهم ثم قال الله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ يعني أنه تعالى وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفر إلا أنه لا يرضى لعباده الكفر قال ابن عباس لا يرضى لعباده المؤمنين بالكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فعلى هذا يكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى بقوله عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يريد بعض عباد الله وأجراه قوم على العموم، وقال لا يرضى لأحد من عباده الكفر ومعنى الآية لا يرضى لعباده أن يكفروا به وهو قول السلف، قالوا: كفر الكافر غير مرضي لله تعالى وإن كان بإرادته لأن الرضا عبارة عن مدح الشيء والثناء عليه بفعله والله تعالى لا يمدح الكفر ولا يثني عليه ولا يكون في ملكه إلا ما أراد وقد لا يرضى به ولا يمدح عليه وقد بان الفرق بين الإرادة والرضا وَإِنْ تَشْكُرُوا أي تؤمنوا بربكم وتطيعوه يَرْضَهُ لَكُمْ فيثيبكم عليه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى تقدم بيانه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني بما في القلوب، قوله تعالى:
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٨ الى ١٠]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ أي بلاء وشدة دَعا رَبَّهُ مُنِيباً أي راجعا إِلَيْهِ مستغيثا به ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ أي ترك ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ والمعنى نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً يعني الأصنام لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي ليرد عن دين الله تعالى قُلْ أي لهذا الكافر تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي في الدنيا إلى انقضاء أجلك إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ قيل نزلت في عتبة بن ربيعة وقيل في أبي حذيفة المخزومي وقيل هو عام في كل كافر أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قيل فيه حذف مجازه كمن هو غير قانت، وقيل مجازه الذي جعل لله أندادا أخير أم من هو قانت. وقيل معنى الآية تمتع بكفرك إنك من أصحاب النار ويا من هو قانت أنت من أصحاب الجنة. قال ابن عباس: نزلت في أبي بكر وعمر. وعن ابن عمر: أنها نزلت في عثمان. وقيل: إنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان وقيل: الآية عامة في كل قانت وهو المقيم على الطاعة، وقال ابن عمر: القنوت قراءة القرآن وطول القيام، وقيل: القانت القائم بما يجب عليه آناءَ اللَّيْلِ أي ساعات الليل أوله ووسطه وآخره ساجِداً وَقائِماً أي في الصلاة وفيه دليل على ترجيح قيام الليل على النهار وأنه أفضل منه وذلك لأن الليل أستر فيكون أبعد عن الرياء ولأن ظلمة الليل تجمع الهم وتمنع البصر عن النظر إلى الأشياء، وإذا صار القلب فارغا عن الاشتغال بالأحوال الخارجية رجع إلى المطلوب الأصلي وهو الخشوع في الصلاة ومعرفة من يصلى له، وقيل لأن الليل وقت النوم ومظنّة الراحة فيكون قيامه أشقّ على النفس فيكون الثواب فيه أكثر يَحْذَرُ أي يخاف الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قيل المغفرة وقيل الجنة وفيه فائدة وهي أنه قال في مقام الخوف يحذر الآخرة فلم يضف الحذر إليه تعالى، وقال في مقام الرجاء ويرجو رحمة ربه وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى الله تعالى ويعضد. هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على شاب وهو في الموت فقال له كيف نجدك قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله تعالى ما يرجو منه وآمنه مما يخاف أخرجه الترمذي قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أي ما عند الله من الثواب والعقاب وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك، وقيل: الذين يعلمون عمار وأصحابه. والذين لا يعلمون أبو حذيفة المخزومي، وقيل افتتح الله الآية بالعمل وختمها بالعلم لأن العمل من باب المجاهدات والعلم من باب المكاشفات وهو النهاية فإذا حصل للإنسان دلّ ذلك على كماله وفضله إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي بطاعته واجتناب معاصيه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يعني للذين آمنوا وحسنوا العمل حسنة يعني الجنة وقيل الصحة والعافية في هذه الدنيا وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ قال ابن عباس يعني ارتحلوا من مكة وفيه حثّ على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي وقيل من أمر بالمعاصي في بلد فليهرب منه وقيل نزلت في مهاجري الحبشة وقيل نزلت في جعفر بن أبي طالب: وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما نزل بهم البلاء وصبروا وهاجروا إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ قال علي بن أبي طالب كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابرين فإنه يحثي لهم حثيا. وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما يذهب به أهل البلاء من الفضل.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ١١ الى ١٦]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
