تفسير سورة الأنعام

تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ
[ بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة وما توفيقي إلا بالله ]١
تفسير سورة الأنعام
[ وهي مكية ]٢
قال العَوْفيّ وعِكْرمة وعَطاء، عن ابن عباس : أنزلت سورة الأنعام بمكة.
وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجّاج بن مِنْهال، حدثنا٣ حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، قال : نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح٤
وقال سفيان الثوري، عن لَيْث، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة [ واحدة ]٥ وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة٦
وقال شريك، عن ليث، عن شهر، عن أسماء قالت : نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا٧ ما بين السماء والأرض٨
وقال السُّدِّي٩ عن مُرَة، عن عبد الله قال : نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفًا من الملائكة.
وروي نحوه من وجه آخر، عن ابن مسعود.
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل قالا حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي، أخبرنا جعفر بن عَوْن، حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي، حدثنا محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سَبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال :" لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ". ثم قال : صحيح على شرط مسلم١٠
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن معمر، حدثنا إبراهيم بن دُرُسْتُويه الفارسي، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم، حدثنا ابن أبي فديك، حدثني عمر بن طلحة الرقاشي، عن نافع بن مالك أبي سهيل، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة، سَد ما بين الخَافِقَين لهم زَجَل بالتسبيح والأرض بهم تَرْتَجّ "، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]١١ يقول :" سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم " ١٢
ثم روى ابن مَرْدُوَيه عن الطبراني، عن إبراهيم بن نائلة، عن إسماعيل بن عمرو، عن يوسف بن عطية، عن ابن عَوْن، عن نافع، عن ابن عمر قال : قال رسول الله :" نزلت عَلَيّ سورة الأنعام جملة واحدة، وشَيَّعَها سبعون ألفا من الملائكة، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد " ١٣
١ زيادة من أ..
٢ زيادة من د، أ..
٣ في م: "عن"..
٤ المعجم الكبير (١٢/٢١٥) ورواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص ١٢٩) وابن الضريس في فضائل القرآن (ص ١٥٧) من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد به، وفي إسناده علي بن زيد وهو ضعيف..
٥ زيادة من أ..
٦ رواه الطبراني في المعجم الكبير (٢٤/١٧٨) من طريق قبيصة عن سفيان به. وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٠): " فيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق"..
٧ في أ: "طبقوا"..
٨ قال الفاضل محمد بن رزق طرهوني في كتابه "موسوعة فضائل القرآن" (١/٢٥٨): "الحديث في إسناده ثلاثة ضعفاء في الحفظ وهم المذكورون قبل أسماء، وبالإضافة إلى هذا، ففيه علل أخرى: الأولى: لفظة: "في مسير" دخلت على أحدهم من حديث نزول المائدة المروي عند أحمد وغيره من حديث ليث عن شهر عن أسماء حيث قالت: "إني لآخذة بزمام العضباء، ناقة رسول الله صلى الله علية وسلم، إذ أنزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة". أخرجه أحمد (٦/٤٥٥): حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية يعنى شيبان عن ليث به. الثانية: أن ذكر نزول الأنعام هنا وهم في الأصل من ليث أو شهر، ولا دخل لشريك فيه، فقد رواه أحمد بن منيع. (انظر: "إتحاف المهرة" ٧٤/ب/٤) والطبراني (٢٤/١٧٨)، وابن مردويه (انظر: "الدر" ٣/٢) وعلقه ابن كثير - والله أعلم - نقلا من تفسيره ٣/٢٣٣ من طريق الليث عن شهر عن أسماء قالت: "نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم، جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة". ورواه عن ليث سفيان الثوري وإسحاق بن يوسف. والذي من هذا الطريق هو ذكر نزول المائدة كما تقدم، وإنما دخل الوهم في ذلك على ليث أو شهر، وحديث أسماء فيما بعد الهجرة بالتأكيد والأنعام مكية بلا خلاف، ولولا أن ثقل المائدة ليس فضلا خاصا بها بل هو للقرآن جملة؛ لكنت ذكرت شواهد حديث أسماء في ذلك عند سورة المائدة. الثالثة: وهم شريك في جعل الحديث عن أسماء، وإنما هو من مراسيل شهر أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (٢٦٥/أ/٤) أخبرنا جرير، عن ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب: "نزلت سورة الأنعام ومعها زجل من الملائكة قد نظموا السماء الدنيا إلى الأرض"، وفيه ليث وشهر وكلاهما ضعيف من قبل حفظه، وأخرجه الفريابي وعبد بن حميد (انظر: "الدر" ٣/٣).
.

٩ في أ: "سفيان الثوري"..
١٠ المستدرك (٢/٣١٤) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٢٤٣١) من طريق الحاكم به، وقد تعقب الذهبي الحاكم بقوله: "لا والله لم يدرك جعفر السدي، وأظن هذا موضوعا". قلت: "وهو على شرط مسلم في المعاصرة، فإن وفاة السدي كانت سنة ١٢٧هـ، وولادة جعفر بن عون سنة ١٠٩ هـ، فاللقاء بينهما محتمل". وقول الذهبي: "أظنه موضوعا". لا وجه له؛ فرجال إسناد الحديث رجال مسلم، فالحمل فيه على من ؟!.
١١ زيادة من م، أ..
١٢ ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٢٤٣٤) والطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣١٧) "مجمع البحرين" من طرق عن أبى بكر أحمد بن محمد بن سالم، وفي إسناده أبو بكر أحمد بن محمد بن سالم لم أعرفه..
١٣ رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣١٦) "مجمع البحرين" ورواه أبو نعيم في الحلية (٣/٤٤) من طريق إبراهيم بن نائلة به. قال الهيثمي في المجمع (٧/٢٠): "فيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف".
.

وَقَالَ السُّدِّي (١) عَنْ مُرَة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، وَأَبُو الْفَضْلِ الْحَسَنِ بْنُ يَعْقُوبَ الْعَدْلُ قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْعَبْدِيُّ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْن، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ سَبّح رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ ". ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ (٢)
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ دُرُسْتُويه الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ طَلْحَةَ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ مَالِكٍ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، سَد مَا بَيْنَ الخَافِقَين لَهُمْ زَجَل بِالتَّسْبِيحِ وَالْأَرْضُ بِهِمْ تَرْتَجّ "، وَرَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٣) يَقُولُ: " سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ " (٤)
ثُمَّ رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَائِلَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْن، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " نَزَلَتْ عَلَيّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وشَيَّعَها سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ " (٥)
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣) ﴾
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَادِحًا نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ، وَحَامِدًا لَهَا عَلَى خَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَرَارًا لِعِبَادِهِ،
(١) في أ: "سفيان الثوري".
(٢) المستدرك (٢/٣١٤) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٢٤٣١) من طريق الحاكم به، وقد تعقب الذهبي الحاكم بقوله: "لا والله لم يدرك جعفر السدي، وأظن هذا موضوعا". قلت: "وهو على شرط مسلم في المعاصرة، فإن وفاة السدي كانت سنة ١٢٧هـ، وولادة جعفر بن عون سنة ١٠٩ هـ، فاللقاء بينهما محتمل". وقول الذهبي: "أظنه موضوعا". لا وجه له؛ فرجال إسناد الحديث رجال مسلم، فالحمل فيه على من؟!
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٢٤٣٤) والطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣١٧) "مجمع البحرين" من طرق عن أبى بكر أحمد بن محمد بن سالم، وفي إسناده أبو بكر أحمد بن محمد بن سالم لم أعرفه.
(٥) رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣١٦) "مجمع البحرين" ورواه أبو نعيم في الحلية (٣/٤٤) من طريق إبراهيم بن نائلة به. قال الهيثمي في المجمع (٧/٢٠) :"فيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف".
238
وَجَعَلَ (١) الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ مَنْفَعَةً لِعِبَادِهِ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، فَجَمَعَ لَفْظَ "الظُّلُمَاتِ" ووحَّد لَفْظَ (٢) النُّورَ"؛ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ، كَمَا قَالَ ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ﴾ [النَّحْلِ: ٤٨]، وَكَمَا قَالَ (٣) فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٥٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أَيْ: وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَفَرَ بِهِ بَعْضُ عِبَادِهِ، وَجَعَلُوا مَعَهُ شَرِيكًا وَعِدْلًا وَاتَّخَذُوا لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ يَعْنِي: أَبَاهُمْ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُمْ وَمِنْهُ خَرَجُوا، فَانْتَشَرُوا فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا﴾ يَعْنِي: الْمَوْتَ ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ يَعْنِي: الْآخِرَةَ.
وَهَكَذَا رُوي عَنْ مُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعَطِيَّةَ، والسُّدِّي، ومُقاتِل بْنِ حَيَّان، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَوْلُ (٤) الْحَسَنِ -فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا﴾ قَالَ: مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ-هُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ تَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْخَاصِّ، وَهُوَ عُمُرُ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَتَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْعَامِّ، وَهُوَ عُمُرُ الدُّنْيَا بِكَمَالِهَا ثُمَّ انْتِهَائِهَا وَانْقِضَائِهَا وَزَوَالِهَا، [وَانْتِقَالِهَا] (٥) وَالْمَصِيرُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا﴾ يَعْنِي: مُدَّةَ الدُّنْيَا ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ يَعْنِي: عُمُرَ الْإِنْسَانِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ [يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ] (٦) ﴾ الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: ٦٠].
وَقَالَ عَطِيَّةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا﴾ يَعْنِي: النَّوْمَ، يَقْبِضُ فِيهِ الرُّوحَ، ثُمَّ يَرْجِعُ (٧) إِلَى صَاحِبِهِ عِنْدَ الْيَقَظَةِ ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ يَعْنِي: أَجَلَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿عِنْدَهُ﴾ أَيْ: لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٨٧]، وَكَقَوْلِهِ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ [النَّازِعَاتِ: ٤٢ -٤٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ قَالَ السُّدِّي وَغَيْرُهُ: يَعْنِي تَشُكُّونَ فِي أَمْرِ السَّاعَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ اختلف
(١) في د: "وفي جعله"
(٢) في م: "له".
(٣) في د: "ثم قال".
(٤) في أ: "وقال".
(٥) زيادة من م، أ.
(٦) زيادة من أ.
(٧) في د: "ترجع".
239
وقوله :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ﴾ يعني : أباهم آدم الذي هو أصلهم ومنه خرجوا، فانتشروا في المشارق والمغارب.
وقوله :﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ﴾ قال سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس :﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلا ﴾ يعني : الموت ﴿ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ﴾ يعني : الآخرة.
وهكذا رُوي عن مجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، والحسن، وقتادة، والضحاك، وزيد بن أسلم، وعطية، والسُّدِّي، ومُقاتِل بن حَيَّان، وغيرهم.
وقول١ الحسن - في رواية عنه :﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلا ﴾ قال : ما بين أن يخلق إلى أن يموت ﴿ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ﴾ ما بين أن يموت إلى أن يبعث - هو يرجع إلى ما تقدم، وهو تقدير الأجل الخاص، وهو عمر كل إنسان، وتقدير الأجل العام، وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها، [ وانتقالها ]٢ والمصير إلى الدار الآخرة.
وعن ابن عباس ومجاهد :﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلا ﴾ يعني : مدة الدنيا ﴿ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ﴾ يعني : عمر الإنسان إلى حين موته، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ [ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ]٣ الآية [ الأنعام : ٦٠ ].
وقال عطية، عن ابن عباس ﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلا ﴾ يعني : النوم، يقبض فيه الروح، ثم يرجع٤ إلى صاحبه عند اليقظة ﴿ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ﴾ يعني : أجل موت الإنسان، وهذا قول غريب.
ومعنى قوله :﴿ عِنْدَهُ ﴾ أي : لا يعلمه إلا هو، كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ]، وكقوله ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٢ - ٤٤ ].
وقوله :﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾ قال السُّدِّي وغيره : يعني تشكون في أمر الساعة.
١ في أ: "وقال"..
٢ زيادة من م، أ..
٣ زيادة من أ..
٤ في د: "ترجع".
.

وقوله :﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال، بعد الاتفاق على تخطئة قول الجَهْمِيَّة١ الأول القائلين بأنه - تعالى عن قولهم علوًا كبيرًا - في كل مكان ؛ حيث حملوا الآية على ذلك، فأصح الأقوال أنه٢ المدعو الله في السموات وفي الأرض، أي : يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رَغَبًا ورَهَبًا، إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ ﴾ [ الزخرف : ٨٤ ]، أي : هو إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض، وعلى هذا فيكون قوله :﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾ خبرًا أو حالا.
والقول الثاني : أن المراد أن الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، من سر وجهر. فيكون قوله :﴿ يَعْلَمُ ﴾ متعلقًا بقوله :﴿ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ ﴾ تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون.
والقول الثالث أن قوله ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال :﴿ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ وهذا٣ اختيار ابن جرير.
وقوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ أي : جميع أعمالهم خيرها وشرها.
١ في د: "اتفاقهم على إنكار قول الجهمية"..
٢ في أ: "أن"..
٣ في م: "وهو".
.

مُفَسِّرُو هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ، بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَخْطِئَةِ قَوْلِ الجَهْمِيَّة (١) الْأَوَّلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ -تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا-فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ حَيْثُ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ (٢) الْمَدْعُوُّ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، أَيْ: يَعْبُدُهُ وَيُوَحِّدُهُ وَيُقِرُّ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَيُسَمُّونَهُ اللَّهَ، وَيَدْعُونَهُ رَغَبًا ورَهَبًا، إِلَّا مَنْ كَفَرَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٨٤]، أَيْ: هُوَ إِلَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ خَبَرًا أَوْ حَالًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مِنْ سِرٍّ وَجَهْرٍ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ﴾ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ﴾ تَقْدِيرُهُ: وَهُوَ اللَّهُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ وَقْفٌ تَامٌّ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْخَبَرَ فَقَالَ: ﴿وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ وَهَذَا (٣) اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ أَيْ: جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا.
﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ: إِنَّهُمْ مَهْمَا أَتَتْهُمْ ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ أَيْ: دَلَالَةٍ وَمُعْجِزَةٍ وَحُجَّةٍ، مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ الْكِرَامِ، فَإِنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا، فَلَا يَنْظُرُونَ فِيهَا وَلَا يُبَالُونَ بِهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ، بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وليجدُنَّ غِبَّهُ، وليذوقُنَّ وَباله.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَاعِظًا وَمُحَذِّرًا لَهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ الدُّنْيَوِيِّ مَا حَلَّ بِأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَ جَمْعًا، وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَاسْتِغْلَالًا لِلْأَرْضِ وَعِمَارَةً لَهَا، فَقَالَ ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ أَيْ: مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَعْمَارِ، وَالْجَاهِ الْعَرِيضِ، وَالسَّعَةِ وَالْجُنُودِ، ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا﴾
(١) في د: "اتفاقهم على إنكار قول الجهمية".
(٢) في أ: "أن".
(٣) في م: "وهو".
قال الله تعالى :﴿ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب، وليجدُنَّ غبه، وليذوقُنَّ وَباله.
ثم قال تعالى واعظًا ومحذرًا لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة، وأكثر جمعًا، وأكثر أموالا وأولادًا واستغلالا للأرض وعمارة لها، فقال ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ﴾ أي : من الأموال والأولاد والأعمار، والجاه العريض، والسعة والجنود، ﴿ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا ﴾ أي : شيئًا بعد شيء، ﴿ وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ ﴾ أي : أكثرنا١ عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض، أي : استدراجًا وإملاء لهم ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي : بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها، ﴿ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ أي : فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث، ﴿ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ أي : جيلا آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم٢ فهلكوا كهلاكهم. فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم [ مثل ]٣ ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم، فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم، لولا لطفه وإحسانه.
١ في د، م، أ: "كثرنا"..
٢ في د، م: "عملهم"..
٣ زيادة من أ.
.

أَيْ: شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، ﴿وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ﴾ أَيْ: أَكْثَرْنَا (١) عَلَيْهِمْ أَمْطَارَ السَّمَاءِ وَيَنَابِيعَ الْأَرْضِ، أَيِ: اسْتِدْرَاجًا وَإِمْلَاءً لَهُمْ ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ أَيْ: بِخَطَايَاهُمْ وَسَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي اجْتَرَمُوهَا، ﴿وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ أَيْ: فَذَهَبَ الْأَوَّلُونَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ، ﴿وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ أَيْ: جِيلًا آخَرَ لِنَخْتَبِرَهُمْ، فَعَمِلُوا مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ (٢) فَهَلَكُوا كَهَلَاكِهِمْ. فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ أَنْ يُصِيبَكُمْ [مِثْلُ] (٣) مَا أَصَابَهُمْ، فَمَا أَنْتُمْ بِأَعَزَّ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ، وَالرَّسُولُ الَّذِي كَذَّبْتُمُوهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْعَذَابِ وَمُعَاجَلَةِ الْعُقُوبَةِ مِنْهُمْ، لَوْلَا لُطْفُهُ وَإِحْسَانُهُ.
﴿وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) ﴾
(١) في د، م، أ: "كثرنا".
(٢) في د، م: "عملهم".
(٣) زيادة من أ.
﴿ وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ [ أي : فيكون معه نذيرا ]١ قال الله :﴿ وَلَوْ أَنزلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ﴾ أي : لو نزلت الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب، كما قال تعالى :﴿ مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ﴾ [ الحجر : ٨ ]، [ و ]٢ قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ]٣ [ الفرقان : ٢٢ ].
١ زيادة من أ..
٢ زيادة من أ..
٣ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ وَعِنَادِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ لِلْحَقِّ وَمُبَاهَتَتِهِمْ وَمُنَازَعَتِهِمْ فِيهِ: ﴿وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ: عَايَنُوهُ، وَرَأَوْا نُزُولَهُ، وَبَاشَرُوا ذَلِكَ ﴿لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُكَابَرَتِهِمْ لِلْمَحْسُوسَاتِ: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الْحِجْرِ: ١٤، ١٥] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ﴾ [الطَّوْرِ: ٤٤].
﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [أَيْ: فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا] (١) قَالَ اللَّهُ: ﴿وَلَوْ أَنزلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ أَيْ: لَوْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ لَجَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْعَذَابُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ﴾ [الْحِجْرِ: ٨]، [وَ] (٢) قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا] (٣) ﴾ [الْفَرْقَانِ: ٢٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ أَيْ: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَعَ الرَّسُولِ البَشَرِيّ مَلَكًا، أَيْ: لَوْ بَعَثْنَا إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا مَلَكِيًّا (٤) لَكَانَ عَلَى هَيْئَةِ رَجُلٍ لتُفْهَم (٥) مُخَاطَبَتُهُ وَالِانْتِفَاعِ بِالْأَخْذِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَالْتَبَسَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ كَمَا يَلْبِسُونَ (٦) عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي قَبُولِ رِسَالَةِ الْبَشَرِيِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٩٥]، فَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (٧) تَعَالَى بِخَلْقِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُ إِلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الخلائق
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٤) في م: "ملكا"
(٥) في د، م: "ليمكنهم".
(٦) في د، م: "كما هم يلبسون".
(٧) في أ، م: "فمن رحمته".
وقوله :﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ هذا تسلية لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة.
ثم قال :﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي : فكروا في أنفسكم، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله١ وعاندوهم، من العذاب والنكال، والعقوبة في الدنيا، مع ما ادَّخَر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نَجَّى رسله وعباده المؤمنين.
١ في م: "رسلهم"..
رُسُلًا مِنْهُمْ، لِيَدْعُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلِيُمَكِّنَ بَعْضَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِبَعْضٍ فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالسُّؤَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٤].
قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي [قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا﴾ ] (١) الْآيَةَ. يَقُولُ: لَوْ أَتَاهُمْ مَلَكٌ مَا أَتَاهُمْ إِلَّا فِي صُورَةِ رَجُلٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مِنَ النُّورِ ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ أَيْ: وَلَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ. وَقَالَ الْوَالِبِيُّ عَنْهُ: وَلَشَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهُ، وَوَعْدٌ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ بِالنُّصْرَةِ وَالْعَاقِبَةِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ أَيْ: فَكِّرُوا فِي أَنْفُسِكُمْ، وَانْظُرُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ (٢) وَعَانَدُوهُمْ، مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا ادَّخَر لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَيْفَ نَجَّى رُسُلُهُ وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ.
﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمِنْ فِيهِنَّ، وَأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الرَّحْمَةَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ طَرِيقِ الأعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (٣) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الخَلْق كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي" (٤)
وَقَوْلُهُ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ هَذِهِ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، فَأَقْسَمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ لَيَجْمَعَنَّ عِبَادَهُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ] (٥) الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ فِيهِ عند عباده
(١) زيادة من أ.
(٢) في م: "رسلهم".
(٣) في أ: "قال رسول الله".
(٤) صحيح البخاري برقم (٧٤٠٤) ورواه مسلم في صحيحه برقم (٢٧٥١) مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. بنحوه
(٥) زيادة من أ.
242
الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا الْجَاحِدُونَ الْمُكَذِّبُونَ فَهُمْ (١) فِي رَيْبِهِمْ (٢) يَتَرَدَّدُونَ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُقْبَة، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مِحْصَن بْنُ عقْبَة الْيَمَانِيُّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ شَبِيب، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَلْ فِيهِ مَاءٌ؟ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِه، إِنَّ فِيهِ لَمَاءً، إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَيَرِدُونِ حِياضَ الْأَنْبِيَاءِ، ويَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ فِي أَيْدِيهِمْ عِصِيّ مِنْ نَارٍ، يَذُودون الْكُفَّارَ عَنْ حِيَاضِ الْأَنْبِيَاءِ".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ (٣) وَفِي التِّرْمِذِيِّ: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً (٤) (٥)
وَلِهَذَا قَالَ: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] (٦) ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِالْمَعَادِ، وَلَا يَخَافُونَ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أَيْ: كُلُّ دَابَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، الْجَمِيعُ عِبَادُهُ وَخَلْقُهُ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَلَا (٧) إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أَيِ: السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، الْعَلِيمُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي بَعَثَهُ بِالتَّوْحِيدِ الْعَظِيمِ وَالشَّرْعِ الْقَوِيمِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى صِرَاطِهِ (٨) الْمُسْتَقِيمِ: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ كَمَا قَالَ ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ [الزُّمَرِ: ٦٤]، وَالْمَعْنَى: لَا أَتَّخِذُ وَلِيًا إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ: خَالِقُهُمَا وَمُبْدِعُهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَق.
﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ﴾ أَيْ: وَهُوَ الرَّزَّاقُ لِخَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * [مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] (٩) ﴾ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦ -٥٨].
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ هَاهُنَا: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يَطْعَمُ﴾ الْآيَةَ (١٠) أَيْ: لَا يَأْكُلُ.
وَفِي حَدِيثِ سُهَيْل بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (١١) قَالَ: دَعَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ قُبَاءٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا طَعِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَسَلَ يديه قال:
(١) في أ: "فيهم".
(٢) في م: "دينهم".
(٣) في إسناده من لم أجد ترجمته.
(٤) في م، أ: "واردا".
(٥) سنن الترمذي برقم (٢٤٤٣) من طريق سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جندب، رضي الله عنه، مرفوعا. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب". قلت: في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف.
(٦) زيادة من م، أ.
(٧) في أ: "لا".
(٨) في م، أ: "صراط الله".
(٩) زيادة من م، أ.
(١٠) في د: "الآيتين".
(١١) زيادة من أ.
243
ثم قال تعالى ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ أي : كل دابة في السموات والأرض، الجميع عباده وخلقه، وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، ولا١ إله إلا هو، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ أي : السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم.
١ في أ: "لا"..
ثم قال لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه بالتوحيد العظيم والشرع القويم، وأمره أن يدعو الناس إلى صراطه١ المستقيم :﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ كَمَا قَالَ ﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٤ ]، والمعنى : لا أتخذ وليًا إلا الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر السموات والأرض، أي : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سَبَق.
﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ﴾ أي : وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، كما قال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * [ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ]٢ [ الذاريات : ٥٦ - ٥٨ ].
وقرأ بعضهم هاهنا :﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ ﴾ الآية٣ أي : لا يأكل.
وفي حديث سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]٤ قال : دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال : فانطلقنا معه، فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال : الحمد لله الذي يُطعِم ولا يَطْعَم، ومَنَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسَقانا وكلّ بَلاء حَسَن أبلانا، الحمد لله غير مُودّع٥ ولا مكافَأ ولا مكفور ولا مُسْتَغْنًى عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام، وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضلال، وبَصَّرنا من العَمَى، وفَضَّلنا على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين " ٦
﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ أي : من هذه الأمة.
١ في م، أ: "صراط الله"..
٢ زيادة من م، أ..
٣ في د: "الآيتين"..
٤ زيادة من أ.
.

٥ في م، أ: "غير مودع ربى"..
٦ رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (١٠١٣٢) وابن حبان في صحيحه برقم (١٣٥٢) من طريق سهيل بن أبي صالح به..
﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ يعني : يوم القيامة.
﴿ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ﴾ يعني : العذاب ﴿ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ﴾ يعني : فقد رحمه الله ﴿ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴾١ كما قال :﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ]، والفوز : هو حصول الربح ونفي الخسارة.
١ في م، أ، هـ: "وذلك هو الفوز المبين"، وهو خطأ.
.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُطعِم وَلَا يَطْعَم، ومَنَّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا، وَأَطْعَمَنَا وسَقانا وَكُلَّ بَلاء حَسَن أَبَلَانَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرِ مُودّع (١) وَلَا مكافَأ وَلَا مَكْفُورٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا مِنَ الطَّعَامِ، وَسَقَانَا مِنَ الشَّرَابِ، وَكَسَانَا مِنَ الْعُرْيِ، وَهَدَانَا مِنَ الضَّلَالِ، وبَصَّرنا مِنَ العَمَى، وفَضَّلنا عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (٢)
﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ﴾ يَعْنِي: الْعَذَابَ ﴿يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ يَعْنِي: فَقَدْ رَحِمَهُ اللَّهُ ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ (٣) كَمَا قَالَ: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٥]، وَالْفَوْزُ: هُوَ حُصُولُ الرِّبْحِ وَنَفْيُ الْخَسَارَةِ.
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) ﴾
(١) في م، أ: "غير مودع ربى".
(٢) رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (١٠١٣٢) وابن حبان في صحيحه برقم (١٣٥٢) من طريق سهيل بن أبي صالح به.
(٣) في م، أ، هـ: "وذلك هو الفوز المبين"، وهو خطأ.
أي : هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره١
﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ ﴾ أي : في جميع ما يفعله ﴿ الْخَبِيرُ ﴾ بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا لمن يستحق ولا يمنع إلا من يستحق.
١ في أ: " حكم قهره".
.

﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّهُ مَالِكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، لَا مُعَقِّب لِحُكْمِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ الْآيَةَ [فَاطِرٍ: ٢] وَفِي الصَّحِيحِ (١) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِما أَعْطَيْت، وَلَا معطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدّ مِنْكَ الجَدّ" (٢) ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ أَيْ: هُوَ الَّذِي خَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَذَلَّتْ لَهُ الْجَبَابِرَةُ، وَعَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَدَانَتْ لَهُ الْخَلَائِقُ، وَتَوَاضَعَتْ لِعَظَمَةِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَعُلُوِّهِ وَقُدْرَتِهِ الْأَشْيَاءُ، وَاسْتَكَانَتْ وَتَضَاءَلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَحْتَ حُكْمِهِ وَقَهْرِهِ (٣)
﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ ﴿الْخَبِيرُ﴾ بِمَوَاضِعِ الْأَشْيَاءِ وَمَحَالِّهَا، فَلَا يُعْطِي إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ولا يمنع إلا من يستحق.
(١) في أ: "الصحيحين".
(٢) رواه البخاري في صحيحه برقم (٨٤٤) ومسلم في صحيحه برقم (٥٩٣) من حديث المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه.
(٣) في أ: " حكم قهره".
244
ثُمَّ قَالَ: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾ أَيْ: مَنْ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ [شَهَادَةً] (١) ﴿قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أَيْ: هُوَ الْعَالِمُ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ لِي: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ أَيْ: وَهُوَ نَذِيرٌ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هُودٍ: ١٧].
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو خَالِدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾ [قَالَ] (٢) مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -زَادَ أَبُو خَالِدٍ: وكَلّمه.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَقَدْ أَبْلَغَهُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "بَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ، فَمَنْ بَلَغَتْهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ بَلَغه أَمْرُ اللَّهِ".
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: حَقٌّ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ كَالَّذِي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يُنْذِرَ كَالَّذِي أَنْذَرَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ﴾ [أَيْ] (٣) أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ ﴿أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٥٠]، ﴿قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذَا الَّذِي جِئْتَهُمْ (٤) بِهِ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ عَنِ الْمُرْسَلِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ بَشَّروا بِوُجُودِ مُحَمَّدٍ (٥) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِبَعْثِهِ (٦) وَصِفَتِهِ، وَبَلَدِهِ ومُهَاجَرِه، وَصِفَةِ أُمَّتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ أَيْ: خَسِرُوا كُلَّ الْخَسَارَةِ، ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيِّ الظَّاهِرِ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَنَوَّهَتْ بِهِ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ أَيْ: لَا أَظْلَمُ مِمَّنْ تَقَوَّل (٧) عَلَى اللَّهِ، فَادَّعَى أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَكُنْ أَرْسَلَهُ، ثُمَّ لَا أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ وَدَلَالَاتِهِ، ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ أَيْ: لَا يُفْلِحُ هَذَا وَلَا هذا، لا المفتري ولا المكذب.
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) زيادة من م.
(٤) في أ: "جئتكم".
(٥) في م: "النبي".
(٦) في أ: "وبنعته".
(٧) في م: "يقول".
245
ثم قال مخبرًا عن أهل الكتاب : إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم١ به كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بَشَّروا بوجود محمد٢ صلى الله عليه وسلم وببعثه٣ وصفتة، وبلده ومُهَاجَرِه، وصفة أمته ؛ ولهذا قال بعد هذا :﴿ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي : خسروا كل الخسارة، ﴿ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به في قديم الزمان وحديثه.
١ في أ: "جئتكم"..
٢ في م: "النبي"..
٣ في أ: "وبنعته"..
ثم قال :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ﴾ أي : لا أظلم ممن تَقَوَّل١ على الله، فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته، ﴿ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ أي : لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب.
١ في م: "يقول".
.

﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٢٦) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ قَائِلًا [لَهُمْ] (١) ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الْآيَةَ: ٦٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ أَيْ: حُجَّتُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: مَعْذِرَتُهُمْ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ قِيلُهُمْ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بَلِيَّتُهُمْ حِينَ ابْتُلُوا ﴿إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ (٢) قِيلُهُمْ عِنْدَ فِتْنَتِنَا (٣) إِيَّاهُمُ (٤) اعْتِذَارًا مِمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ ﴿إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ (٥)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ مُطَرِّف، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا (٦) عَبَّاسٍ. سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَهْلُ الصَّلَاةِ، فَقَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ، فَيَجْحَدُونَ، فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَشْهَدُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، فَهَلْ فِي قَلْبِكَ الْآنَ شَيْءٌ؟ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا قَدْ نَزَلَ (٧) فِيهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (٨) وَجْهَهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ.
وَفِي هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْمُنَافِقُونَ إِنَّمَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، وَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ آيَةُ الْمُجَادَلَةِ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ [كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ] (٩) ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ١٨]، وَهَكَذَا قَالَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ كَمَا قَالَ ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا [بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ] (١٠) ﴾ [غافر: ٧٣، ٧٤].
(١) زيادة من أ.
(٢) في أ: "تكن".
(٣) في م: "فتنتهما"
(٤) في أ: "لهم".
(٥) تفسير الطبري (١١/٣٠٠).
(٦) في م، أ: "يا ابن".
(٧) في أ: "ترك".
(٨) في أ: "لا يعلمون".
(٩) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(١٠) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
246
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ أَيْ: يَجِيؤُوكَ (١) لِيَسْمَعُوا قِرَاءَتَكَ، وَلَا تُجْزِي عَنْهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ أَيْ: أَغْطِيَةً لِئَلَّا يَفْقَهُوا الْقُرْآنَ ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ أَيْ: صَمَمًا عَنِ السَّمَاعِ النَّافِعِ، فَهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ] (٢) ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٧١].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ أَيْ: مَهْمَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ وَالْحُجَجِ الْبَيِّنَاتِ، لَا يُؤْمِنُوا بِهَا. فَلَا فَهْم عِنْدَهُمْ وَلَا إِنْصَافَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ [وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ] (٣) ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٢٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ﴾ أَيْ يُحَاجُّونَكَ وَيُنَاظِرُونَكَ فِي الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ أَيْ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَّا مَأْخُوذٌ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ وَمَنْقُولٌ عَنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ وَفِي مَعْنَى ﴿يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَالِانْقِيَادِ لِلْقُرْآنِ، وَيَنْسَأُونَ عَنْهُ أَيْ: [وَيَبْتَعِدُونَ هُمْ عَنْهُ، فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ الْقَبِيحَيْنِ لَا يَنْتَفِعُونَ] (٤) وَلَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا يَنْتَفِعُ [وَيَتَبَاعَدُونَ] (٥) قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ قَالَ: يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: كَانَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ لَا يَأْتُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى [النَّاسَ] (٦) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يؤذى (٧)
(١) في أ: "يجيؤون".
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) زيادة من م، وفي هـ "الآية".
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) زيادة من م.
(٦) زيادة من أ.
(٧) رواه الطبري في تفسيره (١١/٣١٣) والحاكم في المستدرك (٢/٣١٥) من طريق سفيان به.
247
وقوله :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ﴾ أي : حجتهم. وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس : أي : معذرتهم. وكذا قال قتادة. وقال ابن جريج، عن ابن عباس : أي قيلهم. وكذا قال الضحاك.
وقال عطاء الخراساني : ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا ﴿ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾
وقال ابن جرير : والصواب ثم لم يكن١ قيلهم عند فتنتنا٢ إياهم٣ اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ﴿ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾٤
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن مُطَرِّف، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال يا أبا٥ عباس. سمعت الله يقول :﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ قال : أما قوله :﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة، فقالوا : تعالوا فلنجحد، فيجحدون، فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا، فهل في قلبك الآن شيء ؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نزل٦ فيه شيء، ولكن لا تعلمون٧ وجهه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس : هذه في المنافقين.
وفي هذا نظر، فإن هذه الآية مكية، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ [ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ]٨ [ المجادلة : ١٨ ]، وهكذا قال في حق هؤلاء :﴿ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ كَمَا قَالَ ﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا [ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ] ٩ [ غافر : ٧٣، ٧٤ ].
١ في أ: "تكن"..
٢ في م: "فتنتهما".
٣ في أ: "لهم"..
٤ تفسير الطبري (١١/٣٠٠)..
٥ في م، أ: "يا ابن"..
٦ في أ: "ترك"..
٧ في أ: "لا يعلمون"..
٨ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
٩ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣:وقوله :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ﴾ أي : حجتهم. وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس : أي : معذرتهم. وكذا قال قتادة. وقال ابن جريج، عن ابن عباس : أي قيلهم. وكذا قال الضحاك.
وقال عطاء الخراساني : ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا ﴿ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾
وقال ابن جرير : والصواب ثم لم يكن١ قيلهم عند فتنتنا٢ إياهم٣ اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ﴿ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾٤
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن مُطَرِّف، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال يا أبا٥ عباس. سمعت الله يقول :﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ قال : أما قوله :﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة، فقالوا : تعالوا فلنجحد، فيجحدون، فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا، فهل في قلبك الآن شيء ؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نزل٦ فيه شيء، ولكن لا تعلمون٧ وجهه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس : هذه في المنافقين.
وفي هذا نظر، فإن هذه الآية مكية، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ [ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ]٨ [ المجادلة : ١٨ ]، وهكذا قال في حق هؤلاء :﴿ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ كَمَا قَالَ ﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا [ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ] ٩ [ غافر : ٧٣، ٧٤ ].
١ في أ: "تكن"..
٢ في م: "فتنتهما".
٣ في أ: "لهم"..
٤ تفسير الطبري (١١/٣٠٠)..
٥ في م، أ: "يا ابن"..
٦ في أ: "ترك"..
٧ في أ: "لا يعلمون"..
٨ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
٩ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
.


وقوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ﴾ أي : يجيؤوك١ ليسمعوا قراءتك، ولا تجزي عنهم شيئًا ؛ لأن الله جعل ﴿ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾ أي : أغطية لئلا يفقهوا القرآن ﴿ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ أي : صمما عن السماع النافع، فَهُم كما قال تعالى :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ]٢ [ البقرة : ١٧١ ].
وقوله :﴿ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ﴾ أي : مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات، لا يؤمنوا بها. فلا فَهْم عندهم ولا إنصاف، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ [ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ] ٣ [ الأنفال : ٢٣ ].
وقوله :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ ﴾ أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ أي : ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم.
١ في أ: "يجيؤون"..
٢ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
٣ زيادة من م، وفي هـ "الآية"..
وقوله :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾ وفي معنى ﴿ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾ قولان : أحدهما : أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق، وتصديق الرسول، والانقياد للقرآن، وينسأون عنه أي :[ ويبتعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ]١ ولا يتركون أحدًا ينتفع [ ويتباعدون ]٢ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾ قال : ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به.
وقال محمد بن الحنفية : كان كفار قريش لا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وينهون عنه.
وكذا قال مجاهد وقتادة، والضحاك، وغير واحد. وهذا القول أظهر، والله أعلم، وهو اختيار ابن جرير.
والقول الثاني : رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾ قال : نزلت في أبي طالب كان ينهى [ الناس ]٣ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى٤
وكذا قال القاسم بن مُخَيْمِرةَ، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار : إنها نزلت في أبي طالب. وقال سعيد بن أبي هلال : نزلت في عمومة النبي، صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر. رواه ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن كعب القرظي :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾ أي : ينهون الناس عن قتله.
[ و ]٥ قوله :﴿ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾ أي : يتباعدون منه٦ ﴿ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي : وما يهلكون بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وما يشعرون.
١ زيادة من م، أ..
٢ زيادة من م..
٣ زيادة من أ..
٤ رواه الطبري في تفسيره (١١/٣١٣) والحاكم في المستدرك (٢/٣١٥) من طريق سفيان به.
.

٥ زيادة من أ..
٦ في م: "عنه".
.

وَكَذَا قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرةَ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، وَعَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ: نَزَلَتْ فِي عُمُومَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا عَشَرَةً، فَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ مَعَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَأَشَدَّ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ أَيْ: يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ قَتْلِهِ.
[وَ] (١) قَوْلُهُ: ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ أَيْ: يَتَبَاعَدُونَ مِنْهُ (٢) ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ: وَمَا يُهْلِكُونَ بِهَذَا الصَّنِيعِ، وَلَا يَعُودُ وَبَالُهُ إِلَّا عَلَيْهِمْ، وَمَا يَشْعُرُونَ.
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) ﴾
(١) زيادة من أ.
(٢) في م: "عنه".
﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٢٨) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) ﴾
يَذْكُرُ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ إِذَا وَقَفُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّارِ، وَشَاهَدُوا مَا فِيهَا مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَرَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ تِلْكَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ وَالْأَهْوَالَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، لِيَعْمَلُوا عَمَلًا صَالِحًا، وَلَا يُكَذِّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَيَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: بَلْ ظَهَرَ لَهُمْ حِينَئِذٍ مَا كَانُوا يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْمُعَانَدَةِ، وَإِنْ أَنْكَرُوهَا، فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ قَبْلَ هَذَا بِيَسِيرٍ ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ ظَهَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ صِدْقِ مَا جَاءَتْ (١) بِهِ الرُّسُلُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ لِأَتْبَاعِهِمْ خِلَافَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِفِرْعَوْنَ: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ﴾ الْآيَةَ [الْإِسْرَاءِ: ١٠٢]. قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النَّمْلِ: ١٤].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا عَمَّا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنُ هَذِهِ [السُّورَةِ] (٢) مَكِّيَّةً، وَالنِّفَاقُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ وُقُوعَ النِّفَاقِ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ وَهِيَ الْعَنْكَبُوتُ، فَقَالَ: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ١١] ؛ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، حِينَ يُعَايِنُونَ الْعَذَابَ يَظْهَرُ (٣) لَهُمْ حينئذ
(١) في أ: "ما جاءهم"
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) في أ: "فظهر"
﴿ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ أي : لعادوا لما نهوا عنه، إنهم لكاذبون ولقالوا :﴿ إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا ﴾ أي : ما هي إلا هذه الحياة الدنيا، ثم لا معاد بعدها ؛ ولهذا قال :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾
ثم قال ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ أي : أوقفوا بين يديه قال :﴿ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ﴾ أي : أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون ؟ ﴿ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ أي : بما١ كنتم تكذبون به، فذوقوا اليوم مَسّه٢ ﴿ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ﴾ [ الطور : ١٥ ]
١ في د، م: "كما"..
٢ في أ: "منه"..
غِبُّ مَا كَانُوا يُبْطِنُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْإِضْرَابِ فِي قَوْلِهِ: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ فَهُم مَا طَلَبُوا الْعَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا رَغْبَةً وَمَحَبَّةً (١) فِي الْإِيمَانِ، بَلْ خَوْفًا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي عَايَنُوهُ جَزَاءَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَسَأَلُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَخَلَّصُوا مِمَّا شَاهَدُوا (٢) مِنَ النَّارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أَيْ: فِي تَمَنِّيهِمُ الرَّجْعَةَ رَغْبَةً وَمَحَبَّةً فِي الْإِيمَانِ.
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُخَالَفَةِ] (٣) ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أَيْ: فِي قَوْلِهِمْ: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ أَيْ: لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ، إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَقَالُوا: ﴿إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا﴾ أَيْ: مَا هِيَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، ثُمَّ لَا مَعَادَ بَعْدَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾
ثُمَّ قَالَ ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ أَيْ: أُوقِفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: ﴿أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: أَلَيْسَ هَذَا الْمَعَادُ بِحَقٍّ وَلَيْسَ بِبَاطِلٍ كَمَا كُنْتُمْ تَظُنُّونَ؟ ﴿قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أَيْ: بِمَا (٤) كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ، فَذُوقُوا الْيَوْمَ مَسّه (٥) ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ [الطَّوْرِ: ١٥]
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ خَسَارة مَنْ كَذَّبَ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَعَنْ خَيْبَتِهِ إِذَا جَاءَتْهُ السَّاعَةُ بَغْتَةً، وَعَنْ نَدَامَتِهِ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنَ الْعَمَلِ، وَمَا أَسْلَفَ مِنْ قَبِيحِ الْفِعَالِ (٦) وَلِهَذَا قَالَ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾
وَهَذَا الضَّمِيرُ يُحْتَمَلُ عَوْدُه عَلَى الْحَيَاةِ [الدُّنْيَا] (٧) وَعَلَى الْأَعْمَالِ، وَعَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ: فِي أَمْرِهَا.
وَقَوْلُهُ ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ أَيْ: يَحْمِلُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْمَلُونَ.
[وَ] (٨) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ قَالَ: ويُستقبل الْكَافِرُ -أَوِ: الْفَاجِرُ - (٩) -عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ كَأَقْبَحِ صُورَةٍ رَآهَا وَأَنْتَنَ (١٠) رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَوْ مَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ إلا أن الله [قد] (١١) قَبَّحَ
(١) زياد من أ.
(٢) في أ: "شاهدوه".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) في د، م: "كما".
(٥) في أ: "منه".
(٦) في أ: "الفعل".
(٧) زيادة من م.
(٨) زيادة من أ.
(٩) في أ: "والفاجر".
(١٠) في أ: رأينها وأنتنه".
(١١) زيادة من م، أ.
وقوله :﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ أي : إنما غالبها كذلك ﴿ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾
وَجْهَكَ ونَتَّن رِيحَكَ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، هَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا خَبِيثَ الْعَمَلِ مُنْتِنَهُ، طَالَمَا (١) رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا، هَلُمَّ أَرْكَبُكَ، فَهُوَ قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ﴾ (٢) (٣)
وَقَالَ أَسْبَاطٌ: عَنِ السُّدِّي أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ظَالِمٍ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ قَبْرَهُ إِلَّا جَاءَهُ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، أَسْوَدُ اللَّوْنِ، مُنْتِنُ الرَّائِحَةِ (٤) عَلَيْهِ ثِيَابٌ دَنِسَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ قَبْرَهُ، فَإِذَا رَآهُ قَالَ: مَا أَقْبَحَ وَجْهُكَ! قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ قَبِيحًا (٥) قَالَ: مَا أَنْتَنَ (٦) رِيحُكَ! قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ مُنْتِنًا (٧) ! قَالَ: مَا أَدْنَسَ ثِيَابُكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَكَ كَانَ دَنِسًا. قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَمَلُكَ! قَالَ: فَيَكُونُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، فَإِذَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَحْمِلُكَ فِي الدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَنْتَ الْيَوْمَ تَحْمِلُنِي. قَالَ: فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَسُوقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ أَيْ: إِنَّمَا غَالِبُهَا كَذَلِكَ ﴿وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾
﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥) ﴾
(١) في أ: "فطال ما".
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) وهذا مرسل، وأبو مرزوق التجيبي، قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به. وقد روى هذا الأثر موقوفا على عمرو بن قيس الملائي دون ذكر أبي مرزوق. ورواه الطبري في تفسيره (١١/٣٢٧) عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَمْرِو به.
(٤) في أ: "الريح".
(٥) في أ: "قبيح" وهو خطأ.
(٦) في أ: "ما أنت".
(٧) في أ: "منتن".
وقوله ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [ وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ] ﴾١ هذه تسلية للنبي٢ صلى الله عليه وسلم وتعزية له فيمن كذبه من قومه، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ووعد له بالنصر كما نصروا، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة، بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ، ثم جاءهم النصر في الدنيا، كما لهم النصر في الآخرة ؛ ولهذا قال :﴿ وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾ أي : التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين، كما قال :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [ الصافات : ١٧١ - ١٧٣ ]، وقال تعالى :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة : ٢١ ].
وقوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ أي : من خبرهم كيف نُصِروا وأُيدوا على من كذبهم من قومهم، فلك فيهم أسوة وبهم قدوة.
١ زيادة من م..
٢ في أ: "لمحمد"..
ثم قال تعالى :﴿ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ﴾ أي : إن كان شق عليك إعراضهم عنك ﴿ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ ﴾ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : النَّفقُ : السّرْب، فتذهب فيه ﴿ فَتَأْتِيَهُمْ١ بِآيَةٍ ﴾ أو تجعل لك سلمًا في السماء فتصعد فيه فتأتيهم٢ بآية أفضل مما آتيتهم به، فافعل.
وكذا قال قتادة، والسُّدِّي، وغيرهما.
وقوله :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ] ٣ [ يونس : ٩٩ ]، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه٤ على الهدى، فأخبر الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول.
١ في أ: "فيذهب فيه "فيأتيهم"..
٢ في أ "فيصعد فيه فيأتيهم".
.

٣ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
٤ في م: "ويبايعوه"..
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ أَيْ: قَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا بِتَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ، وَحُزْنِكَ وَتَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ، ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فَاطِرٍ: ٨] كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٣] ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الْكَهْفِ: ٧]
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أَيْ: لَا يَتَّهِمُونَكَ بِالْكَذِبِ في
250
نَفْسِ الْأَمْرِ ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أَيْ: وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (١) قَالَ قَالَ: أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (٢)
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ (٣)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ الْوَاسِطِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا بِشْر بْنُ المُبَشِّر الْوَاسِطِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فَصَافَحَهُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَا أَرَاكَ تُصَافِحُ هَذَا الصَّابِئَ؟ ! فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُ (٤) إِنَّهُ لَنَبِيٌّ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَبَعًا؟ ! وَتَلَا أَبُو يَزِيدَ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾
قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ: يَعْلَمُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَيَجْحَدُونَ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ حِينَ جَاءَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلِ، هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْر بنِ حَرْب، والأخْنَس بْنُ شِريْق، وَلَا يَشْعُرُ واحدٌ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ. فَاسْتَمَعُوهَا إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا هَجَم الصُّبْحُ تَفرَّقوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ: مَا جَاءَ بِكَ؟ فَذَكَرَ لَهُ مَا جَاءَ لَهُ (٥) ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا، لِمَا يَخَافُونَ مِنْ عِلْمِ شَبَابِ قُرَيْشٍ بِهِمْ، لِئَلَّا يَفْتَتِنُوا (٦) بِمَجِيئِهِمْ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمْ ظَنًا أَنَّ صَاحِبَيْهِ لَا يَجِيئَانِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُهُودِ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا (٧) جَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ جَاؤُوا أَيْضًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا [ثُمَّ تَفَرَّقُوا] (٨)
فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيق أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي (٩) يَا أَبَا حَنْظَلة عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سمعتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُراد بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا. قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ.
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ؟ تَنَازَعْنَا (١٠) نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ: أَطْعَمُوا فأطعمنا،
(١) زيادة من أ.
(٢) رواه الترمذي في السنن برقم (٤٠٦٤) من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان به، وقال الترمذي: "وهذا أصح" والطبري في تفسيره (١١/٣٣٤) من طريق عبد الرحمن بن مهدى - وتابعه يحيى بن آدم - عن سفيان به مرسلا.
(٣) المستدرك (٢/٣١٥) وتعقبه الذهبي بقول: ناجية بن كعب لم يخرجا له شيئا.
(٤) في م، أ "لأعلم".
(٥) في د، أ: "به".
(٦) في د، م: "يفتنوا".
(٧) في د، م: "أصبحوا".
(٨) زيادة من أ.
(٩) في م: "أخبروني".
(١٠) في م، أ: "قال تنازعنا".
251
وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجاثينا عَلَى الرُّكَب، وَكُنَّا كَفَرَسي رِهَان، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ! فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ (١)
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّي، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيق لِبَنِي زُهْرَةَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ كَفَّ (٢) عَنْهُ. فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ تُقَاتِلُوهُ الْيَوْمَ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنْتُمْ أَحَقَّ مَنْ كَفَّ عَنِ ابْنِ أُخْتِهِ قِفُوا هَاهُنَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْحَكَمِ، فَإِنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ رَجَعْتُمْ سَالِمِينَ، وَإِنْ غَلَب مُحَمَّدٌ فَإِنَّ قَوْمَكُمْ لَمْ يَصْنَعُوا بِكُمْ شَيْئًا. فَيَوْمَئِذٍ سُمِّي الْأَخْنَسُ: وَكَانَ اسْمَهُ "أُبَيٌّ" فَالْتَقَى الْأَخْنَسُ وَأَبُو جَهْلٍ، فَخَلَا الْأَخْنَسُ بِأَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ: أُصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لِصَادِقٌ، وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَتْ بَنُو قُصيّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ فَآيَاتُ اللَّهِ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ] ﴾ (٣) هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ (٤) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْزِيَةٌ لَهُ فِيمَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمْرٌ لَهُ بِالصَّبْرِ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَوَعْدٌ لَهُ بِالنَّصْرِ كَمَا نُصِرُوا، وَبِالظَّفَرِ حَتَّى كَانَتْ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، بَعْدَ مَا نَالَهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَالْأَذَى الْبَلِيغِ، ثُمَّ جَاءَهُمُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا لَهُمُ النَّصْرُ فِي الْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ أَيِ: الَّتِي كَتَبَهَا بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١٧١ -١٧٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ٢١].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ أَيْ: مَنْ خَبَرِهِمْ كَيْفَ نُصِروا وأُيدوا عَلَى مَنْ كَذَّبَهُمْ مَنْ قَوْمِهِمْ، فَلَكَ فِيهِمْ أُسْوَةٌ وَبِهِمْ قُدْوَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ أَيْ: إِنْ كَانَ شَقَّ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْكَ ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: النَّفقُ: السّرْب، فَتَذْهَبَ فِيهِ ﴿فَتَأْتِيَهُمْ (٥) بِآيَةٍ﴾ أَوْ تَجْعَلَ لَكَ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَصْعَدَ فِيهِ فَتَأْتِيَهُمْ (٦) بِآيَةٍ أَفْضَلَ مِمَّا آتَيْتَهُمْ بِهِ، فَافْعَلْ.
وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، والسُّدِّي، وغيرهما.
(١) سيرة ابن إسحاق برقم (٢٣٢) طـ - المغرب.
(٢) في د: "ذب"
(٣) زيادة من م.
(٤) في أ: "لمحمد".
(٥) في أ: "فيذهب فيه "فيأتيهم".
(٦) في أ "فيصعد فيه فيأتيهم".
252
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] (١) ﴾ [يُونُسَ: ٩٩]، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَيُتَابِعُوهُ (٢) عَلَى الْهُدَى، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤَمِنُ إِلَّا مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِدُعَائِكَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَيَعِيهِ وَيَفْهَمُهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يس: ٧٠]، وَقَوْلُهُ ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ يَعْنِي: بِذَلِكَ الْكَفَّارَ؛ لِأَنَّهُمْ مَوْتَى الْقُلُوبِ، فَشَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِأَمْوَاتِ (٣) الْأَجْسَادِ فَقَالَ: ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَالِازْدِرَاءِ عَلَيْهِمْ.
﴿وَقَالُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنزلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: ﴿لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ أَيْ: خَارِقٌ عَلَى مُقْتَضَى مَا كَانُوا يُرِيدُونَ، وَمِمَّا يَتَعَنَّتُونَ كَمَا قَالُوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ الْآيَاتِ [الْإِسْرَاءِ: ٩٠].
﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنزلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: هُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ تَعَالَى تَقْتَضِي تَأْخِيرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَهَا (٤) وَفْقَ مَا طَلَبُوا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا، لَعَاجَلَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا فَعَلَ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٥٩]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ أَصْنَافٌ مُصَنَّفة تُعرَف بِأَسْمَائِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الطَّيْرُ أُمَّةٌ، وَالْإِنْسُ أُمَّةٌ، وَالْجِنُّ أُمَّةٌ. وَقَالَ السُّدِّي: ﴿إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ أَيْ: خَلْقٌ أَمْثَالُكُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أَيِ: الْجَمِيعُ عِلْمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يَنْسَى وَاحِدًا مِنْ جَمِيعِهَا مِنْ رِزْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَرِّيًّا أَوْ بَحْرِيًّا، كَمَا قَالَ: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هُودٍ: ٦]،
(١) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٢) في م: "ويبايعوه".
(٣) في أ: "فشبههم بالأموات".
(٤) في أ: "أنزل".
253
أَيْ: مُفصح بِأَسْمَائِهَا وَأَعْدَادِهَا وَمَظَانِّهَا، وَحَاصِرٌ لِحَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا، وَقَالَ [اللَّهُ] (١) تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٠]
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ الْقَيْسِيُّ أَبُو عَبَّادٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَلّ الْجَرَادُ فِي سَنَةٍ مِنْ سِني عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الَّتِي وَلِيَ فِيهَا، فَسَأَلَ عَنْهُ فَلَمْ يُخْبَرْ بِشَيْءٍ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ. فَأَرْسَلَ رَاكِبًا إِلَى كَذَا، وَآخَرَ إِلَى الشَّامِ، وَآخَرَ إِلَى الْعِرَاقِ يَسْأَلُ: هَلْ رُؤِيَ مِنَ الْجَرَادِ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَأَتَاهُ (٢) الرَّاكِبُ الَّذِي مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ بِقَبْضَةٍ جَرَادٍ (٣) فَأَلْقَاهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهَا كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "خَلَق اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَلْفَ أُمَّة، مِنْهَا سِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَأَرْبَعُمِائَةٍ فِي البرِّ. وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَهْلِكُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الْجَرَادُ، فَإِذَا هَلَكَتْ تَتَابَعَتْ مِثْلَ النِّظَامِ إِذَا قُطِعَ سِلْكُهُ (٤).
وَقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ قَالَ: حَشْرها الموتُ.
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ عَنْ (٥) سَعِيدٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: موتُ الْبَهَائِمِ حَشْرُها. وَكَذَا رَوَاهُ العُوفِيّ، عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ، مِثْلُهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ حَشْرَهَا هُوَ بَعْثُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [التَّكْوِيرِ: ٥]
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شعبة، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُنْذِر الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُمْ، عَنْ أَبِي ذرٍّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِ فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ "لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا" (٦)
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا (٧) عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذِ انْتَطَحَتْ عَنزان، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتُدْرُونَ فِيمَ انْتَطَحَتَا؟ " قَالُوا: لَا نَدْرِي. قَالَ: "لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أبي ذر، فذكره
(١) زيادة من م.
(٢) في م، أ: "قال: فأتاه".
(٣) في أ: "بقبضة من جراد"
(٤) مسند أبي يعلى الكبير كما في مجمع الزوائد (٧/٣٢٢) ورواه ابن عدى في الكامل (٥/٣٥٢) والخطيب في تاريخ بغداد (١١/٢١٨) من طريق عبيد بن واقد، عن محمد بن عيسى به، وفي إسناده عبيد بن واقد ومحمد بن عيسى وهما ضعيفان..
(٥) في أ: بن".
(٦) المسند (٥/١٦٢) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٣٥٢) :"رجاله رجال الصحيح، وفيه راو لم يسم".
(٧) في أ: "نحن".
254
وَزَادَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَلَقَدْ تَرَكَنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُقَلِّب طَائِرٌ بِجَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا ذَكَّرَنَا مِنْهُ عِلمًا (١)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ: حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو يَحْيَى الْبَزَّارُ قَالَا حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ نُصير، حَدَّثَنَا شُعْبَة، عَنِ العَوَّام بْنِ مَراجم (٢) -مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ -عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدي، عَنْ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الجَمَّاء لَتَقْتَصُّ مِنَ الْقُرَنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (٣)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَان، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ قَالَ: يُحْشَرُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْبَهَائِمُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَكُلُّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ للجمَّاء مِنَ الْقُرَنَاءِ. قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا. فَلِذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النَّبَأِ: ٤٠]، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا فِي حَدِيثِ الصُّوَرِ (٤)
وَقَوْلُهُ ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ أَيْ: مَثَلُهُمْ فِي جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ كَمَثَلِ أَصَمَّ -وَهُوَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ -أَبْكَمَ -وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ -وَهُوَ مَعَ هَذَا فِي ظَلَامٍ لَا يُبْصِرُ، فَكَيْفَ يَهْتَدِي مِثْلُ هَذَا إِلَى الطَّرِيقِ، أَوْ يُخْرج مِمَّا هُوَ فِيهِ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى (٥) ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٧، ١٨]، ﴾ وَكَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٦) ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النُّورِ: ٤٠] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أَيْ: هو المتصرف في خلقه بما يشاء.
(١) تفسير عبد الرزاق (١/٢٠٠) وتفسير الطبري (١١/٣٤٨)
(٢) في م، أ: "مزاحم".
(٣) المسند (١/٧٢) وفي إسناده حجاج بن نصير وهو ضعيف، وله شاهد من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، هو الحديث الآتي بعده.
(٤) تفسير عبد الرزاق (١/٢٠٠) ومن طريقه الطبري في تفسيره (١١/٣٤٧).
(٥) في د، م: "كقوله".
(٦) زيادة من م، أ.
255
وقوله :﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ قال مجاهد : أي أصناف مُصَنَّفة تُعرَف بأسمائها. وقال قتادة : الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة. وقال السُّدِّي :﴿ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ أي : خلق أمثالكم.
وقوله :﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ أي : الجميع علمهم عند الله، ولا ينسى واحدًا من جميعها من رزقه وتدبيره، سواء كان بريًا أو بحريًا، كما قال :﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [ هود : ٦ ]، أي : مُفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها، وقال [ الله ]١ تعالى : ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [ العنكبوت : ٦٠ ]
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان، حدثنا محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال : قَلّ الجراد في سنة من سِني عمر، رضي الله عنه، التي ولي فيها، فسأل عنه فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك. فأرسل راكبًا إلى كذا، وآخر إلى الشام، وآخر إلى العراق يسأل : هل رؤى من الجراد شيء أم لا ؟ فأتاه٢ الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة جراد٣ فألقاها بين يديه، فلما رآها كبر ثلاثًا، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" خَلَق الله، عَزَّ وجل، ألف أُمَّة، منها ستمائة في البحر، وأربعمائة في البرِّ. وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد، فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه٤.
وقوله ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله :﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ قال : حَشْرها الموتُ.
وكذا رواه ابن جرير من طريق إسرائيل عن٥ سعيد، عن مسروق، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال : موتُ البهائم حَشْرُها. وكذا رواه العُوفِيّ، عنه.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والضحاك، مثله.
والقول الثاني : إن حشرها هو بعثها يوم القيامة كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾ [ التكوير : ٥ ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن مُنْذِر الثوري، عن أشياخ لهم، عن أبي ذرٍّ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال :" يا أبا ذر، هل تدر فِيمَ تنتطحان ؟ " قال : لا. قال " لكن الله يدري، وسيقضي بينهما " ٦
ورواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الأعمش، عمن ذكره عن أبي ذر قال : بينا أنا٧ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عَنزان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أتدرون فِيمَ انتطحتا ؟ " قالوا : لا ندري. قال :" لكن الله يدري، وسيقضي بينهما ". رواه ابن جرير، ثم رواه من طريق منذر الثوري، عن أبي ذر، فذكره وزاد : قال أبو ذر : ولقد تَرَكَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يُقَلِّب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكرنا منه عِلمًا٨
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثني عباس بن محمد وأبو يحيى البزار قالا حدثنا حجاج بن نُصير، حدثنا شُعْبَة، عن العَوَّام بن مَراجم٩ - من بني قيس بن ثعلبة - عن أبي عثمان النَّهْدي، عن عثمان، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة " ١٠
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر، عن جعفر بن بُرْقَان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة في قوله :﴿ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجمَّاء من القرناء. قال : ثم يقول : كوني ترابًا. فلذلك يقول الكافر :﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [ النبأ : ٤٠ ]، وقد روي هذا مرفوعًا في حديث الصور١١
١ زيادة من م..
٢ في م، أ: "قال: فأتاه"..
٣ في أ: "بقبضة من جراد".
٤ مسند أبي يعلى الكبير كما في مجمع الزوائد (٧/٣٢٢) ورواه ابن عدى في الكامل (٥/٣٥٢) والخطيب في تاريخ بغداد (١١/٢١٨) من طريق عبيد بن واقد، عن محمد بن عيسى به، وفي إسناده عبيد بن واقد ومحمد بن عيسى وهما ضعيفان...
٥ في أ: بن"..
٦ المسند (٥/١٦٢) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٣٥٢): "رجاله رجال الصحيح، وفيه راو لم يسم"..
٧ في أ: "نحن".
.

