تفسير سورة الأنعام

الماوردي
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ... ﴾ الآية قال وهب بن منبه : فاتحة التوارة فاتحة الأنعام إلى قوله :﴿ يَعْدِلُونَ ﴾، وخاتمة التوراة خاتمة هود.
وقوله :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر، وذلك أولى من أن يجيء بلفظ الأمر فيقول احْمِدِ الله، لأمرين :
أحدهما : أنه يتضمن تعليم اللفظ والمعنى، وفي الأمر المعنى دون اللفظ.
والثاني : أن البرهان إنما يشهد بمعنى الخبر دون الأمر.
﴿ الَّذِي خَلَقَ السَمَوَاتِ والأرضَ ﴾ لأن خلق السموات والأرض نِعَمٌ تستوجب الحمد، لأن الأرض تقل، والسماء تظل، وهي من أوائل نعمه على خلقه، ولذلك استحمد بخلقها وأضاف خلقها إلى نفسه عند حمده، على أن مستحق الحمد هو خالق السموات والأرض، ليكون باستحقاق الحمد منفرداً لانفراده بخلق السموات والأرض.
وفي جمع السموات وتوحيد الأرض وجهان :
أحدهما : لأن السموات أشرف من الأرض، والجمع أبلغ في التفخيم من الوحيد كقوله تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلَنَا الذِّكْرَ ﴾ [ الحجر : ٩ ].
والثاني : لأن أوامره إلى الأرض تخترق جميع السماوات السبع.
وفي تقديم السموات على الأرض وجهان :
أحدهما : لتقدم خلقها على الأرض.
والثاني : لشرفها فقدمها على ذكر الأرض وإن كانت مخلوقة بعد الأرض.
وهذان الوجهان من اختلاف العلماء أيهما خُلِقَ أولاً.
﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ يعني وخلق، فغاير بين اللفظ ليكون أحسن في النظم، والمراد بالظلمات والنور هنا ثلاثة أوجه : أحدها : وهو المشهور من قول قتادة، قدم الظلمة على النور لأنه قدم خلق الظلمة على خلق النور، وجمع الظلمات ووحد النور لأن الظلمات أعم من النور.
والثاني : أن الظلمات : الليل، والنور : النهار.
والثالث : أن الظلمات : الكفر، والنور : الإِيمان، قاله السدي.
ولأصحاب الخواطر، فيه ثلاثة أوجه أُخَر :
أحدها : أن الظلمات : الأجسام، والنور : الأرواح.
الثاني : أن الظلمات : أعمال الأبدان، والنور : ضمائر القلوب.
والثالث : أن الظلمات : الجهل، والنور : العلم.
﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ أي يجعلون له مع هذه النَّعَمْ عِدْلاً، يعني مثلاً.
وفيه قولان :
أحدهما : أنهم يعدلون به الأصنام التي يعبدونها.
والثاني : أنهم يعدلون به إلهاً غيره لم يُخْلَق مثل خلقه.
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمَّى عِندَهُ ﴾ في هذين الأجلين أربعة أقاويل :
أحدها : أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الحياة إلى الموت، والأجل الثاني المسمى عنده أجل الموت إلى البعث، قاله الحسن، وقتادة.
الثاني : أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الدنيا، والأجل الثاني المسمى عنه ابتداء الآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثالث : أن الأجل الأول الذي قضاه هو حين أخذ الميثاق على خلقه في ظهر آدم، والأجل الثاني المسمى عنده الحياة في الدنيا، قاله ابن زيد.
396
والرابع : أن الأجل الذي قضاه أجل من مات، والأجل المسمى عنده أجل من يموت بعد، قاله ابن شجرة.
﴿ تَمْتَرُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تشكون، والامتراء : الشك.
والثاني : تختلفون، مأخوذ من المراء وهو الاختلاف.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن معنى الكلام وهو اله المُدَبِّر في السموات وفي الأرض.
﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾ أي ما تخفون، وما تعلنون. والثاني : وهو الله المعبود في السموات، وفي الأرض.
والثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، لأن في السموات الملائكة، وفي الأرض الإِنس والجن، قاله الزجاج.
﴿ وََيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ أي ما تعلمون من بعد، ولا يخفى عليه ما كان منكم، ولا ما سيكون، ولا ما أنتم عليه في الحال من سر، وجهر.
397
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ ﴾ لأن مشركي قريش لما أنكروا نزول القرآن أخبر الله أنه لو أنزله عليهم من السماء لأنكروه وكفروا به لغلبة الفساد عليهم، فقال :﴿ ولَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ ﴾ واسم القرطاس لا ينطلق إلا على ما فيه كتابة، فإن لم يكن فيه كتابة قيل طرس ولم يقل قرطاس. قال زهير بن أبي سلمى :
بها أخاديد من آثار ساكنها كما تردد في قرطاسه القلم
﴿ فَلَمَسُوهُ بِأَيِدِيهِمْ ﴾ قال ذلك تحقيقاً لنزوله عليهم.
ويحتمل بلمس اليد دون رؤية العين ثلاثة أوجه :
أحدها : أن نزوله مع الملائكة وهم لا يرون بالأبصار، فلذلك عَبَّر عنه باللمس دون الرؤية.
والثاني : لأن الملموس أقرب من المرئي.
والثالث : لأن السحر يتخيل في المرئيات، ولا يتخيل في الملموسات.
﴿ لَقَالَ الََّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ تكذيباً لليقين بالعناد، والمبين : ما دل على بيان بنفسه، والبيِّن : ما دل على بيانه، فكان المبين أقوى من البيِّن.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ أي ملك يشهد بتصديقه ﴿ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ﴾ أي لو أنزلنا ملكاً فلم يؤمنوا لقضي الأمر وفيه تأويلان :
أحدهما : لقضي عليهم بعذاب الاستئصال، قاله الحسن، وقتادة، لأن الأمم السالفة كانوا إذا اقترحوا على أنبيائهم الآيات فأجابهم الله تعالى إلى الإِظهار فلم يؤمنوا استأصلهم بالعذاب.
والثاني : أن معنى لقضي الأمر لقامت الساعة، قاله ابن عباس.
﴿ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴾ أي لا يُمْهَلُون ولا يُؤَخَّرون، يعني عن عذاب الاستئصال. على التأويل الأول، وعن قيام الساعة على التأويل الثاني.
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ﴾ يعني ولو جعلنا معه ملكاً يدل على صدقه لجعلناه في صورة رجل.
وفي وجوب جعله رجلاً وجهان :
أحدهما : لأن الملائكة أجسامهم رقيقة لا تُرَى، فاقتضى أن يُجْعَل رجلاً لكثافة جسمه حتى يرى.
والثاني : أنهم لا يستطيعون أن يروا الملائكة على صورهم، وإذا كان في صورة الرجل لم يعلموا ملك هو أو غير ملك.
﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه ولخلطنا عليهم ما يخلطون، قاله الكلبي.
والثاني : لشبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم، قال الزجاج : كما يشبهون على ضعفائهم واللبس في كلامهم هو الشك ومنه قول الخنساء :
أصدق مقالته واحذر عداوته والبس عليه بشك مثل ما لبسا
والثالث : وللبسنا على الملائكة من الثبات ما يلبسه الناس من ثيابهم، ليكونوا على صورهم وعلى زِيِّهم، قاله جويبر.
قوله تعالى :﴿... كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ أي أوجبها ربكم على نفسه، وفيها أربعة أوجه :
أحدها : أنها تعريض خلقه لما أمرهم به من عبادته التي تفضي بهم إلى جنته.
والثاني : ما أراهم من الآيات الدالة على وجوب طاعته.
والثالث : إمهالهم عن معالجة العذاب واستئصالهم بالانتقام.
والرابع : قبوله توبة العاصي والعفو عن عقوبته.
﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ وهذا توعد منه بالعبث والجزا أَخَرجَه مَخْرَج القسم تحقيقاً للوعد والوعيد، ثم أكده بقوله :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ من أجسام الحيوان، لأن من الحيوان ما يسكن ليلاً، ومنه ما يسكن نهاراً.
فإن قيل : فلم قال ﴿ مَا سَكَنَ ﴾ ولم يقل ما تحرك؟ قيل لأمرين :
أحدهما : أن ما يَعُمُّه السكون أكثر مما يَعُمُّه الحركة.
والثاني : لأن كل متحرك لا بد أن تنحل حركته سكوناً، فصار كل متحرك ساكناً، وقد قال الكلبي : معناه وله ما استقر في الليل والنهار، وهما الزمان كله، لأنه لا زمان إلا ليل أو نهار، ولا فصل بينهما يخرج عن واحد منهما.
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيَّاً ﴾ يعني إلهاً يَتَولاَّنِي.
﴿ فَاطِر السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ أي خالق السموات والأرض ومبتدئها، قال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فَطَرْتُهَا، أي ابتدأتها، وأصل الفطر الشق، ومنه ﴿ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ﴾ [ الملك : ٣ ] أي شقوق.
﴿ وَهُوَ يَطْعمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ معناه يَرْزُقُ ولا يُرْزَق، قرأ بعضهم ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ ﴾ معناه على هذه القراءة : وهو يطعم خلقه ولا يأكل.
﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ يعني من أمته، وفي إسلامه هذا ثلاثة أوجه :
أحدها : استسلامه لأمر الله، ومثله قول الشاعر :
طال النهار على من لقاح له إلا الهديّة أو ترك بإسلام
أي باستسلام.
والثاني : هو دخوله في سِلْمِ الله وخروجه من عداوته.
والثالث : دخوله في دين إبراهيم كقوله تعالى :﴿ مِلَّهَ ءَابِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ﴾ [ الحج : ٧٨ ] ويكون المراد به أول من أَسْلَم من قريش، وقيل : من أهل مكة.
﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ يحتمل أن يكون هذا خطاباً من الله لنبيه يَنْهَاهُ به عن الشرك، ويُحْتَمَل أن يكون المراد به جميع أمته، وإن توجه الخطاب إليه.
قوله تعالى :﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : معناه إن أَلْحَقَ الله بك ضُراً، لأن المس لا يجوز على الله.
والثاني : معناه وإن جعل الضُرَّ يمسك.
وكذلك قوله :﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ﴾.
وفي الضُرِّ والخير وجهان :
أحدهما : أن الضُرَّ السُقْمُ، والخير العافية.
والثاني : أن الضُرَّ الفقر، والخير الغنى.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن معناه القاهر لعباده، وفوق صلة زائدة.
والثاني : أنه بقهره لعباده مستعلٍ عليهم، فكان قوله فوق مستعملاً على حقيقته كقوله تعالى :﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِم ﴾ [ الفتح : ١٠ ] لأنها أعلى قوة.
ويحتمل ثالثاً : وهو القاهر فوق قهر عباده، لأن قهره فوق كل قهر.
وفي هذا القهر وجهان :
أحدهما : أنه إيجاد المعدوم.
والثاني : أنه لا راد لأقداره ولا صَادَّ عن اختياره.
قوله تعالى :﴿ قَلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ﴾ الآية، في سبب [ نزول ] ذلك قولان :
أحدهما : أن المشركين قالوا لرسول الله ﷺ : من يشهد لك النبوة، فأنزل الله تعالى هذه الآية يأمره فيها أن يقول لهم :﴿ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ﴾، ثم أجابه عن ذلك فقال :﴿ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ يعني : بصدقي وصحة نبوتي وهي أكبر الشهادات، قاله الحسن.
والثاني : أن الله تعالى أمره أن يشهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم فقال ذلك ليشهده عليهم.
﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لأنذركم [ يا ] أهل مكة ومن بلغه القرآن من غير أهل مكة.
والثاني : لأنذركم به :[ أيها ] العربُ ومن بُلِّغ من العَجَم.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه التوراة والإِنجيل، قاله الحسن، وقتادة، والسدي، وابن جريج.
والثاني : أنه القرآن.
﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنآءَهُم ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعرفون النبي ﷺ كما يعرفون أبناءهم، لأن صفته موجودة في كتابهم، قاله الحسن، وقتادة، ومن زعم أن الكتاب هو التوراة والإِنجيل.
والثاني : يعرفون الكتاب الدال على صفته، وصدقه، وصحة نبوته، وهذا قول من زعم أن الكتاب هو القرآن.
وعنى بقوله :﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ﴾ تثبيتاً لصحة المعرفة.
وحكى الكلبي والفراء : أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام حين أسلم : ما هذه المعرفة التي تعرفون بها محمداً ﷺ كما تعرفون أبناءكم؟ قال : والله لأنا به إذا رأيته أعرف مني بابني وهو يلعب مع الصبيان، لأني لا أشك أنه محمد، وأشهد أنه حق، ولست أدري ما صنع النساء في الابن.
﴿ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنهم خسروا بالكفر منازلهم وأزواجهم في الجنة، لأنه ليس أحد من مؤمن ولا كافر إلا وله منازل وأزواج، فإن أسلموا كانت لهم، وإن كفروا كانت لمن آمن من أهلهم، وهو معنى قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١١ ]، قاله الفراء.
والثاني : معناه غبنوها فأهلكوها بالكفر والتكذيب، ومنه قول الأعشى :
﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُن فَتْنَتُهُمْ... ﴾ الآية. في الفتنة هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني معذرتهم، فسماها فتنة لحدوثها عن الفتنة، قاله قتادة.
والثاني : عاقبة فتنتهم وهو شركهم.
والثالث : يعني بَلِيَّتُهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة، قاله أبو عبيد القاسم بن سلام.
﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ تبدأوا بذلك من شركهم، فإن قيل : كيف كذبوا في الآخرة بجحود الشرك ولا يصح منهم الكذب في الآخرة لأمرين :
أحدهما : أنه لا ينفعهم.
والثاني : أنهم مصروفون عن القبائح ملجؤون إلى تركها لإِزالة التكليف عنهم، ولو لم يلجؤوا إلى ترك القبيح ويصرفوا عنه مع كما عقولهم وجب تكليفهم ليقلعوا به عن القبيح، وفي عدم تكليفهم دليل على إلجائهم إلى تركه.
قيل : عن ذلك جوابان.
أحدهما : أن قولهم ﴿ وَاللَّهِ رَبِّنآ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ أي في الدنيا عند أنفسنا لاعتقادنا فيها أننا على صواب، وإن ظهر لنا خطؤه الآن، فلم يكن ذلك منهم كذباً، قاله قطرب.
والثاني : أن الآخرة مواطن، فموطن لا يعلمون ذلك فيه ولا يضطرون إليه، وموطن يعلمون ذلك فيه ويضطرون إليه، فقالوا ذلك في الموطن الأول، قاله بعض متأخري المتكلمين.
وهذا ليس بصحيح لأنه يقتضي أن يكونوا في الموطن الأول مكلفين لعدم الإِلجاء والاضطرار، وفي الموطن الثاني غير مكلفين.
وقد يعتل الجواب الأول بقوله تعالى بعد هذه الآية :﴿ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ﴾ فأخبر عنهم بالكذب، وهم على الجواب الأول غير كاذبين.
وقد أُجِيب عن هذا الاعتراض بجواب ثالث، وهو أنهم أنكروا بألسنتهم، فلما نطقت جوارحهم أقروا، وفي هذا الجواب دخل لأنه قد كذبوا نُطْقَ الجوارح.
﴿ وَضَلَّ عَنهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بسوء كذبهم وجحودهم.
والثاني : فضلت عنهم أوثانهم التي افتروا على الله بعبادتها، والافتراء : تحسين الكذب.
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ قيل إنهم كانوا يستمعون في الليل قراءة النبي ﷺ في صلاته.
وفيه وجهان : أحدهما : يستمعون قراءته ليردوا عليه.
والثاني : ليعلموا مكانه فيؤذوه، فصرفهم الله عن سماعه، بإلقاء النوم عليهم، بأن جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه.
والأكنة الأغطية واحدها كِنان، يقال : كَنَتْتُ الشيء إذا غطيته، وأكننته في نفسي إذا أخفيته، وفي قراءة علي، وابن مسعود : على أعينهم غطاء.
﴿ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ والوقر : الثقل، ومنه الوَقَار إذا ثقل في المجلس.
﴿ وَإِن يَرَوْاْ كَلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بها ﴾ يعني بالآية علامة الإعجاز لما قد استحكم في أنفسهم من حسده وبغضه، وذلك صرفهم عن سماع القرآن، لأنهم قصدوا بسماعه الأذى والافتراء.
﴿ حَتَّىَ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ فيما كانوا يجادلون به النبي ﷺ قولان :
401
أحدهما : أنهم كانوا يجادلونه بما ذكره الله تعالى من قوله عنهم :﴿ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾، قال الحسن.
والثاني : هو قولهم : تأكلون ما قتلتم ولا تاكلون ما قتل ربكم، قاله ابن عباس.
ومعنى ﴿ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ أي أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها في كتبهم، وقيل : إن جادلهم بهذا النضر بن الحارث.
قوله تعالى :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأوْنَ عَنْهُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يَنْهَون عن اتباع محمد ﷺ، ويتباعدون عنه فراراً منه، قاله محمد ابن الحنفية، والحسن، والسدي.