قوله عز وجل: قُلْ يا محمد إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي مخلصا له التوحيد أي لا أشرك به شيئا وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي من هذه الأمة قيل أمره أولا بالإخلاص وهو من عمل القلب ثم أمره ثانيا بعمل الجوارح لأن شرائع الله تعالى لا تستفاد إلا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو المبلغ فكان هو أول الناس شروعا فيها فخص الله سبحانه وتعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بهذا الأمر لينبه على أن غيره أحق بذلك فهو كالترغيب لغيره قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما حملك على هذا الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها فأنزل الله تعالى هذه الآيات ومعنى الآية زجر الغير عن المعاصي لأنه مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته ومنصب نبوته إذا كان خائفا حذرا من المعاصي فغيره أولى بذلك قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فإن قلت ما معنى التكرار في قوله قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وفي قوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. قلت هذا ليس بتكرار لأن الأول الإخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإتيان بالعبادة والإخلاص، والثاني أنه إخبار بأنه أمر أن يخص الله تعالى وحده بالعبادة ولا يعبد أحدا غيره مخلصا له دينه، لأن قوله أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ لا يفيد الحصر وقوله: اللَّهَ أَعْبُدُ يفيد الحضر والمعنى الله أعبد ولا أعبد أحدا غيره ثم أتبعه بقوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ليس أمرا بل المراد منه الزجر والتهديد والتوبيخ ثم بين كمال الزجر بقوله قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يعني أزواجهم وخدمهم يَوْمَ الْقِيامَةِ قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلا وأهلا في الجنة فمن عمل بطاعة الله تعالى كان ذلك المنزل والأهل ومن عمل بمعصية الله تعالى دخل النار وكان ذلك المنزل والأهل لغيره ممن عمل بطاعة الله تعالى فخسر نفسه وأهله ومنزله وقيل خسران النفس بدخول النار وخسران الأهل بأن يفرق بينه وبين أهله أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ أي أطباق وسرادقات وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي فراش ومهاد وقيل أحاطت النار بهم من جميع الجهات والجوانب.
فإن قلت الظلة ما فوق الإنسان فكيف سمي ما تحته بالظلة، قلت فيه وجوه الأول أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر. الثاني أن الذي تحته من النار يكون ظلة لآخر تحته في النار لأنها دركات. الثالث أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الإيذاء والحرارة سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أي المؤمنين لأنهم إذا سمعوا حال الكفار في الآخرة خافوا فأخلصوا التوحيد والطاعة لله عز وجل وهو قوله تعالى: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ أي فخافون. قوله تعالى:
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ١٧ الى ٢١]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
فإن قلت الظلة ما فوق الإنسان فكيف سمي ما تحته بالظلة، قلت فيه وجوه الأول أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر. الثاني أن الذي تحته من النار يكون ظلة لآخر تحته في النار لأنها دركات. الثالث أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الإيذاء والحرارة سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة ﴿ ذلك يخوف الله به عباده ﴾ أي المؤمنين لأنهم إذا سمعوا حال الكفار في الآخرة خافوا فأخلصوا التوحيد والطاعة لله عز وجل وهو قوله تعالى :﴿ يا عباد فاتقون ﴾ أي فخافون.
﴿ فبشر عبادي ﴾.
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ أي أدخل ذلك الماء يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي عيونا وركايا ومسالك ومجاري في الأرض كالعروق في الجسد قال الشعبي كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي بالماء زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي مثل أصفر وأخضر وأحمر وأبيض وقيل أصنافه مثل البر والشعير وسائر أنواع الحبوب ثُمَّ يَهِيجُ أي ييبس فَتَراهُ أي بعد خضرته ونضرته مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي فتاتا متكسرا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٢٢ الى ٢٣]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ أي وسعه لِلْإِسْلامِ وقبول الحق كمن طبع الله تعالى على قلبه فلم يهتد فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ أي على يقين وبيان وهداية.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود قال «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على
فإن قلت كيف يقسو القلب عن ذكر الله وهو سبب لحصول النور والهداية؟
قلت إنهم كلما تلي ذكر الله على الذين يكذبون به قست قلوبهم عن الإيمان به وقيل إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن قبول الحق فإن سماعها لذكر الله لا يزيدها إلا قسوة، وكدورة كحر الشمس يلين الشمع ويعقد الملح فكذلك القرآن يلين قلوب المؤمنين عن سماعه ولا يزيد الكافرين إلا قسوة قال مالك بن ديار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفي أبي بن خلف، وقيل: في علي وحمزة وفي أبي لهب وولده وقيل في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي أبي جهل.
