تفسير سورة الأنعام

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب زهرة التفاسير .
لمؤلفه أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ
تعريف :
سورة الأنعام قالوا إنها نزلت بعد سورة الحجر، وإن عدد آياتها خمس وستون ومائة آية كلها نزل بمكة ما عدا عدة آيات قالوا : إنها نزلت بالمدينة هي الآيات : ٢٠ و ٢٢ و ٩١ و ٩٢ و ١١٤ و ١٤١ و ١٥١ ١٥٢ و ١٥٣ وهي آيات نزلت في بيان أحكام تتعلق بالحلال والحرام من التكليفات العملية، وهي لهذا كانت أنسب بالمدينة وذلك لأن ما يتعلق بالعقيدة قد اختص بمكة إذ كان فيه بيان الوحدانية في الذات و في الصفات والخلق والإنشاء والعبادة والألوهية وأنه لا إله إلا هو، وبيان رسالة الله وأخبار الرسل السابقين وما جاءوا به، وما نزل بأممهم وما جاء من أحكام بمكة كان أكثره على السنة الأنبياء السابقين وما كانوا يدعون اليه أقوامهم فدعوة شعيب عليه السلام إلى الإيفاء بالكيل والكيزان ونهيهم عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وغير ذلك. أما القرآن المدني فقد نزلت به الأحكام التكليفية العملية، لأنه قد كونت دولة للإسلام فكان لا بد من نظم تقيمها وأحكام تنظم علاقات آحادها وقد ابتدأت العبادات بالصلاة المفروضة في مكة لمناسبتها للإلوهية ومعاني العبودية ثم أكملت في المدينة ليتكون رأى عام فاضل ومجتمع متضافر متعاون.
ابتدأت السورة ببيان استحقاق الله تعالى وحده للحمد لأنه خالق السموات والأرض وحده، وجاعل الظلمات والنور، وبيان أن أصل خلق الإنسان من طين، وبيان كمال سلطان الله تعالى في خلقه وعلمه بالسر وما يخفى وبيان آيات الله تعالى في كونه، وتلقى الجاحدين وما كانوا يكذبون به الحق إذ يجيئهم ويستهزئون به لأعراضهم عن الآيات البينان المثبتة الموضحة الكاشفة.
وإن كان المشركون لم يؤمنوا لإعراضهم عن البينات، فقد أنذرهم سبحانه بعاقبة أمرهم، ببيان عاقبة من سبقوهم بعد جحودهم وأشار سبحانه وتعالى إلى طموس مداركهم وجحود نفوسهم وعدم تلقيهم للنور والهداية، وأنه لا يجدي معهم توجيه ولا دليل حتى أنهم لو نزل إليهم من السماء كتاب في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الجاحدون : إن هذا إلا سحر مبين، كما قال الجاحدون برسالة عيسى -عليه السلام عند إحيائه الموتى وإبرائه الاكمه والأبرص ونزول المائدة قالوا : عن هذا إلا سحر مبين.
وان الجاحدين شانهم الاستهزاء بالحق إذ جاءهم وأن على النبي أن يتأسى في استهزائهم به بما كانوا يفعلون مع الأنبياء السابقين وبين سبحانه وتعالى سوء عاقبتهم.
ولقد بين سبحانه من بعد ذلك طائفة من ضلال تفكيرهم باستهزائهم عند ذكر خالق السماوات والأرض ويتولى عليه السلام الإجابة مبينا أن الله كتب على نفسه الرحمة، وأن من رحمته أن يجمع الناس يوم القيامة بين ثواب المحسن وعقاب المسيء ثم بين سبحانه وتعالى ملكه لكل شيء وسلطانه الذي فوق كل شيء وإذا كان الله مالك كل شيء وفاطر السماوات والأرض لا يمكن أن يتخذ الرسول وليا و نصيرا غيره سبحانه، وأن يكون أول من يسلم وألا يكون من المشركين وأن يخاف عذابه إن عصى ولا فوز إلا لمن يصرف عنه عذاب يوم القيامة.
وإذا كان سبحانه يملك كل شيء فهو كاشف الضر إن مس الإنسان وهو القادر على النفع وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير وإذا كان المشركون يستمرون على عنادهم فالله هو الشاهد الحكيم بين الرسول وبينهم وشهادته أكبر شهادة وأن هذا القرآن أوحى به إلى الرسول لينذر به المشركين ومن يبلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كنتم أيها المشركون تشهدون أن مع الله آلهة أخرى فالنبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يوافق على هذه الشهادة بل لا بد أن يكذبها.
وان أهل الكتاب الذين أوتوا علما بالرسالات يعرفون الرسول كما يعرفون أبناءهم ومع ذلك لا يؤمنون لأنهم غيروا دينهم أو كتموه ولا أحد في هذا الوجود أكثر ظلما ممن افترى على الله الكذب أو كذب بالدلائل القائمة الثابتة الدالة على الحق ولا يمكن أن يفلح ظالم بكتمان الحق أو إظهار الشرك.
وقد بين سبحانه حال المشركين يوم القيامة وأنهم لهول يوم القيامة ينكرون أنهم كانوا مشركين.
ومن هؤلاء المشركين من يكون على قلوبهم مثل الأكنة عند الآيات البينات، ولا يؤمنون بأي آية، وإذا جاءوا يجادلون قالوا عن الآيات : إن هي إلا الأساطير الأولين، وهم يبتعدون عن الحق وينهون غيرهم عن اتباعه وهم في الحالين هالكون بما يفعلون.
ثم يصور سبحانه حالهم في الآخرة فيقرر أنها مفارقة لحالهم في الدنيا إذ يبدو لهم ما كانوا يخفون، وهم بذلك قد خسروا خسرانا مبينا وجاءتهم الساعة بغتة من حيث لا يحتسبون وأن الدار الآخرة هي دار بقاء والحياة وكانوا، يتوهمون أنه لا حياة بعد الدنيا والدنيا بجوارها لهم ولعب وذكر سبحانه عزاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرسل قبله إذ جحدوا ثم لا مناص من أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم والا يكبر عليه إعراضهم مهما تكن حالهم.
وليعلم أن الذين يستجيبون لدعوته الذين يسمعون ويتعظون هم الأحياء حقا، والآخرون موتى و سيبعثهم الله، ويعاقبهم وهم الذين لا يسمعون ويطلبون آيات أخرى غير التي أعرضوا عنها، وقد ذكرهم سبحانه بان الأحياء جميعا من الحيوان والطيور أمم، والكتاب المحفوظ يحتوي على كل شيء.
وبين سبحانه أن الذين يعرضون عن الآيات صم لا يسمعون إليها، وبكم لا ينطقون بالحق، ويعيشون في ظلمات لا يبصرون ولقد ذكرهم سبحانه بندائهم لله تعالى في حال شدتهم أو موتهم أو قيامهم أيدعون غير الله وبين سبحانه أنه يختبر الأمم بالضر يصيب أجسامهم وبالبؤس يصيب نفوسهم ولقد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم فظنوه حسنا، وأنهم كما نسوا ما ذكروا به واختبروا بالنعمة، ثم أخذ وا بغتة وهم لا يشعرون وقطع دابرهم بسبب ظلمهم وذكرهم سبحانه بانه إذا أخذ سمعهم وبصرهم لا يدركون وذكر أنه يصرف لهم الآيات ويوجههم على الحقائق الثابتة عساهم يفقهون الأمور على وجهها. وقد بين سبحانه عمل الرسل وهو التبشير للمتقين والإنذار للمكذبين وأن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يقول لهم : عندي خزائن أصرفها كما أشاء ولا يقول لهم : إنه يعلم الغيب، ولا يقول لهم : إنه ملك، بل إنه يتبع ما يوحى إليه والناس مختلفون بعد ذلك في تلقي نور الوحي على حسب حالهم فلا يستوي المحسن والمسيء كما لا يستوي الأعمى والبصير.
وإن الإنذار يكون أثره في قلوب الذين يخافون يوم القيامة وما يكون فيه من هول.
وإنه يجب أن يكرم أهل الإيمان ولا يطردوا لفقرهم أو ضعفهم فإنه من فتنة الناس بعضهم ببعض أن يوفق للحق الضعفاء ويكذبه الأقوياء ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ويجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرحب بالمؤمنين ويبين الحق لهم وأن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة وهي العدالة وجزاء المحسن بالحسن، والعفو عن السيء الذي ارتكب بجهالة وامر الله نبيه أن يتخذ من نفسه قدوة حسنة، فيقول : إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دونه وألا أتبع أهواءكم وأنه على بينة من ربه وأنه ليس بيده العذاب الذي يستعجلونه ولو كان عندي لقضي الأمر الذي بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين.
وإن الغيب كله عند الله تعالى فعنده سبحانه مفاتحه لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، ويعلم ما نكسب بالنهار ويتوفانا بالليل ويستمر الإنسان بين الليل والنهار حتى يقضى أجل مسمى ثم يكون المرجع إلى الله تعالى. وأنه سبحانه فوق هذا العلم المحيط له القوة الكاملة فهو القاهر فوق عباده، وهو الذي يحفظ عباده والمرجع إليه سبحانه وهو المنجي من كل سوء، وهو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو ينزل بكم ما هو أشد فيجعلكم شيعا ويذيق بعضكم باس بعض، وأن قومك قد كذبوك وما تدعون إليه وهو الحق ولكل خبرعظيم مستقر يستقر عنده، ولست عليهم بوكيل مسؤول عما يسيئون به. وإنك واجد لجاجة في الإنكار فذكر ولا تقعد معهم إذ يخوضون في آياتنا وما عليك ولا على من معك من المتقين من حسابهم من شيء فذرهم لانهم اتخذوا دينهم هزوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا ولكن ذكرهم فقط حتى لا يسقطوا في الشر إلى أقصى درجاته، وينالون من بعد ذلك عذاب الجحيم، وقل لهم : أندعوا من دون الله ما لا يضرنا ولا ينفعنا، ونرد على أعقابنا بعد ذلك اذ هدانا الله كالذي أصابته حيرة باستهواء الشياطين له في الأرض فيدفعه الشيطان الى التردي ويدعوه أصحابه إلى الهدى وهو حائر وأن الهدى هدى الله وأمرنا أن نسلم لرب العالمين وأن نقيم الصلاة وأن نؤمن بالله وهو الذي خلق السماوات والأرض ويوم يقول : كن فيكون وقوله الحق، وله الملك يوم القيامة وهو الحكيم الخبير عالم الغيب والشهادة.
ولقد بين سبحانه وتعالى قصة الخليل إبراهيم أبي الأنبياء وأخبار ذريته، وفي هذه القصة بين سبحانه كيف يكون إدراك العقل لله سبحانه ووحدانيته، ومستمدا ذلك من الفطرة السليمة رأى الخليل بفطرته أن الأصنام لا يمكن أن تكون آلهة وخاطب أباه بذلك، واعتبره ضلالا ثم اتجه إلى تعرف الإله الأوحد ظنه في كوكب ولكنه أفل فزال، والإله لا يزول ثم ظنه القمر إذ رآه بازغا ولكنه أفل أيضا واعتبر نفسه تسير في ضلالة وأنه ان لم يهده ربه الذي يؤمن بوجوده ليكونن من الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي لأنها أكبر فلما أفلت أدرك أن الله تعالى لا يكون أمرا محسوسا فقرر البراءة من الشرك واتجه إلى الخالق الذي تدل على آثاره على وجوده، ومخالفته لمخلوقاته، فقال :( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٧٩ ) ( الانعام ) واخذ بعد هذه الهداية يحاج قومه ويحاجونه ويذكر لهم أن أوثانهم لا تضر ولا تنفع فليسوا موضع خوف منه، وهم الجديرون بأن يخافوا لأنهم يشركون بالله ما لم ينزل به حجة تدل على صحة الإيمان بهم ثم قال :(... فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ٨١ ) ( الأنعام ) لا شك أن أحق الفريقين بالأمن الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك ونلك حجة الله تعالى الذي أجراها على لسان إبراهيم عليه السلام وأجراها من بعده على ألسنة الأنبياء من بعده، على نوح من قبله. وقد ذكر سبحانه وتعالى الأنبياء من ذريته وقد آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة وكان من أقوامهم من آمن ومنهم من كفر فإن يكفر المشركون من العرب الذين بعث إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فغيرهم مؤمن وهم يقاومون الشرك.
وقد بين سبحانه وتعالى العبرة في قصصهم فقال :( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ٩٠ ) ( الأنعام ).
وقد بين سبحانه وتعالى بعد قصة إبراهيم أن الذين يشركون ما قدروا الله حق قدره وقد نفوا رسالة الله تعالى فسأل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وقد كان يعرف أن لليهود كتابا، وقد بين أن اليهود يخفون بعضه وهو كثير ويظهرون بعضه، ولا يصح أن يقتدوا بآبائهم لأنهم علموا ما لم يعلموا قبل ولم يعلمه آباؤهم.
وذكر سبحانه بعد ذلك منزلة القرآن، وهو أنه كتاب مستمر بهدايته واتباعه وأنه نزل على محمد الذي علمتموه أمينا عدلا لا يكذب ولا أحد أظلم ولا اكذب ممن يدعى أنه أوحي إليه، ولم يوح إليه بشيء... ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله من المشركين وأشباههم وصور سبحانه وتعالى حال الظ

كان ختام السورة السابقة إثبات سلطان الله تعالى الكامل وقدرته الشاملة، وأنه لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض إذ قال سبحانه :( لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير١٢٠ ) ( المائدة ) وفي هذه الآية يبين سبحانه السبب في كمال سلطانه والمظهر الأعظم لكمال قدرته وهو خلق السموات والأرض وخلق الإنسان فإن هذا من أسباب السلطان الكامل على السموات والأرض ومن فيهن، وهو مظهر كامل لكمال قدرته سبحانه وتعالى :
وهذا قوله تعالى :( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ).
الحمد معناه اللغوي : الثناء على المحمود بالفعل الاختياري الذي يقوم به، فلا يحمد على فعل كان بالجبلة والتسخير إنما الحمد يكون ثناء على فعل كان بالجبلة والتسخير، إنما الحمد يكون ثناء على فعل اختياري الحمد بمعنى الثناء مراتب أدناه الثناء على العباد في أعمالهم الاختيارية واستعماله في القرآن في الثناء على العباد قليل إلا إذا كان في التنديد بطلبهم للحمد مثل قوله تعالى :(... ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا... ١٨٨ ) ( آل عمران ) وأعلى من هذا مرتبة الثناء على الله تعالى بما هو أهله، وذكر صفاته والإحساس بجلائل نعمه، ولهج لسان العبد بهذه النعم.
المرتبة العليا شكر هذه النعم والخضوع المطلق له سبحانه والقيام بحق، عبادته وإفراده بالعبودية وإن ذلك هو المطلوب من العباد وهو أعلى الشكر، وقد قال سبحانه :(... لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم وإن عذابي لشديد... ٧ ) ( إبراهيم ) والشكر امتلاء القلب بذكر الله تعالى وذكر نعمه وشكرها، وهو الذي طالب به القرآن الكريم كما قال تعالى :(... اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم... ٤٧ ) ( البقرة ) و ( ال ) هنا للاستغراق، والمعنى أن المستحق لكل أنواع الحمد ومراتبها هو الله تعالى، فهو المستحق للعبادة وهي أعلى درجات الحمد، وهو الجدير بكل حمد دون غيره، وإذا كان ثمة حمد للعباد فهو إن كان على خير أسدوه كان حمد الله تعالى لتوفيقهم وعونهم، وان كان الدافع على الثناء غير الحير فهو ليس بحمد وإنما هو كذب وافتراء على الحق وتعاون على الشر. وقد ذكر سبحانه أسباب ذلك الحمد الذي بلغ أعلى درجاته فقال تعالت كلماته :
( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )هذا وصف لله سبحانه وتعالى يثبت كمال حق العبودية له وحده وانه لا يستحق الحمد الكامل سواه ولقد يقول الصوفية إن العبودية لله تعالى ثلاث مراتب : أولاها : أن يعبدوه لذاته والثانية أن يعبدوه لصفة من صفاته كصفة الخلق والتكوين والثالثة أن يعبدوه لتكمل نفوسهم ويحسوا بفضل الطاعة وهذا النص يفيد أن حمد الله تعالى لأنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور والحق أن المراتب الثلاث لا تباعد بينها، فمن يعبد الله لذاته فان ذاته تعرف بصفاته ومن يرى شرفه في عبادة الله وحده، فهو يتسامى.
والقول الجملي أن الذكر لخلق السموات والأرض لبيان سلطان الله تعالى وقدرته واستحقاقه وحده الألوهية بدليل قول الله سبحانه وتعالى بعد ذلك ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ).
وهنا بعض المباحث اللفظية التي نتعرض لها، لأن يكون تقريبا لمعاني الإعجاز في النص.
المبحث الأول : التعبير في خلق السماوات والأرض ب ( خلق ) وفي الظلمات والنور ب ( جعل ) فنقول :( الخلق معناه الإنشاء الابتدائي هنا، و الجعل يتضمن معنى تكوين شيء من شيء أو شيئين وقد يتضمن الخلق ذلك المعنى بقرينة وهنا المتبادر من المعنى أن الله تعالى أنشا السموات والأرض إنشاء وجعل، منها الظلمات والنور، فمن اختفاء الشمس عن الأرض يكون ظلام الليل ومن بزوغ الشمس على الأرض يكون النور وذلك كله بجعل الله تعالى وبأصل التكوين والتقدير من العزيز العليم.
المبحث الثاني : لماذا جمع ( الظلمات ) وأفرد ( النور ) ؟ والجواب عن ذلك : أن النور واحد من نتائجه الكشف والظهور وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته أما الظلمة فإنها متنوعة أسبابها... فهناك ظلمة الليل، وهناك ظلمة المحابس، وهناك ظلمة القبور وهناك ظلمة الغمام وهي تتغير حقائقها بتغير اسبابها ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوي وهي أن ظلمة الإدراك تتعدد حقائقها فهناك ظلمة الانحراف وظلمة الاهواء والشهوات وطمس القلوب والنور واحد ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ... ١٥٣ ) ( الأنعام ). فالنور في هذا واحد.
المبحث الثالث : لماذا أفردت الأرض وجمعت السموات مع أنه قد وردت نصوص تعتبر الأرض سبعا كالسموات ؟ والجواب عن ذلك أنه في كثير من المواضع تفرد وتجمع السماء في مثل قوله تعالى :( أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي افلا يؤمنون ٣٠ ) ( الأنبياء )
وإنما تعدد السموات لعظمها ولإحاطتها بالأرض ولما فيها من الايات البارزة ولتزيينها بالنجوم ولأنه لم يعلم أن الله تعالى قد عصى فيها ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض، والأرض طبقاتها متصلة.
المبحث الرابع : ما الذي كان العطف عليه في قوله تعالى :( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) ولماذا عطف ب ( ثم ) ؟ أما الجواب عن الجزء الأول فهو أن الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور وهو وحده، يستحق الحمد ثم مع ذلك يجعل الذين كفروا بسبب ضلالهم مثلا يعدلونه به، وهو أصنامهم أو ما يزعمون من الهة والتعبير ب ( ثم ) للبعد بين الحقيقتين فالحقيقة الأولى التي توجب توحيد الله تعالى وحده، والثانية ما يقع من هؤلاء الكافرين على غير بينة ولا إدراك
ولقد قرر الله تعالى الحقيقة الثابتة فقال عز من قائل :( هوالَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ )
بعد أن ذكر جلت قدرته خلقه لهذا الكون وما فيه، وسلطانه على السموات والأرض ومن فيهن بين سبحانه خلق الإنسان الذي يؤمن ويكفر، ويأثم ويفسق ويهتدي لأمر ربه والذي حارت البرية فيه كما قال أبو العلاء المعري :
والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد
ذكر ان الله تعالى خلقه أي انشأه من طين فلا يصح أن يستكبر ويستغلظ على الهداية وليذكراصله فأصله من طين، ولا يزال رب البرية يربه وينميه من الطين، فغذاؤه نبات أو حيوان يرجع إلى الطين وفي ذكر هذا الأصل إشارة إلى أمرين جليلين : أولهما : عظمة الخالق وإبداعه الذي يجعل من صلصال من حمأ مسنون ذلك الإنسان الحي المتفكر المتدبر الذي يختار الشر فيغري ويختار الخير فيهتدي والإشارة إلى تذكير الإنسان إلى اصل خلقه لكيلا يستكبر ولا يغتر ولا يستعلى واذا كان أصله من الطين فليس عجبا أن يعود كما بدأ :( قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين لد الدين كما بدأكم تعودون ٢٩ ) ( الأعراف ) ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم... ٥٥ ) ( طه ).
وإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان من الطين أي خلق أصله من طين، ثم توالد وتناسل من بعد ذلك وعمر الأرض ما شاء أن يعمرها حتى كان منهم من نسي أصله الطيني، وقد قدر سبحانه لكل انسان أجلا، ولبنى الإنسان جميعا أجلا، أما الأول فقد أشاراليه سبحانه وتعالى :( ثم قضى أجلا ) أي عمرا تكون له نهاية في هذه الدنيا وعقبي هنالك في الآخرة وكان العطف ب ( ثم ) للإشارة إلى الأطوار التي يمر يها الإنسان، والأطوار التي يمر بها الجنين، وللتفاوت بين الحقيقة التي نراها ونحسها والغيب الذي لا نعرفه مما قدره الله تعالى إذ يقول سبحانه ) :
( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ... ٌ٣٤ ) ( لقمان ).
هذا هو أجل العمر وقال سبحانه وتعالى بعد ذلك :( وأجل مسمى عنده ) وما هذا الأجل المسمى عنده ولا يعلم به أحد الآن يصح أن يكون الأمد الذي يكون بين الوفاة وبعث من في القبور ويصح أن يكون ما قدر للإنسان في هذه الأرض من وجود والأمران متلاقيان فالزمن الذي يكون بين وفاة كل واحد والبعث من القبور والحساب والثواب أو العقاب ثم الذي تنتهي به الدنيا وهو مغيب، لأن الساعة علمها عند الله قال تعالى :( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل نما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون١٨٧ ) ( الأعراف ).
ووصف هذا الأجل الثاني بأنه مسمى عنده يفيد اختصاص علمه سبحانه وتعالى بذلك، كما أشارت الآيات التي تلونها، وقدم ( أجل مسمى ) على قوله تعالى ( عنده ) لأن الأجل المسمى هو المبتدأ وما بعده خبر والمبتدأ مقدم حقيقة ولأن الأجل هو المتحدث عنه باعتبار أن موضعه لا يعلمه إلا الله تعالى، وسوغ الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة والموصوف المنكر يصح أن يكون مبتدأ لأنه معرف بنوع من التعريف وتأخير، ( عنده ) ليس فقط لأن الأجل هو المبتدأ بل لأن ( عنده ) متعلقة بكون التسمية فالعندية ليست لذات الخبر، إنما هي للوقت المسمى الذي اختص الله تعالى به، فكان الأنسب أن يكون المسمى مقترنا بالعندية التي هي متعلقة.
وإذا كانت الآجال ترى مقدرة فكل حي ينتهي بالموت لا محالة فكان الأجل لا يعلمه إلا الله تعالى لا ريب فيه أيضا، ولكن بعض الناس في ريب وشك، لانهم مربوطون بالمحسوس ولذا قال سبحانه :( ثم أنتم تمترون ) أي أنه معه ما ترون وتعلمون من أن الإنسان يموت كما ترون وأنه من طين مع ذلك تمترون أي تشكون وتجادلون في شككم والأدلة قائمة وكان العطف ب ( ثم ) لتباعد ما بين الحقائق الثابتة وأسبابها والامتراء هو التردد الذي تنتهي إلى محاجة ومجادلة وقد ينتهي إلى شك ثم إلى إنكار وكان الخطاب لكل المخاطبين بالقرآن مؤكدا ب ( أنتم ) للإشارة إلى أن النفس البشرية حسية وهي تأخذ أحكامها على الغائب الخفي من المحسوس فكان الخطاب للجميع ليخلعوا من نفوسهم عوامل التردد ويتجهوا إلى تصديق العليم الحكيم القادر على كل شيء.
( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )
بعد أن اشار سبحانه وتعالى أنه الخالق لكل شيء أشار سبحانه إلى البعث وذكر من قبل ذلك أنه الخالق ذو السلطان المطلق في هذا الوجود يسيطر عليه بجلاله وألوهيته واستحقاقه للا لوهية وحده، وهو العالم فيه بكل شيء فلفظ الجلالة يتضمن معنى الألوهية الحق، ومعنى الوحدانية والعلم والقدرة والإرادة والسلطان الكامل الذي لا يدانيه سلطان فمعنى قوله : وهو الله في السماوات وفي الأرض ) يتضمن خضوع كل من فيهن له سبحانه وسيطرته الكاملة وقدرته وعلمه واستحقاقه للعبودية والألوهية وحده.
والضمير في قوله :( هو ) يعود على المستحق للحمد الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، والذي خلق الإنسان من طين وإنه بذلك يكون مستحقا للحمد ويكون هو المسيطر في الكون الذي أنشأه وفي الإنسان الذي صوره من طين، وسخر له ما في السموات والأرض.
وقد ذكر وصفان جليلان فيهما تذكير وتبشير وإنذار.
أولهما أنه يعلم ( سركم وجهركم ) فنه يعلم ما تظهره الجوارح وما تخفيه السرائر يعلم ما يجري على الإنسان وما تخفى الصدور فإن حاسب على ما يفعلون فحسابه اللطيف الخبير الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أني يكون وهو مجاز على ذلك إن خيرا فخير وان شرا فشر وهو من بعد الغفور الرحيم.
الوصف الثاني : أنه يعلم ما يكسبون من خير أو شر ولكل ذلك حسابه من هنا إلى يوم القيامة.
( وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ).
قد وصف الله الذين كفروا بأنهم بعد قيام الدلائل التي تدركها الفطرة السليمة على وحدانية الله تعالى يجعلون عديلا لله في وحدانيته ويشركون فيه، ومع أن الآيات الفطرية تدل أن خلق الإنسان إلى فناء في الدنيا ثم إلى بقاء وإنها للجنة أبدا أو للنار وقد بين من بعد أن الذين طمست فطرتهم فلم تدرك الحق لذات الحق لا تجدي معهم البراهين مهما قويت ولا الآيات مهما بينت فبين أنهم معرضون كمن يرى ضوء الشمس فيضع غشاوة لكيلا يراها، ومن يسمع الحق فيضع أكنة على أذنه وما تأتيهم أية حجة إلا أعرضوا عنها، وهنا بعض المباحث اللفظية التي تقرب معنى الآية الكريمة :
الأول : أن ( ما ) في قوله تعالى :( وما تأتيهم من آية ) لعموم النفي ( إلا كانوا عنها معرضين ) واستغراقه أي لا توجد أي آية.
الثاني : التعبير بقوله تعالى :( من آيات ربهم ) فيه ( من ) تبعيضية والمعنى فيه ما يأتيه آية ( من ) بعض آيات ربهم الذي خلقهم وذرأهم من العدم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا وهو الذي يكلؤهم ويرعاهم إلا كانوا عنها معرضين.
المبحث الثالث : أن قوله تعالى :( الا كانوا عنها معرضين ) فيه إثبات أن الإعراض عن الحق دأبهم وصفة ثابتة فيهم لا يتخلون عنها، ودل على ذلك النفي والإثبات ثم التعبير ب ( كانوا ) الدالة على الدوام والاستمرار ثم التعبير بالوصف والمعنى الجملي : لا تأتيهم معجزة قاطعة في الإثبات من عند خالقهم إلا تلقوها معرضين عن مغزاها تاركين مؤداها.
( فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ) إذا كانوا لا تأتيهم آية بينة مثبتة الرسالة إلا استقبلوها بإعراض كأنه عادة لهم، وشأن من شؤونهم فلا بد أن يكذبوا بالحق الذي جاء به النبي صلىالله عليه وسلم وهو ما اشتملت عليه الرسالة المحمدية فهم قوم بور، لأن الناس أقسام ثلاثة : قسم يهتدي إلى الحق عندما يدعي إليه، لأنه يدرك ببصيرته إذ هي مشرقة مخلصة تستجيب للفطرة لأن الحق في فطرتها، وفي ثناياها. وقسم يقبل الحق، ويستمع إلى اياته ودلائله ويهتدي به. وقسم على قلبه غشاوة يعرض عن الحق، وعن أدلته وهؤلاء لا علاج لهم الا بالسيف يقاتلون به أو بالعذاب الشديد ينزل بهم في الآخرة.
وأنهم لا يكتفوا بتكذيب الحق إذ جاءهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وبما اشتمل عليه القرآن الكريم من حقائق ثابتة بل تجاوزوا إنكار الحق إلى الاستهزاء بأهله والسخرية بمعتنقيه، ولذلك قال سبحانه :( فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ) فإن هذا النص الكريم يشير إلى إخبار بالاستهزاء مطوي قد أغنى عن ذكره ما بعده في ثنايا القول الحكيم، وإن هذا تهديد بأنه سينزل بهم عذاب شديد هو نتيجة وثمرة لاستهزائهم وكأنه لحتميته نبأ عن القرآن الذي كان به هذا الاستهزاء وفي الكلام إشارات بيانية تؤكد أنهم مخاطبون بالرسالة ومعاقبون على الإعراض.
الأولى : في قوله تعالى :( لما جاءهم ) وأنه نزل بساحاتهم وصار قريبا منهم ففي هذا تنبيه على أنهم المخاطبون بحجيته وأنه بينهم مستمر دائم لا يتوانى عن تذكيرهم مهما فروا حتى يكون ضلالهم عن بينة ومن بعد فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها.
الثانية : تأكيد ما ينزل بهم نتيجة لسخريتهم ب ( اللام ) وب ( سوف ) وبأنه يأتيهم فينزل بسالحاتهم وذلك تأكيدا لوقوعه.
الثالثة : التعبير عن العذاب بأنه أنباء ما كانوا به يستهزؤون والنبأ هو الخبر العظيم وقد وضح ذلك الزمخشري في الكشاف فقال : فسوف تأتيهم أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزؤون وهو القرآن أي اخباره وأحواله بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزءوا وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء وذلك إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته.
وقد بين سبحانه لهم العبرة بما نزل بمن سبقوا ومن مجاورتهم ديارهم، فقال :( أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا ).
القرن : الجماعة المقترنة التي تعيش في زمن واحد والاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه، والمعنى المقرب : ايعرضون ذلك الإعراض عن المعجزات التي تبين لهم الحق، ويستهزءون ذلك الاستهزاء لأهل الحق ولم يروا بأن ينظروا نظرة تدبر وتفكر العدد الكثير من القرون الذين أهلكناهم من قبل وكانوا أشد قوة وآكد منهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع فهو للتوبيخ، لأنهم فعلا أعرضوا واستهزءوا ولم يتدبروا ويتبصروا والآية الكريمة تنبههم إلى وجوب التبصر والتدبر، وتذكرهم بما يستقبلهم إن استمروا على غيهم وهي فوق ذلك على كمال قدرته على تنفيذ إنذاره وقد ذكر الله تعالى لأولئك الأقوام الذين أهلكهم الله تعالى في سبيل بيان العبرة.
أولا : بأنهم مكنوا في الأرض بما لا يمكن للمشركين الذين عاصروا محمدا صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :( مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) أي جعلنا لهم مكانا في الأرض لم نمكن لكم مثله، أي لم نمكنه لكم، وذلك كناية عن سعة السلطان، وقيام الصنائع وكثرة العمران وثبات حكمهم واستقرار أمرهم فأنتم معشر المشركين لم يكن لكم شيء من ذلك، وأنى يكون مكانكم بجوار مكان فرعون، وأنى يكون سعة عمرانكم بجوار سبأ في مسكنهم الذي كان فيه جنات عن يمين وشمال.
وثانيا : أن الله جعل لهم العيش رغدا، ورغد العيش كان غيثا من السماء فأرسل عليم السماء مدرارا والمراد من السماء هنا جهة العلو، ولذا أفردت فقال تعالت كلماته :( وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ) أي أرسلنا عليهم السحب تنزل دارة الماء، ويصح أن نقول : إنه أرسل ما في السماء من السحب أو اعتبرت السحب الماطرة فإنها سماء باعتبارها في وجهة العلو، وفي التعبير ب ( ارسل ) بدل ( أنزل ) إشارة إلى معنى الغوث والإمداد المستمر الدائم والعرب لم يكن مطرهم كثيرا بل كان غيثا يجيءالفينة بعد الفينة.
وثالثها : بالأنهار تجري من تحتهم ولذلك قال تعالى :( وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ) في التعبير ب ( جعل ) معنى التحويل أي حولنا أمطار السماء إلى انهار تجري من تحتهم أي تحت سلطانهم يسيرون فبأي شيء يفترون ويستعلون وماذا صنع بهؤلاء ؟ قال :
( فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ).
الفاء هنا للتفصيل والبيان بعد الإجمال لقد أشار سبحانه إلى ما نزل بهم، وهنا يبين سبحانه أنه أهلكهم بسبب ذنوبهم والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران.
أحدهما : أن الذنوب ذاتها تهلك أمما إذ تشيع فيهم الترف والغرور والفساد في الأرض وبذلك تنحل وتضمحل وتذهب قوتها.
المظهر الثاني : إهلاك الله تعالى الأمم عقابا على أوزارها وإن الأمم إذا هلكت بسبب فسادها جاء جيل يصلح أمرها، ويزيل أسباب الفساد ويجدد المتخرب وهو الجيل الذي ينشئه الله على آثار المفسدين وهو غير الجيل السابق ولذلك كان التنكير وكان الوصف ب ( آخرين ).
كانت الآيات السابقة تبين إعراض الذين كفروا عن آيات الله تعالى وهي المعجزات التي تأتي بها الأنبياء فثبات أن رسالاتهم من عند الله سبحانه وتعالى، وأن المشركين يعرضون عن القرآن الكريم، ويطالبون بآيات أخرى ويحسبون أن المسوغ لكفرهم نقص فيهم بعدم الإذعان للحق، وأن الناس، قسمان : قسم يذعن للحق إذا قامت بيانته وهذا يكفيه ما اختاره الله سبحانه وتعالى دليلا على رسالة من بعثه الله تعالى لأنهم طلاب حق يتعرفون دليله ويذعنون إليه.
القسم الثاني : استولت عليهم أهواؤهم وشهواتهم وسدت مسالك النور في قلوبهم فهم في لهو وإعراض وهؤلاء لا تزيدهم قوة الدليل إلا إصرارا وهؤلاء لا يذعنون للحق مهما تكن قوة الدليل وهم الذين قال الله تعالى فيهم :
( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ).
أي إن هؤلاء لا ينقصهم الدليل ولكن ينقصهم التوجه وأخذ أمر الدين بعناية وتفكير واتجاه سليم لطلبه فإن الاتجاه المخلص يجعل النفس تشرق، وتمتلئ بالحكمة، فيقنعها الدليل وهؤلاء المغرضون ينقصهم ذلك الاتجاه المستقيم الذي يملؤهم بالنور ويشرق في قلوبهم طلب الحكمة والنزوع إليها، وعلى ذلك لا تجدى فيهم الآيات مهما تكن قوة الدليل وحسيته.
وفي النص القرآني مقمات بيانية تقرب معناها السامي وغن كان بينا في ذاته.
الأول :( لو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ) ( لو ) هنا حرف امتناع لامتناع أي أن الله سبحانه يمتنع عن أن يفعل ذلك، لأنه عبث لا يليق أن يصدر عن ذاته العلية إذ لا ثمرة له، فلن يؤمنوا مهما تكن قوة الدليل وذلك مثل قوله تعالى :( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ١٤ لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ١٥ ) ( الحجر ) فالكلام القرآني في مضمونه هنا يحكم بأن الهداية السامية لا تفتح لها قلوبهم المعرضة المتحيرة المركسة في الضلالة.
وقوى سبحانه وتعالى امتناع هدايتهم، إذا جاءتهم آية بان لو نزل عليهم مكتوب من السماء محفوظ في قرطاس متضمن معنى رسالة الله تعالى، ولمسوه بأيدهم للدلالة على العلم الحسي الذي لا ريب فيه ولا شك، لا يؤمنون فتأكدت لديهم رسالة الله تعالى بأمور ثلاثة بهذا المكتوب الذي وضع في غلافه وبلمسه بالحس لديهم وبكون اللمس بكل الأيدي والجوارح.
المقام الثاني : أنهم لا يقابلون ذلك بالتصديق والإقبال والإذعان بل ينتحلون الأعذار لكفرهم ولا يجدون مساغا إلا ادعاء السحر يلجأون إليه مع ان السحر تخييل وتسكير للإبصار وهذا فيه لمس بالأيدي فلم يقتصروا على الرؤية حتى يقولوا : إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ومع ذلك يبهتون الحق ويجابهون الواقع ويقولون مؤكدين :( إن هذاالا سحر مبين ).
الثالث أن الله تعالى حكم سبحانه بعدله بأن ذلك قول الذين كفروا منهم ففي ذلك إشارة إلى أمرين :
الأول : الإشارة إلى أن الذين يقولون هم الذين كفروا وأن هناك في مقابلهم مؤمنين يذعنون للحق ويصدقون الآيات.
الثاني : أن السبب هو الكفر والجحود والإعراض فلا يؤمنون بآية مهما تكن قوتها في الدلالة لإعراض القلوب وعدم اتجاهها إلى الحق، بل أنها مظلمة معتمة لا يدخل إليها النور مهما يكن وضاء.
الرابع : أنهم لفرط جحودهم وإغلاق قلوبهم يؤكدون أنه سحر مع اللمس بالأيدي وقد أكدوا حكمهم الباطل أولا بالنفى والإثبات أي أنه مقصور على أنه سحر ثانيا بالإشارةاليه وذكروا أنه بين واضح.
ثالثا : والمعنى الجملي أنه لا تجدي فيهم معجزة ولا دليل ويؤكد هذا قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ١١١ ) ( الأنعام ).
( وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ).
( لولا ) هنا للتخصيص أي أنها في ظاهرها لحضهم النبي صلى الله عليه وسلم على طلب الملك وجاء بالبناء للمجهول ليكون الطلب لمن أرسل الرسول وأنهم يعقلون الإجابة على إنزال الملك والحقيقة أنهم يتعنتون والنص القرآني يفيد أنه وجد منهم من طلب ذلك فعلا وأسند القول إلى المشركين لأن التعنت في الصورة الشاملة لهم فما يصدر عن بعضهم تعنتا إنما يصدر في المعنى عن جمعهم لأن الباعث واحد.
ويروى محمد ابن إسحاق فيقول :( دعا الرسول صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فقال زمعة ابن الأسود ابن المطلب، والنصر والنضر ابن الحارث ابن كلدة وعبد ابن عبد يغوث وأبي خلف ابن وهب، والعاص ابن وائل ابن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك ).
فما طلبوا أن ينزل عليه ملك لا يرونه لأنه كان ينزل عليه جبريل الأمين على قلبه ليكون من المنذرين إنما كان مطلبهم أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويخاطبهم بالشهادة له بالتأييد والنصرة فيما يدعو إليه.
وقد رد عليهم خالق الكون بردين يبينان سذاجة تفكيرهم أولا وعنتهم ومعاندتهم للحق ثانيا.
الأول : يقول الله تعالى :( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ) والمعنى القريب إلينا أننا نحن الله العلي القدير القاهر فوق عباده، لو أنزلنا ملكا لقضي الأمر أي لانتهى أمر الدعوة وألزمتهم نتيجتها في الدنيا، ولعوقبوا على تكذيبهم عاجلا ولا يكون العقاب آجلا في الآخرة بل يكون في هذه الحياة وترون أثر تكذيبهم ولا ( تنظرون ) أي لا تمهلون إلى اليوم الآخر، ولا ينطبق عليكم قول الله تعالى :( قال أنظرني إلى يوم يبعثون١٤ ) ( الأعراف ) فقضاء الأمر إنهاء أمر الدعوة بالهلاك ولكن دعوة محمد جهاد مستمر لا ينتهي أمرها بإهلاك المعاندين كما تحققت دعوة نوح في قومه :( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ٢٦ ) ( نوح ) إنما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم جهاد بالحق، ومغالبة للباطل حتى يدفع بالحق فيدمغه فإذا هو زاهق، وهي صورة باقية واضحة في الجهاد إلى يوم القيامة لأنها شريعة دائمةلدفع الناس بعضهم لبعض ولولا ذلك لفسدت الأرض وإذا كانت شريعته هي خاتمة الشرائع تكون للبقاء فانها لا تنتهي بمجرد معاندتها في ابتداء أمرها.
وإن الله سبحانه وتعالى قد أهلك ولم ينظر كما فعل مع قوم عاد وقم لوط، وقوم شعيب لأن الله تعالى لم يقدر أن يكون منهم مجاهدون مغالبون للباطل إلى يوم القيامة فجعلهم عبرة المعترين.
الأمر الثاني : الذي رد به طلبهم المتعنت كان بقوله
( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ).
إذا كان الرسول يكون معه ملك، فإن ا لمغزى أنهم يريدون أن يكون الرسول ملكا ولو جعل الله بدل الرسول البشري رسول من الملائكة لكان الأمر الطبيعي لكي يختلط بهم، ويخاطبهم ويوجههم أن يجعله سبحانه وتعالى رجلا يكون له مظاهر البشر ويندمج فيهم ويدعوهم وحينئذ لا تكون جدوى في اختياره ملكا، بدل أن يكون رجلا لأنه سيختلط عليهم ويقولون كيف يكون رجل هو الذي يدعو، وما يعترضون به على النبي صلى الله عليه وسلم هو عين ما يعترضون على ذلك الملك الذي لا يكون في مظهره إلا رجلا كمحمد صلى الله عليه وسلم فمعنى قوله :( وللبسنا عليهم ما يلبسون ) لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم إذ يقولون إذا رأوا الملك في صورة رجل هذا رجل وليس بملك ونحن نطلب ملكا وعلى ذلك يكون الدليل على أنه هو القرآن المعجز الذي يتحدى به كما يتحدى به النبي صلى الله عليه وسلم فلا جدوى ولقد قال تعالى، ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ٩٥ ) ( الإسراء ).
ونرى أن الرد الأول فيه بيان سنة الله تعالى في هداية خلقه وأن الشريعة التي يريد الله تعالى لها البقاء لا تنقضي بالإفناء لمن تلقوها وينقضي الأمر والرد الثاني يثبت أن طلبهم لا نتيجة له، وأنهم ليسوا طلاب حق، بل متعنتون مستهزئون لا يريدون الحق أو الدليل عليه، ولذا قال سبحانه :
( وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ).
في هذا النص الكريم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون فيه من بلاء وابتلاء، لقد ابتلى من المشركين بالإنكار والمعاندة وطلب آيات ولا يقصدون إلا المهاترة وقد سبق إنكارهم كل دليل يساق لهم القرآن دليلا، وتحداهم أن ياتوا بسورة منه فطلبوا آيات أخرى وجاءهم بدليل حسي يدل على أنه مبعوث من رب العالمين وهو الإسراء والمعراج فاتخذوه سبيلا للإنكار ولم يتخذوا منه حجة للإثبات وابتلاه صلى الله عليه وسلم باستهزائهم والسخرية منه، واتخاذهم القرآن مهجورا. فبين سبحانه أن ذلك شان الدعاة المجاهدين في سبيله فهم ينالهم الاستهزاء وتواليهم أسباب الإيذاء فلا ينتظر أن يجيب الأقوام بمجرد دعوتهم بل ينالهم والمؤمنين أسباب الإيذاء المتوالي والاستهزاء المستمر، وكذلك الشأن في كل دعوة جديدة فليس محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل فيما يلقاه فكلهم استهزئ بدعوته.
وقد أكد سبحانه الاستهزاء بهم في قوله :( ولقد استهزء رسل من قبلك ) أكده سبحانه ب ( قد ) وب ( اللام ).
وإن الله لا يترك الظالمين يعيثون في الأرض فسادا ويؤذون أهل الإيمان ولذلك لا بد أن ينزل بهم عقاب هذه السخرية في الدنيا والآخرة ولذلك قال سبحانه :
( فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ).
( الفاء ) هنا فاء السببية أي بسبب هذا الاستهزاء نزل ما نزل من عذاب بأمر الله وبأيدي المؤمنين قال الراغب الأصفهاني، إن ( حاق ) مأخوذة من ( حق ) قلبت فيها إحدى القافين حرفا لينا كالتظنن تقلب إحدى النونات ياء، فيقال ( التظني ) وهذا المعنى يشير إلى أن ما يحيق بهم من نتائج السخرية هو حق عليهم يؤخذون به.
والأكثرون من علماء اللغة : على أن حاق بمعنى أحاط ولا تكون إلا في الشر، والمعنى أحاط بهم الأثر المؤلم لهم لسخريتهم. وهنا إشارتان بيانيتان :
أولاهما : أن الله ذكر أنه يحيق بالذين سخروا ولم يقل بالساخرين للإشارة على أن ما يصابون به من العذاب إنما هو بسبب سخريتهم لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة هي علة الحكم وللإشارة إلى أن العذاب نتيجة السخرية.
ثانيهما : أنه تعالى قال :( فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ) وانما الذي حاق هو العذاب لا ذات السخرية ويقول العلماء : إن ذلك مجاز علاقته السبيية فهو عبر بالسبب وأراد المسبب، وان ذلك يفيد أن العذاب ملازم لهذه السخرية لا ينفصل عنها فحيث كانت كان عذابها لا محالة.
والعذاب الذي ينزله الله تعالى بالساخرين قسمان : عذاب بهلاك أو بآفات سماوية كما أرسل على فرعون وقومه الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات والآخر بأن يمن على أولئك الذين يسخر منهم بالقوة والنصر والتأييد على كل من المستهزئين الساخرين كما كان الأمر بالنسبة للمشركين الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
( قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )امر الله تعالى نبيه بأن يذكرهم بحال من سبقوهم وأن يروا آثارهم حسا، ثم يتدبروا فيها كفرا ليعرفوا أين ذهب هؤلاء فيستفيدوا من ذلك ثلاث فوائد :
الفائدة الأولى :
أن يعرفوا أن هذه الحياة التي يعيشون فيها ليس لها دوام، بل إن لها انتهاء وأنها لا تبقى فيها باقية.
والفائدة الثانية : أن أولئك الأقوام قد مكن لهم في الأرض بما لم يمكن لهم وما منعهم ملكهم الواسع وقوتهم الظاهرة من أن يؤخذوا كما يؤخذ أضعف الضعفاء وان النهاية واحدة لا فرق فيها، فالدنيا عرض زائل.
الفائدة الثالثة : أن الله عذبهم بالإهلاك في الدنيا بسبب طغيانهم لأن الله تعالى لم يرد أن يجعل منهم حماةلشريعة خالدة فسيجدون في سيرهم أرض ثمود وأرض عاد وما فيهما من بنيان قوض عليهم، وأرض قوم لوط، وقد جعل الله تعالى سافلها فإذا كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعجل لهم العذاب مستهزئين فها هي ذي المثلات والعبر فليعتبروا وإلا فهم قوم بور، لا يتعظون ولا يعتبرون.
وفي النص بحوث لفظية :
أولها أن الله أمر نبيه أن يخاطبهم هو لأنهم يستهزئون به صلى الله عليه وسلم فكانت المجاوبة منه لهم، وطلب السير من قبيل الطلب المندوب أو اللازم والنظر كذلك من قبيل الطلب، والمراد النظر بالرؤية والإبصار ثم بالتدبر والتفكير، فليس إبصارا مجردا ولكنه إبصار وتفكير ولو كان إبصارا مجردا لكان مقيدا بالغاية منه وهو التفكير والتدبر.
ثانيها : الحكمة في العطف ب ( ثم ) بدل ( الفاء ) والمقام مقام ( الفاء ) كما في قوله تعالى :( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ٦٩ ) ( النمل ). فان السياق هنالك يجعل النظر مسببا عن السير، ومترتبا عليه، أما هنا فالسير مطلوب في ذاته، ويجيء النظر المطلوب أيضا كأنه غير مقصود من السير كأنه أمر بدهي هو نتيجة للسير ولم يربط بالسببية بينهما فكان التعبير ب ( ثم ) المفيدة للتراخي وهذا تصريف الله تعالى في آياته :(... كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ٨٥ ) ( الأعراف ).