والثاني : يَنْهَون عن القرآن أن يُعْمَل بما فيه، ويتباعدون من سماعه كيلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته، قاله مجاهد، وقتادة.
والثالث : ينهون عن أذى محمد ﷺ، ويتباعدون عن اتباعه، قال ابن عباس : نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين عن أذى محمد ﷺ، ويتباعد عما جاء به، فلا يؤمن به مع وضوح صدقه في نفسه.
واستشهد مقاتل بما دل على ذلك عن شعر أبي طالب بقوله :
لا يأخذ الرِّشْوَة في حُكْمِهِ ولا يُبالي خُسْرَ الخاسر
ودعوتني وزَعَمْتَ أنَّكَ ناصِحِي فلقَدْ صَدَقْت وكُنْتَ ثَمَّ أميناً
وعرضتَ ديناً قد علِمْتُ بأنه من خيْرِ أَدْيانِ البَرِيةِ دِيناً
لولا الذَّمَامَةُ أو أُحَاذِرُ سُبَّةً لَوَجَدْتَني سَمْحاً بذالك مُبِيناً
فاذهب لأمرك ما عليك غَضَاضَةٌ وابشِرْ بذاك وقَرَّ مِنَكَ عيوناً
والله لن يَصِلُوا إيك بِجَمْعِهم حتى أُوسَّدَ في التُّرابِ دَفِيناً
فنزلت هذه الآية، فقرأها عليه النبي ﷺ، فقال له أبو طالب : أما أن أدخل في دينك فلا، قال ابن عباس : لسابق القضاء في اللوح المحفوظ، وبه قال عطاء، والقاسم.
402
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عاينوها، ومن عاين الشيء فقد وقف عليه.
والثاني : أنها كانت من تحتهم وهم فوقها، فصاروا وقوفاً عليها.
والثالث : أنهم عرفوها بالدخول فيها، ومن عرف الشيء فقد وقف عليه.
وذكر الكلبي وجهاً رابعاً : أن معناه ولو ترى إذ حُبِسُوا على النار.
﴿ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِأَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ تمنوا الرد إلى الدنيا التي هي دار التكليف ليؤمنوا ويصدقوا، والتمني لا يدخله صدق ولا كذب، لأنه ليس بخبر.
ثم قال تعالى :﴿ بلْ بَدَالَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بدا لهم وبال ما كانوا يخفون.
والثاني : بدا لهم ما كان يخفيه بعضهم عن بعض، قاله الحسن.
والثالث : بدا للأتباع مما كان يخفيه الرؤساء.
﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ يعني ولو ردوا إلى ما تمنوا من الدنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر.
﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه خبر مستأنف أخبر الله به عن كذبهم لا أنه عائد إلى ما تقدم من تمنّيهم، لعدم الصدق والكذب في التمنِّي.
والثاني :﴿ إِنَّهُمْ لَكَاذِبونَ ﴾ يعني في الإِخبار عن أنفسهم بالإِيمان إِن رُدُّوا.
قوله تعالى :﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو، فأما عمل الصالحات فيها فهو من عمل الآخرة، فخرج من أن يكون لعباً ولهواً.
والثاني : وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو لاشتغالهم بها عما هو أولى منها، قاله الحسن.
والثالث : أنهم كأهل اللعب واللهو لانقطاع لذاتهم وقصور مدتهم، وأهل الآخرة بخلافهم لبقاء مدتهم واتصال لذتهم، وهو معنى قوله تعالى :﴿ وَلَلدَّارُ الأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ لأنه قَدْ دام لهم فيها ما كان منقطعاً في غيرها.
﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أن ذلك خير لكم.
وذكر بعض الخاطرية قولاً رابعاً : أنها لعب لمن جمعها، لهو لمن يرثها.
قوله تعالى :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ﴾ يعني من التكذيب. لك، والكفر بي.
﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكّذَّبونَكَ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : فإنهم لا يكذبونك بحجة، وإنما هو تكذيب بهت وعناد، فلا يحزنك، فإنه لا يضرك، قاله أبو صالح، وقتادة، والسدي.
والثاني : فإنهم لا يكذبون قولك لعلمهم بصدقك، ولكن يكذبون ما جئت به، قاله ناجية بن كعب.
والثالث : لا يكذبونك في السر لعلمهم بصدقك، ولكنهم يكذبونك في العلانية لعداوتهم لك، قاله الكلبي.
والرابع : معناه أن تكذيبهم لقولك ليس بتكذيب لك، لأنك رسول مُبَلّغ، وإنما هو تكذيب لآياتي الدالة على صدقك والموجبة لقبول قولك، وقد بين ذلك بقوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بئَأَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ أي يكذبون.
وقرأ نافع والكسائي :﴿ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ﴾ وهي قراءة عن النبي ﷺ وتأويلها : لا يجدونك كاذباً.
قوله تعالى :﴿... وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾ يحتمل أربعة تأويلات :
أحدها : معناه لا مُبطِل لحُجَّتِهِ ولا دافع لبرهانه.
والثاني : معناه لا رَادَّ لأمره فيما قضاه من نصر أوليائه، وأوجبه من هلاك أعدائه.
والثالث : معناه لا تكذيب لخبره فيما حكاه من نصر مَنْ نُصِرَ وهلاك مَنْ أُهْلِكَ.
والرابع : معناه لا يشتبه ما تخرّصه الكاذبون عليه بما بلَّغه الأنبياء عنه.
﴿ وَلَقْدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ ﴾ فيما صبروا عليه من الأذى، وقُوبلوا عليه من النصر.
قوله تعالى :﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ إِعْرَاضُهُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما :[ إعراضهم ] عن سماع القرآن.
والثاني : عن استماعك.
﴿ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ ﴾ أي سرباً، وهو المسلك فيها، مأخوذ من نافقاء اليربوع.
﴿ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مصعداً، قاله السدي.
والثاني : دَرَجاً، قاله قتادة.
والثالث : سبباً، قاله الكلبي وقد تضمن ذلك قول كعب بن زهير.
ولا لَكُمَا مَنْجىً عَلَى الأرْضِ فَابْغِيَا به نَفَقاً أوْ في السَّمَوَات سُلَّماً
﴿ فَتَأْتِيَهُم بئَايَةٍ ﴾ يعني أفضل من آيتك ولن تستطيع ذلك، لم يؤمنوا لك، فلا يحزنك تكذيبهم وكفرهم، قال الفراء : وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره : فتأتيهم بآية فافعل.
﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ يعني بالإلجاء والاضطرار.
قال ابن عباس : كل موضع قال الله فيه ﴿ ولو شاءَ اللهُ ﴾ فإنه لم يشأ.
﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ﴾ يعني تجزع في مواطن الصبر، فتصير بالأسف والتحسر مقارباً لأحوال الجاهلين.
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ﴾ الاستجابة هي القبول، والفرق بينها وبين الجواب : أن الجواب قد يكون قبولاً وغير قبول.
وقوله :﴿ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني الذين يعقلون، قاله الكلبي.
والثاني : الذين يسمعون طلباً للحق، لأن الاستجابة قد تكون من الذين يسمعون طلباً للحق، فأما من لا يسمع، أو يسمع لكن لا بقصد طلب الحق، فلا يكون منه استجابة.
﴿ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن المراد بالموتى هنا الكفار، قاله الحسن، وقتادة ومجاهد.
ويكون معنى الكلام : إنما يستجيب المؤمنون الذين يسمعون، والكفار لا يسمعون إلا عند معاينة الحق اضطراراً حين لا ينفعهم حتى يبعثم الله كفاراً ثم يحشرون كفاراً.
والقول الثاني : أنهم الموتى الذين فقدوا الحياة، وهو مثل ضربه الله تعالى لنبيه ﷺ، ويكون معنى الكلام : كما أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله فكذلك الذين لا يسمعون.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ يعني آية تكون دليلاً على صدقه وصحة نبوته.
﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً ﴾ يعني آية يجابون بها إلى ما سألوا.
﴿ وَلَكِنَّ أَكْثرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ يحتمل وجهين.
أحدهما : لا يعلمون المصلحة في نزول الآية.
الثاني : لا يعلمون أن زيادة الآيات إذا لم يؤمنوا بها، توجب الزيادة من عذابهم، لكثرة تكذيبهم.
فإن قيل : فهذه الآية لا تدل على أن الله لم ينزل عليهم آية تقودهم إلى التصديق فلم يلزمهم الإِيمان، قيل : هذا خطأ، لأن ما أظهره الله من الآيات الدالة على صدق رسوله وصحة نبوته، أظهر من أن يُخْفَى، وأكثر من أن ينكر، وأن القرآن مع عجز من تحداهم الله من الآيات بمثله، وما تضمنه من أخبار الغيوب وصدق خبره عما كان ويكون أبلغ الآيات وأظهر المعجزات.
وإنما اقترحوا آية سألوها إعناتاً، فلم يجابوا مع قدرة الله تعالى على إنزالها، لأنه لو أجابهم إليها لاقترحوا غيرها إلى ما لا نهاية له، حتى ينقطع الرسول بإظهار الآيات عن تبليغ الرسالة.
وإنما يلزمه إظهار الآيات في موضعين :
أحدهما : عند بعثه رسولاً ليكون مع استدعائه لهم دليل على صدقه.
والثاني : أن يسألها من يعلم الله منه أنه إن أظهرها له آمن به، وليس يلزمه إظهارها في غير هذين الموضعين.
قوله تعالى :﴿ وَمَا من دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ ﴾ دابة بمعنى ما يدب على الأرض من حيوان كله.
﴿ وَلاَ طَآئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ يعني في الهواء، جميع بين ما هو على الأرض وفيها وما ارتفع عنها.
﴿ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ﴾ في الأمم تأويلان :
أحدهما : أنها الجماعات.
والثاني : أنها الأجناس، قاله الفراء.
وليس يريد بقوله :﴿ أَمْثَالُكُم ﴾ في التكليف كما جعل قوم اشتبه الظاهر عليهم وتعلقوا مع اشتباه الظاهر برواية أبي ذر، قال : انتطحت شاتان عند النبي ﷺ، فقال : يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا؟ قلت : لا، قال :« لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا » قال أبو ذر : لقد تركنا رسول الله ﷺ وما يقلب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكّرنا منه علماً، لأنه إذا كان العقل سبباً للتكليف كان عدمه لارتفاع التكليف.
والمراد بقوله :﴿ أَمْثَالُكُم ﴾ وجهان :
أحدهما : أنها أجناس وتتميز في الصور والأسماء.
والثاني : أنها مخلوقة لا تُظْلَم، ومرزوقة لا تُحْرَم.
ثم قال تعالى :﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : ما تركنا خلقاً إلا أوجبنا له أجلاً، والكتاب هنا هو إيجاب الأجل كما قال تعالى :﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ﴾ [ الرعد : ٣٨ ] قاله ابن بحر وأنشد لنابغة بني جعدة :
بلغو الملوك وأدركوا ال... كتاب وانتهى الأجل
406
والتأويل الثاني : وهو قول الجمهور : أن الكتاب هو القرآن الكريم الذي أنزله، ما أخل فيه بشيء من أمور الدين، إما مُفَصَّلاً يَسْتَغْنِي عن التفسير، أو مجْمَلاً جعل إلى تفسيره سبيلاً.
يحتمل تأويلاً ثالثاً : ما فرطنا فيه بدخول خلل عليه، أو وجود نقص فيه، فكتاب الله سليم من النقص والخلل.
﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرْونَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن المراد بالحشر الموت، قاله ابن عباس.
والثاني : أن الحشر الجمع لبعث الساعة.
فإن قيل : فإذا كانت غير مُكَلَّفَةٍ فلماذا تبعث يوم القيامة؟ قيل : ليس التكليف علة البعث، لأن الأطفال والمجانين يبعثون وإن كانوا في الدنيا غير مكلفين، وإنما يبعثها ليعوض ما استحق العوض منها بإيلام أو ظلم، ثم يجعل ما يشاء منها تراباً، وما شاء من دواب الجنة يتمتع المؤمنون بركوبه ورؤيته.
407
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكَّرُوا بِهِ ﴾ معنى ذلك أنهم تركوا ما ذَكَّرَهُم الله من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله.
﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمُ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يعني من نِعَمِ الدنيا وسَعَة الرزق.
وفي إنعامه عليهم مع كفرهم وجهان :
أحدهما : ليكون إنعامه عليهم داعياً إلى إيمانهم. والثاني : ليكون استدراجاً وبلوى، وقد روى ابن لهيعة بإسناده عن عقبة ابن عامر أن النبي ﷺ قال :« إِذَا رَأَيْتَ اللَّه يعِطي العِبَادَ مَا يَشَاءُونَ عَلَى مَعَاصِيهِم إِيَّاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ » ثم تلا :﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابِ كُلِّ شَيْءٍ ﴾.
﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ ﴾ يعني من النِّعَمْ فلم يؤمنوا.
﴿ أَخَذَنَاهُم بَغْتَةً ﴾ يحتمل وجهين.
أحدهما : أنه تعجيل العذاب المُهْلِك جزاء لأمرين.
أحدهما : لكفرهم به.
والثاني : لكفرهم بنِعَمِهِ.
والوجه الثاني : هو سرعة الموت عند الغفلة عنه بالنِّعَمِ قَطْعاً للذة، وتعذيباً للحسرة.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ﴾ وفيه خمسة تأويلات :
أحدها : أن الإِبلاس : الإِياس قال عدي بن زيد :
ملك إذا حل العفاة ببابه غبطوا وأنجح منهم المستبلس
يعني الآيس.
والثاني : أنه الحزن والندم.
والثالث : الخشوع.
والرابع : الخذلان.
والخامس : السكوت وانقطاع الحجة، ومنه قول العجاج :
قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزآئِنُ اللَّهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : الرزق، أي لا أقدر على إغناء فقير، ولا إفقار غني، قاله الكلبي.
والثاني : مفاتيح خزائن العذاب لأنه خَوَّفهُم منه، فقالوا متى يكون هذا؟ قاله مقاتل.
﴿ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : علم الغيب في نزول العذاب عليهم متى يكون؟، قاله مقاتل.
والثاني : علم جميع ما غاب من ماض ومستقبل، إلا أن المستقبل لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه الله تعالى على علمه من أنبيائه، وأما الماضي فقد يعلمه المخلوقون من أحد الوجهين : إما من معاينة أو خبر، فإن كان الإِخبار عن مستقبل، فهو من آيات الله المعجزة، وإن كان عن ماض فإن علم به غير المخبر والمخبر لم يكن معجزاً، وإن لم يعلم به أحد وعلم به المخبِر وحده كان معجزاً، فنفى رسول الله ﷺ عن نفسه علم الغيب، لأنه لا يعلمه غير الله تعالى، وإن ما أخبر به من غيب فهو عن الله ووحيه.
﴿ َوَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه يريد أنه لا يقدر على ما يعجز عنه العباد، وإن قدرت عليه الملائكة.
والثاني : أنه يريد بذلك أنه من جملة البشر وليس بمَلَك، لينفي عن نفسه غُلُوَّ النصارى في المسيح وقولهم : إنه ابن الله.
ثم في نفيه أن يكون ملكاً وجهان :
أحدهما : أنه بَيَّنَ بذلك فضل الملائكة على الأنبياء، لأنه دفع عن نفسه منزلة ليست له.
والثاني : أنه أراد إني لست ملكاً في السماء، فأعلم غيب السماء الذي تشاهده الملائكة ويغيب عن البشر، وإن كان الأنبياء أفضل من الملائكة مع غيبهم عما تشاهده الملائكة.
﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن أخبركم إلا بما أخبرني الله به.
والثاني : أن أفعل إلا ما أمرني الله به.
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : الجاهل والعالم.
والثاني : الكافر والمؤمن.
﴿ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : فيما ضربه الله من مثل الأعمى والبصير.
الثاني : فيما بينه من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِّي ﴾.
روي أن سبب نزول هذه الآية أن الملأ من قريش أتوا النبي ﷺ وعنده جماعة من ضعفاء المسلمين مثل بلال، وعمار، وصهيب، وخباب بن الأرت، وابن مسعود، فقالوا : يا محمد اطرد عنا موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا، فلعلك إن طردتهم نتبعك، فقال عمر : لو فعلت ذلك حتى نعلم ما الذي يريدون وإِلاَمَ يصيرون، فَهَمَّ رسول الله ﷺ بذلك حتى نزلت هذه الآية. ونزل في الملأ من قريش ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ﴾ الآية، فأقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله فيه :﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمَنُونَ بِئَأَيَاتِنا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾ الآية.
409
وفي قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني : أنه ذكر الله، قاله إبراهيم النخعي.
والثالث : تعظيم القرآن، قاله أبو جعفر.
والرابع : أنه عبادة الله، قاله الضحاك.
ومعنى قوله :﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يريدون بدعائهم، لأن العرب تذكر وجه الشيء إرادة له مثل قولهم : هذا وجه الصواب تفخيماً للأمر وتعظيماً.