٨ تفسير عبد الرزاق (١/٢٠٠) وتفسير الطبري (١١/٣٤٨).
٩ في م، أ: "مزاحم"..
١٠ المسند (١/٧٢) وفي إسناده حجاج بن نصير وهو ضعيف، وله شاهد من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، هو الحديث الآتي بعده..
١١ تفسير عبد الرزاق (١/٢٠٠) ومن طريقه الطبري في تفسيره (١١/٣٤٧)..
وقوله ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾ أي : مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم - وهو الذي لا يسمع - أبكم - وهو الذي لا يتكلم - وهو مع هذا في ظلام لا يبصر، فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق، أو يُخْرج مما هو فيه ؟ كما قال تعالى١ ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [ البقرة : ١٧، ١٨ ]، ﴾ وكما قال [ تعالى ]٢ ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [ النور : ٤٠ ] ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ أي : هو المتصرف في خلقه بما يشاء.
١ في د، م: "كقوله"..
٢ زيادة من م، أ.
.

﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) ﴾
﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ أي : في وقت الضرورة لا تدعون أحدا سواه وتذهب عنكم أصنامكم وأندادكم كما قال :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ﴾ الآية [ الإسراء : ٦٧ ].
وقوله :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ ﴾ يعني : الفقر والضيق في العيش ﴿ وَالضَّرَّاءِ ﴾ وهي الأمراض والأسقام والآلام ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ أي : يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون.
قال الله تعالى :﴿ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ أي : فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا١ ﴿ وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي : ما رقت ولا خشعت ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أي : من الشرك والمعاصي.
١ في أ: "لدينا"..
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ أي : أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي : فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون، وهذا١ استدراج منه تعالى وإملاء لهم، عياذا بالله من مكره ؛ ولهذا قال :﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ﴾ أي : من الأموال والأولاد والأرزاق ﴿ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ أي : على غفلة ﴿ فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ أي : آيسون من كل خير.
قال الوالبي، عن ابن عباس : المبلس : الآيس.
وقال الحسن البصري : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به، فلا رأي له. ومن قَتَر عليه فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ :﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ قال الحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة ؛ أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. رواه ابن أبي حاتم.
وقال قتادة : بَغَت القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعيمهم٢ فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. رواه ابن أبي حاتم أيضًا.
وقال مالك، عن الزهري :﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ قال : إرخاء٣ الدنيا وسترها.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان، حدثنا رِشْدِين - يعني ابن سعد أبا الحجاج المهري - عن حَرْمَلَة بن عمران التُّجِيبي، عن عُقْبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا رأيت الله يُعْطِي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو اسْتِدْرَاج ". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث حَرْمَلة وابن لَهِيعة، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، به٤
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عِرَاك بن خالد بن يزيد، حدثني أبي، عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن عبادة بن الصامت [ رضي الله عنه ]٥ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :" إن الله [ تبارك وتعالى ]٦ إذا أراد الله بقوم بقاء - أو : نماء - رزقهم القصد والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعًا فتح لهم - أو فتح عليهم - باب خيانة " ٧
﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ كما قال :﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ورواه أحمد وغيره.
١ في أ: "وهو"..
٢ في أ: "ونعمتهم"..
٣ في أ: "أرجاء"
.

٤ المسند (٤/١٥٤) وتفسير الطبري (١١/٣٦١) ورواه الدولابي (١/١١١) من طريق حجاج بن سليمان، عن حرملة بن عمران به، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر برقم (٣٢) من طريق بشر بن عمر، عن عبد الله بن لهيعة، عن عقبة بن مسلم به..
﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لَا مُعقِّب لِحُكْمِهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى صَرْفِ حُكْمِهِ عَنْ خَلْقِهِ، بَلْ هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ يُجِيبُ لِمَنْ يَشَاءُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ﴾ أَيْ: أَتَاكُمْ هَذَا أَوْ هَذَا (١) ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ: لَا تَدْعُونَ غَيْرَهُ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ ذلك سواه؛ ولهذا قال: إن ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ: فِي اتِّخَاذِكُمْ آلِهَةً مَعَهُ.
﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ لَا تَدْعُونَ أَحَدًا سِوَاهُ وَتَذْهَبُ عَنْكُمْ أَصْنَامُكُمْ وَأَنْدَادُكُمْ كَمَا قَالَ: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ﴾ الْآيَةَ [الْإِسْرَاءِ: ٦٧].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ﴾ يَعْنِي: الْفَقْرَ وَالضِّيقَ فِي الْعَيْشِ ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ وَهِيَ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ أَيْ: يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ وَيَخْشَعُونَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ أَيْ: فَهَلَّا إِذِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ تَضَرَّعُوا إِلَيْنَا وَتَمَسْكَنُوا إِلَيْنَا (٢) ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أَيْ: مَا رَقَّتْ وَلَا خَشَعَتْ ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي.
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْهُ وَتَنَاسَوْهُ وَجَعَلُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أَيْ: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ مِنْ كُلِّ مَا يَخْتَارُونَ، وَهَذَا (٣) اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ تَعَالَى وَإِمْلَاءٌ لَهُمْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ مَكْرِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾ أَيْ: مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْزَاقِ ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ أَيْ: عَلَى غَفْلَةٍ ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ أَيْ: آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
قَالَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُبْلِسُ: الْآيِسُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَمْكُرُ بِهِ، فَلَا رَأْيَ لَهُ. وَمَنْ قَتَر عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَنْظُرُ لَهُ، فَلَا رَأْيَ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: مَكَرَ بِالْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ؛ أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: بَغَت القومَ أمرُ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ قَوْمًا قَطُّ إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ (٤) فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قَالَ: إِرْخَاءُ (٥) الدُّنْيَا وَسَتْرُهَا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلان، حَدَّثَنَا رِشْدِين -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمَهْرِيَّ -عَنْ حَرْمَلَة بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبي، عَنْ عُقْبة بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي العبدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعاصيه مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاج". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾
(١) في أ: "وهذا".
(٢) في أ: "لدينا".
(٣) في أ: "وهو".
(٤) في أ: "ونعمتهم".
(٥) في أ: "أرجاء"
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ حَرْمَلة وَابْنِ لَهِيعة، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، بِهِ (١)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عِرَاك بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلة، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٢) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ [تَبَارَكَ وَتَعَالَى] (٣) إذا أراد الله بِقَوْمٍ بَقَاءً -أَوْ: نَمَاءً -رَزَقَهُمُ الْقَصْدَ وَالْعَفَافَ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ اقْتِطَاعًا فَتَحَ لَهُمْ -أَوْ فَتْحَ عَلَيْهِمْ -بَابَ خِيَانَةٍ" (٤)
﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ كَمَا قَالَ: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) ﴾
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ [مُحَمَّدٍ] (٥) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ﴾ أي: سلبكم إياها كما أعطاكموها فإنه ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ [وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ] (٦) ﴾ [الْمُلْكِ: ٣٣].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا الِانْتِفَاعَ الشَّرْعِيَّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ كَمَا قَالَ: ﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ﴾ [يُونُسَ: ٣١]، وَقَالَ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٢٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ أَيْ: هَلْ أَحُدٌ غَيْرُ اللَّهِ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ إِذَا سَلَبَهُ اللَّهُ مِنْكُمْ؟ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ [عَزَّ شَأْنُهُ] (٧) ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ أَيْ: نُبَيِّنُهَا وَنُوَضِّحُهَا وَنُفَسِّرُهَا دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ ﴿ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ أَيْ: ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ يُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِهِ.
قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿يَصْدِفُونَ﴾ أَيْ يَعْدِلُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: يُعْرِضُونَ: وَقَالَ
(١) المسند (٤/١٥٤) وتفسير الطبري (١١/٣٦١) ورواه الدولابي (١/١١١) من طريق حجاج بن سليمان، عن حرملة بن عمران به، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر برقم (٣٢) من طريق بشر بن عمر، عن عبد الله بن لهيعة، عن عقبة بن مسلم به.
(٢) زيادة من أ.
(٣) زيادة من أ.
(٤) ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (٣/٢٧٠).
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٧) زيادة من أ.
وقوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً ﴾ أي : وأنتم لا تشعرون به حتى بغتكم وفجأكم.
﴿ أَوْ جَهْرَةً ﴾ أي : ظاهرًا عيانًا ﴿ هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ﴾ أي : إنما : كان يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله [ عَزَّ وجل ]١ وينجو الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. كما قال تعالى ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ] ٢ [ الأنعام : ٨٢ ].
١ زيادة من أ..
٢ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
وقوله :﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ أي : مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات. ولهذا قال [ سبحانه وتعالى ]١ ﴿ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ ﴾ أي : فمن آمن قلبه بما جاءوا به وأصلح٢ عمله باتباعه إياهم، ﴿ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ أي : بالنسبة إلى ما يستقبلونه ﴿ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ أي : بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها، الله وليهم فيما خلفوه، وحافظهم فيما تركوه.
١ زيادة من أ..
٢ في م، أ: "وصلح"..
ثم قال :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ أي : ينالهم العذاب بما كفروا بما جاءت به الرسل، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته، وارتكبوا محارمه١ ومناهيه٢ وانتهاك حرماته.
١ في م، أ: "من محارمه"..
٢ في م: "ونواهيه".
.

السُّدِّي: يَصُدُّونَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً﴾ أَيْ: وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ بِهِ حَتَّى بَغَتَكُمْ وَفَجَأَكُمْ.
﴿أَوْ جَهْرَةً﴾ أَيْ: ظَاهِرًا عَيَانًا ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا: كَانَ يُحِيطُ بِالظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ [عَزَّ وَجَلَّ] (١) وَيَنْجُو الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] (٢) ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٨٢]..
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ أَيْ: مُبَشِّرِينَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَيْرَاتِ وَمُنْذِرِينَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ النِّقَمَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ. وَلِهَذَا قَالَ [سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى] (٣) ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾ أَيْ: فَمَنْ آمَنَ قَلْبُهُ بِمَا جَاءُوا بِهِ وَأَصْلَحَ (٤) عَمَلَهُ بِاتِّبَاعِهِ إِيَّاهُمْ، ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَسْتَقْبِلُونَهُ ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَاتَهُمْ وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَصَنِيعِهَا، اللَّهُ وَلِيُّهُمْ فِيمَا خَلَّفُوهُ، وَحَافِظُهُمْ فِيمَا تَرَكُوهُ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ أَيْ: يَنَالُهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَفَرُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَخَرَجُوا عَنْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَارْتَكَبُوا مَحَارِمَهُ (٥) وَمَنَاهِيهِ (٦) وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ.
﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) ﴾
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في م، أ: "وصلح".
(٥) في م، أ: "من محارمه".
(٦) في م: "ونواهيه".
وقوله :﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ﴾ أي : وأنذر بهذا القرآن يا محمد ﴿ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٧ ] والذين ﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ﴾ [ الرعد : ٢١ ].
﴿ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ أي : يوم القيامة. ﴿ لَيْسَ لَهُمْ ﴾ أي : يومئذ ﴿ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ﴾ أي : لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي : أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله، عَزَّ وجل ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال الإمام أحمد : حدثنا أسباط - هو ابن محمد - حدثنا أشعث، عن كُرْدُوس، عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده : خَبَّاب، وصُهَيْب، وبلال، وعمار. فقالوا : يا محمد، أرضيت بهؤلاء ؟ فنزل فيهم٣ القرآن :﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ إلى قوله :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾٤ ٥
ورواه ابن جرير، من طريق أشعث، عن كردوس، عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده : صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا : يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ ونحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية :﴿ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ إلى آخر الآية٦


جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقال ابن جرير : حدثنا القاسم : حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرِمة في قوله :﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ الآية، قال : جاء عُتْبَة بن رَبيعة، وشَيْبَة بن ربيعة، ومُطعِم بن عَدِيّ، والحارث بن نَوْفَل، وقَرَظَة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا، كان أعظم٦ في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، وتصديقنا له. قال : فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه٧ فقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه : لو فعلت ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلى ما يصيرون من قولهم ؟ فأنزل الله،
عَزَّ وجل، هذه الآية :﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ] ﴾٨ إلى قوله :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ قال : وكانوا بلالا وعمار بن ياسر، وسالمًا مولى أبي حذيفة، وصبيحا مولى أسيد، ومن الحلفاء : ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاري، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، وذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد - وأبو مرثد من غنى حليف حمزة بن عبد المطلب - وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء :﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ﴾ الآية. فلما نزلت، أقبل عمر، رضي الله عنه، فاعتذر من مقالته، فأنزل الله، عَزَّ وجل :﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا [ فَقُلْ سَلامٌ ] ﴾٩ الآية١٠

وقوله :﴿ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ أي : لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفة عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك، كما قال :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [ الكهف : ٢٨ ].
وقوله ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾ أي : يعبدونه ويسألونه ﴿ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ قال سعيد بن المسيب، ومجاهد، والحسن، وقتادة : المراد بذلك الصلوات المكتوبات.
وهذا كقوله [ تعالى ]١ ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [ غافر : ٦٠ ] أي : أتقبل منكم.
وقوله :﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ أي : يبتغون بذلك العمل وجه الله الكريم، فهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات.
وقوله :﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ كما قال نوح، عليه السلام، في جواب الذين قالوا :﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ ﴾ [ قال ]٢ ﴿ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴾ [ الشعراء : ١١٢، ١١٣ ]، أي : إنما حسابهم على الله، عَزَّ وجل، وليس على من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء.
وقوله :﴿ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ أي : إن فعلت هذا والحالة هذه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال الإمام أحمد : حدثنا أسباط - هو ابن محمد - حدثنا أشعث، عن كُرْدُوس، عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده : خَبَّاب، وصُهَيْب، وبلال، وعمار. فقالوا : يا محمد، أرضيت بهؤلاء ؟ فنزل فيهم٣ القرآن :﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ إلى قوله :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾٤ ٥
ورواه ابن جرير، من طريق أشعث، عن كردوس، عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده : صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا : يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ ونحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية :﴿ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ إلى آخر الآية٦


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، حدثنا أسباط بن نصر، عن السُّدِّي، عن أبي سعيد الأزدي - وكان قارئ الأزد - عن أبي الكنود، عن خباب في قول الله، عَزَّ وجل :﴿ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين٧ فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم، فأتوه فخلوا به، وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال :" نعم ". قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا، قال : فدعا بالصحيفة ودعا عليًا ليكتب، ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل فقال :﴿ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ] ﴾٨ فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة، ثم دعانا فأتيناه.
ورواه ابن جرير، من حديث أسباط، به. ٩
وهذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر.
وقال سفيان الثوري عن المقدام بن شريح، عن أبيه قال : قال سعد : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم ابن مسعود، قال : كنا نسبق إلى النبي١٠ صلى الله عليه وسلم، وندنو منه ونسمع منه، فقالت قريش : يدني هؤلاء دوننا، فنزلت :﴿ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾
رواه الحاكم في مستدركه من طريق سفيان، وقال : على شرط الشيخين. وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق المقدام بن شريح، به١١
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقال ابن جرير : حدثنا القاسم : حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرِمة في قوله :﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ الآية، قال : جاء عُتْبَة بن رَبيعة، وشَيْبَة بن ربيعة، ومُطعِم بن عَدِيّ، والحارث بن نَوْفَل، وقَرَظَة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا، كان أعظم٦ في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، وتصديقنا له. قال : فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه٧ فقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه : لو فعلت ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلى ما يصيرون من قولهم ؟ فأنزل الله،
عَزَّ وجل، هذه الآية :﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ] ﴾٨ إلى قوله :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ قال : وكانوا بلالا وعمار بن ياسر، وسالمًا مولى أبي حذيفة، وصبيحا مولى أسيد، ومن الحلفاء : ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاري، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، وذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد - وأبو مرثد من غنى حليف حمزة بن عبد المطلب - وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء :﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ﴾ الآية. فلما نزلت، أقبل عمر، رضي الله عنه، فاعتذر من مقالته، فأنزل الله، عَزَّ وجل :﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا [ فَقُلْ سَلامٌ ] ﴾٩ الآية١٠

١ زيادة من أ..
٢ زيادة من م، أ.
.

٧ في أ: "المسلمين"..
٨ زيادة من م، أ، وفي هـ: " الآية"..
٩ ورواه ابن ماجة في السنن برقم (٤١٢٧) من طريق أحمد بن محمد بن يحيى القطان به، وقال البوصيري في الزوائد (٣/٢٧٦): "هذا إسناد صحيح"..
١٠ في م، أ: "إلى رسول الله".
.

١١ المستدرك (٣/٣١٩)..
﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ أَيْ: لَسْتُ أَمْلِكُهَا وَلَا أَتَصَرَّفُ (١) فِيهَا، ﴿وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ أَيْ: وَلَا أَقُولُ: إِنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ إِنَّمَا ذَاكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لَا أَطَّلِعُ مِنْهُ إِلَّا عَلَى مَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ، ﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ أَيْ: وَلَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ، إِنَّمَا أَنَا بشر من
(١) في م: "ولا أنا المتصرف".
258
الْبَشَرِ، يُوحيَ إليَّ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، شَرَّفَنِي بِذَلِكَ، وَأَنْعَمَ عَلَيَّ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ أَيْ: لَسْتُ أَخْرُجُ عَنْهُ قَيْدَ شِبْرٍ وَلَا أَدْنَى مِنْهُ.
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ أَيْ: هَلْ يَسْتَوِي مَنِ اتَّبَعَ الْحَقَّ وهُديَ إِلَيْهِ، وَمَنْ ضَلَّ عَنْهُ وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ؟ ﴿أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ﴾ وَهَذِهِ (١) كَقَوْلِهِ (٢) تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ﴾ [الرَّعْدِ: ١٩].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾ أَيْ: وَأَنْذِرْ بِهَذَا الْقُرْآنِ يَا مُحَمَّدُ ﴿الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٧] والذين ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ [الرَّعْدِ: ٢١].
﴿الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ﴿لَيْسَ لَهُمْ﴾ أَيْ: يَوْمَئِذٍ ﴿مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾ أَيْ: لَا قَرِيبَ لَهُمْ وَلَا شَفِيعَ فِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ إِنْ أَرَادَهُ بِهِمْ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أَيْ: أَنْذِرْ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي لَا حَاكِمَ فِيهِ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ فَيَعْمَلُونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَمَلًا يُنْجِيهِمُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَيُضَاعِفُ لَهُمْ بِهِ الْجَزِيلَ مِنْ ثَوَابِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ أَيْ: لَا تُبْعِدْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَنْكَ، بَلِ اجْعَلْهُمْ جُلَسَاءَكَ وَأَخِصَّاءَكَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الْكَهْفِ: ٢٨].
وَقَوْلُهُ ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ أَيْ: يَعْبُدُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ ﴿بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] (٣) ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غَافِرٍ: ٦٠] أَيْ: أَتَقَبَّلُ مِنْكُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ أَيْ: يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ وَجْهَ اللَّهِ الْكَرِيمَ، فَهُمْ مُخْلِصُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ كَمَا قَالَ نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي جَوَابِ الَّذِينَ قَالُوا: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ [قَالَ] (٤) ﴿وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١١٢، ١١٣]، أَيْ: إِنَّمَا حِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ عَلَيَّ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِي مِنْ شَيْءٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ: إِنْ فَعَلْتَ هَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ -هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ -حَدَّثَنَا أَشْعَثُ، عَنْ كُرْدُوس، عَنِ ابْنِ مسعود
(١) في م: "وهو".
(٢) في أ: "لقوله"
(٣) زيادة من أ.
(٤) زيادة من م، أ.
259
قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ: خَبَّاب، وصُهَيْب، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ. فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ؟ فَنَزَلَ فِيهِمُ (١) الْقُرْآنُ: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ (٢) (٣)
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنْ كُرْدُوسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ: صُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ، وَخَبَّابٌ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ؟ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟ وَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ؟ اطْرُدْهُمْ عَنْكَ، فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (٤)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، حدثنا أسباط بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّي، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ -وَكَانَ قَارِئَ الْأَزْدِ -عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فَوَجَدُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ قَاعِدًا فِي نَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٥) فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقَّرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ، وَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ. قَالَ: "نَعَمْ". قَالُوا: فَاكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ كِتَابًا، قَالَ: فَدَعَا بِالصَّحِيفَةِ وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ، وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ] ﴾ (٦) فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّحِيفَةِ، ثُمَّ دَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ، بِهِ. (٧)
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ إِنَّمَا أَسْلَمَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِدَهْرٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ سَعْدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا نَسْبِقُ إِلَى النَّبِيِّ (٨) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَدْنُو مِنْهُ وَنَسْمَعُ مِنْهُ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: يُدْنِي هَؤُلَاءِ دُونَنَا، فَنَزَلَتْ: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾
(١) في د: "عليهم".
(٢) في أ: "والله أعلم بالظالمين" وهو خطأ.
(٣) المسند (١/٤٢٠) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢١) :"رجال أحمد رجال الصحيح غير كردوس وهو ثقة".
(٤) تفسير الطبري (١١/٣٧٤).
(٥) في أ: "المسلمين".
(٦) زيادة من م، أ، وفي هـ: " الآية".
(٧) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (٤١٢٧) من طريق أحمد بن محمد بن يحيى القطان به، وقال البوصيري في الزوائد (٣/٢٧٦) :"هذا إسناد صحيح".
(٨) في م، أ: "إلى رسول الله".
260
رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، بِهِ (١)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ أَيِ: ابْتَلَيْنَا وَاخْتَبَرْنَا وَامْتَحَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴿لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان غَالِبَ مَنِ اتَّبَعَهُ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ، ضُعَفَاءُ النَّاسِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَلَمْ يَتْبَعْهُ مِنَ الْأَشْرَافِ إِلَّا قَلِيلٌ، كَمَا قَالَ قومُ نُوحٍ لِنُوحٍ: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ الْآيَةَ [هُودٍ: ٢٧]، وَكَمَا قَالَ (٢) هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ سَأَلَهُ [عَنْ تِلْكَ] (٣) الْمَسَائِلَ، فَقَالَ لَهُ: فَهَلِ (٤) اتَّبَعَهُ ضُعَفَاءُ النَّاسِ أَوْ أَشْرَافُهُمْ؟ قَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. فَقَالَ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ (٥)
وَالْغَرَضُ: أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَانُوا يَسْخَرُونَ بِمَنْ آمَنَ مِنْ ضُعَفَائِهِمْ، وَيُعَذِّبُونَ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ ؟ أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَهْدِيَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْخَيْرِ -لَوْ كَانَ مَا صَارُوا إِلَيْهِ خَيْرًا -وَيَدَعَنَا، كَمَا قَالُوا: ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الْأَحْقَافِ: ١١]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٧٣].
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ ذَلِكَ: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا﴾ [مَرْيَمَ: ٧٤]، وَقَالَ فِي جَوَابِهِمْ حِينَ قَالُوا: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ أَيْ: أَلَيْسَ هُوَ أَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ لَهُ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ، فَيُوَفِّقُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩]. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَا إِلَى أَلْوَانِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" (٦)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عِكْرِمة فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: جَاءَ عُتْبَة بْنُ رَبيعة، وشَيْبَة بْنُ رَبِيعَةَ، ومُطعِم بْنُ عَدِيّ، وَالْحَارِثُ بْنُ نَوْفَل، وقَرَظَة بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ، فِي أَشْرَافٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ مُحَمَّدًا يَطْرُدُ عَنْهُ مُوَالِيَنَا وَحُلَفَاءَنَا، فَإِنَّمَا هُمْ عَبِيدُنَا وَعُسَفَاؤُنَا، كَانَ أَعْظَمَ (٧) فِي صُدُورِنَا، وَأَطْوَعَ لَهُ عِنْدَنَا، وَأَدْنَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ، وَتَصْدِيقِنَا لَهُ. قَالَ: فَأَتَى أَبُو طَالِبٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِالَّذِي كَلَّمُوهُ (٨) فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ، حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي يُرِيدُونَ، وَإِلَى مَا يَصِيرُونَ مِنْ قولهم؟ فأنزل الله،
(١) المستدرك (٣/٣١٩).
(٢) في م، أ: "سأل".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في أ: "هل"
(٥) القصة في صحيح البخاري برقم (٧) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٦) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٥٦٤).
(٧) في أ: "أعظم له".
(٨) في أ: "كلموه به".
261
عَزَّ وَجَلَّ، هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ] ﴾ (١) إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ قَالَ: وَكَانُوا بِلَالًا وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَصُبَيْحًا مَوْلَى أُسَيْدٍ، وَمِنَ الْحُلَفَاءِ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَسْعُودُ بْنُ الْقَارِّيِّ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنْظَلِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَذُو الشِّمَالَيْنِ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ -وَأَبُو مَرْثَدٍ مِنْ غَنِيٍّ حَلِيفِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -وَأَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْحُلَفَاءِ. وَنَزَلَتْ فِي أَئِمَّةِ الْكُفْرِ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْمَوَالِي وَالْحُلَفَاءِ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ الْآيَةَ. فَلَمَّا نَزَلَتْ، أَقْبَلَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاعْتَذَرَ مِنْ مَقَالَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا [فَقُلْ سَلامٌ] ﴾ (٢) الْآيَةَ (٣)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: فَأَكْرِمْهُمْ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ، وبَشَّرهم بِرَحْمَةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ الشَّامِلَةِ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ أَيْ: أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَامْتِنَانًا ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ، فَهُوَ جَاهِلٌ.
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ (٤) أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمة فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ قَالَ: الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
﴿ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ﴾ أَيْ: رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ عَلَى أَلَّا يَعُودَ وَأَصْلَحَ الْعَمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ همَّام بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ (٥) غَضَبِي". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (٦) وَهَكَذَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (٧) وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٨) بِذَلِكَ (٩)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه، مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ، أَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً أَوْ قَبْضَتَيْنِ فَيُخْرِجُ مِنَ النار خلقًا لم يعملوا خيرًا،
(١) زيادة من م، أ.
(٢) زيادة من، م، أ.
(٣) تفسير الطبري (١١/٣٧٩).
(٤) في أ: "عن".
(٥) في أ: "سبقت"
(٦) المسند (٢/٣١٣) ورواه البخاري في صحيحه برقم (٣١٩٤) ومسلم في صحيحه برقم (٢٧٥١) من وجوه أخرى عن أبي هريرة.
(٧) رواه البخاري في صحيحه برقم (٧٤٠٤)
(٨) زيادة من م، أ.
(٩) رواه أحمد في مسنده (٢/٤٣٣).
262
وقوله :﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ أي : فأكرمهم برد السلام عليهم، وبَشَّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم ؛ ولهذا قال :﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ أي : أوجبها على نفسه الكريمة، تفضلا منه وإحسانًا وامتنانًا ﴿ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ﴾ قال بعض السلف : كل من عصى الله، فهو جاهل.
وقال معتمر بن سليمان، عن الحكم بن١ أبان، عن عِكْرِمة في قوله :﴿ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ﴾ قال : الدنيا كلها جهالة. رواه ابن أبي حاتم.
﴿ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ ﴾ أي : رجع عما كان عليه من المعاصي، وأقلع وعزم على ألا يعود وأصلح العمل في المستقبل، ﴿ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر، عن همَّام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما قَضَى الله الخَلْقَ، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت٢ غضبي ". أخرجاه في الصحيحين٣ وهكذا رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة٤ ورواه موسى بن عقبة عن الأعرج، عن أبي هريرة. وكذا رواه الليث وغيره، عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم٥ بذلك٦
وقد روى ابن مَرْدُوَيه، من طريق الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق، أخرج كتابًا من تحت العرش : إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلقًا لم يعملوا خيرًا، مكتوب بين أعينهم. عُتَقَاء الله ".
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان النَّهْدِي، عن سلمان في قوله :﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ قال : إنا نجد في التوراة عطفتين : أن الله خلق السماوات والأرض، وخلق مائة رحمة - أو : جعل مائة رحمة - قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق، فوضع بينهم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون وبها يتزاورون، وبها تحِنّ الناقة، وبها تَثِجُّ البقرة، وبها تثغو الشاة، وبها تَتَابعُ الطير، وبها تَتَابع الحيتان في البحر. فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع.
وقد روي هذا مرفوعا من وجه آخر٧ وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله :﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ]
ومما يناسب هذه الآية [ الكريمة ]٨ من الأحاديث أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل :" أتدري ما حق الله على العباد ؟ أن يعبدوه لا٩ يشركوا به شيئا "، ثم قال :" أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ؟ ألا يعذبهم " ١٠ وقد رواه الإمام أحمد، من طريق كميل بن زياد، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]١١ ١٢
١ في أ: "عن"..
٢ في أ: "سبقت".
٣ المسند (٢/٣١٣) ورواه البخاري في صحيحه برقم (٣١٩٤) ومسلم في صحيحه برقم (٢٧٥١) من وجوه أخرى عن أبي هريرة..
٤ رواه البخاري في صحيحه برقم (٧٤٠٤).
٥ زيادة من م، أ..
٦ رواه أحمد في مسنده (٢/٤٣٣).
.

٧ رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٧٥٣) من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله مائة رحمة، فمنها رحمة بها يتراحم الخلق، وتسعة وتسعون ليوم القيامة"..
٨ زيادة من أ..
٩ في أ: "ولا"..
١٠ رواه البخاري في صحيحه برقم (٧٣٧٣) ومسلم في صحيحه برقم (٣٠)..
١١ زيادة من أ..
١٢ المسند (٢/٣٠٩).
مَكْتُوبٌ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ. عُتَقَاء اللَّهِ".
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِي، عَنْ سَلْمَانَ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ عَطْفَتَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَخَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ -أَوْ: جَعَلَ مِائَةَ رَحْمَةٍ -قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَوَضَعَ بَيْنَهُمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً. قَالَ فَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَبَاذَلُونَ وَبِهَا يَتَزَاوَرُونَ، وَبِهَا تحِنّ النَّاقَةُ، وَبِهَا تَثِجُّ الْبَقَرَةُ، وَبِهَا تَثْغُو الشَّاةُ، وَبِهَا تَتَابعُ الطَّيْرُ، وَبِهَا تَتَابع الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَمَعَ اللَّهُ تِلْكَ الرَّحْمَةَ إِلَى مَا عِنْدَهُ، وَرَحْمَتُهُ أَفْضَلُ وَأَوْسَعُ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (١) وَسَيَأْتِي كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُوَافِقَةِ لِهَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٥٦]
وَمِمَّا يُنَاسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ [الْكَرِيمَةَ] (٢) مِنَ الْأَحَادِيثِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: "أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ أَنْ يَعْبُدُوهُ لَا (٣) يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا"، ثُمَّ قَالَ: "أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ" (٤) وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ طَرِيقِ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٥) (٦)
﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٥٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا بَيَّنَا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى طَرِيقِ الْهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ، وَذَمِّ الْمُجَادَلَةِ وَالْعِنَادِ، ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ أَيِ: الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُخَاطَبُونَ إِلَى بَيَانِهَا ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ أَيْ: وَلِتَظْهَرَ (٧) طَرِيقُ الْمُجْرِمِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ، وَقُرِئَ: "وَلِيَسْتَبِينَ (٨) سَبِيلُ المجرمين"
(١) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٧٥٣) من طريق سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنِ سلمان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن لله مائة رحمة، فمنها رحمة بها يتراحم الخلق، وتسعة وتسعون ليوم القيامة".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في أ: "ولا".
(٤) رواه البخاري في صحيحه برقم (٧٣٧٣) ومسلم في صحيحه برقم (٣٠).
(٥) زيادة من أ.
(٦) المسند (٢/٣٠٩)
(٧) في م، أ: "وليظهر".
(٨) في أ: "ولتستبين".
263
أَيْ: وَلِيَسْتَبِينَ يَا مُحَمَّدُ -أَوْ يَا مُخَاطَبُ -سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ أَيْ: عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ الَّتِي أَوْحَاهَا إِلَيَّ ﴿وَكَذَّبْتُمْ بِهِ﴾ أَيْ: بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَنِي مِنْ [عِنْدِ] (١) اللَّهِ ﴿مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ أَيْ: مِنَ الْعَذَابِ، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَرْجِعُ أَمْرُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَجَّل لَكُمْ مَا سَأَلْتُمُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْظَرَكُمْ وَأَجَّلَكُمْ؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ. وَلِهَذَا قَالَ ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ أَيْ: وَهُوَ خَيْرُ مَنْ فَصَلَ الْقَضَايَا، وَخَيْرُ الْفَاتِحِينَ الْحَاكِمِينَ بَيْنَ عِبَادِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أَيْ: لَوْ كَانَ مَرْجِعُ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِلَيَّ، لَأَوْقَعْتُ بِكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ ذَلِكَ ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْب، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لقيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي على ابن عبد يا ليل ابْنِ عَبْدِ كُلال، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أردتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أظَلَّتْني، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَك الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ". قَالَ: "فَنَادَانِي مَلَك الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ (٢) إِلَيْكَ، لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَطْبَقْتُ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ، لَا (٣) يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ (٤)
فَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ عَذَابَهُمْ وَاسْتِئْصَالَهُمْ، فَاسْتَأْنَى بِهِمْ، وَسَأَلَ لَهُمُ التَّأْخِيرَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ ؟
فَالْجَوَابُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّت عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَيْهِ وقوعُ الْعَذَابِ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ حالَ طَلبهم لَهُ، لَأَوْقَعَهُ بِهِمْ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ، بَلْ عَرَضَ عَلَيْهِ مَلَك الْجِبَالِ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ -وَهُمَا جَبَلَا مَكَّةَ اللَّذَانِ يَكْتَنِفَانِهَا جَنُوبًا (٥) وَشَمَالًا -فَلِهَذَا اسْتَأْنَى بِهِمْ وَسَأَلَ الرِّفْقَ لَهُمْ (٦)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٣٤] (٧).
(١) زيادة من أ.
(٢) في أ: "ربي".
(٣) في أ: "ولا".
(٤) صحيح البخاري برقم (٣٢٣١) وصحيح مسلم برقم (١٧٩٥).
(٥) في د: "يمينا".
(٦) في أ: "الرفق بهم".
(٧) صحيح البخاري برقم (٤٦٢٧).
264
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (١) أَنَّ جِبْرِيلَ حِينَ تَبدَّى لَهُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ فَسَأَلَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما قَالَ لَهُ: "خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ "، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ الْآيَةَ [لُقْمَانَ: ٣٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ أَيْ: يُحِيطُ عِلْمُهُ الْكَرِيمُ (٢) بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، بَريها وَبَحْرِيِّهَا (٣) لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الصّرْصَريّ:
فَلا يَخْفَى عَلَيْهِ الذَّر إمَّا... تَرَاءىَ لِلنَّوَاظِرِ أَوْ تَوَارى...
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا﴾ أَيْ: وَيَعْلَمُ الْحَرَكَاتِ حَتَّى مِنَ الْجَمَادَاتِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْحَيَوَانَاتِ، وَلَا سِيَّمَا الْمُكَلَّفُونَ مِنْهُمْ مِنْ جِنِّهِمْ وَإِنْسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غَافِرٍ: ١٩].
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبيع، حَدَّثَنَا أَبُو الأحْوَص، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ حَسَّانَ النَّمَرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا﴾ قَالَ: مَا مِنْ شَجَرَةٍ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَمَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا، يَكْتُبُ مَا يُسْقُطُ (٤) مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ النَّضْرِ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: إِنَّ تَحْتَ الْأَرْضِ الثَّالِثَةِ وَفَوْقَ الرَّابِعَةِ مِنَ الْجِنِّ مَا لَوْ أَنَّهُمْ ظَهَرُوا -يَعْنِي لَكُمْ -لَمْ تَرَوْا مَعَهُمْ نُورًا، عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْأَرْضِ (٥) خَاتَمٌ مِنْ خَوَاتِيمِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى كُلِّ خَاتَمِ مَلَك مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَبْعَثُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَلَكًا مِنْ عِنْدِهِ: أَنِ احْتَفِظْ بِمَا عِنْدَكَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ المِسوَر الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْر، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَارث قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ وَلَا مغْرَز إِبْرَةٍ إِلَّا عَلَيْهَا (٦) مَلَكٌ مُوَكَّلٌ يَأْتِي اللَّهَ بِعِلْمِهَا: رُطُوبَتِهَا إِذَا رَطِبَتْ، ويَبَسها إِذَا يَبِسَتْ.
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَّانِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ سُعَيْرٍ، بِهِ (٧)
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكر عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَجُلٍ عَنْ
(١) زيادة من أ.
(٢) في م، أ: "العظيم".
(٣) في د: "بحرها وبرها".
(٤) في أ: "ما سقط".
(٥) في م، أ: "من زواياها".
(٦) في أ: "إلا وعليها".
(٧) تفسير الطبري (١١/٤٠٤).
265
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ النُّونَ -وَهِيَ الدَّوَاةُ -وَخَلَقَ الْأَلْوَاحَ، فَكَتَبَ فِيهَا أَمْرَ الدُّنْيَا حَتَّى يَنْقَضِيَ مَا كَانَ مِنْ خَلْقٍ مَخْلُوقٍ، أَوْ رِزْقِ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، أَوْ عَمَلِ بِرٍّ أَوْ فُجُورٍ (١) وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا﴾ إلى آخر الآية.
(١) في م: "بحر".
266
وقوله :﴿ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ﴾ أي : على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إلي ﴿ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ﴾ أي : بالحق الذي جاءني من [ عند ]١ الله ﴿ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ أي : من العذاب، ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ﴾ أي : إنما يرجع أمر ذلك إلى الله إن شاء عَجَّل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجلكم ؛ لما له في ذلك من الحكمة العظيمة. ولهذا قال ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾ أي : وهو خير من فصل القضايا، وخير الفاتحين الحاكمين بين عباده.
١ زيادة من أ..
وقوله :﴿ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي : لو كان مرجع ما تستعجلون به إلي، لأوقعت بكم ما تستحقونه من ذلك ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾
فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق ابن وَهْب، عن يونس، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة ؛ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال :" لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة ؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ". قال :" فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال : يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك١ إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت ؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا٢ يشرك به شيئا "، وهذا لفظ مسلم٣
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم، فاستأنى بهم، وسأل لهم التأخير، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا. فما الجمع بين هذا، وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾ ؟
فالجواب - والله أعلم - : أن هذه الآية دَلَّت على أنه لو كان إليه وقوعُ العذاب الذي يطلبونه حالَ طَلبهم له، لأوقعه بهم. وأما الحديث، فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه مَلَك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين - وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا٤ وشمالا - فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم٥
١ في أ: "ربي"..
٢ في أ: "ولا"..
٣ صحيح البخاري برقم (٣٢٣١) وصحيح مسلم برقم (١٧٩٥)..
٤ في د: "يمينا"..
٥ في أ: "الرفق بهم"..
وقوله :﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ ﴾ قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله :﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [ لقمان : ٣٤ ]١.
وفي حديث عمر [ رضي الله عنه ]٢ أن جبريل حين تَبدَّى له في صورة أعرابي فسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له :" خمس لا يعلمهن إلا الله "، ثم قرأ :﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾ الآية [ لقمان : ٣٤ ].
وقوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ أي : يحيط علمه الكريم٣ بجميع الموجودات، بَريها وبحريها٤ لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وما أحسن ما قال الصّرْصَريّ :
فَلا يَخْفَى عليه الذَّر إمَّا تَرَاءىَ للنواظر أو تَوَارى
وقوله :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا ﴾ أي : ويعلم الحركات حتى من الجمادات، فما ظنك بالحيوانات، ولا سيما المكلفون منهم من جنهم وإنسهم، كما قال تعالى :﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [ غافر : ١٩ ].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الرَّبيع، حدثنا أبو الأحْوَص، عن سعيد بن مسروق، عن حسان النمري، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا ﴾ قال : ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وملك موكل بها، يكتب ما يسقط٥ منها.
وقوله :﴿ وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ قال محمد بن إسحاق، عن يحيي بن النضر، عن أبيه، سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن ما لو أنهم ظهروا - يعني لكم - لم تروا معهم نورًا، على كل زاوية من زوايا الأرض٦ خاتم من خواتيم الله، عَزَّ وجل، على كل خاتم مَلَك من الملائكة يبعث الله، عَزَّ وجل، إليه في كل يوم ملكا من عنده : أن احتفظ بما عندك.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المِسوَر الزهري : حدثنا مالك بن سُعَيْر، حدثنا الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحَارث قال : ما في الأرض من شجرة ولا مغْرَز إبرة إلا عليها٧ ملك موكل يأتي الله بعلمها : رطوبتها إذا رطبت، ويَبَسها إذا يبست.
وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني، عن مالك بن سعير، به٨
ثم قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن أبي حذيفة، حدثنا سفيان، عن عمرو بن قيس، عن رجل عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال : خلق الله النون - وهي الدواة - وخلق الألواح، فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق، أو رزق حلال أو حرام، أو عمل بر أو فجور٩ وقرأ هذه الآية :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا ﴾ إلى آخر الآية.
١ صحيح البخاري برقم (٤٦٢٧).
.

٢ زيادة من أ..
٣ في م، أ: "العظيم"..
٤ في د: "بحرها وبرها"..
٥ في أ: "ما سقط"..
٦ في م، أ: "من زواياها"..
٧ في أ: "إلا وعليها"..
٨ تفسير الطبري (١١/٤٠٤)..
٩ في م: "بحر".
.

﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (٦٢) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَتَوَفَّى عِبَادَهُ فِي مَنَامِهِمْ بِاللَّيْلِ، وَهَذَا هُوَ التَّوَفِّي الْأَصْغَرُ (١) كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا] (٢) ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٥]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الزُّمَرِ: ٤٢]، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَفَاتَيْنِ: الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ حُكْمَ الْوَفَاتَيْنِ الصُّغْرَى ثُمَّ الْكُبْرَى، فَقَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ أَيْ: وَيَعْلَمُ مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالنَّهَارِ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دَلَّتْ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، فِي حَالِ سُكُونِهِمْ وَفِي حَالِ حَرَكَتِهِمْ، كَمَا قَالَ: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ [الرَّعْدِ: ١٠]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ أَيْ: فِي اللَّيْلِ ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ [الْقَصَصِ: ٧٣] أَيْ: فِي النَّهَارِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النَّبَأِ: ١٠، ١١] ؛؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ أَيْ: مَا كَسَبْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ أَيْ: فِي النَّهَارِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ (٣) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ: أَيْ فِي الْمَنَامِ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه بِسَنَدِهِ (٤) عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكٌ إِذَا نَامَ أَخَذَ نَفْسَهُ، ويُرَد إِلَيْهِ. فَإِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي قَبْضِ رُوحِهِ قَبَضَهُ، وَإِلَّا رُدَّ إِلَيْهِ"، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾
وَقَوْلُهُ ﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ يَعْنِي بِهِ: أَجَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ﴾ (٥) أَيْ: فَيُخْبِرُكُمْ ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: وَيَجْزِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًا فشر.
(١) في أ: "الصغير".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في أ: "جرير".
(٤) ورواه أبو الشيخ كما في الدر المنثور (٣/٢٨٠) وفي إسناده انقطاع بين الضحاك وابن عباس.
(٥) في أ: "فينبئكم" وهو خطأ.
266
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ أَيْ: هُوَ الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَضَعَ لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ كُلُّ شَيْءٍ.
﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾ أَيْ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَ بَدَنَ الْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (١) ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرَّعْدِ: ١١]، وَحَفَظَةً يَحْفَظُونَ عَمَلَهُ وَيُحْصُونَهُ [عَلَيْهِ] (٢) كَمَا قَالَ: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * [كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ] (٣) ﴾ [الِانْفِطَارِ: ١٠ -١٢]، وَقَالَ: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٧، ١٨].
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أَيْ: [إِذَا] (٤) احْتَضَرَ وَحَانَ أَجَلُهُ ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ أَيْ: مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَعْوَانٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يُخْرِجُونَ الرُّوحَ مِنَ الْجَسَدِ، فَيَقْبِضُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ إِذَا انْتَهَتْ إِلَى الْحُلْقُومِ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] (٥) ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٧]، الْأَحَادِيثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذَلِكَ، الشَّاهِدَةُ لِهَذَا الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ بِالصِّحَّةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ أَيْ: فِي حِفْظِ رُوحِ الْمُتَوَفَّى، بَلْ يَحْفَظُونَهَا وَيُنْزِلُونَهَا حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، إِنْ كَانَ مِنَ الْأَبْرَارِ فَفِي عِلِّيِّينَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُجَّارِ فَفِي سِجِّينٍ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ﴿ثُمَّ رُدُّوا﴾ يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ ﴿إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ﴾
وَنَذْكُرُ هَاهُنَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذِكْرِ صُعُودِ الْمَلَائِكَةِ بِالرُّوحِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ] (٦) حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَج بِهَا إِلَى السَّماء فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فَلَانٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً وأبْشري بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ، قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٍ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فَلَانٌ، فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) زيادة من م، أ، وفي هـ "الآية".
(٤) زيادة من أ.
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من م.
267
وقوله :﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ أي : هو الذي قهر كل شيء، وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء.
﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾ أي : من الملائكة يحفظون بدن الإنسان، كما قال [ تعالى ]١ ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [ الرعد : ١١ ]، وحفظة يحفظون عمله ويحصونه [ عليه ]٢ كما قال :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ] ٣ [ الانفطار : ١٠ - ١٢ ]، وقال :﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ ق : ١٧، ١٨ ].
وقوله :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ أي :[ إذا ]٤ احتضر وحان أجله ﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ أي : ملائكة موكلون بذلك.
قال ابن عباس وغير واحد : لملك الموت أعوان من الملائكة، يخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم وسيأتي عند قوله تعالى :﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ] ٥ [ إبراهيم : ٢٧ ]، الأحاديث المتعلقة بذلك، الشاهدة لهذا المروي عن ابن عباس وغيره بالصحة.
وقوله :﴿ وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ﴾ أي : في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله، عَزَّ وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين، عياذا بالله من ذلك.
١ زيادة من أ..
٢ زيادة من م، أ..
٣ زيادة من م، أ، وفي هـ "الآية"..
٤ زيادة من أ..
٥ زيادة من أ..
وقوله :﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ﴾ قال ابن جرير :﴿ ثُمَّ رُدُّوا ﴾ يعني : الملائكة ﴿ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ﴾
ونذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد [ عن أبي هريرة في ذكر صعود الملائكة بالروح من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عَزَّ وجل ]١ حيث قال : حدثنا حسين بن محمد، حدثنا ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يَسَار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يُعْرَج بها إلى السَّماء فيستفتح لها، فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان، فيقال : مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة وأبْشري بروح وريحان ورب غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عَزَّ وجل. وإذا كان الرجل السوء، قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان، فيقال : لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء. فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول٢
هذا حديث غريب٣
ويحتمل أن يكون المراد بقوله :﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ يعني : الخلائق كلهم إلى الله يوم القيامة، فيحكم فيهم بعدله، كما قال [ تعالى ]٤ ﴿ قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ [ الواقعة : ٤٩، ٥٠ ]، وقال ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ إلى قوله :﴿ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٧ - ٤٩ ] ؛ ولهذا قال :﴿ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾
١ زيادة من م.
.

٢ في أ: "الثاني"..
٣ المسند (٢/٣٦٤، ٣٦٥)..
٤ زيادة من أ..
الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً، فَإِنَّهُ لَا يُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ. فَتُرْسَلُ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيَجْلِسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيُقَالُ لَهُ مِثْلَ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَيَجْلِسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فَيُقَالُ لَهُ مِثْلَ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ (١)
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ (٢)
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ يَعْنِي: الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِعَدْلِهِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٣) ﴿قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٤٩، ٥٠]، وَقَالَ ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الْكَهْفِ: ٤٧ -٤٩] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾
﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ فِي إِنْجَائِهِ الْمُضْطَرِّينَ مِنْهُمْ ﴿مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ أَيِ: الْحَائِرِينَ الْوَاقِعِينَ فِي الْمَهَامِهِ الْبَرِّيَّةِ، وَفِي اللُّجُجِ الْبَحْرِيَّةِ إِذَا هَاجَتِ الرِّيحُ (٤) الْعَاصِفَةُ، فَحِينَئِذٍ يُفْرِدُونَ الدُّعَاءَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ [فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا] ﴾ (٥) [الْإِسْرَاءِ: ٦٧] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ (٦) [يُونُسَ: ٢٢] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النَّمْلِ: ٦٣].
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ أَيْ: جَهْرًا وَسِرًّا ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ﴾ أَيْ: مِنْ هَذِهِ الضَّائِقَةِ ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ أَيْ: بَعْدَهَا، قَالَ اللَّهُ [تَعَالَى] (٧) ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ﴾ أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ ﴿تُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: تَدْعُونَ مَعَهُ فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ آلهة أخرى.
(١) في أ: "الثاني".
(٢) المسند (٢/٣٦٤، ٣٦٥).
(٣) زيادة من أ.
(٤) في د: "الرياح".
(٥) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٦) في م، أ: "مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ".
(٧) زيادة من م، أ.
268
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ لَمَّا قَالَ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا [مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] ﴾ (١) أَيْ: بَعْدَ إِنْجَائِهِ إِيَّاكُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٦٦ -٦٩].
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هَارُونُ الْأَعْوَرُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ: هَذِهِ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ [فِي قَوْلِهِ] (٢) ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَفَا عَنْهُمْ.
وَنَذْكُرُ هُنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ وَالْآثَارَ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ يَلْبِسَكُمْ: يَخْلِطَكُمْ، مِنَ الِالْتِبَاسِ، يَلْبِسوا: يَخْلطُوا. شِيَعًا: فِرَقًا.
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعُوذُ بِوَجْهِكَ". ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ: "أَعُوُذُ بِوَجْهِكَ". ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذِهِ أَهْوَنُ -أَوْ قَالَ: هَذَا أَيْسَرُ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَيْضًا فِي "كِتَابِ التَّوْحِيدِ" عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، بِهِ (٣)
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ [أَيْضًا] (٤) فِي "التَّفْسِيرِ"، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ، وَيَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ (٥) أَرْبَعَتُهُمْ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعَ جَابِرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي يَعْلَى الْمُوصِلِيِّ، عَنْ أَبِي خيثمة، عن سفيان بن عيينة، به.
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) صحيح البخاري برقمي (٤٦٢٨)، (٧٤٠٦)
(٤) زيادة من أ.
(٥) في أ: "عدي".
269
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَسُفْيَانَ بْنِ وَكِيع، كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه، مِنْ حَدِيثِ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَعَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ.
وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بِهِ (١)
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مقدام ابن دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا بن لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ" ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ" ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ قَالَ: "هَذَا أَيْسَرُ"، وَلَوِ اسْتَعَاذَهُ لَأَعَاذَهُ (٢)
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ [الْكَرِيمَةِ] (٣) أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ:
أَحَدُهَا: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ -عَنْ رَاشِدٍ -هُوَ ابْنُ سَعْدٍ الْمُقْرَئِيُّ -عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٤) قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ فَقَالَ: "أَمَا إِنَّهَا كَائِنَةٌ، وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ".
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، بِهِ (٥) ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. [جِدًّا] (٦)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى -هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ -حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ عَامِرِ ابن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّيْنَا مَعَهُ، فَنَاجَى رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، طَوِيلًا قَالَ (٧) سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا "سَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا".
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، فَرَوَاهُ (٨) فِي "كِتَابِ الْفِتَنِ" عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابن نُمَيْرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ -وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ، عن مروان بن معاوية،
(١) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١١٦٤) ومسند الحميدي (٢/٥٣٠) ومسند أبي يعلى (٣/٣٦٢) وتفسير الطبري (١١/٤٢٢)
(٢) وفي إسناده عبد الله بن لهيعة وقد اختلط.
(٣) زيادة من أ.
(٤) زيادة من أ.
(٥) المسند (١/١٧٠) وسنن الترمذي برقم (٣٠٦٦).
(٦) زيادة من أ.
(٧) في أ: "ثم قال"
(٨) في أ: "ورواه".
270
كِلَاهُمَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، بِهِ (١)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي بَنِي مُعَاوِيَةَ -قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْأَنْصَارِ -فَقَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي (٢) أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِكُمْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الثَّلَاثُ الَّتِي دَعَا بِهِنّ فِيهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَأَخْبَرَنِي (٣) بِهِنَّ، فَقُلْتُ (٤) دَعَا أَلَّا يُظْهِر عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ، فَأُعْطِيْهِمَا، وَدَعَا بِأَنْ لَا يُجْعَلَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمُنِعَهَا. قَالَ: صَدَقْتَ، فَلَا يَزَالُ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (٥)
لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ حُنَيف (٦) عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنِي حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَرَّةِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَأَطَالَ فِيهِنَّ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: حَبَسْتُكَ؟ قَلْتُ (٧) اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُهُ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِي (٨) وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَهُمْ بِغَرَقٍ، فَأَعْطَانِي. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِي".
رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ (٩)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، عَنْ رَجَاءٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلُبُهُ فَقِيلَ لِي: خَرَجَ قَبْلُ. قَالَ: فَجَعَلْتُ لَا أَمُرُّ بِأَحَدٍ إِلَّا قَالَ: مَرَّ قَبْلُ. حَتَّى مَرَرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَائِمًا يُصَلِّي. قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى قُمْتُ خَلْفَهُ، قَالَ: فَأَطَالَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا قَضَى صلاته (١٠) قلت: يا رسول الله، لقد صليت صَلَاةً طَوِيلَةً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي صَلَّيْتُ صَلَاةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، سَأَلْتُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي غَرَقًا، فَأَعْطَانِي (١١) وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُظْهِر عَلَيْهِمْ عَدُوًّا لَيْسَ مِنْهُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَرَدَّهَا عَلَيَّ".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي "الْفِتَنِ" عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عن الأعمش، به (١٢)
(١) المسند (١/١٧٥) وصحيح مسلم برقم (٢٨٩٠).
(٢) في أ: "ترى".
(٣) في م، أ: "قال: فأخبرني".
(٤) في م: "فقال".
(٥) المسند (٥/٤٤٥) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢١) :"رجاله ثقات".
(٦) في أ: "عن خصيف".
(٧) في أ: "حسبك يا حذيفة فقلت".
(٨) في أ: "فأعطانيها".
(٩) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠/٣١٨) من طريق عبد الله بن نمير عن محمد بن إسحاق به.
(١٠) في جـ: "الصلاة".
(١١) في أ: "فأعطانيها".
(١٢) المسند (٥/٢٤٠) وسنن ابن ماجه برقم (٣٩٥١).
271
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (١) بْنِ عُمَيْر، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِثْلِهِ أَوْ نَحْوَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْر (٢) بْنِ الْأَشَجِّ، أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيَّ حَدَّثَهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ صَلَّى سُبْحَة الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنِّي صَلَّيْتُ صَلَاةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُهُ أَلَّا يَبْتَلِيَ أُمَّتِي بِالسِّنِينَ، فَفَعَلَ. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، فَفَعَلَ. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَلْبِسَهُم شِيَعًا، فَأَبَى عَلَيَّ".
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الصَّلَاةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، بِهِ. (٣)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِيهِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ -مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَنَّهُ قَالَ: رَاقَبْتُ (٤) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ صَلَّاهَا كُلَّهَا، حَتَّى كَانَ مَعَ الْفَجْرِ فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صِلَاتِهِ، قُلْتُ (٥) يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتَ اللَّيْلَةَ صَلَاةً مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ مِثْلَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَجَلْ، إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَب ورَهَب. سَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَلَّا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرِنَا، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَلَّا يَلْبِسَنَا شِيَعًا، فَمَنَعَنِيهَا".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، بِهِ (٦) وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، بِإِسْنَادَيْهِمَا عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ -وَالتِّرْمِذِيُّ فِي "الْفِتَنِ" مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ -كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (٧) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ (٨) الْمُزَنِيُّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً تَامَّةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَقَالَ: "قَدْ كَانَتْ صَلَاةَ رَغْبَة ورَهْبَة، سَأَلْتُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، فِيهَا ثَلَاثًا، أَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يُصِيبَكُمْ بِعَذَابٍ أَصَابَ بِهِ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْكُمْ عَدُوًّا يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَكُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا". قَالَ أَبُو مَالِكٍ: فَقُلْتُ لَهُ: أَبُوكَ سَمِعَ هَذَا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؟
(١) في م: "عبد الملك".
(٢) في أ: "بكر".
(٣) المسند (٢/١٤٦).
(٤) في م: "وافيت".
(٥) في أ: "فقلت"
(٦) المسند (٥/١٠٨) وسنن النسائي (٣/٢١٦).
(٧) النسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (٣/١١٥) وصحيح ابن حبان (٩/١٨٠) "الإحسان"، وسنن الترمذي برقم (٢١٧٥)
(٨) في أ: "عبد الله".
272
فَقَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ بِهَا الْقَوْمَ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (١)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ مَعْمَر، أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحْبي، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أوْس؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْك أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوي لِي مِنْهَا، وَإِنِّي أُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَبْيَضَ وَالْأَحْمَرَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بسنَة بِعَامَّةٍ وَأَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا فَيُهْلِكَهُمْ بِعَامَّةٍ، وَأَلَّا يلبسهم شيعا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ. وَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ ألا أهلكتهم (٢) بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِمَّنْ سِوَاهُمْ فَيُهْلِكَهُمْ بِعَامَّةٍ، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وَبَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا". قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَإِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، فَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي، لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (٣)
لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَإِسْنَادُهُ (٤) جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ ابن زَيْدٍ، وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَقَتَادَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبان، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ (٥) فَاللَّهُ أَعْلَمُ (٦)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيُّ وَمَيْمُونُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْحَسَنِ الْحَنَفِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ -وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (٧) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ -: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، صَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً تَامَّةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قَالَ: فَجَلَسَ يَوْمًا فَأَطَالَ الْجُلُوسَ حَتَّى أَوْمَأَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ: أَنِ اسْكُتُوا، إِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَطَلْتَ الْجُلُوسَ حَتَّى أَوْمَأَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ: إِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْكَ. قَالَ: "لَا وَلَكِنَّهَا كَانَتْ صَلَاةَ رَغْبة وَرَهْبَةٍ، سَأَلْتُ اللَّهَ فِيهَا ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يُعَذِّبَكُمْ بِعَذَابٍ عَذَّبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. أَلَّا يُسَلِّطَ (٨) عَلَى أُمَّتِي (٩) عَدُوًّا يَسْتَبِيحُهَا، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَلْبسَكم شِيعًا وَأَلَّا يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمَنَعَنِيهَا"، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَبُوكَ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عدد أصابعي هذه، عشر أصابع (١٠)
(١) تفسير الطبري (١١/٤٣٣) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٤/١٩٢) والبزار في مسنده برقم (٣٢٨٩) "كشف الأستار" من طريق مروان بن معاوية به.
(٢) في م، أ: "يهلكهم".
(٣) المسند (٤/١٢٣) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢١) :"رجال أحمد رجال الصحيح"
(٤) في أ: "وإسناد".
(٥) ورواه مسلم في صحيحه برقم (٢٨٨٩) من طريق حماد بن زيد به ورواه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي قلابة به ولم يذكر أيوب.
(٦) في أ: "والله أعلم".
(٧) في م، أ: "النبي".
(٨) في م، أ: "فأعطانيها، وسألته ألا يسلط".
(٩) في م: "عامتكم".
(١٠) ورواه البزار في مسنده برقم (٣٢٨٩) "كشف الأستار" والطبراني في المعجم الكبير (٤/١٩٢) من طريق أبي مالك الأشجعي عن نافع عن أبيه به.
273
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ -هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ -حَدَّثَنَا لَيْثٌ -هُوَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ، عَنْ أَبِي بَصْرَة الْغِفَارِيِّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن رسول الله ﷺ قَالَ: "سَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَرْبَعًا فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَلَّا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ كَمَا أَهْلَكَ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، أَلَّا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فَمَنَعَنِيهَا" (١)
لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ الثَّعْلَبِيُّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاقة، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَة السَّوَائي، عَنْ عَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٢) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثَ خِصَالٍ فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، لَا تُهْلِكْ أُمَّتِي جُوعًا فَقَالَ: هَذِهِ لَكَ. قُلْتُ: يَا رَبِّ، لَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ -يَعْنِي أَهْلَ الشِّرْكِ -فَيَجْتَاحَهُمْ. قَالَ ذَلِكَ لَكَ (٣) قُلْتُ: يَا رَبِّ، لَا تَجْعَلْ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ". قَالَ: "فَمَنَعَنِي هَذِهِ" (٤)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَعَوْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِي أَرْبَعًا، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ، وَأَبَى عَلَيَّ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ. دَعَوْتُ رَبِّي أَنْ يَرْفَعَ الرَّجْمَ (٥) مِنَ السَّمَاءِ، وَالْغَرَقَ مِنَ الْأَرْضِ، وألا يلبسهم شيعا، وألا يذيق بعضهم بأس بَعْضٍ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْغَرَقَ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ اثْنَتَيْنِ: الْقَتْلَ، والهَرج".
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ (٦) حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُنِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَا تُرْسِلْ عَلَى أُمَّتِي عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ، وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَلَا تَلْبِسْهُمْ شِيَعًا، وَلَا تُذِقْ (٧) بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ" قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ الله قد أجار أمتك أن يرسل
(١) المسند (٦/٣٩٦) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٢/٢٨٠) من طريق الليث به.
تنبيه: وقع في المسند كما هو هنا: "أبو وهب الخولاني" وفي المعجم الكبير للطبراني: "أبو هانئ الخولاني" وهو الصحيح، كما ذكره المزى في تهذيب الكمال (٧/٤٠١) وابن عبد البر في الاستغناء (٢/٩٧٦).
(٢) زيادة من أ.
(٣) في م: "لك ذلك".
(٤) المعجم الكبير للطبراني (١/١٠٧) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢٢) :" فيه أبو حذيفة الثعلبي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
(٥) في م، أ: "يرفع عنهم الرجم".
(٦) في أ: "يزيد".
(٧) في أ: "لا تذيق" وهو خطأ.
274
عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (١)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ العَنْقَزِي، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّي، عَنْ أَبِي المِنْهَال، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَرْبَعَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُهُ أَلَّا تَكْفُرَ أُمَّتِي وَاحِدَةً، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ بِمَا عَذَّبَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا".
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القطَّان، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ (٢)
طَرِيقٌ أُخْرَى: وَقَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيب، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُباب، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ رَبَاحٍ مَوْلَى آلِ أَبِي ذُبَاب، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً. سَأَلْتُهُ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ (٣) فَأَعْطَانِي. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ، فَأَعْطَانِي. وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَلْبِسَهُمْ (٤) شِيَعًا وَأَلَّا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَمَنَعَنِي".
ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ (٥) بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ (٦)
أَثَرٌ آخَرُ: قَالَ سُفْيَانُ، الثَّوْرِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أَرْبَعَةٌ مِنْ (٧) هَذِهِ الْأُمَّةِ: قَدْ مَضَتْ ثِنْتَانِ، وَبَقِيَتْ ثِنْتَانِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ قَالَ: الرَّجْمُ. ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ: الْخَسْفُ. ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي: الرَّجْمَ وَالْخَسْفَ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ: فَهِيَ أَرْبَعُ خِلَالٍ، مِنْهَا ثِنْتَانِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، أُلبِسوا شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا وَاقِعَتَانِ (٨) الرجم والخسف.
(١) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١١/٣٧٤) من طريق أبي الدرداء المروزي به، وفي إسناده من لم أعرفهم.
(٢) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٣٣٦) "مجمع البحرين" من طريق القطيعي عن عمرو بن محمد العنقزي به. قال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢٢) :"رجاله ثقات".
(٣) في أ: " من غيرهم فأعطاني".
(٤) في م: "يلبسها".
(٥) في أ: "عمرو".
(٦) مسند البزار برقم (٣٢٩٠) "كشف الأستار".
(٧) في أ: "في".
(٨) في أ: "وقفتان".
275
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيع، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ [عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا] ﴾ (١) الْآيَةَ، قَالَ: حُبِسَتْ عُقُوبَتُهَا حَتَّى عُمِلَ ذَنْبُهَا، فَلَمَّا عُمِلَ ذَنْبُهَا أُرْسِلَتْ عُقُوبَتُهَا.
وَهَكَذَا (٢) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَأَبُو مَالِكٍ وَمُجَاهِدٌ، والسُّدِّي وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ يَعْنِي: الرَّجْمَ. ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ يَعْنِي: الْخَسْفَ. وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قوله: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ: كَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٣) يَصِيحُ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ -أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ -يَقُولُ: أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ.
إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] ﴾ (٤) لَوْ جَاءَكُمْ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، لَمْ يُبْقِ مِنْكُمْ أَحَدًا ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ لَوْ خَسَفَ (٥) بِكُمُ الْأَرْضَ أَهْلَكَكُمْ، لَمْ يُبْقِ مِنْكُمْ أَحَدًا ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ أَلَا إِنَّهُ نَزَلَ بِكُمْ أَسْوَأُ الثَّلَاثِ.
قَوْلٌ ثَانٍ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، سَمِعْتُ خَلَّادَ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ فَأَمَّا الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِكُمْ، فَأَئِمَّةُ السُّوءِ ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ فَخَدَمُ السُّوءَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ يَعْنِي: أُمَرَاءَكُمْ. ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ يَعْنِي: عَبِيدَكُمْ وَسَفَلَتَكُمْ.
وَحَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ وَعُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ وَأَقْوَى.
وَهُوَ كَمَا قَالَ (٦) ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * [وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ] (٧) ﴾ [الْمُلْكِ: ١٦ -١٨]، وَفِي الْحَدِيثِ: "لِيَكُونَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَذْفٌ وخَسْفٌ ومَسْخٌ" (٨) وَذَلِكَ مَذْكُورٌ مَعَ نَظَائِرِهِ فِي أَمَارَاتِ الساعة وأشراطها وظهور الآيات
(١) زيادة من م، أ.
(٢) في أ: "وكذا".
(٣) زيادة من أ.
(٤) زيادة من أ.
(٥) في م، أ: "يخسف".
(٦) في أ: "قاله".
(٧) زيادة من م، أ.
(٨) رواه أحمد في مسنده (٢/١٦٣) من حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
276
قال الله [ تعالى ]١ ﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ ﴾ أي : بعد ذلك ﴿ تُشْرِكُونَ ﴾ أي : تدعون معه في حال الرفاهية آلهة أخرى.
١ زيادة من م، أ.
.

