تفسير سورة الجاثية

الماوردي
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ ﴾ يعني القرآن.
﴿ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ وفي إضافة التنزيل إليه في هذا الموضع وفي أمثاله وجهان :
أحدهما : افتتاح كتابه منه كما يفتتح الكاتب كتابه به.
الثاني : تعظيماً لقدره وتضخيماً لشأنه عليه في الابتداء بإضافته إليه.
قوله تعالى :﴿ وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني اختلافهما بالطول والقصر.
الثاني : اختلافهما بذهاب أحدهما ومجيء الآخر.
﴿ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : المطر الذي ينبت به الزرع وتحيا به الأرض.
الثاني : ما قضاه في السماء من أرزاق العباد.
﴿ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تصريفها بإرسالها حيث يشاء.
الثاني : ينقل الشمال جنوباً والجنوب شمالاً، قاله الحسن.
الثالث : أن يجعلها تارة رحمة وتارة نقمة؛ قاله قتادة.
قوله تعالى :﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الأفاك : الكذاب، قاله ابن جريج.
الثاني : أنه المكذب بربه.
الثالث : أنه الكاهن، قاله قتادة.
﴿ يَسْمَعُ ءَآيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيهِ ﴾ يعني القرآن.
﴿ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً ﴾ فيه تأويلان :
أحدها : يقيم على شركه مستكبراً عن طاعة ربه، وهو معنى قول يحيى بن سلام.
الثاني : أن الإصرار على الشيء العقد بالعزم عليه، وهو مأخوذ من صَرَّ الصُّرَّةَ إذا شدها، قاله ابن عيسى.
﴿ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ﴾ في عدم الاتعاظ بها والقبول لها.
﴿ فَبِشَّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ قال ابن جريج نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث.
قوله تعالى :﴿ قُلْ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا ينالون نعم الله، قاله مجاهد.
الثاني : لا يخشون عذاب الله، قاله الكلبي ومقاتل.
الثالث : لا يطمعون في نصر الله في الدنيا ولا في الآخرة، قاله ابن بحر.
وفي المراد بأيام الله وجهان :
أحدهما : أيام إنعامه وانتقامه في الدنيا، لأنه ليس في الآخرة، وتكون الأيام وقتاً وإن تكن أياماً على الحقيقة.
وفي الكلام أمر محذوف فتقديره : قل للذين آمنوا إغفروا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله. الغفران ها هنا العفو وترك المجازاة على الأذى.
وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من المشركين فهمَّ أن يبطش به، فلما نزل ذلك فيه كف عنه.
وفي نسخ هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها ثابتة في العفو عن الأذى في غير الدين.
الثاني : أنها منسوخة وفيما نسخها قولان :
أحدهما : بقوله سبحانه ﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ قاله قتادة.
الثاني : بقوله ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُواْ ﴾ قاله أبو صالح.
قوله تعالى :﴿ وَءَاتَينَاهُم بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ذكر الرسول وشواهد نبوته.
الثاني : بيان الحلال والحرام، قاله السدي.
﴿ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : من بعد يوشع بن نون فآمن بعضهم وكفر بعضهم، حكاه النقاش.
الثاني : بعدما أعلمهم الله ما في التوراة.
﴿ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : طلباً للرسالة وأنفة من الإذعان للصواب، حكاه ابن عيسى.
الثاني : بغياً على رسول الله صلى عليه وسلم في جحود ما في كتابهم من نبوة وصفته، قاله الضحاك.
الثاني : أنهم أرادوا الدنيا ورخاءها فغيروا كتابهم وأحلوا فيه ما شاؤوا وحرموا ما شاؤوا، قاله يحيى بن آدم.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ ﴾ أي على طريقة من الدين كالشريعة التي هي طريق إلى الماء، ومنه الشارع لأنه طريق إلى القصد.
وفي المراد بالشريعة أربعة أقاويل :
احدها : أنها الدين، قاله ابن زيد، لأنه طريق للنجاة.
الثاني : أنها الفرائض والحدود والأمر والنهي، قاله قتادة لأنها طريق إلى الدين.
الثالث : أنها البينة، قاله مقاتل : لأنها طريق الحق.
الرابع : السنة، حكاه الكلبي لأنه يستنّ بطريقة من قبله من الأنبياء.
قوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ ﴾ أي اكتسبوا الشرك. قال الكلبي : الذين أريد بهم هذه الآية عتبه وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة.
﴿ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ قال الكلبي أريد بهم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم.
قوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أفرأيت من اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، قاله ابن عباس.
الثاني : أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه ويستحسنه، فإذا استحسن شيئاً وهو به اتخذه إلهاً، قاله عكرمة، قاله سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر. فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر.