والثاني : معناه يريدون طاعته لقصدهم الوجه الذي وجَّهَهُم إليه.
﴿ مَا عَلَيكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ فيه ثلاث أقوال :
أحدها : يعني ما عليك من حساب عملهم من شيء من ثواب أو عقاب.
﴿ وَمَا مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ يعني وما من حساب عملك عليهم من شيء، لأن كل أحد مؤاخذ بحساب عمله دون غير، قاله الحسن.
والثاني : معناه ما عليك من حساب رزقهم وفقرهم من شيء.
والثالث : ما عليك كفايتهم ولا عليهم كفايتك، والحساب الكفاية كقوله تعالى :﴿ عَطَاءً حِسَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٦ ] أي تاماً كافياً، قاله ابن بحر.
قوله تعالى :﴿ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ﴾ يعني لاختلافهم في الأرزاق، والأخلاق، والأحوال.
وفي إفتان الله تعالى لهم قولان :
أحدهما : أنه ابتلاؤهم واختبارهم ليختبر به شكر الأغنياء وصبر الفقراء، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني : تكليف ما يشق على النفس مع قدرتها عليه.
﴿ لَّيَقُولُواْ أَهَؤُلآءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ﴾ وهذا قول الملأ من قريش للضعفاء من المؤمنين، وفيما مَنَّ الله تعالى به عليهم قولان :
أحدهما : ما تفضل الله به عليهم من اللطف في إيمانهم.
والثاني : ما ذكره من شكرهم على طاعته.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بئَأَيَاتِنَا ﴾ يعني به ضعفاء المسلمين وما كان من شأن عمر.
﴿ فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه أمر بالسلام عليهم من الله تعالى، قاله الحسن.
والثاني : أنه أمر بالسلام عليهم من نفسه تكرمة لهم، قاله بعض المتأخرين.
وفي السلام قولان :
أحدهما : أنه جمع السلامة.
والثاني : أنه السلام هو الله ومعناه ذو السلام.
﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معناه أوجب الله على نفسه.
والثاني : كتب في اللوح المحفوظ على نفسه.
و ﴿ الرَّحْمَةَ ﴾ يحتمل المراد بها هنا وجهين :
أحدهما : المعونة.
والثاني : العفو.
﴿ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءَاً بِجَهَالَةٍ ﴾ في الجهالة تأويلان :
أحدهما : الخطيئة، قاله الحسن، ومجاهد، والضحاك.
والثاني : ما جهل كراهية عاقبته، قاله الزجاج.
ويحتمل ثالثاً : أن الجهالة هنا ارتكاب الشبهة بسوء التأويل.
﴿ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ ﴾ يعني تاب من عمله الماضي وأصلح في المستقبل.
410
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّي ﴾ في البينة هنا قولان :
أحدهما : الحق الذي بان له.
والثاني : المُعْجِزُ في القرآن.
﴿ وَكَذَّبْتُم بِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : وكذبتم بالبينة.
والثاني : وكذبتم بربكم.
﴿ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : ما يستعجلون به من العذاب الذي أُوعِدُوا به قبل وقته، كقوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾، قاله الحسن.
والثاني : ما استعجلوه من اقتراح الآيات لأنه طلب الشيء فى غير وقته، قاله الزجاج.
﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : الحكم في الثواب والعقاب.
والثاني : الحكم في تمييز الحق من الباطل.
﴿ يَقُصُّ الْحَقَّ ﴾ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم ﴿ يَقُصُّ ﴾ بصاد غير معجمة من القَصَص وهو الإِخبار به، وقرأ الباقون ﴿ يَقْضِي ﴾ بالضاد معجمة من القضاء، وهو صنع الحق وإتمامه.
قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ﴾ فيه وجهان : أحدهما : خزائن غيب السموات والأرض والأرزاق والأقدار، وهو معنى قول ابن عباس.
والثاني : الوصول إلى العلم بالغيب.
﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن ما في البّر ما على الأرض، وما في البحر ما على الماء، وهو الظاهر، وبه قال الجمهور.
والثاني : أن البَرّ القفر، والبحر القُرى لوجود الماء فيها، فلذلك سميت بحراً، قاله مجاهد.
﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ يعني قبل يبسها وسقوطها.
﴿ وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ما في بطنها من بذر.
والثاني : ما تخرجه من زرع.
﴿ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الرطب النبات واليابس الجواهر.
والثاني : أن الرطب الحي، واليابس الميت.
﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ يعني في اللوح المحفوظ.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيلِ ﴾ يعني به النوم، لأنه يقبض الأرواح فيه عن التصرف، كما يقبضها بالموت، ومنه قول الشاعر :
يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً قال نعم أعرفه وأبلسا
إنَّ بَنِي الأَدْرَدِ لَيْسوا مِن أَحَدْ وَلاَ تَوَفَّاهُم قَرَيْشٌ في العَدَدْ
أي لا تقبضهم.
﴿ وََيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ﴾ أي ما كسبتم لأنه مستفاد بعمل الجارحة، ومنه جوارح الطير لأنها كواسب بجوارحها، وجَرْحُ الشهادة هو الطَّعْن فيها لأنه مكسب الإثم، قاله الأعشى :
وهوَ الدَّافِعُ عن ذي كُرْبَةٍ أيْدِي القَوْمِ إذا الْجَانِي اجْتَرَحْ
﴿ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ﴾ يعني في النهار باليقظة، وتصرف الروح بعد قبضها بالنوم.
﴿ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمّىً ﴾ يعني استكمال العمر وانقضاء الأجل بالموت.
﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ يعني بالبعث والنشور في القيامة.
﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ في الدنيا من خير وشر.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه أعلى قهراً، فلذلك قال :﴿ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾.
والثاني : أن الأقدر إذا استحق صفة المبالغة عبَّر عنه بمثل هذه العبارة، فقيل : هو فوقه في القدرة أي أقدر، وفوقه في العلم أي أعلم.
﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه جوارحهم التي تشهد عليهم بما كانوا يعملون.
والثاني : الملائكة. ويحتمل ﴿ حَفَظَةً ﴾ وجهين :
أحدهما : حفظ النفوس من الآفات.
والثاني : حفظ الأعمال من خير وشر، ليكون العلم بإتيانها أزجر عن الشر، وأبعث على الخير.
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ يعني أسباب الموت، بانقضاء الأجل.
فإن قيل : المتولِّي لقبض الروح مَلَك الموت، وقد بين ذلك بقوله تعالى :﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم ﴾ [ السجدة : ١١ ] فكيف قال :﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ والرسل جمع.
قيل : لأن الله أعان مَلَك الموت بأعوان من عنده يتولون ذلك بأمره، فصار التوفِّي من فعل أعوانه، وهو مضاف إليه لمكان أمره، كما يضاف إلى السلطان فعل أعوانه من قتل، أو جلد، إذا كان عن أمره.
﴿ وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لا يؤخرون.
الثاني : لا يُضَيِّعُونَ، قاله ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُم الْحَقِّ ﴾ وفي متولِّي لرد قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة التي توفتهم.
والثاني : أنه الله بالبعث والنشور.
وفي ردهم إلى الله وجهان :
أحدهما : معناه ردهم إلى تدبير الله وحده، لأن الله دبرهم عند خلقهم وإنشائهم، مكَّنهم من التصرف فصاروا في تدبير أنفسهم، ثم كَفَّهم عنه بالموت فصاروا في تدبير الله كالحالة الأولى، فصاروا بذلك مردودين إليه.
والثاني : أنهم ردوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله، فجعل الرد إلى ذلك الموضع رداً إليه.
فإن قيل : فكيف قال :﴿ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ ﴾ وقد قال :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم ﴾ [ محمد : ١١ ]. قيل : عنه جوابان :
أحدهما : أنه قال هذا لأنهم دخلوا في جملة غيرهم من المؤمنين المردودين فعمَّهم اللفظ.
412
والثاني : أن المولى قد يعبر به عن الناصر تارة وعن السيد أخرى، والله لا يكون ناصراً للكافرين، وهو سيد الكافرين والمؤمنين.
و ﴿ الْحَقِّ ﴾ هنا يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدهما : أن الحق هو من أسمائه تعالى.
والثاني : لأنه مستحق الرد عليه.
والثالث : لحُكْمِهِ فيهم بالرد.
﴿ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ﴾ يعني القضاء بين عباده.
فإن قيل : فقد جعل لغيره الحكم؟
فعنه جوابان :
أحدهما : أن له الحكم في يوم القيامة وحده.
والثاني : أن غيره يحكم بأمره فصار الحكم له.
ويحتمل قوله :﴿ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ﴾ وجهاً ثانياً : أن له أن يحكم لنفسه فصار بهذا الحكم مختصاً.
﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني سرعة الحكم بين العباد لتعجيل الفصل، وعبر عن الحكم بالحساب من تحقيق المستوفِي بهما من قليل وكثير.
والثاني : وهو الظاهر أنه أراد سرعة محاسبة العباد على أعمالهم.
ويحتمل مراده بسرعة حسابه وجهين.
أحدهما : إظهار قدرته بتعجيل ما يعجز عنه غيره.
والثاني : أنه يبين به تعجيل ما يستحق عليه من ثواب، وتعجيل ما يستحق على غيره من عقاب جمعاً بين إنصافه وانتصافه.
413
قوله تعالى :﴿ قَلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن العذاب الذي من فوقهم الرجم، والذي من تحت أرجلهم الخسف، قاله ابن جبير، ومجاهد، وأبو مالك.
والثاني : أن العذاب الذي من فوقهم أئمة السوء، والعذاب الذي من تحت أرجلهم عبيد السوء، قاله ابن عباس.
والثالث : أن الذي من فوقهم الطوفان، والذي من تحت أرجلهم الريح، حكاه علي بن عيسى.
ويحتمل أن العذاب الذي من فوقهم طوارق السماء التي ليست من أفعال العباد لأنها فوقهم، والتي من تحت أرجلهم ما كان من أفعال العباد لأن الأرض تحت أرجل جميعهم.
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنها الأهواء المُخْتَلَقَة، قاله ابن عباس.
والثاني : أنها الفتن والاختلاف، قاله مجاهد.
ويحتمل ثالثاً : أي يسلط عليكم أتباعكم الذين كانوا أشياعكم، فيصيروا لكم أعداء بعدما كانوا أولياء، وهذا من أشد الانتقام أن يستعلي الأصاغر على الأكابر.
روي أن موسى بن عمران عليه السلام دعا ربه على قوم فأوحى الله إليه : أو ليس هذا هو العذاب العاجل الأليم.
هذا قول المفسرين من أهل الظاهر، وَتَأَوَّلَ بعض المتعمقين في غوامض المعاني ﴿ عَذَاباً مِن فَوقِكُمْ ﴾ معاصي السمع والبصر واللسان ﴿ أَوْمِن تَحْتِ أَرْجلِكُمْ ﴾ المشي إلى المعاصي حتى يواقعوها، وما بينهما يأخذ بالأقرب منهما ﴿ أَوَيَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ يرفع من بينكم الأُلفة.
﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ تكفير أهل الأهوال بعضهم بعضاً، وقول الجمهور :﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ يعني بالحروب والقتل حتى يفني بعضهم بعضاً، لأنه لم يجعل الظفر لبعضهم فيبقى.
﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : نفصل آيات العذاب وأنواع الانتقام.
والثاني : نصرف كل نوع من الآيات إلى قوم ولا يعجزنا أن نجمعها على قوم.
﴿ لَعَلَّهُم يَفْقَهُونَ ﴾ أي يتعظون فينزجرون.
واختلف أهل التأويل في نزول هذه الآية على قولين :
أحدهما : أنها في أهل الصلاة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأن نزولها شق على النبي ﷺ، [ فقام ] فصلى صلاة الضحى وأطالها فقيل له : ما أطلت صلاة كاليوم، فقال :« إِنَّهَا صَلاَةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، إنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُجِيرَنِي مِنْ أَرْبعٍ فَأَجَارَنِي مِنْ خَصْلَتِينِ وَلَمْ يُجِرْنِي مِنْ خَصْلَتَينِ : سَأَلْتُهُ أَلاَّ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِعَذَابٍ مِنْ فَوقِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَومِ نُوْحٍ، وَبِقَومِ لُوطٍ فَأَجَارَنِي، وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يَهْلِكَ أُمَّتِي بعذَاب مِنْ تَحْتِ أَرْجلِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَارُونَ فَأَجَارنِي، وَسَأَلْتُهُ أََلاَّ يُفَرِّقَهُمْ شِيَعاً فَلَمْ يُجِرْنِي، وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يُذِيقَ بَعْضَهُم بَأْسَ بَعْضٍ فَلَمْ يُجِرْنِي » وَنَزَلَ عَلَيهِ قَولُه تعالى :﴿ الم أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٢١ ]
والقول الثاني : أنها نزلت في المشركين، قاله بعض المتأخرين.
قوله تعالى :﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ وفيما كذَّبوا به قولان :
أحدهما : أنه القرآن، قاله الحسن، والسدي.
والثاني : تصريف الآيات، قاله بعض المتأخرين.
﴿ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ يعني ما كذَّبوا به، والفرق بين الحق والصواب أن الحق قد يُدْرَكُ بغير طلب، والصواب لا يُدْرَكُ إلا بطلب.
﴿ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه لست عليكم بحفيظ لأعمالكم لأجازيكم عليها، وإنما أنا منذر، قاله الحسن.
والثاني : لست عليكم بحفيظ أمنعكم من أن تكفروا، كما يمنع الوكيل على الشيء من إلحاق الضرر به، قاله بعض المتأخرين.
والثالث : معناه لست آخذكم بالإِيمان اضطراراً وإجباراً، كما يأخذ الوكيل بالشيء، قاله الزجاج.
﴿ لِّكُلِ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدهما : معناه أن لكل خَبَرٍ أَخْبَرَ الله تعالى به من وعد أو وعيد مستقراً في مستقبل الوقت أو ماضيه أو حاضره في الدنيا وفي الآخرة، وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد.
والثاني : أنه وعيد من الله للكافرين في الآخرة لأنهم لا يقرون بالبعث، قاله الحسن.
والثالث : أنه وعيد لهم بما ينزل بهم في الدنيا، قاله الزجاج.
قوله تعالى :﴿ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : وما على الذين يتقون الله في أوامره ونواهيه من حساب الكفار فيما فعلوه من الاستهزاء والتكذيب مآثم يؤاخذون بها، ولكن عليهم أن يذكروهم بالله وآياته لعلهم يتقون ما هم عليه من الاستهزاء والتكذيب، قاله الكلبي.
والثاني : وما على الذين يتقون الله من الحساب يوم القيامة ما على الكفار في الحساب من التشديد والتغليظ لأن محاسبة المتقين ذكرى وتخفيف، ومحاسبة الكفار تشديد وتغليظ لعلهم يتقون إذا علموا ذلك.
والثالث : وما على الذين يتقون الله فيما فعلوه من رد وصد حساب، ولكن اعدلوا إلى الذكرى لهم بالقول قبل الفعل، لعلهم يتقون إذا علموا.
ويحتمل هذا التأويل وجهين :
أحدهما : يتقون الاستهزاء والتكذيب.
والثاني : يتقون الوعيد والتهديد.
قوله تعالى :﴿ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الكفار الذين يستهزئون بآيات الله إذا سمعوها، قاله علي بن عيسى.
والثاني : أنه ليس قوم لهم عيد يلهون فيه إلا أمة محمد ﷺ، فإن أعيادهم صلاة وتكبير وبر وخير، قاله الفراء.
﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : معناه وغرتهم الحياة الدنيا بالسلامة فيها، ونيل المطلوب منها.
والثاني : معناه وغرتهم الدنيا بالحياة والسلامة منها، فيكون الغرور على الوجه الأول بالحياة، وعلى الثاني بالدنيا.
﴿ وَذَكَّرَ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ قيل معناه أن لا تبسل كما قال تعالى :﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] بمعنى أن لا تضلوا.
وفي قوله :﴿ أَن تُبْسَلَ ﴾ ستة أوجه :
أحدها : أن تسلم، قاله الحسن، وعكرمة، ومجاهد، والسدي.
والثاني : أن تُحْبَس، قاله قتادة.
والثالث : أن تُفْضح، قاله ابن عباس.
والرابع : أن تُؤْخَذ بما كسبت، قاله ابن زيد.
والخامس : أن تُجْزَى، قاله الكلبي.
والسادس : أن تُرْتَهن، قاله الفراء، من قولهم أسد باسل لأن فريسته مُرْتَهَنَة معه لا تَفْلِت منه، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي :
وإبسالي بني بغير جرم بعوناه ولا بدم مراق
وقوله : بعوناه أي جنيناه، وأصل الإبسال التحريم من قولهم : شراب بَسْل اي حرام، قال الشاعر :
بَكَرت تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ في النَّدى بسلٌ عليكِ مَلاَمَتِي وَعِتَابي
أي حرام عليك.