ثالثها : معنى ( كيف ) هنا ( حال ) أي انظر حال عاقبة المكذبين بعد موتهم أين البطش الذي كانوا يبطشونه والجبروت الذي كانوا يطغون به وأين المال والبنون وما كانوا يغترون به ؟.
وذكر الله تعالى ( عاقبة المكذبين ) ولم يقل تعالت كلماته عاقبة المستهزئين لأن التكذيب هو الأصل الذي ترتب عليه الاستهزاء وذكر السبب يتضمن ذكر المسبب.
( قل لمن ما في السموات والأرض قل لله ) أمر الله تعالى نبيه أن ينبههم إلى خلق السموات والأرض ومن فيهن، والمجاوبة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيمن خلقهم ومن يملك من فيهن ومن له السلطان، وقد نقلهم من أمر حسي، يستطيعون أن يروه، ويعتبروا به إلى أمر فكري هو ثمرة للتفكير في الإنسانية كلها، والاستفهام يتضمن معنيين : أولهما التنبيه إلى أنه الله تعالى يملك السموات والأرض ومن فيهن من أقوياء وضعفاء ومن إنس وجن، ومن ملائكة أطهار لا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون ومن أخيار في الأرض وأشرار فالجميع في قبضة يده سبحانه وتعالى ولا أحد فوق سلطانه، والمعنى الثاني : تبكيتهم وبيان أنهم ومن هم أقوى منهم في قبضة يده سبحانه.
ونميل إلى أن الاستفهام للتنبيه، فإنه من أمثل الطريق لتقرير الحقائق، السؤال ثم الإجابة ولذلك كانت الإجابة بأمر الله تعالى نبيه أن يقول :( قل الله ) فكانت الإجابة تقريرا للحقيقة الثابتة التي يدركها العقل السليم وهي مما يوجبه الإيمان وتقرره الفطرة وبداهة العقول.
وقد ذكر عدله ثم ذكر رحمته من بعد، وأشار إلى أن العدل والرحمة متلازمان فقال سبحانه :
( كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ).
ومعنى كتب الله تعالى على نفسه أنه أوجب تفضلا وتكرما من غير إلزام من أحد ألزمه الرحمة بعباده فهو الذي يمدهم بنعمه محسنهم ومسيئهم، وخيرهم وشرهم وهو الذي يكلؤهم بالليل والنهار، ولقد روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لما قضي الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده، فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي )١ ولهذه الرحمة لم يسارع بإنزال الهلاك على العصاة ممن بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم عسى أن يخرج من ذرية المشركين من يعبد الله سبحانه وتعالى ويخلص في إيمانه.
ومن مظاهر رحمته أن يعاقب المسيءويثيب المحسن، فإن ذلك هو العدل وفيه رحمة، فحيث كان العدل كانت الرحمة فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وهل تستوي الظلمات والنور، وهل يستوي الأخيار والأشرار.
إن عقاب العاصي رحمة بالعموم، وإن لم يكن رحمة بذات العاصي فهو لا يستحق الرحمة ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :( من لا يرحم لا يرحم )٢ ولقد ذكر سبحانه أن من مقتضى رحمته أن يجمع الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه، يجازي فيه، المحسن بإحسان ويعاقب فيه المسيء فقال تعالت كلماته :( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) فهذه الجملة استئنافية لبيان نوع من العدل وهو أن يثاب المحسن، ويعاقب المسيء ويحاسب كل على ما قدم من عمل في هذه الدنيا، إذ هو رحمة بالخلق وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن القصاص فيه رحمة كبيرة فقال : تعالت كلماته :( ولكم في القصاص حياة... ١٧٩ ) ( البقرة ) والقصاص بكل ضروبه فيه حياة ورحمة.
وهنا بعض إشارات بيانية :
الأولى : أن أكد جمع الناس يوم القيامة وذلك ب ( اللام ) الدالة قسم مطوى في القول، وبنون التوكيد الثقيلة.
والثانية : تعدية الجمع، ب ( إلى ) دون ( في ) للإشارة إلى أن الجمع نهايته تكون يوم القيامة فهم يحشرون في القبور والجمع مستمر في ذلك.
الثالثة : إثبات أن ذلك اليوم لا شك فيه عند أهل الدراية والمعرفة ومن يشك فيه فهو ليس ذا إدراك سليم، وإذا كان بعض الناس يشك فيه، فليس ذلك إلا من سقم الإدراك وفساد الفطرة وينبغي ألا يشك فيه مدرك فالبديهة تقول إن الله تعالى لم يخلق الكون عبثا، ولم يخلق عبثا بل خلقه ليفنى ثم ليبقى من بعد ذلك ومن خلق في الابتداء قادر على الإعادة في الانتهاء وبين سبحانه بعد ذلك الحال الواقعة للذين يكفرون بالله وبالرسالة وباليوم الآخر وأن شرهم متكاثف يردف بعضه بعضا.
( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ).
عبر عن الكفار بالرسالة المحمدية والوحدانية واليوم الآخر بالذين خسروا أنفسهم وجعل الكفر نتيجة للخسران فالخسران يبتدئ والكفر نهايته، أو هما متلازمان فالخسران سابق ولا حق لأنه يترتب على الكفر خسران متضافر.
والخسران الذي سبق الكفر، وهو خسران الفطرة فلا يكفر بالدليل القاطع إلا من يخسر فطرته وخسران الإدراك السليم، لأنه لا يكفر بوجود الله إلا من ينسى أن كل أثر له مؤثر، وكل موجودموجد وخسروا عقولهم إذ سيطرت الأوهام عليهم فأشركوا مع الله أحجارا تحطم وأوثانا تصنع ونجوما تأفل، وخسروا نفوسهم فصارت معوجة، وخسروا قلوبهم فصارت مظلمة وإذا كانت كل مداركهم قد سدت فهم لا يؤمنون، لأن الإيمان يحتاج إلى قلب مخلص وعقل مدرك وإذعان للحق إذ بدت معالمه، وظهرت أماراته وإنهم بعد الكفر يزيدون خسرانا إذ كل انكارللحق خسران في ذاته لأنه نزول عن مرتبة الإنسانية السامية.
وقد قال تعالى :( فهم لا يؤمنون ) وعبر بالمضارع للإشارة إلى أنهم لا يكون الإيمان شأنا من شؤونهم ذلك لأن من امتلأت نفسه بالأوهام وصارت عشا لها، وضلت عقولهم لا يمكن أن تذعن لشيء بل هي دائما مضطربة حائرة تنتقل من ضلال إلى ضلال ومن متاهة إلى مثلها، كمن يضل في بيداء كلما أوغل زاد ضلالا ( ربنا لا تزغ قلوبنا إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة... ٨ ) ( آل عمران ).
١ رواه بهذا اللفظ أحمد: مسند المكثرين مسند أبي هريرة (٧٤٧٦) ورواه البخاري التوحيد وكان عرشخه على الماء (٧٤٢٢) بلفظ مقارب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ متفق عليه رواه البخاري في كتاب، (الأدب) رحمة الولد وتقبيله (٥٥٣٨) ومسلم في كتاب (الفضائل) رحمته صلى الله عليه وسلم يالصبيان والعيال (٤٢٨٢).
( وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ١٣ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ١٤ قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ١٦ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ١٧ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ١٨ )
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة سلطانه في خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، وإحاطة علمه سبحانه ومعرفته للسر والجهر، وتلقى المشركين لبيان الحقائق، مع الإعجاز الدال على صدق الأخبار النبوية بالتكذيب والاستهزاء والإعراض عن البينات من الآيات وطلبهم آيات أخرى، وبين سبحانه أنه ما دام الإعراض وما دام الجحود مستوليا على نفوسهم فلن تجدى معهم آية لأن ما سيق إليهم كاف لأنهم يكذبون حسهم ما دام إنكارهم سابقا لتلقيهم وقد ضرب لهم سبحانه الأمثال بما وقع للسابقين ونبههم سبحانه إلى ملكيته لكل ما في السموات والأرض، وفي الآيات التي نتكلم في معناها بيان لسلطانه وعلمه الكامل بكل ما فيها، وما ينبغي أن يكون أثرا لعلمه سبحانه وتعالى بذلك فقال تعالى :
( وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )( سكن ) هنا من السكون بمعنى الاستقرار والمعنى لله سبحانه وتعالى كل ما استقر وأقام في السموات وفي الأرض من حيوان وجن وما احتويا من نبات وجماد وبحار وجبال ووهاد ولآلئ والتعبير ب ( ما ) في قوله :( وله ما سكن ) للدلالة على العموم.
وقد يراد السكون الذي هو ضد الحركة لأنه لا سكون إلا معه حركة، إذ إن السكون معنى نسبي لا يتحقق إلا إذا كان معه حركة وإذا كان الله تعالى، يعلم السكون لكل ما في السموات والأرض فهو سبحانه يعلم الحركة والسكون، وأنه لا مانع من أن يراد المعنيان معا، إذ يعلم سبحانه كل ما استقر في السماوات والأرض ويعلم حركاتهما وسكناتهما.
ويعلم ذلك في الليل والنهار ويملك كل ذلك فالنص الكريم يدل على ملكية الله تعالى لكل ما في السموات والأرض عامة، بلا استثناء ويعلم ما في كل الأماكن وفي عموم الأزمان بلا استثناء ليل ونهارا.
وهو مع هذه الملكية الكاملة يديرها بعلم كامل، ويهيمن عليها بقدرة قاهرة، وإرادة مسيطرة وعلم دقيق لذلك قال سبحانه :( وهو السميع العليم ) أي أنه سبحانه وتعالى يسمع دبيب النمل من غير أذن، ويعلم كل ما كان أو سيكون من غير مشابهة في سمعه وعلمه للمخلوقات :(... ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ١١ ) ( الشورى ) لا تخفىعليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وفي هذا النص الكريم إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يملك الناس وما حولهم لا يخرجون عن قدرته وهو المهيمن عليهم، إن شاء خسف بمن يخالفه وأهلكهم ولم يجعل من الكافرين ديارا وأنه عليم بما يكون من الطائعين فيجزيهم ويهديهم وما يكون من العصاة فيعاقبهم ويرديهم وفيه إنذار للمشركين.
( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ).
إذا كان الله سبحانه وتعالى وهو الذي يملك كل ما في السموات والأرض من إنس وجن وملائكة وغير ذلك، وهو المسيطر عليها ليلا ونهارا، وهو الذي فطر السموات والأرض وأنشأهما على غير مثال، فإن الله سبحانه هو الحق، والنصير وهو المعبود وإن أولئك المشركين يريدونك أن تعدل عن اتخاذ الله تعالى وليا و نصيرا، ومعاضدا ومؤيدا، وأن تتخذ أحجارا لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، ولذلك أمر الله تعالى نبيه أن يخاطبهم مستنكرا ما هم فيه من اتخاذهم غير الله أولياء وجاعلا الاستنكار منه صلى الله عليه وسلم والاستنكار بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم استنكار للوقوع فهو بمعنى النفى عنه صلى الله عليه وسلم أي لا يمكن أن يقع منه صلى الله عليه وسلم وبالنسبة لهم استنكار لما يقع منهم فهو توبيخ والاستنكار لأعمالهم واقع ضمنا في استنكار النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه أن يقع منه ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم ينفى وقوعه منه، ويوبخ من عملوا ذلك.
والمعنى قل يا محمد لهؤلاء الذين أشركوا بالله غيره في العبادة وادعوا أن الأوثان تقربهم إلى الله تعالى زلفى أنا لا أتخذ غير الله وليا ولا نصيرا، وقدم في الاستفهام كلمة ( أغير الله ) لأن ذلك موضع الشناعة عليهم في الاستنكار إذ أنه موضع الغرابة أن يكون غير الله متخذا وليا فكان ذات الاتخاذ غريبا في ذاته، والإشراك في ذاته ترك لعبادة الله وعدم اتخاذه وحده وليا ونصيرا، لأن الولاية الحق هي لله وحده، فاتخاذ أي ولى معه ترك لولاية الله تعالى والولي يطلق بمعنى النصير وبمعنى المعبود وبمعنى الصديق الحميم، وهو هنا بمعنى النصير المعبود فلا يستنصر إلا الله ولا يعبد سواه، وقد ذكر سبحانه على لسان نبيه الكريم عملين له سبحانه يوجبان أن ينفرد وحده بالعبادة.
أحدهما ما ذكر سبحانه وتعالى :( فاطر السموات والأرض ) أي منشئهما على غير مثال سابق، ابتداء حيث لم تكونا من قبل وقد قال مجاهد التابعي تلميذ ابن عباس :( سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان إلى في بئر فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها، يقول : أنا ابتدأتها أي ابتدأ بشقها. )
ونقول : إنه ليس بمعقول أن يكون ابن عباس جاهلا بالمعنى المفهوم من السياق ولكن لعله كان لا يعلم أصلها في اللغة وكيف كانوا يستعملونها حتى التقى بالأعرابيين فوضح لديه أصل الاستعمال.
وفطر السموات والأرض يوجب أن تكون الولاية لله وحده لأنه الخالق لهذا الوجود والذين يشركونهن معه لا يملكن لأنفسهن ضرا ولا نفعا، فكيف نتصور ولاية لهن بجوار ولاية الله الخالق المنشئ.
الأمر الثاني : أن الله لا يحتاج وغيره يحتاج فهو يطعم كل من في هذا الوجود ويمده بأسباب الحياة والنماء ولا يطعمه أحد، وهذا على قراءة ( ولا يطعم ) بالبناء المجهول وهنا قراءة بالبناء للمعلوم والمعنى فيها أنه يطعم من يشاء بالرزق الموفور، ولا يطعم من يشاء بالتقتير عليه في الرزق.
( قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ).
كما أمر الله تعالى نبيه بان يستنكران يتخد غير الله وليا، وهو الذي أبدع ذلك الوجود وكل ما فيه يحتاج إليه، وهو لا يحتاج إلى أحد وكنى عن هذا إلى الاحتياج بإطعام غيره إذ أشد الحاجة تكون إلى الطعام بعد هذا أمر الله تعالى نبيه بأن يقول إنه أمر أن يكون أول من أسلم وفي ذلك بيان أن الإسلام مطلوب من الجميع وأن النبي صلى الله عليه وسلم أول من يؤمر بالإذعان لله تعالى والخضوع له، وفي بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مع أنه بالبداهة أول من خوطب بالإسلام وأمر بما اشتمل عليه كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يكون أسوة حسنة لهم كما قال سبحانه :( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة... ٢١ ) ( الأحزاب ) ولأن الاقتداء دعوة حسية ولأن في الإنسان نزوعا إلى التقليد واتباع المهتدين والتعبير بقوله تعالى :( أن أكون أول من أسلم ) تعبير بالحال الواقعة من النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون في حال أول من ينشئ الإسلام ويذعن لله سبحانه وتعالى، وكأنه يقول لهم : أنا منكم وأمرت أن أكون أول من يخترق الحجزات لأذعن لله الواحد الأحد الفرد الصمد ثم قال تعالى :( ولا تكونن من المشركين ) أي أنه كما أمر أن يكون أول المذعنين لأوامر الله تعالى المخلصين له، نهى أن يكون من المشركين بأن يكون في صفوف المشركين الذين يجعلون مع الله تعالى غيره معبودا وأن أخرج من صفوف المشركين وإن كانوا قومي وعشيرتي وفيهم الأقربون وهنا نثير ثلاثة أمور نقرب بها معنى النص الكريم.
أولها : كيف تعطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، اذ إن الأولى أمرت والثانية، ولا تكونن من المشركين ؟ وقد أجاب عن ذلك العلماء بإجابات مختلفة والذي نراه أن الجملة الأولى ظاهرها إخبارية ولكن لتضمنها معنى الأمر كانت في معنى الجملة الطلبية الإنشائية فإن نسق الكلام هكذا ( كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ).
الثاني : لماذا كان النهي عن الشرك بعد الأمر بأن يكون أول مذعن لمطالب الإيمان بالوحدانية والجواب عن ذلك أن النهي هو عن أن يكون من المشركين بأن يتبرأ منهم ومن إشراكهم ويخرج من صفوفهم ولو كانوا قومه وعشيرته القربى وإذا خرج من صفوف أهل الكفر كان في حزب الله، وحزب الله تعالى هم المفلحون.
الثالث : لماذا كان الالتفات من الإخبار الظاهر، في قوله تعالى :( أمرت أن أكون أول من أسلم ) إلى الخطاب في قوله تعالى :( ولا تكونن من المشركين ) ؟ والجواب عن ذلك أن الخطاب فيه توكيد معنى النهي عن الشرك وكلتا الجملتين للخطاب كما خرجنا في الأمر الأول والله تعالى هو وحده الذي يملك الأمر والنهي.
( قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ).
هذا أمر ثالث من الله سبحانه وتعالى لنبيه الأمين صلى الله عليه وسلم أن يبين حالا من أحواله صلى الله عليه وسلم يكون فيها تنبيه وتحذير من أن يبقوا على الشرك ويستمروا على عصيان الله تعالى : فيأمره تعالى بأن يقول لهم :( إني أخاف إن عصيت ) فذكر هذه الحال من النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه لهم إلى أنهم في مقام من يخاف عذاب يوم عظيم.
ففي هذا النص إنذار لهم بان عذاب يومك عظيم ينتظرهم وأنه يجيب أن يخافوه ويتقوه بأن يقلعوا عما هم فيه من الوقوع في أسبابه وهو العصيان، وأكبر العصيان الشرك وأنذروا بأدق تعبير، وأنصف تصوير وأبلغ بيان إذ جعلت حال النبي صلى الله عليه وسلم من الخوف من عذاب الله إن عصى منبهة إلى الاقتداء والتفتيش عما هم فيه من معصية.
وفي الموضع كلام في عصيان الأنبياء أيتصور وقوعه ؟ ونقول إن الأنبياء معصومون عن العصيان ولكن الخوف من العصيان يعتريهم لأنهم لفرط إحساسهم بعظمة الله وإيمانهم بحسابه وعقابه وثوابه، ورقابتهم النفسية لله يكونون دائما في خوف ووجل، لا لتوقع العصيان ولكن رهبة من الديان.
ولأن العصيان الجلي، غير متوقع عبر ب ( إن ) التي لا تدل على الوقوع فقال ( إن عصيت ربي ) وهنا فوق التعبير ب ( إن ) التعبير ب ( ربي ) فإنه يستبعد عصيان الرب الخالق المنمئ الكالئ الذي هو فوق كل شيء.
واليوم العظيم هو يوم القيامة وكان عظيما، بما فيه من أمور من تجلي الله سبحانه وتعالى وحسابه وعقابه والتنكير للتعظيم فهو ذو عظمة متكررة،
ولعظمة ذلك اليوم وعذابه قال تعالى :( من يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ).
الضمير الذي يعتبر نائب فاعل يعود على عذاب يوم القيامة العظيم، وهناك قراءة بالبناء للفاعل١ ويكون المفعول محذوفا، والضمير يعود إلى ربي أو إلى الله المذكور تعالى في قوله :( أغير الله أتخذ وليا ) على آخره ويكون المعنى على هذه القراءة من يصرف الله تعالى عنه هذا العذاب العظيم في ذلك اليوم فقد رحمه وعلى أي حال فالضمير في قوله تعالى :( فقد رحمه ) يعود على الله، ولهذا اختار ابن جرير الطبري قراءة البناء للفاعل إذ يكون الصارف الدافع للعذاب هو الرحيم فالنسق يكون واضحا.
و ( يومئذ ) من إضافة الوقت إلى الوقت أي ذلك في يوم ذلك الوقت وهو يوم القيامة وكان ذلك رحمة من الله لأن العذاب يكون عظيما وذهاب العذاب ودفعه رحمة، ومع ذلك فهناك الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والنعيم المقيم فالرحمة إيجابية وسلبية فالسلبية دفع العذاب والإيجابية الهداية، فإنها في ذاتها رحمة ثم ما يعقبها من جزاء. ثم ما هو فوق ذلك وهو رضوان الله تعالى.
وذلك كله من الرحمة المتنوعة المتعددة وهو الفوز المبين الواضح الذي لا يماري فيه إلا جهول.
١ (من يصرف) بفتح الياء وكسر الراء: قراءة عاصم غير حفص وحمزة والكسائي وخلف، ويعقوب: (غاية الاختصار ج٢ برقم (٨٣٣).
( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ).
المس يطلق على ما ينزل بالإنسان من ضر مثل قوله تعالى :(... قالوا لن تمسنا النار إلا أيام معدودات... ٢٤ ) ( آل عمران ) وقوله تعالى :(... مستهم البأساء والضراء... ٢١٤ ) ( البقرة ) ومثل قوله تعالى :( وإذا مس الإنسان الضر... ١٢ ) ( يونس ) والضر هو الأمر المؤلم الذي ينزل بالمرء من ضيق في الرزق أو مرض في الجسم، أو هزيمة في حرب أو نحو ذلك، فإذا مسك أيها النبي صلى الله عليه وسلم ضر من هذا النوع الذي تتأثر به في دعوتك فلا يكشف عنك هذا الضر لتستمر في تبليغ رسالته إلا الله تعالى بعد أن تتخذ الأسباب وظاهر هذا الكلام أن الخطاب يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون لتقويته في تبليغ دعوته وتأكيد ولايته واستعانته به سبحانه وتعالى وحده.
ويصح أن يكون الخطاب لكل مؤمن قارئ للقرآن، أو لكل من هو أهل للخطاب وفيه بيان أن الناس جميعا في سلطان الله، فما يصيبهم من نفع فبتقديره، وما يصيبهم من ضر فبتقديره وإرادته، وهو الكاشف لهذا الضر إن أراد ذلك كله مع الأخذ بالأسباب لأن الأسباب لا تعمل وحدها، إنما لا بد معها من إرادة الله تعالى والتوكل عليه ولذلك كان الله تعالى يأمر بالتوكل عليه بعد الأخذ بالأسباب لأنها وحدها لا تعمل إلا مع التفويض كما أن النوم والتوكل لا يجديان والتوكل في هذه الحال تواكل وليس اعتماد اعلى الله سبحانه وتعالى وقوله تعالى :( وَإِن يَمْسَسْكَ بخير فهو على كل شيء قدير ) فيه مقابلة بين الخير والضر وأن الأول يكشفه الله، والثاني بقدرة الله تعالى والتعبير بالمس في الأمرين من قبيل التشاكل اللفظي والكل تحت سلطان الله تعالى وقدرته، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من هو أهل للخطاب الذي يتلو القرآن الكريم أو يستطيع تلاوته وكشف الضر، إزالته ومس الخير، نفعه، ولماذا عبر عن الضر بأن الله كاشفه وعن مس النفع بقدرة الله تعالى ؟ ونقول في الإجابة : إن من نزل به ضر يكون إحساسه بزواله فعبر عن زواله بكشف الله تعالى، وأما النفع فإنه يكون صاحبه في حال تستوجب الحمد والثناء وطلب البقاء فيناسبه اثبات قدرة الله تعالى. وإن كشف الضر والنفع كله بقدرة الله تعالى، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت )١ وقال الله تعالى :( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده... ٢ ) ( فاطر ).
١ جزء من حديث متفق عليه رواه البخاري القدرـ لا مانع لما أعطى الله (٦٦١٥) ومسلم المساجد ومواضع الصلاة(٥٩٣)..
( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ).
معاني هذه الآية الكريمة جامعة لكل سلطان الله على عباده في السماء والأرض، فهو الغالب على كل شيء لا إرادة لأحد مع إرادته وإرادته فوق كل إرادة، فهو المسيطر سيطرة كاملة على عباده والفوقية المذكورة في النص الكريم هي فوقية سلطان لا فوقية مكان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فلا جبار له إرادة عند سلطانه سبحانه ولقد قال ابن كثير في معنى النص جملة رائعة فقد قال :( يقول تعالى : إنه مالك الضر والنفع وإنه المتصرف في خلقه بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه وهو القاهر فوق عباده أي هو الذي خضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة وعنت له الوجوه وقهر كل شيء ودانت له الخلائق ).
وإنه بهذا السلطان القاهر يدبر كل شيء بحكمته وعلمه الدقيق المحيط، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فبحكمته الظاهرة وبعلمه المحيط وقدرته القاهرة يسير الكون وما فيه ومن فيه إنه على ما يشاء قدير.
( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ١٩ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٢٠ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ٢١ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ٢٢ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ٢٣انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ٢٤ )
في الآيات السابقة بين الله تعالى أنه خالق السموات والأرض وفاطرها، على غير مثال سابق، وكيف خالف المشركون الفطرة الإنسانية والعقل المستقيم، وأشركوا بأحجار في عبادة الله لا تنفع ولا تضر وبين سلطانه تعالى، ثم ذكرهم سبحانه بنوازل تنزل بهم، فهو الذي يكشف الضر إن نزل، وهو الذي يسوق الخير بفضل قدرته ومنته. وفي هذه الآيات يذكرهم سبحانه بإشراكهم مع قيام المعجزة القاطعة بأنه سبحانه وتعالى هو الله وحده، فالآيات السابقة كانت في الآيات الكونية المثبتة للوحدانية والآيات اللاحقة بالدلائل السمعية المثبتة للوحدانية والتي ثبت صدقها بالمعجزة القاطعة وهي القرآن الكريم ولذا قال تعالى :
( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ).
فرض النص الكريم أن خصومة بين محمد صلى الله عليه وسلم وهو الداعي إلى الوحدانية والمشركين الذي يرتعون في الوثنية وأن هذه الخصومة تحتاج إلى شاهد يشهد وأنه لا بد من شاهد يفصل وحاكم يحكم ويقضي فأمر الله تعالى نبيه في بيان رائع حكيم أن يسأل المشركين عن أي شيء في هذا الوجود أكبر وأعظم وأقوى وأزكى شهادة بحيث تقبل شهادته ولا ترد وكان الكلام في صيغة الاستفهام تنبيها إلى جلال الشاهد وتنبيها إلى سلامة دعوى محمد صلى الله عليه وسلم ليدركوا حقه وضلالهم ثم نبههم إلى الإجابة السليمة للسؤال التنبيهي التي لا تقبل مراء ولا جدلا وهو أن أكبر شهادة هي شهادة الله سبحانه وتعالى، الذي خلق الكون وهو الذي يحوط كل ما فيه بالحياطة الكاملة والتهذيب والتربية فقال تعالت كلماته ( قل الله شهيد ) في هذه الخصومة التي فرضتموها هي خصومة الباطل اللجلج مع الحق الأبلج، وقد تكلم الزمخشري في بيان لفظي بلاغي فذكر أن في النص الكريم توجيهين :
أحدهما : أن الإجابة تنتهي عند قوله :( الله ) وأن ما بعد ذلك تقرير للشهادة، ف ( شهيد ) يكون جملة جديدة لأنه خبر لمبتدأ محذوف ويكون المعنى على هذا التخريج قل الله ذو الجلال والإكرام والعزة وصاحب الإنعام في هذا الوجود وهو كاف وهو أكبر شهادة ولا شهادة بعد شهادته وهو يشهد بالحق وبالوحدانية يشهد بما جاء في القرآن بعد أن شهد بما خلق وأنشأ ثم بين أنه هو شهيد في هذه الخصومة.
والتخريج الثاني : أن الإجابة تكون في نهايتها عند ( شهيد ) فالمعنى قل إن الله تعالى شهيد ف ( شهيد ) تكون خبرا للفظ الجلالة ابتداء وكلاهما توجيه ليؤكد معنى الشهادة في النص القرآني.
ولماذا كانت شهادة الله تعالى أكبر شهادة ؟ لأنها التي تتفق مع العقل ولأنه المنشئ ولأنه الباقي وكل شيء هالك إلا وجهه.
وما الدليل على شهادة الله تعالى ؟ نقول : هي بيناته وهي التي ينطق بها القرآن الذي قام الدليل على أنه من عند الله تعالى العزيز الحكيم، ولذلك جاء ذكر القرآن الناطق بالحق فقال تعالى :
( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ).
هذا النص فيه معجزة التي تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يشتمل على شهادة الله القولية بأنه واحد أحد ليس بوالد ولا ولد، وأنه القادر على كل شيء وأنه القاهر فوق عباده، وهو أمر حسي يتلى عليهم ليلا ونهارا، يقرأ عليهم جهارا وكان معجزا ببلاغته، وما فيه من علم وما فيه من قصص صادق، وما فيه من شرائع منظمة للعلاقات بين الناس في أسرهم ومعاملاتهم واجتماعهم وعلاقات الإنسانية بعضها ببعض ولقد قال صلى الله عليه وسلم في إثبات أنه المعجزة التي تحدى بها الناس أن يأتوا بمثلها فعجزوا عجزا مبينا :( ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي به إلي وإني لأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )١.
ولماذا كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا يتلى وتولى سبحانه حفظه من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة كما قال تعالى :( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ٩ ) ( الحجر ).
والجواب عن ذلك أن معجزات الأنبياء السابقين كانت تقع ولا يعلم بها على اليقين إلا الذين عاينوها وشاهدوها، والذين من بعدهم لا يعلمونها إلا بالخبر الذي لا شك فيه. أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها باقية خالدة إلى يوم الدين فلا بد أن تكون معجزاتها قائمة حاملة معنى الإعجاز والتحدي ما دامت الشريعة قائمة خالدة فلا بد أن يكون القرآن الكريم حجتها خالدا بخلودها.
والنص القرآني الذي نتكلم فيه اشتمل على أمور ثلاثة :
أولها : بيان أنه المعجزة المثبتة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر بالإشارة إذ قال :( وأوحي إلي هذا القرآن ) وقد ثبت بالتحدي عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
ثانيها : أنه مشتمل على الإنذار للمشركين والمخالفين والعصاة إن استمروا على غيهم ولم يستجيبوا لنداء ربهم ودعوة نبيهم على الوحدانية والفضيلة وتكون مجتمع سليم نقى.
ثالثها : أن النص يتضمن أن القرآن حجة وإنذار لكل من بلغه سواء خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم أم بلغه وقد بين ذلك قوله تعالى :( لأنذركم به ومن بلغ ) أي أن من بلغ القرآن فهو مخاطب به، سواء أكان من العرب أم كان من العجم، وكأنه خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم ولقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال :( بلغوا عن الله تعالى، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله )٢ وروى عن جمع من التابعين أنهم كانوا يقولون :( من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم ).
وإن هذا النص يستفاد منه أمران :
أولهما : أن من لم يبلغه القرآن ولا يعلم عنه شيئا فإنه لا يعتبر قد بلغته الدعوة الإسلامية وإثمه على الذين تقاصروا عن تبليغها وبيانها.
ثانيهما : أنه لا معذرة لمن يعرف القرآن في الكفر بالحقائق الإسلامية.
ولكن كيف التبليغ بالقرآن والعجمة سائدة في هذا الوجود سواء أكانت إنجليزية أو فرنسية أو غيرهما ؟
والجواب ذلك أنه يجب في سبيل الدعوة إلى الإسلام التي هي فرض كفاية على المسلمين يأثم المسلمون جميعا إن لم يكن دعاة إلى الإسلام يجب عليهم أن تفسر طائفة مخلصة مؤمنة فاهمة القرآن تفسيرا موجزا تبين معانيه، ويترجم ذلك التفسير إلى كل لغة أعجمية.
( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ ).
شهادة الله التي فصل بها في القضية ونطق بها القرآن الكريم، ولذا أحيل بيانها إلى القرآن في قوله تعالى :( وأوحي إلي هذا القرآن ) وفي هذا النص السامي يقابل بينها وبين شهادتهم وما يتبعه، النبي صلى الله عليه وسلم أيتبع الله تعالى العلي الحكيم ام يتبع أهواءهم ؟ معاذ الله أن يتبع الهوى بل إنه يتبع الهدى، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، فهم وقع منهم ذلك، وتأكد وقوعه ولم ينكروه ولذلك كان تأكيد وقوعهم بان قال تعالت كلماته :( أئنكم ) فهو إنكار لهذا الأمر الواقع منهم وقوعا مؤكدا، وإنكار الواقع توبيخ، فالاستفهام هنا يتضمن معنى تقرير ما وقع منهم وتوبيخهم عليه، وعبر بتشهدون للإشارة إلى قوة الضلال في نفوسهم إذا إنهم مع ضلال الفكرة الوثنية يعتقدونها أشد الاعتقاد لأن الشهادة لا تكون الا بالعلم اليقيني فهم يؤمنون ب ( تشهدون ) بالشرك أي بأن مع الله آلهة أخرى وتسمية الأوثان التي يشركون بها مع الله تعالى آلهة لأن ذلك في زعمهم فليست آلهة ولا يمكن أن تكون آلهة إذ هي أوثان أو أشياء أو أشخاص لا يكون منها نفع ولا ضرر وليست مفيدة في ذاتها وهم يعبدونها، فهي بزعمهم آلهة.
ووصفت ب ( أخرى ) مع أنها جمع، وكان الظاهر أن توصف ( بأخر ) ليوصف الجمع بالجمع ولكن لأنها مشتركة في وصف جامع وهو أنها أحجار فهي في المعنى شيء واحد لذا وصفت، فهي في المعنى واحد وكذا وصفت بما يوصف به الواحد لا بما يوصف به العدد ب ( أخرى ) فيه إشارة إلى بطلان عبادتها.
وانه من المبالغة في التوبيخ والتنديد أن يأمر الله تعالى نبيه بالا يشهد بما يشهدون بل يشهد بشهادة الحق، فيقول الله تعالى :( قل لا أشهد ).
وفي أمر الله تعالى له بالقول مع التنديد لهم والتوبيخ لهم ما يدعو إلى الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم وهو العاقل الصادق الأمين المعروف بذلك بينهم جاهلية وإسلاما وإن ذهبت اللجاجة إلى إنكار المعروف بلسانه لا بقلبه.
( قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ).
هذا تقرير وتأكيد لمعنى الجملة السابقة وهي لا شهد وتحتمل أن تكون داخلة في مقول القول، ويكون مقول القول لا أشهد وإنما هو إله واحد، ويحتمل أن تكون جملة مبتدأة والفصل في الأول يكون لأنها بيان لما قبلها، وفي الثانية يكون لابتداء الكلام، وإن كان في المعنى فيه تقرير لما سبقه.
والضمير ( هو ) يعود على الله تعالى وهذا النص السامي تضمن أمرين :
أولهما : وحدة الله تعالى وقد نص عليه بقوله تعالى :( إنما هو إله واحد ) وهذا يفيد قصر الأولوهية على الله تعالى فلا يعبد سواه سبحانه، ويفيد مع ذلك أنه لا يتصور أن يكون المعبود بحق غير واحد، لأن المنشئ المكون واحد ولا يتصور بمقتضى النظر إلا أن يكون المعبود واحدا.
الأمر الثاني : التصريح ببراءة النبي صلى الله عليه وسلم مما يعبدون من أوثان يشركون بها مع الله تعالى :( وإنني بريء مما تشركون ). في هذا النص تنديد شديدبعبادة الأوثان لأن الرجل العاقل يتبرأ منها، ولا يليق أن يعبدها وقد أكد براءته
ب ( عن ) وبالوصف ( برئ ) وبأن ذلك انتحال منهم وليس ألوهية في شيء.
١ متفق عليه وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ رواه ابن جرير عن قتادة مرفوعا. وهو مرسل. (جامع البيان ج٧ ص ١٠٣) واخرج البخاري (٣٣٨٦) عن عبد الله ابن عمرو وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية) وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)..
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ).
الذين آتاهم الله سبحانه وتعالى الكتاب هم اليهود والنصارى أوتوا التوراة والإنجيل وهم بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم ورسالته، وبعثه وصفته ومهجره، ويؤمنون بالله تعالى ويوحدونه ولا يشركون، يعرفون هذه الحقائق كما يعرفون أبناءهم الذين هم من أصلابهم فهو عندهم بمرتبة اليقين، وقد وردت الآثار بذلك.
ويروي في ذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله، وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما انه قال جاء النحال ابن زيد وقردم ابن كعب فقالوا : يا محمد ما نعلم مع الله إلها غيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا إله إلا الله تعالى، بهذا بعثت وإلى ذلك أدعو )١.
فهذا النص الكريم ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ) شهادة ثابتة بعد شهادة الله تعالى التي حكاها النبي صلى الله عليه وسلم عنه جل جلاله وبعد شهادته صلى الله عليه وسلم وهي شهادة النبيين السالفين أجمعين.
والضمير في يعرفونه على من يعود ؟ قال الأكثرون من المفسرين : إنه يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ويؤيد ذلك سبب النزول المذكور أولا، وهو المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الكلبي وهو يؤيد الوحدانية ويؤكد الشهادة بها من قبل تأييد النبي صلى الله عليه وسلم في صدق رسالته.
وجوز ابن جرير الطبري عودة الضمير على الله تعالى، ويؤيده أنه قرب ظاهر مذكور في الآية كما يؤيده رواية ابن عباس في شهادة أهل الكتاب الذين شهدوا بالتوحيد وهو ظاهر وإن كان لا يظفر بالكثرة التي يظفر بها الرأى الأول.
( الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ).
ختم الله تعالى النص ببيان خسارتهم لأنفسهم، وإركاسهم أنفسهم في الفساد ويترتب فقد الإيمان وعلى هذه الخسارة الفادحة التي فقدوا بها أنفسهم كأناس لهم إدراك وفهم في ربط للمسببات المنطقية باسمها وإن المشركين كانوا يؤيدون نحلتهم بتكاثر معتنقيها، فذكر لهم القرآن الكريم أن الله تعالى يشهد ببطلان كلامهم وقام الدليل على صدق شهادة الله تعالى بالكتاب الموحى به، والذي قام الدليل على صدقه بالتحدي به، وعجزهم عن أن يأتوا بمثله وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم وقد علموا أنه الصادق الأمين وإن لج قادتهم في الخصومة حتى فجروا فيها، وشهدت الكتب السابقة والذين يعتنقون ما فيها، فلماذا يكذبون ويشركون فماذا بعد الحق إلا الضلال وأي خسارة نفسية أكثر من الفجر في الخصومة واللجاجة في البهتان حتى أصبحوا لا يتصور الإيمان معهم.
١ رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان: جد ٧ ص ١٠٤.
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ).
الاستفهام هنا إنكاري للنفي وفيه توبيخ للمشركين هو حكم على أمر واقع، ومعنى القول : لا أحد أظلم من الذي قصد إلى الفرية على الله تعالى، أو كذب الحجج القائمة أو كذب ما جاء في القرآن الكريم من آيات بينات، ومعنى النص أن المشركين كذبوا على الله تعالى بكل عقائدهم وبذلك بلغوا أقصى درجات الظلم الذي لا يوجد أعلى منه، إذ يلغوا أقصى غايات الكذب الذي يبهت العقلاء والأمناء الصادقين وقد قال الزمخشري في بيان كذبهم على الله تعالى :( جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله تعالى بما لا حجة عليه وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح، حيث قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا والله أمرنا بها، وقالوا : الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
هذه بعض أكاذيبهم على الله تعالى التي بلغوا بها أقصى درجات الكذب وبها استحقوا أن يكونوا هم، ومن يشابهونهم أكثر الناس افتراء، وأظلم الناس في هذا الافتراء وخلاصتها أنهم كذبوا على الله تعالى بأن ادعوا عليه سبحانه ما لم يكن، وكانوا في ذلك مرتكبين لأعظم بهتان، وكذبوا بآياته، والآيات قسمان : آيات هي المعجزات ومنها التي تحدى بها الأنبياء والآيات الكونية وقد كذبوا الاثنين، وكفروا بآيات الله تعالى في آيات الكون الدالة على إبداع خلقه، وأنه سبحانه هو الخالق وحده، وهناك الآيات القرآنية قد كذبوا بها فلم يؤمنوا.
ولا يمكن أن يفوزوا وهم على هذا الظلم، ولذلك ختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته :( انه لا يفلح الظالمون ) فالظلم وخصوصا ظلم الكذب يفسد النفس، ويفسد العقل ويفسد العمل.
( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ).
الكلام هنا متصل بما قبله، ذلك أن ختام الآية السابقة هو قوله تعالى :( إنه لا يفلح الظالمون ) وذلك يومئ إلى أن الله لا يوفقهم للخير في الدين، لأنهم خسروا أنفسهم ولو يؤمنوا ولأنهم أظلم الناس بافترائهم على الله وتكذيبهم لآيات الله ويوم يحشرهم أي يجمع الناس جميعا لا يستثنى منهم أحد يكون الخسران المبين والعذاب الأليم والحرمان من النعيم.
وفي الآية الكريمة قراءتان ذكرهما الزمخشري أولاهما قراءة حفص بالنون في ( نحشر ) و ( نقول )١ ومعناها ظاهر بين لا يحتاج إلى تخريج أو تأويل وثانيهما بالياء في ( يحشرهم ) وفي ( يقول ) ويكون الضمير في الأمرين يعود إلى الله تعالى وهو مذكور عن قرب في الآية السابقة.
والحشر مؤكد بكلمة ( جميعا ) وهذا التأكيد يمنع احتمال التخصيص ويكون الضمير يعود على الناس أجمعين وأن الذين يعاقبون ويحاسبون هم الذين أشركوا ولذا قال تعالى :( ثم نقول للذين أشركوا ) والعطف ب ( ثم ) كان لتعدد الوقائع قبل هذا الخطاب الموجه للمشركين خاصة والذين اختصوا بالخطاب فيه لأنه لا شركاء يزعمونهم آلهة مع الله إلا عند الذين أشركوا فهناك أمور تقع يوم القيامة قبل هذا الخطاب وكان تقدير القول هكذا : يوم نحشر يكون الحساب، وتحضر كل نفس ما كسبت، ويكون لكل امرئ كتابه، ويحصى عمله من خير وشر، ثم نقول للذين أشركوا :( أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ) الشركاء هم الآلهة التي زعموها آلهة مع الله تعالى فإضافة الشركاء إليهم لأدنى ملابسة، أي لمجرد العلاقة النفسية والفكرية التي نحلتها عقولهم السقيمة في إدراكها لهم، وهل كانوا غائبين عنهم، حتى يبحث عن مكانهم لعل ذلك يكون، ولعل حالهم من أنهم لا قوة لهم، وليس لهم الشفاعة المقربة، ولا النصرة القادرة، يعتبرون كأنهم شيء معدوم يسألون عنه، وما كان سلطانهم إلا بزعمهم الفاسد في الدنيا وقد رأوا الحقائق عيانا، وكشفت الأمور لهم فغاب عنهم سلطان تلك الآلهة المزعومة.
١ (يوم يحشرهم... ثم يقول) بالياء فيهما الأنعام (٢٢)و وهي قراءة يعقوب وقرأ بها عنه روح ورويس غاية الاختصار..
( ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ).
أصل معنى الفتنة، إدخال المعدن النار ليزول عنه الخبث الذي يعلق به، وأخص المعادن الذهب، ففتنته إدخاله في النار لتعلم جودته، ثم أطلقت على الاختبار والعذاب والبلاء، والمصيبة والكفر والإثم والألم والضلال.
وفي النص الكريم قراءتان : إحداهما ضم تاء ( فتنتهم )١ والمراد من الفتنة الاختبار الشديد بهول ما رأوا، والمعنى على هذه القراءة وهي قراءة حفص : وكان من أثر الاختبار الشديد الذي رأوه يوم الحشر والحساب، أن نسوا ما كانوا عليه من شرك، وقالوا مقسمين :( والله ربنا ما كنا مشركين ) أي أنهم أقسموا بالله غير صادقين في الحقيقة ونادوا الله ب ( ربنا ) معترفين بربوبيته وحده، ويكون ذلك من فرط الهول والشدة وعظمة ما رأوا من صدق الحقائق، حتى كذبوا أنفسهم.
والقراءة الثانية بفتح التاء وبالياء في يكن٢ ويعتبر اسم ( يكن ) هو ( أن قالوا ) وقد رجح هذه القراءة ابن جرير الطبري، قال في معناها :( ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين فوضعت الفتنة موضع القول لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما الفتنة الاختبار والابتلاء ولكن ما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلا عند الاختبار وضعت الفتنة التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم واعتذارهم.
وخلاصة المعنى الذي يقرره ابن جرير أن الفتنة الاختبار، وأنهم بهذا المعنى هي السبب للقول، والقول هو المسبب ويكون التخريج هكذا لم يكن القول المتسبب عن الفتنة إلا أن قالوا إنا كنا مشركين فعبر عن المسبب بالسبب لبيان شدة الهول وما يترتب عليه.
١ قرأ (فتنتهم) بالرفعـ ابن كثير وابن عامر وحفص والمفضل كلاهما عغن عاصم وقرأ الباقون بنصب التاء..
٢ (ثم لم يكن) بالياءـ قراءة حمزة والكسائي ويعقوب وخلف والمفضل عن عاصم وقرأ الباقون بالتاء..
( انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ).
النظر هنا ليس هو نظر البصر، ولكنه نظر القلب والتأمل والتفكير والاعتبار والنظر القلبي إنما هو حالهم وما كانوا عليه من فزع واضطراب بسبب يوم القيامة الذي تزلزل فيه :(... وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ٢ ) ( الحج ) فهذا التصوير لحالهم بعد رؤيتهم هول يوم القيامة إذ قالوا غير ما كان منهم كاذبين اعتذارا عما كان أو إنكارا أو نسيانا للهول الذي هم فيه إذ ساروا سكارى لا يعون وهذا هو الذي نختاره فكذبهم بإخبارهم غير الواقع كان غفلة وذهولا، ولذا قال :( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) أي غاب عن ذاكرتهم فنسبوا ما كانوا يفترونه من قول فيشركون مع الله غيره في العبادة ف ( ما ) اسم موصول بمعنى ( الذي ) وما أنساهم إلا الهول حتى أخبروا بغير ما وقع منهم، اللهم نجنا من كرب يوم القيامة وما فيه.
( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ٢٥ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ٢٦ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ٢٧ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ٢٨ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ٢٩ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ٣٠ ).
الكلام موصول في المشركين الذين تقوم لديهم الدلائل القاطعة على وحدانية الله تعالى، وسلطانه تعالى عليهم في الدنيا وإثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالمعجزة التي تحدى العرب فيها أن يأتوا بمثلها، وبيان ظلمهم ثم بين سبحانه بعض حالهم يوم القيامة وكيف يغيب عنهم ما كانوا يفترونه، وفي هذه الآيات يبين حالهم عند تلقي الدعوة المحمدية.
( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ).
الأكنة جمع كنان وهو الغطاء والمعنى أنه لا يصل الحق إلى قلوبهم لوجود ذلك الغطاء الحاجز المانع من أن يصل نوره إلى قلوبهم بل إنه لا يصل إلى مسمعهم فقد جعل الله تعالى في آذانهم وقرأ والوقر بفتح الواو ثقل السمع، وهذا النص كناية عن كمال الإعراض فهم لا يصل إليهم القرآن، وقد تفاهموا فيما بينهم على الإعراض ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ٢٦ )( فصلت ) وإذا وصل إلى سمعهم فهنالك غشاوة على قلوبهم تمنعهم من أن يشرق فيها نوره، وعلى ذلك لا يكون لاستماعهم جدوى وفائدة وهنا يسأل سائل إذا كان منع الهداية من الله تعالى بالغشاوة على قلوبهم والختم عليها، وبالوقر في آذانهم فلا يسمعون سماع تبصرة، وطلب الهداية فماذا يكون عليهم من تبعة يحاسبون عليها حسابا عسيرا بالعذاب الأليم، والجواب عن ذلك أن الله سبحانه وتعالى يسير الأمور وفق حكمته العليا، فمن يسلك سبيل الهداية يرشده، وينير طريقه ويثيبه، ومن يقصد إلى الغواية، ويسير في طريقه تجيئه النذر تباعا إنذارا بعد إنذار، فإن أيقظت النذر ضميره وتكشفت العماية عن قلبه فقد اهتدى وآمن بعد كفر ومن لم تجد فيه النذر المتتابعة ولم توقظ له ضميرا ولم تبصره من عمى فقد وضع الله تعالى على قلبه غشاوة وفي آذانه وقرا.
وقوله :( أن يفقهوه ) المصدر المكون من ( أن ) وما بعدها مضاف إلى مصدر محذوف يقدر على ما يناسب المقام من وضع غلاف يمنع النور، ووقر يمنع السمع، فيكون التقدير كراهة أن يفقهوه أو لمباعدة أن يفقهوه ومعنى يفقهونه أن يدركوه إدراكا عميقا ينفذون فيه إلى لبابه وغاياته فليس المراد مجرد الفهم والمعرفة بل المعرفة النافذة التي تصل إلى اللب وتستولي على القلب.