وقوله :﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ لما قال :﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ عقبه بقوله :﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا [ مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ] ﴾١ أي : بعد إنجائه إياكم، كما قال في سورة سبحان :﴿ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ﴾ [ الإسراء : ٦٦ - ٦٩ ].
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم، حدثنا هارون الأعور، عن جعفر بن سليمان، عن الحسن في قوله :﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ قال : هذه للمشركين.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد [ في قوله ]٢ ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم.
ونذكر هنا الأحاديث الواردة في ذلك والآثار، وبالله المستعان، وعليه التكلان، وبه الثقة.
قال البخاري، رحمه الله، في قوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ يلبسكم : يخلطكم، من الالتباس، يَلْبِسوا : يَخْلطُوا. شيعًا : فرقًا.
حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أعوذ بوجهك ". ﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ قال :" أعوذ بوجهك ". ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هذه أهون - أو قال : هذا أيسر ".
وهكذا رواه أيضا في " كتاب التوحيد " عن قتيبة، عن حماد، به٣
ورواه النسائي [ أيضا ]٤ في " التفسير "، عن قتيبة، ومحمد بن النضر بن مساور، ويحيى بن حبيب بن عربي٥ أربعتهم، عن حماد بن زيد، به.
وقد رواه الحميدي في مسنده، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمع جابرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، به.
ورواه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلى الموصلي، عن أبي خيثمة، عن سفيان بن عيينة، به.
ورواه ابن جرير في تفسيره عن أحمد بن الوليد القرشي وسعيد بن الربيع، وسفيان بن وَكِيع، كلهم عن سفيان بن عيينة، به.
ورواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث آدم بن أبي إياس، ويحيى بن عبد الحميد، وعاصم بن علي، عن سفيان بن عيينة، به.
ورواه سعيد بن منصور، عن حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، كلاهما عن عمرو بن دينار، به٦
طريق أخرى : قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره : حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا مقدام ابن داود، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا بن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر قال : لما نزلت :﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أعوذ بالله من ذلك " ﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أعوذ بالله من ذلك " ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ﴾ قال :" هذا أيسر "، ولو استعاذه لأعاذه٧
ويتعلق بهذه الآية [ الكريمة ]٨ أحاديث كثيرة :
أحدها : قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أبو اليمان، حدثنا أبو بكر - هو ابن أبي مريم - عن راشد - هو ابن سعد المقرئي - عن سعد بن أبي وقاص [ رضي الله عنه ]٩ قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية :﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ فقال :" أما إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد ".
وأخرجه الترمذي، عن الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن أبي مريم، به١٠ ثم قال : هذا حديث غريب. [ جدا ]١١
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى - هو ابن عبيد - حدثنا عثمان بن حكيم، عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه، عَزَّ وجل، طويلا قال١٢ سألت ربي ثلاثا " سألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها وسألته ألا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها ".
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه١٣ في " كتاب الفتن " عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله ابن نمير، كلاهما عن عبد الله بن نمير - وعن محمد بن يحيى بن أبي عمر، عن مروان بن معاوية، كلاهما عن عثمان بن حكيم، به١٤
حديث آخر : قال الإمام أحمد : قرأت على عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن مالك، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك، عن جابر بن عتيك ؛ أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية - قرية من قرى الأنصار - فقال لي : هل تدري١٥ أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا ؟ فقلت : نعم. فأشرت إلى ناحية منه، فقال : هل تدري ما الثلاث التي دعا بِهِنّ فيه ؟ فقلت : نعم. فقال : وأخبرني١٦ بهن، فقلت١٧ دعا ألا يُظْهِر عليهم عدوا من غيرهم، ولا يهلكهم بالسنين، فَأُعْطِيْهِمَا، ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم، فَمُنِعَهَا. قال : صدقت، فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة " ١٨
ليس هو في شيء من الكتب الستة، وإسناده جيد قوي، ولله الحمد والمنة.
حديث آخر : قال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم بن عباد عن حُنَيف١٩ عن علي بن عبد الرحمن، أخبرني حذيفة بن اليمان قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرة بني معاوية، قال : فصلى ثماني ركعات، فأطال فيهن، ثم التفت إليّ فقال : حبستك ؟ قلت٢٠ الله ورسوله أعلم. قال : إني سألت الله ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألته ألا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم، فأعطاني٢١ وسألته ألا يهلكهم بغرق، فأعطاني. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعني ".
رواه ابن مَرْدُوَيه من حديث ابن إسحاق٢٢
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبيدة بن حميد، حدثني سليمان الأعمش، عن رجاء الأنصاري، عن عبد الله بن شداد، عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلبه فقيل لي : خرج قَبْلُ. قال : فجعلت لا أمر بأحد إلا قال : مر قبل. حتى مررت فوجدته قائما يصلي. قال : فجئت حتى قمت خلفه، قال : فأطال الصلاة، فلما قضى صلاته٢٣ قلت : يا رسول الله، لقد صليت صلاة طويلة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت الله، عَزَّ وجل، ثلاثا فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة. سألته ألا يهلك أمتي غرقا، فأعطاني٢٤ وسألته ألا يُظْهِر عليهم عدوا ليس منهم، فأعطانيها. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فردها علي ".
ورواه ابن ماجه في " الفتن " عن محمد بن عبد الله بن نمير، وعلي بن محمد، كلاهما عن أبي معاوية، عن الأعمش، به٢٥
ورواه ابن مَرْدُوَيه من حديث أبي عَوَانة، عن عبد الله٢٦ بن عُمَيْر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله أو نحوه.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بُكَيْر٢٧ بن الأشج، أن الضحاك بن عبد الله القرشي حدثه، عن أنس بن مالك أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سُبْحَة الضحى ثماني ركعات. فلما انصرف قال :" إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته ألا يبتلي أمتي بالسنين، ففعل. وسألته ألا يظهر عليهم عدوهم، ففعل. وسألته ألا يَلْبِسَهُم شيعًا، فأبى عليّ ".
رواه النسائي في الصلاة، عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، به. ٢٨
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، قال : قال الزهري : حدثني عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن خباب، عن أبيه خباب بن الأرت - مولى بني زهرة، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال : راقبت٢٩ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها، حتى كان مع الفجر فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، قلت٣٠ يا رسول الله، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أجل، إنها صلاة رَغَب ورَهَب. سألت ربي، عَزَّ وجل، فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألت ربي، عَزَّ وجل، ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا، فأعطانيها. وسألت ربي، عَزَّ وجل، ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا، فأعطانيها. وسألت ربي، عَزَّ وجل، ألا يلبسنا شيعًا، فمنعنيها ".
ورواه النسائي من حديث شعيب بن أبي حمزة، به٣١ ومن وجه آخر. وابن حبان في صحيحه، بإسناديهما عن صالح بن كيسان - والترمذي في " الفتن " من حديث النعمان بن راشد - كلاهما عن الزهري، به٣٢ وقال : حسن صحيح.
حديث آخر : قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره : حدثني زياد بن عبيد الله٣٣ المزني، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا أبو مالك، حدثني نافع بن خالد الخزاعي، عن أبيه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود، فقال :" قد كانت صلاة رَغْبَة ورَهْبَة، سألت الله، عَزَّ وجل، فيها ثلاثا، أعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألت الله ألا يصيبكم بعذاب أصاب به من قبلكم، فأعطانيها. وسألت الله ألا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم، فأعطانيها. وسألته ألا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها ". قال أبو مالك : فقلت له : أبوك سمع هذا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فقال : نعم، سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم٣٤
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق قال : قال مَعْمَر، أخبرني أيوب، عن أبي
١ زيادة من أ..
٢ زيادة من أ..
٣ صحيح البخاري برقمي (٤٦٢٨)، (٧٤٠٦).
٤ زيادة من أ..
٥ في أ: "عدي".
.

٦ النسائي في السنن الكبرى برقم (١١١٦٤) ومسند الحميدي (٢/٥٣٠) ومسند أبي يعلى (٣/٣٦٢) وتفسير الطبري (١١/٤٢٢).
٧ وفي إسناده عبد الله بن لهيعة وقد اختلط..
٨ زيادة من أ..
٩ زيادة من أ..
١٠ المسند (١/١٧٠) وسنن الترمذي برقم (٣٠٦٦)..
١١ زيادة من أ..
١٢ في أ: "ثم قال".
١٣ في أ: "ورواه".
.

١٤ المسند (١/١٧٥) وصحيح مسلم برقم (٢٨٩٠)..
١٥ في أ: "ترى"..
١٦ في م، أ: "قال: فأخبرني"..
١٧ في م: "فقال"..
١٨ المسند (٥/٤٤٥) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢١): "رجاله ثقات"..
١٩ في أ: "عن خصيف"..
٢٠ في أ: "حسبك يا حذيفة فقلت"..
٢١ في أ: "فأعطانيها"..
٢٢ ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠/٣١٨) من طريق عبد الله بن نمير عن محمد بن إسحاق به..
٢٣ في جـ: "الصلاة"..
٢٤ في أ: "فأعطانيها"..
٢٥ المسند (٥/٢٤٠) وسنن ابن ماجه برقم (٣٩٥١).
.

٢٦ في م: "عبد الملك"..
٢٧ في أ: "بكر"..
٢٨ المسند (٢/١٤٦)..
٢٩ في م: "وافيت"..
٣٠ في أ: "فقلت".
٣١ المسند (٥/١٠٨) وسنن النسائي (٣/٢١٦)..
٣٢ النسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (٣/١١٥) وصحيح ابن حبان (٩/١٨٠) "الإحسان"، وسنن الترمذي برقم (٢١٧٥).
٣٣ في أ: "عبد الله".
.

٣٤ تفسير الطبري (١١/٤٣٣) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٤/١٩٢) والبزار في مسنده برقم (٣٢٨٩) "كشف الأستار" من طريق مروان بن معاوية به..
قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَتَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ أَيْ: يَجْعَلَكُمْ مُلْتَبِسِينَ شِيَعًا فِرَقًا مُتَخَالِفِينَ. قَالَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: الْأَهْوَاءَ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً".
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي يُسَلِّطُ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْعَذَابِ وَالْقَتْلِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ أَيْ: نُبَيِّنُهَا وَنُوَضِّحُهَا ونُقِرُّهَا (١) ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ أَيْ: يَفْهَمُونَ وَيَتَدَبَّرُونَ عَنِ اللَّهِ آيَاتِهِ وَحُجَجَهُ وَبَرَاهِينَهُ.
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] ﴾ (٢) الْآيَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقاب بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ (٣). قَالُوا: وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ". فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَكُونُ هَذَا أَبَدًا، أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَنَزَلَتْ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ (٤)
﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) ﴾
(١) في أ: "ونفسرها".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في أ: بالسيف".
(٤) تفسير الطبري (١١/٤٣٠).
قال ابن عباس وغير واحد : أي لكل نبأ حقيقة، أي : لكل خبر وقوع، ولو بعد حين، كما قال :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾ [ ص : ٨٨ ]، وقال ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [ الرعد : ٣٧ ].
وهذا تهديد ووعيد أكيد ؛ ولهذا قال بعده :﴿ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾
ثم قال :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ﴾ أي : بالتكذيب والاستهزاء ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾ أي : حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه١ من التكذيب، ﴿ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ﴾ والمراد بهذا كلّ فرد، فرد من آحاد الأمة، ألا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها، فإن جلس أحد معهم ناسيًا ﴿ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى ﴾ بعد التذكر ﴿ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
ولهذا ورد في الحديث :" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ٢
وقال السُّدِّي، عن أبي مالك وسعيد بن جُبَيْر في قوله :﴿ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ﴾ قال : إن نسيت فذكرت، فلا تجلس معهم. وكذا قال مقاتل بن حيان.
وهذه الآية هي المشار إليها في قوله :﴿ وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾ الآية [ النساء : ١٤٠ ] أي : إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك، فقد ساويتموهم في الذي هم فيه.
١ في أ: "قبله"..
٢ رواه ابن ماجه في السنن برقم (٢٠٤٣) من حديث أيوب بن سويد عن أبي بكر الهذلي عن شهر عن أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه. وقال البوصيري في الزوائد (٢/١٣٠): "إسناده ضعيف"..
﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ﴾ أَيْ: بِالْقُرْآنِ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ، وَالْهُدَى وَالْبَيَانِ. ﴿قَوْمُكَ﴾ يَعْنِي: قُرَيْشًا ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ أَيِ: الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ حَقٌّ ﴿قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ أَيْ: لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، وَلَسْتُ بِمُوَكَّلٍ بِكُمْ، كَقَوْلِهِ ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الْكَهْفِ: ٢٩] أَيْ: إِنَّمَا عَلَيَّ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فَمَنِ اتَّبَعَنِي، سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ خَالَفَنِي، فَقَدْ شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيْ لِكُلِّ نَبَأٍ حَقِيقَةٌ، أَيْ: لِكُلِّ خَبَرٍ وُقُوعٌ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، كَمَا قال:
277
﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص: ٨٨]، وَقَالَ ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرَّعْدِ: ٣٧].
وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ أَيْ: بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ أَيْ: حَتَّى يَأْخُذُوا فِي كَلَامٍ آخَرَ غَيْرِ مَا كَانُوا فِيهِ (١) مِنَ التَّكْذِيبِ، ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾ وَالْمُرَادُ بِهَذَا كُلُّ فَرْدٍ، فَرْدٌ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ، أَلَّا يَجْلِسَ مَعَ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ آيَاتِ اللَّهِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، فَإِنْ جَلَسَ أَحَدٌ مَعَهُمْ نَاسِيًا ﴿فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾ بَعْدَ التَّذَكُّرِ ﴿مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾
وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" (٢)
وَقَالَ السُّدِّي، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾ قَالَ: إِنْ نَسِيتَ فَذَكَرْتَ، فَلَا تَجْلِسْ مَعَهُمْ. وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ الْآيَةَ [النِّسَاءِ: ١٤٠] أَيْ: إِنَّكُمْ إِذَا جَلَسْتُمْ مَعَهُمْ وَأَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ سَاوَيْتُمُوهُمْ فِي الَّذِي هُمْ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ أَيْ: إِذَا تَجَنَّبُوهُمْ فَلَمْ يَجْلِسُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ بَرِئُوا مِنْ عُهْدَتِهِمْ، وَتَخَلَّصُوا مِنْ إِثْمِهِمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّي، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، قَوْلَهُ: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ قَالَ: مَا عَلَيْكَ أَنْ يَخُوضُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، أَيْ: إِذَا تَجَنَّبْتَهُمْ وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: وَإِنْ جَلَسُوا مَعَهُمْ، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ النِّسَاءِ الْمَدَنِيَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النِّسَاءِ: ١٤٠]. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، والسُّدِّي، وَابْنُ جُرَيْج، وَغَيْرُهُمْ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ، يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أَيْ: وَلَكِنْ أَمَرْنَاكُمْ (٣) بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ حِينَئِذٍ تَذْكِيرًا لَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ؛ لعلهم يتقون ذلك، ولا يعودون إليه.
(١) في أ: "قبله".
(٢) رواه ابن ماجه في السنن برقم (٢٠٤٣) من حديث أيوب بن سويد عن أبي بكر الهذلي عن شهر عن أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه. وقال البوصيري في الزوائد (٢/١٣٠) :"إسناده ضعيف".
(٣) في أ: "أمرناهم".
278
﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: دَعْهُمْ وَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَأَمْهِلْهُمْ قَلِيلًا فَإِنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَذَكِّرْ بِهِ﴾ أَيْ: وَذَكِّرِ النَّاسَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَحَذِّرْهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ الْأَلِيمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ أَيْ: لِئَلَّا تُبْسَلَ. قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعِكْرِمة، وَالْحَسَنُ، والسُّدِّي: تُبْسَلَ: تُسْلَم.
وَقَالَ الْوَالِبِيُّ، عن ابن عباس: تفتضح. وَقَالَ قَتَادَةُ: تُحْبَس. وَقَالَ مُرَّة وَابْنُ زَيْدٍ تُؤاخذ. وقال الكلبيي: تُجَازَي (١)
وَكُلُّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَحَاصِلُهَا الْإِسْلَامُ لِلْهَلَكَةِ، وَالْحَبْسُ عَنِ الْخَيْرِ، وَالِارْتِهَانُ عَنْ دَرْكِ الْمَطْلُوبِ، كَمَا قَالَ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ٣٨، ٣٩].
وَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾ أَيْ: لَا قَرِيبَ وَلَا أَحَدَ يُشَفَّعُ فِيهَا، كَمَا قَالَ: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ أَيْ: وَلَوْ بَذَلَتْ كُلَّ مَبْذُولٍ مَا قُبِلَ مِنْهَا كَمَا قَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا [وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] (٢) ﴾ [آلِ عمران: ٩١]، وهكذا قال هاهنا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾
﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣) ﴾
قَالَ السُّدِّي: قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا، وَاتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾ أَيْ: فِي الْكُفْرِ ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ فَيَكُونُ مثلُنا مَثَلَ الَّذِي ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ [حَيْرَانَ] ﴾ (٣) يَقُولُ: مَثَلُكُمْ، إِنْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ مَعَ قَوْمٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَضَلَّ الطَّرِيقَ، فَحَيَّرَتْهُ الشَّيَاطِينُ، وَاسْتَهْوَتْهُ فِي الْأَرْضِ، وَأَصْحَابُهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَعَلُوا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ يَقُولُونَ: "ائْتِنَا فَإنَّا عَلَى الطَّرِيقِ"، فَأَبَى أَنْ
(١) في م، أ: "تجزي".
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) زيادة من أ.
279
يَأْتِيَهُمْ. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ يَتَّبِعُهُمْ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ هُوَ الْإِسْلَامُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ﴾ أَضَلَّتْهُ فِي الْأَرْضِ، يَعْنِي: اسْتَهْوَتْهُ (١) مُثْلُ قَوْلِهِ: ﴿تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٧].
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا﴾ الْآيَةَ. هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْآلِهَةِ وَمَنْ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَالدُّعَاةُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَثَلِ رَجُلٍ ضَلَّ عَنْ طَرِيقٍ تَائِهًا ضَالًّا إِذْ نَادَاهُ مُنَادٍ: "يَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ"، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ: "يَا فُلَانُ، هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ"، فَإِنِ اتَّبَعَ الدَّاعِيَ الْأَوَّلَ، انْطَلَقَ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ إِلَى الْهَلَكَةِ (٢) وَإِنْ أَجَابَ مَنْ يَدْعُوهُ إِلَى الْهُدَى، اهْتَدَى إِلَى الطَّرِيقِ. وَهَذِهِ الدَّاعِيَةُ الَّتِي تَدْعُو فِي الْبَرِيَّةِ مِنَ الْغِيلَانِ، يَقُولُ: مَثَلُ مَنْ يَعْبُدُ هَذِهِ الْآلِهَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ، فَيَسْتَقْبِلُ الْهَلَكَةَ وَالنَّدَامَةَ. وَقَوْلُهُ: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ﴾ هُمُ "الْغِيلَانُ"، يَدْعُونَهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، فَيَتَّبِعُهَا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ، فَيُصْبِحُ وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي هَلَكَةٍ، وَرُبَّمَا أَكَلَتْهُ -أَوْ تُلْقِيهِ فِي مَضَلَّةٍ مِنَ الْأَرْضِ، يَهْلَكُ فِيهَا عَطَشًا، فَهَذَا مِثْلُ مَنْ أَجَابَ الْآلِهَةَ الَّتِي تُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ﴾ قَالَ: رَجُلٌ حَيْرَانُ يَدْعُوهُ أَصْحَابُهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يَضِلُّ بَعْدَ أَنْ هُدِيَ.
وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ﴾ هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِهُدَى اللَّهِ، وَهُوَ رَجُلٌ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ، وَعَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَجَارَ (٣) عَنِ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُ، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي يَأْمُرُونَهُ بِهِ هُدًى، يَقُولُ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ، يَقُولُ [اللَّهُ] (٤) ﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ وَالضَّلَالُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْجِنُّ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَهُ يَدْعُونَهُ إِلَى الضَّلَالِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُدًى. قَالَتْ: وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ أَصْحَابَهُ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ضَلَالًا وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ هُدًى.
وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَكَانَ (٥) سِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فِي حَالِ حِيرَتِهِ وَضَلَالِهِ وَجَهْلِهِ وَجْهُ الْمَحَجَّةِ، وَلَهُ أَصْحَابٌ عَلَى الْمَحَجَّةِ سَائِرُونَ، فَجَعَلُوا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الذَّهَابِ مَعَهُمْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهَدَاهُ، وَلَرَدَّ بِهِ إِلَى الطَّرِيقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾
(١) في م: "استهوته سيرته".
(٢) في م، أ: "في هلكه".
(٣) في أ: "وحاد".
(٤) زيادة من أ.
(٥) في م، أ: "فإن".
280
كَمَا قَالَ: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾ (١) [الزُّمَرِ: ٣٧]، وَقَالَ: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [النَّحْلِ: ٣٧]، وَقَوْلُهُ ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: نخلص له العباد (٢) وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ﴾ أَيْ: وَأُمِرْنَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَبِتَقْوَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، ﴿وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: بِالْعَدْلِ، فَهُوَ خَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا، وَالْمُدَبِّرُ لَهُمَا وَلِمَنْ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: ﴿كُنْ﴾ فَيَكُونُ عَنْ أَمْرِهِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ.
﴿وَيَوْمَ﴾ مَنْصُوبٌ إِمَّا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ وَتَقْدِيرُهُ: وَاتَّقُوا يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِمَّا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ﴾ أَيْ: وَخَلَقَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. فَذَكَرَ بَدْءَ الْخَلْقِ وَإِعَادَتِهِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ. وَإِمَّا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ﴾ جُمْلَتَانِ مَحَلُّهُمَا الْجَرُّ، عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ: ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ١٦]، وَكَقَوْلِهِ ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الْفَرْقَانِ: ٢٦]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِالصُّورِ هَاهُنَا جَمْعُ "صُورَةٍ" أَيْ: يَوْمَ يَنْفُخُ فِيهَا فَتَحْيَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَمَا يُقَالُ (٣) سُورٌ -لِسُورِ الْبَلَدِ (٤) هُوَ جَمْعُ سُورَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّورِ: "القَرْن" الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مَا (٥) تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إِنَّ إِسْرَافِيلَ قَدِ الْتَقَمَ الصُّورَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤمَر فَيَنْفُخُ". (٦)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَسْلَمَ العِجْلي، عَنْ بِشْر بْنِ شَغَاف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الصُّورُ؟ قَالَ: "قَرْنٌ ينفخ
(١) في أ: "من يهده الله فلا مضل له".
(٢) في م، أ: "العبادة".
(٣) في أ: "كما تقول".
(٤) في أ: "المدينة".
(٥) في م، أ: "والصواب من القول في ذلك ما".
(٦) تفسير الطبري (١١/٤٦٣).
281
فِيهِ. (١)
وَقَدْ رُوِّينَا حَدِيثَ الصُّورِ بِطُولِهِ، مِنْ طَرِيقِ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، فِي كِتَابِهِ "الطِّوَالَاتُ" قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِصْرِيُّ الأيْلي، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ، شَاخِصًا بصرَه إِلَى الْعَرْشِ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الصُّورُ؟ قَالَ "القَرْن". قُلْتُ: كَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: "عَظِيمٌ، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، إِنَّ عَظْمَ دَارَةَ فِيهِ كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ: النَّفْخَةُ الْأُولَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُ. انْفُخْ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أهل السموات [وَأَهْلُ] (٢) الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ. وَيَأْمُرُهُ فَيُدِيمُهَا وَيُطِيلُهَا وَلَا يَفْتُرُ، وَهِيَ كَقَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ [ص: ١٥]، فَيُسَيِّرُ اللَّهُ الْجِبَالَ (٣) فَتَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، فَتَكُونُ سَرَابًا".
ثُمَّ تَرْتَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجَّةً فَتَكُونُ كَالسَّفِينَةِ الْمَرْمِيَّةِ (٤) فِي الْبَحْرِ، تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ، تُكْفَأُ بِأَهْلِهَا كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ، تُرَجْرِجُهُ (٥) الرِّيَاحُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ (٦) ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ [النَّازِعَاتِ: ٦ -٨]، فَيَميدُ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا، وَتُذْهَلُ الْمَرَاضِعُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ، وَتَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً مِنَ الْفَزَعِ، حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ، فَتَأْتِيهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا، فَتَرْجِعُ، وَيُوَلِّي (٧) النَّاسُ مُدْبِرِينَ مَا لَهُمْ مِنْ أمْر اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ التَّنَادِ﴾ [غَافِرٍ: ٣٢].
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ تَصَدَّعَتِ (٨) الْأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَأَخَذَهُمْ لِذَلِكَ مِنَ الْكَرْبِ وَالْهَوْلِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، ثُمَّ نَظَرُوا (٩) إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هِيَ كالمُهْل، ثُمَّ انْشَقَّتْ (١٠) فَانْتَشَرَتْ نُجُومُهَا، وَانْخَسَفَ (١١) شَمْسُهَا وَقَمَرُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَمْوَاتُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، حِينَ يَقُولُ: ﴿فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [النَّمْلِ: ٨٧]، قَالَ: "أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى الْأَحْيَاءِ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ (١٢) يُرْزَقُونَ، وَقَاهُمُ اللَّهُ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَآمَنَهُمْ مِنْهُ، وَهُوَ عَذَابُ اللَّهِ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ"، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ١، ٢]،
(١) المسند (٢/١٩٢).
(٢) زيادة من أ.
(٣) في م: "فتسير الجبال".
(٤) في أ: "فتكون الموثقة".
(٥) في م: "تزحزحه".
(٦) في أ: "وهي الذي يقول الله".
(٧) في أ: "ثم تولى".
(٨) في أ: "هم كذلك إذ تصدعت".
(٩) في أ: "تطوى".
(١٠) في أ: "انشقت السماء".
(١١) في أ: "وخسف".
(١٢) في أ: "عند ربهم.
282
فَيَكُونُونَ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ مَا شَاءَ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَطُولُ.
ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِنَفْخَةِ الصَّعْقِ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيَصْعَقُ أَهْلَ السموات [وأهل] (١) الأرض إلا من شاء الله، فَإِذَا هُمْ قَدْ خَمِدُوا، وَجَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ مَاتَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شِئْتَ. فَيَقُولُ اللَّهُ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ -: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، بقيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَبَقِيتُ أَنَا. فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: لِيَمُتْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فيُنْطِقُ اللَّهُ الْعَرْشَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، يَمُوتُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ!! فَيَقُولُ: اسْكُتْ، فَإِنِّي كَتَبْتُ الْمَوْتَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ تَحْتَ عَرْشِي، فَيَمُوتَانِ. ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ [عَزَّ وَجَلَّ] (٢) فَيَقُولُ يَا رَبِّ، قَدْ مَاتَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فَيَقُولُ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (٣) -وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ -: فَمَنْ تَبَقَّى؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمْلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيتُ أَنَا. فَيَقُولُ اللَّهُ، [عَزَّ وَجَلَّ] (٤) لِيَمُتْ حَمْلَةُ عَرْشي. فَيَمُوتُوا، وَيَأْمُرُ اللَّهُ الْعَرْشَ. فَيَقْبِضُ الصُّورَ مِنْ إِسْرَافِيلَ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ مَاتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ -:: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ، وَبَقِيتُ أَنَا. فَيَقُولُ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (٥) أَنْتَ خَلْق مِنْ خَلْقِي، خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ، فمِت. فَيَمُوتُ. فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْأَحَدُ [الصَّمَدُ] (٦) الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، كَانَ آخِرًا كَمَا كَانَ أَوَّلًا طَوَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ طَيَّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (٧) ثُمَّ دَحَاهُمَا ثُمَّ يَلْقَفُهُمَا (٨) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْجَبَّارُ ثَلَاثًا. ثُمَّ هَتَفَ بِصَوْتِهِ: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، ثُمَّ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ١٦]، يَقُولُ اللَّهُ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ (٩) الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٨]، فَيَبْسُطُهُمَا وَيَسْطَحُهُمَا، ثُمَّ يَمُدُّهُمَا مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ ﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا﴾ [طَهَ: ١٠٧].
ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً، فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبْدَّلَةِ مِثْلَ مَا كَانُوا فِيهَا مِنَ الْأُولَى، مَنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا كَانَ فِي بَطْنِهَا، وَمَنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا، ثُمَّ يُنَزِّلُ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (١٠) عَلَيْهِمْ مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ، فَتُمْطِرُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ فَوْقَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَجْسَادَ أَنْ تَنْبُتَ فَتَنْبُتُ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيثِ -أَوْ: كَنَبَاتِ الْبَقْلِ -حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتْ أَجْسَادُهُمْ فَكَانَتْ كَمَا كَانَتْ، قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ليَحْيَا حملةُ عَرْشِي، فَيَحْيَوْنَ. وَيَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ فَيَأْخُذُ الصُّورَ، فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لِيَحْيَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَيَحْيَانِ، ثُمَّ يدعو الله الأرواح (١١)
(١) زيادة من م، أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) زيادة من أ.
(٤) زيادة من أ.
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من م، أ.
(٧) في أ: "الكتاب".
(٨) في م: "تكففها".
(٩) في أ: "يبدل".
(١٠) زيادة من أ.
(١١) في أ: "بالأرواح ".
283
فَيُؤْتَى بِهَا تَتَوَهَّجُ أَرْوَاحُ الْمُسْلِمِينَ نُورًا، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ ظُلْمَةً، فَيَقْبِضُهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُلْقِيهَا فِي الصُّورِ.
ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ أَنْ يَنْفُخَ نَفْخَةَ الْبَعْثِ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْبَعْثِ، فَتَخْرُجُ الْأَرْوَاحُ كَأَنَّهَا النَّحْلُ (١) قَدْ مَلَأَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ [اللَّهُ] (٢) وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَيَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهِ، فَتَدْخُلُ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَجْسَادِ، فَتَدْخُلُ فِي الْخَيَاشِيمِ، ثُمَّ تَمْشِي فِي الْأَجْسَادِ كَمَا يَمْشِي السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ، ثُمَّ تَنْشَقّ الْأَرْضُ عَنْكُمْ (٣) وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقّ الْأَرْضُ عَنْهُ، فَتَخْرُجُونَ سِرَاعًا إِلَى رَبِّكُمْ تَنْسِلُونَ (٤) ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ [الْقَمَرِ: ٨] حَفَاة عُرَاة [غُلْفًا] (٥) غُرْلا فَتَقِفُونَ (٦) مَوْقِفًا وَاحِدًا مِقْدَارُهُ سَبْعُونَ (٧) عَامًا، لَا يُنْظَر إِلَيْكُمْ وَلَا يُقْضَى بَيْنَكُمْ، فَتَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ تَدْمَعُونَ (٨) دَمًا وتَعْرَقون حَتَّى يُلْجِمَكُمُ الْعَرَقُ، أَوْ يَبْلُغَ الْأَذْقَانَ، وَتَقُولُونَ (٩) مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَقْضِي بَيْنَنَا؟ فَتَقُولُونَ (١٠) مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قُبُلًا؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَأْبَى، وَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ. فَيَسْتَقْرِءُونَ الْأَنْبِيَاءَ نَبِيًّا نَبِيًّا، كُلَّمَا جَاءُوا نَبِيًّا، أَبَى عَلَيْهِمْ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَتَّى يَأْتُونِي، فَأَنْطَلِقُ إِلَى (١١) الْفَحْصِ فأَخر سَاجِدًا" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الفَحْص؟ قَالَ: "قُدَّامَ الْعَرْشِ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ إِلَيَّ مَلَكًا فَيَأْخُذُ بِعَضُدِي، وَيَرْفَعُنِي، فَيَقُولُ لِي: يَا مُحَمَّدُ (١٢) فَأَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: مَا شَأْنُكَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ فشَفعني فِي خَلْقِكَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ. قَالَ [اللَّهُ] (١٣) قَدْ شَفَّعْتُكَ، أَنَا آتِيكُمْ أَقْضِي بَيْنَكُمْ".
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَرْجِعُ فَأَقِفُ مَعَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ وُقُوفٌ، إِذْ سَمِعْنَا حِسًّا مِنَ السَّمَاءِ شَدِيدًا، فَهَالَنَا فَنَزَلَ (١٤) أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِمِثْلَيْ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ، أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ قَالُوا: لَا وَهُوَ آتٍ.
ثُمَّ يَنْزِلُ [مِنْ] (١٥) أَهْلِ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ، أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَهُوَ آتٍ.
ثُمَّ يَنْزِلُونَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ، حَتَّى يَنْزِلَ الْجَبَّارُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي ظُلل مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ، فَيَحْمِلُ عَرْشَهُ (١٦) يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَةٌ -وَهُمُ الْيَوْمَ أربعة -أقدامهم في (١٧) تخوم الأرض السفلى،
(١) في أ: "كالنحل".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في أ: "عنهم".
(٤) في أ: "فيخرجون منها سراعا إلى ربهم ينسون".
(٥) زيادة من أ.
(٦) في م: "يقفون".
(٧) في أ: " سبعين ".
(٨) في أ: "تدمون".
(٩) في أ: "ويقولون".
(١٠) في أ: "فيقولون".
(١١) في أ: "حتى آتى".
(١٢) في م: "محمد".
(١٣) زيادة من أ.
(١٤) في أ: "فينزل".
(١٥) زيادة من م.
(١٦) في أ: "عرش ربك".
(١٧) في م: "على".
284
وَالْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ إِلَى حُجْزَتَهم (١) وَالْعَرْشُ عَلَى مَنَاكِبِهِمْ، لَهُمْ زَجَلٌ فِي تَسْبِيحِهِمْ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعَرْشِ وَالْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ، سُبْحَانَ الذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ، سُبُّوح قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى، رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى، الَّذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ، فَيَضَعُ اللَّهُ كُرْسِيَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ مِنْ أَرْضِهِ، ثُمَّ يَهْتِفُ بِصَوْتِهِ (٢) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، إِنِّي قَدْ أَنْصَتُّ لَكُمْ مُنْذُ خَلَقْتُكُمْ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، أَسْمَعُ قَوْلَكُمْ وَأُبْصِرُ أَعْمَالَكُمْ، فَأَنْصِتُوا إِلَيَّ، فَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ وَصُحُفُكُمْ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ جَهَنَّمَ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ [مُظْلِمٌ] (٣) سَاطِعٌ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ -أَوْ: بِهَا (٤) تُكَذِّبُونَ -شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ - ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس: ٦٠ -٦٤] فَيُمَيِّزُ اللَّهُ النَّاسَ وَتَجْثُو الْأُمَمُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الْجَاثِيَةِ: ٢٨] فَيَقْضِي اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بَيْنَ خَلْقِهِ، إِلَّا الثَّقَلَيْنِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، فَيَقْضِي بَيْنَ الْوَحْشِ (٥) وَالْبَهَائِمِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقْضِي لِلْجَمَّاءِ مِنْ ذَاتِ الْقَرْنِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ تَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لِلْأُخْرَى قَالَ اللَّهُ [لَهَا] (٦) كَوْنِي تُرَابًا. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النَّبَأِ: ٤٠]
ثُمَّ يَقْضِي اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (٧) بَيْنَ الْعِبَادِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا يَقْضِي فِيهِ الدِّمَاءُ، وَيَأْتِي كُلُّ قَتِيلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَأْمُرُ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (٨) كُلَّ قتيل فيحمل رأسه تَشْخُب أو داجه يَقُولُ: يَا رَبِّ، فِيمَ قَتَلَنِي هَذَا؟ فَيَقُولُ -وَهُوَ أَعْلَمُ -: فِيمَ قَتَلْتَهُمْ؟ فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُمْ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: صَدَقْتَ. فَيَجْعَلُ اللَّهُ وَجْهَهُ مِثْلَ نُورِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَيَأْتِي كُلُّ مَنْ قُتل عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَحْمِلُ رَأْسَهُ وَتَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، [فِيمَ] (٩) قَتَلَنِي هَذَا؟ فَيَقُولُ -وَهُوَ أَعْلَمُ -: لِمَ قَتَلْتَهُمْ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَتَلْتُهُمْ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ وَلِي. فَيَقُولُ: تَعِسْتَ. ثُمَّ لَا تَبْقَى نَفْسٌ قَتَلَهَا إِلَّا قُتِلَ بِهَا، وَلَا مَظْلَمَةٌ ظَلَمَهَا إِلَّا أُخِذَ بِهَا، وَكَانَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ.
ثُمَّ يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ مَنْ بَقِيَ (١٠) مِنْ خَلْقِهِ حَتَّى لَا تَبْقَى مَظْلَمَةٌ لِأَحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ إِلَّا أَخَذَهَا [اللَّهُ] (١١) لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُكَلِّفُ شَائِبَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَبِيعُهُ أَنْ يخلص اللبن من الماء.
(١) في أ: "حجزهم".
(٢) في أ: "بصوته فيقول".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في م: "وبها".
(٥) في أ: "الوحوش".
(٦) زيادة من أ.
(٧) زيادة من أ.
(٨) زيادة من أ.
(٩) زيادة من أ.
(١٠) في م: "من شاء".
(١١) زيادة من أ.
285
فَإِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، نَادَ مُنَادٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ: أَلَا لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِآلِهَتِهِمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ عَبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا مُثِّلَتْ لَهُ آلِهَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُجْعَلُ يَوْمَئِذٍ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ عُزَير، وَيُجْعَلُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. ثُمَّ يَتْبَعُ هَذَا الْيَهُودُ وَهَذَا النَّصَارَى، ثُمَّ قَادَتْهُمْ آلِهَتُهُمْ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ [تَعَالَى] (١) ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٩].
فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ فِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ، جَاءَهُمُ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ هَيْئَتِهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ذَهَبَ النَّاسُ فَالْحَقُوا بِآلِهَتِكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا لَنَا إِلَهٌ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا كُنَّا نَعْبُدُ غَيْرَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي يَأْتِيهِمْ فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ يَأْتِيهِمْ فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ذَهَبَ النَّاسُ فَالْحَقُوا بِآلِهَتِكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا لَنَا إِلَهٌ إِلَّا اللَّهُ وَمَا كُنَّا نَعْبُدُ غَيْرَهُ، فَيَكْشِفُ لَهُمْ عَنْ سَاقِهِ، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ مِنْ عَظَمَتِهِ مَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَيَخِرُّ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلَى قَفَاهُ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ أَصْلَابَهُمْ كَصَيَاصِي الْبَقَرِ. ثُمَّ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُمْ فَيَرْفَعُونَ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الصِّرَاطَ بَيْنَ ظَهَرَانَي جَهَنَّمَ كَحَدِّ الشَّفْرَةِ -أَوْ: كَحَدِّ السَّيْفِ -عَلَيْهِ كَلَالِيبُ وَخَطَاطِيفُ وَحَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ، دُونَ جِسْرِ دَحْضٍ مَزَلَّةٍ، فَيَمُرُّونَ كَطَرْفٍ الْعَيْنِ، أَوْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، أَوْ كَمَرِّ الرِّيحِ، أَوْ كَجِيَادِ الْخَيْلِ، أَوْ كَجِيَادِ الرِّكَابِ، أَوْ كَجِيَادِ الرِّجَالِ. فَنَاجٍ سَالِمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمُكَرْدَسٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَهَنَّمَ.
فَإِذَا أَفْضَى أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالُوا: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَنَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ فَيَقُولُونَ: مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قُبُلًا؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِنُوحٍ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رُسُلِ اللَّهِ. فَيُؤْتَى نُوحٌ فيُطْلَب ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَيَقُولُ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا. فَيُؤْتَى إِبْرَاهِيمُ، فيُطْلَب ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّ اللَّهَ قَرَّبَهُ نَجيّا، وَكَلَّمَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ. فَيُؤْتَى مُوسَى، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِرُوحِ اللَّهِ وَكَلِمَتِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.
فَيُؤْتَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَقُولُ: مَا أَنَا بِصَاحِبِكُمْ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَيَأْتُونِي -وَلِي عِنْدَ رَبِّي ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ [وَعَدَنِهِنَّ] (٢) -فَأَنْطَلِقُ فَآتِي الْجَنَّةَ، فَآخُذُ بحلَقَة الْبَابِ، فَأَسْتَفْتِحُ فَيُفْتَحُ لِي، فَأُحَيَّى وَيُرَحَّبُ بِي. فَإِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَنَظَرْتُ إِلَى رَبِّي خَرَرْتُ سَاجِدًا، فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِي مِنْ حَمْدِهِ وَتَمْجِيدِهِ بِشَيْءٍ مَا أَذِنَ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعَ، وَسَلْ تُعْطَهْ. فَإِذَا رَفَعْتُ رَأْسِي يَقُولُ اللَّهُ -وَهُوَ أَعْلَمُ -: مَا شَأْنُكَ؟ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، فَشَفِّعْنِي فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: قَدْ شَفَّعْتُكَ وَقَدْ أذنت
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من م.
286
لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ".
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْرَفَ بِأَزْوَاجِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَزْوَاجِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، فَيَدْخُلُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً، سَبْعِينَ مِمَّا يُنْشِئُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَثِنْتَيْنِ آدَمِيَّتَيْنِ مَنْ وَلَدِ آدَمَ، لَهُمَا فَضْلٌ عَلَى مَنْ أَنْشَأَ اللَّهُ، لِعِبَادَتِهِمَا اللَّهَ فِي الدُّنْيَا. فَيَدْخُلُ عَلَى الْأُولَى فِي غُرْفَةٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ، عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٍ بِاللُّؤْلُؤِ، عَلَيْهَا سَبْعُونَ زَوْجًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، ثُمَّ إِنَّهُ يَضَعُ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى يَدِهِ مِنْ صَدْرِهَا، وَمِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهَا وَجِلْدِهَا وَلَحْمِهَا، وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَى مُخّ سَاقِهَا كَمَا يَنْظُرُ أَحَدُكُمْ إِلَى السِّلْكِ فِي قَصَبَةِ الْيَاقُوتِ، كَبِدُهَا لَهُ مِرْآةٌ، وَكَبِدُهُ لَهَا مِرْآةٌ. فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَهَا لَا يَمَلُّهَا وَلَا تَمَلُّهُ، مَا يَأْتِيهَا مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَجَدَهَا عَذْرَاءَ، مَا يَفْترُ ذَكَرَهُ، وَمَا تَشْتَكِي (١) قُبُلَهَا. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ نُودِيَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا أَنَّكَ لَا تَمَلُّ وَلَا تُمَلُّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا مَني وَلَا مَنِية إِلَّا أَنَّ لَكَ أَزْوَاجًا غَيْرَهَا. فَيَخْرُجُ فَيَأْتِيهِنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَتَى (٢) وَاحِدَةً [لَهُ] (٣) قَالَتْ: لَهُ وَاللَّهِ مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْكَ، وَلَا فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ.
وَإِذَا وَقَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، وَقْعَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ رَبِّكَ أَوْبَقَتْهُمْ أَعْمَالُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُ النَّارُ قَدَمَيْهِ لَا تُجَاوِزُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُ جَسَدَهُ كُلَّهُ، إِلَّا وَجْهَهُ حَرَّمَ اللَّهُ صُورَتَهُ عَلَيْهَا". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَقُولُ يَا رَبِّ، مَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ مِنْ أُمَّتِي. فَيَقُولُ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ. ثُمَّ يَأْذَنُ اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ فَلَا يَبْقَى نَبِيٌّ وَلَا شَهِيدٌ إِلَّا شَفَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَخْرِجُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ زِنَةَ الدِّينَارِ إِيمَانًا. فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ يُشَفِّعُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَخْرِجُوا مَنْ [وَجَدْتُمْ] (٤) فِي قَلْبِهِ إِيمَانًا ثُلُثَيْ دِينَارٍ. ثُمَّ يَقُولُ: ثُلُثَ دِينَارٍ. ثُمَّ يَقُولُ: رُبُعَ دِينَارٍ. ثُمَّ يَقُولُ: قِيرَاطًا. ثُمَّ يَقُولُ: حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ. فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَحَتَّى لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مَنْ عَمِلَ لِلَّهِ خَيْرًا قَطُّ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ لَهُ شَفَاعَةٌ إِلَّا شَفَعَ، حَتَّى إِنَّ إِبْلِيسَ لَيَتَطَاوَلُ مِمَّا يَرَى مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ رَجَاءَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: بَقِيتُ وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي جَهَنَّمَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا مَا لَا يُحْصِيهِ غَيْرُهُ، كَأَنَّهُمْ حُمَم، فَيُلْقَوْنَ عَلَى نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: نَهْرُ الْحَيَوَانِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ مَا يَلْقَى الشَّمْسَ مِنْهَا أُخَيْضِرُ، وَمَا يَلِي الظِّلَّ مِنْهَا أُصَيْفِرُ، فَيَنْبُتُونَ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيثِ، حَتَّى يَكُونُوا أَمْثَالَ الذَّرِّ، مَكْتُوبٌ فِي رِقَابِهِمْ: "الجُهَنَّمِيُّون عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ"، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، مَا عَمِلُوا خَيْرًا لِلَّهِ قَطُّ، فَيَمْكُثُونَ فِي الْجَنَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ الْكِتَابُ فِي رِقَابِهِمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا امْحُ عَنَّا هَذَا الْكِتَابَ، فَيَمْحُوهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنْهُمْ".
هَذَا حَدِيثٌ [مَشْهُورٌ] (٥) وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَفَرِّقَةِ (٦) وفي
(١) في م: "ولا يشتكي".
(٢) في م: "جاءت".
(٣) زيادة من م.
(٤) زيادة من م.
(٥) زيادة من م، أ.
(٦) الأحاديث الطوال للطبراني برقم (٣٦) وقد خولف فيه أحمد بن الحسن الأيلي، فرواه أبو الشيخ الأصبهاني في العظمة برقم (٣٨٧) من طريق إسحاق بن راهوية، والبيهقي في البعث والنشور برقم (٦٦٩) من طريق أبي قلابة الرقاشي كلاهما إسحاق- وأبو قلابة - من طريق أبي عاصم الضحاك، عن إسماعيل بن رافع، عن محمد بن أبي زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ من الأنصار، عن أبي هريرة. به، وروى من طريق أخرى مدارها على إسماعيل بن رافع المدني، وقد ضعفه الأئمة وتركه الدارقطني.
وقال ابن عدي: "أحاديثه كلها مما فيه نظر".
287
بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ. تَفَرَّدَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ قَاصُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَثَّقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَهُ، وَنَصَّ عَلَى نَكَارَةِ حَدِيثِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الفَلاس، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ: هُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَحَادِيثُهُ كُلُّهَا فِيهَا نَظَرٌ إِلَّا أَنَّهُ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ فِي جُمْلَةِ الضُّعَفَاءِ.
قُلْتُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ أَفْرَدْتُهَا فِي جُزْءٍ عَلَى حِدَةٍ. وَأَمَّا سِيَاقُهُ، فَغَرِيبٌ جِدًّا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ جَمَعَهُ مِنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَجَعَلَهُ سِيَاقًا وَاحِدًا، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ: إِنَّهُ رَأَى لِلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ مُصَنَّفًا قَدْ جَمَعَ فِيهِ كُلَّ الشَّوَاهِدِ لِبَعْضِ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
288
قال السُّدِّي : قال المشركون للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فأنزل الله، عَزَّ وجل :﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا ﴾ أي : في الكفر ﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ فيكون مثلُنا مثل الذي ﴿ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ [ حَيْرَانَ ] ﴾١ يقول : مثلكم، إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضل الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون :" ائتنا فَإنَّا على الطريق "، فأبى أن
يأتيهم. فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام. رواه ابن جرير.
وقال قتادة :﴿ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ ﴾ أضلته في الأرض، يعني : استهوته٢ مثل قوله :﴿ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ].
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله :﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا ﴾ الآية. هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، والدعاة الذين يدعون إلى الله، عَزَّ وجل، كمثل رجل ضل عن طريق تائها ضالا إذ ناداه مناد :" يا فلان بن فلان، هلم إلى الطريق "، وله أصحاب يدعونه :" يا فلان، هلم إلى الطريق "، فإن اتبع الداعي الأول، انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة٣ وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى، اهتدى إلى الطريق. وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان، يقول : مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والندامة. وقوله :﴿ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ ﴾ هم " الغيلان "، يدعونه باسمه واسم أبيه وجده، فيتبعها وهو يرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في هلكة، وربما أكلته - أو تلقيه في مضلة من الأرض، يهلك فيها عطشا، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله، عَزَّ وجل. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد :﴿ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ ﴾ قال : رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق، وذلك مثل من يضل بعد أن هدي.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس، قوله :﴿ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ ﴾ هو الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاع الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وجار٤ عن الحق وضل عنه، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس، يقول [ الله ]٥ ﴿ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ والضلال ما يدعو إليه الجن. رواه ابن جرير، ثم قال : وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال، ويزعمون أنه هدى. قالت : وهذا خلاف ظاهر الآية ؛ فإن الله أخبر أن أصحابه يدعونه إلى الهدى، فغير جائز أن يكون ضلالا وقد أخبر الله أنه هدى.
وهو كما قال ابن جرير، وكان٦ سياق الآية يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، وهو منصوب على الحال، أي : في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجة، وله أصحاب على المحجة سائرون، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى. وتقدير الكلام : فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم، ولو شاء الله لهداه، ولرد به إلى الطريق ؛ ولهذا قال :﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾
كما قال :﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ﴾٧ [ الزمر : ٣٧ ]، وقال :﴿ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [ النحل : ٣٧ ]، وقوله ﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي : نخلص له العباد٨ وحده لا شريك له.
١ زيادة من أ.
.

٢ في م: "استهوته سيرته"..
٣ في م، أ: "في هلكه"..
٤ في أ: "وحاد"..
٥ زيادة من أ..
٦ في م، أ: "فإن".
.