وفي قوله تعالى :﴿... وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ﴾ تأويلان :
أحدهما : معناه وإن تفد كل فدية من جهة المال والثروة، قاله قتادة، والسدي، وابن زيد.
والثاني : من جهة الإِسلام والتوبة، قاله الحسن.
واختلف في نسخها على قولين :
أحدهما : أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم ﴾ [ التوبة : ٥ ] قاله قتادة.
والثاني : أنها ثابتة على جهة التهديد كقوله تعالى :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾ [ المدثر : ١١ ]، قاله مجاهد.
قوله تعالى :﴿ قَلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ﴾ يعني الأصنام، وفي دعائها في هذا الموضع تأويلان :
أحدهما : عبادتها.
والثاني : طلب النجاح منها.
فإن قيل : فكيف قال ولا يضرنا؟ ودعاؤها لما يستحق عليه من العقاب ضارٌّ؟
قيل : معناه ما لا يملك لنا ضراً ولا نفعاً.
﴿ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ بالإِسلام.
﴿ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ... ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه استدعاؤها إلى قصدها واتباعها، كقوله تعالى :﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيهِم ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] أي تقصدهم وتتبعهم.
والثاني : أنها أَمْرُهَا بالهوى.
وحكى أبو صالح عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وامرأته حين دعَوا ابنهما عبد الرحمن إلى الإِسلام والهدى أن يأتيهما.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ في الحق الذي خلق به السموات والأرض أربعة أقاويل :
أحدها : أنه الحكمة.
والثاني : الإِحسان إلى العباد.
والثالث : نفس خلقها فإنه حق.
والرابع : يعني بكلمة الحق.
﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن يقول ليوم القيامة : كن فيكون، لا يثنِّي إليه القول مرة بعد أخرى، قاله مقاتل.
والثاني : أنه يقول للسموات كوني صوراً يُنْفَخ فيه لقيام الساعة، فتكون صوراً مثل القرآن، وتبدل سماءً أخرى، قاله الكلبي.
وفي قوله تعالى :﴿... وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ قولان :
أحدهما : أن الصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء، والثانية للإِنشاء علامة للانتهاء والابتداء، وهو معنى قوله تعالى :﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٨ ].
والثاني : أن الصور جمع صورة تنفخ فيها روحها فتحيا.
ثم قال تعالى :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ... ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى خلق السموات والأرض، والغيب ما يغيب عنكم، والشهادة ما تشاهدون.
والثاني : أنه عائد إلى نفخ الصور هو عالم الغيب والشهادة المتولي للنفخة.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ ءَازَرَ... ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدهما : أن آزر اسم أبيه، قاله الحسن، والسدي، ومحمد بن إسحاق، قال محمد : كان رجلاً من أهل كوتى قرية من سواد الكوفة.
والثاني : أن آزر اسم صنم، وكان اسم أبيه تارح، قال مجاهد.
والثالث : أنه ليس باسم، وإنما هو صفة سب بعيب، ومعناه معوج، كأنه عابه باعوجاجه عن الحق، قاله الفراء.
فإن قيل : فكيف يصح من إبراهيم - وهو نبي - سبَّ أباه؟
قيل : لأنه سبّه بتضييعه حق الله تعالى، وحق الوالد يسقط في تضييع حق الله.
قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ﴾ ذلك وذاك وذا : إشارات، إلا أن ذا لما قَرُبَ، وذلك لما بَعُد، وذاك لتفخيم شأن ما بَعُدَ.
وفي المراد بملكوت السموات والأرض خمسة أوجه :
أحدها : أنه خلق السموات والأرض، قاله ابن عباس.
والثاني : مُلْك السموات والأرض.
واختلف من قال بهذا فيه على وجهين :
أحدهما : أن الملكوت هو المُلْك بالنبطية، قاله مجاهد.
والثاني : أنه المُلْك بالعربية، يقال مُلْك وملكوت كما يقال رهبة ورهبوت، ورحمة ورحموت، والعرب تقول : رهبوت خير من رحموت، أي أن نُرْهَب خير من أن نُرْحَم، قاله الأخفش.
والثالث : معناه آيات السموات والأرض، قاله مقاتل.
والرابع : هو الشمس والقمر والنجوم، قاله الضحاك.
والخامس : أن ملكوت السماوات : القمر، والنجوم، والشمس، وملكوت الأرض : الجبال، والشجر، والبحار، قاله قتادة.
﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : من الموقنين لوحدانية الله تعالى وقدرته.
والثاني : من الموقنين نبوته وصحة رسالته. قوله تعالى :﴿ فَلمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيلُ رَءَا كَوْكَباً ﴾ قال مجاهد : ذكر لنا أنه رأى الزهرة طلعت عشاءً.
﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ ومعنى جَنَّ عليه الليل، أي ستره، ولذلك سمي البستان جَنَة لأن الشجر يسترها، والجِنُّ لاستتارهم عن العيون، والجُنُون لأنه يستر العقل، والجَنِين لأنه مستور في البطن، والمِجَنّ لأنه يستر المتترس، قال الهذلي :
وماء وردت قيل الكرى وقد جنه السدف الأدهم
وفي قوله تعالى :﴿ هَذَا رَبِّي ﴾ خمسة أقاويل :
أحدها : أنه قال : هذا ربي في ظني، لأنه في حال تقليب واستدلال.
والثاني : أنه قال ذلك اعتقاداً أنه ربه، قاله ابن عباس.
والثالث : أنه قال ذلك في حال الطفولية والصغر، لأن أمه ولدته في مغارة حذراً عليه من نمرود، فلما خرج عنه قال هذا القول قبل قيام الحجة عليه، لأنها حال لا يصح فيها كفر ولا إيمان، ولا يجوز أن يكون قال ذلك بعد البلوغ.
والرابع : أنه لم يقل ذلك قول معتقد، وإنما قاله على وجه الإِنكار لعبادة الأصنام، فإذا كان الكوكب والشمس القمر وما لم تصنعه يد ولا عَمِلَه بشر لم تكن معبودة لزوالها، فالأصنام التي هي دونها أولى ألاّ تكون معبودة.
418
والخامس : أنه قال ذلك توبيخاً على وجه الإِنكار الذي يكون معه ألف الاستفهام وتقديره : أهذا ربي، كما قال الشاعر :
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجه هم هم
بمعنى أهم هم؟
﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾ أي غاب، قال ذو الرمة :
مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك
﴿ قَالَ لاَ أُحِبُّ الأفِلِينَ ﴾ يعني حُبَّ رَبٍّ معبود، وإلا فلا حرج في محبتهم غير حب الرب.
﴿ فَلمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغاً ﴾ أي طالعاً، وكذلك بزغت الشمس أي طلعت.
فإن قيل : فَلِمَ كان أفولها دليلاً على أنه لا يجوز عبادتها وقد عبدها مع العلم بأفولها خلق من العقلاء؟ قيل لأن تغيرها بالأفول دليل على أنها مُدَبَّرة محدثة، وما كان بهذه الصفة استحال أن يكون إلهاً معبوداً.
419
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلمٍ ﴾ في الظلم ها هنا قولان :
أحدهما : أنه الشرك، قاله ابن مسعود، وأُبَيّ بن كعب، روى ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين فقالوا : ما منَّا من أحد إلا وهو يظلم نفسه، فقال رسول الله ﷺ :« لَيسَ كَمَا تَظُنُّونَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لَقْمَانُ لابْنِه » ﴿ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الْشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ].
والثاني : أنه سائر أنواع الظلم.
ومن قال بهذا اختلفوا في عمومها وخصوصها على قولين :
أحدهما : أنها عامة.
والثاني : أنها خاصة.
واختلف من قال بتخصيصها فيمن نزلت على قولين :
أحدهما : أن هذه الآية نزلت في إبراهيم خاصة وليس لهذه الأمة منها شيء، قاله علي كرّم الله وجهه.
والثاني : أنها فيمن هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة.
واختلفوا فيمن كانت هذه الآية جواباً منه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه جواب من الله تعالى فصل به بين إبراهيم ومن حَاجّه من قومه، قاله ابن زيد، وابن إسحاق.
والثاني : أنه جواب قومه لما سألهم ﴿ أَيُّ الْفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأمْنِ ﴾ ؟ فأجاوبا بما فيه الحجة عليهم، قاله ابن جريج.
والثالث : أنه جواب إبراهيم كما يسأل العالم نفسصه فيجيبها، حكاه الزجاج.
قوله تعالى :﴿ وَتَلْكَ جُجَّتُنآ ءَاتَينَاهآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ وفي هذه الحجة التي أوتيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : قوله لهم :﴿ أَتَعُْبدُونَ مِنْ دِونِ اللَّهِ مَا لاَ يمْلِكُ لَكُم ضَراً وَلاَ نَفْعاً ﴾ أم تعبدون من يملك الضر والنفع؟ فقالوا : مالك الضر والنفع أحق.
والثاني : أنه لما قال :﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأمْنِ ﴾ عبادة إله واحد أم آلهة شتى؟ فقالوا : عبادة إله واحد فأقروا على أنفسهم.
والثالث : أنهم لما قالوا لإِبراهيم ألا تخاف أن تخبلك آلهتنا؟ فقال : أما تخافون أن تخبلكم آلهتكم بجمعكم للصغير مع الكبير في العبادة.
واختلفوا في سبب ظهور الحجَّة لإبراهيم على قولين :
أحدهما : أن الله تعالى أخطرها بباله حتى استخرجها بفكره.
والثاني : أنه أمره بها ولقنه إياها.
﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَشَاءُ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : عند الله بالوصول لمعرفته.
والثاني : على الخلق بالاصطفاء لرسالته.
والثالث : بالسخاء.
والرابع : بحسن الخلق.
وفيه تقديم وتأخير، وتقديره : نرفع من نشاء درجات.
قوله تعالى :﴿... فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلآءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ فيهم خمسة أقاويل :
أحدها : فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الأنصار، قاله الضحاك.
والثاني : فإن يكفر بها أهل مكة فقد وكلنا بها أهل المدينة، قاله ابن عباس.
والثالث : فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الملائكة، قاله أبو رجاء.
والرابع : أنهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى من قبل بقوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾، قاله الحسن، وقتادة.
والخامس : أنهم كل المؤمنين، قاله بعض المتأخرين.
ومعنى قوله :﴿ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا ﴾ أي أقمنا بحفظها ونصرتها، يعني : كتب الله وشريعة دينه.
قوله تعالى :﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : وما عظموه حق عظمته، قاله الحسن، والفراء، والزجاج.
والثاني : وما عرفوه حق معرفته، قاله أبو عبيدة.
والثالث : وما وصفوه حق صفته، قاله الخليل.
والرابع : وما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير، قاله ابن عباس.
﴿ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ ﴾ يعني من كتاب من السماء.
وفي هذا الكتاب الذي أنكروا نزوله قولان :
أحدهما : أنه التوراة، أنكر حبر اليهود فيما أنزل منها ما روي أن النبي ﷺ رأى هذا الحبر اليهودي سميناً، فقال له :« أَمَا تَقْرَءُونَ فِي التَّورَاةِ : أَنَّ اللَّه يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَ » فغضب من ذلك وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء، فتبرأت منه اليهود ولعنته، حكاه ابن بحر.
والقول الثاني : أنه القرآن أنكروه رداً لأن يكون القرآن مُنَزَّلاً.
وفي قائل ذلك قولان :
أحدهما : قريش.
والثاني : اليهود.
فرد الله تعالى عليهم بقوله :﴿ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى ﴾ يعني التوراة لاعترافهم بنزولها.
ثم قال :﴿ نُوراً وَهُدىً لِّلنَّاسِ ﴾ لأن المنزل من السماء لا يكون إلا نوراً وهدىً.
ثم قال :﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾ يعني أنهم يخفون ما في كتابهم من بنوة محمد ﷺ، وصفته وصحة رسالته.
قوله تعالى :﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلَنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ يعني القرآن، وفي ﴿ مُبارَكٌ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه العظيم البركة لما فيه من الاستشهاد به.
والثاني : لما فيه من زيادة البيان لأن البركة هي الزيادة.
والثالث : أن المبارك الثابت.
﴿ مُّصَدِقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : الكتب التي قبله من التوراة، والإِنجيل، وغيرهما، قاله الحسن البصري.
والثاني : النشأة الثانية، قاله علي بن عيسى.
﴿ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى ﴾ يعني أهل أم القرى، فحذف ذكر الأهل إيجازاً كما قال :﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [ يوسف : ٨٢ ].
و ﴿ أُمَّ الْقُرَى ﴾ مكة وفي تسميتها بذلك أربعة أقاويل :-
أحدها : لأنها مجتمع القرى، كما يجتمع الأولاد إلى الأم.
والثاني : لأن أول بيت وضع بها، فكأن القرى نشأت عنها، قاله السدي.
والثالث : لأنها معظمة كتعظيم الأم، قاله الزجاج.
والرابع : لأن الناس يؤمونها من كل جانب، أي يقصدونها.
ثم قال :﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ قال ابن عباس : هم أهل الأرض كلها.
﴿ وَالَّذِينَ يَؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ وفيما ترجع إليه هذه الكناية قولان :
أحدهما : إلى الكتاب، وتقديره : والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بهذا الكتاب، قاله الكلبي.
والثاني : إلى محمد ﷺ، وتقديره : والذين يؤمنون بالآخرة، يؤمنون بمحمد ﷺ لِمَا قد أظهر الله تعالى من معجزته وأَبَانَه الله من صدقه، قاله الفراء.
فإن قيل : فيمن يؤمن بالآخرة من أهل الكتاب لا يؤمنون به؟ قيل : لا اعتبار لإِيمانهم بها لتقصيرهم في حقها، فصاروا بمثابة من لم يؤمن بها.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيهِ شَيْءٌ ﴾ فيمن نزل فيه ذلك قولان :
أحدهما : أنه مسيلمة الكذاب، قاله عكرمة.
والثاني : مسيلمة والعنسي، قاله قتادة.
وقد روى معمر عن الزهري أن النبي ﷺ قال :« بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ كَأَنَّ فِي يَديَّ سُوَارَينِ مِن ذَهبٍ، فَكَبُرَ عليَّ، فَأُوحِي إِلَيَّ أَنْ أَنْفُخَهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُ ذَلِكََ كَذَّابَ اليَمَامَةِ وَكَذَّابَ صَنْعَاءَ العَنَسِي
»
. ﴿ وَمَن قَالَ سَأُنزِلَ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : من تقدم ذكره من مدعي الوحي والنبوة.
والثاني : أنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، قاله السدي، قال الفراء : كان يكتب للنبي ﷺ فإذا قال النبي :﴿ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ كتب ﴿ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ و ﴿ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ فيقول له النبي ﷺ :« هُمَا سَوَاء » حتى أملى عليه ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ ﴾ إلى قوله :﴿ خَلْقاً أَخَرَ ﴾ فقال ابن أبي السرح :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَْحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ تعجباً من تفصيل خلق الإِنسان، فقال النبي ﷺ :« هَكَذَا نَزَلَتْ » فشك وارتد.
والثالث : ما حكاه الحكم عن عكرمة : أنها نزلت في النضر بن الحارث، لأنه عارض القرآن، لأنه قال : والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، فاللاقمات لقماً.
وفي قوله :﴿ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ ﴾ قولان :
أحدهما : باسطوا أيديهم بالعذاب، قاله الحسن، والضحاك.
والثاني : باسطو أيديهم لقبض الأرواح من الأجساد، قاله الفراء.
ويحتمل ثالثاً : باسطوا أيديهم بصحائف الأعمال.
﴿ أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : من أجسادكم عند معاينة الموت إرهاقاً لهم وتغليظاً عليهم، وإن كان إخراجها من فعل غيرهم.
والثاني : أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم، تقريعاً لهم وتوبيخاً بظلم أنفسهم، قاله الحسن.
ويحتمل ثالثاً : أن يكون معناه خلصوا أنفسكم بالاحتجاج عنها فيما فعلتم.
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ والهون بالضم الهوان، قاله ذو الأصبع العدواني :
أذهب إليك أمي براعية ترعى المخاض ولا أغضي على الهون
وأما الهَوْن بالفتح فهو الرفق ومنه قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوناً ﴾ يعني برفق وسكينة، قال الراجز :
هونكما لا يرد الدهر ما فاتا لا تهلكن أسى في أثر من ماتا
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ الفرادى الواحدان، ويحتمل وجهين :
أحدهما : فرادى من الأعوان.
والثاني : فرادى من الأموال.
﴿ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ يعني ما ملكناكم من الأموال، والتخويل تمليك المال، قال أبو النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخل كوم الذرى من خول المخول
﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُم شُفعاءَكُمُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : آلهتهم التي كانوا يعبدونها، قاله الكلبي.
والثاني : الملائكة الذين كانوا يعتقدون شفاعتهم، قاله مقاتل.
423
﴿ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني شفعاء، قاله الكلبي.
والثاني : أى متحملين عنكم تحمل الشركاء عن الشركاء.
﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تفرق جمعكم في الآخرة.
والثاني : ذهب تواصلكم في الدنيا، قاله مجاهد.