وان سبب ذلك كله هو الإعراض المطلق الذي سيطر على كبرائهم، وسبق الكفر الى قلوبهم ومعارفهم، ومع هذا الإعراض وبسببه يحكمون من غير أن يفقهوا فيقول ما حكاه الله عنهم.
( وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ).
الكافر بالحق المعرض عن الأدلة يسبق كفره إيمانه فالكفر سابق على التثبت والاستدلال فهو متجه إلى الإنكار ابتداء ولذلك وصف الله تعالى الذين مردوا على الجحود والإنكار وقال فيهم :( وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْبها ) والآية الدليل المعجز على رسالة الرسول فالآية كما يقول العلماء لعموم النفي، أي أنهم لا يؤمنون بأي رسالة يرونها مهما تكن قوتها ظاهرة، ومهما تكن دلالتها قاهرة، لأن العناد والجحود يقهر كل حجة ويمنع سلطانها على القلب، إذا ختم عليه، حتى لا ينفذ النور إليه، فإذا كفروا بالقرآن فذلك شان الذين طبع الله على قلوبهم، وجعل في آذانهم وقرا، وعلى قلوبهم أكنة، وعلى إبصارهم غشاوة، ولذلك قالوا في معجزة النبي صلى الله عليه وسلم إذا جادلوا كما حكى الله تعالى عنهم :( حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) ويلاحظ هنا أن الله تعالى يقول :( إذا جاءوك يجادلونك ) فيه إشارة إلى أنهم كانوا بعداء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ثم جاءوك، ولم يكن مجيئهم إذعانا لحق، ولا طلبا لحقيقة ولكن كان تحديا للرسول ومبالغة في الإنكار، واستهانة بالقرآن الحكيم وهو الآية الكبرى ولذا قال الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير والأساطير جمع أسطارة أو أسطورة والمعنى ما هذا إلا أخبار الأقدمين. وهنا إشارتان :
أولاهما، أنهم ما جاءوا يطلبون الحق، ولكن جاءوا يجادلون تقال للتسلية ومنها ما يكون غير صادق والجدل في أكثر أحواله تمويه وليس طلب حق.
والثانية : أن الذين كفروا يقولون ما هي إلا أساطير الأولين بسبب كفرهم فكفرهم سابق لرفضهم المعجزة.
( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ).
إن المشركين لا يكتفون بالإعراض عن الحجج الثابتةوالبينات القاطعة، ولا يكتفون بالافتراء على الآيات تتلى عليهم، والاستهانة وقولهم إن هي إلا أساطير الأولين لا يكتفون بذلك، بل تتعدى شرهم إلى غيرهم فهم ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم هو آيات بينات، فهم لا يهتدون ويمنعون الهداية عن غيرهم ينهونهم، ويثيرن السخرية عليهم إن اتبعوا الهدى واستقاموا على الطريق المثلى، وينأون عن النبي أي يبتعدون عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتجافون مجلسه، فهم يقومون بأعمال ثلاثة كلها انحراف عن الصراط المستقيم واتباع للغواية : أولها : الإعراض عن آيات الله تعالى وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وثانيها : أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق، فهم ضالون مضلون والثالث : أنهم لكي يباعدون بينهم وبين الحق، ولا يجعلون سبيلا لقلوبهم يجتهدون في ألا يلتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فيتجافوا عن مجالسه لكيلا يكون منه منفذ للحق إلى قلوبهم ففيهم غواية ولجاجة.
وفي هذا التفسير الضمير في ( عنه ) وفي الحالين يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
وبعض المفسرين التابعين لبعض التابعين جعل الضمير في ينهون في الحالين يعود إلى عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأعمامه وكانوا عشرة، فهم للعصبية التي كانت قائمة يذبون عن النبي صلى الله عليه وسلم وينهون المشركين عن
أن ينالوه وفي الوقت ينأون عن إجابته ولعل أوضح مثل لذلك أبو طالب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أذاهم ويمتنع عن اتباعه مع أنه في قرارة نفسه كان يظنه على حق ولقد روى عنه شعر في ذلك فقد روى أنه قال :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منه عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محالة إنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذارى سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا.
وإن الأول هو المقبول المعقول لأن القرآن لا ينزل في حكم الآحاد الا إذا كان يؤدي إلى عموم والأول أظهر وهو عام فيؤخذ به.
وإنهم في إصرارهم وعنادهم ولجاجتهم في كفرهم ونهى الناس عن الاتباع بل فتنتهم يسيرون في طريق الفساد والضلال ولا يهلكون أحدا إلا أنفسهم لأن الدعوة إلى الحق ماضية فإن عوقها معوق فإلى حين إذ الضالون لا يشعرون أنهم يسيرون في طريق الهاوية ولو شعروا بها لتجنبوا وكذلك أهل الضلال دائما.
( وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ).
ذكر الله تعالى حال المشركين في الدنيا في لجاجتهم في الكفر بإعراضهم عن الآيات البينات، وجحودهم للنبوة ونهيهم غيرهم عن اتباعه ومجافاتهم له، وكان لا بد من المقابلة بين هذه الحالة المنحرفة المتجافية عن الهداية، وحالهم يوم القيامة إذ يعرضون على النار ويقفون عليها، فذكر سبحانه مخاطبا النبي : إنك أيها النبي لو اطلعت عليهم ورأيت حالهم إذ وقفوا على النار واطلعوا عليها ورأوها تستقبلهم بلهيبها وسعيرها، لرأيت هولا عظيما يدفعهم لأن يتمنوا أن يعودوا إلى الدنيا ولا يكذبوا بآيات خالقهم ومنشئهم وكالئهم وحاميهم ويكونوا من المؤمنين وفي الآية الكريمة إشارات بيانية بذكرها نقرب ما في الآية من بلاغة رائعة.
الأولى : التعبير ب ( إذ ) التي تدل على الماضي بدل ( إذا ) التي تدل على المستقبل وذلك لتأكيد الوقوع ولتستبين المستقبل حاضرا قائما، ويتصور على أساس أنه موجود لا على أنه سيوجد.
الثانية : أنه عبر ب ( على ) بدل ( في ) للإشارة إلى أن مجرد الاطلاع عليها، والعلم بها بالعيان يلقي في النفس بهولها، وشدتها، فما بالك بالوقوع فيها.
الثالثة : أن ( لو ) شرطية والجواب محذوف وتقديره لو رأيتهم في هول وفزع وشدة فتمنوا أن يعودوا ويصلحوا.
الرابعة : أن التمني كان بالنداء لصيغته وهي ( ليت ) كأنه يقول :( يا ليت ) أقبلى فهذا وقتك الذي نستغيث بك فيه، إذ لا نملك إلا التمني فهو أداتنا الوحيدة وإن كانت أداة العاجزين.
الخامسة، أن قوله تعالى :( وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) فيه قراءتان إحداهما بنصب الباء والنون على أنها جواب التمني بإضمار محذوفه والثانية بضمها على تقدير محذوف١ وتقدير الكلام هكذا : ليتنا نرد ونحن لا نكذب ونكون أول المؤمنين ويكون فيها فضل توكيد بذكر وعدهم بعدم التكذيب وبأن يكونوا من المؤمنين.
السادسة : توكيد إيمانهم يخرجون من صف أهل الشرك والكفر إلى صف المؤمنين الصادقين
١ (ولا نكذب... ونكون) بالنصب فيهما) قراءة حمزة ويعقوب وحفص..
( بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ).
( بل ) هنا للإضراب والرد على ما يتمنونه والغاية التي يريدونها والمعنى أن أولئك لا يتمون الذي يتمنونه لأجل الهداية بل ذلك لهول ما يرون والفزع لما يستقبلهم ولأنه بدا لهم الأمر الذي كانوا يخفونه ويصح أن يكون الإضراب هنا للانتقال من مقام تمنيهم إلى مقام آخر، وهو بيان أنهم لو عادوا في الدنيا وخلقت فيهم الشهوات والأهواء وعبثت بهم، واستولت عليهم لعادوا لما نهوا عنه.
وما الذي بدا لهم وكانوا يخفونه من قبل ؟ اختلف المفسرون على آراء كلها محتملة وهي تنتهي إلى رأيين :
أولهما : ما كانوا يخفونه في طوايا نفوسهم وأعمالهم في الدنيا قد بدا عيانا لهم وأحسوا فيه بقبح ما فعلوا، فبدا لهم ما كانوا يخفون من مفاسد وبدا أن كفرهم ليس لنقص في الاستدلال ولكن لعناد ولإعراض بدا لهم ما كانوا عليه من عنجهية جاهلية، وأنها جوفاء في الآخرة وأنها التي دفعتهم إلى الكفر، وليس نقص الدليل وبدا لهم أن إعراضهم عن الآيات لم يكن لنقصها ولكن لنقص في نفوسهم وإذعانهم.
التأويل الثاني : أن الذي بدا لهم هو عذاب الآخرة وهولها، وشدائدها، وقد كانوا ينكرونها فظهر ما كانوا يجحدون ولكن كيف يكون ذلك قد أخفوه، وهل الإنكار المعلن إخفاء ؟ والجواب عن ذلك أن الفطرة الإنسانية توجب التصديق إذا قام الدليل وأن المعاندة حيث قام الدليل إخفاء لما يقتضيه. وقد قال تعالى :( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم... ١٤ ) ( النمل ) فجحودهم كان إخفاء لموجبات الإيمان، وأن شهوة السلطان والعصبية وغلبة الدنيا والفساد عليهم جعل الحق يختفي عليهم، ويخفونه هم بالمعاندة والمكابرة والمماراة، فلما كانت الآخرة وكانت القيامة بأهوالها بدا ما كان مخفيا، وأخفت الأهواء والمعابث، وظهرت الحقائق وأحسب أن المعنيين مستقيمان، ولا مانع من جمعهما فالنص يعمهما.
ولقد ادعوا في تمنياتهم أنهم يعودون ليكونوا في ضمن المؤمنين ولا يكذبوا بآيات ربهم الذي خلقهم وكونهم وحماهم فبين سبحانه أنهم لو ردوا إلى الدنيا بزخارفها وعصبياتها، وأهواءهم وشهواتهم وحب الغلب لعادوا لما نهوا عنه من الإعراض عن الآيات والمكابرات في المعجزات والاستهانة بالإيمان والمؤمنين، ووقعوا في كل المخابث التي كانت منهم، وذلك لأن السبب في الجحود هو سيطرة الهوى والشهوة والعصبية الجاهلية فإن عادوا إلى الدنيا بمتعها البراقة فسيستولي عليهم بريقها ويكون منهم ما كان أولا.
ولقد أكد الله سبحانه كذبهم في أمنياتهم ونتائج تمنياتهم فقال :( وإنهم لكاذبون ) والكذب هنا خاص بما يمكن أن يقع منهم وما أرادوا في تمنيهم الأماني فتمنياتهم كاذبة لا يمكن أن تحقق ولو عادوا لكان منهم ما وقع أولا، إذ إنهم يعودون بما كانوا يحملون من ركائز في نفوسهم فالتكذيب لما يكون منهم في المستقبل وقد أكد سبحانه تكذيبهم ب ( ان ) وبالجملة الاسمية وباللام المؤكدة.
( وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ).
الحياة التي تسمى حياة في نظرهم ولا شيء سواها حياة الدنيا، هذه الجملة تفيد ثلاث فوائد :
أولها : نفى وجود أي حياة غير الحياة التي يعيشونها ولو كانت هذه الحياة هي الدنيا وليست العالية القويمة.
الثانية : أنهم ينسبون الحياة إليهم لاستمتاعهم فيها وما فيها من لهو ينغمسون فيه، وعبث يعبثونه.
الثالثة : إنكارهم صراحة لبعثهم وتأكيد النفى بالياء وبالجملة الاسمية.
لقد قالوا ذلك القول في الدنيا بلا ريب ولكن كلمة ( قالوا ) في هذا النص، أهي معطوفة على كلمة ( لعادوا ) وقولهم هذا يكون على فرض عودتهم، وهو هو الظاهر ويكون قوله تعالى :( وإنهم لكاذبون ) جملة اعتراضية مؤكدة لمعنى عودتهم إلى ما كانوا عليه إن عادوا إلى الدنيا إذ هي تكذيب ادعاء أنهم لا يكذبون بآيات ربنا، ويكونون من المؤمنين.
ويصح أن تكون ( وقالوا ) كلام سيق مستانفا للمقابلة بين حالهم التي يرونها في الآخرة إذ يرون الهول عيانا، وقد ينكرون البعث ويؤكدون الإنكار له، وها هم أولاء يرونه ويتمنون ما يتمنون.
( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ).
ولو ترى إذ وقفوا على النار كانت في بيان ما يستقبلهم من عذاب مادي رهيب يقرع إحساسهم قرعا شديدا مزعجا وفي هذا الموضع ( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ) هي بيان عقاب معنوي توبيخي، وبيان كذبهم في الدنيا وكفرهم بآيات ربهم ولو ترى يا محمد أو لو ترى يا قارئ القرآن إذ وقفوا أي حبسوا مطلعين على تجلي ربهم وسلطانه وكمال عزته البارزة التي حاولوا إخفاءها في أنفسهم في الدنياوإن لم تكن خفية في ذاتها لقد تجلى عليهم ربهم بسؤال المستنكر لحالهم في الدنيا، وبحجتهم في قولهم :( وما نحن بمبعوثين ) ( أليس بالحق ) أي هذا البعث الذي تعاينونه وتشهدون أهواله ثابتا بالحق، فقوله ( بالحق ) متعلق بمحذوف أو نقول إن ( الباء ) زائدة ويكون المعنى أليس هذا البعث هو الحق الذي لا ريب فيه، وتكون ( الباء ) لتأكيد معنى الإنكار الذي هو بمعنى النفى، وقد دخل على نفى، ونفى النفى إثبات ولقد كانت إجابتهم مصدقين لأن الواقع يحملهم على التصديق والإذعان لما يدعو إليه رب العالمين بقولهم كما حكى ربهم ( بلى ) وبلى للنفي ما يكون بعد الاستفهام أي لنفى ( ليس هذا بالحق ) نفى ما تضمنته ليس النافية هو تصديق أنه الحق، وإذا كان ذلك ثابتا بحكم قولهم وعيانهم، فلا بد أن يتجلى الله تعالى عليه بذكر ما يستحقون فقال تعالت كلماته :( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) أي فانغمسوا في العذاب ذائقين لآلمه محسين بها، فالذوق هنا كناية عن الإحساس الشديد بعد الانغماس فيه والأمر هنا أمر تكويني يحكى الواقع الحق، وقد يكون مع ذلك أمر قولي لا اختيار لهم فيه، بل إنه مجاب بالاضطرار و ( الباء ) هنا للسببية أي بسبب كفرهم بالبعث وإنكارهم له، ( و الفاء ) في قوله :( فذوقوا ) فاء الإفصاح إي إذا كنتم تفترون أنه الحق فذوقوا عذابه بما أنكرتم. اللهم هبنا الإيمان بالغيب وامنحنا اليقين.
( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ٣١ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ٣٢ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ٣٣ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ٣٤ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ٣٥ ).
الكلام موصول في الكفر باليوم الآخر وأثره النفسي والاعتقادي وما يترتب على الكفر باليوم الآخر جحود النبوات ولقد ابتدأ سبحانه بما يتصل بما قبله، فقال تعالى :
( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ).
بين الله سبحانه وتعالى في هذا النص أن الذين يكذبون باليوم الآخر تصيبهم خسارة، وخسراتهم أولا لأنهم يفقدون العزاء الروحي الذي يصيب كل إنسان مما يعاني في الحياة فلو كانت الحياة الدنيا لا حياة بعدها يكون الشقاء النفسي المقيم لكل من يصيبه ألم فيها، أو يقع في نفسه أنه في شقاء لأنها فيها السعادة في زعمه ولأنه بفقد معاني الإنسانية إذ يكون كالحيوان الذي يأكل ليعيش ويعيش ليأكل فيفقد كل المعنويات العالية ولأنه ثالثا يرتع في الشهوات الموبقة ولأنه رابعا يكون في تناحر مستمر، إذ لا يخشى الله ولا يرهب عقابه، وأخيرا يخسر بتلقي العذاب الذي يقع عليه يوم تقوم الساعة، وعبر عن قيام القيامة واليوم الآخر بلقاء الله تعالى تشريفا لذلك اليوم ولأنه له الولاية الحق في ذلك فلا ولاية ولو ظاهرية لغيره ولا ملك لغيره ولو كان ظاهريا وفيه ترغيب، في الإيمان باللقاء وترهيب من تكذيبه وإنهم إذ يكذبون يستمرون في ضلالهم حتى تجيئهم الساعة بغتة أو فجأة من غير أن يكونوا على أهبة لها، وهنا يرد للنظر أمور.
أولها : ما معنى ( حتى تأتيهم الساعة ) أي ما مقام ( حتى ) أهي للغاية أم للتفريع ؟ وإذا كان للغاية فمن أين الابتداء ؟ يقول الزمخشري : انها متعلقة ب ( يكذبون ) أي إنهم يستمرون في تكذيبهم وغلوائهم حتى تجيء إليهم الساعة وهم في غيهم يعمهون.
ثانيهما : ما المراد بالساعة ؟ واضح أنها القيامة فذلك تعبير قرآني عنها، ومن ذلك قوله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ٣٤ ) ( لقمان ).
وسميت القيامة ساعة، لأنها تحمل أشد الأهوال ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة حياة فانية وأخرى باقية حياة عمل وحياة جزاء.
الثالثة : الساعة تجيء من غير علم بوقتها للجميع فكيف تكون بغتة للذين كذبوا بلقاء الله دون غيرهم والجواب عن ذلك أن الذين آمنوا بلقاء الله تعالى يتوقعونها وان لم يعلموا وقتها، أما الذين كذبوا فهم يكفرون بها فيفاجأون بها، وإن الذين آمنوا يرجون لقاء ربهم، ويرجون رحمته وأما الذين كفروا بلقاء الله تعالى فلا رجاء عندهم.
أولئك الذين تجيئهم القيامة ولقاء ربهم بغتة ويرون العذاب، تصيبهم حسرة أي غم شديد، وقد قال الأصفهاني في تفسير الحسرة ما نصه، ( الحسرة الغم على ما قاله والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، وانحسرت قواه إذا انحسرت قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه ).
والتفريط هو الإهمال وعدم العناية والغفلة عما يجب للأمر.
والضمير في قوله تعالى ( فيها ) يعود إلى الحياة عند بعض العلماء ولكن ليس لها مذكور سابق إلا أن يكون ما ذكروه من قبل وقولهم :(... ان هي إلا حياتنا وما نحن بمبعوثين ٢٩ ) ( الأنعام ) والحق في نظري أنه يعود إلى الساعة وتفريطهم فيها وهون عدم التفاتهم لها، وغفلتهم عن ذكرها فكانوا يعملون غير مرتقبين لها، بل غافلين عنها.
ونادوا الحسرة مضافة إليهم قائلين ( يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ) لبيان أنهم في حال غم وحزن وينادون حسرتهم التي تلازمهم كأن هذا وقتها ولا وقت ألزم وأنسب لها من هذا الوقت.
( وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ).
الوزر الحمل الثقيل، وسمى به الإثم والذنب، لأنه أثقل الأحمال النفسية التي تنوء به القوة، والجملة استعارة تمثيلية لما يثقلون به يوم القيامة من أثقال الآثام فقد شبهت حال من يحمل الآثام الثقال الكثيرة بحال من يحمل الأحمال الثقال على ظهره وينوء بها، لأن كليهما ثقيل الآثام لوباءتها وعذابها، وقد رشح سبحانه للمشبه به في قوله تعالى ( ألا ساء ما يزرون ) فان هذا بيان لسوء ما يحملون وقدابتدا ب ( الا )الدالة على التنبيه ثم التعجب من شدة ما يحملون وساء وأساء. تستعمل للتعجب فمعنى، ( ساء ما يزرون ) ما أسوأ ما يزرون وما يحملون لسوء عاقبته وما وراءه من عذاب.
( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )
في هذا النص تكون المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة، أو الحياة العاجلة و الحياة الآجلة أو بالأحرى بين من يطلب الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما وراءها من حياة أخرى ومن يطلب الحياة الآخرة وأيهما أمثل، ولذلك كان حصر الحياة الدنيا في أنها لهو ولعب فإن هناك حصرا بالنفي والإثبات فهي مقصورة على اللهو واللعب وذلك لمن يطلبها من غير نظر إلى ما وراءها، من حياة أخرى فإنه حينئذ لا ينظر الا إلى لذائذها وشهواتها، ولا تكون حينئذ إلا لهوا ولعبا، واللهو واللعب هما الاشتغال بما لا يجدي في ذاته، ولكن قد يختلفون في حقيقتها مع قربهما في المعنى فاللعب العمل الذي لا مقصد منه إلا تزجية الفراغ وقضاء الوقت، وقد يكون عبثا واللهو طلب ما يلهى عن الجد من الأمور من ملاذ وأهواء وشهوات والفرق بينهما غير محدود بل هما متقاربان يستعمل أحدهما في موضع الآخر ومهما يكون فإن الاشتغال بكل واحد منهما لغير غاية مجدية مذمة لا تجوز من عاقل وإذا قصد بأحدها الاسترواح حتى يقوى على الجد من غير سأم ولا إملال فربما لا يكون قبيحا
وإن قصر الحياة على اللهو واللعب إنما هو لمن اهمل ما وراءها أما من عنى بما وراءها وقام بالجد من الأمور فإنها الطريق إلى الآخرة وهي طريق الذين يتقون.
وكانت المقابلة للدلالة على موضوع القصر فإن الذين يتقون هم من الذين يعيشون في الدنيا ولكن لم تكن لهم كل شيء بل ما نظروا إليها إلا ليطلبوا الآخرة بها والله على كل شيء قدير.
وقوله :( وللدار الآخرة خير للذين يتقون ).
في هذه مقابلة بين الذين يطلبون الدنيا لذاتها، والذين يطلبون بها الآخرة، إذ الأولون تكون عندهم لعبا ولهوا، والآخرون تكون عندهم جدا، يطلبون ما في الدنيا لغاية وراءها، ولا يطلبونها لذاتها، وهذه المقابلة فهمت بالصراحة في الكلام بشأن الأولى وهو الخسران وفهمت بذات المقابلة في الثانية وهناك مقابلة أخرى وهو أن عاقبة الآخرين خير، وهذه فهمت بصراحة في الثانية، وبالمقابلة ذاتها في الأولى وهو الخسران أيضا، وقد أكد الله تعالى الخيرية لأهل التقوى فأكد باللام المؤكدة ثم خاطب الله تعالى الناس فقال تعالت كلماته ( أفلا تعقلون ) الاستفهام هنا للحث على التفكر والتدبر والمقابلة بين اللذات العاجلة السريعة الفانية واللذات الآجلة الدائمة الباقية.
( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ).
( قد ) هنا للتحقيق وتأكيد العلم، وقد حاول بعض العلماء أن يجعلها للتكثير ولكن التحقيق جاء من موضوعها لا من ذاتها وإني أقول اني لا أعلم أنها جاءت في القرآن داخلة على المضارع إلا بمعنى التأكيد وكتاب الله تعالى فوق ما يقرره علماء النحو واللغة.
وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحزنه أن القوم لا يؤمنون ويفترون الكذب عليه ولقد نهاه الله تعالى عن أن يلج الحزن في نفسه لعدم إيمانهم فقال تعالى :(... فلا تذهب نفسك عليهم حسرات... ٨ ) ( فاطر ) وقال تعالى :( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ٣ ) ( الشعراء ) ولقد كان يحزن النبي صلى الله عليه وسلم كفرهم وما يقولون في هذا الكفر من رميهم له بالكذب والافتراء وأنه ساحر وأنه مجنون، وأن كتاب الله تعالى أساطير الأولين ولقد ذكر الله تعالى أنهم لا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم و ( الفاء ) هنا تكشف عن محذوف يفيد السببية تقديره مثلا فلا تحزن لأنهم لا يكذبونك، ( ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) والجحود نفى ما في القلب ثبوته وإثبات ما في القلب نفيه أي عدم الإذعان للحق، وقد قامت أدلته وكثير من العرب كانوا يعتقدون صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم يمارون في الحق ولا يذعنون ويجادلون في آياته وقد روى أن طاغوت الشرك أبا جهل عوتب في أنه صافح النبي صلى الله عليه وسلم مرة فقيل له في ذلك فقال : اني لأعلم أنه النبي ولكن متى كنا لبنىمناف تبعا ؟.