٧ في أ: "من يهده الله فلا مضل له"..
٨ في م، أ: "العبادة"..
﴿ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ ﴾ أي : وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في جميع الأحوال، ﴿ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ أي : يوم القيامة.
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ أي : بالعدل، فهو خالقهما ومالكهما، والمدبر لهما ولمن فيهما.
وقوله :﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ يعني : يوم القيامة، الذي يقول الله :﴿ كُنْ ﴾ فيكون عن أمره كلمح البصر، أو هو أقرب.
﴿ وَيَوْمَ ﴾ منصوب إما على العطف على قوله :﴿ وَاتَّقُوهُ ﴾ وتقديره : واتقوا يوم يقول كن فيكون، وإما على قوله :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ﴾ أي : وخلق يوم يقول كن فيكون. فذكر بدء الخلق وإعادته، وهذا مناسب. وإما على إضمار فعل تقديره : واذكر يوم يقول كن فيكون.
وقوله :﴿ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ ﴾ جملتان محلهما الجر، على أنهما صفتان لرب العالمين.
وقوله :﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ يحتمل أن يكون بدلا من قوله :﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ ويحتمل أن يكون ظرفًا لقوله :﴿ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ كقوله ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٦ ]، وكقوله ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾ [ الفرقان : ٢٦ ]، وما أشبه ذلك.
واختلف المفسرون في قوله :﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ فقال بعضهم : المراد بالصور هاهنا جمع " صورة " أي : يوم ينفخ فيها فتحيا.
قال ابن جرير : كما يقال١ سور - لسور البلد٢ هو جمع سورة. والصحيح أن المراد بالصور :" القَرْن " الذي ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام، قال ابن جرير : والصواب عندنا ما٣ تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته، ينتظر متى يُؤمَر فينفخ ". ٤
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان التيمي، عن أسلم العِجْلي، عن بِشْر بن شَغَاف، عن عبد الله بن عمرو قال : قال أعرابي : يا رسول الله، ما الصور ؟ قال :" قرن ينفخ فيه. ٥
وقد روينا حديث الصور بطوله، من طريق الحافظ أبي القاسم الطبراني، في كتابه " الطّوالات " قال : حدثنا أحمد بن الحسن المصري الأيْلي، حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن محمد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في طائفة من أصحابه، فقال :" إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض، خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخصًا بصرَه إلى العرش، ينتظر متى يؤمر ". قلت : يا رسول الله، وما الصور ؟ قال " القَرْن ". قلت : كيف هو ؟ قال :" عظيم، والذي بعثني بالحق، إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض. ينفخ فيه ثلاث نفخات : النفخة الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين. يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول. انفخ، فينفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات [ وأهل ]٦ الأرض إلا من شاء الله. ويأمره فيديمها ويطيلها ولا يفتر، وهي كقول الله :﴿ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ﴾ [ ص : ١٥ ]، فيسير الله الجبال٧ فتمر مر السحاب، فتكون سرابًا ".
ثم ترتج الأرض بأهلها رجة فتكون كالسفينة المرمية٨ في البحر، تضربها الأمواج، تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق بالعرش، ترجرجه٩ الرياح، وهي التي يقول١٠ ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ﴾ [ النازعات : ٦ - ٨ ]، فَيَميدُ الناس على ظهرها، وتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار، فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي١١ الناس مدبرين ما لهم من أمْر الله من عاصم، ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله تعالى :﴿ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾ [ غافر : ٣٢ ].
فبينما هم على ذلك، إذ تصدعت١٢ الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمرا عظيما لم يروا مثله، وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم، ثم نظروا١٣ إلى السماء، فإذا هي كالمُهْل، ثم انشقت١٤ فانتشرت نجومها، وانخسف١٥ شمسها وقمرها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك " قال أبو هريرة : يا رسول الله، من استثنى الله، عَزَّ وجل، حين يقول :﴿ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [ النمل : ٨٧ ]، قال :" أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، وهم أحياء عند الله١٦ يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وآمنهم منه، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه "، قال : وهو الذي يقول الله، عَزَّ وجل :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [ الحج : ١، ٢ ]، فيكونون في ذلك العذاب ما شاء الله، إلا أنه يطول.
ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، فينفخ نفخة الصعق، فيصعق أهل السموات [ وأهل ]١٧ الأرض إلا من شاء الله، فإذا هم قد خمدوا، وجاء ملك الموت إلى الجبار، عَزَّ وجل، فيقول : يا رب، قد مات أهل السموات والأرض إلا من شئت. فيقول الله - وهو أعلم بمن بقي - : فمن بقي ؟ فيقول : يا رب، بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل، وبقيت أنا. فيقول الله، عَزَّ وجل : ليمت جبريل وميكائيل. فيُنْطِقُ الله العرش فيقول : يا رب، يموت جبريل وميكائيل ! ! فيقول : اسكت، فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي، فيموتان. ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار [ عَزَّ وجل ]١٨ فيقول يا رب، قد مات جبريل وميكائيل. فيقول الله [ عَزَّ وجل ]١٩ - وهو أعلم بمن بقي - : فمن تبقي ؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة عرشك، وبقيت أنا. فيقول الله، [ عَزَّ وجل ]٢٠ ليمت حملة عَرْشي. فيموتوا، ويأمر الله العرش. فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يأتي ملك الموت، فيقول : يا رب، قد مات حملة عرشك. فيقول الله - وهو أعلم بمن بقي - :: فمن بقي ؟ فيقول : يا رب، بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا. فيقول الله [ عَزَّ وجل ]٢١ أنت خَلْق من خلقي، خلقتك لما رأيت، فمِت. فيموت. فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الأحد [ الصمد ]٢٢ الذي لم يلد ولم يولد، كان آخرًا كما كان أولا طوى السموات والأرض طي السجل للكتب٢٣ ثم دحاهما ثم يلقفهما٢٤ ثلاث مرات، ثم يقول : أنا الجبار، أنا الجبار، أنا الجبار ثلاثًا. ثم هتف بصوته :﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ﴾ ثلاث مرات، فلا يجيبه أحد، ثم يقول لنفسه :﴿ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٦ ]، يقول الله :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ٢٥ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ﴾ [ إبراهيم : ٤٨ ]، فيبسطهما ويسطحهما، ثم يمدهما مد الأديم العكاظي ﴿ لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ﴾ [ طه : ١٠٧ ].
ثم يزجر الله الخلق زجرة، فإذا هم في هذه الأرض المبدلة مثل ما كانوا فيها من الأولى، من كان في بطنها كان في بطنها، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها، ثم ينزل الله [ عَزَّ وجل ]٢٦ عليهم ماء من تحت العرش، ثم يأمر الله السماء أن تمطر، فتمطر أربعين يومًا، حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعا، ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت فتنبت كنبات الطراثيث - أو : كنبات البقل - حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت، قال الله، عَزَّ وجل : ليَحْيَا حملةُ عرشي، فيحيون. ويأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور، فيضعه على فيه، ثم يقول : ليحيا جبريل وميكائيل، فيحيان، ثم يدعو الله الأرواح٢٧ فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نورا، وأرواح الكافرين ظلمة، فيقبضها جميعا ثم يلقيها في الصور.
ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح كأنها النحل٢٨ قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول [ الله ]٢٩ وعزتي وجلالي، ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد، فتدخل في الخياشيم، ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السم في اللديغ، ثم تَنْشَقّ الأرض عنكم٣٠ وأنا أول من تَنْشَقّ الأرض عنه، فتخرجون سراعًا إلى ربكم تنسلون٣١ ﴿ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ [ القمر : ٨ ] حَفَاة عُرَاة [ غُلْفًا ]٣٢ غُرْلا فتقفو٣٣ موقفًا واحدًا مقداره سبعون٣٤ عامًا، لا يُنْظَر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون٣٥ دمًا وتَعْرَقون حتى يلجمكم العرق، أو يبلغ الأذقان، وتقولون٣٦ من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا ؟ فتقولون٣٧ من أحق بذلك من أبيكم آدم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلا ؟ فيأتون آدم، فيطلبون ذلك إليه فيأبى، ويقول : ما أنا بصاحب ذلك. فيستقرءون الأنبياء نبيا نبيا، كلما جاءوا نبيا، أبى عليهم ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" حتى يأتوني، فأنطلق إلى٣٨ الفحص فأَخر ساجدًا " قال أبو هريرة : يا رسول الله، وما الفَحْص ؟ قال :" قدام العرش حتى يبعث الله إلي ملكا فيأخذ بعضدي، ويرفعني، فيقول لي : يا محمد٣٩ فأقول : نعم يا رب. فيقول الله، عَزَّ وجل : ما شأنك ؟ وهو أعلم، فأقول : يا رب، وعدتني الشفاعة فشَفعني في خلقك، فاقض بينهم. قال [ الله ]٤٠ قد شفعتك، أنا آتيكم أقضي بينكم ".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فأرجع فأقف مع الناس، فبينما نحن وقوف، إذ سمعنا حسا من السماء شديدا، فهالنا فنزل٤١ أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا وهو آت.
ثم ينزل [ من ]٤٢ أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ فيقولون : لا وهو آت.
ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف، حتى ينزل الجبار، عَزَّ وجل، في ظُلل من الغمام والملائكة، فيحمل عرشه٤٣ يومئذ ثمانية - وهم اليوم أربعة - أقدامهم في٤٤ تخوم الأرض السفلى، والأرض والسموات إلى حُجْزَتَهم٤٥ والعرش على مناكبهم، لهم زجل في تسبيحهم، يقولون : سبحان ذي العرش والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سُبُّوح قدوس قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى، رب الملائكة والروح، سبحان ربنا الأعلى، الذي يميت الخلائق ولا يموت، فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه، ثم يهتف بصوته٤٦ يا معشر الجن والإنس، إني قد أن
١ في أ: "كما تقول"..
٢ في أ: "المدينة"..
٣ في م، أ: "والصواب من القول في ذلك ما"..
٤ تفسير الطبري (١١/٤٦٣).
.

٥ المسند (٢/١٩٢)..
٦ زيادة من أ..
٧ في م: "فتسير الجبال"..
٨ في أ: "فتكون الموثقة"..
٩ في م: "تزحزحه"..
١٠ في أ: "وهي الذي يقول الله"..
١١ في أ: "ثم تولى"..
١٢ في أ: "هم كذلك إذ تصدعت"..
١٣ في أ: "تطوى"..
١٤ في أ: "انشقت السماء"..
١٥ في أ: "وخسف"..
١٦ في أ: "عند ربهم.
.

١٧ زيادة من م، أ..
١٨ زيادة من أ..
١٩ زيادة من أ..
٢٠ زيادة من أ..
٢١ زيادة من أ..
٢٢ زيادة من م، أ..
٢٣ في أ: "الكتاب"..
٢٤ في م: "تكففها"..
٢٥ في أ: "يبدل"..
٢٦ زيادة من أ..
٢٧ في أ: "بالأرواح ".
.

٢٨ في أ: "كالنحل"..
٢٩ زيادة من أ..
٣٠ في أ: "عنهم"..
٣١ في أ: "فيخرجون منها سراعا إلى ربهم ينسون"..
٣٢ زيادة من أ..
٣٣ في م: "يقفون"..
٣٤ في أ: " سبعين "..
٣٥ في أ: "تدمون"..
٣٦ في أ: "ويقولون"..
٣٧ في أ: "فيقولون"..
٣٨ في أ: "حتى آتى"..
٣٩ في م: "محمد"..
٤٠ زيادة من أ..
٤١ في أ: "فينزل"..
٤٢ زيادة من م..
٤٣ في أ: "عرش ربك"..
٤٤ في م: "على".
.

٤٥ في أ: "حجزهم"..
٤٦ في أ: "بصوته فيقول"..
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) ﴾
قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ آزرُ، إِنَّمَا كَانَ اسْمُهُ تَارِحَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ شَبِيبٌ، حَدَّثَنَا عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ﴾ يَعْنِي بِآزَرَ: الصَّنَمَ، وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ اسْمُهُ تَارِحُ، وَأُمُّهُ اسْمُهَا مَثَانِي، وَامْرَأَتُهُ اسْمُهَا سَارَةُ، وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ اسْمُهَا هَاجَرُ، وَهِيَ سُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ.
وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ: إِنَّ اسْمَهُ تَارِحُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ والسُّدِّي: آزَرُ: اسْمُ صَنَمٍ.
قُلْتُ: كَأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ آزَرُ لخدمته ذلك الصنم، فالله أعلم (١)
(١) في أ: "والله أعلم".
288
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: "هُوَ سَبٌّ (١) وَعَيْبٌ بِكَلَامِهِمْ، وَمَعْنَاهُ: مُعْوَج" وَلَمْ يُسْنِدْهُ وَلَا حَكَاهُ عَنْ أَحَدٍ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكر عَنْ مُعْتَمِر بْنِ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي يَقْرَأُ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ﴾ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا أَعْوَجُ، وَأَنَّهَا أَشَدُّ كَلِمَةٍ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ آزَرُ. ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلَ النَّسَّابِينَ أَنَّ اسْمَهُ تَارِحُ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ اسْمَانِ، كَمَا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا لَقَبًا (٢) وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي أَدَاءِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ﴾ فَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَآنِ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ مَعْنَاهُ: يَا آزَرُ، أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ، إِمَّا عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿لأبِيهِ﴾ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ.
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ نَعْتًا لَا يَنْصَرِفُ أَيْضًا كَأَحْمَرَ وَأَسْوَدَ.
فَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ لِكَوْنِهِ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا﴾ تَقْدِيرُهُ: يَا أَبَتِ، أَتُتَّخِذُ آزَرَ أَصْنَامًا آلِهَةً، فَإِنَّهُ قَوْلٌ بَعِيدٌ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ، كَذَا قَرَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَظَ أَبَاهُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَزَجَرَهُ عَنْهَا، وَنَهَاهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ أَيْ: أَتَتَأَلَّهُ لِصَنَمٍ تَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ﴾ أَيِ: السَّالِكِينَ مَسْلَكَكَ ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ أَيْ: تَائِهِينَ لَا يَهْتَدُونَ أَيْنَ يَسْلُكُونَ، بَلْ فِي حِيرَةٍ وَجَهْلٍ وَأَمْرُكُمْ فِي الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالِ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ صَحِيحٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: ٤١ -٤٨]،
(١) في م: "سبب".
(٢) وقد اعترض على قول ابن جرير الطبري ومحاولته الجمع، المحدث أحمد شاكر - رحمه الله - في بحث له في آخر كتاب "المعرب" للجواليقي قال في خاتمته: "والحجة القاطعة في نفي التأويلات التي زعموها في كلمة: "آزر"، وفي إبطال ما سموه قراءات، تخرج باللفظ عن أنه علم لوالد إبراهيم: الحديث الصحيح الصريح في البخاري: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فاليوم لا أعصيك.... إلى آخر الحديث". وفي البخاري (٤/١٣٩ من الطبعة السلطانية) وفتح الباري (٦/٢٧٦ من طبعة بولاق) وشرح العيني (١٥/٢٤٣، ٢٤٤) من الطبعة المنيرية)، فهذا النص يدل على أنه اسمه العلم، وهو لا يحتمل التأويل ولا التحريف.
289
فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ وَتَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ، رَجَعَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التَّوْبَةِ: ١١٤].
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَلْقَى أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، الْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: أَيْ رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنَّكَ لَا (١) تُخْزُنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٢) وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، انْظُرْ مَا وَرَاءَكَ. فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ (٣)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أَيْ: تبين لَهُ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي نَظَرِهِ إِلَى خَلْقِهِمَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي مُلْكِهِ وَخَلْقِهِ، وَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، كَقَوْلِهِ (٤) ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ [يُونُسَ: ١٠١]، وَقَالَ ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٨٥]، وَقَالَ ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [سَبَأٍ: ٩].
فَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وعَطاء، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، والسُّدِّي، وَغَيْرِهِمْ قَالُوا -وَاللَّفْظُ لِمُجَاهِدٍ -: فُرِجَتْ لَهُ السَّمَوَاتُ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ، حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ إِلَى الْعَرْشِ، وَفُرِجَتْ لَهُ الْأَرْضُونَ السَّبْعُ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِيهِنَّ -وَزَادَ غَيْرُهُ -: فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْعِبَادِ عَلَى الْمَعَاصِي فَيَدْعُوَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: إِنِّي أَرْحَمُ بِعِبَادِي مِنْكَ، لَعَلَّهُمْ أَنْ يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ، عَنْ مُعَاذٍ، وَعْلَيِّ [بْنِ أَبِي طَالِبٍ] (٥) (٦) وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ فَإِنَّهُ تَعَالَى جَلَا لَهُ الْأَمْرَ؛ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْخَلَائِقِ، فَلَمَّا جَعَلَ يَلْعَنُ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا. فَرَدَّهُ [اللَّهُ] (٧) -كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ -فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَشَفَ لَهُ عَنْ بَصَرِهِ، حَتَّى رَأَى ذَلِكَ عَيَانًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ بَصِيرَتِهِ حَتَّى شَاهَدَهُ بِفُؤَادِهِ وَتَحَقَّقَهُ وَعَرَفَهُ، وَعَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ وَالدَّلَالَاتِ الْقَاطِعَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٨)
(١) في أ: "أن لا".
(٢) في م، أ: "الدين".
(٣) صحيح البخاري برقم (٣٣٥٠).
(٤) في أ: "كما قال تعالى".
(٥) زيادة من م، أ.
(٦) أما حديث علي بن أبي طالب، فذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٣٠٢). وأما حديث معاذ بن جبل، فرواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٦٧٠٠) مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ شهر بن حوشب، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٧) زيادة من م.
(٨) زيادة من أ.
290
فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ: "أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي يَا رَبِّ، فَوَضَعَ كَفَّهُ (١) بَيْنَ كَتِفِي، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيِي، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ... " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (٢)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ قِيلَ: "الْوَاوُ" زَائِدَةٌ، تَقْدِيرُهُ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، كَقَوْلِهِ: ﴿ [وَكَذَلِكَ] (٣) نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٥٥].
وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا، أَيْ نُرِيهِ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَالِمًا وَمُوقِنًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ أَيْ: تَغَشَّاهُ وَسَتَرَهُ ﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾ أَيْ: نَجْمًا، ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أَيْ: غَابَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: "الْأُفُولُ" الذَّهَابُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُقَالُ: أَفَلَ النَّجْمُ يأفلُ ويأفِل أُفُولًا وأفْلا إِذَا غَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ.
مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي تَقُودُها (٤) نُجُومٌ، وَلَا بِالْآفِلَاتِ الدَّوَالِكِ (٥)
وَيُقَالُ: أَيْنَ أَفَلْتَ عَنَّا؟ بِمَعْنَى: أَيْنَ غِبْتَ عَنَّا؟
قَالَ: ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: عَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا﴾ أَيْ: طَالِعَا ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ أَيْ: هَذَا الْمُنِيرُ (٦) الطَّالِعُ رَبِّي ﴿هَذَا أَكْبَرُ﴾ أَيْ: جِرْمًا مِنَ النَّجْمِ وَمِنَ الْقَمَرِ، وَأَكْثَرَ إِضَاءَةً.: ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾ أَيْ: غَابَتْ، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ أَيْ أَخْلَصْتُ دِينِيَ وَأَفْرَدْتُ عِبَادَتِي ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ﴾ أَيْ: خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ. ﴿حَنِيفًا﴾ أَيْ فِي حَالِ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ: مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، هَلْ هُوَ مَقَامُ نَظَرٍ أَوْ مُنَاظَرَةٍ؟ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَقَامُ نَظَرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ] (٧) ﴾
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ الَّذِي وَلَدَتْهُ فِيهِ أُمُّهُ، حِينَ تَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ النَّمْرُودَ بْنَ كَنْعَانَ، لَمَّا أنْ قَدْ أُخْبِرَ بِوُجُودِ مَوْلُودٍ يَكُونُ ذَهَابُ مُلْكِكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ عامئذٍ. فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَحَانَ وَضْعُهَا، ذَهَبَتْ بِهِ إِلَى سَرَبٍ ظاهر البلد، فولدت فيه
(١) في أ: "يده".
(٢) المسند (٥/٢٤٣) وسنن الترمذي برقم (٣٢٣٥) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، سالت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في م: "يقودها".
(٥) البيت في تفسير الطبري (١١/٤٨٥) واللسان مادة (دلك).
(٦) في م: "الشيء"، وفي أ: "البين".
(٧) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
291
إِبْرَاهِيمَ وَتَرَكَتْهُ هُنَاكَ. وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، كَمَا ذَكَرَهَا غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ، مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ وَالْأَصْنَامِ، فَبَيَّنَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْأَرْضِيَّةِ، الَّتِي هِيَ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَبَيَّنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ السَّبْعَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ، وَهِيَ: الْقَمَرُ، وَعُطَارِدُ، وَالزَّهْرَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْمِرِّيخُ، وَالْمُشْتَرَى، وَزُحَلُ، وَأَشُدُّهُنَّ إِضَاءَةً وَأَشْرَقُهُنَّ عِنْدَهُمُ الشَّمْسُ، ثُمَّ الْقَمَرُ، ثُمَّ الزُّهَرَةُ. فَبَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الزُّهْرَةَ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ مَقَدَّرَةٌ بِسَيْرٍ مُعَيَّنٍ، لَا تَزِيغُ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا تَصَرُّفًا، بَلْ هِيَ جِرْمٌ مِنَ الْأَجْرَامِ خَلَقَهَا اللَّهُ مُنِيرَةً، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ (١) الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ تَسِيرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ حَتَّى تَغِيبَ عَنِ الْأَبْصَارِ فِيهِ، ثُمَّ تَبْدُو فِي اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ. وَمِثْلُ هَذِهِ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْقَمَرِ. فَبَيَّنَ فِيهِ مِثْلَ مَا بَيَّنَ فِي النَّجْمِ.
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّمْسِ كَذَلِكَ. فَلَمَّا انْتَفَتِ الْإِلَهِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ أَنْوَرُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْأَبْصَارُ، وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَتِهِنَّ وَمُوَالَاتِهِنَّ، فَإِنْ كَانَتْ آلِهَةً، فَكِيدُونِي بِهَا جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا أَعْبُدُ خَالِقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعَهَا وَمُسَخِّرَهَا وَمُقَدِّرَهَا وَمُدَبِّرَهَا، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٤] وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ [الْخَلِيلُ] (٢) نَاظِرًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ الْآيَاتِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥١، ٥٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٠ -١٢٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٦١].
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كل مولود يولد على
(١) في أ: "الحكمة".
(٢) زيادة من أ.
292
وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ أي : تبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله، عَزَّ وجل، في ملكه وخلقه، وإنه لا إله غيره ولا رب سواه، كقوله١ ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ [ يونس : ١٠١ ]، وقال ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ [ الأعراف : ١٨٥ ]، وقال ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ سبأ : ٩ ].
فأما ما حكاه ابن جرير وغيره، عن مجاهد، وعَطاء، وسعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّي، وغيرهم قالوا - واللفظ لمجاهد - : فرجت له السموات، فنظر إلى ما فيهن، حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع، فنظر إلى ما فيهن - وزاد غيره - : فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي فيدعوا عليهم، فقال الله له : إني أرحم بعبادي منك، لعلهم أن يتوبوا وَيُرَاجِعُوا. وقد روى ابن مَرْدُوَيه في ذلك حديثين مرفوعين، عن معاذ، وعلي [ بن أبي طالب ]٢ ٣ ولكن لا يصح إسنادهما، والله أعلم. وروى ابن أبي حاتم من طريق العَوْفي عن ابن عباس في قوله :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ فإنه تعالى جلا لَهُ الأمر ؛ سره وعلانيته، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله : إنك لا تستطيع هذا. فرده [ الله ]٤ - كما كان قبل ذلك - فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره، حتى رأى ذلك عيانا، ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه، وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة، كما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، عن معاذ بن جبل [ رضي الله عنه ]٥ في حديث المنام :" أتاني ربي في أحسن صورة فقال : يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت : لا أدري يا رب، فوضع كفه٦ بين كتفي، حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت. . . " وذكر الحديث٧
وقوله :﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ قيل :" الواو " زائدة، تقديره : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليكون من الموقنين، كقوله :﴿ [ وَكَذَلِكَ ]٨ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الأنعام : ٥٥ ].
وقيل : بل هي على بابها، أي نريه ذلك ليكون عالما وموقنا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله :﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [ لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ]١
وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السّرب الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه النمرود بن كنعان، لما أنْ قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذٍ. فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها، ذهبت به إلى سَرَبٍ ظاهر البلد، فولدت فيه
إبراهيم وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.
والحق أن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صورة الملائكة السماوية، ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي : القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل، وأشدهن إضاءة وأشرقهن عندهم الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة. فبين أولا أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ؛ لأنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينًا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم٢ العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. ومثل هذه لا تصلح للإلهية. ثم انتقل إلى القمر. فبين فيه مثل ما بين في النجم.
ثم انتقل إلى الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ أي : أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة، فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون، ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ أي : إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها، الذي بيده ملكوت كل شيء، وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] وكيف يجوز أن يكون إبراهيم [ الخليل ]٣ ناظرا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ الآيات [ الأنبياء : ٥١، ٥٢ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٠ - ١٢٣ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ].
وقد ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كل مولود يولد على الفطرة " ٤ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء " ٥ وقال الله في كتابه العزيز :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [ الروم : ٣٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] ومعناه على أحد القولين، كقوله :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ كما سيأتي بيانه.
فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل - الذي جعله الله ﴿ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٠ ] ناظرا في هذا المقام ؟ ! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب. ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا قوله تعالى٦.


١ في أ: "كما قال تعالى"..
٢ زيادة من م، أ..
٣ أما حديث علي بن أبي طالب، فذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٣٠٢). وأما حديث معاذ بن جبل، فرواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٦٧٠٠) من طريق ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه..
٤ زيادة من م..
٥ زيادة من أ..
٦ في أ: "يده"..
٧ المسند (٥/٢٤٣) وسنن الترمذي برقم (٣٢٣٥) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، سالت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح"..
٨ زيادة من أ..
وقوله :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ﴾ أي : تغشاه وستره ﴿ رَأَى كَوْكَبًا ﴾ أي : نجما، ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ ﴾ أي : غاب. قال محمد بن إسحاق بن يسار :" الأفول " الذهاب. وقال ابن جرير : يقال : أفل النجم يأفلُ ويأفِل أفولا وأفْلا إذا غاب، ومنه قول ذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي تَقُودُها١ نُجُومٌ، ولا بالآفلات الدوالك٢
ويقال : أين أفلت عنا ؟ بمعنى : أين غبت عنا ؟
قال :﴿ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ﴾ قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول،
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله :﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [ لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ]١
وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السّرب الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه النمرود بن كنعان، لما أنْ قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذٍ. فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها، ذهبت به إلى سَرَبٍ ظاهر البلد، فولدت فيه
إبراهيم وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.
والحق أن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صورة الملائكة السماوية، ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي : القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل، وأشدهن إضاءة وأشرقهن عندهم الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة. فبين أولا أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ؛ لأنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينًا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم٢ العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. ومثل هذه لا تصلح للإلهية. ثم انتقل إلى القمر. فبين فيه مثل ما بين في النجم.
ثم انتقل إلى الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ أي : أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة، فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون، ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ أي : إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها، الذي بيده ملكوت كل شيء، وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] وكيف يجوز أن يكون إبراهيم [ الخليل ]٣ ناظرا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ الآيات [ الأنبياء : ٥١، ٥٢ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٠ - ١٢٣ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ].
وقد ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كل مولود يولد على الفطرة " ٤ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء " ٥ وقال الله في كتابه العزيز :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [ الروم : ٣٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] ومعناه على أحد القولين، كقوله :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ كما سيأتي بيانه.
فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل - الذي جعله الله ﴿ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٠ ] ناظرا في هذا المقام ؟ ! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب. ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا قوله تعالى٦.


١ في م: "يقودها"..
٢ البيت في تفسير الطبري (١١/٤٨٥) واللسان مادة (دلك)..
﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا ﴾ أي : طالعا ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ أي : هذا المنير١ الطالع ربي ﴿ هَذَا أَكْبَرُ ﴾ أي : جرمًا من النجم ومن القمر، وأكثر إضاءة. :﴿ فَلَمَّا أَفَلَتْ ﴾ أي : غابت، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله :﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [ لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ]١
وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السّرب الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه النمرود بن كنعان، لما أنْ قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذٍ. فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها، ذهبت به إلى سَرَبٍ ظاهر البلد، فولدت فيه
إبراهيم وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.
والحق أن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صورة الملائكة السماوية، ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي : القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل، وأشدهن إضاءة وأشرقهن عندهم الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة. فبين أولا أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ؛ لأنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينًا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم٢ العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. ومثل هذه لا تصلح للإلهية. ثم انتقل إلى القمر. فبين فيه مثل ما بين في النجم.
ثم انتقل إلى الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ أي : أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة، فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون، ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ أي : إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها، الذي بيده ملكوت كل شيء، وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] وكيف يجوز أن يكون إبراهيم [ الخليل ]٣ ناظرا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ الآيات [ الأنبياء : ٥١، ٥٢ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٠ - ١٢٣ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ].
وقد ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كل مولود يولد على الفطرة " ٤ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء " ٥ وقال الله في كتابه العزيز :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [ الروم : ٣٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] ومعناه على أحد القولين، كقوله :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ كما سيأتي بيانه.
فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل - الذي جعله الله ﴿ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٠ ] ناظرا في هذا المقام ؟ ! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب. ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا قوله تعالى٦.


١ في م: "الشيء"، وفي أ: "البين"..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٧:﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا ﴾ أي : طالعا ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ أي : هذا المنير١ الطالع ربي ﴿ هَذَا أَكْبَرُ ﴾ أي : جرمًا من النجم ومن القمر، وأكثر إضاءة. :﴿ فَلَمَّا أَفَلَتْ ﴾ أي : غابت، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله :﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [ لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ]١
وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السّرب الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه النمرود بن كنعان، لما أنْ قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذٍ. فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها، ذهبت به إلى سَرَبٍ ظاهر البلد، فولدت فيه
إبراهيم وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.
والحق أن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صورة الملائكة السماوية، ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي : القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل، وأشدهن إضاءة وأشرقهن عندهم الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة. فبين أولا أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ؛ لأنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينًا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم٢ العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. ومثل هذه لا تصلح للإلهية. ثم انتقل إلى القمر. فبين فيه مثل ما بين في النجم.
ثم انتقل إلى الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ أي : أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة، فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون، ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ أي : إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها، الذي بيده ملكوت كل شيء، وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] وكيف يجوز أن يكون إبراهيم [ الخليل ]٣ ناظرا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ الآيات [ الأنبياء : ٥١، ٥٢ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٠ - ١٢٣ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ].
وقد ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كل مولود يولد على الفطرة " ٤ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء " ٥ وقال الله في كتابه العزيز :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [ الروم : ٣٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] ومعناه على أحد القولين، كقوله :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ كما سيأتي بيانه.
فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل - الذي جعله الله ﴿ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٠ ] ناظرا في هذا المقام ؟ ! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب. ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا قوله تعالى٦.


١ في م: "الشيء"، وفي أ: "البين"..

﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ﴾ أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي ﴿ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ﴾ أي : خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق. ﴿ حَنِيفًا ﴾ أي في حال كوني حَنِيفًا، أي : مائلا عن الشرك إلى التوحيد ؛ ولهذا قال :﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله :﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [ لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ]١
وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السّرب الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه النمرود بن كنعان، لما أنْ قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذٍ. فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها، ذهبت به إلى سَرَبٍ ظاهر البلد، فولدت فيه
إبراهيم وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.
والحق أن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صورة الملائكة السماوية، ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي : القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل، وأشدهن إضاءة وأشرقهن عندهم الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة. فبين أولا أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ؛ لأنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينًا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم٢ العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. ومثل هذه لا تصلح للإلهية. ثم انتقل إلى القمر. فبين فيه مثل ما بين في النجم.
ثم انتقل إلى الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ أي : أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة، فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون، ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ أي : إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها، الذي بيده ملكوت كل شيء، وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] وكيف يجوز أن يكون إبراهيم [ الخليل ]٣ ناظرا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ الآيات [ الأنبياء : ٥١، ٥٢ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٠ - ١٢٣ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ].
وقد ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كل مولود يولد على الفطرة " ٤ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء " ٥ وقال الله في كتابه العزيز :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [ الروم : ٣٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] ومعناه على أحد القولين، كقوله :﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ كما سيأتي بيانه.
فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل - الذي جعله الله ﴿ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ النحل : ١٢٠ ] ناظرا في هذا المقام ؟ ! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب. ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا قوله تعالى٦.

الْفِطْرَةِ" (١) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ" (٢) وَقَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الرُّومِ: ٣٠]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] وَمَعْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقٍّ سَائِرِ الْخَلِيقَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ ﴿أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٠] نَاظِرًا فِي هَذَا الْمَقَامِ؟! بَلْ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالسَّجِيَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ لَا نَاظِرًا قَوْلُهُ تَعَالَى (٣)
﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) ﴾
(١) صحيح البخاري برقم (١٣٨٥) وصحيح مسلم برقم (٢٦٥٨).
(٢) صحيح مسلم برقم (٢٨٦٥).
(٣) في أ: "عز وجل".
وقوله :﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ﴾ أي : كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدون١ من دون الله ﴿ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ﴾ ؟ قال ابن عباس وغير واحد من السلف : أي حجة وهذا كما قال تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [ الشورى : ٢١ ] وقال ﴿ إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ [ النجم : ٢٣ ].
وقوله :﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي : فأي الطائفتين أصوب ؟ الذي عَبَد من بيده الضر والنفع، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل، أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة ؟
١ في، أ: "تعبدونها"..
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَجَادَلَهُ قَوْمُهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَنَاظَرُوهُ بشبه من القول، قال ﴿قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ أَيْ: تُجَادِلُونَنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَقَدْ بَصَّرَنِي وَهَدَانِي إِلَى الْحَقِّ وَأَنَا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟ فَكَيْفَ أَلْتَفِتُ إِلَى أَقْوَالِكُمُ الْفَاسِدَةِ وَشُبَهِكُمُ الْبَاطِلَةِ؟!
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ أَيْ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِكُمْ فِيمَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا لَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَأَنَا لَا أَخَافُهَا، وَلَا أُبَالِيهَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا صُنْعٌ، فَكِيدُونِي بِهَا [جَمِيعًا] (١) وَلَا تُنْظِرُونِ، بَلْ عَاجِلُونِي بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. أَيْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ.
﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ أَيْ: أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا تَخْفَى (٢) عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
﴿أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ: فِيمَا بَيَّنْتُهُ (٣) لَكُمْ فَتَعْتَبِرُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ بَاطِلَةٌ، فَتُزْجَرُوا (٤) عَنْ عِبَادَتِهَا؟ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ نَظِيرُ مَا احْتَجَّ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ هُودٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى قَوْمِهِ عَادٍ، فِيمَا قَصَّ عَنْهُمْ فِي كتابه،
(١) زيادة من م.
(٢) في أ: "فلا يخفى".
(٣) في أ: "فيما بينه".
(٤) في أ: "فتنزجروا".
293
حَيْثُ يَقُولُ: ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (١) ﴾ [هُودٍ: ٥٣ -٥٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾ أَيْ: كَيْفَ أَخَافُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَعْبُدُونَ (٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴿وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَيْ حُجَّةٌ وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشُّورَى: ٢١] وَقَالَ ﴿إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النَّجْمِ: ٢٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: فَأَيُّ الطَّائِفَتَيْنِ أَصْوَبُ؟ الَّذِي عَبَد مَنْ بِيَدِهِ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، أَوِ الَّذِي عَبَدَ مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ بِلَا دَلِيلٍ، أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ، لَهُ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا هُمُ الْآمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لُقْمَانَ: ١٣] (٣)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ (٤) وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ (٥) قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ! أَلَمْ تَسْمَعُوا (٦) مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ" (٧)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا قَالَ [لُقْمَانُ] (٨) لِابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (٩)
(١) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٢) في، أ: "تعبدونها".
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٦٢٩).
(٤) في م: "المسلمين".
(٥) في أ: "أينا لم يظلم نفسه".
(٦) في أ: "تسمعوا إلى".
(٧) المسند (١/٣٧٨).
(٨) زيادة من م.
(٩) ورواه البخاري في صحيحه برقم (٦٩٣٧) من طريق وكيع بنحوه.
294
وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ النَّمَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قَالَ: "بِشِرْكٍ".
قَالَ: ورُوي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ، وأُبيّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَلْمَانَ، وَحُذَيْفَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي، وَمُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، والنَّخَعِي، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، والسُّدِّي نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَدَّاد المِسْمَعِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قِيلَ لِي: أَنْتَ مِنْهُمْ" (١)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَناب، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَمَّا بَرَزْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، إِذَا رَاكِبٌ يُوضِعُ نَحْوَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَأَنَّ هَذَا الرَّاكِبَ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ". فَانْتَهَى إِلَيْنَا الرَّجُلُ، فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ (٢) فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ " قَالَ: مِنْ أَهْلِي وَوَلَدِي وَعَشِيرَتِي. قَالَ: "فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ "، قَالَ: أريدُ رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "فَقَدْ أَصَبْتَهُ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ". قَالَ: قَدْ أَقْرَرْتُ. قَالَ: ثُمَّ إن بعيره دخلت يده في جحر جُرْذَان، فَهَوَى بِعِيرُهُ وَهَوَى الرَّجُلُ، فَوَقَعَ عَلَى هَامَتِهِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (٣) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيَّ بِالرَّجُلِ". فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُبِضَ الرَّجُلُ! قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا رَأَيْتُمَا إِعْرَاضِي عَنِ الرَّجُلِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ مَلَكَيْنِ يَدُسَّانِ فِي فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَاتَ جَائِعًا"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ (٤) ثُمَّ قَالَ: "دُونَكُمْ أَخَاكُمْ". قَالَ: فَاحْتَمَلْنَاهُ إِلَى الْمَاءِ فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، وَحَمَلْنَاهُ إِلَى الْقَبْرِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى شَفِير الْقَبْرِ فَقَالَ: "الْحِدُوا وَلَا تَشُقُّوا، فَإِنَّ اللَّحْدَ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا" (٥)
ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْوَدَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْفَرَّاءِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِيهِ: "هَذَا مِمَّنْ عَمل قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا" (٦)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا مِهْران بن أبي عمر،
(١) وفي إسناده محمد بن شداد المسمعي، قال الدارقطني: لا يكتب حديثه، وقال مرة: ضعيف، وضعفه البرقاني.
(٢) في م: "عليه السلام".
(٣) في أ: "رسول الله".
(٤) في م، أ: (بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
(٥) المسند (٤/٣٥٩) وقال الهيثمي في المجمع (١/٤٢) :"في إسناده أبو جناب وهو مدلس وقد عنعنه".
(٦) المسند (٤/٣٥٩) وقد تابع ثابت أبا جناب، لكنه اختلف عليه فيه، فرواه الطبراني في المعجم الكبير (٢/٣١٩) من طريق عبيد الله ابن موسى عن ثابت عن أبي البقظان عن زاذان عن جرير به.
295
حَدَّثَنَا عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى (١) عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ (٢) سَارَهُ، إِذْ عَرَضَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي وَتِلَادِي وَمَالِي لِأَهْتَدِيَ بِهُدَاكَ، وَآخُذَ مِنْ قَوْلِكَ، وَمَا بَلَغْتُكَ حَتَّى مَا لِي طَعَامٌ إِلَّا مِنْ خَضِر الْأَرْضِ، فاعْرِضْ عَلَيّ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبِلَ فَازْدَحَمْنَا حَوْلَهُ، فَدَخَلَ خُفُّ بَكْره فِي بَيْتِ جُرْذَان، فَتَرَدَّى الْأَعْرَابِيُّ، فَانْكَسَرَتْ عُنُقُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لَقَدْ خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَتِلَادِهِ وَمَالِهِ لِيَهْتَدِيَ بِهُدَايَ وَيَأْخُذَ مِنْ قَوْلِي، وَمَا بَلَغَنِي حَتَّى مَا لَهُ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ خَضِرِ الْأَرْضِ، أَسَمِعْتُمْ بِالَّذِي عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا هَذَا مِنْهُمْ! أَسَمِعْتُمْ بِالَّذِينِ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ؟ فَإِنَّ هَذَا مِنْهُمْ" (٣) [وَرَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ حديث محمد ابن مُعَلَّى -وَكَانَ نَزَلَ الرَّيَّ -حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ وَمُنِعَ فَصَبَرَ وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ وَظُلِمَ فَغَفَرَ" وَسَكَتَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَهُ؟ قَالَ ": ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ ] (٤)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ أَيْ: وَجَّهْنَا حُجَّتَهُ عَلَى قَوْمِهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] ﴾ (٥) وَقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ، وَحَكَمَ لَهُ بِالْأَمْنِ وَالْهِدَايَةِ فَقَالَ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾
قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ وَبِلَا إِضَافَةٍ، كَمَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ، وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ: حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ ﴿عَلِيمٌ﴾ أَيْ: بِمَنْ يَهْدِيهِ وَمَنْ يُضِلُّهُ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ، كَمَا قَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يُونُسَ: ٩٦، ٩٧] ؛؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا:
﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾
(١) في أ: "عبد الله".
(٢) في م: "في سير ".
(٣) ورواه الحكيم الترمذي كما في الدر المنثور (٣/٣٠٩).
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
296
وقوله :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ أي : وجهنا حجته على قومه.
قال مجاهد وغيره : يعني بذلك قوله :﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ [ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ] ﴾١ وقد صدقه الله، وحكم له بالأمن والهداية فقال :﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ ثم قال بعد ذلك كله :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ﴾
قرئ بالإضافة وبلا إضافة، كما في سورة يوسف، وكلاهما قريب في المعنى.
وقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ أي : حكيم في أفعاله وأقواله ﴿ عَلِيمٌ ﴾ أي : بمن يهديه ومن يضله، وإن قامت عليه الحجج والبراهين، كما قال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ ﴾ [ يونس : ٩٦، ٩٧ ] ؛ ؛ ولهذا قال هاهنا :
﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾
١ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
.

﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (٩٠) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ وَهَبَ لِإِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقَ، بَعْدَ أَنْ طَعَن فِي السِّنِّ، وَأَيِسَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ "سَارَةُ" مِنَ الْوَلَدِ، فَجَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، فَبَشَّرُوهُمَا بِإِسْحَاقَ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ [هُودٍ: ٧٢، ٧٣]، وَبَشَّرُوهُ (١) مَعَ وُجُودِهِ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِأَنَّ لَهُ نَسْلًا وعَقِبا، كَمَا قَالَ: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١١٢]، وَهَذَا أَكْمَلُ فِي الْبِشَارَةِ، وَأَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ، وَقَالَ: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هُودٍ: ٧١] أَيْ: وَيُولَدُ لِهَذَا الْمَوْلُودِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا، فَتَقَرُّ أَعْيُنُكُمَا بِهِ كَمَا قَرَّتْ بِوَالِدِهِ، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِوَلَدِ الْوَلَدِ شَدِيدٌ لِبَقَاءِ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ، وَلَمَّا كَانَ وَلَدُ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَعْقب لِضَعْفِهِ، وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ وَبِوَلَدِهِ بَاسِمِ "يَعْقُوبَ"، الَّذِي فِيهِ اشْتِقَاقُ الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَكَانَ هَذَا مُجَازَاةً لِإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ اعْتَزَلَ قَوْمَهُ وَتَرَكَهُمْ، وَنَزَحَ عَنْهُمْ وَهَاجَرَ مِنْ بِلَادِهِمْ ذَاهِبًا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ بِأَوْلَادٍ صَالِحِينَ مِنْ صُلْبِهِ عَلَى دِينِهِ، لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٢) ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٤٩]، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: مِنْ قَبْلِهِ، هَدَيْنَاهُ كَمَا هَدَيْنَاهُ، وَوَهَبْنَا لَهُ ذَرِّيَّةً صَالِحَةً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ خُصُوصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، أَمَّا نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ -وَهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي السَّفِينَةِ -جَعَلَ اللَّهُ ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَكَذَلِكَ الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بَعْدَهُ نَبِيًّا إِلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ الْآيَةَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الْحَدِيدِ: ٢٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٥٨].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ﴾ أَيْ: وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴿دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ﴾ الْآيَةَ، وُعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى "نُوحٍ"؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ، ظَاهِرٌ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جرير، ولا إشكال عليه. وعوده
(١) في م: "وبشروها".
(٢) زيادة من أ.
297
إِلَى "إِبْرَاهِيمَ"؛ لِأَنَّهُ الَّذِي سَبَقَ الْكَلَامُ مِنْ أَجْلِهِ حَسَنٌ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ "لُوطٌ"، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ "إِبْرَاهِيمَ"، بَلْ هُوَ ابْنُ أَخِيهِ مَادَانَ بْنِ آزَرَ؛ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ دَخَلَ فِي الذُّرِّيَّةِ تَغْلِيبًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٣٣]، فَإِسْمَاعِيلُ عَمُّهُ، وَدَخَلَ فِي آبَائِهِ تَغْلِيبًا.
[وَكَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ﴾ [الْحِجْرِ: ٣٠، ٣١] فَدَخَلَ إِبْلِيسُ فِي أَمْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ، وَذُمَّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَشَبَّهَ بِهِمْ، فَعُومِلَ مُعَامَلَتَهُمْ، وَدَخَلَ مَعَهُمْ تَغْلِيبًا، وَكَانَ مِنَ الْجِنِّ وَطَبِيعَتُهُمُ النَّارُ وَالْمَلَائِكَةُ مِنَ النُّورِ] (١)
وَفِي ذِكْرِ "عِيسَى"، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي ذُرِّيَّةِ "إِبْرَاهِيمَ" أَوْ "نُوحٍ"، عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ دَلَالَةٌ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبَنَاتِ فِي ذُرِّيَّةِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ "عِيسَى"، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى "إِبْرَاهِيمَ"، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِأُمِّهِ "مَرْيَمَ" عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَا أَبَ لَهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يَحْيَى الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحمن بن صالح، حدثنا علي ابن عَابِسٍ (٢) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: أَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَعْمُر فَقَالَ: بَلَغَني أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ قَرَأْتُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ؟ قَالَ: أَلَيْسَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْأَنْعَامِ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿وَيَحْيَى وَعِيسَى﴾ ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَيْسَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ؟ قَالَ: صَدَقْتَ.
فَلِهَذَا إِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِذَرِّيَّتِهِ، أَوْ وَقَفَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ أَوْ وَهَبَهُمْ، دَخَلَ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِيهِمْ، فَأَمَّا إِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ بَنِيهِ أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ بَنَوْهُ لِصُلْبِهِ وَبَنُو بَنِيهِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ الْعَرَبِيِّ:
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ (٣)
وَقَالَ آخَرُونَ: وَيَدْخُلُ بَنُو الْبَنَاتِ فِيهِ أَيْضًا، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (٤) فَسَمَّاهُ ابْنًا، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْأَبْنَاءِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا تَجَوُّزٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾ ذَكَرَ أُصُولَهُمْ وَفُرُوعَهُمْ. وَذَوِي طَبَقَتِهِمْ، وَأَنَّ الْهِدَايَةَ وَالِاجْتِبَاءَ شَمَلَهُمْ كُلَّهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
(١) زيادة من م، أ.
(٢) في أ: "عباس".
(٣) ذكره ابن عقيل في شواهده على ألفية ابن مالك برقم (٥١). وعنده "الأباعد" بدل "الأجانب".
(٤) صحيح البخاري برقم (٢٧٠٤) من حديث أبي بكرة، رضي الله عنه.
298
ثُمَّ قَالَ: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ، ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ تَشْدِيدٌ لِأَمْرِ الشِّرْكِ، وَتَغْلِيظٌ لِشَأْنِهِ، وَتَعْظِيمٌ لِمُلَابَسَتِهِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (١) ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ الْآيَةَ [الزُّمَرِ: ٦٥]، وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْوُقُوعِ، كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] (٢) ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٨١]، وَكَقَوْلِهِ ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٧] وَكَقَوْلِهِ ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الزُّمَرِ: ٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ أَيْ: أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ بِهِمْ، وَلُطْفًا مِنَّا بِالْخَلِيقَةِ، ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا﴾ أَيْ: بِالنُّبُوَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: الْكِتَابِ، وَالْحُكْمِ، وَالنُّبُوَّةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿هَؤلاءِ﴾ يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّب، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي. ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ أَيْ: إِنْ يَكْفُرْ بِهَذِهِ النِّعَمِ مَنْ كَفَرَ بِهَا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، مَنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ، وَمِلِّيِينَ وَكِتَابِيِّينَ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا ﴿آخَرِينَ﴾ يَعْنِي: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَأَتْبَاعَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ﴿لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ أَيْ: لَا يَجْحَدُونَ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا يَرُدُّونَ مِنْهَا حَرْفًا وَاحِدًا، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِهَا مُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿أُولَئِكَ﴾ يَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ مَعَ مَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْآبَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْإِخْوَانِ وَهُمُ الْأَشْبَاهُ ﴿الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أَيْ: هُمْ أَهْلُ الْهِدَايَةِ لَا غَيْرُهُمْ، ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ أَيِ: اقْتَدِ وَاتَّبِعْ. وَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُمَّتُهُ تَبَعٌ لَهُ فِيمَا يُشَرِّعُهُ [لَهُمْ] (٣) وَيَأْمُرُهُمْ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ، أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي (ص) سَجْدَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ ثُمَّ قَالَ: هُوَ مِنْهُمْ -زَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدي بِهِمْ (٤)
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ أَيْ: لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ عَلَى إِبْلَاغِي إِيَّاكُمْ هَذَا الْقُرْآنَ ﴿أَجْرًا﴾ أَيْ: أُجْرَةً، وَلَا أُرِيدُ مِنْكُمْ شَيْئًا، ﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ أَيْ: يَتَذَكَّرُونَ بِهِ فَيُرْشَدُوا مِنَ الْعَمَى إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الْغَيِّ (٥) إِلَى الرَّشَادِ، ومن الكفر إلى الإيمان.
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) زيادة من أ.
(٤) صحيح البخاري برقم (٤٦٣٢).
(٥) في أ: "العمى".
299
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:يخبر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، بعد أن طَعَن في السن، وأيس هو وامرأته " سارة " من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، وقالت :﴿ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [ هود : ٧٢، ٧٣ ]، وبشروه١ مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلا وعَقِبا، كما قال :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ]، وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة، وقال :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] أي : ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به كما قرت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يَعْقب لضعفه، وقعت البشارة به وبولده باسم " يعقوب "، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاة لإبراهيم، عليه السلام، حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله، عَزَّ وجل، عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال [ تعالى ]٢ ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا ﴾ [ مريم : ٤٩ ]، وقال هاهنا :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا ﴾
وقوله :﴿ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾ أي : من قبله، هديناه كما هديناه، ووهبنا له ذرية صالحة، وكل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح، عليه السلام، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به - وهم الذين صحبوه في السفينة - جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذرية نوح، وكذلك الخليل إبراهيم، عليه السلام، لم يبعث الله، عَزَّ وجل، بعده نبيا إلا من ذريته، كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ الآية [ العنكبوت : ٢٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [ الحديد : ٢٦ ]، وقال تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [ مريم : ٥٨ ].
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾ أي : وهدينا من ذريته ﴿ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ الآية، وعود الضمير إلى " نوح " ؛ لأنه أقرب المذكورين، ظاهر. وهو اختيار ابن جرير، ولا إشكال عليه. وعوده إلى " إبراهيم " ؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل على ذلك " لوط "، فإنه ليس من ذرية " إبراهيم "، بل هو ابن أخيه مادان بن آزر ؛ اللهم إلا أن يقال : إنه دخل في الذرية تغليبًا، كما في قوله تعالى :﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ]، فإسماعيل عمه، ودخل في آبائه تغليبا.
[ وكما قال في قوله :﴿ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ ﴾ [ الحجر : ٣٠، ٣١ ] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود، وذم على المخالفة ؛ لأنه كان قد تشبه بهم، فعومل معاملتهم، ودخل معهم تغليبا، وكان من الجن وطبيعتهم النار والملائكة من النور ]٣
وفي ذكر " عيسى "، عليه السلام، في ذرية " إبراهيم " أو " نوح "، على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجال ؛ لأن " عيسى "، عليه السلام، إنما ينسب إلى " إبراهيم "، عليه السلام، بأمه " مريم " عليها السلام، فإنه لا أب له.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا سهل بن يحيى العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا علي ابن عابس٤ عن عبد الله بن عطاء المكي، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن يَعْمُر فقال : بَلَغَني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، تجده في كتاب الله، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ قال : أليس تقرأ سورة الأنعام :﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ حتى بلغ ﴿ وَيَحْيَى وَعِيسَى ﴾ ؟ قال : بلى، قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم، وليس له أب ؟ قال : صدقت.
فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته، أو وقف على ذريته أو وهبهم، دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر العربي :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأجانب٥
وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيه أيضا، لما ثبت في صحيح البخاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي :" إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " ٦ فسماه ابنا، فدل على دخوله في الأبناء.
وقال آخرون : هذا تجوز.
١ في م: "وبشروها"..
٢ زيادة من أ.
.

٣ زيادة من م، أ..
٤ في أ: "عباس"..
٥ ذكره ابن عقيل في شواهده على ألفية ابن مالك برقم (٥١). وعنده "الأباعد" بدل "الأجانب"..
٦ صحيح البخاري برقم (٢٧٠٤) من حديث أبي بكرة، رضي الله عنه.
.


نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:يخبر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، بعد أن طَعَن في السن، وأيس هو وامرأته " سارة " من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، وقالت :﴿ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [ هود : ٧٢، ٧٣ ]، وبشروه١ مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلا وعَقِبا، كما قال :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ]، وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة، وقال :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] أي : ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به كما قرت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يَعْقب لضعفه، وقعت البشارة به وبولده باسم " يعقوب "، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاة لإبراهيم، عليه السلام، حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله، عَزَّ وجل، عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال [ تعالى ]٢ ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا ﴾ [ مريم : ٤٩ ]، وقال هاهنا :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا ﴾
وقوله :﴿ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾ أي : من قبله، هديناه كما هديناه، ووهبنا له ذرية صالحة، وكل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح، عليه السلام، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به - وهم الذين صحبوه في السفينة - جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذرية نوح، وكذلك الخليل إبراهيم، عليه السلام، لم يبعث الله، عَزَّ وجل، بعده نبيا إلا من ذريته، كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ الآية [ العنكبوت : ٢٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [ الحديد : ٢٦ ]، وقال تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [ مريم : ٥٨ ].
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾ أي : وهدينا من ذريته ﴿ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ الآية، وعود الضمير إلى " نوح " ؛ لأنه أقرب المذكورين، ظاهر. وهو اختيار ابن جرير، ولا إشكال عليه. وعوده إلى " إبراهيم " ؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل على ذلك " لوط "، فإنه ليس من ذرية " إبراهيم "، بل هو ابن أخيه مادان بن آزر ؛ اللهم إلا أن يقال : إنه دخل في الذرية تغليبًا، كما في قوله تعالى :﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ]، فإسماعيل عمه، ودخل في آبائه تغليبا.
[ وكما قال في قوله :﴿ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ ﴾ [ الحجر : ٣٠، ٣١ ] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود، وذم على المخالفة ؛ لأنه كان قد تشبه بهم، فعومل معاملتهم، ودخل معهم تغليبا، وكان من الجن وطبيعتهم النار والملائكة من النور ]٣
وفي ذكر " عيسى "، عليه السلام، في ذرية " إبراهيم " أو " نوح "، على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجال ؛ لأن " عيسى "، عليه السلام، إنما ينسب إلى " إبراهيم "، عليه السلام، بأمه " مريم " عليها السلام، فإنه لا أب له.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا سهل بن يحيى العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا علي ابن عابس٤ عن عبد الله بن عطاء المكي، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن يَعْمُر فقال : بَلَغَني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، تجده في كتاب الله، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ قال : أليس تقرأ سورة الأنعام :﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ حتى بلغ ﴿ وَيَحْيَى وَعِيسَى ﴾ ؟ قال : بلى، قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم، وليس له أب ؟ قال : صدقت.
فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته، أو وقف على ذريته أو وهبهم، دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر العربي :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأجانب٥
وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيه أيضا، لما ثبت في صحيح البخاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي :" إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " ٦ فسماه ابنا، فدل على دخوله في الأبناء.
وقال آخرون : هذا تجوز.
١ في م: "وبشروها"..
٢ زيادة من أ.
.

٣ زيادة من م، أ..
٤ في أ: "عباس"..
٥ ذكره ابن عقيل في شواهده على ألفية ابن مالك برقم (٥١). وعنده "الأباعد" بدل "الأجانب"..
٦ صحيح البخاري برقم (٢٧٠٤) من حديث أبي بكرة، رضي الله عنه.
.


وقوله :﴿ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ﴾ ذكر أصولهم وفروعهم. وذوي طبقتهم، وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم ؛ ولهذا قال :﴿ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
ثم قال :﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ أي : إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم، ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كما قال [ تعالى ]١ ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ الآية [ الزمر : ٦٥ ]، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، كقوله [ تعالى ]٢ ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ [ الزخرف : ٨١ ]، وكقوله ﴿ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٧ ] وكقوله ﴿ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [ الزمر : ٤ ].
١ زيادة من أ..
٢ زيادة من أ..
وقوله :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ﴾ أي : أنعمنا عليهم بذلك رحمة للعباد بهم، ولطفا منا بالخليقة، ﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا ﴾ أي : بالنبوة. ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على هذه الأشياء الثلاثة : الكتاب، والحكم، والنبوة.
وقوله :﴿ هَؤلاءِ ﴾ يعني : أهل مكة. قاله ابن عباس، وسعيد بن المُسَيَّب، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي. ﴿ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ أي : إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قوما ﴿ آخَرِينَ ﴾ يعني : المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة، ﴿ لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ أي : لا يجحدون شيئا منها، ولا يردون منها حرفًا واحدًا، بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وإحسانه.
ثم قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم :﴿ أُولَئِكَ ﴾ يعني : الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه ﴿ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾ أي : هم أهل الهداية لا غيرهم، ﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ أي : اقتد واتبع. وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى الله عليه وسلم، فأمته تبع له فيما يشرعه [ لهم ]١ ويأمرهم به.
قال البخاري عند هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني سليمان الأحول، أن مجاهدا أخبره، أنه سأل ابن عباس : أفي( ص ) سجدة ؟ فقال : نعم، ثم تلا ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ﴾ إلى قوله :﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ ثم قال : هو منهم - زاد يزيد بن هارون، ومحمد بن عبيد، وسهل بن يوسف، عن العوام، عن مجاهد قال : قلت لابن عباس، فقال : نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أُمِرَ أن يَقْتَدي بهم٢
وقوله :﴿ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ أي : لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن ﴿ أَجْرًا ﴾ أي : أجرة، ولا أريد منكم شيئا، ﴿ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ أي : يتذكرون به فَيُرْشَدُوا من العمى إلى الهدى، ومن الغي٣ إلى الرشاد، ومن الكفر إلى الإيمان.
١ زيادة من أ..
٢ صحيح البخاري برقم (٤٦٣٢)..
٣ في أ: "العمى".
.

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩٢) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَمَا عَظَّمُوا اللَّهَ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، إِذْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ؛ وَقِيلَ: فِي فِنْحَاصَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ.
﴿قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْيَهُودُ لَا يُنْكِرُونَ إِنْزَالَ الْكُتُبِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُرَيْشٌ -وَالْعَرَبُ قَاطِبَةً -كَانُوا يُبْعِدُونَ إِرْسَالَ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (١) ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ] (٢) ﴾ [يُونُسَ: ٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٩٤، ٩٥]، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ ؟ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِإِنْزَالِ شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فِي جَوَابِ سَلْبِهِمُ الْعَامِّ بِإِثْبَاتِ قَضِيَّةٍ جُزْئِيَّةٍ مُوجِبَةٍ: ﴿مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ يَعْنِي: التَّوْرَاةَ الَّتِي قَدْ عَلِمْتُمْ -وَكُلُّ أَحَدٍ -أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَهَا عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ، أَيْ: لِيُسْتَضَاءَ بِهَا فِي كَشْفِ الْمُشْكِلَاتِ، وَيُهْتَدَى بِهَا مِنْ ظُلَمِ الشُّبُهَاتِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ (٣) أَيْ: يَجْعَلُهَا حَمَلَتُهَا (٤) قَرَاطِيسَ، أَيْ: قِطَعًا يَكْتُبُونَهَا مِنَ الْكِتَابِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ وَيُحَرِّفُونَ فِيهَا مَا يُحَرِّفُونَ وَيُبَدِّلُونَ وَيَتَأَوَّلُونَ، وَيَقُولُونَ: ﴿هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٧٩]، أَيْ: فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ﴾ أَيْ: وَمَنْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الَّذِي عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) قال ابن الجوزي في زاد المسير (٣/٨٤) :"قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يجعلونه في قراطيس يبدونها" و"يخفون" بالياء فيهن، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء فيهن". والظاهر أن الحافظ ابن كثير اعتمد على القراءة الأولى.
(٤) في أ: "تجعلها جملتها".
وقوله :﴿ وَهَذَا كِتَابٌ ﴾ يعني : القرآن ﴿ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى ﴾ يعني : مكة ﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ من أحياء العرب، ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم، كما قال في الآية الأخرى :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وقال ﴿ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، وقال ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ [ هود : ١٧ ]، وقال ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [ الفرقان : ١ ]، وقال ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [ آل عمران : ٢٠ ]، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أعْطِيتُ خمسًا لم يُعْطَهُنّ أحد من الأنبياء قبلي " وذكر منهن :" وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة " ١ ؛ ولهذا قال :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي : كل من آمن بالله واليوم الآخر آمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن، ﴿ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ أي : يقومون بما افترض عليهم، من أداء الصلوات في أوقاتها.
١ صحيح البخاري برقم (٣٣٥) وصحيح مسلم برقم (٥٢١).
.