قوله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن وكونه أحسن الحديث لوجهين أحدهما من جهة اللفظ والآخر من جهة المعنى، أما الأول فلأن القرآن من أفصح الكلام وأجزله وأبلغه وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب والرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه، وأما الوجه الثاني وهو كون القرآن من أحسن الحديث لأجل المعنى فلأنه كتاب منزه عن التناقض والاختلاف مشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار كِتاباً مُتَشابِهاً أي يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا مَثانِيَ أي يثني فيه ذكر الوعد والوعيد والأمر والنهي والأخبار والأحكام تَقْشَعِرُّ أي تضطرب وتشمئز مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ والمعنى تأخذهم قشعريرة وهي تغيير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر الوعيد والوجل والخوف. وقيل المراد من الجلود القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي لذكر الله تعالى قيل إذا ذكرت آيات الوعيد والعذاب اقشعرت جلود الخائفين لله وإذا ذكرت آيات الرعد والرحمة لانت جلودهم وسكنت قلوبهم وقيل حقيقة المعنى أن جلودهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء. روي عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» وفي رواية «حرمه الله تعالى على النار» قال بعض العارفين: السيارون في بيداء جلال الله إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإذا لاح لهم جمال من عالم الجمال عاشوا. وقال قتادة: هذا نعت أولياء الله الذي نعتهم الله به بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان، وروي عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال «قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قال عبد الله: فقلت لها إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه، قالت:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» وروي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرّ برجل من أهل العراق ساقط فقال ما بال هذا قالوا إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط وقال ابن عمر: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وذكر عن ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن فقال بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق: فإن قلت لما ذكرت الجلود وحدها أولا في جانب الخوف ثم قرنت معها القلوب ثانيا في الرجاء قلت إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب اقشعرت الجلود من ذكر آيات
﴿ ذلك ﴾ أي القرآن الذي هو أحسن الحديث ﴿ هدى الله يهدي به يشاء ﴾ أي هو الذي يشرح الله به صدره لقبول الهداية ٍٍ﴿ ومن يضلل الله ﴾ أي يجعل قلبه قاسيا منافيا لقبول الهداية ﴿ فما له من هاد ﴾ أي يهديه.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٢٤ الى ٢٦]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ أي شدته يَوْمَ الْقِيامَةِ قيل يجر على وجه في النار وقيل يرمى به في النار منكوسا فأول شيء تمسه النار وجهه، وقيل هو الكافر يرمى به منكوسا في النار مغلولة يداه إلى عنقه وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشعل النار في تلك الصخرة وهي في عنقه فحرها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه ومعنى الآية أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن العذاب وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي تقول لهم الخزنة ذُوقُوا ما أي وبال ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي في الدنيا من المعاصي كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يعني وهم غافلون آمنون من العذاب فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي العذاب والهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون قُرْآناً عَرَبِيًّا أي فصيحا أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي منزها عن التناقض، وقال ابن عباس: غير مختلف.
وقيل: غير ذي لبس وقيل: غير مخلوق ويروى ذلك عن مالك بن أنس وحكي عن سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين إن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
أي الكفر والتكذيب.
فإن قلت ما الحكمة في تقديم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية.
قلت سبب تقديم التذكر أن الإنسان إذا تذكر وعرف ووقف على فحوى الشيء واختلط بمعناه واتقاه واحترز منه. قوله تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم والشكس السيء الخلق المخالف للناس لا يرضى بالإنصاف وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ أي خالصا له فيه ولا منازع والمعنى واضرب يا محمد لقومك مثلا وقل لهم ما تقولون في رجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع كل واحد يدعي أنه عبده وهم يتجاذبونه في مهن شتى فإذا عنت لهم حاجة يتدافعونه فهو متحير في أمره لا يدري أيهم يرضي بخدمته وعلى أيهم يعتمد في حاجاته وفي رجل آخر مملوك قد سلم لمالك واحد يخدمه على سبيل
فإن قلت ما الحكمة في تقديم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية. قلت سبب تقديم التذكر أن الإنسان إذا تذكر وعرف ووقف على فحوى الشيء واختلط بمعناه واتقاه واحترز منه.
قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ أي ستموت وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ أي سيموتون وذلك أنهم كانوا يتربصون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم موته فأخبر الله تعالى أن الموت يعمهم جميعا فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني وقيل نعى إلى نبيه نفسه وإليكم أنفسكم والمعنى أنك ميت وإنهم ميتون وإن كنتم أحياء فإنكم في عداد الموتى ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال ابن عباس يعني المحق والمبطل والظالم والمظلوم عن عبد الله بن الزبير قال:
«لما نزلت ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، قال الزبير: يا رسول الله أتكون علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال: نعم، فقال: إن الأمر إذا لشديد» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وقال ابن عمر رضي الله عنهما: عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها فينا نزلت وعن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيف قلنا نعم هو هذا وعن إبراهيم قال: لما نزلت هذه الآية ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قالوا كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه» (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذت من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار». قوله تعالى:
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٣٢ الى ٣٦]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فزعم أن له ولدا أو شريكا وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أي بالقرآن وقيل بالرسالة إليه أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي منزلة ومقام لِلْكافِرِينَ.
قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أي والذي صدق به، قال ابن عباس: الذي جاء بالصدق هو
قوله عز وجل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقرئ عباده يعني الأنبياء عليهم الصلاة السلام قصدهم قومهم بالسوء فكفاهم الله تعالى شر من عاداهم وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وذلك أنهم خوفوا النبي صلّى الله عليه وسلّم مضرة الأوثان وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٣٧ الى ٤٢]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ أي منيع في ملكه ذِي انْتِقامٍ أي منتقم من أعدائه وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعني أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم، وذلك متفق عليه عند جمهور الخلائق فإن فطرة الخلق شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل عجائب السموات والأرض وما فيها من أنواع الموجودات علم بذلك أنها من ابتداع قادر حكيم ثم أمره الله تعالى أن يحتج عليهم بأن ما يعبدون من دون الله لا قدرة لها على جلب خير أو دفع ضر وهو قوله تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي بشدة وبلاء هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ أي بنعمة وخير وبركة هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فسألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فسكتوا فقال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي هو ثقتي وعليه اعتمادي عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ أي عليه يثق الواثقون قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي اجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم وهو أمر تهديد وتقريع إِنِّي عامِلٌ أي بما أمرت به من إقامة الدين فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي أنا وأنتم وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم وهو تهديد وتخويف إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ أي ليهتدي به كافة الخلق فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أي ترجع فائدة هدايته إليه وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي يرجع وبال ضلالته عليه وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي لم توكل بهم ولا تؤاخذ عنهم قيل هذا منسوخ بآية القتال.
قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ أي الأرواح حِينَ مَوْتِها أي فيقبضها عند فناء أكلها وانقضاء أجلها
فإن قلت : كيف الجمع بين قوله تعالى ﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ وبين قوله ﴿ قل يتوفاكم ملك الموت ﴾ وبين قوله تعالى ﴿ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ﴾.
قلت : المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى وملك الموت هو القابض للروح بإذن الله تعالى ولملك الموت أعوان وجنود من الملائكة ينتزعون الروح من سائر البدن فإذا بلغت الحلقوم قبضها ملك الموت ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ أي في البعث وذلك أن توفى نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث وقيل إن في ذلك دليلا على قدرتنا حيث لم نغلط في إمساك ما نمسك من الأرواح وإرسال ما نرسل منها.
فإن قلت: كيف الجمع بين قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وبين قوله قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وبين قوله تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا.
قلت: المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى وملك الموت هو القابض للروح بإذن الله تعالى ولملك الموت أعوان وجنود من الملائكة ينتزعون الروح من سائر البدن فإذا بلغت الحلقوم قبضها ملك الموت إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في البعث وذلك أن توفي نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث وقيل إن في ذلك دليلا على قدرتنا حيث لم نغلط في إمساك ما نمسك من الأرواح وإرسال ما نرسل منها. قوله تعالى:
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٤٣ الى ٤٥]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ يعني الأصنام قُلْ يا محمد أَوَلَوْ كانُوا يعني الآلهة لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً أي من الشفاعة وَلا يَعْقِلُونَ أي إنكم تعبدونهم وإن كانوا بهذه الصفة قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي لا يشفع أحد إلا بإذنه فكان الاشتغال بعبادته أولى لأنه هو الشفيع في الحقيقة وهو يأذن في الشفاعة لمن يشاء من عباده لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لا ملك لأحد فيهما سواه ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي في الآخرة.
قوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ أي نفرت وقال ابن عباس انقبضت عن التوحيد وقيل استكبرت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قيل إذا اشمأز القلب من عظم غمه وغيظه انقبض الروح إلى داخله فيظهر على الوجه أثر ذلك مثل الغبرة والظلمة وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي يفرحون والاستبشار أن يمتلئ القلب سرورا حتى يظهر على الوجه فيتهلل. قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٤٦ الى ٥٠]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠)قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وصف نفسه بكمال القدرة وكمال العلم أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدنيا (م) عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن قال «سألت عائشة رضي الله تعالى عنها بأي شيء كان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ يعني ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنه نازل بهم في الآخرة، وقيل ظنوا أن لهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا، وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا يعني مساوي أعمالهم من الشرك والظلم أولياء الله تعالى: وَحاقَ يعني نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ يعني شدة دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ يعني أعطيناه نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ يعني من الله تعالى علم أني له أهل وقيل على خير علمه الله عنده بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ يعني تلك النعمة استدراج من الله تعالى وامتحان وبلية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أنها استدراج من الله تعالى: قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني قارون فإنه قال إنما أوتيته على علم عندي فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني فما أغنى الكفر من العذاب شيئا.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٥١ الى ٥٣]
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي جزاؤها وهو العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي يوسع الرزق لمن يشاء وَيَقْدِرُ أي يقتر ويقبض على من يشاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون.
قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية «أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا وانتهكوا الحرمات فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا محمد إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزلت والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات قال يبدل شركهم إيمانا وزناهم إحصانا ونزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» أخرجه النسائي. وعن ابن عباس أيضا قال «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً
قلت المراد منها التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب، فإن اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة فمعنى قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أي إذا تاب وصحت التوبة غفرت ذنوبه ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فإن شاء غفر له وعفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته فالتوبة واجبة على كل أحد وخوف العقاب مطلوب فلعل الله تعالى يغفر مطلقا ولعله يعذب ثم يعفو بعد ذلك والله أعلم.
(فصل في ذكر أحاديث تتعلق بالآية) روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل المسجد فإذا قاصّ يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال لم تقنط الناس ثم قرأ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب (ق). عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهبا فسأله فقال هل لي من توبة قال لا فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فضرب صدره تخوفا فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينها فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له» لفظ البخاري ولمسلم قال «فدل على راهب فأتاه فقال له إن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدلّ على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض
قلت المراد منها التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب، فإن اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة فمعنى قوله ﴿ إن الله يغفر الذنوب جميعاً ﴾ أي إذا تاب وصحت التوبة غفرت ذنوبه ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فإن شاء غفر له وعفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته فالتوبة واجبة على كل أحد وخوف العقاب مطلوب فلعل الله تعالى يغفر مطلقاً ولعله يعذب ثم يعفو بعد ذلك والله أعلم.
فصل في ذكر أحاديث تتعلق بالآية
روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل المسجد فإذا قاصّ يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال لم تقنط الناس ثم قرأ ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ﴾ عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ﴾ ولا يبالي أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب ( ق ). عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهباً فسأله فقال هل لي من توبة قال لا فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فضرب صدره تخوفاً فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينها فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له » لفظ البخاري ولمسلم قال « فدل على راهب فأتاه فقال له إن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدلَّ على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض الذي أراد فقبضته ملائكة الرحمة » ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل أسرف على نفسه وفي رواية لم يعمل خيراً قط وفي رواية لم يعمل حسنة قط فلما حضره الموت قال لبنيه إذا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر على ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً فلما مات فعل به ذلك فأمر الله تعالى الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم فقال ما حملك على ما صنعت قال خشيتك يا رب أو قال مخافتك فغفر