وهذا على أساس أن الجحود في الآية منصب على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إذ يعرفون صدقه ولكن لا يذعنون له فيكونون جاحدين هناك تخريج بياني آخر، وهو أن الجحود منصب على آيات الله تعالى وليس تكذيبا فهو تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أنهم لا يكذبونه، ولكن يقرون في ذات أنفسهم ولكن يجحدون بشهادة ربهم على صدقه فهم أشد وبالا.
وهنا إظهار في مقام إضمار إذ انه سبحانه وتعالى قال :( ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) ولم يقل ( ولكنهم ) وذلك لبيان سبب الجحود وهو الظلم المستقر في نفوسهم وفيه فوق ذلك تسجيل الظلم عليهم وهم بذلك مستحقون للعقاب.
( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )هذا تنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وحث على الصبر، والانتظار لما وعد من النصر المؤزر، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه ليس أول المكذبين بل سبق الى ذلك الرسل الصادقون الداعون، ولقد أكد الله سبحانه وتعالى الخبر ب ( اللام ) وب ( قد ) لتأكيد التسلية ولتأكيد طلب الصبر، وتأكيد الوعد بالنصر، ولم يكن التكذيب للرسل سببا للحزن، بل كان طريقه شحذ العزيمة بالصبر، وبتحمل الأذى، وبترقب النصر والعمل عليه، فمع العزيمة المعززة بالصبر والنصر، وليس مع اليأس قوة، فالصبر كان نتيجة التكذيب، ولذا كان العطف بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب، وقوله ( كذبوا وأوذوا ) للبناء للمجهول وهو مع ( ما ) يكون المصدر المؤول منهما فما للموصول الحرفي أي المصدرية والمراد الصبر على تكذيبهم وإيذائهم، ودل على أن موضع الصبر هو تكذيبهم وإيذاؤهم وكانوا صابرين حتى أتاهم نصر الله تعالى وأنه مع الصبر الأجر ولقد قال تعالى :( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ٢١٤ ) ( البقرة ) فالنصر إن شاء الله آت لا محالة، وهو العزيز الحكيم القادر العليم.
( وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ).
كلمات الله تعالى هي كلمات النصر الذي وعد الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم ووعد به المرسلين من قبله، مثل قوله تعالى :( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ١٧١ إنهم لهم المنصورون ١٧٢ وإن جندنا لهم الغالبون ١٧٣ ) ( الصافات ) وقوله تعالى :( كتب الله لإغلبن أنا ورسلي عن الله قوي عزيز ٢١ ) ( المجادلة ).
ومعنى تبديل كلمات الله تعالى أن يتخلف وعد الله فلا يكون النصر المبين ما دامت الأسباب بأمر الله وتوفيقه مهيأة وإنه وعد الله تعالى من كلمات الله لا تبديل فيها ولا تغيير ما دام الإيمان يملأ القلوب، والصبر يؤيد النفوس وياخذون بالأسباب فان تغيرت النفوس فليس ثمة موضوع لوعد الله تعالى :(... إن الله لا يغير ما بقوم حتىيغيروا ما بانفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد وما لهم من دونه من وال ١١ ) ( الرعد ).
وفسر بعض العلماء كلمات الله تعالى بما هو أعم من النصر وهو شرائعه وآياته وتوحده وصفاته ونصره أي أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفق على رسالته أن يعروها تغيير بسبب تكذيبهم وايذائهم فلا مبدل لكلمات الله تعالى، ونحن لهذا نميل.
ولقد أكد سبحانه العظة والتسلية في أنباء المرسلين، فقال تعالت كلماته :( ولقد جاءك من نبا المرسلين ) ولقد جاءك فيما قص عليك من قصص النبيين وأخبارهم وأنباءهم ما فيه العظة الكاملة وفيه المثلات لأقوامهم والنصر لهم، وكما قال سبحانه :( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب... ١١١ ) ( يوسف ).
( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ).
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة من أول السورة أنهم متعنتون طلبوا أن يكون مع الرسول ملك، وبين الله سبحانه في ذلك أنهم معرضون عن الآيات وأن الكفر قد سبق إلى قلوبهم فانسدت عليهم كل مسالك الإيمان فلا يشرق فيهم نور اليقين، ولو نزل عليهم قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وأنهم معرضون عن الحق، وإن الآية التىنزلت عليك كافية لإيمانهم إن أرادوا إرشادا وابتغوه ولم يبتغوا غيره.
وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إيمانهم وكان يكبر عليه إعراضهم عن الدعوة الحق التي يدعو إليها والحجة الدامغة التي يثبت بها صحة دعوته وكأنه يود إيمانهم حتى ولو كان يتحقق بآيات أخرى، فالله سبحانه وتعالى يبين له أنه لا جدوى في آية جديدة، لأنهم سيعرضون عنها لا محالة ويكون المعنى : إن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أي مسلكا عميقا في جوفها، أو سلما أي مرقاة ترتقي بها الى السماء لتأتيهم بآية فلن يجدي ذلك لأنهم لا يريدون حجة لنقص الحجة التي بين أيديهم ولكن يريدون العنت ولو جاءتهم آية ما آمنوا فالنص الكريم لبيان أنه لا سبيل لإيمانهم إلا أن يجمعهم الله على الإيمان ويقذف بالحكمة في قلوبهم والله لم يكتب ذلك، إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
( وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ).
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يؤمن كل الذين يدعوهم إلى دعوته ويظن أن الحجة وحدها كافية لاستجابتهم فبين سبحانه وتعالى أن حكمته اقتضت أن يكون في الوجود أشرار وأخيار من الناس حتى يبتلى الأخيار بالأشرار وأن سنته في خلقه اقتضت أن يكون في الخلق إبليس يوسوس في صدور الناس ويكون الكفاح بينهم، وأن يبلوهم بالشر والخير فتنة. ولو شاء سبحانه أن يكونوا جميعا مهديين لجمعهم على الهدى والتقوى ولكنه لم يشأ كما قال تعالى في آية أخرى :( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ٩٩ ) ( يونس ).
وما دامت إرادة الله تعالى لا بد أن يكون في عباده أخيار يصدقون ويؤمنون، ومعرضون جاحدون فادع إلى سبيل الله وانتظر أن يكون المناوئ والمجيب، ولا تكونن من الجاهلين بحكمة الله تعالى وليس الجهل بأمر شرعي حتى لا يكون محلا للنهي، إنما هو تنبيه إلى أمر تكويني كان التنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم مؤكدا وهو تنبيه لغيره بالأولى.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ٣٦ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٣٧ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ٣٨وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ٣٩ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٤٠ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ٤١ )
الكلام في شان المشركين وعرض الآيات عليهم، وطلبهم آيات أخرى وهم معرضون عن كل الآيات بقلوبهم لأنها في أكنة ولا يسمعون الحق لأن آذانهم فيها وقر لانصرافها وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك وذكر وجوب اليأس من المشركين الذين يعرضون عن آيات الله مدعين أن ما سبق لهم لا يكفي لإقناعهم فقال تعالى :
( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ).
الاستجابة هنا هي الإجابة بعد التفكر والإمعان وتقدير الأمر، فهي إجابة محكمة دقيقة وهذا ما تدل عليه ( السين ) فهي إجابة بعد استقراء الدليل على وجوبها وقد حصر سبحانه وتعالى الاستجابة بأنها لا تكون إلا للذين يسمعون ولا يعرضون وينفذون الى لباب ما يستمعون إليه، ولا ينأون عنه وفي الكلام تشبيه الذين يعرضون عن الدين ولا يستمعون سماع وعي وإدراك وتفهم بحال الصم الذين لا يسمعون لأن السمع لا قيمة له إذا لم يصل بصاحبه إلى التفهم والهداية.
وقد قال تعالى من بعد ( والموتى يبعثهم الله ) وقيل : إن الموتى هم موتى الأحياء الذين لا يدركون الحق، ومعنى بعثهم إيمانهم وهدايتهم أي أن الله تعالى قادر على هداية موتى التفكير الذين لا يستجيبون وقيل المراد بالموتى الكفرة الأموات ومعنى البعث ليس الإيمان إنما المراد أنه سبحانه وتعالى سيبعثهم ثم يحاسبهم على كفرهم والرأى عندي أن تكون كلمة الموتى على حقيقتها والبعث على حقيقته ويكون نسق النص الكريم هكذا إنما يستجيب للحق ويذعن له الذين لا يعرضون عن الآيات ثم بين بعد ذلك حال الذين لا يجيبون بإثبات قدرة الله بأن الله تعالى سيبعثهم مع الموتى ثم يكون الحساب والعقاب ويرون ما لم يؤمنوا به، ويستمعون إلى ما أعرضوا عنه وكفروا ولذا قال سبحانه من بعد ذلك ( ثم إليه ترجعون ) أي ثم إليه وحده يعودون راجعين ليجازيهم المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ولا يستوي المحسن والمسيء.
( وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ).
فقد دأبوا على الإنكار لأنهم دأبوا على الإعراض ( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين ٤ ) ( الأنعام ) (... وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها... ٢٥ ) ( الأنعام ) ولكنهم مع ذلك الإعراض يدعون أن إنكارهم لنقص الدليل وليس للعنت ومجرد الجحودولقدكرروا القول في ذلك وما أرادوا معجزة مطلقة بل معجزة حسية تلفت أنظارهم وقد ذكر القرآن الكريم بعض ما طلبوا فقال تعالى :( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ٩٠ أو تكون لك جنة من نخيل فتفجرالانهار خلالها تفجيرا ٩١ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ٩٢ أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ٩٣ ) ( الإسراء ).
قالوا بصيغة الطلب الذي يشبه التمني والتحريض فعبر ب ( لولا ) الدالة على التحريض والتمني وكأنهم يتمنون الإيمان بتمني الآية وهم في ذلك منحرفون عن الغاية وقالوا لولا أنزل عليه أي على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك التنزيل آت من قبل ربه وعبروا بالمجهول وبربه وهما يفيدان أن الطلب ليس منه، ولكنه من ربه فإذا كان رسولا من عنده، فليجب ذلك الطلب الذي نتمناه، ونكون من بعده مؤمنين.
وقد رد الله سبحانه وتعالى بأمرين :
أولهما : أنه سبحانه قادر عليه فهو المالك للسموات والأرض ومن فيها، وهو القادر على أن ينزل عليهم تلك الآية، فلن يعجزه شيء في الأرض ولكن الآيات التي تكون مع النبيين لإثبات رسالتهم تكون على مقتضى حكمته وتكون مناسبة لشريعتهم فتكون خالدة بخلدوها.
الأمر الثاني : الذي أجابهم سبحانه وتعالى هو أن أكثرهم لا يعلمون وهذا يفيد أنه سبحانه وتعالى مع قدرته على ما يطلبون لن يجيبهم لأنهم لا يعلمون أنهم لا يؤمنون ولو جاءهم بالآيات لأنهم سبقوا إلى الإنكار والجحود. فيكفرون بهذه الآية كما كفروا بالقرآن ولأن القرآن حجة في ذاته وهو أقوى حجة تناسب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الآيات المادية وقائع حسية تنتهي بانتهاء زمنها، ولا يعرفها إلا الذين يرونها أما القرآن فهو باق خالد معجز في كل الأعصار والدهور فناسب شريعة خالدة باقية إلى يوم القيامة.
( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ).
ذكر في الآية السابقة بيان قدرة الله تعالى على أن ينزل أي آية يريدونها، ولكنه لا ينزلها، لانهم لا يعلمون ولا يفهمون ما يناسبهم والله تعالى لا يسير وراء أهوائهم، وفي هذه يؤكد قدرته وعلمه وسعة إحاطته بالأحياء جميعا وقد قال الزمخشري في ذلك، ( الغرض من ذكر ذلك سعة الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف وهو حافظ لما لها وما عليها مهيمن على أحوالها لايشغله شان عن شان وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان ).
ومؤدى هذاا لكلام إثبات أن علم الله تعالى الواسع كان من مقتضاه ألا يجيب ما طلبوا لأنهم يعلمون المآل وهو يعلمه كما يعلم كل حيوان من دابة تدب وطائر يطير، ويعرف ما يحتاج إليه وما لا يحتاجه لقد بين الله سبحانه وتعالى عظم خلق الحيوان وأنها جماعات وطوائف مخصوصة كل طائفة تكون جنسا قائما وقد فسرها الأصفهاني بقوله :( قوله تعالى :( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) أي كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من ناسجة كالعنكبوت وبانية كالشرنقة ومدخرة كالنمل، ومعتمد على قوت وقته كالعصفور والحمام إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع. والنص فيه تعميم للأنواع كلها لأن اجتماع ( ما ) و ( من ) يدل على الاستغراق للجماعات والآحاد معا، فهي من علم الله تعالى جماعات وأجناس وطبائع مختلفة مثلكم وقوله تعالى :( ولا طائر يطير بجناحيه ) لإفادة التعميم في أن علمه تعالى يشمل الطائر في الجو كما يشمل الدابة التي تدب في الأرض والطائر الذي يطير فذكر الذي يطير بجناحيه يدل على علم الله تعالى على ما في الأرض من دواب تدب، وأسماك ولآلئ تسبح، وما في الجو من طيور تطير وكل هذه أجناس ذات طبائع مختلفة وذكر الجناحين في الطير لتوجيه الأنظار إلى الإبداع في الصنع مع جمال التكوين والقدرة.
وفي ذلك بيان لقدرة الله تعالى وبيان لأن الإنسان لا يصح أن يعلو ويستكبر فأمثاله من الأحياء وليس عددا قليلا.
( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ).
ما تركنا شيئا لم يخص في الكتاب أي في المكتوب المسجل بعلم الله وهو اللوح المحفوظ فالكتاب هو اللوح المحفوظ وقد ذكر ذلك صراحة في آية أخرى :( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ٦ ) ( هود ) أي مفصح ذاكر لأسمائها وأعدادها وأنواعها. وهذا أوضح تفسير لمعنى ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وقال بعض المفسرين : الكتاب هو القرآن ومعنى التفريط أنه لم يغادر شيئا من الأحكام إلا بينه. وأسرف آخرون فقالوا : إن القرآن ما ترك علم بشيء قط من الشرائع أو غيرها من الأشياء والأحياء.
والأبين هو ما ذكرناه أولا لأنه متفق مع النصوص الأخرى وثانيا لأنه المناسب لذكر الأحياء، ولقد ذكر الله تعالى من بعد ذلك أن كل الأحياء يحشرون إلى ربهم فقال تعالت كلماته :( ثم إلى ربهم يحشرون ) أي يجمعون على ربهم الذي خلقهم من عدم، والتعبير ب ( ثم ) للإشارة على أنهم أعداد لا تحصى في علمنا وجمعهم ليس يسيرا في ذاته، وإن كان بالنسبة لله تعالى أمرا ميسرا وفيه أيضا بيان لبعد الموت عن البعث والقيامة وإشارة لاستغراقهم جميعا.
( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ).
هذا النص السامي يبين أن الذين لم يسارعوا إلى الحق استجابة لعناصر الانحراف والجحود في نفوسهم واتباعا للهوى لا يهتدون لأنهم سدوا على أنفسهم مسارب النور إلى الحق، وقد شبه سبحانه وتعالى حالهم بحال الصم والبكم الذين يسيرون في الظلمات فانهم لا يبصرون طريقا للهداية يسيرون فيه إذ انهم في ظلمات حالكة متكاثفة فلا يبصرون ولو كان بصرهم سليما فهؤلاء لا يجذبهم دليل ولا يهديهم برهان ولا يمكن أن يستجيبوا لمن يهديهم لأنهم بكم لا ينطقون ولا يمكنهم أن يستجيبوا لداعي الهداية لأنهم لا يسمعون إذ هم صم وبكم، فالكلام فيه استعارة تمثيلية إذ شبهت حال الجاحدين الذين يعرضون عن كل آية بحال الصم البكم الذين يعيشون في الظلام من حيث لا نور يهديهم ولا سبيل لأن يهتدوا.
وقد بين سبحانه وتعالى أن ذلك بعلم الله تعالى وإرادته وأنه لا تخرج حركة عن حركة إلا بإذنه فهدايته المهتدين بمشيئته وضلال الضالين بمشيئته فلا يخرج شيء في الوجود من غير مشيئته ومعنى ( من يشأ الله يضلله ) أي من يشأ الله تعالى له أن يكون في ضلال يضلله بأن يجعله يسير في طريق غوايته، فيعرض عن الآيات ويصاب بستار يحول بينه وبين الحق من ذات نفسه لا من أمر خارج عنه بل باختياره الغواية فيتركه الله يسير في طريق الذي رسمه لنفسه ومن يشأ الله تعالى له الهداية يسير في طريق مستقيم يوصله إلى الحق والهداية.
وهنا أمر نشير إليه هو أن الهداية والضلال ليسا إجباريين لا اختيار للعبد فيهما كما يقول الجهمية ومن يسيرون في طريقهم وليسا للعبد من كل الوجوه كما يقول المعتزلة ومن يسيرون في فجهم وإنما الأمر أن للعبد اختيارا في الطريق الذي يسيره والله تعالى يوفقه فيه، فإن كان خيرا خطا فيه الى الغاية، وان كان شرا سار حتى الهاوية.
( قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )
( أرايتكم ) استعمال قرآني أراد العلماء أن يخرجوه على مقتضى قواعدهم النحوية من حيث الإعراب وكيف يكون وضع الحروف، وكلمة أرايت في القرآن والاستعمال العربي تستعمل للتنبيه والتحريض على الرؤية والنظر فهو استفهام للتنبيه مؤداه أرأيت كذا فإن لم تكن رأيته فانظره فهو تنبيه وحث على الإمعان فيه والتأمل، وقوله تعالى :( أرايتكم ) فيه جمع بين خطابين أحدهما مفرد وظاهره أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو التاء، وهو فاعل الرؤية أو على حد قول النحويين التاء فاعل، والثاني خطابهم بالكاف والظاهر الذي يبدو بادي الراى أن الخطاب لهم بالقصد ولذلك جاء بعده ( إن أتاكم عذاب ) وكان خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لتنبيهه صلى الله عليه وسلم وإجابتهم ويكون المؤدى بيان ضعفهم أمام الحوادث والمسلمات وصغارهم واستغاثتهم بالله وحده وأنهم لا يدعون سواه، وتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.
هذا ما يبدو لنا من معنى هذا الاستفهام البليغ الذي هو من آيات الإعجاز ولا حاجة فيه الى أن نقول : إن الكاف حرف أو اسم ولا أن نقول الخطاب بأيهما أ بالتاء وحدها أو بالكاف وحدها. والحق أنه بهما معا فالتاء للنبي صلى الله عليه وسلم والكاف للمشركين وفي التاء تنبيه إلى ما يكون منهم من إجابة.
والخطاب موجه إليهم للإجابة عن سؤال معين إن أتاكم عذاب الله الدنيوي من زلزال مدمر أو خسف يجعل عالي الأرض سافلها، أو عاصف شديد أو فاجأتكم الساعة أي القيامة ( أغير الله تدعون ) أي أتدعون غير الله من أحجار، تجتلبونها أو نار توقدونها وتعبدونها أو شمس تقدسونها ؟ لا أحد غير الله سبحانه، إذن فلم تعبدون غير الله ؟ وهم لا يملكون ضرا ولا نفعا وعلق سبحانه وتعالى الإجابة على الصدق لكي يكون الجواب لا تمويه فيه بل يكون صادرا عن حقيقة واقعة لا عن أوهام يتوهمونها ويحسبونها بل عن عقل مدرك صادق خالص من الأوهام والأهواء والأخيلة الفاسدة. ولقد أكد سبحانه الإجابة السليمة بقوله تعالى :
( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ).
انتهى الكلام السامي بقوله تعالى :( أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ) أي تتحرون الحق وتدركونه. وقد أجاب سبحانه وتعالى عنهم بالإضراب عن تفكير أوهامهم وهم أنهم لا يدعون سواه، ولذا قال سبحانه :( بل إياه تدعون ) قيل للإضراب الانتقالي عن تفكيرهم وأوهامهم وتقديم المفعول على الفعل والفصل بقوله :( إياه تدعون ) للقصر أي لا تدعون إلا اياه إذ لا تفكرون في غيره، وذلك دليل على أن المشركين مهما يضلوا يتجه تفكيرهم في الشدائد إلى القوة الخفية الخالقة في هذا الوجود وهو الله سبحانه وتعالى خالق الكون ومسيره، فهو مجيب المضطر إذا دعاه وأن الله يكشف أي يزيل الضر، وكأن الشدة غطاء غامر محيط وإزالته كشفه ففي هذا التعبير استعارة فيها تشبيه حال إزالة الشر، بحال كشف غطاء غامر مؤلم، بجامع إزالة الضر في كل، وإظهار السلامة والفاء هنا لترتيب الفعل على الدعاء وسرعة الإجابة.
وإن الله تعالى يكشف الضر إذا لم يكن في ذلك مفسدة وكان فيه خير وكانت الرحمة تفرضه كما قال تعالى :(... كتب ربكم على نفسه الرحمة... ٥٤ ) ( الأنعام ) ولذا قال سبحانه :( إن شاء ) أن يتفضل عليكم بهذا الكشف، ويرحمكم ولم يكن في هذا مضرة، ولا إغراء بالفساد ولا إيذاء لغيره فعلمه تعالى في دائرة الحكمة والنفع وإن لم يكن في ذلك إلزام فإنه سبحانه وتعالى ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ٢٣ ) ( الأنبياء ).
وظاهر أن كشف الشدة إنما يكون في شدائد الدنيا، وهي التي تتعلق بها المشيئة إن شاء أنزلها وأبقاها لحكمة وإن شاء أزالها وأنظرهم كما كان يفعل مع قريش أما ما يجيء بعد الساعة من حساب وعقاب المشركين فان الله لا يكشفه عن المشركين، إذ يقول سبحانه :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ٤٨ ) ( النساء ) فلا يمكن بمقتضى وعيده سبحانه أن يكون عقوبة الشرك يوم القيامة موضع كشف أو إزالة.
وقوله تعالى :( فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ) الكلام متعلق فيه بالمشيئة وأريد به السبب ذلك السياق يستفاد منه أن الكشف عن الدعاء والحقيقة أن الكشف عن الضر الذي سبب الدعاء والله سبحانه وتعالى كاشفه ومزيل ضرهم.
وإنهم في هذا الحال يتركون أحجارهم لأنهم في هذه الحال تستيقظ مداركهم فلا يلتفتون إلى أوثانهم إذ يرونها لا تنفع ولا تضر بل ربما يكون البلاء حاطما لها ومنكسا، فيتركونها أو أن شدة الهول تجعلهم ينسون ما علق بأوهامهم عنها ولا يكون أمامهم إلا الحقائق الثابتة.
ويكون هذا النسيان سببا للترك وعدم الالتفات ولذا قال سبحانه وتعالى :( وتنسون ما تشركون ) أي تغيب عن ذاكرتكم فتتركونها لأنها لا حول لها ولا قوة، ولا يذكرون إلا خالق الكون، ورب الوجود كله، وهو الحي القيوم، ولكن نسيانهم قد يستمر وقد يذكرونها بعد الشدة.
ويجب أن نذكر هنا أن المشركين من قريش لم تكن قد ذهبت بهم اللجاجة في المادة إلى ألا يؤمنوا بالروح فهم مع إشراكهم بالله تعالى كانوا يحسون بمقتضى الفطرة أن هناك قوة روحية تسير الأمور الكونية قال تعالى :( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ٦٣ ) ( العنكبوت ) اللهم ألهمنا شكرك ولا تنسنا ذكرك.
( وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ٤٢ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٤٣ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ٤٤ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ٤٥ ).
الكلام في أحوال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم ومجابهتهم له وسوق العبر لهم، وفي هذا النص الكريم بيان أحوال النبيين مع أقوامهم وأحوال الأمم في الضراء والبأساء ومقدار انتفاعهم بها والعبرة في ذلك ولذلك قال تعالى :
( وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ).