ومن قرأ ﴿ بَيْنَكُمْ ﴾ بالفتح، فمعناه تقطع الأمر بينكم.
﴿ وَضَلَّ عَنَكُم مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من عدم البعث والجزاء.
والثاني : من شفعائكم عند الله.
فإن قيل : فقوله :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا ﴾ خبر عن ماض، والمقصود منه الاستقبال؟
فعن ذلك جوابان. أحدهما : أنه يقال لهم ذلك في الآخرة فهو على الظاهر إخبار.
والثاني : أنه لتحققه بمنزلة ما كان، فجاز، وإن كان مستقبلاً أن يعبر عنه بالماضي.
424
قوله تعالى :﴿... فَالِقُ الْحَبِّ وَالْنُّوَى ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني فالق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة، قاله الحسن. وقتادة، والسدي، وابن زيد.
والثاني : أن الفلق الشق الذي فيهما، قال مجاهد.
والثالث : أنه يعني خالق الحب والنوى، قاله ابن عباس.
وذكر بعض أصحاب الغوامض قولاً رابعاً : أنه مُظْهِرُ ما في حبة القلب من الإخلاص، والرياء.
﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الَحيِّ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة، والنخلة الحية من النواة الميتة، ويعني بإخراج الميت من الحي أن يخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية، والنواة الميتة من النخلة الحية، قاله السدي.
والثاني : أن يخرج الإِنسان من النطفة، والنطفة من الإِنسان، قاله ابن عباس.
والثالث : يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، قاله الحسن.
وقد ذكرنا فيه احتمالاً، أنه يخرج الفَطِن الجَلْد من البليد العاجز، ويخرج البليد العاجز من الفَطِن الجَلْد.
﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي تصرفون عن الحق.
﴿ فَالِقُ الإِصْبَاحِ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : فالق الإِصباح، قاله قتادة.
والثاني : أنه إضاءة الفجر، قاله مجاهد.
والثالث : أن معناه خالق نور النهار، وهذا قول الضحاك.
والرابع : أن الإِصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، قاله ابن عباس.
﴿ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه سُمِّي سكناً لأن كل متحرك بالنهار يسكن فيه.
والثاني : لأن كل حي يأوي فيه إلى مسكنه.
﴿ وَالشَّمْسَ والْقَمَرَ حُسْبَاناً ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه يجريان في منازلهما بحساب وبرهان فيه بدء ورد إلى زيادة ونقصان، قاله ابن عباس والسدي.
والثاني : أي جعلهما سبباً لمعرفة حساب الشهور والأعوام.
والثالث : أي جعل الشمس والقمر ضياء، قاله قتادة، وكأنه أخذه من قوله تعالى :﴿ وَيُرْسِلَ عَلَيهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَآءِ ﴾ [ الكهف : ٤٠ ] قال : ناراً.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِّن نَّفْسِ وَاحِدَةٍ ﴾ يعني آدم عليه السلام.
﴿ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَودَعٌ ﴾ فيه ستة تأويلات :
أحدها : فمستقر في الأرض ومستودع في الأصلاب، قاله ابن عباس.
والثاني : فمستقر في الرحم ومستودع في القبر، قاله ابن مسعود.
والثالث : فمستقر في أرحام النساء ومستودع في أصلاب الرجال، قاله عطاء، وقتادة.
والرابع : فمستقر في الدنيا ومستودع في الآخرة، قاله مجاهد.
والخامس : فمستقر في الأرض ومستودع في القبر، قاله الحسن.
والسادس : أن المستقر ما خُلِق، والمستودع ما لم يُخلق، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معناه رزق كل شيء من الحيوان.
والثاني : نبات كل شيء من الثمار.
﴿ فَأَخْرجْنَا مِنهُ خَضِراً ﴾ يعني زرعاً رطباً بخلاف صفته عند بذره.
﴿ نُّخْرِجُ مِنهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ﴾ يعني السنبل الذي قد تراكب حبه.
﴿ وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيةٌ ﴾ القنوان جمع قنو وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدهما : أنه الطلع، قاله الضحاك.
والثاني : أنه الجمار.
والثالث : هي الأعذاق، قال امرؤ القيس
أثت أعاليه وآدت أصوله ومال بقنوان من البسر أحمرا
﴿ دَانِيَةٌ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : دانية من المجتني لقصر نخلها وقرب تناولها، قاله ابن عباس.
والثاني : داينة بعضها من بعض لتقاربها، قاله الحسن.
﴿ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾ يعني بساتين من أعناب.
﴿ مُشْتَبِهاً وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مشتبها ورقه مختلفاً ثمره، قال قتادة.
والثاني : مشتبهاً لونه مختلفاً طعمه، قاله الكلبي.
﴿ انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالضم، وقرأ الباقون بالفتح، وفي اختلافه بالضم والفتح قولان :
أحدهما : أن الثُّمُر بالضم جمع ثمار، وبالفتح جمع ثمرة، قاله علي بن عيسى.
والثاني : أن الثُّمُر بالضم : المال، وبالفتح : ثمر النخل، قاله مجاهد، وأبو جعفر الطبري.
﴿ وَيَنْعِهِ ﴾ يعني نضجة وبلوغه.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المجوس نسبت الشر إلى إبليس، وتجعله بذلك شريكاً لله.
والثاني : أن مشركي العرب جعلوا الملائكة بنات الله وشركاء له، قاله قتادة، والسدي، وابن زيد كقوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ بَينَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ فَسَمَّى الملائكة لاختفائهم عن العيون جنة.
والثالث : أنه أطاعوا الشيطان في عبادة الأوثان حتى جعلوها شركاء لله في العبادة، قاله الحسن، والزجاج.
﴿ وَخَلَقَهُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه خلقهم بلا شريك [ له ]، فَلِمَ جعلوا له في العبادة شريكاً؟.
والثاني : أنه خلق من جعلوه شريكاً فكيف صار في العبادة شريكاً.
وقرأ يحيى بن يعمر ﴿ وَخَلْقَهُمْ ﴾ بتسكين اللام. ومعناه أنهم جعلوا خلقهم الذي صنعوه بأيديهم من الأصنام لله شريكاً.
﴿ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ في خرقوا قراءتان بالتخفيف والتشديد، وفيه قولان :
أحدهما : أن معنى خرقوا كذبوا، قاله مجاهد، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد.
والثاني : معناه وخلقوا له بنين وبنات، والخلق والخرق واحد، قاله الفراء.
والقول الثاني : أن معنى القراءتين مختلف، وفي اختلافهما قولان :
أحدهما : أنها بالتشديد على التكثير.
والثاني : أن معناها بالتخفيف كذبوا، وبالتشديد اختلفوا.
والبنون قول النصارى في المسيح أنه ابن الله، وقول اليهود أن عزيراً ابن الله.
والبنات قول مشركي العرب في الملائكة أنهم بنات الله.
﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : بغير علم منهم أن له بنين وبنات.
والثاني : بغير حجة تدلهم على أن له بنين وبنات.
قوله تعالى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ﴾ فيه لأهل التأويل خمسة أقاويل :
أحدها : معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بالأبصار، واعتل قائل هذا بقوله :﴿ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ﴾ فوصف الله الغرق بأنه أدرك فرعون، وليس الغرق موصوفاً بالرؤية، كذلك الإدراك هنا، وليس ذلك بمانع من الرؤية بالإِبصار، غير أن هذا اللفظ لا يقتضيه وإن دل عليه قوله :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾.
والقول الثاني : معناه لا تراه الأبصار وهو يرى الأبصار، واعتل قائلو ذلك بأمرين :
أحدهما : أن الأبصار ترى ما بينها ولا ترى ما لاصقها، وما بين البصر فلا بد أن يكون بينهما فضاء، فلو رأته الأبصار لكان محدوداً ولخلا منه مكان، وهذه صفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان.
والثاني : أن الأبصار تدرك الألوان كما أن السمع يدرك الأصوات، فلما امتنع أن يكون ذا لون امتنع أن يكون مرئياً، كما أن ما امتنع أن يكون ذا صوت امتنع أن يكون مسموعاً.
والقول الثالث : لا تدركه أبصار الخلق في الدنيا بدليل قوله :﴿ لاَ تَدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾ وتدركه في الآخرة بدليل قوله :﴿ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٣ ] وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة.
والرابع : لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة، وتدركه أبصار المؤمنين، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة، لأن الإِدراك له كرامة تنتفي عن أهل المعاصي.
والقول الخامس : أن الأبصار لا تدركه في الدنيا والآخرة، ولكن الله يحدث لأوليائه حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس يرونه بها، اعتِلاَلاً بأن الله أخبر برؤيته، فلو جاز أن يُرَى في الآخرة بهذه الأبصار وإن زِيْدَ في قواها جاز أن يرى بها في الدنيا وإن ضعفت قواها بأضعف من رؤية الآخرة، لأن ما خُلِقَ لإِدراك شيء لا يُعْدَمُ إدراكه، وإنما يختلف الإِدراك بحسب اختلاف القوة والضعف، فلما كان هذا مانعاً من الإدراك - وقد أخبر الله تعالى بإدراكه - اقتضى أن يكون ما أخبر به حقاً لا يدفع بالشبه، وذلك بخلق حاسة أخرى يقع بها الإِدراك.
ثم قال :﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ فاحتمل وجهين من التأويل :
أحدهما : لطيف بعباده في الإِنعام عليهم، خبير بمصالحهم.
والثاني : لطيف في التدبير خبير بالحكمة.
قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل.
والثاني : أن الآية تنصرف في معان متغايرة مبالغة في الإِعجاز ومباينة لكلام البشر.
والثالث : أنه اختلاف ما تضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي، ليكون أبلغ في الزجر، وأدعى إلى الإِجابة، وأجمع للمصلحة.
ثم قال تعالى :﴿ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ﴾ وفي الكلام حذف، وتقديره : ولئلا يقولوا درست، فحذف ذلك إيجازاً كقوله تعالى :﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ [ النساء : ١٦٧ ] أي لئلا تضلوا.
وفي ﴿ دَرَسْتَ ﴾ خمس قراءات يختلف تأويلها بحسب اختلافها :
إحداهن :﴿ َدَرَسْتَ ﴾ بمعنى قرأت وتعلمت، تقول ذلك قريش للنبي ﷺ، قاله ابن عباس، والضحاك، وهي قراءة حمزة، والكسائي.
والثانية :﴿ دَارَسْتَ ﴾ بمعنى ذاكرت وقارأت، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، ومروي عن ابن عباس، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو.
وفيها على هذه القراءة تأويل ثانٍ، أنها بمعنى خاصمت وجادلت.
والثالثة :﴿ دَرَسَتْ ﴾ بتسكين التاء بمعنى انمحت وتقادمت، قاله ابن الزبير، والحسن، وهي قراءة ابن عامر.
والرابعة :﴿ دُرِسَتْ ﴾ بضم الدال لما لم يسم فاعله تليت وقرئت، قاله قتادة.
والخامسة :﴿ دَرَسَ ﴾ بمعنى قرأ النبي ﷺ وتلا، وهذا حرف أبي بن كعب، وابن مسعود.
﴿ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْْلَمُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لقوم يعقلون.
والثاني : يعلمون وجوه البيان وإن لم يعلموا المبين.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَاْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ يعني اعتداء، وقرأ أهل مكة عَدُوّاً بالتشديد بمعنى أنهم اتخذوه عدوّاً. وفيه قولان :
أحدهما : لا تسبوا الأصنام فتسب عبدة الأصنام من يسبها، قاله السدي.
والثاني : لا تسبوها فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون كما سَبَبْتم ما يعبدون.
﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : كما زينا لكم فعل ما أمرناكم به من الطاعات كذلك زينا لمن تقدم من المؤمنين فعل ما أمرناهم به من الطاعات، قاله الحسن.
والثاني : كذلك شبهنا لكل أهل دين عملهم بالشبهات ابتلاء لهم حتى قادهم الهوى إليها وعَمُوا عن الرشد فيها.
والثالث : كما أوضحنا لكم الحِجج الدالة على الحق كذلك أوضحنا لمن قبلكم من حِجج الحق مثل ما أوضحنا لكم.
قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾ هؤلاء قوم من مشركي أهل مكة حلفوا بالله لرسوله ﷺ لئن جاءتهم آية اقترحوها ليؤمنن بها، قال ابن جريج : هم المستهزئون.
واختلف في الآية التي اقترحوها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن تجعل لنا الصفا ذهباً.
والثاني : ما ذكره الله في آخر :﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسِقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَينَا كِسَفَاً ﴾ إلى قوله :﴿ كِتَاباً نَقْرؤُهُ ﴾ فأمر الله نبيه حين أقسموا له أن يقول لهم ﴿ قُلْ إِنَّمَا الأَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾.
والثالث : أنه لما نزل قوله تعالى في الشعراء :﴿ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُم لَهَا خَاضِعِينَ ﴾ قال المشركون : أنزلها علينا حتى نؤمن بها إن كنت من الصادقين، فقال المؤمنون : يا رسول الله أنزلها عليهم ليؤمنوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله الكلبي :
وليس يجب على الله إجابتهم إلى اقتراحهم لا سيما إذا علم أنهم لا يؤمنون بها، واختلف في وجوبها عليه إذا علم إيمانهم بها على قولين وقد أخبر أنهم لا يؤمنون بقوله :﴿ وَمَا يُشْعُرِكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُم وَأَبْصَارَهُم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ وهذا من الله عقوبة لهم، وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها عقوبة من الله في الآخرة يقلبها في النار.
والثاني : في الدنيا بالحيرة حتى يزعج النفس ويغمها.
والثالث : معناه أننا نحيط بذات الصدور وخائنة الأعين منهم.
وفي قوله :﴿ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أول مرة جاءتهم الآيات.
والثاني : أن الأول أحوالهم في الدنيا كلها، ثم أكد الله تعالى حال عنتهم.
فقال :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ﴾ فيه قراءاتان :
إحداهما :﴿ قِبَلا ﴾ بكسر القاف وفتح الباء، قرأ بها نافع، وابن عامر، ومعنى ذلك معاينة ومجاهرة، قاله ابن عباس وقتادة.
والقراءة الثانية : بضم القاف والباء وهي قراءة الباقين، وفي تأويلها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن القُبُل جمع قبيل وهو الكفيل، فيكون معنى ﴿ قُبُلاً ﴾ أي كُفَلاء.
والثاني : أن معنى ذلك قبيلة قبيلة وصفاً صفاً، قاله مجاهد.
والثالث : معناه مقابلة، قاله ابن زيد، وابن إسحاق.
ثم قال :﴿ مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ يعني بهذه الآيات مع ما اقترحوها من قبل.
ثم قال :﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن يعينهم عليه.
والثاني : إلا أن يشاء أن يجبرهم عليه، قاله الحسن البصري.
ثم قال :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يجهلون فيما يقترحونه من الآيات.
والثاني : يجهلون أنهم لو أجيبوا إلى ما اقترحوا لم يؤمنوا طوعاً.
قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً ﴾ أي جعلنا للأنبياء أعداء كما جعلنا لغيرهم من الناس أعداء.
وفي ﴿ جَعَلْنَا ﴾ وجهان :
أحدهما : معناه حكمنا بأنهم أعداء.
والثاني : معناه تركناهم على العداوة، فلم نمنعهم منها.
وفي ﴿ شَيَاطِينَ الإْنسِ وَالْجِنِّ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني شياطين الإنس الذين مع الإنس، وشياطين الجن الذين مع الجن، قاله عكرمة، والسدي.
والثاني : شياطين الإنس كفارهم، وشياطين الجن كفارهم، قاله مجاهد.
والثالث : أن شياطين الإنس والجن مردتهم، قاله الحسن، وقتادة.
﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ في يوحي ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني يوسوس بعضهم بعضاً.
والثاني : يشير بعضهم إلى بعض، فعبر عن الإشارة بالوحي كقوله :﴿ فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ [ مريم : ١١ ] و ﴿ زُخْرُفَ الْقَوْلِ ﴾ ما زينوه لهم من الشبه في الكفر وارتكاب المعاصي.
والثالث : يأمر بعضهم بعضاً كقوله :﴿ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا ﴾ [ فصلت : ١٢ ] أي أمر.
ثم قال :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ما فعلوه من الكفر.
والثاني : ما فعلوا من زخرف القول.
وفي تركهم على ذلك قولان :
أحدهما : ابتلاء لهم وتمييزاً للمؤمنين منهم.
والثاني : لا يلجئهم إلى الإيمان فيزول التكليف.
قوله تعالى :﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ ﴾ أي تميل إليه قلوبهم، والإصغاء : الميل، قال الشاعر :
ترى السفيه به عن كل محكمة زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء
وتقدير الكلام، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ليغروهم ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وقال قوم : بل هي لام أمر ومعناها الخبر.
﴿ وَلِيَرْضَوْهُ ﴾ لأن من مَالَ قلبه إلى شيء رضيه وإن لم يكن مرضياً.