الثالث : أفرأيت من ينقاد لهواه انقياده لإلهه ومعبوده تعجباً لذوي العقول من هذا الجهل.
﴿ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : وجده ضالاً، حكاه ابن بحر.
الثاني : معناه ضل عن الله. ومنه قول الشاعر :
هبوني امرأً منكم اضلَّ بعيره له ذمة إن الذمام كثير
أي ضل عنه بعيره.
وفي قوله :﴿ عَلَى عِلْمٍ ﴾ وجهان :
أحدهما : على علم منه أنه ضال، قاله مقاتل.
الثاني : قاله ابن عباس أي في سابق علمه أنه سيضل. ﴿ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ﴾ أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى.
﴿ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غَشَاوَةً ﴾ حتى لا يبصرالرشد.
ثم في هذا الكلام وجهان :
أحدهما : أنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم.
الثاني : أنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم.
وحكى ابن جريج أنها نزلت في الحارث بن قيس من الغياطلة، وحكى الضحاك أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ﴾ وهذا القول منهم إنكار للآخرة وتكذيب بالبعث وإبطال للجزاء.
﴿ نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مقدم ومؤخر، وتقديره : نحيا نموت. وهي كذلك في قراءة ابن مسعود.
الثاني : أنه على تربيته، وفي تأويله وجهان :
أحدهما : نموت نحن ويحيا أولادنا، قاله الكلبي.
الثاني : يموت بعضنا.
﴿ وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : وما يهلكنا إلا العمر، قاله قتادة. وأنشد قول الشاعر :
لكل أمر أتى يوماً له سبب والدهر فيه وفي تصريفه عجب
الثاني : وما يهلكنا إلا الزمان، قاله مجاهد.
وروى أبو هريرة قال : كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار، والذي يهلكنا يميتنا ويحيينا، فنزلت هذه الآية.
الثالث : وما يهلكنا إلا الموت، قاله قطرب، وأنشد لأبي ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
الرابع : وما يهلكنا إلا الله، قاله عكرمة.
وروى الحسن قال : قال رسول الله ﷺ :« رجال يقولون : يا خيبة الدهر، يا بؤس الدهر، لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر، وإنه يقبض الأيام ويبسطها ».
قوله تعالى :﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ الأمة أهل كل ملة. وفي الجاثية خمسة تأويلات :
أحدها : مستوفزة، قاله مجاهد. وقال سفيان : المستوفز الذي لا يصيب منه الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله.
الثاني : مجتمعة، قاله ابن عباس.
الثالث : متميزة، قاله عكرمة.
الرابع : خاضعة بلغة قريش، قاله مؤرج.
الخامس : باركة على الركب، قاله الحسن.
وفي الجثاة قولان :
أحدهما : أنه للكفار خاصة، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : أنه عام للمؤمن والكافر انتظاراً للحساب.
وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبد الله بن باباه أن النبي ﷺ قال : كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم.
﴿ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلى حسابها، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر، قاله الكلبي.
الثالث : إلى كتابها الذي أنزل على رسولها، حكاه الجاحظ.
قوله تعالى :﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه القرآن يدلكم على ما فيه من الحق، فكأنه شاهد عليكم، قاله ابن قتيبة.
الثاني : أنه اللوح المحفوظ يشهد بما قضي فيه من سعادة وشقاء، خير وشر، قاله مقاتل، وهو معنى قول مجاهد.
الثالث : أنه كتاب الأعمال الذي يكتب الحفظة فيه أعمال العباد ويشهد عليكم بما تضمنه من صدق أعمالكم، قاله الكلبي.
﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني يكتب الحفظة ما كنتم تعملون في الدنيا، قاله علي رضي الله عنه ومن زعم أنه كتاب الأعمال.
الثاني : أنه الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوَّن عندها من أحوال العباد، قاله ابن عباس ومن زعم أن الكتاب هو اللوح المحفوظ.
الثالث : نستنسخ ما كتب عليكم الملائكة الحفظة، قاله الحسن لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال.
قوله تعالى :﴿ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : اليوم نترككم في النار كما تركتم أمري، قاله الضحاك.
الثاني : اليوم نترككم من الرحمة كما تركتم الطاعة، وهو محتمل
الثالث : اليوم نترككم من الخير كما تركتمونا من العمل، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى :﴿ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الكبرياء العظمة، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : أنه السلطان، قاله مجاهد.
الثالث : الشرف، قاله ابن زياد.
الرابع : البقاء والخلود.
﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ في انتقامه ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ في تدبيره.
Icon