في هذا النص بيان لعلاج الله تعالى للأسقام النفسية للأمم التي تتعصى على الهداية وعلى الاستقامة على الحق إذا دعوا إليه فليس الناس جميعا طلاب حتى يتبعونه إذا هدوا إليه، ولا يستمعون إلى الحجة إذا سيقت إليهم بل يعاندون ويكابرون فهؤلاء يحتاجون إلى علاج دنيوي وذلك بالشدائد تنزل بهم، لأن الجحود والمبالغة في الإنكار سببهما الاغترار بالدنيا وما فيها من متع ولا علاج لغرور الجدة إلا بالحرمان منها ليذوقوا طعم مر بعد أن ذاقوا رطب العيش، ولا علاج لغرور الصحة إلا بالمرض حينا، ولا لعلاج للقوة إلا بالضعف. وعسى أن يكون هذا بصوره المختلفة باختلاف الداء مؤديا إلى شفاء النفس والاتجاه بها إلى الهداية وقد عالج الله تعالى حالهم بأمرين : أخذهم بالبأساء وهي البؤس الشديد والبؤس هو الفقر وضيق العيش حتى يكون ضنكا وذلك يكون للأمم بالأزمات تجتاحها وبجفاف النبات وبالجوائح المبيدة وغيرها مما يصاب به اقتصاد الأمم والثاني الضراء بالمرض تصاب به الأجسام وبالأوباء المرضية تتفشى بين الجماعات.
ولقد فعل الله تعالى ذلك بفرعون وقومه عندما أصابه هو وهم الغرور وطغوا في البلاد. وقد قال تعالى بعد أن سخروا بكل آية :
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ١٣٣وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ١٣٤فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ١٣٥فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ١٣٦ ) ( الأعراف ).
وإن الآلام علاج النفوس المغرورة بزخارف الدنيا، ومتاعها إن كانت صالحة للعلاج وقد يستعصي الداء ويصعب العلاج وإن الله تعالى عالج الأمم بالآلام عساهم يخضعون ويبتعد الغرور عن نفوسهم ولذا قال سبحانه :( لعلهم يتضرعون ) أي لعلهم يخضعون ويتطامنون وتذهب كبرياؤهم إذ يحسون بضعفهم وإنه حيث كان الإحساس بالضعف قربت النفس من الإيمان فالإيمان إذعان وخضوع ومن جنسهما التضرع والتطامن والبعد عن الغرور وعن الاستكبار على الحق والرجاء هنا يفيد المقاربة بين إصابة الكاذبين بالبأساء والضراء.
والخضوع للحق فالمراد من الرجاء لازمه وهو القرب من الحق والإذعان له.
( فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ).
البأس هنا الشدة. وهي أكثر ما تكون في شدة الحرب. ولأواء القتال ويطلق على شدة الفقر والبؤس في العيش، و ( لولا ) هنا للنفي مع تمني الوجود فهي لنفي تضرعهم مع تمني أن يكونوا قد تضرعوا والتمني هنا بمعنى ينبغي كأن المعنى هكذا لم يتضرعوا وكان ينبغي أن يكون البأس الشديد مؤديا إلى ضراعتهم لأنه يشعرهم بضعفهم أمام قدرة الله تعالى الغالب القاهر فوق كل شيء. لكن الإحساس بالضعف الذي دل عليه نزول البأس عليهم ولا قبل لهم وجد مانعان يمنعان أثره، فإذا كان قد وجد سبب الضراعة فقد وجد المانع منها. والمانع منها أمران :
أحدهما : قسوة القلوب : وقد عبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالى :( ولكن قست قلوبهم ) وكان ذلك الاستدراك للإشارة إلى أن الضراعة وقسوة القلوب لا يجتمعان ولو نزلت الشدائد وإن ضرعوا فا لى أمد محدود ثم تعود إليهم أحوالهم.
والسبب في أن القسوة والضراعة نقيضان لا يجتمعان أن القسوة غلظ في النفوس والطباع وإن بعض النفوس لتقسوا حتى يكون كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله.
والضراعة رقة في القلب ورأفة في النفس وإحساس بآلام الغير وآلام النفس فلا يكون القاسي ضارعا ولو كان جبانا إذ الضراعة علو مع رأفة ورحمة وطمأنينة والقسوة غلظة وقد يكون الجبان غليظا بل في أكثر الأحوال وهو كذلك.
الأمر الثاني : الذي يمنع الضراعة تزيين الشيطان العمل للنفس، وقد عبر سبحانه عنه بقوله تعالى :( وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) إن الشيطان قد يراد به هنا النفس الأمارة بالسوء، التي زين السوء فتجعله كالحسن وما هو بحسن، وإن هذا التزيين النفسي لعمل السوء للنفس لا يجعل الآثم يحس بإثم ما ارتكب والضراعة توجب الإحساس بذلك الإثم، حتى يتجه إلى ربه تائبا توبة نصوحا ومن أول درجات هذه التوبة أن يحس بإثم ما فعل. ثم يندم عليه، ثم يعتزم ألا يفعل ولا يمكنه أن يكون ذلك ممن زين له سوء عمله فيراه حسنا وما هو بحسن.
وفي التعبير بقوله تعالى :( وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) ناحية بيانية رائعة ذلك أن عبر بزين لهم الشيطان سوء ما يعملون. ولم يقل حسن لهم الشيطان كما يجري على الألسنة فلان يحسن القبيح لأن القبيح لا ينقلب حسنا والسيء لا ينقلب، ولكن السيء أو القبيح بتمويهات وتزيينات يظن معها أنه حسن. وما هو إلا تمويه باطل، وإنهم إن لم يهذبوا بالشدائد اختبروا بالنعم فقال تعالى :
( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ).
الفاء لتفصيل ما كان منهم وبيان ما ترتب من عواقب قريبة وأخرى بعيدة فإنهم إذا لم يتضرعوا بسبب قسوة قلوبهم وأنهم زينت لهم أعمالهم كان لذلك عواقب. وكانوا بتلك القسوة وتزيين السوء ناسين لما ذكروا به. فقد ذكروا بالبأساء والضراء وبسبب قسوة قلوبهم تركوا ما ذكروا به والنسيان هنا ليس هو مجرد الترك إنما هو نسيان آثار الضراء والبأساء فإن الضراء والبأساء لكي تنتجا آثارهما الحقيقية من الضراعة يجب أن تتركا آثارا في القلوب تكون مذكرة بانتظام دائم لهما ولكن ا لقسوة والغرور والعجب والاستكبار محت تلك الآثار المذكرة فكان النسيان وعاد الاغترار والاستكبار.
والله تعالى في هذه الحال التي أصابهم فيها النسيان يقول :( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) أي أن الرزق وأسباب القوة والاغترار والاستكبار تأتيهم وتسهل لهم فكانوا في سعة في كل شيء وقوله هذا :( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) فيه استعارة تمثيلية لمعنى تسهيل كل شيء حتى يكونوا في بحبوحة وسعادة مادية وعدم خوف، واطمئنان إلى المستقبل أو نقول عن النص القرآني كناية عن هذا المعنى لأن من يفتح له باب كل شيء يكون لا محالة في سعة مادية واطمئنان مادي.
وهذا المعنى فيه اختبار للنفس غير المؤمنة بالنعمة بعد أن اختبرها بالنقمة. كقوله تعالى :( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ٩٤ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٩٥ ) ( الأعراف ) وان هذا الذي ذكره النص القرآني بالنعمة بعد النقمة هو اختبار شديد ولذا روى عقبة ابن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إذا رايت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج. ثم تلا قوله تعالى :( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةفاذا هم مبلسون ).
وروى عبادة ابن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا أراد الله تعالى بقوم بقاء أو نماء رزقهم فتح باب القصد والعفاف وإذا أراد بقوم اقتطاعا فتح باب الخيانة ).
وإن هذا الفتح والرزق الواسع إلى حين ليذوقوا النعمة ثم الحرمان منها فجأة ولذا قال سبحانه :
( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ).
انهم إذ يكونون في فرح مما أعطاهم الله تعالى أخذهم الله تعالى بالحرمان أو أصابهم بالموت المفاجئ أو الخراب الجائح في وقت لم يتوقعوه بل كانوا يتوقعون المزيد من النعم ويحسبون أنها حق مكتسب لا يمحي ( فإذا هم مبلسون ) أي في غم وكمد وحزن ويأس وحيرة بعد الفرحة.
وهنا تعبيران جليلان جديران بالالتفات.
أولهما : أنه عبر عن إعطاء الله النعمة بما أوتوا أي بالبناء للمجهول لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم. كما جاء على لسان واحد من أمثالهم وهو قارون (... إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ٧٦وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ٧٧قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ٧٨ ) ( القصص ).
الثاني : أن الله أضاف الأخذ إلى ذاته العلية إذ قال :( أخذناهم ) لأنهم لا ينكرون ذلك وينسبونه إلى ربهم.
( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).
الفاء هنا للتفريع على ما قبلها و ( دابر القوم ) أي آخر والدابر هو الآخر وإذا قطع الدابر فإن معنى ذلك أن القطع سرى من الأول حتى وصل إلى الدابر وإطلاق الدابر بمعنى الآخر جاء في كلام العرب، ومن ذلك قول بعضهم :( ان من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دابرا ) أي آخر الوقت والدابر تجيء بمعنى الأصل. والمؤدى واحد في النص الكريم أي قطع الذين ظلموا عن آخرهم وذلك بسبب ظلمهم وظلمهم كان لأنهم أشركوا بالله تعالى :(... إن الشرك لظلم عظيم ١٣ ) ( لقمان ) ومن كان يشرك برب العباد لا بد أن يظلم العباد فمن الذي يتقوه من بعده وظلموا أنفسهم لأنه سبقت العظات والمعاملات ولم يعتبروا فاستحقوا ما نزل بهم.
وقد ختم الله تعالى النص بقوله :( والحمد لله رب العالمين ) يعلمنا الحمد لله عند زوال الظالمين فهلاك الظلمة والطغاة نعمة تستوجب الحمد والثناء ويقول في ذلك الزمخشري ( والحمد لله رب العالمين ) إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القيم ).
ونظير هذا النص الكريم قوله تعالى :( وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ٥٨ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى... ٥٩ ) ( النمل ). ووصفه سبحانه ب ( رب العالمين ) إيذان بأن القضاء على الذين ظلموا بعد أن اختبروا بالبأساء والضراء ثم بالسراء والنعماء هو من تقدير الربوبية وتدبيره سبحانه رب العالمين.
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ٤٦ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ٤٧ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٤٨ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ٤٩ )
في الآيات السابقة بين الله تعالى ما عامل به الأمم السابقة بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات فاختبرهم سبحانه وتعالى بالبأساء تنزل بهم، والضراء تمس أحياءهم رجاء أن يعرفوا ضعفهم بجوار قدرة ربهم، وأن تربى الشدائد نفوسهم فمن لم يتجه إلى الله ويكفر بعد كشف الضراء عنهم ويقسو قلبه وينسى ما ذكر به من شدائد يختبره بالنعمة يفرحون بها، ويذوقون حلاوتها ثم ينزل بهم الحرمان ويأخذهم بغتة بالشدائد ويكون ذلك أقسى من الأول إذ يتحيرون ويقطع دابرهم وفي هذه يبين لهم سبحانه نعمة الله عليهم في الخلق والتكوين ويذكرهم باتجاههم إليه إن أخذ سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم أفلا يدركون فقال تعالى :
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ).
في الآيات السابقة كما قلنا كان ذكر ما ينزل حولهم ثم يصيبهم فالدمار ينزل حولهم ثم يصيبهم وهنا ذكر ما ينزل بحواسهم وكيانهم قائم لم ينقص ففي هذا النص بيان قدرة الله تعالى في أنفسهم وفي أجزائهم وحواسهم وامتلاكه لهذه المداخل التي تكون إدراكهم وهي السمع والبصر والفؤاد كما قال تعالى في آية أخرى :( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ٣١ ) ( يونس ) ومعنى أخذ الله سمعهم وأبصارهم والختم على أفئدتهم أن يصبحوا لا يسمعون حقيقة ولا يبصرون حقيقة، ولا يفقهون فيسلبهم سبحانه الفهم والإدراك وواضح أن أخذ السمع والبصر يكون بعدم السماع والإبصار لأن هاتين الحاستين تسمعان وتريان وأخذهما فقد عملهما ولكن الأفئدة شيء يخفى لا يؤخذ بل هو باق ولكن يغشى عليه فليس الجنون ذهاب العقل وإنما الجنون ستر العقل فلا يدرك الأمور على وجهها ولذلك عبر عن فقد الإدراك بالجنة لأن العقل يستر ولا يذهب كما يذهب السمع والبصر.
ولذلك قال سبحانه :( وختم على قلوبكم ) أي وضع غشاوة على قلوبهم فتصبح كالشيء المختوم لا ينفذ إليه شيء من الإدراك وذلك بلا ريب هو أعلى دقة في التعبير تليق بمقام القرآن الكريم في البيان الذي لا يصل إليه أحد من البشر، والتعبير بقوله ( أرايتم ) الاستفهام فيه للتنبيه كأنه سبحانه وتعالت كلماته، يقول أرايتم أي إن لم تكونوا قد رايتم ذلك فروه وعوه، وأدركوا ما وراء ما يدل عليه.
وقوله تعالى :( من إله غير الله يأتيكم به ) الاستفهام فيه لإنكار الوقوع الثابت بالدليل الذي لا مجال لإنكاره والضمير في ( به ) يعود إلى المأخوذ وهو السمع والبصر والفؤاد وقام الأخذ والختم مقامه من قبيل قيام السبب مقام المسبب، و ( يأتيكم ) معناه برده عليكم، وعبر سبحانه ب ( ياتي ) للإشارة إلى أنه يكون كالجديد والنص يشير إلى أنهم وحواسهم في يد الله سبحانه وتعالى، ويشير إلى أمر آخر وهو أنه تعالى قادر على إعادة السمع والبصر والإدراك وهي أجزاء جسمكم المدركة المصرفة أفلا يكون قادرا على إعادتكم في البعث كما بدأكم أول مرة إنكم ترون من يذهب سمعه كأن في أذنيه وقرأ ثم يسمع ومن يذهب بصره ثم يبصر بعمل الله ومن يصاب بجنة ثم يفيق وكل ذلك من الله تعالى إن ذلك محسوس فلماذا لا يقيسون عليها عودة الأجسام بعد بلاها كما بدأكم تعودون.
( انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لبيان حال المشركين وأنهم لا تؤثر الحجة فيهم مهما تكن واضحة نيرة ملزمة والتصريف التغيير وهو يكون في ذات الآيات بتعددها من آية كونية إلى آية قرآنية فالتعدد، صورها، فتعدد في صور الآيات الكونية من عواصف عاتية إلى مطر صاخب إلى خسف للديار، ومن آيات قرآنية زاجرة ضاربة للأمثال مبنية للمثلات إلى تذكير بقدرة الله تعالى فيما تحيط بهم، وتذكير بأنفسهم ومع التصريف المتتابع، والآيات الواضحة المنوعة تجدهم صادفين ولذا قال تعالى :( ثم هم يصدفون ) أي يعرضون ولا يجيبون من الصدوف بمعنى الإعراض وأصل الصدوف الميل عن الجانب لأن أصله الصدف الجانب فمن يصدف يميل عن هذا الجانب أو يجعله حاجزا دون الإيمان وقد عبر في العطف ب ( ثم ) للدلالة على التراخي المعنوي بين الآيات وتتابعها والإعراض وقد أكد سبحانه وتعالى الإعراض منهم بضمير الفصل لأن وقوعه في ذاته بعد تلك الآيات البينات.
( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :( قل ) وللنبي صلى الله عليه وسلم وللمشركين في قوله :( أرأيتم ) وقد ذكرنا تخريج هذا اللفظ على ما يقوله النحويون واللغويون في البحث السابق فارجع إليه ( بغتة ) أي مفاجأة و ( جهرة ) أي جهارا وقد ذكرت الجهرة في مقابل البغتة لأن البغتة بمقتضى المعتادة تكون في خفية ولا إعلان فيها من قبل أو على الأقل تجيء من غير ترقب ولا انتظار فهي خافية على من نزلت عليهم ولذلك قابلتها جهرة، ولقد فسر الزمخشري احتمال بغتة أن تكون بمعنى ليلا وجهرة بمعنى نهارا، وهو معنى مقارب لأن المفاجأة تكون بالليل والعلنية تكون بالنهار عادة.
وعذاب الله تعالى يجيء من غير ترقب. كحال الذين قالوا ( عارض ممطرنا ) فقال سبحانه :(... بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم٢٤ ) ( الأحقاف.
وقوله تعالى :( هل يهلك الا القوم الظالمون ) الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع أي لا يهلك إلا القوم الذين تجمعوا على الظلم وتحزبوا وتضافروا عليه، وتعاونوا على إثمه. وهنا مباحث لفظية موضحة :
أولها : لماذا كان النفي بالاستفهام ؟ الجواب عن ذلك للتنبيه كأنه كان سؤال وكانت إجابة وذلك تأكيد للنفي فضل تأكيد.
ثانيها : أن سبب الهلاك هو الظلم فقد ظلموا بسبب الشرك وظلموا بعدم الطاعة وظلموا أنفسهم بضلالها والظلم وخيم العاقبة.
ثالثها : أن الكلام فيه حصر الهلاك في الظالمين مع أن الفتنة تعم ولا تخص كما قال تعالى :( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم... ٢٥ ) ( الأنفال ) ونقول في الجواب عن ذلك : إن الله لا يهلك الظالمين إلا إذا ساد الظلم فبعضهم وقع منهم الظلم فعلا، والآخرون سكتوا عنه فكانوا ظالمين بسكوتهم وقد قال تعالى في شان بني إسرائيل :( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ٧٨كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ٧٩ ) ( المائدة ) ولقد ورد في الأثر : إن الله لا يعذب العامة بظلم الخاصة، إلا إذا راوا المنكر وسكتوا عنه. أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.١
١ عن عدي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ك (إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة) رواه أحمد: (مسند الشاميين حديث عدي ابن عميرة الكندي رضي الله عنه (١٧٢٦٧).
( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ).
التبشير هو الإخبار بالبشرى وهو الخبر السار والإنذار هو الإخبار بالسوء في المستقبل تحذيرا وإعذارا فالتبشير وعد بما يلقى في النفس السرور والاطمئنان، والإنذار وعيد بالعذاب والجزاء المماثل للإثم وقصر الله تعالى المرسلين على الإنذار والتبشير لأنه ليس عليهم أن يحملوا الناس على الهداية إن لم يهتدوا ولا يتحملوا وزر العصاة إن عصوا امر ربهم انما الثواب لمن أطاع والعذاب لمن عصاه وذكر سبحانه وتعالى ذلك بالنص لأن النبي صلى الله عليه وسلم كادت نفسه تذهب، عليهم حسرات حتى يؤمنوا وقال تعالى له :( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ٣ ) ( الشعراء ) فالله سبحانه وتعالى بين له أنه لا يهدي من أحب وأنه ليس عليه هدايتهم وأن رسالته غايتها الإنذار والتبشير كسائر المرسلين وأنه بعد تبليغ الرسالة يكون الخير لهم والتبعة عليهم.
( فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) أي فمن أذعن للحق، وآمن بما جئت به، وجعل هواه تبعا لما تدعو إليه فله الجزاء الأوفى ودعم الإذعان الحق بالعمل الصالح فالإيمان من غير عمل أجوف أجرد لا ينتج بذاته ومن آمن وعمل صالحا فإنه لا يحزن على ما فاته في الماضي بل يطمئن بذكر الله، ولا يخاف من المستقبل لأنه يرجو ما عند الله تعالى.
( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ )
أولئك هم المقابلون للذين أذعنوا للحق وعملوا عملا صالحا وهؤلاء كذبوا بآيات الله ويراد بالتكذيب للآيات الإعراض عن الأدلة القاطعة المثبتة لوحدانية الله تعالى من كونيات ظاهرة ومعجزات قاهرة وآيات قرآنية بينة واضحة باهرة، فلم يكن تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل كان تكذيبهم للأدلة الواضحة التي تشبه الحس المرئي والبارز المحسوس، وهذه الآيات هي التي ساقها الله لهم وهو خالق الكون ومدبره وقال في عقوبتهم ( يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ) أي يصيبهم العذاب بسبب فسقهم أي خروجهم عن الحق وإنكارهم لما يوجب العقل الإيمان به، وأردفوا كذلك بفعل الموبقات فإن كان المؤمنون قد أذعنوا للحق، وزكوه بالعمل الصالح فأولئك أنكروا الحق، ودعموا الإنكار بارتكاب الموبقات والزور من الأعمال وعبر سبحانه عن إصابة العذاب وإدخالهم جهنم ب ( يمسهم ) لأن موضع الإحساس بالألم هو الجلد فمسه بالعذاب هو الإيلام الشديد اللهم قنا عذاب النار..
في الآيات السابقة كان بيان الله سبحانه وتعالى للآيات الكبرى تتابع عليهم آية بعد آية وهم معرضون والله تعالى يذكرهم بسلطانه في الأرض وفي السماء وفي أنفسهم وبين أن من يشركونهم مع الله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يدفعون عنهم شيئا لو أخذ الله تعالى سمعهم وإبصارهم وختم على قلوبهم ولا يملكون أن يدفعوا العذاب إذا أتاهم بغتة أو جهرة ولم يبين علاقتهم بالمؤمنين وكلامهم في النبي صلى الله عليه وسلم وحوارييه وفي هذه الآيات يتكلم في ذلك فيقول الله تعالى :
كان المشركون يستكثرون أن يكون محمدا نبيا مرسلا، ولم يكن من الأغنياء العظماء في أموالهم بل كان يتيما فقيرا فقد قالوا :(... لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ ) ( الزخرف ) وحسبوا أن النبي يجب أن يكون محدثا عن الغيب وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم الغيب، وأمره الله تعالى أن يقول :( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ١٨٨ ) ( الأعراف ) وقد كانوا يقولون إنهم يريدون ملكا رسولا. وقد أخبر تعالى عنهم (... ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق... ٧ ) ( الفرقان ).
وقد تولى الله سبحانه وتعالى ردهم في هذه الآيات وأمره بأن يقول لهم :( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ) أمره الله تعالى بأن يحدد مضمون الرسالة ولا يتوهموا أن الرسالة تقتضي أن يكون الرسول مالكا للأموال والخزائن ولا أن يكون عليما بالغيب، وأن الرسول لم يدع شيئا من ذلك وإن الرسول ليست له خاصة إلا أنه يبشر وينذر وأنه يوحى إليه من رب العالمين وأنه مع من يدعوهم يتبع ما يوحى إليه من ربه.
إن الرسالة الإلهية يضعها الله تعالى في عباده المصطفين الأخيار من البشر، (... الله أعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ) ( الأنعام ) وإن محمدا صلى الله عليه وسلم ما تطاول بفضل مال ولا ثروة ولا غنى ولكنه كان فقيرا بين الفقراء قريبات منهم متدانيا إليهم يخفق قلبه معهم، ويحس بآلامهم وكان من البشر ليخاطب البشر، ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ) ( الأنعام ) وإن التفرقة ليست بالغنى والفقر وإنما التفرقة بالهداية والضلال والعلم والجهل ولذا قال سبحانه في التفرقة بين من استبصر وأدرك ولو فقيرا وبين من ضل وغوى ولو كان غنيا.
( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ).
امر الله تعالى نبيه بان ينبههم إلى أنه لا يستوي العالم والجاهل المهدى والضال والرشيد والسفيه وكان أمر الله تعالى بذلك لنبيه وتكرار الأمر بأن يقول لهم ما يقول لفضل التنبيه ولتقوية الإيمان بأنه يتكلم عن ربه، ولأنه الذي يتولى محاجاتهم والاستفهام هنا لنفى الوقوع مع التنبيه على هذا والمراد من الأعمى غير المدرك للحقيقة وغير المهتدي ومن طمس الله تعالى على بصيرته فأصبح الحق لا يصل إليه، والمبصر من أدرك كل هذا ففي الكلام تشبيه الضلال بالعمى وإدراك الحق والاذعان له والاهتداء بالبصر لأنه يعيش في نور البصيرة والأول يعيش في ظلام الجهل والضلال.