﴿ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : وليكتسبوا من الشرك والمعاصي ما هم مكتسبون، قاله جويبر.
والثاني : وليكذبوا على الله ورسوله ما هم كاذبون، وهو محتمل.
قوله تعالى :﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : معناه هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله حتى أعدل عنه.
والثاني : هل يجوز لأحد أن يحكم مع الله حتى أحتكم إليه.
والفرق بين الحَكَم والحَاكِم، أن الحَكَمَ هو الذي يكون أهلاً للحُكْم فلا يَحْكُمُ إلا بحق، والحَاكِمُ قد يكون من غير أهله فَيَحْكُمُ بغير حق، فصار الحَكَم من صفات ذاته، والحَاكِم من صفات فعله، فكان الحَكَم أبلغ في المدح من الحَاكِم.
ثم قال :﴿ وُهُوَ الَّذِيِّ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ﴾ في المفصَّل أربعة تأويلات :
أحدها : تفصيل آياته لتبيان معانيه فلا تُشْكِل.
والثاني : تفصيل الصادق من الكاذب.
والثالث : تفصيل الحق من الباطل، والهدى من الضلال، قاله الحسن.
والرابع : تفصيل الأمر من النهي، والمستحب من المحظور، والحلال من الحرام.
وسبب نزول هذه الآية أن مشركي قريش قالوا للنبي ﷺ : اجعل بيننا وبينك حَكَماً إن شئت من أحبار اليهود وإن شئت من أحبار النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، فنزلت عليه هذه الآية.
قوله تعالى :﴿ وَتَمَّتَ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ يعني القرآن، وفي تمامه أربعة أوجه محتملة :
أحدها : تمام حُجَجِهِ ودلائله.
والثاني : تمام أحكامه وأوامره.
والثالث : تمام إنذاره بالوعد والوعيد.
والرابع : تمام كلامه واستكمال صوره.
وفي قوله :﴿ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ وجهان :
أحدهما : صدقاً في وعده ووعهده، وعدلاً في أمره ونهيه، قاله ابن بحر.
والثاني : صدقاً فيما حكاه، عدلاً فيما قضاه، وهو معنى قول قتادة.
وقد مضى تفسير ﴿ لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإْثْمِ وَبَاطِنهُ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : سره وعلانيته، قاله مجاهد، وقتادة.
والثاني : ظاهر الإثم : ما حرم من نكاح ذوات المحارم بقوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتكُمْ... ﴾ الآية. وباطنه الزِّنى، قاله سعيد بن جبير.
والثالث : أن ظاهر الإثم أُوْلاَت الرايات من الزواني، والباطن ذوات الأخدان، لأنهن كُنَّ يستحللنه سراً، قاله السدي، والضحاك.
والرابع : أن ظاهر الإثم العِرية التي كانو يعملون بها حين يطوفون بالبيت عراة، وباطنه الزِّنى، قاله ابن زيد.
ويحتمل خامساً : أن ظاهر الإثم ما يفعله بالجوارح، وباطنه ما يعتقده بالقلب.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : المراد بها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها، قاله عطاء.
والثاني : أنها الميتة، قاله ابن عباس.
والثالث : أنه صيد المشركين الذين لا يذكرون اسم الله، ولا هم من أهل التسمية، يَحْرُمُ على المسلمين أن يأكلوه حتى يكونوا هم الذين صادوه، حكاه ابن بحر.
والرابع : أنه ما لم يُسَمَّ اللَّهُ عند ذبحه.
وفي تحريم أكله ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا يحرم [ سواء ] تركها عامداً أو ناسياً، قاله الحسن، والشافعي.
والثاني : يحرم إن تركها عامداً، ولا يحرم إن تركها ناسياً، قاله أبو حنيفة.
والثالث : يحرم سواء تركها عامداً أو ناسياً، قاله ابن سيرين، وداود.
﴿ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن المراد به المعصية، قاله ابن عباس.
والثاني : المراد به الإِثم.
﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوْحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ يعني المجادلة في الذبيحة، وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عنى بالشياطين قوماً من أهل فارس كتبوا إلى أوليائهم من قريش أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، ولا يأكلون ما ذبح الله يعني الميتة، ويأكلون ما ذبحوه لأنفسهم، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، قاله عكرمة.
والثاني : أن الشياطين قالوا ذلك لأوليائهم من قريش، قاله ابن عباس.
والثالث : أن قوماً من اليهود قالوا ذلك للنبي ﷺ، وهذا مروي عن ابن عباس. وفي وحيهم إليهم وجهان :
أحدهما : أنها إشارتهم.
والثاني : رسالتهم.
﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ يعني في أكل الميتة، إنكم لمشركون إن استحللتموها.
قوله تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كان ميتاً حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح [ فيه ]، حكاه ابن بحر.
والثاني : كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالهداية إلى الإيمان، حكاه ابن عيسى.
والثالث : كان ميتاً بالجهل فأحييناه بالعمل، أنشدني بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء البصرة.
وفي الجهل قبل الموت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرءا لم يحيى بالعلم ميت فليس له حتى النشور نشور
﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن النور القرآن، قاله الحسن.
والثاني : انه العلم الذي يهدي إلى الرشد.
والثالث : أنه حُسْنُ الإيمان.
وقوله :﴿ يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ينشر به ذكر دينه بين الناس في الدنيا حتى يصير كالماشي.
والثاني : يهتدي به بين الناس إلى الجنة فيكون هو الماشي.
﴿ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الظلمات الكفر.
والثاني : الجهل، وشبهه بالظلمة لأن صاحبه في حيرة تفضي به إلى الهلكة كحيرة الماشي في الظلمة.
واختلفوا في هذه الآية على قولين.
أحدهما : أنها على العموم في كل مؤمن وكافر، قاله الحسن وغيره من أهل العلم.
والثاني : أنها على الخصوص في مُعَيَّن.
وفيمن تعين نزول ذلك فيه قولان :
أحدهما : أن المؤمن عمر بن الخطاب، والكافر أبو جهل، قاله الضحاك. ومقاتل.
والثاني : أن المؤمن عمار بن ياسر، والكافر أبو جهل، قاله عكرمة، والكلبي.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ ﴾ يعني علامة تدل على صدق النبي ﷺ وصحة رسالته.
﴿ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لن نؤمن بالآية.
والثاني : لن نؤمن بالنبي ﷺ.
﴿ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : مثل ما أوتي رسل الله من الكرامة.
الثاني : مثل ما أوتوا من النبوة.
﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ قصد بذلك أمرين :
أحدهما : تفرد الله تعالى بعلم المصلحة فيمن يستحق الرسالة.
والثاني : الرد عليهم في سؤال ما لا يستحقونه، والمنع مما لا يجوز أن يسألوه.
﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجرَمُواْ صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ الصَّغَار : الذل سمي صَغَاراً لأنه يصغر إلى الإنسان نفسه.
وفي قوله :﴿ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : من عند الله، فحذف « من » إيجازاً.
والثاني : أن أنفتهم من اتباع الحق صَغَار عند الله وذل إن كان عندهم تكبراً وعزاً، قاله الفراء.
والثالث : صَغَار في الآخرة، قاله الزجاج.
قوله تعالى :﴿ فَمَن يُرِِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يهديه إلى نيل الثواب واستحقاق الكرامة.
والثاني : يهديه إلى الدلائل المؤدية إلى الحق.
﴿ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾ يعني بشرح الصدر سعته لدخول الأسلام إيه وثبوته فيه كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَشَرْحْ لَكَ صَدْرَك ﴾ [ الشرح : ١ ].
روى عمرو بن مرة عن أبي جعفر قال : سئل رسول الله ﷺ أي المؤمنين أكْيَس؟ قال :« أَكْثَرُهُم ذِكْراً لِلْمَوتِ وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَاداً
»
قال : وسئل النبي ﷺ عن هذه الآية : قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال :« نُوْرٌ يُقْذَفُ فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنفَسِحُ » قالوا : فهل لذلك أمارة يُعْرَفُ بها؟ قال :« الإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرورِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوتِ قَبْلَ لِقَاءِ المَوتِ » وروى ابن مسعود مثل ذلك.
ثم قال :﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يضله عن الهداية إلى الحق.
والثاني : عن نيل الثواب واستحقاق الكرامة.
﴿ يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ﴾ يعني ضيقاً لا يتسع لدخول الإسلام.
﴿ حَرَجاً ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون شديد الصلابة حتى لا يثبت فيه شيء.
والثاني : شديد الضيق حتى لا يدخله شيء.
والثالث : أن موضعه مُبْيَض.
﴿ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : كأنه كُلِّف الصعود إلى السماء في امتناعه عليه وبعده منه.
والثاني : كأنه لا يجد مسلكاً لضيق المسالك عليه إلا صعوداً في السماء يعجز عنه.
والثالث : كأنه قلبه بالنبو عنه والنفور منه صاعداً إلى السماء.
والرابع : كأن قلبه يصعد إلى السماء بمشقته عليه وصعوبته عنده.
ثم قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ في الرجس خمسة تأويلات :
أحدها : أنه ما لا خير فيه، قاله مجاهد.
والثاني : أنه العذاب، قاله ابن زيد.
والثالث : السخط، قاله ابن بحر.
والرابع : انه الشيطان، قاله ابن عباس.
والخامس : أن الرجس والنجس واحد، وهو قول بعض نحويي الكوفة، وحكاه عَلِيُّ بن عيسى.
وقد روى قتادة عن أنس عن النبي ﷺ أنه كان إذا دخل الخلاء قال :« اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ وَالنَّجَسِ الهَبِيثِ الخَبِيثِ الشِّيْطَانِ الرَّجِيمِ
»
.
قوله تعالى :﴿ وَهَذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ﴾ قد ذكرنا أن الصراط هو الطريق، ومنه قول عامر ابن الطفيل :
شحنا أرضهم بالخيل حتى تركناهم أذل من الصراط
وفيه ها هنا قولان :
أحدهما : يريد أن الإِسلام هو الصراط المستقيم إلى الله تعالى، قاله الكلبي.
والثاني : يريد أن ما في القرآن من البيان هو الصراط المستقيم.
﴿ قَدْ فَصَّلْنَا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : بيَّنَّا.
والثاني : ميَّزنا.
قوله تعالى :﴿ لَهُم دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ وهي الجنة، وفي تسميتها دار السلام وجهان :
أحدهما : لأنها دار السلامة الدائمة من كل آفة، قاله الزجاج.
والثاني : أن السلام هو الله، والجنة داره، فلذلك سُمِّيَتْ دار السلام، وهذا معنى قول الحسن، والسدي.
وفي قوله :﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ وجهان :
أحدهما : أن دار السلام عند ربهم في الآخرة لأنها أخص به.
والثاني : معناه أن لهم عن ربهم أن ينزلهم دار السلام.
﴿ وُهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : وهو ناصرهم في الدنيا على إيمانهم.
والثاني : وهو المتولِّي لثوابهم في الآخرة على أعمالهم.
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ يعني يحشر الجن والإنس جميعاً يوم القيامة.
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنسِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : قد استكثرتم من إغوئهم وإضلالهم، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.
والثاني قد استكثرتم من الإنس بإغوائكم لهم.
﴿ وَقَالَ أَولِيَاؤُهُمْ مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَغْضٍ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : معناه استمتع بعضنا بصحبة بعض في التعاون والتعاضد.
والثاني : استمتع بعضنا ببعض فيما زينوه من اتباع الأهواء وارتكاب المعاصي.
والثالث : أن الاستمتاع بهم ما كانوا عليه من التعوذ بهم كقوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ ﴾، قال الحسن، وابن جريج. ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنه استمتاع الإنس بالجن.
والثاني : أنه استمتاع الإنس بعضهم ببعض.
وفيه وجه ثالث : أن الإنس استمتعوا بالجن، والجن استمتعوا بالإنس في اعتقادهم أنهم يقدرون على النفع.
﴿ وَبَلَغْنآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه الموت، قاله الحسن، والسدي.
والثاني : الحشر.
﴿ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ ﴾ أي منزل إقامتكم، لأن المثوى الإقامة، ومنه قول الشاعر :
لقد كان في حول ثواءً ثويته تقضي لبانات وتسأم سائم
﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾ في ﴿ إِلاَّ ﴾ في هذا الموضوع ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بمعنى لكن، قاله سيبويه.
والثاني : أنها بمعنى سوى، قاله الفراء.
والثالث : أنها مستعملة على حقيقتها، وهو قول الجمهور.
وفي هذا الاستثناء ثلاثة أقاويل.
أحدها : أن مدة الاستثناء هي مدة العرض في القيامة وذلك ما بين بعثهم من قبورهم إلى حين مصيرهم إلى جهنم، فكأنه قال : النار مثواكم خالدين فيها إلا هذه المدة التي ذكرها، فإنهم فيها غير خالدين في النار.
والثاني : معناه خالدين فيها إلا ما شاء الله من تجديد جلودهم بعد إحراقها وتصريفهم في أنواع العذاب أو تركهم فيها على حالتهم الأولى، فيكون الاستثناء في صفة العذاب لا في الخلود في النار.
والثالث : أنه جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدته إلى مشيئته تعالى، قاله ابن عباس، قال : ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.
قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِِمِينَ بَعْضاً ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : معناه وكذلك نَكِلُ بعضهم إلى بعض، فلا نعينهم، ومن سُلِبَ معونة الله كان هالكاً.
والثاني : وكذلك نجعل بعضهم لبعض ولياً على الكفر.
والثالث : وكذلك نولِّي بعضهم عذاب بعض في النار.
والرابع معناه أن بعضهم يتبع بعضاً في النار من الموالاة وهي المتابعة، قاله قتادة.
والخامس : تسليط بعضهم على بعض بالظلم والتعدي، قاله ابن زيد.
قوله تعالى :﴿ يَا مَعشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ﴾ المعشر : الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف، ومنه قيل للعَشَرَة لأنها تمام العِقْد.
﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلُ مِنْكُمْ يَقُصُّون عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي ﴾ اختلفوا في الرسالة إلى الجن على ثلاثة أقاويل.
أحدها : ان الله بعث إلى الجن رسلاً منهم، كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم، قاله الضحاك وهو ظاهر الكلام.
والثاني : أن الله لم يبعث إليهم رسلاً منهم، وإنما جاءتهم رسل الإنس، قاله ابن جريج، والفراء، والزجاج، ولا يكون الجمع في قوله :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنُكُمْ ﴾ مانعاً من أن يكون الرسل من أحد الفريقين، كقوله تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ] وإنما هو خارج من أحدهما.
والثالث : أن رسل الجن هم الذين لمَّا سمعوا القرآن ﴿ وَلَّواْ إِلَى قَومِهِم مُّنذِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٢٩ ]، قاله ابن عباس.
وفي دخولهم الجنة قولان :
أحدهما : قاله الضحاك.
والثاني : أن ثوابهم أن يجاروا من النار، ثم يُقَال لهم كونوا تراباً كالبهائم، حكاه سفيان عن ليث.
﴿ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ينذرونكم خذلان بعضكم لبعض وتبرؤ بعضكم من بعض في يوم القيامة.
والثاني : ينذرونكم ما تلقونه فيه من العذاب على الكفر، والعقاب على المعاصي.
﴿ قالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : إقرارهم على أنفسهم بأن الرسل قد أنذروهم.
والثاني : شهادة بعضهم على بعض بإنذار الرسل لهم.
﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : وغرتهم زينة الحياة الدنيا.
والثاني : وغرتهم الرياسة في الدنيا.
ويحتمل ثالثاً : وغرتهم حياتهم في الدنيا حين أمهلوا.
﴿ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم ﴾ وفي هذه الشهادة أيضاً الوجهان المحتملان إلا أن تلك شهادة بالإنذار وهذا بالكفر.
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : وما كان ربك مهلك القرى بظلم منه ولكن بحق استوجبوا به الهلكة، وهو معنى قول مقاتل.
والثاني : وما كان ربك مهلك القرى بظلم أهلها حتى يقدم إنذارهم ويرفع أعذارهم ويخرجوا من حكم الغافلين فيما ينزل بهم، وهو معنى قول مجاهد.
قوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ﴾ معناه ولكل عامل بطاعة الله أو معصيته درجات، يعني منازل، وإنما سُمِّيت درجات لتفاضلها كتفاضل الدَرَجِ في الارتفاع والانحطاط.
وفيها وجهان :
أحدهما : أن المقصود بها الأعمال المتفاضلة.
والثاني : أن المقصور بها الجزاء المتفاضل.
ويحتمل هذا التفضيل بالدرجات على أهل الجنة، وأهل النار، لأن أهل النار يَتفاضلون في العقاب بحسب تفاضلهم في السيئات، كما يتفاضل أهل الجنة في الثواب لتفاضلهم في الحسنات، لكن قد يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدَرَج، وعن تفاضل أهل النار بالدرك، فإذا جمع بينهما بالتفاضل عبر عن تفاضلهما بالدرج تغليباً لصفة أهل الجنة.
قوله تعالى :﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُم ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : على طريقتكم.