خَبَرِ مَا سَبَقَ، وَنَبَأِ مَا يَأْتِي مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: قُلِ: اللَّهُ أَنْزَلَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أَيْ: لَا يَكُونُ خِطَابٌ لَهُمْ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، كَلِمَةَ: "اللَّهُ".
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ يَكُونُ أَمْرًا بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَرْكِيبٍ، وَالْإِتْيَانُ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَا يُفِيدُ (١) فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فَائِدَةً يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ أَيْ: ثُمَّ دَعْهُمْ فِي جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَلْعَبُونَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْيَقِينُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٢) أَلَهُمُ الْعَاقِبَةُ، أَمْ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؟.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ ﴿أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ يَعْنِي: مَكَّةَ ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَمِنْ سَائِرِ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ مِنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٥٨]، وَقَالَ ﴿لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٩]، وَقَالَ ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هُودٍ: ١٧]، وَقَالَ ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ١]، وَقَالَ ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٠]، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي" وَذَكَرَ مِنْهُنَّ: "وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" (٣) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أَيْ: كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ آمَنَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، ﴿وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ أَيْ: يَقُومُونَ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، مِنْ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ كذب على الله، فجعل
(١) في م: "لا تفيد".
(٢) في أ: "يلعبون".
(٣) صحيح البخاري برقم (٣٣٥) وصحيح مسلم برقم (٥٢١).
301
لَهُ شَرِيكًا أَوْ وَلَدًا، أَوِ ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ أَرْسَلَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾
قَالَ عِكْرِمة وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ [لَعَنَهُ اللَّهُ] (١)
﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ﴾ يَعْنِي: وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يُعَارِضُ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا يَفْتَرِيهِ مِنَ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ] (٢) ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٣١]، قَالَ اللَّهُ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ أَيْ: فِي سَكَرَاتِهِ وَغَمَرَاتِهِ وكُرُباته، ﴿وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ: بِالضَّرْبِ كَمَا قَالَ: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ] ﴾ (٣) الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: ٢٨]، وَقَالَ: ﴿وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ﴾ الْآيَةَ [الْمُمْتَحِنَةِ: ٢].
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ: ﴿بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ: بِالْعَذَابِ. وَكَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٤) ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٥٠] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ: بِالضَّرْبِ لَهُمْ حَتَّى تَخْرُجَ أَنْفُسُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ لَهُمْ: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتَضَرَ بَشَّرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْعَذَابِ والنَّكال، وَالْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ، وَالْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ، وَغَضَبِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَتَتَفَرَّقُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَتَعْصَى وَتَأْبَى الْخُرُوجَ، فَتَضْرِبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَخْرُجَ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، قَائِلِينَ لَهُمْ: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ] ﴾ (٥) أَيِ: الْيَوْمَ تُهَانُونَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ، كَمَا كُنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ، وَتَسْتَكْبِرُونَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِرُسُلِهِ.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ [مُتَوَاتِرَةٌ] (٦) فِي كَيْفِيَّةِ احْتِضَارِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَهِيَ مُقَرَّرَةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٧].
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مَرْدُوَيه هَاهُنَا حَدِيثًا مُطَوَّلًا جِدًّا مِنْ طَرِيقٍ غَرِيبَةٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ (٧)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ هَذَا، كَمَا قَالَ ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الْكَهْفِ: ٤٨]، أَيْ: كَمَا بَدَأْنَاكُمْ أَعَدْنَاكُمْ، وَقَدْ كُنْتُمْ تُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَتَسْتَبْعِدُونَهُ، فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ﴾ أَيْ: مِنَ النِّعَمِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي اقْتَنَيْتُمُوهَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ﴿وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مالك
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ "الآية".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) زيادة من م.
(٥) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٦) زيادة من م، وفي أ: "الأحاديث المتواترة".
(٧) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٣١٨) وقال: إسناده ضعيف.
302
إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ".
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ بَذَج فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، [لَهُ] (١) أَيْنَ مَا جَمَعْتَ؟ فَيَقُولُ يَا رَبِّ، جَمَعْتُهُ وَتَرَكْتُهُ أَوْفَرَ مَا كَانَ، فَيَقُولُ: فَأَيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَلَا يَرَاهُ قَدَّمَ شَيْئًا، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾ تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ عَلَى مَا كَانُوا اتَّخَذُوا فِي [الدَّارِ] (٢) الدُّنْيَا مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، ظَانِّينَ أَنَّ تِلْكَ تَنْفَعُهُمْ (٣) فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ إِنْ كَانَ ثَمَّ (٤) مَعَادٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَقَطَّعَتِ الْأَسْبَابُ، وَانْزَاحَ الضَّلَالُ، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وَيُنَادِيهِمُ الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٢٢] وَقِيلَ (٥) لَهُمْ ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٩٢، ٩٣] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾ أَيْ: فِي الْعِبَادَةِ، لَهُمْ فِيكُمْ قِسْطٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ لَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ قُرئ بِالرَّفْعِ، أَيْ شَمْلُكُمْ، وقُرئ بِالنَّصْبِ، أَيْ: لَقَدِ انْقَطَعَ مَا بَيْنَكُمْ (٦) مِنَ الوُصُلات وَالْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ ﴿وَضَلَّ عَنْكُمْ﴾ أَيْ: وَذَهَبَ عَنْكُمْ ﴿مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ مِنْ رَجَاءِ الْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٦٦، ١٦٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠١]، وَقَالَ ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٥]، وَقَالَ ﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ الْآيَةَ [الْقَصَصِ: ٦٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٢٢ -٢٤]، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كثيرة جدا.
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) في م: "ذلك ينفعهم".
(٤) في أ: "ثمة".
(٥) في أ: "أو قيل".
(٦) في أ: "تقطع بينكم".
303
وقوله :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي : يقال لهم يوم معادهم هذا، كما قال ﴿ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الكهف : ٤٨ ]، أي : كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه، فهذا يوم البعث.
وقوله :﴿ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ ﴾ أي : من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا ﴿ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس ".
وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله، عَزَّ وجل، [ له ]١ أين ما جمعت ؟ فيقول يا رب، جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول : فأين ما قدمت لنفسك ؟ فلا يراه قدم شيئا، وتلا هذه الآية :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ رواه ابن أبي حاتم.
وقوله :﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ﴾ تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في [ الدار ]٢ الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أن تلك تنفعهم٣ في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ٤ معاد، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب، وانزاح الضلال، وضل عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب، عَزَّ وجل، على رءوس الخلائق :﴿ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٢ ] وقيل٥ لهم ﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٢، ٩٣ ] ؛ ولهذا قال هاهنا :﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ﴾ أي : في العبادة، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.
ثم قال تعالى :﴿ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ قُرئ بالرفع، أي شملكم، وقُرئ بالنصب، أي : لقد انقطع ما بينكم٦ من الوُصُلات والأسباب والوسائل ﴿ وَضَلَّ عَنْكُمْ ﴾ أي : وذهب عنكم ﴿ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ من رجاء الأصنام، كما قال :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [ البقرة : ١٦٦، ١٦٧ ]، وقال تعالى :﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٠١ ]، وقال ﴿ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ]، وقال ﴿ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ﴾ الآية [ القصص : ٦٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ إلى قوله :﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٢ - ٢٤ ]، والآيات في هذا كثيرة جدا.
١ زيادة من أ..
٢ زيادة من أ..
٣ في م: "ذلك ينفعهم"..
٤ في أ: "ثمة"..
٥ في أ: "أو قيل"..
٦ في أ: "تقطع بينكم".
.

﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، أَيْ: يَشُقُّهُ فِي الثَّرَى فَتَنْبُتُ الزُّرُوعُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مِنَ الْحُبُوبِ، وَالثِّمَارُ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا مِنَ النَّوَى؛ وَلِهَذَا فَسَّرَ [قَوْلَهُ] (١) ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ بِقَوْلِهِ ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ أَيْ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْحَيَّ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، الَّذِي هُوَ كَالْجَمَادِ الْمَيِّتِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * [وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ] (٢) وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: ٣٣ -٣٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ ثُمَّ فَسَّرَهُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾
وَقَدْ عَبَّرُوا عَنْ هَذَا [وَهَذَا] (٣) بِعِبَارَاتٍ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ مُؤَدِّيَةٌ لِلْمَعْنَى، فَمِنْ قَائِلٍ: يُخْرِجُ الدَّجَاجَةَ مِنَ الْبَيْضَةِ، وَالْبَيْضَةَ مِنَ الدَّجَاجَةِ، من قَائِلٍ: يُخْرِجُ الْوَلَدَ الصَّالِحَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرَ مِنَ الصَّالِحِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَنْتَظِمُهَا الْآيَةُ وَتَشْمَلُهَا.
ثُمَّ قَالَ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾ أَيْ: فَاعِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أَيْ: فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ مِنَ الْحَقِّ وَتَعْدِلُونَ عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ فَتَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا﴾ أَيْ: خَالِقُ الضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْلِقُ ظَلَامَ اللَّيْلِ عَنْ غُرَّةِ الصَّبَاحِ، فَيُضِيءُ الْوُجُودَ، وَيَسْتَنِيرُ الْأُفُقُ، وَيَضْمَحِلُّ الظَّلَامُ، وَيَذْهَبُ اللَّيْلُ بِدَآدِئِهِ (٤) وَظَلَامِ رِوَاقِهِ، وَيَجِيءُ النَّهَارُ بِضِيَائِهِ وَإِشْرَاقِهِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٥) ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٤]، فَبَيَّنَ تَعَالَى قُدْرَتَهُ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَضَادَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَقَابَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا﴾ أَيْ: سَاجِيًا مُظْلِمًا تَسْكُنُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ، كَمَا قَالَ: ﴿وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ [الضُّحَى: ١، ٢]، وَقَالَ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [اللَّيْلِ: ١، ٢]، وَقَالَ ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ [الشَّمْسِ: ٣، ٤].
وَقَالَ صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٦) لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ عَاتَبَتْهُ فِي كَثْرَةِ سَهَرِهِ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا إِلَّا لِصُهَيْبٍ، إِنَّ صُهَيْبًا إِذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ طَالَ شَوْقُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ النَّارَ طَارَ نَوْمُهُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا﴾ أَيْ: يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مُقَنَّنٍ مُقَدَّرٍ، لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَضْطَرِبُ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ مَنَازِلُ يَسْلُكُهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ طُولًا وَقِصَرًا، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٧) ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ] (٨) ﴾
(١) زيادة من م.
(٢) زيادة من أ، وفي هـ: "إلى قوله".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) في أ: "بذاته".
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من أ.
(٧) زيادة من أ.
(٨) زيادة من أ.
وقوله :﴿ فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا ﴾ أي : خالق الضياء والظلام، كما قال في أول السورة :﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بدآدئه١ وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه، كما قال [ تعالى ]٢ ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]، فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح وقابل ذلك بقوله :﴿ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا ﴾ أي : ساجيا مظلما تسكن فيه الأشياء، كما قال :﴿ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [ الضحى : ١، ٢ ]، وقال ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾ [ الليل : ١، ٢ ]، وقال ﴿ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [ الشمس : ٣، ٤ ].
وقال صهيب الرومي [ رضي الله عنه ]٣ لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره : إن الله جعل الليل سكنا إلا لصهيب، إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طار نومه، رواه ابن أبي حاتم.
وقوله :﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ﴾ أي : يجريان بحساب مقنن مقدر، لا يتغير ولا يضطرب، بل كل منهما له منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا، كما قال [ تعالى ]٤ ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ]٥ الآية [ يونس : ٥ ]، وكما قال :﴿ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ يس : ٤٠ ]، وقال ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ].
وقوله :﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ أي : الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف العليم بكل شيء، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكثيرًا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر، يختم الكلام بالعزة والعلم، كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله :﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [ يس : ٣٧، ٣٨ ].
ولما ذكر خلق السموات والأرض وما فيهن في أول سورة ﴿ حم ﴾ السجدة، قال :﴿ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [ فصلت : ١٢ ].
١ في أ: "بذاته"..
٢ زيادة من أ..
٣ زيادة من أ..
٤ زيادة من أ..
٥ زيادة من أ.
.

وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ قال بعض السلف : من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله : أن الله جعلها زينة للسماء١ ورجوما للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر.
وقوله :﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ ﴾ أي : قد بيناها ووضحناها ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي : يعقلون ويعرفون الحق ويجتنبون٢ الباطل.
١ في أ: "السماء"..
٢ في أ: "ويتجنبون".
.

الْآيَةَ [يُونُسَ: ٥]، وَكَمَا قَالَ: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠]، وَقَالَ ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ أَيِ: الْجَمِيعُ جَارٍ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَكَثِيرًا مَا إِذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، يَخْتِمُ الْكَلَامَ بِالْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ، كَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: ٣٧، ٣٨].
وَلَمَّا ذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ ﴿حم﴾ السَّجْدَةِ، قَالَ: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فُصِّلَتْ: ١٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنِ اعْتَقَدَ فِي هَذِهِ النُّجُومِ غَيْرَ ثَلَاثٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ (١) وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَيُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ﴾ أَيْ: قَدْ بَيَّنَّاهَا وَوَضَّحْنَاهَا ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: يَعْقِلُونَ وَيَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَجْتَنِبُونَ (٢) الْبَاطِلَ.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يَعْنِي: آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النِّسَاءِ: ١].
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمُسْتَقَرٌ﴾ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَقَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ والسُّدِّي، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: ﴿فَمُسْتَقَرٌ﴾ أَيْ: فِي الْأَرْحَامِ قَالُوا -أَوْ: أَكْثَرُهُمْ -: ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ أَيْ: فِي الْأَصْلَابِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَطَائِفَةٍ عَكْسُ ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَطَائِفَةٍ: فَمُسْتَقَرٌّ فِي الدنيا،
(١) في أ: "السماء".
(٢) في أ: "ويتجنبون".
305
وَمُسْتَوْدَعٌ حَيْثُ يَمُوتُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر: ﴿فَمُسْتَقَرٌ﴾ فِي الْأَرْحَامِ وَعَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، وَحَيْثُ يَمُوتُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْمُسْتَقَرُّ الَّذِي [قَدْ] (١) مَاتَ فَاسْتَقَرَّ بِهِ عَمَلُهُ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ أَيْ: يَفْهَمُونَ ويَعُون كَلَامَ اللَّهِ وَمَعْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ أَيْ بِقَدَرٍ مُبَارَكًا، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَغِيَاثًا (٢) لِلْخَلَائِقِ، رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ كَمَا قَالَ ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٠] ﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا﴾ أَيْ: زَرْعًا وَشَجَرًا أَخْضَرَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْلُقُ فِيهِ الْحَبَّ وَالثَّمَرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا﴾ أَيْ: يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَالسَّنَابِلِ وَنَحْوِهَا ﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ أَيْ: جَمْعُ قِنو وَهِيَ عُذُوق الرُّطَبِ ﴿دَانِيَةٌ﴾ أَيْ: قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُتَنَاوَلِ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾ يَعْنِي بِالْقِنْوَانِ الدَّانِيَةِ: قِصَارَ النَّخْلِ اللَّاصِقَةِ عُذُوقُهَا (٣) بِالْأَرْضِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: قِنْوان، وَقَيْسٌ يَقُولُونَ: قُنْوان، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَأَثَّت أَعَالِيهِ وَآدَتْ أصولهُ... ومَالَ بقنْوانٍ مِنَ البُسر أحْمَرَا...
قَالَ: وَتَمِيمٌ يَقُولُونَ (٤) قُنْيَان بِالْيَاءِ -قَالَ: وَهِيَ جَمْعُ قِنْوٍ، كَمَا أَنَّ صِنْوَانٌ جَمْعُ صِنْوٍ (٥)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ﴾ أَيْ: وَنُخْرِجُ مِنْهُ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ، وَهَذَانِ النَّوْعَانِ هُمَا أَشْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَرُبَّمَا كَانَا (٦) خِيَارَ الثِّمَارِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا امْتَنَّ تَعَالَى بِهِمَا عَلَى عِبَادِهِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النَّحْلِ: ٦٧]، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
وَقَالَ: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ [يس: ٣٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: يَتَشَابَهُ فِي الْوَرَقِ، قَرِيبُ الشَّكْلِ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، وَيَتَخَالَفُ فِي الثِّمَارِ شَكْلًا وَطَعْمًا وَطَبْعًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾ أَيْ: نُضْجِهِ، قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، والسُّدِّي، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ. أَيْ: فَكِّرُوا فِي قُدْرة خَالِقِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ حَطَبًا صَارَ عِنبًا وَرُطَبًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، مِمَّا خَلَقَ تَعَالَى مِنَ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (٧) ﴾
(١) زيادة من أ.
(٢) في أ: "غياثا".
(٣) في م: "عروقها".
(٤) في أ: "تقول".
(٥) البيت في تفسير الطبري (١١/٥٧٥) ولسان العرب، مادة (قنا).
(٦) في م: "أنهما".
(٧) زيادة من م، وفي هـ: "الآية".
306
وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ أي بقدر مباركًا، رزقًا للعباد وغياثًا١ للخلائق، رحمة من الله لخلقه ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ كَمَا قَالَ ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ]﴿ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا ﴾ أي : زرعًا وشجرًا أخضر، ثم بعد ذلك يخلق فيه الحب والثمر ؛ ولهذا قال :﴿ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا ﴾ أي : يركب بعضه بعضا، كالسنابل ونحوها ﴿ وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ ﴾ أي : جمع قِنو وهي عُذُوق الرّطب ﴿ دَانِيَةٌ ﴾ أي : قريبة من المتناول، كما قال علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس :﴿ قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ ﴾ يعني بالقنوان الدانية : قصار النخل اللاصقة عذوقها٢ بالأرض. رواه ابن جرير.
قال ابن جرير : وأهل الحجاز يقولون : قِنْوان، وقيس يقولون : قُنْوان، وقال امرؤ القيس :
فَأَثَّت أعاليه وآدت أصولهُ ومَالَ بقنْوانٍ من البُسر أحْمَرَا
قال : وتميم يقولون٣ قُنْيَان بالياء - قال : وهي جمع قنو، كما أن صنوان جمع صنو٤
وقوله :﴿ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾ أي : ونخرج منه جنات من أعناب، وهذان النوعان هما أشرف عند أهل الحجاز، وربما كانا٥ خيار الثمار في الدنيا، كما امتن تعالى بهما على عباده، في قوله :﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ [ النحل : ٦٧ ]، وكان ذلك قبل تحريم الخمر.
وقال :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ [ يس : ٣٤ ].
وقوله :﴿ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ قال قتادة وغيره : يتشابه في الورق، قريب الشكل بعضه من بعض، ويتخالف في الثمار شكلا وطعما وطبعا.
وقوله :﴿ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ﴾ أي : نضجه، قاله البراء بن عازب، وابن عباس، والضحاك، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وقتادة، وغيرهم. أي : فكروا في قُدْرة خالقه من العدم إلى الوجود، بعد أن كان حَطَبًا صار عِنبًا ورطبًا وغير ذلك، مما خلق تعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح، كما قال تعالى :﴿ وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ [ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ]٦ [ الرعد : ٤ ] ولهذا قال هاهنا ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ ﴾ أي : دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي : يصدقون به، ويتبعون رسله.
١ في أ: "غياثا"..
٢ في م: "عروقها"..
٣ في أ: "تقول"..
٤ البيت في تفسير الطبري (١١/٥٧٥) ولسان العرب، مادة (قنا)..
٥ في م: "أنهما"..
٦ زيادة من م، وفي هـ: "الآية".
.

[الرَّعْدِ: ٤] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا ﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ﴾ أَيْ: دَلَالَاتٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ خَالِقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ: يُصَدِّقُونَ بِهِ، وَيَتَّبِعُونَ رُسُلَهُ.
﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) ﴾
هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، وَأَشْرَكُوا (١) فِي عِبَادَةِ اللَّهِ أَنْ عَبَدُوا الْجِنَّ، فَجَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ عُبدت الْجِنُّ وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ عَنْ طَاعَةِ الْجِنِّ وَأَمْرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا﴾ [النِّسَاءِ: ١١٧ -١٢٠]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا] (٢) ﴾ [الْكَهْفِ: ٥٠]، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٤٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يس: ٦٠، ٦١]، وَتَقُولُ (٣) الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ﴿سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سَبَأٍ: ٤١]، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ﴾ أَيْ: وَقَدْ خَلَقَهُمْ، فَهُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَكَيْفَ يُعْبَدُ مَعَهُ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (٤) ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ٩٥، ٩٦].
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَحْدَهُ؛ فَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يُفْرَد بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ يُنَبِّهُ بِهِ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِأَنَّ لَهُ وَلَدًا، كَمَا يَزْعُمُ مَنْ قَالَهُ مِنَ الْيَهُودِ فِي الْعُزَيْرِ، وَمَنْ قَالَ مِنَ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَكَمَا قَالَ (٥) الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْمَلَائِكَةِ: إِنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ [تَعَالَى] (٦) ﴿وَخَرَقُوا﴾ أَيْ: وَاخْتَلَقُوا وَائْتَفَكُوا، وَتَخَرَّصُوا وَكَذَّبُوا، كَمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَخَرَقُوا﴾ يعني: أنهم تخرصوا.
(١) في م: "وأشركوا به".
(٢) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) في أ: "ويقول".
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) في م، أ: "قالت".
(٦) زيادة من م.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ قَالَ: جَعَلُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ﴾ قَالَ: كَذَبُوا. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَضَعُوا، وَقَالَ السُّدِّي: قَطَعُوا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنَّ شُرَكَاءَ (١) فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِهِمْ بِغَيْرِ شَرِيكٍ وَلَا ظَهِيرٍ ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ﴾ يَقُولُ: وَتَخَرَّصُوا لِلَّهِ كَذِبًا، فَافْتَعَلُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِحَقِيقَةِ مَا يَقُولُونَ، وَلَكِنْ جَهْلًا بِاللَّهِ وَبِعَظَمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِنْ كَانَ إِلَهًا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ وَلَا صَاحِبَةٌ، وَلَا أَنْ يُشْرِكَهُ فِي خَلْقِهِ شَرِيكٌ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أَيْ: تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَتَعَاظَمَ عَمَّا يَصِفُهُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الضَّالُّونَ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَنْدَادِ، وَالنُّظَرَاءِ وَالشُّرَكَاءِ.
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ﴾
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أي: مبدع السموات والآرض وخالقهما ومنشئهما و [محدثها] (٢) عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، كَمَا قَالَ (٣) مُجَاهِدٌ والسُّدِّي. وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدَعَةً؛ لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهَا فِيمَا سَلَفَ.
﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ؟ أَيْ: وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا عَنْ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ، وَاللَّهُ لَا يُنَاسِبُهُ وَلَا يُشَابِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ (٤) كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ * هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *] (٥) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مَرْيَمَ: ٨٨ -٩٥].
﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فَبَيِّنَ تَعَالَى أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ صَاحِبَةٌ مِنْ خَلْقِهِ تُنَاسِبُهُ؟ وَهُوَ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(١) في م: "وجعلوا لله شركاء الجن".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في أ: "قاله".
(٤) في أ: "خلق".
(٥) زيادة من م، أ، وفي هـ: "إلى قوله".
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ أَيِ: الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ، ﴿لَا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ﴾ فَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَقِرُّوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
308
هُوَ، وَأَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ وَلَا عَدِيلَ ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ أَيْ: حَفِيظٌ وَرَقِيبٌ يُدَبِّرُ كُلَّ مَا سِوَاهُ، وَيَرْزُقُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ﴾ فِيهِ أَقْوَالٌ لِلْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ:
أَحَدُهَا: لَا تُدْرِكُهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَتْ تَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ (١) كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ مَا طَرِيقٍ ثَابِتٍ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ، كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَبْصَرَ رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ. [وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى اللَّهِ] (٢) فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنُ عَيَّاش، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُود، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مَسْرُوقٍ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وغيره عن عائشة غَيْرِ وَجْهٍ (٣)
وَقَدْ خَالَفَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَعَنْهُ إِطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ. وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ فِي أَوَّلِ "سُورَةِ النَّجْمِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ [تَعَالَى] (٤)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِين قَالَ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُليَّة يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ قَالَ: هَذَا فِي الدُّنْيَا. قَالَ: وَذَكَرَ أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ﴾ أَيْ: جَمِيعُهَا، وَهَذَا مُخَصَّصٌ بِمَا ثَبَتَ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ (٥)
وَقَالَ آخَرُونَ، مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ بِمُقْتَضَى مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْآيَةِ: إِنَّهُ لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. فَخَالَفُوا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ، مَعَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْجَهْلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ. أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [الْقِيَامَةِ: ٢٢، ٢٣]، وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْكَافِرِينَ: ﴿كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٥].
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُحْجَبُون عَنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَجَرِيرٍ، وصُهَيْب، وَبِلَالٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي الْعَرَصَاتِ، وَفِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمين.
(١) في م: "تراه في الدار الآخرة"
(٢) زيادة من أ.
(٣) رواه البخاري في صحيحه برقم (٤٦١٢) ومسلم في صحيحيه برقم (١٧٧) والترمذي في السنن برقم (٣٠٦٨) من طريق الشعبي، عن مسروق به.
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) في أ: "في الدار الآخرة".
309
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ﴾ أَيِ: الْعُقُولُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْفَلَّاسِ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ أَبِي الْحُصَيْنِ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ قَارِئِ أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَخِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَكَأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ فِي مَعْنَى الرُّؤْيَةِ، وَاللَّهُ [سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى] (١) أَعْلَمُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الرؤية وَنَفْيِ الْإِدْرَاكِ، فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ أَخَصُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ انْتِفَاءُ الْأَعَمِّ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْإِدْرَاكِ الْمَنْفِيِّ، مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا أَنَّ مَنْ رَأَى الْقَمَرَ فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَتَهُ وَكُنْهَهُ وَمَاهِيَّتَهُ، فَالْعَظِيمُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْإِدْرَاكِ الْإِحَاطَةُ. قَالُوا: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ عَدَمُ الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠]، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ على نفسك" (٢) ولا يلزم منه عَدَمُ الثَّنَاءِ، فَكَذَلِكَ هَذَا.
قَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ قَالَ: لَا يُحِيطُ بَصَرُ أَحَدٍ (٣) بِالْمَلِكِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعة، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ الْقَنَّادُ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمة، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ﴾ ؟ قَالَ: أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَكُلَّهَا تَرَى؟.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَرْفَجَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [الْقِيَامَةِ: ٢٢، ٢٣]، قَالَ: هُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ، لَا تُحِيطُ أَبْصَارُهُمْ بِهِ مِنْ عَظَمَتِهِ، وَبَصَرُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثٌ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا مِنْجَاب بْنُ الْحَارِثِ السَّهْمِيُّ (٤) حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ قَالَ: "لَوْ أَنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالْمَلَائِكَةَ مُنْذُ خُلِقُوا إِلَى أَنْ فَنُوا صُفّوا صَفًّا واحدًا،
(١) زياد من أ.
(٢) صحيح مسلم برقم (٤٨٦) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(٣) في م: "أحدنا".
(٤) في م: "التميمي".
310
مَا أَحَاطُوا بِاللَّهِ أَبَدًا".
غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ (١) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ آخَرُونَ فِي [قَوْلِهِ تَعَالَى] (٢) ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ﴾ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ "السُّنَّةِ" لَهُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَابْنُ مَرْدُوَيه أَيْضًا، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمة يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ الْآيَةَ؟ فَقَالَ: لِي "لَا أُمَّ لَكَ. ذَلِكَ نُورُهُ، الَّذِي هُوَ نُورُهُ، إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَا يُدْرِكُهُ شَيْءٌ". وَفِي رِوَايَةٍ: "لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ".
قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ (٣)
وَفِي مَعْنَى هَذَا الْأَثَرِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ (٤) الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ -أَوِ: النَّارُ -لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحات وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" (٥)
وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى لَمَّا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ: يَا مُوسَى، إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ. أَيْ: تَدَعْثَرَ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] وَنَفْيُ هَذَا الْأَثَرِ الْإِدْرَاكَ الْخَاصَّ لَا يَنْفِي الرُّؤْيَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (٦) يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَشَاءُ. فَأَمَّا جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ -فَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تُثْبِتُ الرُّؤْيَةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَتَنْفِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ فَالَّذِي نَفَتْهُ الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى رُؤْيَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِلْبَشَرِ، وَلَا لِلْمَلَائِكَةِ وَلَا لِشَيْءٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ أَيْ: يُحِيطُ بِهَا وَيَعْلَمُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَقَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الْمُلْكِ: ١٤].
وَقَدْ يَكُونُ عَبَّرَ بِالْأَبْصَارِ عَنِ الْمُبْصِرِينَ، كَمَا قَالَ السُّدِّي فِي قَوْلِهِ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾
(١) ورواه ابن عدي في الكامل (٢/١٠) من طريق سفيان بن بشر، عن بشر بن عمارة به، وإسناده واه.
(٢) زيادة من م، وفي أ: "في قوله".
(٣) سنن الترمذي برقم (٣٢٧٩) والسنة لابن أبي عاصم برقم (٤٣٧) والمستدرك (٢/٣٠٦) وقال الترمذي: "حسن غريب". وقال ابن أبي عاصم: "فيه كلام".
(٤) في أ: "يحفظ".
(٥) رواه مسلم في صحيحه برقم (١٧٩) ولم أجده بعد البحث في صحيح البخاري حتى الحافظ المزى لم يذكره في تحفة الأشراف من رواية البخاري.
(٦) انظر: شرح العقيدة الطحاوية (١/٢١٤) لابن أبي العز الحنفي للتوسع في بحث الرؤية.
311
وقوله تعالى :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ﴾ فيه أقوال للأئمة من السلف :
أحدها : لا تدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة١ كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب. [ وفي رواية : على الله ]٢ فإن الله يقول :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾
رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عَيَّاش، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي الضحى، عن مسروق. ورواه غير واحد عن مسروق، وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة غير وجه٣
وقد خالفها ابن عباس، فعنه إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين. والمسألة تذكر في أول " سورة النجم " إن شاء الله [ تعالى ]٤
وقال ابن أبي حاتم : ذكر محمد بن مسلم، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي، حدثنا يحيى بن مَعِين قال : سمعت إسماعيل بن عُليَّة يقول في قول الله تعالى :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾ قال : هذا في الدنيا. قال : وذكر أبي، عن هشام بن عبيد الله أنه قال نحو ذلك.
وقال آخرون :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ﴾ أي : جميعها، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة٥
وقال آخرون، من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من الآية : إنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. أما الكتاب، فقوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢، ٢٣ ]، وقال تعالى عن الكافرين :﴿ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [ المطففين : ١٥ ].
قال الإمام الشافعي : فدل هذا على أن المؤمنين لا يُحْجَبُون عنه تبارك وتعالى.
وأما السنة، فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وأنس، وجرير، وصُهَيْب، وبلال، وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات، وفي روضات الجنات، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين.
وقيل : المراد بقوله :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ﴾ أي : العقول. رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين، عن الفلاس، عن ابن مهدي، عن أبي الحصين يحيى بن الحصين قارئ أهل مكة أنه قال ذلك. وهذا غريب جدًا، وخلاف ظاهر الآية، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية، والله [ سبحانه وتعالى ]٦ أعلم.
وقال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي، ما هو ؟ فقيل : معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى.
وقال آخرون : المراد بالإدراك الإحاطة. قالوا : ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، قال الله تعالى :﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [ طه : ١١٠ ]، وفي صحيح مسلم :" لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " ٧ ولا يلزم منه عدم الثناء، فكذلك هذا.
قال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾ قال : لا يحيط بصر أحد٨ بالملك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد، حدثنا أسباط عن سماك، عن عِكْرِمة، أنه قيل له :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ﴾ ؟ قال : ألست ترى السماء ؟ قال : بلى. قال : فكلها ترى ؟.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾ هو أعظم من أن تدركه الأبصار.
وقال ابن جرير : حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا خالد بن عبد الرحمن، حدثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي في قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢، ٢٣ ]، قال : هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره محيط بهم. فذلك قوله :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾
وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث. رواه ابن أبي حاتم هاهنا، فقال :
حدثنا أبو زرعة، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث السهمي٩ حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾ قال :" لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فَنُوا صُفّوا صفًا واحدًا، ما أحاطوا بالله أبدا ".
غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة١٠ والله أعلم.
وقال آخرون في [ قوله تعالى ]١١ ﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ﴾ بما رواه الترمذي في جامعه، وابن أبي عاصم في كتاب " السنة " له، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن مَرْدُوَيه أيضا، والحاكم في مستدركه، من حديث الحكم بن أبان قال : سمعت عِكْرِمة يقول : سمعت ابن عباس يقول : رأى محمد ربه تبارك وتعالى. فقلت : أليس الله يقول :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾ الآية ؟ فقال : لي " لا أم لك. ذلك نوره، الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء ". وفي رواية :" لا يقوم له شيء ".
قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه١٢
وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام يخفض١٣ القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - أو : النار - لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " ١٤
وفي الكتب المتقدمة : إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى، إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده. أي : تدعثر. وقال تعالى :﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة١٥ يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء. فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه - تعالى وتقدس وتنزه - فلا تدركه الأبصار ؛ ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾ فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه، فإن ذلك غير ممكن للبشر، ولا للملائكة ولا لشيء.
وقوله :﴿ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾ أي : يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه ؛ لأنه خلقها كما قال تعالى :﴿ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك : ١٤ ].
وقد يكون عبر بالأبصار عن المبصرين، كما قال السُّدِّي في قوله :﴿ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ﴾ لا يراه شيء وهو يرى الخلائق.
وقال أبو العالية في قوله [ تعالى ]١٦ ﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ اللطيف باستخراجها، الخبير بمكانها. والله أعلم.
وهذا كما قال تعالى إخبارا عن لقمان فيما وعظ به ابنه :﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [ لقمان : ١٦ ].
١ في م: "تراه في الدار الآخرة".
٢ زيادة من أ..
٣ رواه البخاري في صحيحه برقم (٤٦١٢) ومسلم في صحيحيه برقم (١٧٧) والترمذي في السنن برقم (٣٠٦٨) من طريق الشعبي، عن مسروق به..
٤ زيادة من م، أ..
٥ في أ: "في الدار الآخرة".
.

٦ زياد من أ..
٧ صحيح مسلم برقم (٤٨٦) من حديث عائشة، رضي الله عنها..
٨ في م: "أحدنا"..
٩ في م: "التميمي".
.

١٠ ورواه ابن عدي في الكامل (٢/١٠) من طريق سفيان بن بشر، عن بشر بن عمارة به، وإسناده واه..
١١ زيادة من م، وفي أ: "في قوله"..
١٢ سنن الترمذي برقم (٣٢٧٩) والسنة لابن أبي عاصم برقم (٤٣٧) والمستدرك (٢/٣٠٦) وقال الترمذي: "حسن غريب". وقال ابن أبي عاصم: "فيه كلام"..
١٣ في أ: "يحفظ"..
١٤ رواه مسلم في صحيحه برقم (١٧٩) ولم أجده بعد البحث في صحيح البخاري حتى الحافظ المزي لم يذكره في تحفة الأشراف من رواية البخاري..
١٥ انظر: شرح العقيدة الطحاوية (١/٢١٤) لابن أبي العز الحنفي للتوسع في بحث الرؤية.
.

١٦ زيادة من م، أ..
لَا يَرَاهُ شَيْءٌ وَهُوَ يَرَى الْخَلَائِقَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ [تَعَالَى] (١) ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ اللَّطِيفُ بِاسْتِخْرَاجِهَا، الْخَبِيرُ بِمَكَانِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ لُقْمَانَ فِيمَا وَعَظَ بِهِ ابْنَهُ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لُقْمَانَ: ١٦].
﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) ﴾
الْبَصَائِرُ: هِيَ الْبَيِّنَاتُ وَالْحُجَجُ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾ مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٥] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ لَمَّا ذَكَرَ الْبَصَائِرَ قَالَ:
﴿وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ أَيْ: فَإِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الْحَجِّ: ٤٦].
﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أَيْ: بِحَافِظٍ وَلَا رَقِيبٍ، بَلْ أَنَا مُبَلِّغٌ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ أَيْ: وَكَمَا فَصَّلْنَا الْآيَاتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، هَكَذَا نُوَضِّحُ الْآيَاتِ وَنُفَسِّرُهَا وَنُبَيِّنُهَا فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لِجَهَالَةِ الْجَاهِلِينَ، وَلِيَقُولَ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ: دَارَسْتَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ قَبْلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَارَأْتَهُمْ وَتَعَلَّمْتَ مِنْهُمْ.
هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ كَيْسَانَ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: ﴿دَارَسْتَ﴾ تلوتَ، خاصمتَ، جادلتَ (٢)
وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ كَذِبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا] (٣) ﴾ [الْفُرْقَانِ: ٤، ٥]، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ زَعِيمِهِمْ وَكَاذِبِهِمْ: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ١٨ -٢٥].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: وَلِنُوَضِّحَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَيَتَّبِعُونَهُ، وَالْبَاطِلَ فَيَجْتَنِبُونَهُ. فَلِلَّهِ تَعَالَى الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي إِضْلَالِ أُولَئِكَ، وَبَيَانِ الْحَقِّ لِهَؤُلَاءِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ] (٤) ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥) ﴾ [الْحَجِّ: ٥٣]
(١) زيادة من م، أ.
(٢) المعجم الكبير للطبراني (١١/١٣٧). وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢) :"رجاله ثقات".
(٣) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٤) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٥) في هـ: "وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مستقيم".
312
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ٣١].
وَقَالَ [تَعَالَى] (١) ﴿وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٨٢] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنَّهُ يُضِلُّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ: وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾
قَالَ التَّمِيمِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "دَرَسْتَ" أَيْ: قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، والسُّدِّي وَالضَّحَّاكُ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، قَالَ الْحَسَنُ: "وَلِيَقُولُوا دَرَسْت"، يَقُولُ: تَقَادَمَتْ وَانْمَحَتْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعْتُ ابن الزبير يقول: إن صبيانا يقرؤون هَاهُنَا: "دَرَسَتْ"، وَإِنَّمَا هِيَ: "دَرَسْتَ".
وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "دَرَسَتْ" بِغَيْرِ أَلْفٍ، بِنَصْبِ السِّينِ وَوَقْفٍ عَلَى التَّاءِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَعْنَاهُ انْمَحَتْ وَتَقَادَمَتْ، أَيْ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْنَا قَدْ مَرَّ بِنَا قَدِيمًا، وَتَطَاوَلَتْ مُدَّتُهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَرَأَهَا: "دُرِسَتْ" أَيْ: قُرئت وتُعُلِّمت.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: "دُرِسَتْ": قُرِئَتْ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ "دَرَسَ".
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ قَالَ: هِيَ فِي حَرْفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: "وَلِيَقُولُوا دَرَس". قَالَ: يَعْنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ (٢)
وَهَذَا غَرِيبٌ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ خِلَافُ هَذَا، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَزَّة (٣) الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ زَمَعَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
(١) زيادة من م، أ.
(٢) ورواه الطبري في تفسيره (١٢/٣١) من طريق أبي عبيد عن حجاج به.
(٣) في م: "ابن مرة".
313
وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ﴾ أي : وكما فصلنا الآيات في هذه السورة، من بيان التوحيد وأنه لا إله إلا هو، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين، وليقول المشركون والكافرون المكذبون : دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب وقارأتهم وتعلمت منهم.
هكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وغيرهم.
وقد قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن كيسان، سمعت ابن عباس يقرأ :﴿ دَارَسْتَ ﴾ تلوتَ، خاصمتَ، جادلتَ١
وهذا كما قال تعالى إخبارا عن كذبهم وعنادهم :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا ]٢ [ الفرقان : ٤، ٥ ]، وقال تعالى إخبارًا عن زعيمهم وكاذبهم :﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ [ المدثر : ١٨ - ٢٥ ].
وقوله :﴿ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي : ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه. فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك، وبيان الحق لهؤلاء. كما قال تعالى :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ] ٣ [ البقرة : ٢٦ ]، وقال تعالى :﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ٤ [ الحج : ٥٣ ]
وقال تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ﴾ [ المدثر : ٣١ ].
وقال [ تعالى ]٥ ﴿ وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ] وقال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين، وأنه يضل به من يشاء ويهدي به من يشاء : ولهذا قال هاهنا :﴿ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ وقرأ بعضهم :﴿ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ﴾
قال التميمي، عن ابن عباس :" درست " أي : قرأت وتعلمت. وكذا قال مجاهد، والسُّدِّي والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، قال الحسن :" وَلِيَقُولُوا دَرَسْت "، يقول : تقادمت وانمحت. وقال عبد الرزاق أيضا : أنبأنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمعت ابن الزبير يقول : إن صبيانا يقرؤون هاهنا :" دَرَسَتْ "، وإنما هي :" دَرَسْتَ ".
وقال شعبة : حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال في قراءة ابن مسعود :" دَرَسَتْ " بغير ألف، بنصب السين ووقف على التاء.
وقال ابن جرير : ومعناه انمحت وتقادمت، أي : إن هذا الذي تتلوه علينا قد مر بنا قديمًا، وتطاولت مدته.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة أنه قرأها :" دُرِسَتْ " أي : قُرئت وتُعُلِّمت.
وقال معمر، عن قتادة :" دُرِسَتْ " : قرئت. وفي حرف ابن مسعود " دَرَسَ ".
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا حجاج، عن هارون قال : هي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود :" وليقولوا دَرَس ". قال : يعنون النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ٦
وهذا غريب، فقد روي عن أبي بن كعب خلاف هذا، قال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن الليث، حدثنا أبو سلمة، حدثنا أحمد بن أبي بَزَّة٧ المكي، حدثنا وهب بن زَمَعَة، عن أبيه، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب
قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وَلِيَقُولُوا دَرَسْت ﴾.
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث وهب بن زمعة، وقال : يعني بجزم السين، ونصب التاء، ثم قال :٨ صحيح الإسناد ولم يخرجاه٩
١ المعجم الكبير للطبراني (١١/١٣٧). وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٢): "رجاله ثقات"..
٢ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
٣ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
٤ في هـ: "وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم".
.

٥ زيادة من م، أ..
٦ ورواه الطبري في تفسيره (١٢/٣١) من طريق أبي عبيد عن حجاج به..
٧ في م: "ابن مرة".
.

٨ في م: "وقال"..
٩ المستدرك (٢/٢٣٨)..
قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْت﴾.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، وَقَالَ: يَعْنِي بِجَزْمِ السِّينِ، وَنَصْبِ التَّاءِ، ثُمَّ قَالَ: (١) صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ (٢)
﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ (٣) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنِ اتَّبع طَرِيقَتَهُ: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ أَيِ: اقْتَدِ بِهِ، وَاقْتَفِ أَثَرَهُ، وَاعْمَلْ بِهِ؛ فَإِنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْية فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ أَيِ: اعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، وَاحْتَمِلْ أَذَاهُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لَكَ وَيَنْصُرَكَ وَيُظْفِرَكَ عَلَيْهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حِكْمَةً فِي إِضْلَالِهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ شَاءَ لَهَدَى النَّاسَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى] (٤)
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ أَيْ: بَلْ لَهُ الْمَشِيئَةُ وَالْحِكْمَةُ فِيمَا يَشَاؤُهُ وَيَخْتَارُهُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ أَيْ: حَافِظًا تَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ أَيْ: مُوَكَّلٍ عَلَى أَرْزَاقِهِمْ وَأُمُورِهِمْ ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ [الْغَاشِيَةِ: ٢١، ٢٢]، وَقَالَ ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرَّعْدِ: ٤٠]
﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ (٥) عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَهِيَ مُقَابَلَةُ الْمُشْرِكِينَ بِسَبِّ (٦) إِلَهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، لَتَنْتَهِيَنَّ عَنْ سَبِّكَ آلِهَتَنَا، أَوْ لَنَهْجُوَنَّ رَبَّكَ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانَهُمْ، ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَصْنَامَ الْكُفَّارِ، فَيَسُبُّ الْكُفَّارُ اللَّهَ
(١) في م: "وقال".
(٢) المستدرك (٢/٢٣٨).
(٣) في أ: "رسوله".
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) في أ: "وللمؤمنين".
(٦) في أ: "سب".
314
عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّي أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْمَوْتُ قَالَتْ قُرَيْشٌ: انْطَلِقُوا فَلْنَدْخُلْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَلْنَأْمُرْهُ أَنْ يَنْهَى عَنَّا ابْنَ أَخِيهِ، فَإِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَتَقُولُ الْعَرَبُ: كَانَ يَمْنَعُهُمْ فَلَمَّا مَاتَ قَتَلُوهُ. فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُمَيَّةُ، وَأُبَيٌّ ابْنَا خَلَفٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعِيط، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ البَخْتَري (١) وَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: "الْمُطَّلِبُ"، قَالُوا: اسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَى أَبِي طَالِبٍ، فَأَتَى أَبَا طَالِبٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ يُرِيدُونَ الدُّخُولَ عَلَيْكَ، فَأَذِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ آذَانَا وَآذَى آلِهَتَنَا، فَنُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَهُ فَتَنْهَاهُ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِنَا، ولندَعْه وَإِلَهَهُ. فَدَعَاهُ، فَجَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تُرِيدُونَ؟ ". قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَدَعَنَا وَآلِهَتَنَا، ولندَعْك وَإِلَهَكَ. قَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: قَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذَا، هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كَلِمَةً إِنْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا الْعَرَبَ، وَدَانَتْ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ، وَأَدَّتْ لَكُمُ الْخَرَاجَ؟ " قال أبو جهل: وأبيك لأعطينكها وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا [قَالَ] (٢) فَمَا هِيَ؟ قَالَ: "قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". فَأَبَوْا وَاشْمَأَزُّوا. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا ابْنَ أَخِي، قُلْ غَيْرَهَا، فَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ فَزِعُوا مِنْهَا. قَالَ: " يَا عَمِّ، مَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ غَيْرَهَا، حَتَّى يَأْتُوا بِالشَّمْسِ فَيَضَعُوهَا فِي يَدِي، وَلَوْ أَتَوْا بِالشَّمْسِ فَوَضَعُوهَا فِي يَدِي مَا قُلْتُ غَيْرَهَا". إرَادَةَ أَنْ يُؤيسَهم، فَغَضِبُوا وَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَنَشْتُمَ مَنْ يَأْمُرُكَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (٣)
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ -وَهُوَ تَرْكُ الْمَصْلَحَةِ لِمَفْسَدَةٍ أَرْجَحَ مِنْهَا -مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "مَلْعُونٌ مِنْ سَبِّ وَالِدَيْهِ". قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ". أَوْ كَمَا قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (٤) (٥)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ أَيْ: وَكَمَا زَيَّنَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ حُبَّ أَصْنَامِهِمْ وَالْمُحَامَاةَ لَهَا وَالِانْتِصَارَ، كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ عَلَى الضَّلَالِ عَمَلَهُمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحِكْمَةُ التَّامَّةُ فِيمَا يَشَاؤُهُ وَيَخْتَارُهُ. ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ﴾ أَيْ: مَعَادُهُمْ وَمَصِيرُهُمْ، ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.
(١) في م: "عبد يغوث".
(٢) زيادة من أ.
(٣) تفسير الطبري (١٢/٣٤).
(٤) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(٥) رواه مسلم في صحيحه برقم (٩٠) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ الله عنه.
315
واعلم أن لله حكمة في إضلالهم، فإنه لو شاء لهدى الناس كلهم جميعا [ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ]١
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ﴾ أي : بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقوله :﴿ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ أي : حافظا تحفظ أعمالهم وأقوالهم ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾ أي : موكل على أرزاقهم وأمورهم ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ ﴾ كما قال تعالى :﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ﴾ [ الغاشية : ٢١، ٢٢ ]، وقال ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [ الرعد : ٤٠ ]
١ زيادة من م، أ..
يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين١ عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب٢ إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو.
كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية : قالوا : يا محمد، لتنتهين عن سبك آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، ﴿ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله عدوا بغير علم، فأنزل الله :﴿ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم، عن السُّدِّي أنه قال في تفسير هذه الآية : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب : كان يمنعهم فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية، وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي مُعِيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البَخْتَري٣ وبعثوا رجلا منهم يقال له :" المطلب "، قالوا : استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم عليه، فدخلوا عليه فقالوا : يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندَعْه وإلهه. فدعاه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما تريدون ؟ ". قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا، ولندَعْك وإلهك. قال له أبو طالب : قد أنصفك قومك، فاقبل منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وأدت لكم الخراج ؟ " قال أبو جهل : وأبيك لأعطينكها وعشرة أمثالها [ قال ]٤ فما هي ؟ قال :" قولوا لا إله إلا الله ". فأبوا واشمأزوا. قال أبو طالب : يا ابن أخي، قل غيرها، فإن قومك قد فزعوا منها. قال :" يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها ". إرَادَةَ أن يُؤيسَهم، فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا، أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك فذلك قوله :﴿ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾٥
ومن هذا القبيل - وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها - ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ملعون من سب والديه ". قالوا يا رسول الله، وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال :" يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه ". أو كما قال، عليه السلام٦ ٧
وقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ أي : وكما زينا لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم والمحاماة لها والانتصار، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره. ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ ﴾ أي : معادهم ومصيرهم، ﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أي : يجازيهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
١ في أ: "وللمؤمنين"..
٢ في أ: "سب".
.

٣ في م: "عبد يغوث"..
٤ زيادة من أ..
٥ تفسير الطبري (١٢/٣٤)..
٦ في أ: "صلى الله عليه وسلم"..
٧ رواه مسلم في صحيحه برقم (٩٠) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه.
.

﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ، أَيْ: حَلَفُوا أَيْمَانًا مُؤَكَّدَةً ﴿لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ أَيْ: مُعْجِزَةٌ وَخَارِقٌ، ﴿لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ أَيْ: لَيُصَدِّقُنَّهَا، ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا، لَا عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى وَالِاسْتِرْشَادِ: إِنَّمَا مَرْجِعُ (١) هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ أَجَابَكُمْ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَكُمْ، كَمَا قَالَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا هَنَّاد (٢) حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِي قَالَ: كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ، فَأْتِنَا مِنَ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أي شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ؟ ". قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا. فَقَالَ لَهُمْ: "فَإِنْ فَعَلْتُ تُصَدِّقُونِي؟ ". قَالُوا: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَنَتَّبِعُكَ أَجْمَعِينَ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ: لَكَ مَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا ذَهَبًا، وَلَئِنْ أُرْسِلَ آيَةً فَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٣) بَلْ يَتُوبُ تَائِبُهُمْ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾ (٤) إِلَى قَوْلِهِ [تَعَالَى] (٥) ﴿يَجْهَلُونَ﴾
وَهَذَا مُرْسَلٌ (٦) وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ [وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا] (٧) ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٥٩].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِ ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ الْمُشْرِكُونَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: وَمَا يُدْرِيكُمْ بِصِدْقِكُمْ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ الَّتِي تُقْسِمُونَ بِهَا. وَعَلَى هَذَا فَالْقِرَاءَةُ: "إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ" بِكَسْرِ "إِنَّهَا" عَلَى اسْتِئْنَافِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ عِنْدَ مَجِيءِ الْآيَاتِ الَّتِي طَلَبُوهَا، وَقِرَاءَةُ (٨) بَعْضِهِمْ: "أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا تُؤْمِنُونَ" بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ.
وَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ فِي (٩) ﴿أَنَّهَا﴾ الْكَسْرُ كَالْأَوَّلِ وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولُ يُشْعِرُكُمْ. وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ "لَا" فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ صِلَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٢]، وَقَوْلُهُ ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٥]. أي: ما منعك أن تسجد إذ
(١) في م، أ: "ترجع".
(٢) في م: "هناد بن السرى".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) في أ: "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ليؤمنن بها".
(٥) زيادة من م.
(٦) تفسير الطبري (١٢/٣٨).
(٧) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
(٨) في م: "وقرأ".
(٩) في م، أ: "في قوله".
316
أَمَرْتُكَ وَحَرَامٌ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَتَقْدِيرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا يُدْرِيكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ تَوَدُّونَ لَهُمْ ذَلِكَ حِرْصًا عَلَى إِيمَانِهِمْ -أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ يُؤْمِنُونَ (١)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "أَنَّهَا" بِمَعْنَى لَعَلَّهَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: "اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ أَنَّكَ تَشْتَرِي لِي (٢) شَيْئًا" بِمَعْنَى: لَعَلَّكَ تَشْتَرِي.
قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْعَبَّادِيِّ مِنْ هَذَا:
أَعَاذِلُ مَا يُدْريك أَنَّ مَنيَّتي إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الغَد (٣)
وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَذَكَرَ عَلَيْهِ شَوَاهِدَ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَاللَّهُ [تَعَالَى] (٤) أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ قَالَ العَوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَّا جَحَدَ الْمُشْرِكُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَمْ تَثْبُتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ ورُدَّت عَنْ كُلِّ أَمْرٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ] ﴾ (٥) وَنَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، فَلَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
وَكَذَا قَالَ عِكْرِمة وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ مَا الْعِبَادُ قَائِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ وَعَمَلَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. قَالَ: ﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فَاطِرَ: ١٤]، [وَقَالَ] (٦)
﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ] (٧) لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزُّمَرِ: ٥٦ -٥٨] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْهُدَى، وَقَالَ: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٢٨]، وَقَالَ ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ قَالَ: لَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى، كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَذَرُهُمْ﴾ أَيْ: نَتْرُكُهُمْ ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ (٨) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ والسُّدِّي: فِي كُفْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ: فِي ضَلَالِهِمْ.
﴿يَعْمَهُونَ﴾ قَالَ الْأَعْمَشُ: يَلْعَبُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَغَيْرُهُ: فِي كفرهم يترددون.
(١) في م: "لا يؤمنون".
(٢) في أ: "لنا".
(٣) تفسير الطبري (١٢/٤١)
(٤) زيادة من أ.
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من أ.
(٧) زيادة من م، أ، وفي هـ: "إلى قوله".
(٨) في م، أ: "فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ".
317
وقوله تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ قال العَوفي عن ابن عباس في هذه الآية : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء ورُدَّت عن كل أمر.
وقال مجاهد :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ] ﴾١ ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية، فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة.
وكذا قال عِكْرِمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه. قال :﴿ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [ فاطر : ١٤ ]، [ وقال ]٢
﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ ]٣ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الزمر : ٥٦ - ٥٨ ] فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى، وقال :﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ]، وقال ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ قال : لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا. وقوله :﴿ وَنَذَرُهُمْ ﴾ أي : نتركهم ﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾٤ قال ابن عباس والسُّدِّي : في كفرهم. وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة : في ضلالهم.
﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ قال الأعمش : يلعبون. وقال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، والربيع، وأبو مالك، وغيره : في كفرهم يترددون.
١ زيادة من أ..
٢ زيادة من أ..
٣ زيادة من م، أ، وفي هـ: "إلى قوله"..
٤ في م، أ: "في طغيانهم يعمهون".
.