له بذلك " وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كان في بني إسرائيل رجلان متحابان أحدهما مذنب والآخر في العبادة مجتهد فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب فيقول له أقصر فوجده يوماً على ذنب فقال له أقصر فقال خلني وربي أبعثت عليّ رقيباً فقال والله لا يغفر لك الله أو قال لا يدخلك الجنة فقبض الله أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال الرب تبارك وتعالى للمجتهد أكنت على ما في يدي قادراً وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي وقال للآخر اذهبوا به إلى النار " قال أبو هريرة " تكلم والله بكلمة أوبقت دنياه وآخرته " أخرجه أبو داود عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قال الله عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة " أخرجه الترمذي، قوله عنان السماء العنان السحاب وقيل هو ما عن لك منها وقراب الأرض بضم القاف هو ما يقارب ملأها.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥)
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ أي ارجعوا إليه بالتوبة والطاعة وَأَسْلِمُوا لَهُ أي أخلصوا له التوحيد مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي لا تمنعون منه وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن لأنه كله حسن ومعنى الآية على ما قاله الحسن الزموا طاعة الله واجتنبوا معصيته فإنه أنزل في القرآن ذكر القبيح ليجتنب وذكر الأدون لئلا يرغب فيه وذكر الأحسن لتؤثره وتأخذ به وقيل الأحسن إتباع الناسخ وترك العمل بالمنسوخ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ يعني غافلين عنه.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٥٦ الى ٥٨]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ أي لئلا تقول وقيل معناه بادروا واحذروا أن تقول وقيل خوف أن تصيروا إلى حال أن تقول نفس يا حَسْرَتى أي يا ندمي ويا حزني والتحسر الاغتمام والحزن على ما فات عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي على ما قصرت في طاعة الله، وقيل في أمر الله وقيل في حق الله وقيل على ما ضيعت في ذات الله وقيل معناه على ما قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي المستهزئين بدين الله وبكتابه وبرسوله وبالمؤمنين قيل لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر بأهلها أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أي أرشدني إلى دينه وطاعته لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي الشرك أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ أي عيانا لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي الموحدين ثم أجاب الله تعالى هذا التأويل بأن الأعذار زائلة والتعليل باطل وهو قوله تعالى:
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٥٩ الى ٦٦]
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي يعني القرآن فَكَذَّبْتَ بِها أي قلت ليست من الله وَاسْتَكْبَرْتَ أي تكبرت عن الإيمان بها وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ أي زعموا أن له ولدا وشريكا وقيل هم الذين يقولون الأشياء إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ قيل هو سواد مخالف لسائر أنواع السواد أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي عن الإيمان.
قوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي الشرك بِمَفازَتِهِمْ أي الطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة وقرئ بمفازاتهم أن ينجيهم بفوزهم بالأعمال الحسنة من النار لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي لا يصيبهم المكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي مما هو كائن أو يكون في الدنيا والآخرة وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي إن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مفاتيح خزائن السموات والأرض واحدها مقلاد مثل مفتاح وقيل إقليد على غير قياس قيل هو فارسي معرب قال الراجز:
لم يؤذها الديك بصوت تغريد | ولم يعالج غلقها بإقليد |
قوله تعالى.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره ثم أخبر عن عظمته فقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (ق) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «جاء جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع
لم يؤذها الديك بصوت تغريد | ولم يعالج غلقها بإقليد |
قوله عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ تقدم في سورة النمل تفسير هذا الاستثناء وقال الحسن إلا من يشاء الله يعني الله وحده ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي في الصور أُخْرى مرة أخرى وهي النفخة الثانية فَإِذا هُمْ قِيامٌ أي من قبورهم يَنْظُرُونَ أي ينتظرون أمر الله فيهم (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما بين النفختين أربعون قالوا أربعون يوما، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون شهرا، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا:
أربعون سنة قال: أبيت، ثم ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» قوله تعالى:
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٦٩ الى ٧٣]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وذلك حين يتجلى الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء بين خلقه فما يضارون في نوره كما لا يضارون في الشمس في اليوم الصحو وقيل بعدل ربها وأراد بالأرض عرصات القيامة وَوُضِعَ الْكِتابُ أي كتاب الأعمال وقيل اللوح المحفوظ لأن فيه أعمال جميع الخلق من المبدأ إلى المنتهى وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ يعني ليكونوا شهداء على أممهم وَالشُّهَداءِ قال ابن عباس يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل يعني الحفظة وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا يزاد في
قلت المراد بسوق أهل النار طردهم إلى العذاب بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنهم يذهبون إليها راكبين أو المراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان فشتان ما بين السوقين ﴿ حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها ﴾ فإن قلت قال في أهل النار فتحت بغير واو وهنا زاد حرف الواو فما الفرق.