والثاني : على حالتكم.
والثالث : على ناحيتكم، قاله ابن عباس، والحسن.
والرابع : على تمكنكم، قاله الزجاج.
والخامس : على منازلكم، قاله الكلبي.
﴿ إِنِّي عَامِلٌ ﴾ يعني أنذركم من جزاء المطيع بالثواب، والعاصي بالعقاب.
﴿ فَسَوفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونَ لَهُ عاقِبَةٌ الدَّارِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تعلمون ثواب الآخرة بالإيمان، وعقابها بالكفر ترغيباً منه في ثوابه وتحذيراُ من عقابه.
والثاني : تعلمون نصر الله في الدنيا لأوليائه، وخذلانه لأعدائه، قاله ابن بحر.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً ﴾..
﴿ مِمَّا ذَرَأَ ﴾ مما خلق، مأخوذ من الظهور، ومنه قيل ملح ذُرْ أي لبياضه، وقيل لظهور الشيب ذُرْأَة، والحرث : الزرع، والأنعام : الإبل والبقر والغنم، مأخوذ من نعمة الوطء.
وهذا إخبار منه عن كفار قريش ومن تابعهم من مشركي العرب، كانوا يجعلون لله في زروعهم ومواشيهم نصيباً، ولأوثانهم وأصنامهم نصيباً، فجعل الله أوثانهم شركاءهم؛ لأنهم قد أشركوهم في أموالهم بالنصيب الذي قد جعلوه فيها لهم، ونصيبهم في الزرع جزء منها يجعلونه مصروفاً في النفقة عليها وعلى خدامها.
وفي نصيبهم من الأنعام ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كنصيبهم من الزرع مصروف في النفقة عليها وعلى خدامها.
والثاني : أنه قربان لأوثانهم كانوا يتقربون به إليها.
والثالث : أنه البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِم فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ﴾ فاختلف أهل التأويل في المراد بذلك على أربعة أوجه :
أحدها : أنه كان إذا اختلط بأموالهم شيء مما جعلوه لأوثانهم، ردوه، وإذا اختلط بها ما جعلوه لله لم يردوه، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني : أنه كان إذا هلك ما لأوثانهم غرموه، وإذا هلك ما لله لم يغرموه، قاله الحسن، والسدي.
والثالث : أنهم كانوا يصرفون بعض ما جعلوه لله في النفقة على أوثانهم ولا يفعلون مثل ذلك فيما جعلوه لأوثانهم، قاله بعض المتأخرين.
والرابع : أن كل شيء جعلوه لله من ذبائحهم لم يأكلوه حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم، ولا يذكرون اسم الله فيما جعلوه لأوثانهم، قاله ابن زيد.
قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ ﴾ أما شركاؤهم ها هنا ففيهم أربعة أقاويل :
أحدها : الشياطين، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي.
والثاني : أنهم قوم كانوا يخدمون الأوثان، قاله الفراء، والزجاج.
والثالث : أنهم الغواة من الناس.
وفي الذي زينوه لهم من قتل أولادهم قولان :
أحدهما : أنه كان أحدهم يحلف إن وُلِدَ له كذا وكذا غلام ان ينحر أحدهم كما حلف عبد المطلب في نحر ابنه عبد الله، قاله الكلبي.
والثاني : أنه وَأَدُ البنات أحياءً خِيْفَة الفقر، قاله مجاهد.
﴿ لِيُرْدُوهُمْ ﴾ أي ليهلكوهم، ومنه قوله تعالى :﴿ وَمَا يُغْنِي عَنهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾ [ الليل : ١١ ] يعني إذا هلك.
وفي ذلك وجهان : أحدهما : أنهم قصدوا أن يردوهم بذلك كما قصدوا إغواءَهم.
والثاني : أنهم لم يقصدوا ذلك وإنما آلَ إليه فصارت.
هذه لام العاقبة كقوله :﴿ فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [ القصص : ٨ ] لأن عاقبته صارت كذلك وإن لم يقصدوها.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا هَذِهِ أَنعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ﴾ أي ومنه قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٢ ] أي حراماً، قال الشاعر :
قبت مرتفقاً والعين ساهرة كأن نومي عليَّ الليل محجور
﴿ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ ﴾ قال الكلبي : جعلوها للرجال دون النساء.
وفي الأنعام والحرث التي قالوا إنه لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم قولان.
أحدهما : أن الأنعام التي يحكمون فيها بهذا الحكم عندهم هي البَحِيْرَة والحام خاصة، والحرث ما جعلوه لأوثانهم، قاله الحسن، ومجاهد.
والثاني : أن الأنعام هي ذبائح الأوثان، والحرث ما جعلوه لها.
ثم قال تعالى :﴿ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها السائبة.
والثاني : أنها التي لا يحجون عليها، قاله أبو وائل.
﴿ وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ﴾ وهي قربان أوثانهم يذكرون عليها اسم الأوثان، ولا يذكرون عليها اسم الله تعالى.
﴿ افْتِرَآءً عَلَيْهِ ﴾ أي على الله وفيه قولان :
أحدهما : أن إضافتهم ذلك إلى الله هو الافتراء عليه.
والثاني : أن ذكرهم أسماء أوثانهم عند الذبيحة بدلاً من اسم الله هو الافتراء عليه.
﴿ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ﴾، قرأ الأعمش ﴿ خَالِصٌ ﴾، وفي ﴿ خَالِصَةٌ ﴾ وفي ﴿ خَالِصٌ ﴾ وجهان :
أحدهما : أن ﴿ خَالِصَةٌ ﴾ أبلغ من ﴿ خَالِصٌ ﴾ وإن كانت في معناه فدخلت الهاء للمبالغة كقولهم : علاَّمة، ونسَّابة، قاله الكسائي.
والثاني : أن دخول الهاء يوجب عوده إلى الأنعام لتأنيثها، وحذف الهاء، يوجب عوده إلى ما في بطونها لتذكيره، قاله الفراء.
وفي ذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن ما في بطونها الأجنة، قاله : مجاهد.
والثاني : الألبان، قاله قتادة.
والثالث : الجميع : الأجنة والألبان، قاله مقاتل.
وفي جعلهم ذلك لذكورهم دون إناثهم وأزواجهم قولان :
أحدهما : لأن الذكور هم خدام الأوثان.
والثاني : تفضيلاً للذكور على الإناث.
وأصل الذكور من الذِّكْر، وفي أخذه من الذِّكْر وجهان :
أحدهما : لأنه المذكور بين الناس فكان أنبه ذِكْراً من الأنثى.
والثاني : لأنه أشرف، والذِّكْر هو الشرف، قاله الله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ [ الزخرف : ٤٤ ] أي شرف.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْروشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ... ﴾ أما الجنات فهي البساتين يحفها الشجر، وأما الروضة فهي الخضراء بالنبات، وأما الزهرة فهي باختلاف الألوان الحسنة.
وفي قوله :﴿ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ أربعة أقاويل :
أحدها : أنه تعريش الناس الكروم وغيرها، بأن ترفع أغصانها، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني : أن تعريشها هو رفع حظارها وحيطانها.
والثالث : أنها المرتفعة عن الأرض لعلو شجرها، فلا يقع ثمرها على الأرض، لأن أصله الارتفاع ولذلك سُمِّيَ السرير عرشاً لارتفاعه، ومنه قوله تعالى :﴿ خاوية على عروشها ﴾ [ الكهف : ٤٢ ] و [ الحج : ٤٥ ] أي على أعاليها وما ارتفع منها.
والرابع : أن المعروشات ما عرشه الناس، وغير المعروشات ما نبت في البراري والجبال.
﴿ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ وإنما قدم ذكر الأكل لأمرين :
أحدهما : تسهيلاً لإيتاء حقه.
والثاني : تغليباً لحقهم وافتتاحاً بنفعهم بأموالهم.
وفي قوله :﴿ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : الصدقة المفروضة فيه : العُشْر فيما سقي بغير آلة، ونصف العشر فيما سقي بآلة، وهذا قول الجمهور.
والثاني : أنها صدقة غير الزكاة، مفروضة يوم الحصاد والصرام وهي إطعام من حضر وترك ما تساقط من الزرع والثمر، قاله عطاء ومجاهد.
والثالث : أن هذا كان مفروضاً قبل الزكاة ثم نسخ بها، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وإبراهيم.
﴿ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن هذا الإسراف المنهي عنه هو أن يتجاوز رب المال إخراج القدر المفروض عليه إلى زيادة تجحف به، قاله أبو العالية، وابن جريج.
وقد روى سعد بن سنان عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ :« المُعْتَدِي فِي الصَّدَقَةِ كَمَانِعِهَا » وقيل : إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وقد تصدق بجميع ثمرته حتى لم يبق فيها ما يأكله.
والثاني : هو أن يأخذ السلطان منه فوق الواجب عليه، قاله ابن زيد.
والثالث : هو أن يمنع رب المال من دفع القدر الواجب عليه، قاله سعيد بن والمسيب.
والرابع : أن المراد بهذا السرف ما كانوا يشركون آلهتهم فيه من الحرث والأنعام، قاله الكلبي.
والخامس : هو أن يسرف في الأكل منها قبل أن يؤدي زكاتها، قاله ابن بحر.
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الحمولة كبار الإبل التي يُحْمَلُ عليها، والفرش صغارها التي لا يحمل عليها، مأخوذ من افتراش الأرض بها على الاستواء كالفرش.
وقال ابن بحر الافتراش الإضجاع للنحر، فتكون الحمولة كبارها، والفرش صغارها، قال الراجز :
أورثني حمولة وفرشا... أمشّها في كل يوم مشّا
أي أمسحها، قاله ابن مسعود، والحسن، ومجاهد.
450
والثاني : أن الحَمُولة ما حُمِلَ عليه من الإبل والبقر، والفرش : الغنم، قاله ابن عباس، وقتادة، ومنه قول ابن مسلمة :
وحوينا الفرش من أنعامكم والحمولات وربات الحجل
والثالث : أن الحملة ما حمل من الإبل، والبقر، والخيل، والبغال، الحمير، والفرش ما خلق لهم من أصوافها وجلودها.
﴿ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : من الحمولة ليبين أن الانتفاع بظهرها لا يمنع من جواز أكلها.
والثاني : أنه إذن منه في عموم أكل المباح من أموالهم، ونهى عن أكل ما لا يملكونه.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها طريقه التي يدعوكم إليها من كفر وضلال.
والثاني : أنها تخطيه إلى تحريم الحلال وتحريم الحرام، وقد ذكرنا ما في ذلك من زيادة التأول ومن الاحتمال، وأنه الانتقال من معصية إلى أخرى حتى يستوعب جميع المعاصي، مأخوذ من خطو القدم : انتقالها من مكان إلى مكان.
﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه ما بان لكم من عداوته لأبيكم آدم.
والثاني : ما بان لكم من عداوته لأوليائه من الشياطين، قاله الحسن.
451
قوله تعالى :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ أما الزوج فاسم ينطلق على الواحد وعلى الاثنين، يقال للاثنين زوج، ويقال للواحد زوج لأنه لا يكون زوجاً إلا ومعه آخر له مثل اسمه، قال لبيد :
من كل محفوف يظل عصيه زوج عليه كلة وقرامها
فلذلك قال :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ لأنها ثمانية آحاد.
ثم فسرها فقال :﴿ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ﴾ يعني ذكراً وأنثى.
﴿ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ يعني ذكراً وأنثى.
﴿ قُلُ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ ﴾ إبطالاً لما حرمته الجاهلية منها في البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.
﴿ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ ﴾ يعني قولهم :﴿ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَرْحَامِ خالصةً لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ﴾ يريد به ما أراده في الضأن والمعز وأن هذه الثمانية أزواج حلال لا يحرم منها شيء بتحريمكم.
حكى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ حين أتاه عوف بن مالك، فقال له : أَحَلَّلْتَ ما حرمه أباؤنا، يعني من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال :﴿ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ ﴾ فسكت عوف لظهور الحجة عليه.
قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً ﴾ يعني أن ما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام لم يحرمه الله تعالى ولا أوحى إليَّ بتحريمه، ثم بيَّن المحرَّم على وجه الاستثناء لأن نفي التحريم خرج مخرج العموم، فقال :﴿ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً ﴾ وهي التي خرجت روحها بغير ذكاة.
﴿ أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ﴾ يعني مهراقاً مصبوباً ومنه سمي الزنا سفاحاً لصب الماء فيه ضائعاً، وقال طرفة بن العبد :
إني وجدَّك ما هجوتك والأن... صاب يسفح فوقهن دم
فأما الدم غير مسفوح فإن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال لقوله ﷺ :« أُحِلَّتْ لَنَا مِيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَالمِيْتَتَانِ : الحُوتُ وَالجَرَادُ، وَالدَّمَانِ : الكَبِدُ وَالطُّحَالُ
»
. وإن كان غير ذي عروق يجمد عليها وإنما هو مع اللحم وفيه، ففي تحريمه قولان :
أحدهما : لا يحرم لتخصيص التحريم بالمسفوح، وهو قول عائشة، وعكرمة، وقتادة، قال عكرمة : لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود.
والثاني : أنه حرام لأنه من جملة المسفوح وبعضه، وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه.
﴿ أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ يعني نجساً حراماً.
﴿ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ يعني ما ذبح للأوثان والأصنام، سماه فسقاً لخروجه عن أمر الله.
فإن قيل : لم اقتصر هنا على تحريم هذه الأربعة وقد ذكر في المائدة غيرها من المنخنقة والموقوذة والمتردية؟ قيل : لأن هذا كله من جملة الميتة فذكره هناك مفصلاً وها هنا في الجملة.
وفي هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها مشتملة على جميع المحرمات فلا يحرم من الحيوان ما عدا هذا المذكور فيها، وهذا قول ابن عباس، وعائشة.
والثاني : أنا تشتمل على تحريم ما تضمنها وليست مستوعبة لجميع المحرمات لما جاءت به السنة من تحريم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير، وهذا قول الجمهور.
قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ هذا التحريم على الذين هادوا إنما هو تكليف بلوى وعقوبة، فأول ما ذكره من المحرمات عليهم ﴿ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي.
والثاني : أنه عنى أنواع السباع كلها.
والثالث : أنه كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي حافر من الدواب.
ثم قال :﴿ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها شحوم الثّرْب خاصة، قاله قتادة.
والثاني : أنه كل شحم لم يكن مختلطاً بعظم ولا على عظم، قاله ابن جريج.
والثالث : أنه شحم الثرب والكلى، قاله السدي وابن زيد.
ثم قال :﴿ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ﴾ يعني شحم الجنب وما علق بالظهر فإنه لم يحرم عليهم.
ثم قال :﴿ أَوْ الْحَوَايَآ ﴾ وفيها أربعة تأويلات :
أحدها : أنها المباعر، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد، والسدي.
والثاني : أنها بنات اللبن، قاله عبد الرحمن بن زيد.
والثالث : أنها الأمعاء التي عليها الشحم من داخلها، قاله بعض المتأخرين.
والرابع : أنها كل ما تحوّى في البطن واجتمع واستدار، قاله علي بن عيسى.
﴿ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه شحم الجنب.
والثاني : أنه شحم الجنب والأليه، لأنه على العصعص، قاله ابن جريج، والسدي.
﴿ ذَالِكَ جَزَيْنَاهُم ببَغْيِهِمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ببغيهم على موسى عليه السلام فيما اقترحوه وعلى ما خالفوه.
والثاني : ببغيهم على أنفسهم في الحلال الذي حرموه.
﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ فيما حكاه عنهم وحرمه عليهم.
قوله تعالى :﴿ قُلْ تَعَالَواْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمُ عَلَيْكُمُ ﴾ وهذا أمر من الله لنبيه ﷺ، أن يدعو الناس إليه ليتلو عليهم ما حرمه الله عليهم، وما أحله لهم ليقلعوا عما كانت الجاهلية عليه من تحريم المباح وإباحة الحرام.
والتلاوة : هي القراءة، والفرق بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء أن التلاوة والقراءة للمرة الأولى، والمتلو والمقروء للثانية وما بعدها، ذكره علي بن عيسى، والذي أراه من الفرق بينهما أن التلاوة والقراءة يتناول اللفظ، والمتلو والمقروء يتناول الملفوظ.
ثم إن الله أخذ فيا حرم فقال :﴿ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : ألا تشركوا بعبادته عبادة غيره من شيطان أو وثن.
والثالث : أن يحمل الأمرين معاً.
ثم قال :﴿ وَبَالْوَالِدَينَ إِحْسَاناً ﴾ تقديره : وأوصيكم بالوالدين إحساناً، والإحسان تأدية حقوقهما ومجانبة عقوقهما والمحافظة على برهما.
﴿ وَلاَ تَقْتُلُوْاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقَكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق.
وفي الإملاق قولان :
أحدهما : أنه الإفلاس، ومنه الملق لأنه اجتهاد المفلس في التقريب إلى الغنى طمعاً في تأجيله.