﴿وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنَا أَجَبْنَا سُؤَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴿لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ فَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ، أَيْ: تُخْبِرُهُمْ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ، كَمَا سَأَلُوا فَقَالُوا: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٩٢] ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٢٤]، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ (١) عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٢١].
﴿وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ أَيْ: فَأَخْبَرُوهُمْ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا﴾ -قَرَأَ بَعْضُهُمْ: "قِبَلا" بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَالْمُعَايَنَةِ. وَقَرَأَ آخَرُونَ (٢) [وَقُبُلَا] (٣) بِضَمِّهِمَا (٤) قِيلَ: مَعْنَاهُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَايَنَةِ أَيْضًا، كَمَا رَوَاهُ (٥) عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عباس. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿قُبُلا﴾ أَفْوَاجًا، قُبَيْلًا قُبَيْلًا أَيْ: تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ كُلُّ أُمَّةٍ بَعْدَ أمة (٦) فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم بِهِ ﴿مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ أَيْ: إِنَّ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ، لَا إِلَيْهِمْ. بَلْ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَسُلْطَانِهِ وَقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يُونُسَ: ٩٦، ٩٧].
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا جَعَلْنَا لَكَ -يَا مُحَمَّدُ -أَعْدَاءً يُخَالِفُونَكَ، وَيُعَادُونَكَ (٧) جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ قَبْلِكَ أَيْضًا أَعْدَاءً فَلَا يَهِيدنَّك ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا] (٨) ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٣٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا] (٩) ﴾ [الفرقان: ٤٣].
(١) في م: "نزل".
(٢) في أ: "بعضهم".
(٣) زيادة من م، وفي أ: "قبلا".
(٤) في م، أ: "بضم القاف والباء".
(٥) في م، أ: "قاله".
(٦) في م، أ: "من الأمم".
(٧) في م، أ: "ويعاندونك".
(٨) زيادة من م، أ.
(٩) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
318
وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّهُ] (١) لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ (٢)
وَقَوْلُهُ: ﴿شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ﴾ بَدَلٌ مِنْ ﴿عَدُوًّا﴾ أَيْ: لَهُمْ أَعْدَاءٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُمْ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ [تَعَالَى] (٣) ﴿شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ﴾ قَالَ: مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينُ، وَمِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ قَتَادَةُ: وَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَوْمًا يُصَلِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعَوَّذ (٤) يَا أَبَا ذَرٍّ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ". فَقَالَ: أَوَ إِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ (٥) ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (٦) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ".
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ قَتَادَةَ وَأَبِي ذَرٍّ (٧) وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ (٨) ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَشْيَخَةِ، عَنِ ابْنِ (٩) عَائِذٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِي مَجْلِسٍ قَدْ أَطَالَ فِيهِ الْجُلُوسَ، قَالَ، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ صَلَّيْتَ؟ ". قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ". قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ فجلستُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ".
وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ انْقِطَاعٌ (١٠) وَرُوِيَ مُتَّصِلًا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، أَنْبَأَنِي أَبُو (١١) عُمَرَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْخَشْخَاشِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ صَلَّيْتَ؟ ". قُلْتُ: لَا. قَالَ: "قُمْ فَصَلِّ". قَالَ: فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَوَّذْ بِالْلَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ". قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ.
وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه فِي تَفْسِيرِهِ، مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، وَيَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، ثَلَاثَتِهِمْ عَنِ المسعودي، به (١٢)
(١) زيادة من م، أ.
(٢) رواه البخاري في صحيحه برقم (٣) ومسلم في صحيحه برقم (١٦٠) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(٣) زيادة من أ.
(٤) في م: "تعوذت".
(٥) في م، أ: "لشياطين".
(٦) في م، أ: "قال النبي".
(٧) تفسير عبد الرزاق (١/٢٠٩).
(٨) في أ: "وقال".
(٩) في م: "أبي".
(١٠) تفسير الطبري (١٢/٥٣).
(١١) في أ: "ابن أبي".
(١٢) المسند (٥/١٧٨) وقال الهيثمي في المجمع (١/١٦٠) :"فيه المسعودي وهو ثقة وقد اختلط".
319
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، حَدَّثَنَا (١) حَمَّادٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَعَوَّذْتَ بِالْلَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ ". قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" (٢)
طَرِيقٌ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْف الحِمْصي، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا مُعَانُ (٣) بْنُ رِفَاعَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٤) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ تعوذتَ (٥) مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؟ ". قَالَ: يَا رَسُولَ (٦) اللَّهِ، وَهَلْ لِلْإِنْسِ [مِنْ] (٧) شَيَاطِينَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، شياطينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا" (٨)
فَهَذِهِ طُرُقٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَجْمُوعُهَا يُفِيدُ قُوَّتَهُ وَصِحَّتَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيم، عَنْ شَرِيك، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عِكْرِمة: ﴿شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ﴾ قَالَ: لَيْسَ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ، وَلَكِنْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ يُوحُونَ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، وَشَيَاطِينُ الْإِنْسِ يُوحُونَ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّي، عَنْ عِكْرِمة فِي قوله: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ قَالَ: لِلْإِنْسِيِّ (٩) شَيْطَانٌ، وَلِلْجِنِّيِّ (١٠) شَيْطَانٌ (١١) فَيَلْقَى شَيْطَانُ الْإِنْسِ شَيْطَانَ الْجِنِّ، فَيُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّي، عَنْ عِكْرِمة فِي قَوْلِهِ: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَّا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ، فَالشَّيَاطِينُ الَّتِي تُضِلُّ الْإِنْسَ (١٢) وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ الَّذِينَ يُضِلُّونَ الْجِنَّ، يَلْتَقِيَانِ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنِّي أَضْلَلْتُ صَاحِبِي بِكَذَا وَكَذَا، فأضْلِل أَنْتَ صَاحِبَكَ بِكَذَا وَكَذَا، فَيُعَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
فَفَهِمَ (١٣) ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ هَذَا؛ أَنَّ الْمُرَادَ بِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ عِنْدَ عِكْرِمة والسُّدِّي: الشَّيَاطِينُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ يُضِلُّونَ النَّاسَ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ (١٤) شَيَاطِينُ الْإِنْسِ مِنْهُمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ عِكْرِمة، وَأَمَّا كَلَامُ السُّدِّي فَلَيْسَ مِثْلَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ نَحْوَ هَذَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ، عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ لِلْجِنِّ شَيَاطِينَ يضلونهم مثل شياطين الإنس
(١) في أ: "بن"
(٢) تفسير الطبري (١٢/٥٣).
(٣) في أ: "معاذ".
(٤) زيادة من أ.
(٥) في م: "تعوذت بالله".
(٦) في أ: "يانبي".
(٧) زيادة من أ.
(٨) ورواه أحمد في مسنده (٥/٢٦٥) من طريق أبي المغيرة به مطولا. وقال الهيثمي في المجمع (١/١٥٩) :"مداره على علي بن زيد وهو ضعيف".
(٩) في م، أ: "للإنس".
(١٠) في م، أ: "وللجن".
(١١) في أ: "شياطين".
(١٢) في أ: "الناس".
(١٣) في م: "فهم".
(١٤) في م: "من".
320
يُضِلُّونَهُمْ، قَالَ: فَيَلْتَقِي شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ، فَيَقُولُ هَذَا لِهَذَا: أَضْلِلْهُ بِكَذَا، أَضْلِلْهُ (١) بِكَذَا. فَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالصَّحِيحُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ (٢) حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: إِنَّ لِلْإِنْسِ شياطين منهم، وشيطان كل شيء ما رده، وَلِهَذَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ" (٣) وَمَعْنَاهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: شَيْطَانٌ فِي الْكِلَابِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: قَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: كُفَّارُ الْجِنِّ شَيَاطِينُ، يُوحُونَ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، كُفَّارِ الْإِنْسِ، زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمة قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ فَأَكْرَمَنِي وَأَنْزَلَنِي حَتَّى كَادَ (٤) يَتَعَاهَدُ مَبِيتِي بِاللَّيْلِ، قَالَ: فَقَالَ لِي: اخْرُجْ إِلَى النَّاسِ فَحَدِّثِ النَّاسَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْوَحْيِ؟ فَقُلْتُ: الْوَحْيُ وَحْيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿بِمَا (٥) أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ [يُوسُفَ: ٣]، وَقَالَ [اللَّهُ] (٦) تَعَالَى: ﴿شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ قَالَ: فَهَمُّوا بِي أَنْ يَأْخُذُونِي، فَقُلْتُ: مَا لَكُمْ ذَاكَ، إِنِّي مُفْتِيكُمْ وَضَيْفُكُمْ. فَتَرَكُونِي.
وَإِنَّمَا عَرَضَ عِكْرِمة بِالْمُخْتَارِ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ -قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ، وَقَدْ كَانَتْ أُخْتُهُ صَفِيَّةُ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَلَمَّا أُخْبِرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ قَالَ: صَدَقَ، [قَالَ] (٧) اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٢١]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ أَيْ: يُلْقِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ الْمُزَيَّنَ الْمُزَخْرَفَ، وَهُوَ الْمُزَوَّقُ الَّذِي يَغْتَرُّ سَامِعُهُ مِنَ الْجَهَلَةِ بِأَمْرِهِ.
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ أَيْ: وَذَلِكَ كُلُّهُ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ نَبيّ عَدُوٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ.
﴿فَذَرْهُمْ﴾ أَيْ: فَدَعْهُمْ، ﴿وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ أَيْ: يَكْذِبُونَ، أَيْ: دَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي عَدَاوَتِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ﴾ أَيْ: وَلِتَمِيلَ إِلَيْهِ -قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - ﴿أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ أَيْ: قُلُوبُهُمْ وَعُقُولُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ.
وَقَالَ السُّدِّي: قُلُوبُ الْكَافِرِينَ، ﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾ أَيْ: يُحِبُّوهُ وَيُرِيدُوهُ. وَإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِذَلِكَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ. مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ. إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١٦١ -١٦٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ [الذَّارِيَاتِ: ٨، ٩].
(١) في م: "وأضلله".
(٢) في أ: "في".
(٣) صحيح مسلم برقم (٥١٠).
(٤) في أ: "كان".
(٥) في أ: "إنا" وهو خطأ.
(٦) زيادة من م، أ.
(٧) زيادة من م.
321
يقول تعالى : وكما جعلنا لك - يا محمد - أعداءً يخالفونك، ويعادونك١ جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يَهِيدنَّك ذلك، كما قال تعالى :﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [ آل عمران : ١٨٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ] ٢ [ الأنعام : ٣٤ ]، وقال تعالى :﴿ مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٤٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ] ٣ [ الفرقان : ٤٣ ].
وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم :[ إنه ]٤ لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي٥
وقوله :﴿ شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ﴾ بدل من ﴿ عَدُوًّا ﴾ أي : لهم أعداء من شياطين الإنس والجن، ومن هؤلاء وهؤلاء، قبحهم الله ولعنهم.
قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله [ تعالى ]٦ ﴿ شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ﴾ قال : من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض، قال قتادة : وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" تَعَوَّذ٧ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن ". فقال : أو إن من الإنس شياطين٨ ؟ فقال رسول الله٩ صلى الله عليه وسلم :" نعم ".
وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر١٠ وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال١١ ابن جرير :
حدثنا المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة، عن ابن١٢ عائذ، عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، قال، فقال :" يا أبا ذر، هل صليت ؟ ". قال : لا يا رسول الله. قال :" قم فاركع ركعتين ". قال : ثم جئت فجلستُ إليه، فقال :" يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس ؟ ". قال : قلت : لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين ؟ قال :" نعم، هم شر من شياطين الجن ".
وهذا أيضا فيه انقطاع١٣ وروي متصلا كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وَكِيع، حدثنا المسعودي، أنبأنى أبو١٤ عمر الدمشقي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست فقال :" يا أبا ذر هل صليت ؟ ". قلت : لا. قال :" قم فصل ". قال : فقمت فصليت، ثم جلست فقال :" يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن ". قال : قلت يا رسول الله، وللإنس شياطين ؟ قال :" نعم ". وذكر تمام الحديث بطوله.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره، من حديث جعفر بن عون، ويعلى بن عبيد، وعبيد الله بن موسى، ثلاثتهم عن المسعودي، به١٥
طريق أخرى عن أبي ذر : قال ابن جرير : حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا١٦ حماد، عن حميد بن هلال، حدثني رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن ؟ ". قال : قلت يا رسول الله، هل للإنس من شياطين ؟ قال :" نعم " ١٧
طريق أخرى للحديث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان١٨ بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة [ رضي الله عنه ]١٩ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا أبا ذر تعوذتَ٢٠ من شياطين الجن والإنس ؟ ". قال : يا رسول٢١ الله، وهل للإنس [ من ]٢٢ شياطين ؟ قال :" نعم، شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " ٢٣
فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم.
وقد روي ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو نُعَيم، عن شَرِيك، عن سعيد بن مسروق، عن عِكْرِمة :﴿ شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ ﴾ قال : ليس من الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن.
قال : وحدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ قال : للإنسى٢٤ شيطان، وللجني٢٥ شيطان٢٦ فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
وقال أسباط، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ في تفسير هذه الآية : أما شياطين الإنس، فالشياطين التي تضل الإنس٢٧ وشياطين الجن الذين يضلون الجن، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضْلِل أنت صاحبك بكذا وكذا، فيعلم بعضهم بعضا.
ففهم٢٨ ابن جرير من هذا ؛ أن المراد بشياطين الإنس عند عِكْرِمة والسُّدِّي : الشياطين من الجن الذين يضلون الناس، لا أن المراد منه٢٩ شياطين الإنس منهم. ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عِكْرِمة، وأما كلام السُّدِّي فليس مثله في هذا المعنى، وهو محتمل، وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا، عن ابن عباس من رواية الضحاك، عنه، قال : إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم، قال : فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقول هذا لهذا : أضلله بكذا، أضلله٣٠ بكذا. فهو قوله :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾
وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من٣١ حديث أبي ذر : إن للإنس شياطين منهم، وشيطان كل شيء ما رده، ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الكلب الأسود شيطان " ٣٢ ومعناه - والله أعلم - : شيطان في الكلاب.
وقال ابن جُرَيْج : قال مجاهد في تفسير هذه الآية : كفار الجن شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفار الإنس، زخرف القول غرورا.
وروى ابن أبي حاتم، عن عِكْرِمة قال : قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني حتى كاد٣٣ يتعاهد مبيتي بالليل، قال : فقال لي : اخرج إلى الناس فحدث الناس. قال : فخرجت، فجاء رجل فقال : ما تقول في الوحي ؟ فقلت : الوحي وحيان، قال الله تعالى :﴿ بِمَا٣٤ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ﴾ [ يوسف : ٣ ]، وقال [ الله ]٣٥ تعالى :﴿ شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ قال : فهموا بي أن يأخذوني، فقلت : ما لكم ذاك، إني مفتيكم وضيفكم. فتركوني.
وإنما عَرَضَ عِكْرِمة بالمختار - وهو ابن أبي عبيد - قبحه الله، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من الصالحات، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال : صدق، [ قال ]٣٦ الله تعالى :﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ]، وقوله تعالى :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ أي : يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره.
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ أي : وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نَبيّ عدوّ من هؤلاء.
﴿ فَذَرْهُمْ ﴾ أي : فدعهم، ﴿ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ أي : يكذبون، أي : دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.
١ في م، أ: "ويعاندونك"..
٢ زيادة من م، أ..
٣ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
.

٤ زيادة من م، أ..
٥ رواه البخاري في صحيحه برقم (٣) ومسلم في صحيحه برقم (١٦٠) من حديث عائشة، رضي الله عنها..
٦ زيادة من أ..
٧ في م: "تعوذت"..
٨ في م، أ: "لشياطين"..
٩ في م، أ: "قال النبي"..
١٠ تفسير عبد الرزاق (١/٢٠٩)..
١١ في أ: "وقال"..
١٢ في م: "أبي"..
١٣ تفسير الطبري (١٢/٥٣)..
١٤ في أ: "ابن أبي"..
١٥ المسند (٥/١٧٨) وقال الهيثمي في المجمع (١/١٦٠): "فيه المسعودي وهو ثقة وقد اختلط".
.

١٦ في أ: "بن".
١٧ تفسير الطبري (١٢/٥٣)..
١٨ في أ: "معاذ"..
١٩ زيادة من أ..
٢٠ في م: "تعوذت بالله"..
٢١ في أ: "يانبي"..
٢٢ زيادة من أ..
٢٣ ورواه أحمد في مسنده (٥/٢٦٥) من طريق أبي المغيرة به مطولا. وقال الهيثمي في المجمع (١/١٥٩): "مداره على علي بن زيد وهو ضعيف"..
٢٤ في م، أ: "للإنس"..
٢٥ في م، أ: "وللجن"..
٢٦ في أ: "شياطين"..
٢٧ في أ: "الناس"..
٢٨ في م: "فهم"..
٢٩ في م: "من".
.

٣٠ في م: "وأضلله"..
٣١ في أ: "في"..
٣٢ صحيح مسلم برقم (٥١٠)..
٣٣ في أ: "كان"..
٣٤ في أ: "إنا" وهو خطأ..
٣٥ زيادة من م، أ..
٣٦ زيادة من م.
.

وقوله تعالى :﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ ﴾ أي : ولتميل إليه - قاله ابن عباس - ﴿ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ﴾ أي : قلوبهم وعقولهم وأسماعهم.
وقال السُّدِّي : قلوب الكافرين، ﴿ وَلِيَرْضَوْهُ ﴾ أي : يحبوه ويريدوه. وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة، كما قال تعالى :﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ. مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ. إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴾ [ الصافات : ١٦١ - ١٦٣ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴾ [ الذاريات : ٨، ٩ ].
وقال السُّدِّي، وابن زيد : وليعملوا ما هم عاملون.
وَقَالَ السُّدِّي، وَابْنُ زَيْدٍ: وَلِيَعْمَلُوا مَا هُمْ عَامِلُونَ.
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) ﴾
يَقُولُ [اللَّهُ] (١) تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾ أَيْ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا﴾ أَيْ: مُبَيَّنًا، ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ أَيْ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، ﴿يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾، أَيْ: بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ بِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يُونُسَ: ٩٤]، وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ".
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: صِدْقًا فِيمَا قَالَ (٢) وَعَدْلًا فِيمَا حَكَمَ.
يَقُولُ: صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الطَّلَبِ، فَكُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَحَقٌّ (٣) لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا عَدْلَ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ فَبَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ مَفْسَدة، كَمَا قَالَ: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ] ﴾ (٤) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧].
﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ يُعقِّبُ حُكْمَهُ تَعَالَى لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، ﴿الْعَلِيمُ﴾ بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، الَّذِي يُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ الضَّلَالُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ٧١]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٣]، وَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ وَحُسْبَانٍ بَاطِلٍ، ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ﴾ فَإِنَّ الْخَرْصَ هُوَ الْحَزْرُ، وَمِنْهُ خَرْصُ النَّخْلِ، وَهُوَ حَزْرُ مَا عَلَيْهَا مِنَ التَّمْرِ وَكَذَلِكَ كُلُّهُ قَدَرُ اللَّهِ وَمَشِيئَتُهُ، وَ ﴿هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ فَيُيَسِّرُهُ لِذَلِكَ ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ فَيُيَسِّرُهُمْ لذلك، وكل ميسر لما خلق له.
(١) زيادة من م.
(٢) في م، أ: "وعد".
(٣) في أ: "ما أخبر به فهو حق".
(٤) زيادة من، م، أ.
وقوله :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا ﴾ قال قتادة : صدقا فيما قال١ وعدلا فيما حكم.
يقول : صدقا في الأخبار وعدلا في الطلب، فكل ما أخبر به فحق٢ لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مَفْسَدة، كما قال :﴿ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ] ﴾٣ إلى آخر الآية [ الأعراف : ١٥٧ ].
﴿ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي : ليس أحد يُعقِّبُ حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ ﴾ لأقوال عباده، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كل عامل بعمله.
١ في م، أ: "وعد"..
٢ في أ: "ما أخبر به فهو حق"..
٣ زيادة من، م، أ.
.

يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ ﴾ [ الصافات : ٧١ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ]، وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل، ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ﴾ فإن الخرص هو الحزر، ومنه خرص النخل، وهو حَزْرُ ما عليها من التمر وكذلك كله قدر الله ومشيئته،
و﴿ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ فييسره لذلك ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ فييسرهم لذلك، وكل ميسر لما خلق له.
﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) ﴾
﴿وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) ﴾
هَذَا (١) إِبَاحَةٌ مِنَ اللَّهِ [تَعَالَى] (٢) لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الذَّبَائِحِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، وَمَفْهُومُهُ: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ يَسْتَبِيحُهُ كُفَّارُ (٣) الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَكْلِ (٤) الْمَيْتَاتِ، وَأَكْلِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ نَدَبَ إِلَى الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: قَدْ بَيَّن لَكُمْ مَا حَرم عَلَيْكُمْ وَوَضَّحَهُ.
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ﴿فَصَّلَ﴾ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ آخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْكُلُّ بِمَعْنَى الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ.
﴿إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ أَيْ: إِلَّا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَكُمْ مَا وَجَدْتُمْ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَهَالَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، مِنِ اسْتِحْلَالِهِمُ الْمَيْتَاتِ، وَمَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى: فَقَالَ ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِاعْتِدَائِهِمْ وَكَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ.
﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) ﴾
قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ مَعْصِيَتَهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ -وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ [قَالَ] (٥) هُوَ مَا يَنْوِي مِمَّا هُوَ عَامِلٌ.
وَقَالَ: قَتَادَةُ: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ أَيْ: قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ (٦)
وَقَالَ السُّدِّي: ظَاهِرُهُ الزِّنَا مَعَ الْبَغَايَا ذَوَاتِ الرَّايَاتِ، وَبَاطِنُهُ: [الزِّنَا] (٧) مَعَ الْخَلِيلَةِ وَالصَّدَائِقِ وَالْأَخْدَانِ.
وَقَالَ عِكْرِمة: ظَاهِرُهُ: نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا] (٨) ﴾ الْآيَةَ [الْأَعْرَافِ: ٣٣] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُجْزِيهِمْ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صالح،
(١) في م: "هذه".
(٢) زيادة من م، وفي أ: "عز وجل".
(٣) في أ: "كفار قريش".
(٤) في م: "أجل".
(٥) زيادة من م، أ.
(٦) في م: "جهره".
(٧) زيادة من م، أ.
(٨) زيادة من م، أ.
قال مجاهد :﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾ معصيته في السر والعلانية - وفي رواية عنه [ قال ]١ هو ما ينوى مما هو عامل.
وقال : قتادة :﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾ أي : قليله وكثيره، سره وعلانيته٢
وقال السُّدِّي : ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات، وباطنه :[ الزنا ]٣ مع الخليلة والصدائق والأخدان.
وقال عِكْرِمة : ظاهره : نكاح ذوات المحارم.
والصحيح أن الآية عامة في ذلك كله، وهي كقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا ] ٤ الآية [ الأعراف : ٣٣ ] ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴾ أي : سواء كان ظاهرًا أو خفيًا، فإن الله سيجزيهم عليه.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم فقال :" الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع الناس عليه " ٥.
١ زيادة من م، أ..
٢ في م: "جهره"..
٣ زيادة من م، أ..
٤ زيادة من م، أ.
.

٥ ورواه مسلم في صحيحه برقم (٢٥٥٣) من طريق عبد الرحمن بن مهدي به..
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْر بْنِ نُفَير، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عَنِ الْإِثْمِ فَقَالَ: "الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ" (١)
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) ﴾
اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا تَحِلُّ الذَّبِيحَةُ الَّتِي لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَحِلُّ هَذِهِ الذَّبِيحَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَسَوَاءٌ مَتْرُوكٌ التَّسْمِيَةُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَنَافِعٍ مَوْلَاهُ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَصَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي ثَوْرٍ، وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ أَبُو الْفُتُوحِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الطَّائِيُّ (٢) مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ فِي كِتَابِهِ "الْأَرْبَعِينَ"، وَاحْتَجُّوا لِمَذْهَبِهِمْ هَذَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ فِي آيَةِ الصَّيْدِ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٤]. ثُمَّ قَدْ أَكَّدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ وَالضَّمِيرُ قِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْأَكْلِ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ -وَبِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ وَالصَّيْدِ، كَحَدِيثَيْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ". وَهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خُدَيْج. "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ". وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لِلْجِنِّ: "لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ" (٣) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَحَدِيثِ جُنْدَب بْنِ سُفْيَانَ البَجَلي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ". أَخْرَجَاهُ (٤) وَعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي: أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: "سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوا". قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا، [وَأَنَّهُمْ] (٥) خَشُوا أَلَّا تَكُونَ وُجِدَتْ مِنْ أُولَئِكَ، لِحَدَاثَةِ إِسْلَامِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالِاحْتِيَاطِ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ، لِتَكُونَ كَالْعِوَضِ عَنِ الْمَتْرُوكَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ إِنْ لَمْ تَكُنْ وُجِدَتْ، وَأَمَرَهُمْ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّدَادِ، وَاللَّهُ [تَعَالَى] (٦) أَعْلَمُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ تُرِكَتْ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا لَمْ تَضُرَّ (٧) وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أحمد. نقلها
(١) ورواه مسلم في صحيحه برقم (٢٥٥٣) من طريق عبد الرحمن بن مهدي به.
(٢) في أ: "الظاهري".
(٣) صحيح مسلم برقم (٤٥٠).
(٤) صحيح البخاري برقم (٩٨٥) وصحيح مسلم برقم (١٩٦٠).
(٥) زيادة من م.
(٦) زيادة من م.
(٧) في م: "لم تضره".
324
عَنْهُ حَنْبَلٌ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ عَلَى مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٤٥].
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ قَالَ: يَنْهَى عَنْ ذَبَائِحَ كَانَتْ تَذْبَحُهَا قُرَيْشٌ عَنِ الْأَوْثَانِ، وَيَنْهَى عَنْ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ الَّذِي طَرَقَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيِّ [رَحِمَهُ اللَّهُ] (١) قَوِيٌّ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يُقَوِّيَهُ بِأَنْ جَعَلَ "الْوَاوَ" فِي قَوْلِهِ: ﴿وإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ حَالِيَّةً، أَيْ: لَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِسْقًا، وَلَا يَكُونُ فِسْقًا حَتَّى يَكُونَ قَدْ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ هَذَا مُتَعَيَّنٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ "الْوَاوُ" عَاطِفَةً. لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ عَطْفُ جُمْلَةٍ إِسْمِيَّةٍ خَبَرِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ طَلَبِيَّةٍ. وَهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ فَإِنَّهَا عَاطِفَةٌ لا محاولة، فَإِنْ كَانَتِ "الْوَاوُ" الَّتِي (٢) ادَّعَى أَنَّهَا حَالِيَّةٌ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا قَالَ؛ امْتَنَعَ عَطْفُ هَذِهِ عَلَيْهَا، فَإِنْ عُطِفَتْ (٣) عَلَى الطَّلَبِيَّةِ وَرَدَ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ "الْوَاوُ" حَالِيَّةً، بَطَلَ مَا قَالَ مِنْ أَصْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ قَالَ: هِيَ الْمَيْتَةُ.
ثُمَّ رَوَاهُ، عَنْ أَبِي زُرْعَة، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ (٤) عَنِ ابْنِ لَهِيعَة، عَنْ عَطَاءٍ -وَهُوَ ابْنُ السَّائِبِ -بِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، مِنْ حَدِيثِ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الصَّلْتِ السَّدُوسِيِّ -مَوْلَى سُوَيْد بْنِ مَنْجوف (٥) أَحَدِ التَّابِعَيْنِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ذَبِيحَة الْمُسْلِمِ حَلَالٌ ذُكِر اسمُ اللهِ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ، إِنَّهُ إِنْ ذَكَرَ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ" (٦)
وَهَذَا مُرْسَلٌ يُعَضَّدُ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا ذَبَحَ الْمُسْلِمُ -وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَأْكُلْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ" (٧)
وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَوْمًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ يَأْتُونَا بِلَحْمٍ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: "سَمّوا أَنْتُمْ وكُلُوا". قَالَ: فَلَوْ كَانَ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ شَرْطًا لَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ إِلَّا مَعَ تَحَقُّقِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ فِي الْمَسْأَلَةِ: [أَنَّهُ] (٨) إِنْ تَرَكَ الْبَسْمَلَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ نِسْيَانًا لَمْ يَضُرَّ وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تحل.
(١) زيادة من م، أ.
(٢) في م: "الذي".
(٣) في م: "عطف".
(٤) في م: "يحيى بن بكر".
(٥) في م، أ: "ميمون".
(٦) المراسيل برقم (٣٧٨) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (٩/٢٤٠) من طريق أبي داود به. وقال ابن القطان كما في نصب الراية (٤/١٨٣) :"فيه مع الإرسال أن الصلت السدوسي لا يعرف له حال ولا يعرف بغير هذا، ولا روى عنه غير ثور بن يزيد".
(٧) سنن الدارقطني (٤/٢٩٥) وقد روى مرفوعا، ورجح البيهقي وقفه وصححه ابن السكن.
(٨) زيادة من أ.
325
هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّب، وعَطَاء، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَنَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْغِيَنَانِيُّ فِي كِتَابِهِ "الْهِدَايَةِ" الْإِجْمَاعَ -قَبْلَ الشَّافِعِيِّ عَلَى تَحْرِيمِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، فَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَشَايِخُ: لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِجَوَازِ بَيْعِهِ لَمْ يَنْفُذْ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ عَمَّنْ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: مَنْ حَرَّمَ ذَبِيحَةَ النَّاسِي، فَقَدْ خَرَجَ مِنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْحُجَّةِ، وَخَالَفَ الْخَبَرَ الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ (١)
يَعْنِي مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ الطَّرْسُوسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، إِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ، فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْهُ" (٢)
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَفْعُهُ خَطَأٌ، أَخْطَأَ فِيهِ مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْجَزِيرِيُّ (٣) فَإِنَّهُ (٤) وَإِنْ كَانَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ إِلَّا أَنَّ سَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيَّ رَوَيَاهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ قَوْلِهِ. فَزَادَا فِي إِسْنَادِهِ "أَبَا الشَّعْثَاءِ"، وَوَقَفَا (٥) وَاللَّهُ [تَعَالَى] (٦) أَعْلَمُ. وَهَذَا أَصَحُّ، نَصَّ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ [وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ] (٧)
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا كَرِهَا مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ نِسْيَانًا، وَالسَّلَفُ يُطْلِقُونَ الْكَرَاهِيَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ كَثِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِلَّا أَنَّ مِنْ قَاعِدَةِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ قَوْلَ الْوَاحِدِ وَلَا الِاثْنَيْنِ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَيُعِدُّهُ إِجْمَاعًا، فَلْيُعْلَمْ هَذَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ جَهِير بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ، سَأَلَهُ رَجُلٌ أَتَيْتُ بِطَيْرٍ كَرًى (٨) فَمِنْهُ مَا قَدْ ذُبِحَ فَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا نُسِيَ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَطَ الطَّيْرُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: كُلْهُ، كُلْهُ. قَالَ: وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ [تَعَالَى] (٩) ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾
وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ (١٠) وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" (١١) وَفِيهِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ الْقُرْقُسَانِيِّ، عن الأوزاعي، عن
(١) تفسير الطبري (١٢/٥٣).
(٢) السنن الكبرى (٩/٢٤٠).
(٣) في م: "الخوزني"، وفي أ: "الجزري".
(٤) في م: "وإنه".
(٥) في م، أ: "ووقفاه".
(٦) زيادة من م.
(٧) زيادة من م، أ.
(٨) في م، أ: "بطير كذا".
(٩) زيادة من م، أ.
(١٠) في م: "وعن أبي ذر".
(١١) رواه ابن ماجة في السنن برقم (٢٠٤٥) من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس، رضي الله عنه، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (٢٠٤٤) من طريق قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (٢٠٤٣) من طريق أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه. قال البوصيري في الزوائد (٢/١٣٠) :"إسناده ضعيف". ورواه البيهقي في السنن الكبرى (٧/٣٥٦) من طريق ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أما من حديث عبد الله بن عمرو فلم أجده، وقد جاء من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رواه أبو نعيم في الحلية (٦/٣٥٢).
326
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" (١)
وَلَكِنَّ هَذَا إِسْنَادُهُ (٢) ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَرْوَانَ بْنَ سَالِمٍ الْقُرْقُسَانِيَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيَّ، ضَعِيفٌ، تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَفْرَدْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى حِدَةٍ، وَذَكَرْتُ مَذَاهِبَ (٣) الْأَئِمَّةِ وَمَآخِذَهُمْ وَأَدِلَّتَهُمْ، وَوَجْهَ الدَّلَالَاتِ وَالْمُنَاقَضَاتِ وَالْمُعَارَضَاتِ (٤)، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَلْ نُسِخَ مِنْ حُكْمِهَا شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ وَهِيَ مُحْكَمَةٌ فِيمَا عُنيت بِهِ. وَعَلَى هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعِكْرِمَةَ. مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُميد، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا قَالَ اللَّهُ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ وَقَالَ ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ فَنُسِخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٥].
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُرِئَ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ مَزِيدٍ (٥)، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنِي النُّعْمَانُ -يَعْنِي ابْنَ الْمُنْذِرِ -عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ ثُمَّ نَسَخَهَا الرَّبُّ وَرَحِمَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ فَنَسَخَهَا بِذَلِكَ وَأَحَلَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ حِلِّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيْنَ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ، وَمَنْ أَطْلَقَ مِنَ السَّلَفِ النَّسْخَ هَاهُنَا فَإِنَّمَا أَرَادَ التَّخْصِيصَ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(١) الكامل لابن عدي (٦/٣٨٥).
(٢) في أ: "إسناد".
(٣) في أ: "مذهب".
(٤) والراجح في هذه المسألة والله أعلم، ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في وجوب التسمية مطلقا، فى تؤكل الذبيحة بدونها سواء تركها عمدا أو سهوا، قال: "وهذا أظهر الأقوال، فإن الكتاب والسنة قد علق الحل بذكر اسم الله في غير موضع" انظر كلامه في: مجموع الفتاوى (٣٥/٢٣٩).
(٥) في أ: "يزيد".
327
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: أن المختار يزعم أنه يوحى إليه؟ قال: صَدَقَ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْل قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَجَّ المختار ابن أَبِي عُبَيْدٍ، فَجَاءَهُ (١) رَجُلٌ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَزَعَمَ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ أُوحِيَ (٢) إِلَيْهِ اللَّيْلَةَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ، فَنَفَرْتُ وَقُلْتُ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ صَدَقَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا وَحْيَانِ، وَحْيُ اللَّهِ، وَوَحْيُ الشَّيْطَانِ، فَوَحْيُ اللَّهِ [عَزَّ وَجَلَّ] (٣) إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَحْيُ الشَّيْطَانِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ (٤) لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ نَحْوَ هَذَا.
وَقَوْلُهُ [تَعَالَى] (٥) :﴿لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر قَالَ: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا، وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾
هَكَذَا رَوَاهُ مُرْسَلًا وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُتَّصِلًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ إِلَى النبي ﷺ فقالوا: نأكل مِمَّا قَتَلْنَا وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ] ﴾ (٦).
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرير، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى وَسُفْيَانُ (٧) بْنُ وَكِيع، كِلَاهُمَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الحَرَشي، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ. (٨) وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدِهَا:
أَنَّ الْيَهُودَ لَا يَرَوْنَ إِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ حَتَّى يُجَادِلُوا.
الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
الثَّالِثِ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الحَرَشِي، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عباس. ورواه الترمذي بلفظ (٩) : أتى
(١) في أ: "فدعاه".
(٢) في أ: "يوحى".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في هـ: "الشيطان".
(٥) زيادة من م.
(٦) زيادة من أ.
(٧) في م: "سعيد" هو خطأ.
(٨) سنن أبي داود برقم (٢٨١٩) وتفسير الطبري (١٢/٨٢).
(٩) في م، أ: "بلفظ قال".
328
نَاسٌ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، رُوي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا (١).
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أَرْسَلَتْ فَارِسُ إِلَى قُرَيْشٍ: أَنْ خَاصِمُوا مُحَمَّدًا وَقُولُوا لَهُ: كَمَا تَذْبَحُ أَنْتَ بِيَدِكَ بِسِكِّينٍ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا ذَبَحَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بِشِمْشِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ -يَعْنِي الْمَيْتَةَ -فَهُوَ حَرَامٌ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ قَالَ: الشَّيَاطِينَ مِنْ فارس، وأوليائهم [مِنْ] (٢) قُرَيْشٍ (٣).
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، حَدَّثَنَا سِماك، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ يَقُولُونَ: مَا ذَبَحَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُوهُ. وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ فَكُلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، بِهِ (٤). وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْيَهُودِ، فَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ (٥)، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَاتَبُوا فَارِسَ عَلَى الرُّومِ، وكاتبتهم فارس، وكتب فَارِسُ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ: أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللَّهِ، فَمَا ذَبَحَ اللَّهُ بِسِكِّينٍ مِنْ ذَهَبٍ فَلَا يَأْكُلُهُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ -لِلْمَيْتَةِ وَمَا (٦) ذَبَحُوهُ هُمْ يَأْكُلُونَ. فَكَتَبَ بذلك المشركون إلى أصحاب مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (٧) :﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ [إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] ﴾ (٨) وَنَزَلَتْ: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾
وَقَالَ السُّدِّي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: كَيْفَ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَتَّبِعُونَ مَرْضَاةَ اللَّهِ، وَمَا ذَبَحَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَهُ، وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ أَكَلْتُمُوهُ؟ فَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ فَأَكَلْتُمُ الْمَيْتَةَ ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾
وَهَكَذَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: حَيْثُ عَدَلْتُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَكُمْ وَشَرْعِهِ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، فَقَدَّمْتُمْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ﴾ (٩) [التوبة: ٣١].
(١) سنن الترمذي برقم (٣٠٦٩).
(٢) زيادة من أ.
(٣) المعجم الكبير للطبراني (١١/٢٤١).
(٤) سنن أبي داود برقم (٢٨١٨) وسنن ابن ماجة برقم (٣١٧٣).
(٥) رواه الطبري في تفسيره (١٢/٧٨).
(٦) في م: "وأما".
(٧) في م، أ: "فنزلت".
(٨) زيادة من م، أ. وفي هـ: "الآية".
(٩) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
329
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَبَدُوهُمْ، فَقَالَ: "بَلْ إِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ، فَاتَّبَعُوهُمْ، فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ" (١).
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) ﴾
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي كَانَ مَيْتًا، أَيْ: فِي الضَّلَالَةِ، هَالِكًا حَائِرًا، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، أَيْ: أَحْيَا قَلْبَهُ بِالْإِيمَانِ، وَهَدَاهُ لَهُ وَوَفَّقَهُ لِاتِّبَاعِ رُسُلِهِ. ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ أَيْ: يَهْتَدِي [بِهِ] (٢) كَيْفَ يَسْلُكُ، وَكَيْفَ يَتَصَرَّفُ بِهِ. وَالنُّورُ هُوَ: الْقُرْآنُ، كَمَا رَوَاهُ العَوْفي وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ السُّدِّي: الْإِسْلَامُ. وَالْكُلُّ صَحِيحٌ.
﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ (٣) أَيِ: الْجَهَالَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَالضَّلَالَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، ﴿لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ أَيْ: لَا يَهْتَدِي إِلَى مَنْفَذٍ، وَلَا مَخْلَصٍ (٤) مِمَّا هُوَ فِيهِ، [وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ فَمَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ النُّورُ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ"] (٥) كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٧]. و [كَمَا] (٦) قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الْمُلْكِ: ٢٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [هُودٍ: ٢٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ﴾ [فَاطِرَ: ١٩ -٢٣]. وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وُوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي ضَرْبِ الْمَثَلَيْنِ هَاهُنَا بِالنُّورِ وَالظُّلُمَاتِ، مَا (٧) تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١].
وَزَعَمَ (٨) بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمَثَلِ رَجُلَانِ مُعَيَّنَانِ، فَقِيلَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، وَجَعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ. وَقِيلَ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ. وَأَمَّا الَّذِي فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا: أَبُو جَهْلٍ عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، يَدْخُلُ فيها كل مؤمن وكافر.
(١) سنن الترمذي برقم (٣٠٩٥) من طريق عبد السلام بن حرب، عن غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في م: "في الظلمات ليس بخارج منها".
(٤) في م: "ولا يخلص".
(٥) زيادة من م، أ.
(٦) زيادة من م، أ.
(٧) في أ: "لما".
(٨) في م: "وقد زعم".
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: حَسَّنَّا لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، قَدَرًا مِنَ اللَّهِ وَحِكْمَةً بَالِغَةً، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [وَلَا رَبَّ سِوَاهُ] (١).
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا جَعَلْنَا فِي قَرْيَتِكَ -يَا مُحَمَّدُ -أَكَابِرَ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَرُؤَسَاءَ وَدُعَاةً إِلَى الْكُفْرِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِلَى مُخَالَفَتِكَ وَعَدَاوَتِكَ، كَذَلِكَ كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ يُبْتَلون بِذَلِكَ، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا] (٢) ﴾ [الْفُرْقَانِ: ٣١]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] (٣) ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٦]، قِيلَ: مَعْنَاهُ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَاتِ، فَخَالَفُوا، فَدَمَّرْنَاهُمْ. وَقِيلَ: أَمَرْنَاهُمْ أَمْرًا قَدَرِيًّا، كَمَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾
وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾ قَالَ: سَلَّطنا شِرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ﴿أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾ قَالَ عُظَمَاؤُهَا.
قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سَبَأٍ: ٣٤، ٣٥]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٢٣].
وَالْمُرَادُ بِالْمَكْرِ هَاهُنَا دُعَاؤُهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ بِزُخْرُفٍ مِنَ الْمَقَالِ وَالْفِعَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [نُوحٍ: ٢٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ﴾ (٤) [سبأ: ٣١ -٣٣].
(١) زيادة من م، وفي أ: "وحده لا شريك له".
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) زيادة من م، أ، وفي هـ: الآية".
(٤) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
331
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: كُلُّ مَكْرٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عَمَلٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ: وَمَا يَعُودُ وَبَالُ مَكْرِهِمْ ذَلِكَ وَإِضْلَالِهِمْ مَنْ أَضَلُّوهُ إِلَّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، كَمْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٣]، وَقَالَ ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٢٥].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ أَيْ: إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَبُرْهَانٌ وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، قَالُوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ أَيْ: حَتَّى تَأْتِيَنَا الْمَلَائِكَةُ مِنَ اللَّهِ بِالرِّسَالَةِ، كَمَا تَأْتِي إِلَى الرُّسُلِ، كَقَوْلِهِ، جَلَّ وَعَلَا ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا] (١) ﴾ [الْفَرْقَانِ: ٢١].
وَقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ رِسَالَتَهُ وَمَنْ يَصْلُحُ لَهَا مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّك﴾ الْآيَةَ [الزُّخْرُفِ: ٣١، ٣٢] يَعْنُونَ: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ كَبِيرٍ مُبَجَّلٍ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴿مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ﴾ أَيْ: مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ -قَبَّحَهُمُ اللَّهُ -كَانُوا يَزْدَرُونَ بِالرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بَغْيًا وَحَسَدًا، وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٤١]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٠]. هَذَا وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ. وَطَهَارَةِ بَيْتِهِ وَمَرْبَاهُ وَمَنْشَئِهِ، حَتَّى أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ بَيْنَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ: "الْأَمِينَ"، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ رَئِيسُ الْكُفَّارِ "أَبُو سُفْيَانَ" حِينَ سَأَلَهُ "هِرَقْلُ" مَلِكُ الرُّومِ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا الْحَدِيثُ بِطُولِهِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مَلِكُ الرُّومِ بِطَهَارَةِ (٢) صِفَاتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى صِدْقِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصعب، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ شَدَّاد أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ".
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ -وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ، بِهِ نحوه (٣).
(١) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٢) في أ: "بظاهر".
(٣) المسند (٤/١٠٧) وصحيح مسلم برقم (٢٢٧٦).
332
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثت مِنْ خَيْرِ قُرون بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى بُعِثْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ" (١).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيم، عَنْ سُفْيَانُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارث ابن نَوْفَلٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: بَلَغَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: "مَنْ أَنَا؟ ". قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: "أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ (٢) فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ. وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا" (٣). صَدَقَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْمَرْوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَالَ لِي جِبْرِيلُ: قَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَقَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ (٤). وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْش، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٥) قَالَ: إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ. ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ (٦).
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا شُجاع بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: ذَكَرَ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَا سَلْمَانُ، لَا تُبْغِضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أبْغِضُك وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ؟ قَالَ: "تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي" (٧).
وَذَكَرَ (٨) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْجَوَازُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ: أَبْصَرَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَلَمَّا نَظَرَ إليه راعه،
(١) صحيح البخاري برقم (٣٥٥٧).
(٢) في م، أ: "فريقين".
(٣) المسند (١/٢١٠).
(٤) دلائل النبوة للبيهقي (١/١٧٦) من طريق موسى بن عبيدة، عن عمرو بن عبد الله، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ به، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٥١١) "مجمع البحرين" من طريق موسى بن عبيدة الربذي به. قال الهيثمي في المجمع (٨/٢١٧) :"فيه موسى بن عبيدة االربذي وهو ضعيف".
(٥) زيادة من أ.
(٦) المسند (١/٣٧٩).
(٧) المسند (٥/٤٤٠) ورواه الترمذي في السنن برقم (٣٩٢٧) والحاكم في المستدرك (٤/٨٦) والطبراني في المعجم الكبير (٦/٢٣٨) من طريق شجاع بن الوليد عن قابوس به. قال الترمذي: "حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أبي بدر شجاع بن الوليد، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: أبو ظبيان لم يدرك سلمان، مات سلمان قبل علي".
(٨) في م، أ: "وقال".
333
فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ [بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ] ﴾ (١) هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَتَهْدِيدٌ أَكِيدٌ، لِمَنْ تَكَبَّرَ عن اتباع رسله والانقياد لهم (٢) فيما جاؤوا بِهِ، فَإِنَّهُ سَيُصِيبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ﴿صَغَارٌ﴾ وَهُوَ الذِّلَّةُ الدَّائِمَةُ، لَمَّا (٣) أَنَّهُمُ اسْتَكْبَرُوا أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ ذُلا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غَافِرٍ: ٦٠] أَيْ: صَاغِرِينَ ذَلِيلِينَ حَقِيرِينَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ لَمَّا كَانَ الْمَكْرُ غَالِبًا إِنَّمَا يَكُونُ خَفِيًّا، وَهُوَ التَّلَطُّفُ فِي التَّحَيُّلِ وَالْخَدِيعَةِ، قُوبِلُوا بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ جَزَاءً وِفَاقًا، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الْكَهْفِ: ٤٩]، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطَّارِقِ: ٩] أَيْ: تَظْهَرُ الْمُسْتَتِرَاتُ وَالْمَكْنُونَاتُ وَالضَّمَائِرُ. وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يُنْصَب لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسُتِه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرة فَلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ" (٤).
وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَدْرُ خَفِيَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَصِيرُ عَلَمًا مَنْشُورًا عَلَى صَاحِبِهِ بما فعل.
(١) زيادة من م، أ. وفي هـ: "الآية".
(٢) في أ: "إليهم".
(٣) في أ: "كما".
(٤) رواه البخاري في صحيحه برقم (٧١١١) ومسلم في صحيحه برقم (١٧٣٥) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عنه.
334
وقوله :﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ أي : إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة، قالوا :﴿ لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ أي : حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة، كما تأتي إلى الرسل، كقوله، جل وعلا ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ] ١ [ الفرقان : ٢١ ].
وقوله :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ أي : هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، كما قال تعالى :﴿ وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّك ﴾ الآية [ الزخرف : ٣١، ٣٢ ] يعنون : لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير مبجل في أعينهم ﴿ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ ﴾ أي : مكة والطائف. وذلك لأنهم - قبحهم الله - كانوا يزدرون بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بغيًا وحسدًا، وعنادًا واستكبارًا، كما قال تعالى مخبرًا عنهم :﴿ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٦ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا ﴾ [ الفرقان : ٤١ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٠ ]. هذا وهم يعترفون بفضله وشرفه ونسبه. وطهارة بيته ومرباه ومنشئه، حتى أنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه :" الأمين "، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار " أبو سفيان " حين سأله " هرقل " ملك الروم : كيف نسبه فيكم ؟ قال : هو فينا ذو نسب. قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا الحديث بطوله الذي استدل به ملك الروم بطهارة٢ صفاته، عليه السلام، على صدقه ونبوته وصحة ما جاء به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن مُصعب، حدثنا الأوزاعي، عن شَدَّاد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ".
انفرد بإخراجه مسلم من حديث الأوزاعي - وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام، به نحوه٣.
وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بُعِثت من خير قُرون بني آدم قَرْنًا فقرنًا، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه " ٤.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نُعَيم، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث ابن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة قال : قال العباس : بلغه صلى الله عليه وسلم بعضُ ما يقول الناس، فصعد المنبر فقال :" من أنا ؟ ". قالوا : أنت رسول الله. قال :" أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين٥ فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة. وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتًا، فأنا خيركم بيتًا وخيركم نفسا " ٦. صدق صلوات الله وسلامه عليه.
وفي الحديث أيضا المروي عن عائشة، رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال لي جبريل : قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم ". رواه الحاكم والبيهقي٧. وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زِرِّ بن حُبَيْش، عن عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ]٨ قال : إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ٩.
وقال أحمد : حدثنا شُجاع بن الوليد قال : ذكر قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا سلمان، لا تبغضني فتفارق دينك ". قلت : يا رسول الله، كيف أبْغِضُك وبك هدانا الله ؟ قال :" تبغض العرب فتبغضني " ١٠.
وذكر١١ ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية : ذُكِرَ عن محمد بن منصور الجواز، حدثنا سفيان، عن ابن أبي حسين قال : أبصر رجل ابن عباس وهو يدخل من باب المسجد فلما نظر إليه راعه، فقال : من هذا ؟ قالوا : ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾
وقوله تعالى :﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ [ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ] ﴾١٢ هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد، لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم١٣ فيما جاؤوا به، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله ﴿ صَغَارٌ ﴾ وهو الذلة الدائمة، لما١٤ أنهم استكبروا أعقبهم ذلك ذُلا كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [ غافر : ٦٠ ] أي : صاغرين ذليلين حقيرين.
وقوله :﴿ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾ لما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا، وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد جزاء وفاقا، ﴿ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ [ الطارق : ٩ ] أي : تظهر المستترات والمكنونات والضمائر. وجاء في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" يُنْصَب لكل غادر لواء عند اسُتِه يوم القيامة، فيقال : هذه غَدْرة فلان ابن فلان " ١٥.
والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خَفِيَّا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير عَلَمًا منشورًا على صاحبه بما فعل.
١ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
٢ في أ: "بظاهر"..
٣ المسند (٤/١٠٧) وصحيح مسلم برقم (٢٢٧٦)..
٤ صحيح البخاري برقم (٣٥٥٧)..
٥ في م، أ: "فريقين"..
٦ المسند (١/٢١٠)..
٧ دلائل النبوة للبيهقي (١/١٧٦) من طريق موسى بن عبيدة، عن عمرو بن عبد الله، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة به، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٥١١) "مجمع البحرين" من طريق موسى بن عبيدة الربذي به. قال الهيثمي في المجمع (٨/٢١٧): "فيه موسى بن عبيدة االربذي وهو ضعيف"..
٨ زيادة من أ..
٩ المسند (١/٣٧٩)..
١٠ المسند (٥/٤٤٠) ورواه الترمذي في السنن برقم (٣٩٢٧) والحاكم في المستدرك (٤/٨٦) والطبراني في المعجم الكبير (٦/٢٣٨) من طريق شجاع بن الوليد عن قابوس به. قال الترمذي: "حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: أبو ظبيان لم يدرك سلمان، مات سلمان قبل علي"..
١١ في م، أ: "وقال".
.

١٢ زيادة من م، أ. وفي هـ: "الآية"..
١٣ في أ: "إليهم"..
١٤ في أ: "كما"..
١٥ رواه البخاري في صحيحه برقم (٧١١١) ومسلم في صحيحه برقم (١٧٣٥) من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنه.
.

﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ أَيْ: يُيَسِّرْهُ لَهُ وَيُنَشِّطْهُ وَيُسَهِّلْهُ لِذَلِكَ، فَهَذِهِ عَلَامَةٌ عَلَى الْخَيْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] (١) ﴾ [الزُّمَرِ: ٢٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الْحُجُرَاتِ: ٧].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ يَقُولُ: يُوَسِّعْ قَلْبَهُ لِلتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَكَذَا قَالَ أَبُو مَالِكٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: سُئل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَأَكْثَرُهُمْ (٢) لِمَا بعده استعدادًا". قال:
(١) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٢) في أ: "وأحسنهم".
334
وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ وَقَالُوا: كَيْفَ يَشْرَحُ صَدْرَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نُورٌ يُقْذَف فِيهِ، فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنْفَسِحُ". قَالُوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعرف بِهَا؟ قَالَ: "الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الخُلُود، والتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَوْتِ" (١).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَنَّاد، حَدَّثَنَا قَبِيصَة، عَنْ سُفْيَانَ -يَعْنِي الثَّوْرِيَّ -عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ رَجُلٍ يُكَنَّى أَبَا جَعْفَرٍ كَانَ يَسْكُنُ الْمَدَائِنَ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ] ﴾ (٢) فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ (٣).
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ الْقَزَّازِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَخَلَ الْإِيمَانُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ لَهُ الْقَلْبُ وَانْشَرَحَ (٤) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ، الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْمَوْتِ".
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ فَذَكَرَهُ (٥).
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْس، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المِسْوَر قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ قَالُوا:: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا الشَّرْحُ؟ قَالَ: "نُورٌ يُقْذَفُ بِهِ فِي الْقَلْبِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ (٦) ؟ قَالَ "نَعَمْ" قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: "الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْمَوْتِ" (٧).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنِي هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَاقَدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلمَة، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ (٨) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنَيْسة، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٩) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ". قَالُوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ قَالَ: "الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّنَحِّي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ لُقي الْمَوْتِ" (١٠).
(١) تفسير عبد الرزاق (١/٢١٠) ورواه الطبري في تفسيره (١٢/٩٩) من طريق عبد الرزاق به.
(٢) زيادة من أ.
(٣) تفسير الطبري (١٢/١٠٠).
(٤) في م: "وانشرح صدره".
(٥) تفسير الطبري (١٢/٩٨).
(٦) في أ: "من أمارة تعرف".
(٧) ورواه سعيد بن منصور وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات كما في الدر المنثور (٣/٣٥٥).
(٨) في م، أ: "عبد الرحمن".
(٩) زيادة من أ.
(١٠) رواه البيهقي في الزهد الكبير برقم (٩٧٤) من طريق زيد بن أبي أنيسة به.
335
وَقَدْ رَوَاهُ [ابْنُ جَرِيرٍ] (١) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَّصِلًا مَرْفُوعًا فَقَالَ: حَدَّثَنِي بن سِنان الْقَزَّازُ، حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُشْرَح صَدْرُهُ؟ قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيَنْفَسِحُ". قَالُوا: وَهَلْ لِذَلِكَ (٢) عَلَامَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْمَوْتُ" (٣).
فَهَذِهِ طُرُقٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ مُرْسَلَةٌ وَمُتَّصِلَةٌ، يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] ﴾ (٤) قُرِئَ بِفَتْحِ الضَّادِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ، وَالْأَكْثَرُونَ: ﴿ضَيِّقًا﴾ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ: كَهَيْن وهَيّن. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ﴿حَرَجًا﴾ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، قِيلَ: بِمَعْنَى آثَمٍ. وَقَالَ (٥) السُّدِّي. وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى ﴿حَرَجًا﴾ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَّسِعُ لِشَيْءٍ مِنَ الْهُدَى، وَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مَا يَنْفَعُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا يَنْفُذُ فِيهِ.
وَقَدْ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِنْ مُدْلج: مَا الْحَرَجَةُ؟ قَالَ (٦) هِيَ الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ، وَلَا وَحْشِيَّةٌ، وَلَا شَيْءٌ. فَقَالَ عُمْرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ لَا يَصِلُ (٧) إِلَيْهِ (٨) شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ (٩).
وَقَالَ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَجْعَلُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ ضَيِّقًا، وَالْإِسْلَامُ وَاسِعٌ. وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الْحَجِّ: ٧٨]، يَقُولُ: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ضِيقٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ والسُّدِّي: ﴿ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ شَاكًّا. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ﴿ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ لَيْسَ لِلْخَيْرِ فِيهِ مَنْفَذٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج ﴿ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى لَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَدْخُلَهُ، كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر: يَجْعَلُ صَدْرَهُ ﴿ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ قَالَ: لَا يَجِدُ فِيهِ مَسْلَكًا إِلَّا صُعدا.
وَقَالَ السُّدِّي: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ مِنْ ضِيقِ صَدْرِهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ يَقُولُ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي لَا يستطيع أن يصعد
(١) زيادة من م.
(٢) في م: "لذلك من".
(٣) ورواه الحاكم في المستدرك (٤/٣١١) وابن أبي الدنيا في الموت ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان برقم (١٠٥٥٢) من طريق عدي ابن الفضل، عن المسعودي، عن القاسم، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بنحوه.
قاال الذهبي في تلخيص المستدرك: "عدى ساقط".
(٤) زيادة من أ.
(٥) في أ: "قاله"
(٦) في أ: "فقال"
(٧) في د: لا تصل".
(٨) في أ: "إلى".
(٩) رواه الطبري في تفسيره (١٢/١٠٤).
336
فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ يَقُولُ: فَكَمَا لَا يَسْتَطِيعُ ابْنُ آدَمَ أَنْ يَبْلُغَ السَّمَاءَ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ قَلْبَهُ، حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لقلب هذا الكافر في شدة تضيقه إِيَّاهُ عَنْ وُصُولِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ. يَقُولُ: فَمِثْلُهُ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَضِيقِهِ عَنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، مِثْلُ امْتِنَاعِهِ مِنَ الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ يَقُولُ: كَمَا يَجْعَلُ اللَّهُ صَدْرَ مَنْ أَرَادَ إِضْلَالَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا، كَذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ مِمَّنْ أَبَى الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيُغْوِيهِ وَيَصُدُّهُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (١).
قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرِّجْسُ: الشَّيْطَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّجْسُ: كُلُّ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الرِّجْسُ: الْعَذَابُ.
﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) ﴾
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَرِيقَةَ (٢) الضَّالِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ، الصَّادِّينَ عَنْهَا، نَبَّهَ عَلَى أَشْرَفِ مَا أرْسل بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ (٣) فَقَالَ: ﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا﴾ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: هَذَا الدِّينُ الَّذِي شَرَعْنَاهُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَهُوَ صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٤) فِي نَعْتِ الْقُرْآنِ: "هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَحَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِطُولِهِ (٥).
﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ﴾ أَيْ: [قَدْ] (٦) وَضَّحْنَاهَا وَبَيَّنَّاهَا وَفَسَّرْنَاهَا، ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ أَيْ: لِمَنْ لَهُ فَهْمٌ وَوَعْيٌ يَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
﴿لَهُمْ دَارُ السَّلامِ﴾ وَهِيَ: الْجَنَّةُ، ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ الْجَنَّةَ هاهنا بدار
(١) تفسير الطبري (١٢/١١٠).
(٢) في أ: "طريق".
(٣) في أ: "الهدى".
(٤) زيادة من أ.
(٥) سنن الترمذي برقم (٢٩٠٨) وقد تقدم إسناده في فضائل القرآن. وقال الترمذي: "هذا حديث صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ، وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ مَقَالٌ".
(٦) زيادة من م، أ.
﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ ﴾ وهي : الجنة، ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ أي : يوم القيامة. وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفْضَوا إلى دار السلام.
﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ﴾ أي : والسلام - وهو الله - وليهم، أي : حافظهم وناصرهم ومؤيدهم، ﴿ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أي : جزاء [ على ]١ أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة، بمنّه وكرمه.
١ زيادة من م، أ..
السَّلَامِ لِسَلَامَتِهِمْ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُقْتَفِي أَثَرَ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرَائِقَهُمْ، فَكَمَا سَلِمُوا مِنْ آفَاتِ الِاعْوِجَاجِ أفْضَوا إِلَى دَارِ السَّلَامِ.
﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾ أَيْ: وَالسَّلَامُ -وَهُوَ اللَّهُ -وَلِيُّهُمْ، أَيْ: حَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُؤَيِّدُهُمْ، ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: جَزَاءً [عَلَى] (١) أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ تَوَلَّاهُمْ وَأَثَابَهُمُ الْجَنَّةَ، بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ فِيمَا تَقُصُّهُ عَلَيْهِمْ وَتُذَكِّرُهُمْ بِهِ ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ يَعْنِي: الْجِنَّ وَأَوْلِيَاءَهُمْ ﴿مِنَ الإنْسِ﴾ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَعُوذُونَ بِهِمْ وَيُطِيعُونَهُمْ، وَيُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا. ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ﴾ أَيْ: ثُمَّ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ﴾ أَيْ: مِنْ إِضْلَالِهِمْ وَإِغْوَائِهِمْ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٢) ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ [يس: ٦٠ -٦٢].
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ﴾ يَعْنِي: أَضْلَلْتُمْ مِنْهُمْ كَثِيرًا. وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ.
﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ يَعْنِي: أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْجِنِّ مِنَ الْإِنْسِ قَالُوا مُجِيبِينَ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ هَوْذَة بْنُ خَلِيفَةَ، حَدَّثَنَا عَوْف، عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: اسْتَكْثَرَ رَبُّكُمْ أَهْلَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعْ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ. قَالَ الْحَسَنُ: وَمَا كَانَ اسْتِمْتَاعُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ إِلَّا أَنَّ الْجِنَّ أَمَرَتْ، وَعَمِلَتِ الْإِنْسُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ قَالَ: الصَّحَابَةُ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَنْزِلُ الْأَرْضَ، فَيَقُولُ: "أَعُوذُ بِكَبِيرِ هَذَا الْوَادِي": فَذَلِكَ اسْتِمْتَاعُهُمْ، فَاعْتَذَرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ فَإِنَّهُ كَانَ -فِيمَا ذُكِرَ -مَا يَنَالُ الْجِنُّ مِنَ الْإِنْسِ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي اسْتِعَانَتِهِمْ بهم، فيقولون: قد سدنا الإنس والجن.
(١) زيادة من م، أ.
(٢) زيادة من م، أ.
﴿وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ قَالَ السُّدِّيُّ، أَيِ الْمَوْتَ.
قَالَ: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ﴾ أَيْ: مَأْوَاكُمْ وَمَنْزِلُكُمْ أَنْتُمْ وَأَوْلِيَاؤُكُمْ. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ: مَاكِثِينَ مُكْثًا مُخَلَّدًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: يَرْجِعُ مَعْنَى [هَذَا] (١) الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْبَرْزَخِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا رَدٌّ إِلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي سَيَأْتِي تَقْرِيرُهَا [إِنْ شَاءَ اللَّهُ] (٢) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [الْآيَةَ: ١٠٧].
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ -كَاتِبُ اللَّيْثِ-: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَا يُنْزِلَهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا.
﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) ﴾
قَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِهَا: وَإِنَّمَا يُوَلِّي اللَّهُ (٣) النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِ أَيْنَ كَانَ وَحَيْثُ كَانَ، وَالْكَافِرُ وَلِيُّ الْكَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُمَا كَانَ، لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي. وَاخْتَارَهُ (٤) ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِهَا: ﴿نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾ فِي النَّارِ، يَتَّبِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: قَرَأْتُ فِي الزَّبُورِ: إِنِّي أَنْتَقِمُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ أَنْتَقِمُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ جَمِيعًا، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (٥) ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾ قَالَ: ظَالِمِي الْجِنِّ وَظَالِمِي الْإِنْسِ، وَقَرَأَ: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٣٦]، قَالَ: وَنُسَلِّطُ (٦) ظَلَمَةَ الْجِنِّ عَلَى ظَلَمَةِ الْإِنْسِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْكَرَابِيسِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: "مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ" (٧).
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا مِن يَد إِلَّا يدُ اللَّهِ فَوْقَهَا... وَلَا ظَالِمٍ إِلَّا سَيُبلى بِظَالِمٍ...
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) في م: "يولي الله بين".
(٤) في م، أ: "واختار هذا القول".
(٥) في م، أ: "قول الله تعالى".
(٦) في أ: "وسلط".
(٧) ذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق (١٤/١٥٣) ورجاله ثقات، وعاصم فيه كلام يسير.
وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَمَا وَلَّيْنَا هَؤُلَاءِ الْخَاسِرِينَ مِنَ الْإِنْسِ تِلْكَ الطَّائِفَةَ الَّتِي أغْوَتهم مِنَ الْجِنِّ، كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالظَّالِمِينَ، نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَنُهْلِكُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَنَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ.
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (١٣٠) ﴾
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُقرع اللَّهُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَافِرِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ يَسْأَلُهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ -: هَلْ بَلَّغَتْهُمُ الرُّسُلُ رِسَالَاتِهِ؟ وَهَذَا استفهامُ تَقْرِيرٍ: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ أَيْ: مِنْ جُمْلَتِكُمْ. وَالرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ فَقَطْ، وَلَيْسَ مِنَ الْجِنِّ رُسُلٌ، كَمَا [قَدْ] (١) نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْج، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّسُلُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَمِنَ الْجِنِّ نُذُر.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزاحم: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ فِي الْجِنِّ رُسُلًا وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ وَلَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ، وَهِيَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] (٢) ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرَّحْمَنِ: ١٩ -٢٢]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ (٣) مِنَ الْمِلْحِ (٤) لَا مِنَ الْحُلْوِ. وَهَذَا وَاضِحٌ، ولله الحمد. وقد نص هَذَا الْجَوَابِ بِعَيْنِهِ ابْنُ جَرِيرٍ (٥).
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا هُمْ مِنَ الْإِنْسِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [وَأَوْحَيْنَا] ﴾ (٦) إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ [بَعْدَ الرُّسُلِ (٧) ] ﴾ [النِّسَاءِ: ١٦٣ -١٦٥]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٧]، فَحَصَرَ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ فِي الْجِنِّ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (٨) ثُمَّ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ بِبَعْثَتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ﴾ [الْفُرْقَانِ: ٢٠]، وَقَالَ [تَعَالَى] (٩) :﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يُوسُفَ: ١٠٩]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِنَّ تَبَعٌ لِلْإِنْسِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف: ٢٩ -٣٢].
(١) زيادة من د، م، أ.
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) في م: "يستخرجان"
(٤) في د: "المالح".
(٥) في أ: "ابن جريج".
(٦) زيادة من أ.
(٧) زيادة من د، م، أ.
(٨) زيادة من أ.
(٩) زيادة من أ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ -الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرِهِ -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ (١) وَفِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الْآيَتَانِ: ٣١، ٣٢].
وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾ أَيْ: أَقْرَرْنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُونَا رِسَالَاتِكَ، وَأَنْذَرُونَا لِقَاءَكَ، وَأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: وَقَدْ فَرَّطُوا فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَهَلَكُوا بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَمُخَالَفَتِهِمْ لِلْمُعْجِزَاتِ، لِمَا اغْتَرُّوا بِهِ مِنْ زُخْرُفِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، ﴿وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ [أَجْمَعِينَ] (٢).
﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١) ﴾
(١) سنن الترمذي برقم (٣٢٩١).
(٢) زيادة من م.
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا أَعْذَرْنَا إِلَى الثَّقَلَيْنِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، لِئَلَّا يُعَاقَبَ أَحَدٌ بِظُلْمِهِ، وَهُوَ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ، وَلَكِنْ أَعْذَرْنَا إِلَى الْأُمَمِ، وَمَا عَذَّبْنَا أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فَاطِرَ: ٢٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النَّحْلِ: ٣٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٥]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا﴾ [الْمُلْكِ: ٨، ٩] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بِظُلْمٍ﴾ وَجْهَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ رَبَّكَ مُهْلِكُ الْقُرَى بِظُلْمِ أَهْلِهَا بِالشِّرْكِ وَنَحْوِهِ، وَهُمْ غَافِلُونَ، يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ (١) يُنَبِّهُهُمْ عَلَى حُجَجِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَيُنْذِرُهُمْ عَذَابَ اللَّهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُؤَاخِذُهُمْ غَفْلَةً فَيَقُولُوا: ﴿مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ﴾ [الْمَائِدَةِ: ١٩].
وَالْوَجْهَ الثَّانِيَ: أَنَّ ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾ يَقُولُ: لم يكن [ربك] (٢) ليهلكهم
(١) في م، أ: "رسولا".
(٢) زيادة من أ.
دُونَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِالرُّسُلِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، فَيَظْلِمَهُمْ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ غَيْرُ ظَلَّامٍ (١) لِعَبِيدِهِ.
ثُمَّ شَرَعَ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْوَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (٢).
وَقَالَ: وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ أَيْ: وَلِكُلِّ عَامِلٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ مَعْصِيَتِهِ مَنَازِلُ وَمَرَاتِبُ مِنْ عَمَلِهِ يُبَلِّغُهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَيُثِيبُهُ بِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًا فَشَرٌّ.
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ قَوْلُهُ: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [أَيْ] (٣) مِنْ كَافِرِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، أَيْ: وَلِكُلٍّ دَرَجَةٌ فِي النَّارِ بِحَسَبِهِ، كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] (٤) ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ] ﴾ (٥) [الْأَعْرَافِ: ٣٨]، وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٨٨].
﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِمْ، يَا مُحَمَّدُ، بِعِلْمٍ مِنْ رَبِّكَ، يُحْصِيهَا وَيُثْبِتُهَا لَهُمْ عِنْدَهُ، لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا عِنْدَ لِقَائِهِمْ إِيَّاهُ وَمَعَادِهِمْ إِلَيْهِ.
﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) ﴾
يَقُولُ [تَعَالَى] (٦) ﴿وَرَبُّكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿الْغَنِيُّ﴾ أَيْ: عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ أَيْ: وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَحِيمٌ بِهِمْ رؤوف، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣].
﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ أَيْ: إِذَا خَالَفْتُمْ أَمْرَهُ ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ﴾ أَيْ: قَوْمًا آخَرِينَ، أَيْ: يَعْمَلُونَ بِطَاعَتِهِ (٧)، ﴿كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ أَيْ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، سَهْلٌ عَلَيْهِ، يَسِيرٌ لَدَيْهِ، كَمَا أَذْهَبَ الْقُرُونَ الأوَل وَأَتَى بِالَّذِي بَعْدَهَا (٨) كَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِ هَؤُلَاءِ وَالْإِتْيَانِ بِآخَرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ [النِّسَاءِ: ١٣٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فَاطِرَ: ١٥ -١٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [مُحَمَّدَ: ٣٨].
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَانَ بْنَ عثمان يقول في هذه الآية:
(١) في أ: "ظالم".
(٢) تفسير الطبري (١٢/١٢٤).
(٣) زيادة من، م، أ.
(٤) زيادة من أ.
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من م، أ.
(٧) في م: "بطاعة الله".
(٨) في أ: "بعده".
342
﴿كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ الذُّرِّيَّةُ: الْأَصْلُ، وَالذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أَيْ: أَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الَّذِي يُوعَدُونَ (١) بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أَيْ: وَلَا تُعْجِزُونَ اللَّهَ، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ، وَإِنْ صِرْتُمْ تُرَابًا رُفَاتًا وَعِظَامًا هُوَ قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهَا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدُرْي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَا بَنِي آدَمَ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لِآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ" (٢).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، أَيِ: اسْتَمِرُّوا عَلَى طَرِيقِكُمْ (٣) وَنَاحِيَتِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ عَلَى هُدًى، فَأَنَا مُسْتَمِرٌّ عَلَى طَرِيقَتِي وَمَنْهَجِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ [هُودٍ: ١٢١، ١٢٢].
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ أَيْ: نَاحِيَتِكُمْ.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ أَيْ: أَتَكُونُ لِي أَوْ لَكُمْ. وَقَدْ أَنْجَزَ مَوْعِدَهُ لَهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى مَكَّنَ لَهُ فِي الْبِلَادِ، وَحَكَّمَهُ فِي نَوَاصِي مُخَالِفِيهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَفَتَحَ لَهُ مَكَّةَ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ وَعَادَاهُ وَنَاوَأَهُ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ عَلَى سَائِرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ الْيَمَنُ وَالْبَحْرَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ. ثُمَّ فُتِحَتِ الْأَمْصَارُ وَالْأَقَالِيمُ وَالرَّسَاتِيقُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي أَيَّامِ خُلَفَائِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٠]، وَقَالَ ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غَافِرَ: ٥١، ٥٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٥]، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ رُسُلِهِ: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ١٣، ١٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ الْآيَةَ [النُّورِ: ٥٥]، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ [تَعَالَى] (٤) ذَلِكَ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةِ أولا وآخرًا، باطنًا وظاهرًا (٥).
(١) في أ: "توعدون".
(٢) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (١٠٥٦٤) وأبو نعيم في الحلية (٦/٩١) من طريق محمد بن المصفى، عن محمد بن حمير به، قال أبو نعيم: "غريب من حديث عطاء، وأبي بكر تفرد به محمد بن حمير".
(٣) في د، أ: "طريقتكم".
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) في م، أ: "وظاهرا وباطنا ".
343
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي : أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون١ به من أمر المعاد كائن لا محالة، ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي : ولا تعجزون الله، بل هو قادر على إعادتكم، وإن صرتم ترابًا رفاتًا وعظامًا هو قادر لا يعجزه شيء.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها : حدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا محمد بن حمير، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدُرْي، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" يا بني آدم، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى. والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين " ٢.
١ في أ: "توعدون"..
٢ ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (١٠٥٦٤) وأبو نعيم في الحلية (٦/٩١) من طريق محمد بن المصفى، عن محمد بن حمير به، قال أبو نعيم: "غريب من حديث عطاء، وأبي بكر تفرد به محمد بن حمير"..
وقوله تعالى :﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، أي : استمروا على طريقكم١ وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، كما قال تعالى :﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [ هود : ١٢١، ١٢٢ ].
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ عَلَى مَكَانَتِكُمْ ﴾ أي : ناحيتكم.
﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ أي : أتكون لي أو لكم. وقد أنجز موعده له، صلوات الله عليه، فإنه تعالى مكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب، وكذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك في حياته. ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه، رضي الله عنهم أجمعين، كما قال الله تعالى :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ [ المجادلة : ٢٠ ]، وقال ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [ غافر : ٥١، ٥٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ]، وقال تعالى إخبارًا عن رسله :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [ إبراهيم : ١٣، ١٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ الآية [ النور : ٥٥ ]، وقد فعل الله [ تعالى ]٢ ذلك بهذه الأمة، وله الحمد والمنة أولا وآخرًا، باطنًا وظاهرًا٣.
١ في د، أ: "طريقتكم"..
٢ زيادة من م، أ..
٣ في م، أ: "وظاهرا وباطنا ".
.

﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦) ﴾
هَذَا ذَمٌّ وَتَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا وَكُفْرًا وَشِرْكًا، وَجَعَلُوا لِلَّهِ جُزْءًا مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ﴾ أَيْ: مِمَّا خَلَقَ وَبَرَأَ ﴿مِنَ الْحَرْثِ﴾ أَيْ: مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ﴿وَالأنْعَامِ نَصِيبًا﴾ أَيْ: جُزْءًا وَقَسْمًا، ﴿فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، والعَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ فِي (١) تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ كَانُوا إِذَا حَرَثُوا حَرْثًا، أَوْ كَانَتْ لَهُمْ ثَمَرَةٌ، جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْهُ جُزْءًا وَلِلْوَثَنِ جُزْءًا، فَمَا كَانَ مِنْ حَرْثٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ نَصِيبِ الْأَوْثَانِ حَفَظُوهُ وَأَحْصَوْهُ. وَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِيمَا سُمّي لِلصَّمَدِ رَدُّوهُ إِلَى مَا جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ. وَإِنْ سَبَقَهُمُ الْمَاءُ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ. فَسَقَى شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ جَعَلُوا ذَلِكَ لِلْوَثَنِ. وَإِنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرْثِ وَالثَّمَرَةِ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ، فَاخْتَلَطَ بِالَّذِي جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ، قَالُوا: هَذَا فَقِيرٌ. وَلَمْ يَرُدُّوهُ إِلَى مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ. وَإِنْ سَبَقَهُمُ الْمَاءُ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ. فَسَقَى مَا سُمّي لِلْوَثَنِ تَرَكُوهُ لِلْوَثَنِ، وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامَ، فَيَجْعَلُونَهُ لِلْأَوْثَانِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (٢) ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا﴾ الْآيَةَ.
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي تَفْسِيرِهِ: كُلُّ شَيْءٍ جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِنْ ذبْح يَذْبَحُونَهُ، لَا يَأْكُلُونَهُ أَبَدًا حَتَّى يَذْكُرُوا مَعَهُ أَسْمَاءَ الْآلِهَةِ. وَمَا كَانَ لِلْآلِهَةِ لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ مَعَهُ، وَقَرَأَ الْآيَةَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أَيْ: سَاءَ مَا يُقَسِّمُونَ، فَإِنَّهُمْ أخطؤوا أَوَّلًا فِي الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ، وَلَهُ الْمُلْكُ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ وَفِي تَصَرُّفِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. ثُمَّ لَمَّا قَسَّمُوا فِيمَا زَعَمُوا لَمْ يَحْفَظُوا الْقِسْمَةَ الَّتِي هِيَ فَاسِدَةٌ، بَلْ جَارُوا فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٥٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾ [الزُّخْرُفِ: ١٥]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النَّجْمِ: ٢١، ٢٢].
﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١٣٧) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا زَيَّنَتِ الشَّيَاطِينُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَجْعَلُوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام
(١) في م: "لي".
(٢) في أ: "تعالى".
344
نَصِيبًا، كَذَلِكَ زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ خَشْيَةَ الْعَارِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ: زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿شُرَكَاؤُهُمْ﴾ شَيَاطِينُهُمْ، يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يئدوُا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ العَيْلة. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَرَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ أَنْ يَقْتُلُوا الْبَنَاتِ. وَإِمَّا ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ فَيُهْلِكُوهُمْ، وَإِمَّا ﴿لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ أَيْ: فَيَخْلِطُونَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ.
وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِه [أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ] ﴾ [النَّحْلِ: ٥٨، ٥٩]، (١) وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التَّكْوِيرِ: ٨، ٩]. وَقَدْ كَانُوا أَيْضًا يَقْتُلُونَ الْأَوْلَادَ مِنَ الْإِمْلَاقِ، وَهُوَ: الْفَقْرُ، أَوْ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ في تاني الْمَالِ (٢) وَقَدْ نَهَاهُمُ [اللَّهُ] (٣) عَنْ قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا (٤) كُلُّهُ مِنْ شَرْعِ الشَّيْطَانِ تَزْيِينُهُ لَهُمْ ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ﴾ أَيْ: كُلُّ هَذَا وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ لِذَلِكَ كَوْنًا، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ فِي ذَلِكَ، فَلَا (٥) يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسألون. ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ أَيْ: فَدَعْهُمْ وَاجْتَنِبْهُمْ وَمَا هُمْ فِيهِ، فَسَيَحْكُمُ الله بينك وبينهم.
(١) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٢) في أ: "الحال".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في أ: "كذلك وإن كان هذا".
(٥) في أ: "ولا".
345
يقول تعالى : وكما زينت الشياطين لهؤلاء المشركين أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق، ووأد البنات خشية العار.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم : زينوا لهم قتل أولادهم.
وقال مجاهد :﴿ شُرَكَاؤُهُمْ ﴾ شياطينهم، يأمرونهم أن يئدوُا أولادهم خشية العَيْلة. وقال السدي : أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات. وإما ﴿ لِيُرْدُوهُمْ ﴾ فيهلكوهم، وإما ﴿ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ﴾ أي : فيخلطون عليهم دينهم.
ونحو ذلك قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وهذا كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِه [ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ] ﴾ [ النحل : ٥٨، ٥٩ ]، ١ وقال تعالى :﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [ التكوير : ٨، ٩ ]. وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق، وهو : الفقر، أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تاني المال٢ وقد نهاهم [ الله ]٣ عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا٤ كله من شرع الشيطان تزيينه لهم ذلك.
قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ﴾ أي : كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونًا، وله الحكمة التامة في ذلك، فلا٥ يسأل عما يفعل وهم يُسألون. ﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ أي : فدعهم واجتنبهم وما هم فيه، فسيحكم الله بينك وبينهم.
١ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
٢ في أ: "الحال"..
٣ زيادة من أ..
٤ في أ: "كذلك وإن كان هذا"..
٥ في أ: "ولا".
.

﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) ﴾
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الحجْرُ": الْحَرَامُ، مِمَّا حَرَّمُوا الْوَصِيلَةَ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمُوا.
وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، والسُّدِّي، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ الْآيَةَ: تَحْرِيمٌ كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَتَغْلِيظٌ وَتَشْدِيدٌ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿حِجْرٌ﴾ إِنَّمَا احْتَجَزُوهَا لِآلِهَتِهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿لَا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ﴾ يَقُولُونَ: حَرَامٌ أَنْ نُطْعِمَ إِلَّا مَنْ شِئْنَا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يُونُسَ: ٥٩]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ١٠٣].
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا ﴿وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ فَهِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْحَامُ، وَأَمَّا الْأَنْعَامُ الَّتِي لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا قَالَ: إِذَا أَوْلَدُوهَا، وَلَا إِنْ نَحَرُوهَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاش، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُود قَالَ لِي أَبُو وَائِلٍ: تَدْرِي (١) مَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: هِيَ الْبَحِيرَةُ، كَانُوا لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مِنْ إِبِلِهِمْ طَائِفَةٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا [وَلَا] (٢) فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهَا، لَا إِنْ رَكِبُوا، وَلَا إِنْ حَلَبُوا، وَلَا إِنْ حَمَلُوا، وَلَا إِنْ سَحَبُوا (٣) وَلَا إِنْ عَمِلُوا شَيْئًا (٤).
﴿افْتِرَاءً عَلَيْهِ﴾ أَيْ: عَلَى اللَّهِ، وَكَذِبًا مِنْهُمْ فِي إِسْنَادِهِمْ ذَلِكَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا رَضيه مِنْهُمْ ﴿سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أَيْ: عَلَيْهِ، ويُسْندون إِلَيْهِ.
﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) ﴾
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الهُذَيل، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا﴾ الْآيَةَ، قَالَ: اللَّبَنُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا﴾ [الْآيَةَ] (٥) : فَهُوَ اللَّبَنُ، كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ عَلَى إِنَاثِهِمْ، وَيَشْرَبُهُ ذُكْرَانُهُمْ. وَكَانَتِ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ، وَكَانَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ فَلَمْ تُذْبَحْ، وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ. فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ السُّدِّي.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "الْبَحِيرَةُ" لَا يَأْكُلُ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا الرِّجَالُ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمة، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ قَالَ: هِيَ السَّائِبَةُ وَالْبَحِيرَةُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ [فِي قَوْلٍ] (٦) ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ أَيْ: قَوْلَهُمُ الْكَذِبَ فِي ذَلِكَ، يَعْنِي قَوْلَهُ (٧) تَعَالَى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ﴾ الْآيَةَ [النَّحْلِ: ١١٦، ١١٧].
إِنَّهُ ﴿حَكِيمٌ﴾ أَيْ: فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، ﴿عَلِيمٌ﴾ بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَسَيَجْزِيهِمْ على ذلك أتم الجزاء.
(١) في أ: "أتدري".
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) في م، أ: "حجوا".
(٤) في د: "شيئا نتجوا".
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من م، أ.
(٧) في م، أ: "كقوله".
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ فَعَلُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ (١) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَخَسِرُوا أَوْلَادَهُمْ بِقَتْلِهِمْ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَحَرَّمُوا أَشْيَاءَ ابْتَدَعُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَصِيرُونَ إِلَى شَرِّ الْمَنَازِلِ بِكَذِبِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يُونُسَ: ٦٩، ٧٠].
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (٢) قَالَ: إِذَا سَرَّك أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا فِي كِتَابِ "مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ" مِنْ صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ عَارِمٍ، عَنْ أَبِي عوَانة -وَاسْمُهُ الوَضَّاح بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اليَشْكُرِي -عَنْ أَبِي بِشْرٍ -وَاسْمُهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّة بْنِ إِيَاسٍ، بِهِ (٣).
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى بَيَانًا لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْعَامِ الَّتِي تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ وقسَّموها وجَزَّءوها، فَجَعَلُوا مِنْهَا حَرَامًا وَحَلَالًا فَقَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مَعْرُوشَاتٍ﴾ مَسْمُوكَاتٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: "الْمَعْرُوشَاتُ": مَعْرُوشَاتُ مَا عَرَّشَ النَّاسُ، ﴿وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾ مَا خَرَجَ فِي الْبَرِّ وَالْجِبَالِ مِنَ الثَّمَرَاتِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مَعْرُوشَاتٍ﴾ مَا عَرَّشَ مِنَ الْكَرْمِ ﴿وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾ مَا لَمْ يعرش من الكرم. وكذا قال السدي.
(١) في م: "صنعوا هذه الأفاعيل
(٢) في م: "عنه".
(٣) صحيح البخاري برقم (٣٥٢٤).
347
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: ﴿مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ قَالَ: متشابه فِي الْمَنْظَرِ، وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي الطَّعْمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْب: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾ قَالَ: مِنْ رُطَبِهِ وعنَبه.
وَقَوْلُهُ (١) تَعَالَى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ.
حَدَّثَنَا عَمْرٌو، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ دِرْهَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ قَالَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ يَعْنِي: الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، يَوْمَ يُكَال وَيُعْلَمُ كَيْلُهُ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا زَرَعَ فَكَانَ يَوْمُ حَصَادِهِ، لَمْ يُخْرِجْ مِمَّا حَصَدَ شَيْئًا فَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ وَذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ مَا كَيْلُهُ وَحَقُّهُ، مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ وَاحِدًا، مَا يَلْقُط (٢) النَّاسُ مِنْ سُنْبُلِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ابن حبَّان، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَ مِنْ كُل جَادٍّ عَشْرَة أوسُق مِنَ التَّمْرِ، بقنْو يُعَلَّقُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَسَاكِينِ (٣) وَهَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ.
وَقَالَ طَاوُسٌ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُرَيْج: هِيَ الزَّكَاةُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ الصَّدَقَةُ مِنَ الْحَبِّ وَالثِّمَارِ، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ حُقٌّ آخَرُ سِوَى الزَّكَاةِ.
وَقَالَ (٤) أَشْعَثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرين، وَنَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ قَالَ: كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا سِوَى الزَّكَاةِ. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ. عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عطاء بن أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ قَالَ: يُعْطِي مَنْ حَضَرَهُ يَوْمَئِذٍ مَا تَيَسَّرَ، وَلَيْسَ بِالزَّكَاةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا حَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ، طَرَحْتَ لَهُمْ مِنْهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (٥) عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ قَالَ: عِنْدَ الزَّرْعِ يُعْطِي الْقَبْضَ، وَعِنْدَ الصِّرَامِ يُعْطِي الْقَبْضَ، وَيَتْرُكُهُمْ فَيَتْبَعُونَ آثَارَ الصِّرَامِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ [النَّخَعِيِّ] (٦) قَالَ: يُعْطِي مِثْلَ الضِّغْثِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ الزَّكَاةِ: لِلْمَسَاكِينِ، الْقَبْضَةُ الضِّغْثُ لِعَلْفِ دَابَّتِهِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعة، عَنْ دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾
(١) في أ: "قال".
(٢) في د: "وما يلفظه".
(٣) المسند (٣/٣٥٩) وسنن أبي داود برقم (١٦٦٢).
(٤) في أ: "قال".
(٥) في أ: "قتينة".
(٦) زيادة من أ.
348
قَالَ: مَا سَقَطَ مِنَ السُّنْبُلِ. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُويه (١).
وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا كُلُّهُ شَيْءٌ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدٍ بن الْحَنَفِيَّةِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَعَطِيَّةَ العَوْفي. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ (٢) اللَّهُ.
قُلْتُ: وَفِي تَسْمِيَةِ هَذَا نَسْخًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ شَيْئًا وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ فَصَّلَ بَيَانَهُ وبَيَّن مِقْدَارَ الْمُخْرَجِ وَكِمِّيَّتَهُ. قَالُوا: وَكَانَ هَذَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَلَا يَتَصَدَّقُونَ، كَمَا ذَكَرَ عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فِي سُورَةِ "ن": ﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ أَيْ: كَاللَّيْلِ الْمُدْلَهِمِّ سَوْدَاءَ مُحْتَرِقَةً ﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ﴾ أَيْ: قُوَّةٍ وَجَلَدٍ وَهِمَّةٍ ﴿قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [الْقَلَمِ: ١٧-٣٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ: وَلَا تُسْرِفُوا فِي الْإِعْطَاءِ، فَتُعْطُوا فَوْقَ الْمَعْرُوفِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانُوا يُعْطُونَ يَوْمَ الْحَصَادِ شَيْئًا، ثُمَّ تَبَارَوْا فِيهِ وَأَسْرَفُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج (٣) نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْس بْنِ شَمَّاس، جذَّ نَخْلًا. فَقَالَ: لَا يَأْتِينِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا أَطْعَمْتُهُ. فَأَطْعَمَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: يَنْهَى عَنِ السَّرَفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا جَاوَزْتَ بِهِ أَمْرَ اللَّهِ فَهُوَ سَرَفٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ قَالَ: لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ، فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الصدقة فتعصوا.
(١) ورواه النحاس في الناسخ المنسوخ (ص٤٢٧) : حدثنا الحسن بن غليب، حدثنا عمران بن أبي عمران، حَدَّثَنَا ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ يروى عن أبي الهيثم مناكير.
(٢) في أ: "رحمهم".
(٣) في م: "ابن جرير".
349
ثُمَّ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ عَطَاءٍ: إِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا [إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] ﴾ (١) أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْأَكْلِ، أَيْ: وَلَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَضَرَّةِ الْعَقْلِ وَالْبَدَنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] (٢) ﴾ [الأعراف: ٣١]، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا: "كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ" (٣) وَهَذَا مِنْ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ أَيْ: وَأَنْشَأَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ مَا هُوَ حَمُولَةٌ وَمَا هُوَ فَرْشٌ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَمُولَةِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْفَرْشُ الصِّغَارُ مِنْهَا. كَمَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿حَمُولَةً﴾ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ، ﴿وَفَرْشًا﴾ وَقَالَ: الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ.
رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَمُولَةُ: الْكِبَارُ، وَالْفَرْشُ [هِيَ] (٤) الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: ﴿وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ فَأَمَّا الْحَمُولَةُ فَالْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْفَرْشُ فَالْغَنَمُ.
وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: وَأَحْسَبُهُ إِنَّمَا سُمِّيَ فَرْشًا لِدُنُوِّهِ مِنَ الْأَرْضِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: الْحَمُولَةُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْفَرْشُ: الْغَنَمُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْحَمُولَةُ فَالْإِبِلُ، وَأَمَّا الْفَرْشُ فالفُصْلان والعَجَاجيل وَالْغَنَمُ، وَمَا حُمِلَ عَلَيْهِ فَهُوَ حَمُولَةٌ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الْحَمُولَةُ مَا تَرْكَبُونَ، وَالْفَرْشُ مَا تَأْكُلُونَ وَتَحْلِبُونَ، شَاةٌ لَا تَحْمِلُ، تَأْكُلُونَ لَحْمَهَا وَتَتَّخِذُونَ مِنْ صُوفِهَا لِحَافًا وَفَرْشًا (٥).
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَسَنٌ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ [يس: ٧١، ٧٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ] ﴾ (٦) إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النَّحْلِ: ٦٩ -٨٠]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ [غافر: ٧٩ -٨١].
(١) زيادة من م، أ.
(٢) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) صحيح البخاري (١٠/٢٥٢) "فتح"، وقد وصله ابن أبي الدنيا في كتاب االشكر برقم (٥١) فرواه من طريق هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٤) زيادة من أ.
(٥) في م، أ: "وفراشا".
(٦) زيادة من أ.
350
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ أَيْ: مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْأَنْعَامِ، فَكُلُّهَا خَلَقَهَا اللَّهُ [تَعَالَى] (١) وَجَعَلَهَا رِزْقًا لَكُمْ، ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أَيْ: طَرَائِقَهُ وَأَوَامِرَهُ، كَمَا اتَّبَعَهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، أَيْ: مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، ﴿إِنَّهُ لَكُمْ﴾ أَيْ: إِنَّ الشَّيْطَانَ -أَيُّهَا النَّاسُ -لَكُمْ ﴿عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أَيْ: بَيِّن ظَاهِرُ الْعَدَاوَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فَاطِرٍ: ٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ الْآيَةَ، [الْأَعْرَافِ: ٢٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا﴾ [الْكَهْفِ: ٥٠]. والآيات في هذا كثيرة في القرآن.
(١) زيادة من م، أ.
351
يقول تعالى بيانا لأنه الخالق لكل شيء، من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة وقسَّموها وجَزَّءوها، فجعلوا منها حرامًا وحلالا فقال :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ مسموكات. وفي رواية :" المعروشات " : معروشات ما عرش الناس، ﴿ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ ما خرج في البر والجبال من الثمرات.
وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس :﴿ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ ما عرش من الكرم ﴿ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ ما لم يعرش من الكرم. وكذا قال السدي.
وقال ابن جُرَيْج :﴿ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ قال : متشابه في المنظر، وغير متشابه في الطعم.
وقال محمد بن كَعْب :﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ﴾ قال : من رطبه وعنَبه.
وقوله١ تعالى :﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ قال ابن جرير : قال بعضهم : هي الزكاة المفروضة.
حدثنا عمرو، حدثنا عبد الصمد، حدثنا يزيد بن درهم قال : سمعت أنس بن مالك يقول :﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ قال : الزكاة المفروضة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ يعني : الزكاة المفروضة، يوم يُكَال ويعلم كيله. وكذا قال سعيد بن المسيب.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس :﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده، لم يخرج مما حصد شيئًا فقال الله :﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ وذلك أن يعلم ما كيله وحقه، من كل عشرة واحدًا، ما يَلْقُط٢ الناس من سنبله.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن يحيى ابن حبَّان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ من كُل جاد عَشْرَة أوسُق من التمر، بقنْو يعلق في المسجد للمساكين٣ وهذا إسناده جيد قوي.
وقال طاوس، وأبو الشعثاء، وقتادة، والحسن، والضحاك، وابن جُرَيْج : هي الزكاة.
وقال الحسن البصري : هي الصدقة من الحب والثمار، وكذا قال زيد بن أسلم.
وقال آخرون : هو حق آخر سوى الزكاة.
وقال٤ أشعث، عن محمد بن سِيرين، ونافع، عن ابن عمر في قوله :﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ قال : كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة. رواه ابن مردويه. وروى عبد الله بن المبارك وغيره. عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح في قوله :﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ قال : يعطي من حضره يومئذ ما تيسر، وليس بالزكاة.
وقال مجاهد : إذا حضرك المساكين، طرحت لهم منه.
وقال عبد الرزاق، عن ابن عيينة٥ عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ قال : عند الزرع يعطي القبض، وعند الصرام يعطي القبض، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام.
وقال الثوري، عن حماد، عن إبراهيم [ النخعي ]٦ قال : يعطي مثل الضغث.
وقال ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ قال : كان هذا قبل الزكاة : للمساكين، القبضة الضغث لعلف دابته.
وفي حديث ابن لَهِيعة، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن سعيد مرفوعًا :﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾
قال : ما سقط من السنبل. رواه ابن مَرْدُويه٧.
وقال آخرون : هذا كله شيء كان واجبًا، ثم نسخه الله بالعشر ونصف العشر. حكاه ابن جرير عن ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وإبراهيم النخعي، والحسن، والسدي، وعطية العَوْفي. واختاره ابن جرير، رحمه٨ الله.
قلت : وفي تسمية هذا نسخًا نظر ؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل، ثم إنه فصل بيانه وبَيَّن مقدار المخرج وكميته. قالوا : وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة، فالله أعلم.
وقد ذم الله سبحانه الذين يصومون ولا يتصدقون، كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة " ن " :﴿ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾ أي : كالليل المدلهم سوداء محترقة ﴿ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ﴾ أي : قوة وجلد وهمة ﴿ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [ القلم : ١٧ - ٣٣ ].
وقوله :﴿ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ قيل : معناه : ولا تسرفوا في الإعطاء، فتعطوا فوق المعروف.
وقال أبو العالية : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا، ثم تباروا فيه وأسرفوا، فأنزل الله :﴿ وَلا تُسْرِفُوا ﴾
وقال ابن جُرَيْج٩ نزلت في ثابت بن قَيْس بن شَمَّاس، جذَّ نخلا. فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته. فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فأنزل الله :﴿ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ رواه ابن جرير، عنه.
وقال ابن جريج، عن عطاء : ينهى عن السرف في كل شيء.
وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.
وقال السدي في قوله :﴿ وَلا تُسْرِفُوا ﴾ قال : لا تعطوا أموالكم، فتقعدوا فقراء.
وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب، في قوله :﴿ وَلا تُسْرِفُوا ﴾ قال : لا تمنعوا الصدقة فتعصوا.
ثم اختار ابن جرير قول عطاء : إنه نَهْيٌ عن الإسراف في كل شيء. ولا شك أنه صحيح، لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية حيث قال تعالى :﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ﴾١٠ أن يكون عائدًا على الأكل، أي : ولا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن، كما قال تعالى :﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ١١ [ الأعراف : ٣١ ]، وفي صحيح البخاري تعليقًا :" كلوا واشربوا، والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة " ١٢ وهذا من هذا، والله أعلم.
١ في أ: "قال"..
٢ في د: "وما يلفظه"..
٣ المسند (٣/٣٥٩) وسنن أبي داود برقم (١٦٦٢)..
٤ في أ: "قال"..
٥ في أ: "قتينة"..
٦ زيادة من أ.
.

٧ ورواه النحاس في الناسخ المنسوخ (ص٤٢٧): حدثنا الحسن بن غليب، حدثنا عمران بن أبي عمران، حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم يروى عن أبي الهيثم مناكير..
٨ في أ: "رحمهم"..
٩ في م: "ابن جرير".
.

١٠ زيادة من م، أ..
١١ زيادة من أ، وفي هـ: "الآية"..
١٢ صحيح البخاري ( ١٠/٢٥٢) "فتح"، وقد وصله ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر برقم (٥١) فرواه من طريق همام، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه..
وقوله :﴿ وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ﴾ أي : وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش، قيل : المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل، والفرش الصغار منها. كما قال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله :﴿ حَمُولَةً ﴾ ما حمل عليه من الإبل، ﴿ وَفَرْشًا ﴾ وقال : الصغار من الإبل.
رواه الحاكم، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال ابن عباس : الحمولة : الكبار، والفرش [ هي ]١ الصغار من الإبل. وكذا قال مجاهد.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ﴾ فأما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه، وأما الفرش فالغنم.
واختاره ابن جرير، قال : وأحسبه إنما سمي فرشًا لدنوه من الأرض.
وقال الربيع بن أنس، والحسن، والضحاك، وقتادة : الحمولة : الإبل والبقر، والفرش : الغنم.
وقال السدي : أما الحمولة فالإبل، وأما الفرش فالفُصْلان والعَجَاجيل والغنم، وما حمل عليه فهو حمولة.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الحمولة ما تركبون، والفرش ما تأكلون وتحلبون، شاة لا تحمل، تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافًا وفرشا٢.
وهذا الذي قاله عبد الرحمن في تفسير هذه الآية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٧١، ٧٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ ] ﴾٣ إلى أن قال :﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ [ النحل : ٦٩ - ٨٠ ]، وقال تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ﴾ [ غافر : ٧٩ - ٨١ ].
وقوله تعالى :﴿ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ أي : من الثمار والزروع والأنعام، فكلها خلقها الله [ تعالى ]٤ وجعلها رزقًا لكم، ﴿ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ أي : طرائقه وأوامره، كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله، أي : من الثمار والزروع افتراء على الله، ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ ﴾ أي : إن الشيطان - أيها الناس - لكم ﴿ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ أي : بَيِّن ظاهر العداوة، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ فاطر : ٦ ]، وقال تعالى :﴿ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ﴾ الآية، [ الأعراف : ٢٧ ]، وقال تعالى :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ﴾ [ الكهف : ٥٠ ]. والآيات في هذا كثيرة في القرآن.
١ زيادة من أ..
٢ في م، أ: "وفراشا"..
٣ زيادة من أ..
٤ زيادة من م، أ.
.

﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) ﴾
وَهَذَا بَيَانٌ لِجَهْلِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِيمَا كَانُوا حَرّموا مِنَ الْأَنْعَامِ، وَجَعَلُوهَا أَجْزَاءً وَأَنْوَاعًا: بَحِيرَةً، وَسَائِبَةً، وَوَصِيلَةً وَحَامًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا فِي الْأَنْعَامِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَبَيَّنَ (١) أَنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ، وَأَنَّهُ أَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا. ثُمَّ بَيَّنَ أَصْنَافَ الْأَنْعَامِ إِلَى غَنَمٍ وَهُوَ بَيَاضٌ وَهُوَ الضَّأْنُ، وَسَوَادٌ وَهُوَ الْمَعِزُ، ذَكَرُهُ وَأُنْثَاهُ، وَإِلَى إِبِلٍ ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا، وَبَقَرٍ كَذَلِكَ. وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا شَيْئًا مِنْ أَوْلَادِهِ. بَلْ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ لِبَنِي آدَمَ، أَكْلًا وَرُكُوبًا، وَحَمُولَةً، وَحَلْبًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٢) ﴿وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ الْآيَةَ [الزُّمَرِ: ٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ﴾ رَدٌ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنْ يَقِينٍ: كَيْفَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ (٣) مَا زَعَمْتُمْ تَحْرِيمَهُ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟
وَقَالَ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَزْوَاجٍ، ﴿وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ﴾ يَقُولُ: لَمْ أُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ﴿ [أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ] ﴾
(١) في أ: "وبين".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في م، أ: "عليهم".
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٣:وهذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام فيما كانوا حَرّموا من الأنعام، وجعلوها أجزاءً وأنواعًا : بحيرة، وسائبة، ووصيلة وحامًا، وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار، فبين١ أنه تعالى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشا. ثم بين أصناف الأنعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن، وسواد وهو المعز، ذكره وأنثاه، وإلى إبل ذكورها وإناثها، وبقر كذلك. وأنه تعالى لم يحرم شيئًا من ذلك ولا شيئًا من أولاده. بل كلها مخلوقة لبني آدم، أكلا وركوبًا، وحمولة، وحلبا، وغير ذلك من وجوه المنافع، كما قال [ تعالى ]٢ ﴿ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ الآية [ الزمر : ٦ ].
وقوله :﴿ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ ﴾ رَدٌ عليهم في قولهم :﴿ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ﴾
وقوله :﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي : أخبروني عن يقين : كيف حرم الله عليكم٣ ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ؟
وقال العَوْفي عن ابن عباس قوله :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ فهذه أربعة أزواج، ﴿ وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ ﴾ يقول : لم أحرم شيئًا من ذلك ﴿ [ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ ] ﴾
يعني : هل يشمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى فلم تحرمون بعضا وتحلون بعضا ؟ ]٤ ﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يقول : كله حلال.
وقوله :﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا ﴾ تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله، من تحريم ما حرموه من ذلك، ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي : لا أحد أظلم منه، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
وأول من دخل في هذه الآية : عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة، فإنه أول من غير دين الأنبياء، وأول من سيب السوائب، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح٥.
١ في أ: "وبين"..
٢ زيادة من أ..
٣ في م، أ: "عليهم"..
٤ زيادة من أ..
٥ سبق ذكر الحديث عند الآية: ١٠٣ من سورة المائدة وتخريجه هناك..

يَعْنِي: هَلْ يَشْمَلُ الرَّحِمُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى فَلِمَ تُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَتُحِلُّونَ بَعْضًا؟] (١) ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يَقُولُ: كُلُّهُ حَلَالٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا﴾ تَهَكُّمٌ بِهِمْ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ عَلَى اللَّهِ، مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ مِنْ ذَلِكَ، ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
وَأَوَّلُ مَنْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: عَمْرُو بْنُ لُحَيّ بْنِ قَمَعَة، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ (٢).
﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ: ﴿لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ أَيْ: آكُلٍ يَأْكُلُهُ. قِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا أَجِدُ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمْتُمْ حَرَامًا سِوَى هَذِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا أَجِدُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ شَيْئًا (٣) حَرَامًا سِوَى هَذِهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا وَرَدَ مِنَ التَّحْرِيمَاتِ بَعْدَ هَذَا فِي سُورَةِ "الْمَائِدَةِ"، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، رَافِعًا لِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي ذَلِكَ نَسْخًا، وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُسَمُّونَهُ نَسْخًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ رَفْعِ مُبَاحِ الْأَصْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ يَعْنِي: الْمِهْرَاقَ.
قَالَ عِكْرِمة فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي العُرُوق، كَمَا تَتَبَّعَهُ الْيَهُودُ.
وَقَالَ حَمَّادٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَير قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا مِجْلَز عَنِ الدَّمِ، وَمَا يَتَلَطَّخُ مِنَ الذَّبْحِ مِنَ الرَّأْسِ، وَعَنِ القِدْر يُرَى فِيهَا الْحُمْرَةُ، فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: حُرِّمَ مِنَ الدِّمَاءِ مَا كَانَ مَسْفُوحًا، فَأَمَّا لَحْمٌ خَالَطَهُ دَمٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهال، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَى بِلُحُومِ السِّبَاعِ بَأْسًا، وَالْحُمْرَةِ وَالدَّمِ يَكُونَانِ عَلَى (٤) الْقِدْرِ بَأْسًا، وَقَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ. صَحِيحٌ غَرِيبٌ (٥).
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إنهم يزعمون
(١) زيادة من أ.
(٢) سبق ذكر الحديث عند الآية: ١٠٣ من سورة المائدة وتخريجه هناك.
(٣) في م: "شيئا من الحيوانات".
(٤) في م، أ: "يكون في أعلى".
(٥) تفسير الطبري (١٢/١٩٤)
352
أن رسول الله ﷺ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرٍ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ "الحَكَمُ بنُ عَمْرو" عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْحَبْرُ -يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ -وَقَرَأَ: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ الْآيَةَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، بِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مَعَ أَنَّهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، كَمَا رَأَيْتَ (١).
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيم، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيم الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْن، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا، فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا] ﴾ (٢) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ مَرْدُوَيه. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُنْفَرِدًا بِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ (٣).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، عَنْ سِمَاك بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لسَوْدَة بِنْتِ زَمْعَة، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَتْ فُلَانَةٌ -تَعْنِي الشَّاةَ -قَالَ: "فَلِمَ لَا (٤) أَخَذْتُمْ مَسْكها؟ ". قَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْك شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟! فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ﴾ وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ، أَنْ تَدْبِغُوهُ فَتَنْتَفِعُوا بِهِ". فَأَرْسَلَتْ فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ، فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً، حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا (٥).
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، بِذَلِكَ أَوْ نَحْوِهِ (٦).
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ نُميلَة الْفَزَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ] ﴾ (٧) الْآيَةَ، فقال شيخ عنده: سمعت
(١) مسند الحميدي (٢/٣٧٩) ورواه البخاري في صحيحه برقم (٥٥٢٩) لكنه من مسند جابر بن زيد رضي الله عنه، ورواه أبو داود في السنن برقم (٣٨٠٨) من طريق عمرو بن دينار، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عنه، ولا عتب على الحاكم، فإنه رواه في مستدركه (٢/٣١٧) من طريق عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله من مسنده، ثم إنه حدد مقصوده بقوله: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرجاه بهذه السياقة"
(٢) زيادة من م.
(٣) المستدرك (٤/١١٥) وسنن أبي داود برقم (٣٨٠٠).
(٤) في م: "فلولا".
(٥) المسند (١/٣٢٧).
(٦) صحيح البخاري برقم (٦٦٨٦) وسنن النسائي (٧/١٧٣).
(٧) زيادة من أ.
353
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "خَبِيثٌ مِنَ الْخَبَائِثِ". فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، بِهِ (١).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ﴾ أَيْ: فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِمَّا حُرّم فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَلَبِّسٍ بِبَغْيٍ وَلَا عُدْوَانٍ، ﴿فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أَيْ: غَفُورٌ لَهُ، رَحِيمٌ بِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا مَا ابْتَدَعُوهُ، مِنْ تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ مِنَ البَحِيرة وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ [اللَّهُ] (٢) رَسُولَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِيمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا حُرِّم مَا ذُكِرَ فِي [هَذِهِ] (٣) الْآيَةِ، مِنَ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَمْ يُحَرَّمْ، وَإِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَزْعُمُونَ [أَنْتُمْ] (٤) أَنَّهُ حَرَامٌ، وَمِنْ أَيْنَ حَرَّمْتُمُوهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ [اللَّهُ] (٥) ؟ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَبْقَى تَحْرِيمُ أَشْيَاءَ أُخَرَ فِيمَا بَعْدَ هَذَا، كَمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَلُحُومِ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ (٦) الْعُلَمَاءِ.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (١٤٦) ﴾
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ تَعَالَى: وَحَرَّمْنَا عَلَى الْيَهُودِ ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ وَهُوَ الْبَهَائِمُ وَالطَّيْرُ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْقُوقَ الْأَصَابِعِ، كَالْإِبِلِ وَالنَّعَامِ (٧) وَالْأَوِزِّ وَالْبَطِّ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ وَهُوَ الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، والسُّدِّي فِي رِوَايَةٍ (٨).
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِمُنْفَرِجِ الْأَصَابِعِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: كُلُّ شَيْءٍ مُتَفَرِّقُ الْأَصَابِعِ، وَمِنْهُ الدِّيكُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ وَكَانَ يُقَالُ: الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ وَأَشْيَاءُ مِنَ الطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ: الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّيْرِ: الْبَطُّ وَشِبْهُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ بِمَشْقُوقِ الْأَصَابِعِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ قَالَ: النَّعَامَةُ وَالْبَعِيرُ، شَقًّا شَقًّا. قُلْتُ لِلْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّة وَحَدَّثَنِيهِ: مَا "شَقًّا شَقًّا"؟ قَالَ: كُلُّ مَا لَا يُفْرَجُ (٩) مِنْ قَوْلِ البهائم. قال: وما انفرج أكلته
(١) سنن أبي داود برقم (٣٧٩٩).
(٢) زيادة من م.
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) زيادة من م، أ.
(٦) في أ: "مذهب".
(٧) في م: "والأنعام".
(٨) في م، أ: "في رواية والسدى".
(٩) في م: "ما لم ينفرج".
354
الْيَهُودُ قَالَ: انْفَرَجَتْ قَوَائِمُ الْبَهَائِمِ وَالْعَصَافِيرِ، قَالَ: فَيَهُودُ تَأْكُلُهَا. قَالَ: وَلَمْ تَنْفَرِجْ قَائِمَةُ الْبَعِيرِ، خُفُّهُ، وَلَا خُفُّ النَّعَامَةِ وَلَا قَائِمَةُ الْوَزِّ، فَلَا تَأْكُلُ الْيَهُودُ الْإِبِلَ وَلَا النَّعَامَ وَلَا الْوَزَّ، وَلَا كُلَّ شَيْءٍ لَمْ تَنْفَرِجْ قَائِمَتُهُ، وَلَا تَأْكُلُ حِمَارَ وَحْش.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ قَالَ السُّدِّي: [يَعْنِي] (١) الثَرْب وَشَحْمَ الْكُلْيَتَيْنِ. وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ (٢) : إِنَّهُ حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ فَنَحْنُ نُحَرِّمُهُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الثَّرْبُ وَكُلُّ شَحْمٍ (٣) كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ فِي عَظْمٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ يَعْنِي: مَا عَلِق بِالظَّهْرِ مِنَ الشُّحُومِ.
وَقَالَ السُّدِّي وَأَبُو صَالِحٍ: الْأَلْيَةُ، مِمَّا (٤) حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوِ الْحَوَايَا﴾ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: ﴿الْحَوَايَا﴾ جَمْعٌ، وَاحِدُهَا حَاوِيَاءُ، وَحَاوِيَةٌ وحَوِيَّة وَهُوَ مَا تَحَوي (٥) مِنَ الْبَطْنِ فَاجْتَمَعَ وَاسْتَدَارَ، وَهِيَ بَنَاتُ اللَّبَنِ، وَهِيَ "الْمَبَاعِرُ"، وَتُسَمَّى "الْمَرَابِضَ"، وَفِيهَا الْأَمْعَاءُ.
قَالَ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا، إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا، أَوْ مَا حَمَلَتِ الْحَوَايَا (٦).
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَوِ الْحَوَايَا﴾ وَهِيَ الْمَبْعَرُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿الْحَوَايَا﴾ الْمَبْعَرُ، وَالْمَرْبِضُ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو مَالِكٍ، والسُّدِّي.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿الْحَوَايَا﴾ الْمَرَابِضُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْأَمْعَاءُ، تَكُونُ وَسَطَهَا، وَهِيَ بَنَاتُ اللَّبَنِ، وَهِيَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تُدْعَى الْمَرَابِضَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ أَيْ: وَإِلَّا مَا اخْتَلَطَ مِنَ الشُّحُومِ بِالْعِظَامِ فَقَدْ أَحْلَلْنَاهُ لَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: شَحْمُ الْأَلْيَةِ اخْتَلَطَ بالعُصْعُص، فَهُوَ حَلَالٌ. وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقَوَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَنَحْوَهُ قَالَ (٧) السُّدِّي.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾ أَيْ: هَذَا التَّضْيِيقُ إِنَّمَا فَعَلْنَاهُ بِهِمْ وَأَلْزَمْنَاهُمْ (٨) بِهِ، مُجَازَاةً لَهُمْ عَلَى بَغْيِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ أَوَامِرَنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [النساء: ١٦٠].
(١) زيادة من م، أ.
(٢) في م، أ: "يقولون".
(٣) في أ: "شيء".
(٤) في د، م: "ما".
(٥) في م: "ما يحوى".
(٦) تفسير الطبري (١٢/٢٠٣).
(٧) في أ: "قاله".
(٨) في أ: "وألزمناه".
355
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ أَيْ: وَإِنَّا لَعَادِلُونَ فِيمَا جَزَيْنَاهُمْ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَحْرِيمِنَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، لَا كَمَا زَعَمُوا مِنْ أَنَّ إِسْرَائِيلَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ سَمُرَة بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ! أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا".
أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، بِهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول عَامَ الْفَتْحِ: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرّم بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ ويُطلى بِهَا السُّفُنُ، ويَسْتَصبِح بِهَا النَّاسُ. فَقَالَ: "لَا هُوَ حَرَامٌ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلوه، ثُمَّ بَاعُوهُ وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ".
رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، بِهِ (١).
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ (٢) ! حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا (٣) وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا، عَنْ عَبْدَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (٤).
وَقَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْب، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الحَذَّاء، عَنْ بَرَكَةَ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَاعِدًا خَلْفَ الْمَقَامِ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ -ثَلَاثًا -إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ، فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا ثَمَنَهَا، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ إِلَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ" (٥).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، أَنْبَأَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ بَرَكَةَ أَبِي الْوَلِيدِ، أَنْبَأَنَا ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَقْبِلًا الحِجْر، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَضَحِكَ، ثم
(١) صحيح البخاري برقم (٢٢٣٦) وصحيح مسلم برقم (١٥٨١). وسنن أبي داود برقم (٣٤٨٦) وسنن الترمذي برقم (١٢٩٧) وسنن النسائي (٧/٣٠٩) وسنن ابن ماجة برقم (٢١٦٧).
(٢) في م: "يهود".
(٣) في م، أ: "فباعوه".
(٤) في أ: "رواه".
(٥) صحيح البخاري برقم (٢٢٢٤) وصحيح مسلم برقم (١٥٨٣).
356
قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ (١).
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّاد، عَنْ كُلْثُومٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: دَخَلْنَا على رسول الله ﷺ وَهُوَ مَرِيضٌ نَعُودُهُ، فَوَجَدْنَاهُ نَائِمًا قَدْ غَطَّى وَجْهَهُ بِبُرْدٍ عَدني، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ (٢) : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ يُحَرِّمُونَ شُحُومَ الْغَنَمِ وَيَأْكُلُونَ أَثْمَانَهَا"، وَفِي رِوَايَةٍ: "حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وأكلوا أثمانها" (٣).
(١) ورواه ابن عبد البر في التمهيد (٩/٤٤) من طريق هشيم، عن خالد الحذاء به.
(٢) في أ: "فقال".
(٣) المسند (١/٢٤٧) وسنن أبي داود برقم (٣٤٨٨).
357
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: فَإِنْ كَذَّبَكَ (١) -يَا مُحَمَّدُ -مُخَالِفُوكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ، فَقُلْ: ﴿رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ وَهَذَا تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي ابْتِغَاءِ رَحْمَةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ، ﴿وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ تَرْهِيبٌ لَهُمْ مِنْ (٢) مُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ. وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الْآيَةَ: ١٦٥]، وَقَالَ ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الرَّعْدِ: ٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ﴾ [الحجر: ٤٩، ٥٠]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ [غَافِرَ: ٣]، وَقَالَ [تَعَالَى] (٣) :﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [الْبُرُوجِ: ١٢ -١٤]، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) ﴾
هَذِهِ مُنَاظَرَةٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَشُبْهَةٌ تَشَبَّثَتْ بِهَا الْمُشْرِكُونَ فِي شِرْكِهِمْ وَتَحْرِيمِ ما حرموا؛ فإن الله
(١) في م، أ: "كذبوك".
(٢) في م: "في".
(٣) زيادة من أ.
357
مُطَّلِعٌ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّحْرِيمِ لِمَا حَرَّمُوهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَغْيِيرِهِ بِأَنْ يُلْهِمَنَا الْإِيمَانَ، أَوْ يَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكُفْرِ، فَلَمْ يُغَيِّرْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَرِضَاهُ مِنَّا ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ كَمَا فِي قَوْلِهِ [تَعَالَى] (١) :﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ] ﴾ (٢) [الزُّخْرُفِ: ٢٠]، وَكَذَلِكَ (٣) الَّتِي فِي "النَّحْلِ" مِثْلُ هَذِهِ سَوَاءٌ (٤) قَالَ (٥) اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ: بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ قَبْلَ هَؤُلَاءِ. وَهِيَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمَا أَذَاقَهُمُ اللَّهُ بَأْسَهُ، وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ، وَأَدَالَ عَلَيْهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، وَأَذَاقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَلِيمِ الِانْتِقَامِ.
﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ﴾ أَيْ: بِأَنَّ اللَّهَ [تَعَالَى] (٦) رَاضٍ عَنْكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ ﴿فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ أَيْ: فَتُظْهِرُوهُ لَنَا وَتُبَيِّنُوهُ وَتُبْرِزُوهُ، ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ﴾ أَيِ: الْوَهْمَ وَالْخَيَالَ. وَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ هَاهُنَا: الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ. ﴿وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ﴾ أَيْ: تَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا ادَّعَيْتُمُوهُ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (٧) :﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ وَقَالَ ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ثُمَّ قَالَ ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٠٧]، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: عِبَادَتُنَا الْآلِهَةَ تُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّهَا لَا تُقَرِّبُهُمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ (٨)، يَقُولُ تَعَالَى: لَوْ شِئْتُ لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى الْهُدَى أَجْمَعِينَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ يَقُولُ [تَعَالَى] (٩) لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ -يَا مُحَمَّدُ: ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ أَيْ: لَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ، وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فِي هِدَايَةِ مَنْ هَدى، وَإِضْلَالِ مَنْ أَضَلَّ، ﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وَكُلُّ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْضَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ويُبْغض الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ [الْأَنْعَامِ: ٣٥]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ [كُلُّهُمْ جَمِيعًا] ﴾ (١٠) [يُونُسَ: ٩٩]، وَقَوْلُهُ (١١) ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هُودٍ: ١١٨، ١١٩].
قَالَ الضَّحَّاكُ: لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَصَى اللَّهَ، وَلَكِنْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى عِبَادِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ﴾ أَيْ: أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ ﴿الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا﴾ أَيْ: هَذَا الَّذِي حَرَّمْتُمُوهُ وَكَذَبْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ عَلَى اللَّهِ فِيهِ، ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ أَيْ: لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَشْهَدُونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَذِبًا وَزُورًا، ﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾
(١) زيادة من م، أ.
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) في أ: "وكذا".
(٤) الآية: ٣٥ وهي قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عبدنا من دونه من شيء).
(٥) في م: "وقال".
(٦) زيادة من م.
(٧) زيادة من أ.
(٨) في أ: "أشركنا" وهو خطأ، والصواب: "أشركوا" الآية: ١٠٧ من سورة الأنعام.
(٩) زيادة من م.
(١٠) زيادة من م، أ.
(١١) في م: "وقال تعالى".
358
هذه مناظرة ذكرها الله تعالى وشبهة تشبثت بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا ؛ فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان، أو يحول بيننا وبين الكفر، فلم يغيره، فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا ذلك ؛ ولهذا قال :﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ﴾ كما في قوله [ تعالى ]١ :﴿ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ] ﴾٢ [ الزخرف : ٢٠ ]، وكذلك٣ التي في " النحل " مثل هذه سواء٤ قال٥ الله تعالى :﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ أي : بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء. وهي حجة داحضة باطلة ؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه، ودمر عليهم، وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام.
﴿ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ ﴾ أي : بأن الله[ تعالى ]٦ راض عنكم فيما أنتم فيه ﴿ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ﴾ أي : فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه، ﴿ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ ﴾ أي : الوهم والخيال. والمراد بالظن هاهنا : الاعتقاد الفاسد. ﴿ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ﴾ أي : تكذبون على الله فيما ادعيتموه.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]٧ :﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ﴾ وقال ﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ ثُمَّ قَالَ ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ]، فإنهم قالوا : عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زُلْفَى فأخبرهم الله أنها لا تقربهم، وقوله :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ﴾٨، يقول تعالى : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.
١ زيادة من م، أ..
٢ زيادة من م، أ..
٣ في أ: "وكذا"..
٤ الآية: ٣٥ وهي قوله تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء)..
٥ في م: "وقال"..
٦ زيادة من م..
٧ زيادة من أ..
٨ في أ: "أشركنا" وهو خطأ، والصواب: "أشركوا" الآية: ١٠٧ من سورة الأنعام..
وقوله تعالى :﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ يقول [ تعالى ]١ لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قُلْ ﴾ لهم - يا محمد :﴿ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ﴾ أي : له الحكمة التامة، والحجة البالغة في هداية من هَدى، وإضلال من أضل، ﴿ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ وكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويُبْغض الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ [ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ] ﴾٢ [ يونس : ٩٩ ]، وقوله٣ ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ هود : ١١٨، ١١٩ ].
قال الضحاك : لا حجة لأحد عصى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده.
١ زيادة من م..
٢ زيادة من م، أ..
٣ في م: "وقال تعالى".
.