قلت فيه وجوه أحدها أنها زائدة الثاني إنها واو الحال مجازه وقد فتحت أبوابها فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم إليها وحذف الواو في الآية الأولى لبيان أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل مجيئهم إليها ووجه الحكمة في ذلك أن أهل الجنة إذا جاؤوها ووجدوا أبوابها مفتحة حصل لهم السرور والفرح بذلك وأهل النار إذا رأوها مغلقة كان ذلك نوع ذل وهوان لهم. الثالث زيدت الواو هنا لبيان أن أبواب الجنة ثمانية ونقصت هناك لأن أبواب جهنم سبعة والعرب تعطف بالواو فيما فوق السبعة تقول سبعة وثمانية.
فإن قلت حتى إذا جاؤوها شرط فأين جوابه ؟
قلت فيه وجوه أحدها أنه محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني أن الجواب هو قوله ﴿ وقال لهم خزنتها سلام عليكم ﴾ بغير واو الثالث تقديره فادخلوها خالدين دخلوها فحذف دخولها لدلالة الكلام عليه ﴿ وقال لهم خزنتها سلام عليكم ﴾ أي أبشروا بالسلامة من كل الآفات ﴿ طبتم ﴾ قال ابن عباس معناه طاب لكم المقام وقيل إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا دخلوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه ﴿ سلام عليكم طبتم ﴾ ﴿ فادخلوها خالدين ﴾ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحتها عينان فيغتسل المؤمن من أحداهما فيطهر ظاهره ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون ﴿ سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ﴾.
قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يعني سوقا عنيفا زُمَراً أفواجا بعضهم على أثر بعض كل أمة على حدة وقيل جماعات متفرقة واحدتها زمرة حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها يعني السبعة وكانت قبل ذلك مغلقة وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها يعني توبيخا وتقريعا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من أنفسكم ومن جنسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ أي وجبت عَلَى الْكافِرِينَ وهي قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ قوله عز وجل: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً فإن قلت عبر عن الفريقين بلفظ السوق فما الفرق بينهما.
قلت المراد بسوق أهل النار طردهم إلى العذاب بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنهم يذهبون إليها راكبين أو المراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان فشتان ما بين السوقين حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها فإن قلت قال في أهل النار فتحت بغير واو وهنا زاد حرف الواو فما الفرق.
قلت فيه وجوه أحدها أنها زائدة الثاني إنها واو الحال مجازه وقد فتحت أبوابها فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم إليها وحذف الواو في الآية الأولى لبيان أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل مجيئهم إليها ووجه الحكمة في ذلك أن أهل الجنة إذا جاءوها ووجدوا أبوابها مفتحة حصل لهم السرور والفرح بذلك وأهل النار إذا رأوها مغلقة كان ذلك نوع ذلك وهوان لهم. الثالث زيدت الواو هنا لبيان أن أبواب الجنة ثمانية ونقصت هناك لأن أبواب جهنم سبعة والعرب تعطف بالواو فيما فوق السبعة تقول سبعة وثمانية.
فإن قلت حتى إذا جاءوها شرط فأين جوابه؟
قلت فيه وجوه أحدها أنه محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني أن الجواب هو قوله وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ بغير واو الثالث تقديره فادخلوها خالدين دخلوها فحذف دخلوها لدلالة الكلام عليه وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي أبشروا بالسلامة من كل الآفات طِبْتُمْ قال ابن عباس معناه طاب لكم المقام وقيل إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا دخلوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحتها عينان فيغتسل المؤمن من إحداهما فيطهر ظاهره ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي بالجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة نتصرف فيها كما نشاء تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه وهو قوله تعالى: نَتَبَوَّأُ أي ننزل مِنَ الْجَنَّةِ أي في الجنة حَيْثُ
فإن قلت فما معنى قوله حَيْثُ نَشاءُ وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره.
قلت يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وحسنا وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى غيره وقيل إن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم يدخلون الجنة قبل الأمم فينزلون فيها حيث شاؤوا ثم تنزل الأمم بعدهم فيما فضل منها قال الله عز وجل: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي ثواب المطيعين في الدنيا الجنة في العقبى وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
أي محدقين محيطين بحافته وجوانبه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وقيل هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد لأن التكليف يزول في ذلك اليوم وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ بين أهل الجنة وأهل النار بالعدل وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي يقول أهل الجنة شكرا حين تمّ وعد الله لهم، وقيل ابتدأ الله ذكر الخلق بالحمد في قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وختم بالحمد في آخر الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم فنبه بذلك على تحميده في بداءة كل أمر وخاتمته والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.