والثاني : أن الإملاق ومعناهما قريب وإن كان بينهما فرق، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والسدي، والضحاك، وابن جريج.
ثم ذكر فساد اعتقادهم في الإملاق بأن قال :﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ لأن رزق العباد كلهم، من كفيل ومكفول، على خالقهم.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ وفيها أربعة تأويلات :
أحدها : أن ذلك عام في جميع الفواحش سرها وعلانيتها، قاله قتادة.
والثاني : أنه خاص في الزنى، ما ظهر منها : ذوات الحوانيت، وما بطن : ذوات الاستسرار، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي.
والثالث : ما ظهر منها : نكاح المحرمات، وما بطن : الزنى، قاله مجاهد، وابن جبير.
والرابع : أن ما ظهر منها : الخمر، وما بطن منها : الزنى، قاله الضحاك.
وقد ذكرنا فيه احتمال تأويل خامس : أن ما ظهر منها أفعال الجوارح، وما بطن منها اعتقاد القلوب.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ والنفوس المحرمة : نفس مسلم، أو معاهد، والحق الذي تقتل به النفس ما بيَّنه النبي ﷺ بقوله :« لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْزِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ
»
. ثم قال :﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ يعني أن الله وصى عباده بذلك، ووصية الله واجبة.
ثم قال :﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : تعقلون تحريم ذلك عليكم وتعلمونه.
والثاني : تعملون عمل من يعقل وهو ترك ما أوجب العقاب من هذه المحرمات.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ إنما خص مال اليتيم بالذكر وإن كان مال غيره في التحريم بمثابته، لأن الطمع فيه لقلة مراعيه أقوى، فكان بالذكر أولى.
وفي قوله :﴿ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : حفظ ماله عليه إلى أن يكبر ليتسلمه، قاله الكلبي.
والثاني : أن ذلك هو التجارة به، قاله مجاهد.
والثالث : هو ألا يأخذ من الربح إذا اتجر له بالمال شيئاً، قاله الضحاك.
والرابع : هو أن يأكل الولي بالمعروف من ماله إن افتقر، ويترك إن استغنى، ولا يتعدى من الأكل إلى الباس ولا غيره، قاله ابن زيد.
ويحتمل خامساً : أن التي هي أحسن : حفظ أصوله وتثمير فروعه.
ثم قال :﴿ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ والأشُد القوة والشباب.
وفي حدها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الحلم حين تكتب له الحسنات وعليه السيئات، قاله ربيعة، وزيد بن أسلم، ومالك.
والثاني : أن الأَشُد ثلاثون سنة، قاله السدي.
والثالث : أن الأشد ثماني عشرة سنة، ذكره علي بن عيسى وفيه وجوه أُخَر نذكرها من بعد.
ثم قال تعالى :﴿ وَأَوْفُواْ الْكَيلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ يعني بالعدل، أمر في مال البائع من تأدية بمثل ما أُمِر به في مال اليتيم.
ثم قال :﴿ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ يعني أنه لما كان العدل في الوزن والكيل مستحقاً، وكان تحديد أقل القليل متعذراً، كان ذلك عفواً، لأنه لا يدخل في الوسع فلم يكلفه.
ثم قال :﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : إذا حكمتم فأنصفوا.
الثاني : إذا شهدتم فاصدقوا.
الثالث : إذا توسطتم فلا تميلوا.
ثمَ قال :﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن عهد الله كل ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره.
الثاني : أنه الحلف بالله أن يلزم الوفاء به إلا في معصية.
﴿ ذَالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه راجع إلى الذين هادوا وما أوصاهم به في التوراة.
والثاني : أنه راجع إلى المسلمين وما وصاهم به في القرآن.
قوله تعالى :﴿ وََأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : القرآن.
والثاني : الشرع وسُمِّيَ ذلك صراطاً، والصراط هو الطريق لأنه يؤدي إلى الجنة فصار طريقاً إليها.
﴿ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ يعني في العمل به.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما تقدم من الكتب المنزلة نسخها بالقرآن، وهو محتمل.
والثاني : ما تقدم من الأديان المتقدمة نسخها بالإسلام وهو محتمل.
والثالث : البدع والشبهات.
﴿ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ يعني عن طريق دينه.
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يكون سبيله نصرة دينه وجهاد أعدائه، فنهى عن التفرق وأمر بالأجتماع.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ﴾
وفي قوله :﴿ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ﴾ خمسة أقاويل :
أحدها : تماماً على إحسان موسى بطاعته، قاله الربيع، والفراء.
والثاني : تماماً على المحسنين، قاله مجاهد، وكان ابن مسعود. يقرأ :﴿ تَمَاماً عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ ﴾.
والثالث : تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه، قاله ابن زيد.
والرابع : تماماً لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا، قاله الحسن وقتادة.
والخامس : تماماً لنعمة الله على إبراهيم لأنه من ولده، قاله ابن بحر.
قوله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلآئِكَةُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة رسلاً، يعني الكفار الذين يتوقفون عن الإيمان مع ظهور الدلائل.
والثاني : هي ينظرون يعني في حُجَج الله ودلائله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم، قاله جويبر.
﴿ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أمر ربك بالعذاب، قاله الحسن.
والثاني : قضاء ربك في القيامة، قاله مجاهد.
﴿ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه طلوع الشمس من مغربها، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي، قال ابن مسعود : مع القمر في وقت واحد وقرأ :﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ [ القيامة : ٩ ].
والثاني : طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض، قاله أبو هريرة.
﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ... ﴾ في أول آيات الساعة وآخرها قولان :
أحدهما : أن أولها الدجال، ثم الدخان، ثم يأجوج ومأجوج، ثم الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها، ﴿ لاَ يَنْفَعُ نَفْسَاً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِِن قَبْلُ ﴾ هذا قول معاذ بن جبل.
والثاني : أن أولها خروج الدجال، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم طلوع الشمس من مغربها ﴿ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مَن قَبْلُ ﴾ ثم خروج الدابة، وهذا قول حذيفة بن اليمان ورواه مرفوعاً.
ثم اختلفوا في ألا ينفعها إيمانها بظهور أول الآيات أو بظهور آخرها على قولين :
أحدهما : إذا خرج أول الآيات، طرحت الأقلام، وجلست الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال.
والقول الثاني : أن ذلك يكون بخروج آخر الآيات ليكون لنا فيها أثر في الإنذار.
ثم قال :﴿ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيَمَانِهَا خَيْراً ﴾ أما إيمانها قبل هذه الآيات فمُعْتَدٌّ به، وأما بعدها فإن لم تكسب فيه خيراً لم يُعْتَدّ به، وإن كسبت فيه خيراً ففي الاعتداد به قولان :
أحدهما : يُعْتَدُّ به، وهو ظاهر الآية أن يكون قبل الآيات أو بعده.
والثاني : لا يُعْتَدُّ به، ويكون معناه : لم تكن آمنت من قبل وكسب في إيمانها خيراً، وهذا قول السدي.
وفي الخير الذي تكسبه وجهان :
أحدهما : تأدية الفروض على أكمل أحوالها.
والثاني : التطوع بالنوافل بعد الفروض.
روى مجاهد عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ﷺ :« بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحُ مِن قِبَلِ المَغْرِبِ، فَالتَّوْبَةُ مَقْبَولَةٌ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ : مِنْ إِبْلِيس رَأْسِ الكُفْرِ، وَمِنْ قَابِيل قَاتِلِ هَابِيلَ، وَمَنْ قَتَلَ نَبِيَّا لاَ تَوْبَةَ لَهُ، فَإِذَا طَلَعَت الشَّمْسُ مِن ذَلِكَ البَابِ كَالعَكَرِ الأَسْوَدِ لاَ نَورَ لَهَا حَتَّى تَتَوَسَّطَ السَّماءَ ثُمَّ تَرْجِعُ فِيُغْلَقُ البَابُ وَتُرَدُّ التَّوبَةُ فَلاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُن ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيراً، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى مَشَارِقَهَا، فَتَطْلُعُ بَعْدَ ذلِكَ عِشْرِينَ وَمِائَة سَنَة إِلاَّ أَنَّهَا سُنُونَ تَمُرُّ مَراً ».
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمُ وَكَانُواْ شِيَعاً ﴾ فيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود خاصة، قاله مجاهد.
والثاني : اليهود والنصارى، قاله قتادة.
والثالث : أنهم جميع المشركين، قاله الحسن.
والرابع : أهل الضلالة من هذه الأمة، قاله أبو هريرة.
وفي تفريقهم الذي فرقوه قولان :
أحدهما : أنه الدين الذي أمر الله به، فرقوه لاختلافهم فيه باتباع الشبهات.
والثاني : أنه الكفر الذي كانوا يعتقدونه ديناً لهم.
ومعنى قوله :﴿ وَكَانُواْ شيَعاً ﴾ يعني فرقاً.
ويحتمل وجهاً آخر : أن يكون الشيع المتفقين على مشايعة بعضهم لبعض، وهو الأشبه، لأنهم يتمالأون على أمر واحد مع اختلافهم في غيره.
وفي أصله وجهان :
أحدهما : أصله الظهور، من قولهم شاع الخبر إذا ظهر.
والثاني : أصله الاتباع، من قولهم شايعه على الأمر إذا اتبعه، قاله الزجاج.
ثم قال تعالى :﴿ لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : لست من قتالهم في شيء، ثم نسخها بسورة التوبة، قاله الكلبي.
والثاني : لست من مخالطتهم في شيء، نَهْيٌ لنبيه ﷺ عن مقاربتهم، وأمر له بمباعدتهم، قاله قتادة، كما قال النابغة :
قوله تعالى :﴿ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾ في الحسنة والسيئة هنا قولان :
أحدهما : أن الحسنة الإيمان، والسيئة الكفر، قاله أبو صالح.
والثاني : أنه على العموم في الحسنات والسيئات أن جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها تفضلاً، وجعل جزاء السيئة مثلها عدلاً، قال رسول الله ﷺ :« أَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ غَلَبَتْ وَاحِدَتُهُ عَشْراً
». ثم في ذلك قولان :

أحدهما : أنه عام في جميع الناس.
والثاني : أنه خاص في الأعراب إذا جاء أحدهم بحسنة فله عشر أمثالها، فأما غيرهم من المهاجرين فلمن جاء منهم بحسنة سبعمائة، قاله ابن عمر، وأبو سعيد الخدري.
فأما مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها فلأن الله فرض عُشْر أموالهم، وكانوا يصومون في كل شهر ثلاثة أيام وهي البيض منه، فكان آخر العُشْر من المال آخر جميع المال، وآخر الثلاثة الأيام آخر جميع الشهر.
وأما مضاعفة ذلك بسبعمائة ضعف فلقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلِةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لَمَنْ يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٦١ ]، فضاعف الله الحسنة بسبعمائة ضعف، وكان الحسن البصري يقرأ :﴿ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالُهَا ﴾ بالتنوين، وَوَجْهُهُ في العربية صحيح.
وحكى ابن بحر في الآية تأويلاً يخرج عن عموم الظاهر، وهو أن الحسنة اسم عام يطلق على كل نوع من الإيمان وينطلق على عمومه، فإن انطلقت الحسنة على نوع واحد منه، فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد، وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين، كان الثواب عليها مثلين كقوله :﴿ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُم كفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ [ الحديد : ٢٨ ]، والكفل : النصيب كالمثل، فجعل لمن اتقى وآمن بالرسول نصيبين، نصيباً لتقوى الله، ونصيباً لإيمانه برسوله، فدل على أن الحسنة التي جعلت لها عشر أمثالها هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات، وهو الإيمان الذي جمع الله في صفته عشرة أنواع بقوله :﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ إلى قوله :﴿ وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [ الاحزاب : ٣٥ ]، فكانت هذه الأنواع العشرة التي ثوابها عشرة أمثالها، فيكون لكل نوع منها مثل، وهذا تأويل فاسد، لخروجه عن عموم الظاهر، لما لا يحتمله تخصيص العموم، لأن ما جمع عشرة أنواع فهو عشر حسنات، فليس يجزي عن حسنة إلا مثلها، وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها.
وذكر بعض المفسرين تأويلاً ثالثاً : أن له عشر أمثالها في النعيم والزيادة لا في عظيم المنزلة، لأن منزلة التعظيم لا تنال إلا بالطاعة، وهذه مضاعفة تفضيل كما قال :﴿ لِيُوَفِّيهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٣٠ ].
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ هذا أمر من الله تعالى لنبيه ﷺ أن يذكر للناس حال عبادته ومن له الأمر في حياته ومماته.
فقال ﴿ إِنَّ صَلاَتِي ﴾ وهي الصلاة المشروعة ذات الركوع والسجود المشتملة على التذلل والخضوع لله تعالى دون غيره من وثن أو بشر.
ثم قال :﴿ وَنُسُكِي ﴾ وفيه هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الذبيحة في الحج والعمرة، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك.
والثاني : معناه ديني، قاله الحسن.
والثالث : معناه عبادتي، قاله الزجاج، من قولهم فلان ناسك أي عابد، والفرق بين الدين والعبادة : أن الدين اعتقاد، والعبادة عمل.
قوله تعالى :﴿ وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن حياته ومماته بيد الله تعالى لا يملك غيره له حياة ولا موتاً، فلذلك كان له مصلياً وناسكاً.
والثاني : أن حياته لله في اختصاصها بطاعته، ومماته له في رجوعه إلى مجازاته.
ووجدت فيها وجهاً ثالثاً : أن عملي في حياتي ووصيتي عند مماتي لله.
ثم قال :﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ صفة الله تعالى أنه مالك العالم دون غيره، فلذلك كان أحق بالطاعة والتعبد من غيره.
ثم قال تعالى :﴿ لاَ شَرِيكَ لَهُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا شريك له في ملك العالمين.
والثاني : لا شريك له في العبادة.
﴿ وَبِذَالِكَ أُمِرْتُ ﴾ يعني ما قدم ذكره.
﴿ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ يعني من هذه الأمة حثّاً على اتباعه والمسارعة بالإٍسلام.
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ وسبب [ نزول ] ذلك أن كفار قريش دعوا رسول الله ﷺ إلى ملة آبائه في عبادة اللات والعزى، وقالوا : يا محمد إن كان وزراً فهو علينا دونك، فنزلت هذه الآية عليه.
﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ﴾ يعني إلا عليها عقاب معصيتها ولها ثواب طاعتها.
﴿ َوَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ أي لا يتحمل أحد ذنب غيره فيأثم به ويعاقب عليه، ولا يحمل ذنبه غيره، فيبرأ منه ويسلم من عقابه.
وفي أصل الوزر وجهان :
أحدهما : أصله الثقل، من قوله :﴿ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴾ [ الشرح : ٢-٣ ] ومنه سمي وزير الملك لتحمله القل عنه.
والثاني : أن أصله الملجأ من قوله :﴿ كَلاَّ لاَ وَزَرَ ﴾ [ القيامة : ١١ ] ومنه سُمِّي وزير المَلِكِ لأنه يلجأ إليه في الأمور.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلآئِفَ الأَرْضِ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه جعلهم خلفاً من الجان سكاناً للأرض، قاله ابن عباس.
والثاني : أن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله، كلما مضى أهل عصر خلفه أهل عصر بعده على انتظام، حتى تقوم الساعة على العصر الأخير فلا يخلق عصر، فصارت هذه الأمة خلفاً للأمم الماضية.
والثالث : جعل بعضهم خليفة لبعض ليتآلفوا بالتعاون.
والرابع : لأنهم آخر الأمم وكانوا خلفاً لمن تقدمهم، قال الشماخ :
إذا حاولت في أسد فجوراً فإني لست منك ولست مني.
تصيبكم وتخطئني المنايا وأخلق في ربوع عن ربوع
﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ يعني ما خالف بينهم في الغنى بالمال وشرف الآباء وقوة الأجسام، وهذا، وإن ابتدأه تفضلاً من غير جزاء ولا استحقاق، لحكمة منه تضمنت ترغيباً في الأعلى وترهيباً من الأدنى، لتدم له الرغبة والرهبة.
وقد نبه على ذلك بقوله :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءَاتَاكُمْ ﴾ يعني من الغنى والقوة وفيه وجهان :
أحدهما : ليختبركم بالاعتراف.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾ فإن قيل : فكيف جعله سريعاً وهو في الآخرة؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن كل آت قريب، كقوله :﴿ وَمَا أَمْرُ الْسَّاعِةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾ [ النحل : ٧٧ ].
والثاني : إن ربك سريع العقاب في الدنيا لمن استحق منه تعجيل العقاب فيها.
والثالث : أنه إذا شاء عاقب، فصار عقابه سريعاً لأنه يقترن بمشيئته، وهذ قول ابن بحر.
﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ جمعاً منه بين ما يقتضي الرهبة من سرعة العقاب وبين ما يقتضي الرغبة من الغفران والرحمة، لأن الجمع بين الرغبة والرهبة أبلغ في الانقياد إلى الطاعة والإقلاع عن المعصية، والله تعالى أعلم.
Icon