وقوله تعالى :﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ ﴾ أي : أحضروا شهداءكم ﴿ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ﴾ أي : هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه، ﴿ فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾ أي : لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبًا وزورًا، ﴿ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ أي : يشركون به، ويجعلون له عديلا.
أَيْ: يُشْرِكُونَ بِهِ، وَيَجْعَلُونَ لَهُ عَدِيلًا.
﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) ﴾
قَالَ دَاوُدُ الأوْدِي، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ علَقْمَة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ صَحِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُهُ، فَلْيَقْرَأْ هَؤُلَاءِ (١) الْآيَاتِ: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيُّ بِمَرْوٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهدي، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: فِي (٢) الْأَنْعَامِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا] ﴾ (٣).
ثُمَّ قَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ (٤).
قُلْتُ: وَرَوَاهُ زُهَيْر وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ. وَاللَّهُ (٥) أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ أَيْضًا فِي مُسْتَدْرَكِهِ (٦) مِنْ حَدِيثِ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى ثَلَاثٍ؟ " -ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَاتِ -فَمَنْ وَفَّى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَدْرَكَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ (٧) وَمَنْ أُخِّرَ إِلَى الْآخِرَةِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ".
ثُمَّ قَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَإِنَّمَا اتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَادَةَ: "بَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا" الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَين كِلَا الْحَدِيثَيْنِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْوَهْمِ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (٨).
وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا فَيَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ -لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ [أَشْرَكُوا و] (٩) عبدوا غَيْرَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلُوهُ بِآرَائِهِمْ وَتَسْوِيلِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ ﴿تَعَالَوْا﴾ أَيْ: هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: أَقُصُّ عَلَيْكُمْ وَأُخْبِرُكُمْ بِمَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا لَا تَخَرُّصًا، وَلَا ظَنًّا، بَلْ وَحْيًا مِنْهُ وأمرًا من عنده:
(١) في م: "هذه".
(٢) في م، أ: "إن في".
(٣) زيادة من أ.
(٤) المستدرك (٢/٣١٧).
(٥) في م، أ: "فالله".
(٦) في أ: "في مسنده" وهو خطأ.
(٧) في م: "عقوبة".
(٨) المستدرك (٢/٣١٨). أما الحديث الذي اتفق عليه الشيخان من حديث الزهري، فرواه البخاري في صحيحه برقم (١٨) ومسلم في صحيحه برقم (١٧٠٩).
(٩) زيادة من أ.
359
﴿أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ وَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَأَوْصَاكُمْ (١) ﴿أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
حَجَّ وأوصَى بسُلَيمى الأعْبُدَا... أنْ لَا تَرَى وَلَا تُكَلِّم أحَدا...
وَلَا يَزَلْ شَرَابُها مُبَرَّدا (٢).
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: أَمَرْتُكَ أَلَّا تَقُومَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِكَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ": وَفِي بَعْضِ (٣) الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْقَائِلَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ أَبُو ذَرٍّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ، عَلَيْهِ (٤) السَّلَامُ، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "وَإِنْ رَغِمَ أنفُ أَبِي ذَرٍّ" (٥) فَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَدِيثِ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ.
وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٦) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي فَإِنِّي أَغْفِرُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، وَلَوْ أَتَيْتَنِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً أَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً مَا لَمْ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، وَإِنْ أَخْطَأْتَ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكَ عَنَان السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ" (٧).
وَلِهَذَا شَاهِدٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (٨) :﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النِّسَاءِ: ٤٨، ١١٦].
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ" (٩) وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: "لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وإن قُطِّعتم أو صُلِّبتم أو حُرِّقتم" (١٠).
(١) في د، أ: "ووصاكم"، وفي م: "أوصاكم".
(٢) الرجز في تفسير الطبري (١٢/٢١٦).
(٣) في م: "قلت: وفي بعض".
(٤) في أ: "وأنه عليه الصلاة والسلام".
(٥) صحيح البخاري برقم (١٢٣٧) وصحيح مسلم برقم (٩٤).
(٦) زيادة من أ.
(٧) رواه أحمد في مسنده (٥/١٥٤) والترمذي في السنن برقم (٢٤٩٥) وابن ماجة في السنن برقم (٤٢٥٧) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
(٨) في أ: "عز وجل".
(٩) صحيح مسلم برقم (٩٢).
(١٠) أما حديث أبي الدرداء، فرواه الطبراني في المعجم الكبير كما في معجم الزوائد (٤/٢١٦) من طريق شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أبي الدرداء به.
قال الهيثمي: "فيه شهر بن حوشب وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات". وأما حديث عبادة فهو الآتي.
360
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْف الحِمْصي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنِي سَيَّارُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ قَوْذر، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ شُرَيح، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: أَوْصَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعِ خِصَالٍ: "أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَإِنْ حُرِّقْتُمْ وَقُطِّعْتُمْ وَصُلِّبْتُمْ" (١).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أَيْ: وَأَوْصَاكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، أَيْ: أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٢٣].
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "وَوَصَّى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا".
وَاللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، كَمَا قَالَ: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لُقْمَانَ: ١٤، ١٥]. فَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ بِحَسْبِهِمَا، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ الْآيَةَ. [الْبَقَرَةِ: ٨٣]. وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ (٢) لَزَادَنِي (٣).
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَطِعْ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ لَهُمَا مِنَ الدُّنْيَا، فَافْعَلْ" (٤).
وَلَكِنْ فِي إِسْنَادَيْهِمَا ضَعْفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ لَمَّا أَوْصَى (٥) تَعَالَى بِبَرِّ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْسَانَ إِلَى الْأَبْنَاءِ وَالْأَحْفَادِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ﴾ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ كَمَا سَوَّلت لَهُمُ الشَّيَاطِينُ ذَلِكَ، فَكَانُوا يَئِدُونَ الْبَنَاتَ خَشْيَة الْعَارِ، وَرُبَّمَا قَتَلُوا بَعْضَ الذُّكُورِ خيفةَ الِافْتِقَارِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حديث عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لله ندا وهو خلَقَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَم مَعَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قال: "أن تُزَاني حَلِيلَةَ جَارِكَ". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا] ﴾ (٦) [الفرقان: ٦٨]. (٧)
(١) ورواه الطبراني في المعجم الكبير كما في الزوائد (٤/٢١٦) وقال الهيثمي:"فيه سلمة بن شريح قال الذهبي: لا يعرف، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(٢) في أ: "استزدت".
(٣) صحيح البخاري برقم (٥٩٧٠) وصحيح مسلم برقم (٨٥).
(٤) سبق تخريجهما من رواية الطبراني في المعجم الكبير.
(٥) في د، م: "وصى".
(٦) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٧) صحيح البخاري برقم (٤٤٧٧) وصحيح مسلم برقم (٦٨).
361
وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ إِمْلاقٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي: هُوَ الْفَقْرُ، أَيْ: وَلَا تَقْتُلُوهُمْ مِنْ فَقْرِكُمُ الْحَاصِلِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ "سُبْحَانَ": ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٣١]، أَيْ: خَشْيَةَ (١) حُصُولِ فَقْرٍ، فِي الْآجِلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ هُنَاكَ: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ فَبَدَأَ بِرِزْقِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ، أَيْ: لَا تَخَافُوا مِنْ فَقْرِكُمْ بِسَبَبِهِمْ، فَرِزْقُهُمْ عَلَى اللَّهِ. وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمَّا كَانَ الْفَقْرُ حَاصِلًا قَالَ: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ ؛ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ هَاهُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٣٣]. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٢].
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا أحد أغْيَر من اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّم الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَر مِنْهَا وَمَا بَطنَ" (٢).
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْر، عَنْ وَرّاد، عَنْ مَوْلَاهُ الْمُغَيَّرَةِ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَح. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ! فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرّم الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن". أَخْرَجَاهُ (٣).
وَقَالَ كَامِلٌ أَبُو الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا (٤). نَغَارُ. قَالَ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَأَغَارُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ غَيْرَتِهِ نَهَى عَنِ الْفَوَاحِشِ" (٥).
رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ التِّرْمِذِيِّ، فَقَدْ رُوِيَ بِهَذَا السَّنَدِ: "أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ" (٦).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ﴾ وَهَذَا مِمَّا نَصَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ تَأْكِيدًا، وَإِلَّا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (٧).
(١) في م: "خيفة" وفي أ: "ضيقة".
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٦٣٤) وصحيح مسلم برقم (٢٧٦٠).
(٣) صحيح البخاري برقم (٦٨٤٦) وصحيح مسلم برقم (١٤٩٩).
(٤) في م: "أما".
(٥) ورواه أحمد في مسنده (٢/٣٢٦) من طريق كامل به، قال الهيثمي في المجمع (٤/٣٢٨) :"فيه كامل أبو العلاء، وفيه كلام لا يضر وهو ثقة، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(٦) سنن الترمذي برقم (٢٣٣١) وقال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هريرة".
(٧) صحيح البخاري برقم (٦٨٧٨) وصحيح مسلم برقم (١٦٧٦).
362
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ (١) وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ... " وَذَكَرَهُ، قَالَ الْأَعْمَشُ: فَحَدَّثْتُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَنِي عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] (٢)، بِمِثْلِهِ (٣).
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زانٍ مُحْصَن يُرْجَم، وَرَجُلٍ قَتَلَ رَجُلا مُتَعمِّدا فَيُقْتَلُ، وَرَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ". وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ (٤).
وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ مَحْصُورٌ: سمعت رسول الله ﷺ يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٍ كَفَر بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوْ زَنَا بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ". فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا تَمَنَّيْتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا مِنْهُ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي اللَّهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبِمَ تَقْتُلُونَنِي. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ (٥).
وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ وَالزَّجْرُ وَالْوَعِيدُ فِي قَتْلِ المعاهدَ -وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ -كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "من قتل مُعاهِدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ (٦) مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا" (٧).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ قَتْلَ معاهَدًا لَهُ ذِمَّة اللَّهِ وذمَّة رَسُولِهِ، فَقَدَ أَخَفَرَ بِذِمَّةِ اللَّهِ، فَلَا يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَريفًا".
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (٨).
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أَيْ: هَذَا مَا (٩) وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ عَنْهُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ.
(١) في م: "مسلم".
(٢) زيادة من أ.
(٣) صحيح مسلم برقم (١٦٧٦).
(٤) سنن أبي داود برقم (٤٣٥٣) وسنن النسائي (٧/١٠١).
(٥) المسند (١/٦٣) وسنن الترمذي برقم (٢١٥٨) وسنن النسائي (٧/٩٢) وسنن ابن ماجة برقم (٢٥٣٣).
(٦) في د، م، أ: "يوجد".
(٧) صحيح البخاري برقم (٣١٦٦).
(٨) سنن ابن ماجة برقم (٢٦٨٧) وسنن الترمذي برقم (١٤٠٣).
(٩) في أ: "مما".
363
﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) ﴾
قَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وَ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الْآيَةَ [النِّسَاءِ: ١٠]، فَانْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يُفْضِلُ الشَّيْءَ فَيُحْبَسُ لَهُ حتى يأكله
363
وَيَفْسُدُ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (١) :﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٠]، قَالَ: فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ، وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: يَعْنِي: حَتَّى يَحْتَلِمَ.
وَقَالَ السُّدِّي: حَتَّى يَبْلُغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً. قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ بَعِيدٌ هَاهُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ يَأْمُرُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، كَمَا تَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الْمُطَفِّفِينَ: ١ -٦]. وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ كَانُوا يَبْخَسُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ.
وَفِي كِتَابِ الْجَامِعِ لِأَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ، مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ أَبِي عَلِيٍّ الرّحَبي، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ: "إِنَّكُمْ وُلّيتم أَمْرًا هَلَكَتْ فِيهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ قَبْلَكُمْ". ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الحُسين، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا (٢).
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه فِي تَفْسِيرِهِ، مِنْ حَدِيثِ شَرِيك، عَنِ الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ مَعْشَر الْمَوَالِي قَدْ بَشَّرَكم اللَّهُ بِخَصْلَتَيْنِ بِهَا هَلَكَتِ الْقُرُونُ الْمُتَقَدِّمَةُ: الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ" (٣).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا نُكَلِّفُ (٤) نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ أَيْ: مَنِ اجْتَهَدَ فِي أَدَاءِ الْحَقِّ وَأَخْذِهِ، فَإِنْ أَخْطَأَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ وَبَذْلِ جُهْدِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّة، عَنْ مُبَشر (٥) بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مهْران، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسَيَّب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ فَقَالَ: "مِنْ أَوْفَى عَلَى يَدِهِ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ صِحَّةَ نِيَّتِهِ بِالْوَفَاءِ فِيهِمَا، لَمْ يُؤَاخَذْ". وَذَلِكَ تَأْوِيلُ ﴿وُسْعَهَا﴾ هَذَا مرسل غريب (٦).
(١) زيادة من أ.
(٢) سنن الترمذي برقم (١٢١٧) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٥٢٨٨) وابن عدي في الكامل (٢/٣٥٢) من طريق الحسين بن قيس أبي علي الرحبي به.
(٣) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٣٨٥).
(٤) في أ: "لا يكلف الله".
(٥) في أ: "ميسر".
(٦) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٣٨٤) ولم يعزه لأحد غيره، وفي إسناده مبشر بن عبيد الحمصي. قال أحمد: كان يضع الحديث، وقال البخاري: روى عنه بقية، منكر الحديث.
364
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ] ﴾ (١) [الْمَائِدَةِ: ٨]، وَكَذَا الَّتِي تُشْبِهُهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [الْآيَةِ: ١٣٥]، يَأْمُرُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ فِي الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ، عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ لِكُلِّ أَحَدٍ، فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ حَالٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ وَبِوَصِيَّة اللَّهِ الَّتِي أَوْصَاكُمْ بِهَا فَأَوْفُوا. وَإِيفَاءُ ذَلِكَ: أَنْ تُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ، وَتَعْمَلُوا بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَفَاءُ بِعَهْدِ اللَّهِ.
﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا وَصَّاكُمْ بِهِ، وَأَمَرَكُمْ بِهِ، وَأَكَّدَ عَلَيْكُمْ فِيهِ ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ: تَتَّعِظُونَ وَتَنْتَهُونَ عَمَّا (٢) كُنْتُمْ فِيهِ قَبْلَ هَذَا، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِتَشْدِيدِ "الذَّالِ"، وَآخَرُونَ بِتَخْفِيفِهَا.
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ﴾
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ وَقَوْلُهُ ﴿أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشُّورَى: ١٣]، وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ (٣)، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا (٤) هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَحْوِ هَذَا. قَالَهُ (٥) مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ: شَاذَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ -هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ -عَنْ عَاصِمٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي النُّجُودِ -عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا سَبِيل اللَّهِ مُسْتَقِيمًا". وَخَطَّ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذِهِ السُّبُل لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ". ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾
وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، بِهِ. وَقَالَ: صَحِيحُ [الْإِسْنَادِ] (٦) وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ (٧).
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، وَوَرْقَاءُ وَعَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شقيق ابن سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِهِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ.
وَكَذَا رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ومُسدَّد وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ -وَابْنِ حِبَّان، من
(١) زيادة من م، أ.
(٢) في م: "وتنتبهون مما".
(٣) في أ: "والتفرقة".
(٤) في م: "لما".
(٥) في أ: "قال".
(٦) زيادة من م.
(٧) المسند (١/٤٦٥) والمستدرك (٢/٣١٨).
365
حَدِيثِ ابْنِ وَهْب -أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِهِ.
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْمُثَنَّى، عَنِ الحِمَّاني، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ كَذَلِكَ. وَقَالَ: صَحِيحٌ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ (١).
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، عن أبي بكر ابن عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. بِهِ مَرْفُوعًا (٢).
وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى الْحِمَّانِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، بِهِ.
فَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ كَمَا رَأَيْتَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرٍّ، وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْحَاكِمُ: وَشَاهِدُ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ، مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ مُعْتَمَدٍ (٣).
يُشِيرُ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ جَمِيعًا -وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد -وهو أبو بكر بن أَبِي شَيْبَةَ -أَنْبَأَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَطَّ خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ، فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ". وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّيْنِ عَنْ شِمَالِهِ، وَقَالَ: "هَذِهِ سَبِيلُ (٤) الشَّيْطَانِ". ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ السُّنَةِ مِنْ سُنَنِهِ، وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، بِهِ (٥).
قُلْتُ: وَرَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ طَرِيقَيْنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْكِنْدِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَسَارِهِ خَطًّا، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْخَطِّ الْأَوْسَطِ (٦) وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ (٧).
(١) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١١٧٤) وتفسير الطبري (١٢/٢٣٠) والمستدرك (٢/٣١٨).
(٢) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١١٧٥) والمستدرك (٢/٢٣٩).
(٣) المستدرك (٢/٣١٨).
(٤) في م، أ: "سبل".
(٥) المسند (٣/٣٩٧) وسنن ابن ماجة برقم (١١) وقال البوصيري في الزوائد (١/٤٥) :"هذا إسناد فيه مقال من أجل مجالد بن سعيد".
(٦) في د، م: "الأسود".
(٧) وفي إسناده مجالد بن سعيد فيه كلام.
366
وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ إِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ أبَان؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قَالَ: تَرَكَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ، وَطَرَفُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ يَمِينِهِ جَوَادّ، وَعَنْ يَسَارِهِ جَوَادّ، وَثَمَّ رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ. فَمَنْ أَخَذَ فِي تِلْكَ الْجَوَادِّ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمِنْ أَخَذَ عَلَى الصِّرَاطِ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ الْآيَةَ (١).
وَقَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا آدم، حدثنا إسماعيل ابن عَيَّاش، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَقَالَ [لَهُ] (٢) ابْنُ مَسْعُودٍ: تَرَكَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ، وَطَرَفُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سمْعان نَحْوُهُ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَوَّار أَبُو الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا لَيْث -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ -عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ؛ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْر بْنِ نُفَيْرٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِراطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَنْ جَنْبتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا (٣) النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ جَمِيعًا، وَلَا تَتَفَرَّجُوا (٤) وَدَاعٍ يَدْعُو مَنْ جَوْفِ (٥) الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ. لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ (٦) عَلِيِّ بْنِ حُجْر -زَادَ النَّسَائِيُّ -وَعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ بَقِيَّة بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ بَحير بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان، عَنْ جُبَير بْنِ نُفَيْرٍ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعان، بِهِ (٧). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ] ﴾ (٨) إِنَّمَا وَحَّدَ [سُبْحَانَهُ] (٩) سَبيله لِأَنَّ (١٠) الْحَقَّ وَاحِدٌ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ لِتَفَرُّقِهَا وَتَشَعُّبِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٧].
(١) تفسير الطبري (١٢/٢٣٠).
(٢) زيادة من م.
(٣) في د، م: "يأيها".
(٤) في د: "ولا تفرقوا"، وفي م، أ: "ولا تفرجوا".
(٥) في أ: "من فوق".
(٦) في أ: "من حديث".
(٧) المسند (٢/١٨٢) وسنن الترمذي برقم (٢٨٥٩) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٢٣٣).
(٨) زيادة من أ.
(٩) زيادة من م.
(١٠) في أ: "لأنه".
367
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَان الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا سفيان بن حسين، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى هَذِهِ (١) الْآيَاتِ الثَّلَاثِ؟ ". ثُمَّ تَلَا ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ حَتَّى فَرَغَ مِنْ ثَلَاثِ الْآيَاتِ، ثُمَّ قَالَ: "وَمَنْ وَفَّى بِهِنَّ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا أَدْرَكَهُ (٢) اللَّهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ أخَّرَه إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ" (٣).
﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) ﴾
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ قُلْ -يَا مُحَمَّدُ -مُخْبِرًا عَنَّا بِأَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾
قلت: وفي هذا نظر، وثُم هَاهُنَا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَرِ بَعْدَ الْخَبَرِ، لَا لِلتَّرْتِيبِ هَاهُنَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُم سَادَ أبوهُ ثُمّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلكَ جَده (٤)
وَهَاهُنَا لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ عَطَفَ بِمَدْحِ التَّوْرَاةِ وَرَسُولِهَا، فَقَالَ: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ (٥) بَيْنَ ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا﴾ [الْأَحْقَافِ: ١٢]، وَقَوْلُهُ [فِي] (٦) أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الْآيَةَ: ٩١]، وَبَعْدَهَا ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: ٩٢]، وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ [الْقَصَصِ: ٤٨]، وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ] ﴾ (٧) [الْأَحْقَافِ: ٣٠].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا﴾ أَيْ: آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِ تَمَامًا كَامِلًا جَامِعًا لِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي شَرِيعَتِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الآية [الأعراف: ١٤٥].
(١) في م: "هؤلاء".
(٢) في أ: "فأدركه".
(٣) ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٣١٨) من طريق يزيد بن هارون به.
(٤) لم أعرف قائله.
(٥) في أ: "الله تعالى".
(٦) زيادة من أ.
(٧) زيادة من م، أ، وفي هـ "الآية".
368
وَقَوْلُهُ: ﴿عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ أَيْ: جَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِ فِي الْعَمَلِ، وَقِيَامِهِ بِأَوَامِرِنَا وَطَاعَتِنَا، كَقَوْلِهِ: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٦٠]، وَكَقَوْلِهِ ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] ﴾ (١) [الْبَقَرَةِ: ١٢٤]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السَّجْدَةِ: ٢٤].
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ يَقُولُ: أَحْسَنَ فِيمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا تَمَّمَ لَهُ ذَلِكَ فِي الآخرة.
واختار ابن جرير أن تقديره الْكَلَامِ: ﴿ [ثُمَّ] آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا﴾ (٢) عَلَى إِحْسَانِهِ. فَكَأَنَّهُ جَعَلَ "الَّذِي" مَصْدَرِيَّةً، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التَّوْبَةِ: ٦٩] أَيْ: كَخَوْضِهِمْ وَقَالَ ابْنُ رَوَاحة:
فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتاكَ مِنْ حَسَنٍ فِي الْمَرْسَلِينَ وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا (٣)
وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي هَاهُنَا بِمَعْنَى "الَّذِينَ".
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "تَمَامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ قَالَ: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُحْسِنِينَ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالْمُحْسِنُونَ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، يَعْنِي: أَظْهَرْنَا فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ.
قُلْتُ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٤٤]، وَلَا يَلْزَمُ اصْطِفَاؤُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخَلِيلِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِأَدِلَّةٍ أُخَرَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَرَوَى أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَر أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا. ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ رَفْعًا، بِتَأْوِيلِ: "عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ"، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَجْهٌ صَحِيحٌ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تَمَامًا عَلَى إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى مَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْهِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، والبَغوي.
وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ جَمَعَ ابْنُ جَرِيرٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ فِيهِ مَدْحٌ لِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ﴿لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ فِيهِ الدَّعْوَةُ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَوَصْفِهِ بِالْبَرَكَةِ لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِهِ في الدنيا والآخرة.
(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (٢/٣٧٤).
369
﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ فيه الدعوة إلى اتباع القرآن ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة.
﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) ﴾
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ لِئَلَّا يَقُولُوا: ﴿إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾
يَعْنِي: لِيَنْقَطِعَ عُذْرُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا (١) رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ [وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ] ﴾ (٢) [الْقَصَصِ: ٤٧].
وَقَوْلُهُ: ﴿عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ أَيْ: وَمَا كُنَّا نَفْهَمُ مَا يَقُولُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِلِسَانِنَا، وَنَحْنُ مَعَ ذَلِكَ فِي شُغْلٍ وَغَفْلَةٍ عَمَّا هُمْ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ﴾ أَيْ: وَقَطَعْنَا تَعَلُّلكم أَنْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فِيمَا أُوتُوهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ [فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا] (٣) ﴾ [فَاطِرَ: ٤٢]، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ يَقُولُ: فَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ قُرْآنٌ عَظِيمٌ، فِيهِ بَيَانٌ لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُدًى لِمَا فِي الْقُلُوبِ، وَرَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ وَيَقْتَفُونَ مَا فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ أَيْ: لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَا اتَّبَعَ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَلَا تَرَكَ غَيْرَهُ، بَلْ صَدَفَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ، أَيْ: صَرَفَ النَّاسَ وَصَدَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ قَالَهُ السُّدِّيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ: ﴿وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ أَعْرَضَ عَنْهَا.
وَقَوْلُ السُّدِّيِّ هَاهُنَا فِيهِ قُوَّةٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ﴾ [الْآيَةَ: ٢٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النَّحْلِ: ٨٨]، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ﴾
وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ فِيمَا (٤) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ أَيْ: لَا آمَنُ بِهَا وَلَا عَمِلَ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [الْقِيَامَةِ: ٣٢، ٣١]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اشْتِمَالِ الْكَافِرِ عَلَى التَّكْذِيبِ بقلبه، وترك
(١) في أ: "لقالوا"
(٢) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٤) في م: "كما".
370
الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ أَقْوَى وَأَظْهَرُ، والله [تعالى] (١) أعلم.
(١) زيادة من م،.
371
وقوله :﴿ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ﴾ أي : وقطعنا تَعَلُّلكم أن تقولوا : لو أنا أنزل علينا ما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه، كقوله :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ [ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ]١ [ فاطر : ٤٢ ]، وهكذا قال هاهنا :﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ يقول : فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي قرآن عظيم، فيه بيان للحلال والحرام، وهدى لما في القلوب، ورحمة من الله بعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه.
وقوله :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ أي : لم ينتفع بما جاء به الرسول، ولا اتبع ما أرسل به، ولا ترك غيره، بل صدف عن اتباع آيات الله، أي : صرف الناس وصدهم عن ذلك قاله السدي.
وعن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة :﴿ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ أعرض عنها.
وقول السدي هاهنا فيه قوة ؛ لأنه قال :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ كما تقدم في أول السورة :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [ الآية : ٢٦ ]، وقال تعالى :﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ﴾ [ النحل : ٨٨ ]، وقال في هذه الآية الكريمة :﴿ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴾
وقد يكون المراد فيما٢ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ أي : لا آمن بها ولا عمل بها، كقوله تعالى :﴿ فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [ القيامة : ٣٢، ٣١ ]، ونحو ذلك من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه، وترك العمل بجوارحه، ولكن المعنى الأول أقوى وأظهر، والله [ تعالى ]٣ أعلم.
١ زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية"..
٢ في م: "كما"..
٣ زيادة من م،.
.

﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِلْكَافِرِينَ بِهِ، وَالْمُخَالِفِينَ رُسُلَهُ وَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ، وَالصَّادِّيْنَ عَنْ سَبِيلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ وَذَلِكَ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ] ﴾ (١) الْآيَةَ، وَذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَائِنٌ مِنْ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبها، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا. فَذَلِكَ حِينَ ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ هَمَّام بْنِ مُنَبِّه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا" ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
هَكَذَا رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ (٢) وَمِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ فِي كُتُبِهِمْ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ القَعْقَاع بْنِ شُبْرُمَة، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ (٣) عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِهِ (٤).
وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي: فَرَوَاهُ عَنْ إِسْحَاقَ، غَيْرَ مَنْسُوبٍ، فَقِيلَ: هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجُ، وَقِيلَ: إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ (٥) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ النَّيْسَابُورِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ (٦).
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَمَا انْفَرَدَ مسلم بروايته من حديث العلاء ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ مَوْلَى الْحُرَقَةِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِهِ (٧).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ طُلُوعُ الشَّمْسِ من مغربها، والدجال، ودابة الأرض".
(١) زيادة من م،.
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٦٣٥)، (٤٦٣٦).
(٣) في أ: "عن".
(٤) صحيح مسلم برقم (١٥٧) وسنن أبي داود برقم (٤٣١٢) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١١٧٧) وسنن ابن ماجة برقم (٤٠٦٨).
(٥) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (٨/٢٩٧) :"جزم خلف بأنه ابن نصر، وأبو مسعود بأنه ابن منصور، وقول خلف أقوى".
(٦) صحيح مسلم برقم (١٥٧).
(٧) صحيح مسلم برقم (١٥٧).
371
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيع، عَنْ فُضَيْل بْنِ غَزْوان، عَنْ أَبِي حَازِمٍ سَلْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ، وَعِنْدَهُ: "وَالدُّخَانُ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ وَكِيعٍ (١).
وَرَوَاهُ هُوَ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، بِهِ (٢).
وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الفَرَوي، عَنْ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّناد، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلَكِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لِضَعْفِ الفَرْوي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَذَلِكَ حِينَ ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ الْآيَةَ (٣).
وَرَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِهِ. وَرَوَاهُ وَكِيعٌ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِهِ.
أَخْرَجَ هَذِهِ الطُّرُقَ كلَّها الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، قُبِل مِنْهُ".
لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ (٤).
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ: فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ شَرِيكٍ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ جُنْدُب بْنِ جُنَادة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَدْري أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ؟ ". قُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: "إِنَّهَا تَنْتَهِي دُونَ الْعَرْشِ، ثُمَّ تَخِرُّ سَاجِدَةً، ثُمَّ تَقُومُ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْجِعِي (٥) فَيُوشِكُ يَا أَبَا ذَرٍّ أَنْ يُقَالَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، وَذَلِكَ حِينَ: ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ (٦).
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ حُذيفة بْنِ أَسِيدٍ أَبِي سَرِيحَةَ الْغِفَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ فُرَات، عَنْ أَبِي الطُّفَيْل، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غُرْفَةٍ، وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ السَّاعَةَ، فَقَالَ: "لَا تقوم الساعة
(١) تفسير الطبري (١٢/٢٦٥) والمسند (٢/٤٤٥) وصحيح مسلم برقم (١٥٨).
(٢) صحيح مسلم برقم (١٥٨) وسنن الترمذي برقم (٣٠٧٢).
(٣) تفسير الطبري (١٢/٢٥٥).
(٤) تفسير الطبري (١٢/٢٥٦) ورواه أحمد في مسنده (٢/٢٧٥) من طريق عبد الرزاق به.
(٥) في د: "ارفعي".
(٦) صحيح البخاري برقم (٤٨٠٣) وصحيح مسلم برقم (١٥٩).
372
حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلوع الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبها، والدُّخَان، وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَخُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسوف: خَسْف بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْر عَدَن تَسُوقُ -أَوْ: تَحْشُرُ -النَّاسَ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وتَقيل مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ (١) مِنْ حَدِيثِ فُرَاتٍ القَزَّاز، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعي، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ (٢) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا آيَةُ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَطُولُ تِلْكَ اللَّيْلَةُ حَتَّى تَكُونَ قَدْر لَيْلَتَيْنِ، فَبَيْنَمَا الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا، يَعْمَلُونَ (٣) كَمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَبْلَهَا وَالنُّجُومُ لَا تَسْرِي، قَدْ قَامَتْ مَكَانَهَا، ثُمَّ يَرْقُدُونَ، ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ، ثُمَّ يَرْقُدُونَ، ثُمَّ يَقُومُونَ فَيَطُلُّ عَلَيْهِمْ جُنُوبُهُمْ، حَتَّى يَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ، فَيَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يُصْبِحُونَ، فَبَيْنَمَا هُمْ (٤) يَنْتَظِرُونَ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَشْرِقِهَا إِذْ طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنُوا، وَلَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ".
رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه، وَلَيْسَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (٥) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -وَاسْمُهُ: سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَطِيَّةَ العَوْفي، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا﴾ قَالَ: "طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ. وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَرْفَعْهُ (٦).
وَفِي حَدِيثِ طَالُوتَ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ فَضَال بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيّ بْنِ عَجْلان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أن أوّلَ الْآيَاتِ طلوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا" (٧).
وَفِي حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُود، عَنْ زِرّ بْنِ حُبَيْش، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّال قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ فَتَحَ بَابًا قَبْلَ الْمَغْرِبِ عَرْضُهُ سَبْعُونَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ"، قَالَ: "لَا (٨) يُغْلَقُ
(١) المسند (٤/٧) وصحيح مسلم برقم (٢٩٠١) وسنن أبي داود برقم (٤٣١١) وسنن الترمذي برقم (٢١٨٣) وسنن ابن ماجة برقم (٤٠٤١).
(٢) في أ: "رسول الله".
(٣) في أ: "فيعملون".
(٤) في أ: "هم كذلك".
(٥) ذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة (١/٣١) قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سهل، حدثنا محمد بن يوسف الرازي، حدثنا إدريس بن علي الرازي، حدثنا يحيى بن الضريس، عن سفيان الثوري فذكره".
(٦) المسند (٣/٣١) وسنن الترمذي برقم (٣٠٧١) وقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٥/١٧٩) من طريق وكيع، عن ابن أبي ليلى به موقوفا.
(٧) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط كما في مجمع الزوائد (٨/٩) وقال الهيثمي: "فيه فضال بن جبير وهو ضعيف، وقد أنكر هذا الحديث".
(٨) في م: "إن".
373
حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ (١).
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى:
قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيم، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ صُرَد، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ زَيد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ لَيْلَةٌ تَعْدِلُ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ لَيَالِيكُمْ هَذِهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يَعْرِفُهَا الْمُتَنَفِّلُونَ، يَقُومُ أَحَدُهُمْ فَيَقْرَأُ حِزْبَهُ، ثُمَّ يَنَامُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ حِزْبَهُ، ثُمَّ يَنَامُ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ صَاحَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَقَالُوا: مَا هَذَا؟ فَيَفْزَعُونَ إِلَى الْمَسَاجِدِ، فَإِذَا هُمْ بِالشَّمْسِ قَدْ طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَضَجَّ النَّاسُ ضَجَّةً وَاحِدَةً، حَتَّى إِذَا صَارَتْ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ رَجَعَتْ وَطَلَعَتْ مِنْ مَطْلِعِهَا". قَالَ: "حِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (٢) وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ.
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (٣)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَة بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: جَلَسَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ فَسَمِعُوهُ يَقُولُ -وَهُوَ يُحَدِّثُ فِي الْآيَاتِ -: إِنَّ أَوَّلَهَا خُرُوجُ الدَّجَّالِ. قَالَ: فَانْصَرَفَ النَّفَرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَحَدَّثُوهُ بِالَّذِي سَمِعُوهُ مِنْ مَرْوَانَ فِي الْآيَاتِ، فَقَالَ (٤) لَمْ يَقُلْ مَرْوان شَيْئًا قَدْ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنْ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ ضُحًى، فَأَيَّتُهُمَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى أَثَرِهَا". ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ -وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ -: وَأَظُنُّ أَوَّلَهَا خُرُوجًا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّمَا غَرَبَتْ أَتَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ فَسَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ فِي الرُّجُوعِ فَأُذِنَ لَهَا فِي الرُّجُوعِ، حَتَّى إِذَا بَدَا اللَّهُ أَنْ تَطْلُعَ مِنْ مَغْرِبِهَا فَعَلَتْ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ: أَتَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ فَسَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ فِي الرُّجُوعِ، فَلَمْ يُرَدَّ عَلَيْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ تستأذنُ فِي الرُّجُوعِ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهَا شَيْءٌ، حَتَّى إِذَا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَذْهَبَ، وَعَرَفَتْ أَنَّهُ إِذَا (٥) أَذِنَ لَهَا فِي الرُّجُوعِ لَمْ تُدْرِكِ الْمَشْرِقَ، قَالَتْ: رَبِّي، مَا أَبْعَدَ الْمَشْرِقَ. مَنْ لِي بِالنَّاسِ. حَتَّى إِذَا صَارَ الْأُفُقُ كَأَنَّهُ طَوْقٌ اسْتَأْذَنَتْ فِي الرُّجُوعِ، فَيُقَالُ لَهَا: مِنْ مَكَانِكِ فَاطْلَعِي. فَطَلَعَتْ عَلَى النَّاسِ مِنْ مَغْرِبِهَا"، ثُمَّ تَلَا عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا] ﴾ (٦) الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، فِي سُنَنَيْهِمَا، مِنْ حديث أبي حيان التيمي -
(١) سنن الترمذي برقم (٣٥٣٦) وسنن النسائي (١/٨٣) وسنن ابن ماجه برقم (٤٠٧٠).
(٢) ورواه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (٣/٣٩٢).
(٣) في أ: "عمر".
(٤) في أ: "فقال عبد الله".
(٥) في م: "إن".
(٦) زيادة من: م، أ.
374
وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ -عَنْ أَبِي زُرْعَة بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، بِهِ (١).
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْهُ:
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ حَبَّانَ الرَّقِّي، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -بْنِ زِبْرِيقٍ الْحِمْصِيُّ -حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلي (٢) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا خَرَّ إِبْلِيسُ سَاجِدًا يُنَادِي وَيَجْهَرُ: إِلَهِي، مُرْني أَنْ أَسْجُدَ لِمَنْ شِئْتَ". قَالَ: "فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ زَبَانِيَتُهُ فَيَقُولُونَ: يَا سَيِّدَهُمْ، مَا هَذَا التَّضَرُّعُ؟ فَيَقُولُ: إِنَّمَا سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُنْظِر إِلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَهَذَا الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ". قَالَ "ثُمَّ تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ مِنْ صَدْع فِي الصَّفَا". قَالَ: "فَأَوَّلُ خطوة تضعها بأنطاكيا، فَتَأْتِي إِبْلِيسَ فَتَخْطمه (٣)..
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ (٤) وَلَعَلَّهُ مِنَ الزَّامِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَصَابَهُمَا (٥) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، فَأَمَّا رَفْعُهُ فَمُنْكَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ ضَمْضَم بْنِ زُرْعَة، عَنْ شُرَيح بْنِ عُبَيْدٍ يَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِ بْنِ يُخَامر، عَنِ ابْنِ السَّعْدِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ". فَقَالَ مُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا (٦) تَهْجُرُ السَّيِّئَاتِ، وَالْأُخْرَى تُهَاجِرُ (٧) إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا تَنْقَطِعُ مَا تُقِبِّلَتِ التَّوْبَةُ، وَلَا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ الْمَغْرِبِ (٨) فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ". هَذَا الْحَدِيثُ حَسَنُ الْإِسْنَادِ (٩) وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
قَالَ عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ فَقَدْ مَضَى غَيْرَ أَرْبَعٍ: طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالِ، وَدَابَّةِ الْأَرْضِ، وَخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: الْآيَةُ الَّتِي تُخْتَمُ بِهَا الْأَعْمَالُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا] ﴾ (١٠) الْآيَةَ كُلَّهَا، يعني طلوع
(١) صحيح مسلم برقم (٢٩٤١) وسنن أبي داود برقم (٤٣١٠) وسنن ابن ماجة برقم (٤٠٦٩).
(٢) في أ: "الجبلي".
(٣) في أ: "فتلطمه".
(٤) المعجم الكبير للطبراني برقم (١١١) "القسم المفقود" وقال الهيثمي في المجمع (٨/٨) :"فيه إسحاق بن إبراهيم بن زبريق وهو ضعيف".
(٥) في أ: "أصابها".
(٦) في أ: "إحديهما".
(٧) في م: "يهاجر".
(٨) في م: "مغربها".
(٩) المسند (١/١٩٢) وقال الهيثمي في المجمع (٥/٢٥١) :"ورجال أحمد ثقات".
(١٠) زيادة من أ.
375
الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا (١).
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بن إدريس، عن أبيه، عن وَهْب ابن مُنَبِّه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٢) مَرْفُوعًا -فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا غَرِيبًا مُنْكَرًا رَفْعُهُ، وَفِيهِ: "أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَطْلُعَانِ يَوْمَئِذٍ مَقْرُونَيْنِ (٣) وَإِذَا نَصَفا السَّمَاءَ رَجَعَا ثُمَّ عَادَا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ". وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا (٤) بَلْ مُنْكَرٌ، بَلْ مَوْضُوعٌ، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (٥) إِنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، فَأَمَّا وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ -وَهُوَ الْأَشْبَهُ -فَغَيْرُ مَدْفُوعٍ (٦) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] (٧) قَالَتْ: إِذَا خَرَجَ أَوَّلُ الْآيَاتِ، طُرحت الْأَقْلَامُ، وَحُبِسَتِ الْحَفَظَةُ، وَشَهِدَتِ الْأَجْسَادُ عَلَى الْأَعْمَالِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
فَقَوْلُهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (٨) ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: إِذَا أَنْشَأَ الْكَافِرُ إِيمَانًا يَوْمَئِذٍ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مُصْلِحًا فِي عَمَلِهِ فَهُوَ بِخَيْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ كَانَ مخَلِّطًا فَأَحْدَثَ تَوْبَةً حِينَئِذٍ (٩) لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ تَوْبَتُهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ (١٠) الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ أَيْ: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا كَسْبُ عَمَلٍ صَالِحٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِلْكَافِرِينَ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ سَوَّف بِإِيمَانِهِ وَتَوْبَتِهِ إِلَى وَقْتٍ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانَ الْحُكْمُ هَذَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، لِاقْتِرَابِ وَقْتِ الْقِيَامَةِ، وَظُهُورِ أَشْرَاطِهَا كَمَا قَالَ: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ [مُحَمَّدٍ: ١٨]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ] ﴾ (١١) [غَافِرَ: ٨٤، ٨٥].
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) ﴾
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، والسُّدِّي: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ وَذَلِكَ أن اليهود
(١) رواه الطبري في تفسيره (١٢/٢٦٠).
(٢) زيادة من أ.
(٣) في م، أ: "مقرونين من المغرب".
(٤) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٣٩٦، ٣٩٧) وقال: إسناده واه.
(٥) زيادة من م.
(٦) في أ: "مرفوع".
(٧) زيادة من أ.
(٨) زيادة من أ.
(٩) في أ: "يومئذ".
(١٠) في م: "عليه هذه".
(١١) زيادة من: م، أ، وفي هـ: "الآية".
376
وَالنَّصَارَى اخْتَلَفُوا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَفَرَّقُوا. فَلَمَّا بَعَثَ [اللَّهُ] (١) مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَمْرو السَّكُونِيُّ، حَدَّثَنَا بَقِيَّة بْنُ الْوَلِيدِ: كَتَبَ إِلَيَّ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي لَيْث، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي هَذِهِ الأمَّة ﴿الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ وَلَيْسُوا مِنْكَ، هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَأَهْلُ الشُّبَهَاتِ، وَأَهْلُ الضَّلَالَةِ، مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ" (٢).
لَكِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ عَبَّادَ بْنَ كَثِيرٍ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَخْتَلِقْ هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَكِنَّهُ وَهَم فِي رَفْعِهِ. فَإِنَّهُ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ -عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ أَبُو غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿ [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ] وَكَانُوا شِيَعًا (٣) ﴾ قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ. وَرُوِي عَنْهُ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ مُجالد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْح، عَنْ عُمْرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٤) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ قَالَ: "هُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ".
وَهَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه، وَهُوَ غَرِيبٌ أَيْضًا (٥) وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ فَارَقَ دِينَ اللَّهِ وَكَانَ مُخَالِفًا لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا افْتِرَاقَ، فَمَنِ اخْتَلَفَ فِيهِ ﴿وَكَانُوا شِيَعًا﴾ أَيْ: فِرَقًا كَأَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ -وَهِيَ الْأَهْوَاءُ وَالضَّلَالَاتُ -فَاللَّهُ (٦) قَدْ بَرَّأ رَسُولَهُ مِمَّا هُمْ فِيهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] ﴾ (٧) الْآيَةَ [الشُّورَى: ١٣]، وَفِي الْحَدِيثِ: "نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلات، دِينُنَا وَاحِدٌ".
فَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالتَّمَسُّكِ بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْمُتَأَخِّرِ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَضَلَالَاتٌ وَجَهَالَاتٌ وَآرَاءٌ وَأَهْوَاءٌ، الرُّسُلُ بُرآء مِنْهَا، كَمَا قَالَ: ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾
(١) زيادة من أ.
(٢) تفسير الطبري (١٢/٢٧٠) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣٢١) من طريق معلل، عن موسى بن أعين، عن سفيان الثوري، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عنه به، وقال: "لم يروه عن سفيان إلا موسى تفرد به معلل". ورواه الطبري في تفسيره (١٢/٢٧٠) على أبي هريرة موقوفا كما بينه الحافظ ابن كثير.
(٣) زيادة من أ.
(٤) زيادة من أ.
(٥) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣٢٠) وأبو نعيم في الحلية (٤/١٣٨) من طريق محمد بن مصفى، عن بقية بن الوليد، عن شعبة به، وقال الطبراني: "لم يروه عن شعبة إلا بقية، تفرد به محمد بن مصفى، وهو حديثه".
(٦) في م: "فإنه".
(٧) زيادة من م، أ.
377
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (١) ﴾ [الْحَجِّ: ١٧]، ثُمَّ بَيَّنَ فَضْلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حُكْمِهِ وَعَدْلِهِ فَقَالَ:
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠) ﴾
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أَجْمَلَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ [النَّمْلِ: ٨٩]، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ مُطَابِقَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا الْجَعْدُ أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العُطاردي، عن ابن عباس، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (٢)، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ (٣) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أن رَبَّكُمْ [عَزَّ وَجَلَّ] (٤) رَحِيمٌ، مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتبت لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ. وَمَنْ هُمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةً، أَوْ يَمْحُوهَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَهْلَكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالَكٌ".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الْجَعْدِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، بِهِ (٥).
وَقَالَ [الْإِمَامُ] (٦) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَمِل حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ. وَمَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَجَزَاؤُهَا مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ. وَمَنْ عَمِلَ قُرَاب الْأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَقِيَنِي لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا جَعَلْتُ لَهُ مِثْلَهَا مَغْفِرَةً. وَمَنِ اقْتَرَبَ إليَّ شِبْرًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنِ اقْتَرَبَ إليَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَة".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، بِهِ. وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (٧). وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، بِهِ (٨).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يُعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا شَيْبَان، حَدَّثَنَا حَمَّاد، حَدَّثَنَا ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فإن عملها كتبت لَهُ عَشْرًا. وَمِنْ هُمْ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِنَّ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً" (٩).
وَاعْلَمْ أَنَّ تَارِكَ السَّيِّئَةِ الَّذِي لَا يَعْمَلُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: تَارَةً يَتْرُكُهَا لِلَّهِ [عَزَّ وَجَلَّ] (١٠) فَهَذَا تَكْتُبُ لَهُ حَسَنَةٌ عَلَى كَفِّهِ عَنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا عَمَلٌ ونِيَّة؛ وَلِهَذَا جَاءَ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ حسنة، كما جاء
(١) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
(٢) في م: "عنه"
(٣) في م: "تبارك وتعالى".
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) صحيح البخاري برقم (٦٤٩١) وصحيح مسلم برقم (١٣١).
(٦) زيادة من م.
(٧) المسند (٥/١٥٣) وصحيح مسلم برقم (٢٦٨٧).
(٨) سنن ابن ماجة برقم (٣٨٢١).
(٩) مسند أبي يعلى (٦/١٧٠) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/١٤٥) :"رجاله رجال الصحيح".
(١٠) زيادة من أ.
378
فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ: "فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي" (١) أَيْ: مِنْ أَجْلِي. وَتَارَةً يَتْرُكُهَا نِسْيَانًا وذُهولا عَنْهَا، فَهَذَا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ خَيْرًا وَلَا فَعَلَ (٢) شَرًّا. وَتَارَةً يَتْرُكُهَا عَجْزًا وَكَسَلًا بَعْدَ السَّعْيِ فِي أَسْبَابِهَا وَالتَّلَبُّسِ بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهَا، فَهَذَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ فَاعِلِهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، فِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ" (٣).
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو يُعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ -وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ وَأَبُو خَيْثَمَة -قَالَا حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عبيد الله ابن أَنَسٍ، عَنْ جَدِّهِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا. وَمِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً، فَإِنْ تَرَكَهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي".
هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ -يَعْنِي ابْنَ مُوسَى (٤).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الرُّكَيْن بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ فُلَانِ بْنِ عَمِيلة، عَنْ خُرَيْم بْنِ فَاتِكٍ (٥) الْأَسَدِيِّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "النَّاسُ أَرْبَعَةٌ، وَالْأَعْمَالُ سِتَّةٌ. فَالنَّاسُ مُوَسَّع لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمُوَسَّعٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا مَقْتور عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَقْتُورٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مُوَسَّعٌ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وشَقِيٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْأَعْمَالُ مُوجبتان، وَمِثْلٌ بِمِثْلٍ، وَعَشَرَةُ أَضْعَافٍ، وَسَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ؛ فَالْمُوجِبَتَانِ (٦) مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ. وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أشعَرَها قَلْبَه وَحَرَصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً. وَمِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، وَمَنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَلَمْ تُضَاعَفْ عَلَيْهِ. وَمِنْ عَمِلَ حَسَنَةً كَانَتْ عَلَيْهِ (٧) بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا. وَمَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَانَتْ لَهُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ" (٨).
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الرُّكَيْن بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ عَمِيلة، عَنْ خُرَيْم بْنِ فَاتِكٍ، بِهِ بِبَعْضِهِ (٩). وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يزيد بن زُرَيْع،
(١) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (١٢٩) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٢) في أ: "عمل".
(٣) صحيح البخاري برقم (٣١) وصحيح مسلم برقم (٢٨٨٨) من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث، رضي الله عنه.
(٤) ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (٣/٢١٨) ونسبه لأبي يعلى، وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف.
(٥) في أ: "قاتم".
(٦) في أ: "والموجبتان".
(٧) في م، أ: "له".
(٨) المسند (٤/٣٤٥).
(٩) سنن الترمذي برقم (١٦٢٥) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٠٢٧) وقال الترمذي: "وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث الركين بن الربيع".
379
حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثلاثةُ نَفَر: رَجُلٌ حَضَرها بِلَغْوٍ فَهُوَ حَظُّه مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعه، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَة مُسْلِمٍ وَلَمْ يُؤْذ أَحَدًا، فَهِيَ (١) كَفَّارَةٌ لَهُ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (٢).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ مَرْثَد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي ضَمْضَم بْنُ زُرْعَةَ، عَنْ شُرَيْح بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْجُمُعَةُ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا (٣) وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (٤).
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَقَدْ صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ".
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -وَهَذَا لَفْظُهُ -وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ (٥) وَزَادَ: "فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ الْيَوْمُ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ"، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ مَنْ جَاءَ بِ"لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ يَقُولُ: بِالشِّرْكِ.
وَهَكَذَا وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ -اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، لَكِنِّي لَمْ أَرَهُ (٦) مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ -وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذُكِرَ كِفَايَةٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) ﴾
يَقُولُ [اللَّهُ] (٧) تَعَالَى آمِرًا نَبِيَّهُ (٨) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ: ﴿دِينًا قِيَمًا﴾ أَيْ: قَائِمًا ثَابِتًا، ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٣٠]، وَقَوْلُهُ ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الْحَجِّ: ٧٨]،
(١) في م: "فإنها".
(٢) ورواه أبو داود في السنن برقم (١١١٣) وابن خزيمة في صحيحه برقم (١٨١٣) من طريق يزيد بن زريع به.
(٣) في أ: "قبلها".
(٤) المعجم الكبير (٣/٢٩٨) وقال الهيثمي في المجمع (٢/١٧٣) :"فيه محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه، قال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه شيئا".
(٥) المسند (٥/١٤٥) وسنن النسائي (٤/٢١٩) وسنن ابن ماجة برقم (١٧٠٨) وسنن الترمذي برقم (٧٦٢).
(٦) في أ: "لم أروه".
(٧) زيادة من م.
(٨) في أ: "لنبيه".
380
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٠ _ ١٢٣].
وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (١) أُمِرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَكْمَلَ مِنْهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (٢) قَامَ بِهَا قِيَامًا عَظِيمًا، وَأُكْمِلَتْ لَهُ إِكْمَالًا تَامًّا لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَى هَذَا الْكَمَالِ؛ وَلِهَذَا كَانَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَصَاحِبَ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَرْهَبُ (٣) إِلَيْهِ الْخَلْقُ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْص، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصام، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْل، سَمِعْتُ ذَرَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الهَمْدَاني، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ أبْزَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: "أَصْبَحْنَا عَلَى مِلَّة الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَمِلَّةِ [أَبِينَا] (٤) إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (٥).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الحُصَين، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ" (٦).
وَقَالَ [الْإِمَامُ] (٧) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّناد، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَقْنِي عَلَى مَنْكِبِهِ، لِأَنْظُرَ إِلَى زَفْن الْحَبَشَةِ، حَتَّى كُنْتُ الَّتِي مَلِلْتُ فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ لِي عُرْوَةُ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: "لِتَعْلَمَ (٨) يَهودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنيفيَّة سَمْحَة (٩).
أَصْلُ الْحَدِيثِ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالزِّيَادَةُ لَهَا شَوَاهِدُ مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ طُرُقَهَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يَأْمُرُهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَذْبَحُونَ لِغَيْرِ اسْمِهِ، أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لِلَّهِ وَنُسُكَهُ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الْكَوْثَرِ: ٢] أَيْ: أَخْلِصْ لَهُ صَلَاتَكَ (١٠) وَذَبِيحَتَكَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَذْبَحُونَ لَهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تعالى
(١) زيادة من م.
(٢) في أ: "صلى الله عليه وسلم"
(٣) في م: "يرغب".
(٤) زيادة من أ.
(٥) ورواه أحمد في مسنده (٣/٤٠٦) من طريق محمد بن جعفر عن شعبة به، قال الهيثمي في المجمع (١٠/١١٦) :"رجاله رجال الصحيح".
(٦) المسند (١/٢٣٦) وقال الهيثمي في المجمع (١/٦٠) :"فيه ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالسماع".
(٧) زيادة من أ.
(٨) في د، م: "ليعلم".
(٩) المسند (٦/١١٦).
(١٠) في م: "لصلاتك".
381
بِمُخَالَفَتِهِمْ وَالِانْحِرَافِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَالْإِقْبَالِ بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي﴾ قَالَ: النُّسُكُ: الذَّبْحُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ السُّدِّي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر: ﴿وَنُسُكِي﴾ قَالَ: ذَبْحِي. وَكَذَا قَالَ السُّدِّي وَالضَّحَّاكُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْف، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الوَهْبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ عيدٍ بِكَبْشَيْنِ وَقَالَ حين ذبحهما (١) :" وَجَّهْت وجهي للذي فَطَر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المشرِكين، ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كُلَّهُمْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَصْلُهُ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٥]، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يُونُسَ: ٧٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٣٠ -١٣٢]، وَقَالَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠١]، وَقَالَ مُوسَى ﴿يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [يُونُسَ: ٨٤ -٨٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ [بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾ (٣) الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: ٤٤]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ١١١].
فَأَخْبَرَ [اللَّهُ] (٤) تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ رُسُلَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ بِحَسَبِ شَرَائِعِهِمِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا، إِلَى أَنْ نُسِخَتْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَا تُنْسَخُ أَبَدَ الآبدين، ولا تزال
(١) في د: "وجههما".
(٢) وفي إسناده انقطاع، فإن يزيد بن أبي حبيب لم يسمع من ابن عباس، قال الدارقطني في العلل: "لم يسمع من أحد من الصحابة".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) زيادة من أ.
382
وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه، أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى :﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [ الكوثر : ٢ ] أي : أخلص له صلاتك١ وذبيحتك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.
قال مجاهد في قوله :﴿ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ﴾ قال : النسك : الذبح في الحج والعمرة.
وقال الثوري، عن السُّدِّي عن سعيد بن جُبَيْر :﴿ وَنُسُكِي ﴾ قال : ذبحي. وكذا قال السُّدِّي والضحاك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عَوْف، حدثنا أحمد بن خالد الوَهْبِي، حدثنا محمد بن إسحاق، عن زيد بن أبي حبيب، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله قال : ضَحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيدٍ بِكَبْشَيْنِ وقال حين ذبحهما٢ :" وَجَّهْت وجهي للذي فَطَر السموات والأرض حنيفًا وَمَا أنا من المشرِكين، ﴿ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
١ في م: "لصلاتك".
.

٢ في د: "وجههما"..
﴿ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾١.
وقوله :﴿ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ قال قتادة : أي من هذه الأمة.
وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام، وأصله عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، وقد أخبر تعالى عن نوح أنه قال لقومه :﴿ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ يونس : ٧٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٠ - ١٣٢ ]، وقال يوسف، عليه السلام :﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠١ ]، وَقَالَ مُوسَى ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [ يونس : ٨٤ - ٨٦ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ [ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ﴾٢ الآية[ المائدة : ٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ [ المائدة : ١١١ ].
فأخبر [ الله ]٣ تعالى أنه بعث رسله بالإسلام، ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضًا، إلى أن نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا تنسخ أبد الآبدين، ولا تزال قائمة منصورة، وأعلامها مشهورة٤ إلى قيام الساعة ؛ ولهذا قال عليه [ الصلاة و ]٥ السلام :" نحن مَعاشِر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد " ٦ فإن أولاد العلات هم الأخوة من أب واحد وأمهات شَتَّى، فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات، كما أن إخوة الأخياف٧ عكس هذا، بنو الأم الواحدة من آباء شتى، والأخوة الأعيان الأشقاء من أب واحد وأم واحدة، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشُون، حدثنا عبد الله ابن الفضل الهاشمي، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر استفتح، ثم قال :" ﴿ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٧٩ ]، ﴿ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، لا٨ يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت. واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت. تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك ".
ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد. وقد رواه مسلم في صحيحه٩.
١ وفي إسناده انقطاع، فإن يزيد بن أبي حبيب لم يسمع من ابن عباس، قال الدارقطني في العلل: "لم يسمع من أحد من الصحابة"..
٢ زيادة من م، أ..
٣ زيادة من أ.
.

٤ في أ: "منشورة"..
٥ زيادة من أ..
٦ رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٤٤٢، ٣٤٤٣) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه..
٧ في أ: "الأختان"..
٨ في م: "إنه لا"..
٩ المسند (١/٩٤) وصحيح مسلم برقم (٧٧١)..
قَائِمَةً مَنْصُورَةً، وَأَعْلَامُهَا مَشْهُورَةً (١) إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؛ ولهذا قال عليه [الصلاة و] (٢) السلام: "نَحْنُ مَعاشِر الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلات دِينُنَا وَاحِدٌ" (٣) فَإِنَّ أَوْلَادَ الْعِلَّاتِ هُمُ الْإِخْوَةُ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمَّهَاتٍ شَتَّى، فَالدِّينُ وَاحِدٌ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ تَنَوَّعَتِ الشَّرَائِعُ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّهَاتِ، كَمَا أَنَّ إِخْوَةَ الْأَخْيَافِ (٤) عَكْسُ هَذَا، بَنُو الْأُمِّ الْوَاحِدَةِ مِنْ آبَاءٍ شَتَّى، وَالْإِخْوَةُ الْأَعْيَانُ الْأَشِقَّاءُ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الماجشُون، حَدَّثَنَا عبد الله ابن الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا كَبَّرَ اسْتَفْتَحَ، ثُمَّ قَالَ: " ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٧٩]، ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، لَا (٥) يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ. وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ. تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ".
ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِيمَا يَقُولُهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ (٦).
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ فِي إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾ أَيْ: أَطْلُبُ رَبًّا سِوَاهُ، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، يَرُبّنِي وَيَحْفَظُنِي وَيَكْلَؤُنِي وَيُدَبِّرُ أَمْرِي، أَيْ: لَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا أُنِيبُ إِلَّا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.
هَذِهِ (٧) الْآيَةُ فِيهَا الْأَمْرُ بِإِخْلَاصِ التَّوَكُّلِ، كَمَا تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لَهُ (٨) لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُقْرَنُ بِالْآخَرِ كَثِيرًا [فِي الْقُرْآنِ] (٩) كَمَا قَالَ (١٠) تَعَالَى مُرْشِدًا لِعِبَادِهِ أَنْ يَقُولُوا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الْفَاتِحَةِ: ٥]، وَقَوْلُهُ ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هُودٍ: ١٢٣]، وَقَوْلُهُ ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ [الْمُلْكِ: ٢٩]، وَقَوْلُهُ ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا﴾ [الْمُزَّمِّلِ: ٩]، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ إِخْبَارٌ عَنِ الواقع يوم القيامة في
(١) في أ: "منشورة".
(٢) زيادة من أ.
(٣) رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٤٤٢، ٣٤٤٣) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٤) في أ: "الأختان".
(٥) في م: "إنه لا".
(٦) المسند (١/٩٤) وصحيح مسلم برقم (٧٧١).
(٧) في م، أ: "فهذه".
(٨) في أ: "وحده".
(٩) زيادة من أ.
(١٠) في أ: "كقوله".
جَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَعَدْلِهِ، أَنَّ النُّفُوسَ إِنَّمَا تُجَازَى بِأَعْمَالِهَا (١) إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ مِنْ خَطِيئَةِ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ. وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: ﴿وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [فَاطِرَ: ١٨]، وَقَوْلُهُ ﴿فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا﴾ [طه: ١١٢]، قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ (٢) : فَلَا يُظْلَمُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ، وَلَا يُهْضَمُ بِأَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ٣٨، ٣٩]، مَعْنَاهُ: كُلُّ نَفْسٍ مُرْتَهِنَةٌ بِعَمَلِهَا السَّيِّئِ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَعُودُ (٣) بَرَكَاتُ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ عَلَى ذَرَارِيهِمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الطُّورِ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الْآيَةَ: ٢١]، أَيْ: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ فِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ شَارَكُوهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، بَلْ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ﴾ أَيْ: أَنْقَصْنَا أُولَئِكَ السَّادَةَ الرُّفَعَاءَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا حَتَّى سَاوَيْنَاهُمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَنْقَصُ مِنْهُمْ مَنْزِلَةً، بَلْ رفعهم تعالى إلى منزلة الْآبَاءِ بِبَرَكَةِ أَعْمَالِهِمْ، بِفَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ (٤) ثُمَّ قَالَ: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطَّوْرِ: ٢١]، أَيْ: مِنْ شَرٍّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أَيِ: اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَسَتُعْرَضُونَ وَنُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَيُنْبِئُنَا وَإِيَّاكُمْ بِأَعْمَالِنَا وَأَعْمَالِكُمْ، وَمَا كُنَّا نَخْتَلِفُ فِيهِ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ [سَبَأٍ: ٢٥، ٢٦].
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ﴾ أَيْ: جَعَلَكُمْ تُعَمِّرُونَ الْأَرْضَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وقَرْنا بَعْدَ قَرْنٍ، وخَلَفا بَعْدَ سَلَف. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٦٠]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ﴾ [النَّمْلِ: ٦٢]، وَقَوْلِهِ ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [الْبَقَرَةِ: ٣٠]، وَقَوْلِهِ ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٢٩].
وَقَوْلِهِ: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ أَيْ: فَاوَتَ بَيْنَكُمْ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْأَخْلَاقِ، والمحاسن والمساوي، وَالْمُنَاظِرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزُّخْرُفِ: ٣٢]، وَقَوْلُهُ [تَعَالَى] (٥) :﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا﴾ [الإسراء: ٢١].
(١) في م: "بالأعمال".
(٢) في د، م، أ: "العلماء بالتفسير".
(٣) في أ: "يعود".
(٤) في أ: "ومنه".
(٥) زيادة من أ.
384
وَقَوْلِهِ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ أَيْ لِيَخْتَبِرَكُمْ فِي الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ وَامْتَحَنَكُمْ بِهِ، لِيَخْتَبِرَ الْغَنِيَّ فِي غِنَاهُ وَيَسْأَلُهُ عَنْ شُكْرِهِ، وَالْفَقِيرَ فِي فَقْرِهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ صَبْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَة خَضِرَة وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفكم فِيهَا لِيَنْظُرَ كَيْفَ (١) تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ" (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تَرْهِيبٌ وَتَرْغِيبٌ، أَنَّ حِسَابَهُ وَعِقَابَهُ سَرِيعٌ مِمَّنْ (٣) عَصَاهُ وَخَالَفَ رُسُلَهُ ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لِمَنْ وَالَاهُ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مَنْ خَيْرٍ وَطَلَبٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: يُرْحَمُ الْعِبَادُ عَلَى مَا فِيهِمْ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٤) : وَقَوْلُهُ: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ﴾ [الْحِجْرِ: ٤٩، ٥٠]، [وَقَوْلُهُ] (٥) :﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الرَّعْدِ: ٦] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَتَارَةً يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ وَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا لَدَيْهِ، وَتَارَةً يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بِالرَّهْبَةِ وَذِكْرِ النَّارِ وَأَنْكَالِهَا وَعَذَابِهَا وَالْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَتَارَةً بِهَذَا وَبِهَذَا ليَنْجَع فِي كُلَّ بحَسَبِه. جَعَلَنا اللَّهُ مِمَّنْ (٦) أَطَاعَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَرَكَ مَا عَنْهُ نَهَى وزَجَر، وَصَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، جَوَادٌ كَرِيمٌ وَهَّابٌ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا زُهَيْر، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٧) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِع بِالْجَنَّةِ أَحَدٌ، وَلَوْ يُعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنطَ مِنَ الْجَنَّةِ أَحَدٌ، خَلَقَ اللَّهُ مِائَةَ رَحْمَة فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا، وَعِنْدَ اللَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ قُتَيْبَة، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّراوَرْدي، عَنِ الْعَلَاءِ بِهِ. وَقَالَ: حَسَنٌ [صَحِيحٌ] (٨). وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَقُتَيْبَةَ وَعَلِيِّ بْنِ حُجْر، ثَلَاثَتِهِمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ العلاء (٩).
[آخر تفسير سورة الأنعام ولله الحمد والمنة] (١٠)
(١) في أ: "فناظر ماذا".
(٢) صحيح مسلم برقم (٢٧٤٢).
(٣) في أ: "فيمن".
(٤) زيادة من أ.
(٥) زيادة من أ.
(٦) في أ: "فيمن".
(٧) زيادة من أ.
(٨) زيادة من أ.
(٩) المسند (٢/٤٨٤) وسنن الترمذي برقم (٣٥٤٢) ورواه مسلم في صحيحه برقم (٢٧٥٢) حدثنا يحيي بن أيوب وقتيبة وابن حجر، عن إسماعيل بن جعفر به.
(١٠) زيادة من م، أ.
385
Icon