وقدم العمى في الذكر على البصر لأن المشركين يدعون أنهم مع ضلالهم وجهلهم وبعدهم أعلى من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين وذلك لكثرة أموالهم وقلة أموال المؤمنين فبين سبحانه أنهم لا يمكن أن يساووهم فضلا أن يعلوا عليهم لأن الأعمى ولو غنيا لا يساوي المبصر ولو فقيرا وكان عليهم بدل أن يفضلوا أنفسهم على المؤمنين لفقرهم أن يتفكروا ويتدبروا في أسباب الفقر والغنى وأسباب الفضل وأسباب العلو، وأن يتعرفوا الهدى والضلال وأن يتدبروا في حاضر أمرهم وقابله وأن يعتبروا بالعظات والأمثال التي تساق إليهم وأن يكشفوا عن أنفسهم غمة الاغترار والإعراض عن الحق وألا يكونوا في غيهم يعمهون ولذا قال تعالى :( أفلا تتفكرون ) الفاء هنا موضعها قبل الاستفهام، ولكن الاستفهام له الصدارة فقدم عليها عن تأخير في نسق الكلام والمعنى أنه كان يترتب على عدم المساواة بين الأعمى البصير أن يتدبروا ويتفكروا والاستفهام للتحريض على التفكير.
( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ).
الكلام السابق في المشركين وإعراضهم عن الآيات وختم الله تعالى على قلوبهم مع توالي الآيات والنذر عليهم وإعراضهم وقد يتوهم متوهم أن الإنذار لا جدوى منه ولكن ليس الناس جميعا كذلك، بل فيهم من تؤثر فيه الموعظة ويجدى فيه الإنذار والحق أن الناس قسمان : قسم تعتريه الرهبة من الغيب، ويخاف الحشر ان ذكر به، فلم يكن فيه اغترار يقسو به قلبه ويصرفه عن المنذرات والاستماع إلى داعي الحق وصنف غلبت عليه شقوته لا تجدى فيه موعظة، ولا يرهب الغيب وما فيه لأنه يعمه في غيه وهم في غفلتهم ساهون وهؤلاء لا يجدى فيهم النذير، وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم غشاوة وقد ذكر الزمخشري أن الذين يخافون أن يحشروا منهم المسلمون الذين يؤمنون بالبعث والنشور ولكن تتقاصر أعمالهم فيجديهم النذير ومنهم أهل الكتاب الذين لم يفسدهم الغرور ومنهم بعض المشركين الذين لم يطمس على قلوبهم بل لا يزال في قلوبهم نافذة ينفذ منها الندم، فإن علموا بالحشر خافوه فآمنوا ومن المشركين من يؤمنون بالحشر ولكن يظنون أن الشركاء الذين يبتدعونهم يشفعون لهم، فإذا أعلموا الحق فيه اتبعوه وما ذكرناه في تقسيمنا يعم هذه الأنواع وغيرها.
والضمير في به يعود إلى ما يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم وقد ذكرنا ضروب الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ويلاحظ بعض أمور :
أولها أن الإنذار للجميع فلا يختص الذين يخافون دون غيرهم ولكن الذين ينتفعون به هم الذين يخافون الحشر، وما وراءه من حساب وعقاب.
ثانيها أن العنصر المميز بين أهل الخير وغيرهم هو الخوف والخشية من الله فأولئك يكون فيهم رأفة ومع الرأفة يتفتح القلب للهداية ويدخله النور، ومع الغلظة يكون الظلام وكأن الغلظة حجارة قوية تجعل ما وراءها في ظلام دامس.
ثالثها أن الغرور باعتقاد شفيع أو ولى يناصر من دون الله تعالى يسد مسالك النور والهداية فلا بد أن يكون كل الإحساس لله سبحانه وتعالى.
رابعها أن الإنذار في هذه الحال يجعل للتقوى مكانا فيكون الرجاء فيها، وهو من العبد لا من الرب ولذا قال :( لعلهم يتقون ).
( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ).
جاء النهي من الله تعالى بألا يطرد أهل التقوى ولو كانوا عبيدا أو فقراء، فان هؤلاء يقوم بهم عمود الدين، وإذا كانت الضلالة لا تساوي الهداية والعمى لا يستوي مع البصر فإنه لا يصح أنه يطرد الفقراء لرجاء إجابة الأغنياء ولا يطرد الضعفاء لرجاءاجابة الأقوياء يروى عن ابن مسعود أنه مر الملأ من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ فلعلك إن طردتهم أن نتبعك.
وروى عن خباب ابن الأرث في قوله تعالى :( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) على قوله :( فتكون من الظالمين ) قال : جاء الأقراع ابن حابس التميمي، وعيينة ابن حصن الفزاري فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في أناس من الضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله أتوه، فقالوا : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت فنزل قوله تعالى :( ولا تطرد الذين يدعون ربهم ).
هذا قيل في سبب نزول هذه الآية، والنص يومئ إلى هذا المعنى فقد قال تعالى كما سنتلوا :( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ).
نهى الله النبي عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للدخول في الإسلام لينال بقوتهم قوة ولكن الله تعالى بين أن القوة في الإيمان لا في غطرسة المتغطرسين وإن أولئك وإن كانوا ضعفاء فقراء فانهم أقوياء بعزة الإيمان وبعزة الحق ولا تفرقة بين أتباع الأنبياء بالطبقية إنما التفرقة بقوة الإيمان والتقوى كما قال تعالى :(... إن أكرمكم عند الله أتقاكم... ١٣ ) ( الحجرات ) وإن الرفعة بين أتباع الأنبياء بالإيمان والعبادة.
وقد ذكر الذين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طردهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي ومعنى يدعون يعبدون مخلصين لأن العبادة دعاء والدعاء : التضرع الخالص وهو مخ العبادة وهو لبها، ولذلك عبر عن العبادة بالدعاء وبالغداة والعشي : المراد في الصباح والمساء أي انهم في عامة أوقاتهم ذكروا الله تعالى ربهم الذي خلقهم وكلأهم وحماهم يريدون وجه الله لا يقصدون عرضا من أعراض الدنيا، وينصرفون إليه تعالى لا يريدون الا ذاته الكريمة ولا يقصدون سواه فكيف يطرد هؤلاء لأجل ناس لا يعرفون إلا عرض الدنيا وإن الله تعالى قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون مع هؤلاء فانهم قوة والإيمان يملأ النفس قوة لأنها قوة الصبر ولذلك قال تعالى :( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ٢٨ ) ( الكهف ).
( مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ).
جاء هذا النص الكريم بعد قوله تعالت كلماته :( يريدون وجهه ) أي يقصدون بعبادتهم ذاته العلية ولا يقصدون شيئا سواها، مهما يكن، وان الله تعالى تولى حسابهم بالجزاء، وما يعود عليك من حسابهم شيء ولا يعود عليهم من حسابك شيء فهم عباد مجزيون بأعمالهم كما أنك يا محمد مجزى بعملك فليس لك أن تطردهم وهذا التعبير ( ما عليك من حسابهم من شيء ) يشبه ما نقل عن نوح عليه السلام في قوله تعالى :( قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ١١١ قال وما علمي بما كانوا يعملون ١١٢ إن حسابهم الا على ربي لو تشعرون ١١٣ ) ( الشعراء ).
ويؤدي التعبير على هذا أن هؤلاء آمنوا بربهم وحسابهم عند ربهم وما على من حسابهم من شيء كما لا يحاسبون على عملي فكل له علمه فكيف أطردهم ولذلك قال تعالى :( فتطردهم فتكون من الظالمين ) أي فان طردتهم استجابة لغيرهم وأنت لا تتحمل مغبة أعمالهم ولا ما هم فيه كنت من الظالمين إذ لا وزركان منهم يستوجب الطرد الا مسارعتهم للإيمان بما جئت وتلكو غيرهم إن ذلك لظلم عظيم إن كان ولا يمكن أن يكون من محمد صلى الله عليه وسلم وهناك تخريج آخر لقوله :( ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ) بان المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم ان كانوا فقراء وما من حسابك في الفقر والغنى عليهم من شيء، أي إنك أنت هاد ومرشد ذاع الى من يقرب منك ومن يجيب وسواء أكان فقيرا أم كان غنيا، فكيف ترد فقيرا مهديا لفقره وتقرب غنيا غير مهدي لغناه فإن تطردهم من بعد فإنك تكون من الظالمين ومعاذ الله أن يكون ذلك منك.
إن الضعفاء أول من يتبع الأنبياء لأنهم غير مشغولين بالمال والبنين وزخارف الحياة وضجاتها ولجاجة القوةو خصوصا ما يكون منها على غير أساس من الأخلاق فنفوسهم تكون أقرب الى الفطرة والاستقامة ولذلك كان غالب الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم من الضعفاء والعبيد وكل الذين يحسون بآلام الحياة الدنيا ورجاء حياة أخرى، ولقد سال هرقل ملك الرومان أبا سفيان ابن حرب الذي كان قائد الشرك إبان ذاك عمن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : يل ضعفاؤهم فقال : هرقل فكذلك أتباع الرسل١.
وإن هذا بلا ريب اختبارلنفوس الأقوياء
١ راجع هذا الحديث في صحيح البخاري بدء الوحي: باب بدء الوحي (٧) ومسلم: الجهاد والسير كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم (١٧٧٣) فيما رواه عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي سفيان رضي الله عنه وهو حديث طويل..
فقوله :( فتنا ) معناها اختبرنا وكان فتنة لهم من ناحيتين : الناحية الأولى : أن جاههم مع كبريائهم سيكون حاجزا لا يسهل دخول الإيمان في قلوبهم الثانية : سيجدون أن الذين يسبقونهم الى الإسلام هم الضعفاء فيكون ذلك صعوبة نفسية أخرى لا تسهل دخول الحق الى قلوبهم ويقول قائلهم الضال :(... لو كان خيرا ما سبقونا إليه... ١١ ) ( الأحقاف ) ومن يجتاز هاتين الصعوبتين من الأقوياء يكون إيمانه أرسخ من الجبال كأبي بكر الصديق وعثمان ابن عفان وحمزة ابن عبد المطلب وعمر ابن الخطاب، وعبد الرحمان ابن عوف وغيرهم من الأقوياء ذو الوجاهة في الجاهلية والوجهاء عند الله والناس في الإسلام.
والكاف في قوله تعالى :( وكذلك فتنا ) للتشبيه وقد شبهت الصورة الكلية لاختبار الله تعالى لخلقه أو على الحقيقة معاملة المختبر لهم شبهت تلك الصورة بهذه الحالة القائمة التي آمن فيها الضعفاء وسبقوا بها الأقوياء وصار لهم فضل السبق والتشبيه للتقريب والتوضيح واللام في قوله تعالى ( ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) للعاقبة أي : وما كانت هي الباعث على الاختبار، ولكن كانت عاقبة ونتيجة الاختبار.
( اليس الله باعلم بالشاكرين )
يثبت الله سبحانه وتعالى هذا النص بثلاثة أمور :
أولها : أن الفضل ليس بالغنى ولا بالجاه ولا بالقوة في الدنيا، ولكن بمقدار شكر الله تعالى على ما أنعم والإنسان في الوجود محفوف بنعم الله تعالى تحوط به من يوم خروجه الى الحياة الى وقت مفارقتها وواجب عليه الشكر لها فشكر النعم واجب بمقتضى العقل والنقل، وبمقدار شكر النعمة يكون الفضل.
ثانيها : أن أولئك الذين يسارعون إلى الإيمان بوحدانية الديان هم أصحاب الفضل لأنهم هم الذين يسارعون إلى الشكر ودعوة الله وعبادته والإذعان له.
ثالثها : أن الله هو وحده العالم بمن يستحق الفضل وبمن يشكره وهو المستحق للفضل منه، وأفعل التفضيل على غير بابه، والمراد أنه سبحانه يعلم الشاكرين علما ليس فوقه علم، فهو وحده العليم السميع البصير.
السلام والسلامة بمعنى واحد. ومعنى ( سلام عليكم ) سلمكم الله في دينكم وأنفسكم نزلت في الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال :( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرتي أن أبدأهم بالسلام ) فعلى هذا كان السلام من جهة النبي صلى الله عليه وسلم قيل : إنه كان من جهة الله تعالى أي أبلغكم منا السلام وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن عائذ ابن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ونفر فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها قال : فقال أبو بكر : أتقولون هذا الشيخ قريش وسيدهم ؟ فأتى النبي صلى الله عليهم وسلم فأخبره فقال :( يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ) فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه أغضبتكم ) ؟ قالوا : لا يغفر الله لك يا أخي١ فهذ دليل على رفعة منازلهم وحرمتهم كما بيناه في معنى الآية.
ويستفاد من هذا احترام الصالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم فإن في ذلك غضب الله، أي حللوا عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه وقال ابن عباس : نزلت الآية في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وقال الفضيل ابن عياض : جاء قوم من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية وروى عن أنس ابن مالك مثله سواء.
قوله تعالى :( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) أي اوجب ذلك بخبره الصدج ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه. وقيل : كتب ذلك في اللوح المحفوظ، ( أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ) أي خطيئة من غير قصد قال مجاهد : لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الأمر، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل. وقيل : من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهل. ( فانه غفور رحيم ) قرأ بفتح ( أن ) من ( فانه ) ابن عامر وعاصم وكذلك ( أنه من عمل ) وقرأ الباقون بالكسر فيهما٢ فمن كسر فعلى الاستئناف والجملة مفسرة للترجمة و ( إن ) إذا دخلت على الجمل كسرت وحكم ما بعد الفاء الابتداء والاستئناف فكسرت لذلك ومن فتحهما فالأولى في موضع نصب على البدل من الرحمة بدل الشيء من الشيء وهو هو فأعمل فيها ( كتب ) كأنه قال : كتب ربكم على نفسه أنه من عمل، وأما ( فأنه غفور ) بالفتح ففيه وجهان : أحدهما، أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر كأنه قال : فله أنه غفور رحيم لأن ما بعد الفاء مبتدأ أي فله غفران الله الوجه الثاني : أن يضمر المبتدأ تكون ( أن ) وما علمت فيه خبره تقديره فأمره غفران الله له، وهذا اختيار سيبويه ولم يجز الأول وأجازه ابو حاتم. وقيل : إن ( كتب ) عمل فيها : أي كتب ربكم أنه غفور رحيم. وروى عن علي ابن صالح وابن هرمز كسر الأولى على الاستئناف وفتح الثانية على أن تكون مبتدأة أو خبر مبتدأ أو معمولة ل ( كتب ) على ما تقدم ومن فتح الأولى وهو نافع جعلها بدلا من الرحمة واستأنف الثانية لأنها بعد الفاء وهي قراءة بينة.
١ رواه مسلم فضائل الصحابة: من فضائل سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم (٢٥٠٤) وأحمد: أول مسند البصريين حديث عائذ ابن عمرو رضي الله عنه (٢٠١١٧).
٢ (انه... فغنه) بفتحهما (أي بفتح الهمزة في الموضعين) ابن عامر وعامر ويعقوب ووافقهم نافع وأبو جعفر في الأول وقرأ الباقون بالكسر فيهما.
.

قوله تعالى :( وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(
التفصيل التبيين الذي تظهربه المعاني والمعنى : وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا ومحاجتنا مع المشركين كذلك نفصل لكم الآيات في كل ما تحتاجون إليه من أمر الدين، ونبين لكم أدلتنا وحججنا في كل حق ينكره أهل الباطل.
وقال القتبي :( نفصل الايات ) نأتي بها شيئا بعد شئ ولا ننزلها جملة متصلة ( ولتستبين سبيل المجرمين ) يقال : هذه اللام تتعلق بالفعل، فأين الفعل الذي تتعلق به ؟ فقال الكوفيون وهو مقدر أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين قال النحاس : وهذا الحذف كله لا يحتاج إليه، والتقدير : وكذلك نفصل الآيات فصلناها. وقيل : إن دخول الواو للعطف على المعنى أي ليظهر الحق ولتستبين قرئ بالياء والتاء١. ( سبيل ) برفع اللام ونصبها، وقراءة التاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين فإن قيل : فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستبينها ؟ فالجواب عند الزجاج ان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته فالمعنى : ولتستبينوا سبيل المجرمين. فإن قيل : فلم لم يذكر سبيل المؤمنين ؟ ففي هذا جوابان أحدهما أن يكون مثل قوله :(... سرابيل تقيكم الحر... ٨١ ) ( النحل ) المعنى وتقيكم البرد ثم حذف وكذلك يكون هذا المعنى ولتستبين سبيل المؤمنين ثم حذف والجواب الآخر أن يقال استبان الشيء واستبنته وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين والسبيل يذكر ويؤنث فتميم تذكره وأهل الحجاز تؤنثه وفي التنزيل (... وإن يروا سبيل الرشد... ١٤٦ ) ( الأعراف ) مذكر (... لم تصدون عن سبيل الله... ٩٩ ) ( آل عمران ) مؤنث وكذلك قرئ ( ولتستبين ) بالياء والتاء فالتاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.
١ (وليستبين) بالياء: عاصم (غير حفص) وحمزة والكسائي خلف وقرأ الباقون بالتاء..
وقوله تعالى :( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِين ).
قيل :( تدعون ) بمعنى تعبدون. وقيل : تدعونهم في مهمات أموركم على جهة العبادة أراد بذلك الأصنام ( قل لا أتبع أهواءكم ) فيما طلبتموه من عبادة هذه الأشياء ومن طرد من أردتم طرده. ( قد ضللت إذا ) أي قد ضللت إن اتبعت أهواءهم ( وما أنا من المهتدين ) أي على طريق رشد وهدى.
وقرئ ( ضللت ) بفتح اللام وكسرها وهما لغتان : قال أبو عمروا ابن العلاء : ضللت بكسر اللام لغة تميم وهي قراءة يحيى ابن وثاب وطلحة ابن مصرف والأولى هي الأصح والأفصح لأنها لغة أهل الحجاز وهي قراءة الجمهور. وقال الجوهري : والضلال والضلالة ضد الرشاد وقد ضللت أضل قال الله تعالى :( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي... ٥٠ ) ( سبأ ) فهذه لغة نجد وهي الفصيحة وأهل العالية يقولون : ضللت بالكسر أضل.
( قوله تعالى :( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِين ).
قوله تعالى :( قل اني على بينة من ربي ) أي دلالة ويقين وحجة وبرهان لا على هوى ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره، ( وكذبتم به ) أي بالبينة لأنها في معنى البيان كما قال :( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه... ٨ ) ( النساء ) وقيل يعود على الرب أي كذبتم بربي لأنه جرى ذكره. وقيل : بالعذاب : وقيل : بالقرآن وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب ابن عبد الله ابن الزبير لنفسه، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه :
أأقعد بعد ما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني
أجادل كل معترض خصيم وأجعل دينه غرضا لديني
فأترك ما علمت لرأى غيري وليس الرأي كالعلم اليقين
وما أنا والخصومة وهي شيء يصرف في الشمال وفي اليمين
وقد سنت لنا سنن قوام يلحن بكل فج أو وجين١.
وكان الحق ليس به خفاء أغر كغرة القلق المبين.
وما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين.
فأما ما علمت فقد كفاني وأما ما جهلت فجنبوني.
قوله تعالى :( ما عندي ما تستعجلون به ) أي العذاب فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم :( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا... ٩٢ ) ( الإسراء ) (... اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء... ٣٢ ) ( الأنفال ) وقيل : ما عندي من الآيات التي تقترحونها. ( إن الحكم إلا لله ) أي ما حكم إلا لله في تأخير العذاب وتعجيله. وقيل : الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله. ( يقص الحق ) أي يقص القصص الحق، وبه استدل من منع المجاز في القرآن وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم ومجاهد والأعرج وابن عباس قال ابن عباس قال الله عز وجل :( نحن نقص عليك أحسن القصص... ٣ ) ( يوسف ) والباقون ( يقضي الحق ) بالضاد المعجمة وكذلك قرأ علي رضي الله عنه وابو عبد الرحمان السلمي وسعيد ابن المسيب وهو مكتوب في المصحف بغير ياء٢ ولا ينبغي الوقف عليه وهو من القضاء ودل على ذلك أن بعده ( وهو خير الفاصلين ) والفصل لا يكون الا قضاء دون قصص ويقوي ذلك قوله قبله :( إن الحكم إلا لله ) ويقوي ذلك أيضا قراءة ابن مسعود ( إن الحكم إلا لله يقضي الحق ) فدخول الباء يؤكد معنى القضاء قال النحاس : هذا لا يلزم لأن معنى '( يقضي ) يأتي ويصنع فالمعنى : ياتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى : يقضي القضاء الحق. قال مكي : وقراءة الصاد أحب إلي لاتفاق الحرمين وعاصم على ذلك ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود قال النحاس وهذا الاحتجاج لا يلزم لأن مثل هذه الباء تحذف كثيرا.
( قوله تعالى :( قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ).
١ الوجين: شط الوادي.
٢ قال الفخر الرازي يقض بغير ياء لأنها سقطت لالتقاء الساكنين كما كتبوا (سندع الزبانية) (فما تغن النذر).
قوله تعالى :( قل لو أن عندي ما تستعجلون به ) أي من العذاب لأنزلته بكم حتى ينقضي الأمر إلى آخره. والاستعجال : تعجيل طلب الشيء قبل وقته، ( والله أعلم بالظالمين ) أي بالمشركين وبوقت عقوبتهم.
( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ٥٩ُوَ هو الذى يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى اجل مسمىثم اليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ٦٠ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ٦١ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ٦٢ ).
في الآيات السابقة ذكر الله تعالى أمرا نبيه أن الله على بينة ويقين من أمر ربه، وذكر أن المشركين يستعجلون ما ينذرهم الله تعالى ويذكر الله تعالى ما نزل بغيرهم والنبي يترك الأمر لحكم الله يفصل بينه وبينهم والفصل الحق يقتضي علما واسعا وتنفيذه يقتضي قهرا غالبا، وسيطرة كاملة فذكر سبحانه وتعالى اختصاصه بالعلم الكامل والقدرة القاهرة والسيطرة الكاملة، ولذا قال سبحانه :
( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ).
المفاتيح جمع مفتاح، وهو المفتاح فيقال مفتح ومفتاح بمعنى واحد وقيل من بعض النحويين : إن مفاتح جمع مفتاح إذ يجوز نحويا حذف الياء، كما يقال في محاريب جمع محراب محارب بحذف الياء، وهناك قراءة ( وعنده مفاتيح الغيب ) والمعنى واحد في القراءتين وقال بعض المفسرين : إن المراد خزائن الغيب أي الأسرار المكنونة في علم الله تعالى.
والأكثرون على المفاتيح هي جمع مفتاح وهو ما يتوصل به إلى ما يكون بداخل الشيء، فمعنى قوله تعالى :( وعنده مفاتيح الغيب ) لا يتوصل إلى غيبه أحد الا من ارتضى من رسول فإنه يعطيه غيبا بما اختزنه في علمه المكنون إن أراد وبمقدار يقدر حسب المصلحة والحكمة كما أعطى عيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما.
والغيب ما غيب واستتر والكلام فيه استعارة تمثيلية تشبه بحال علم الله بالغيب واستتاره عن الناس، إلا من أراده بحال من يكون معه مفاتيح خزانة لا يصل إلى ما فيها سواه وقد تأكد علم الله تعالى بالغيب وحده، وأنه لا يعلم أحد إلا من جانبه بأمرين : أولهما : التقديم فقال سبحانه :( وعنده ) بتقديم الظرف للقصر، الأمر الثاني : بالقصر الصريح بنفي العلم عن غيره وإثباته له وحده إذ قال سبحانه :( لا يعلمها الا هو ) ثم بين دقة علمه بالمغيب وعمومه، فقال تعالت كلماته :( ويعلم ما في البر والبحر ) أي أنه سبحانه يعلم ما في البر من حيوان يدب وطائر يطير وكهرباء وفضاء وحرارةونظم كونية رتبها سبحانه وسخرها لابن الأرض حتى وصل إلى جوف الفضاء وارتقى إلى الكواكب والنجوم كما علمهن على ظهر الأرض ولذلك عبر سبحانه وتعالى بالبر ولم يعبر بالأرض ليشمل التعبير الأرض وما فوقها وما بينها وبين السماء من فروج ويعلم سبحانه أحياء البر، وكيف يكونون لأنه خالقهم وذلك تقدير العزيز العليم.
ويعلم ما في البحار من أسماك وجواهر ولآلئ والجاريات المنشآ ت في البحر وفي البحر عالم ولسير البحار نظم، ولاستعمالها قوانين نظمها بإرادته الحكيمة رب العالمين وخالق السماء والماء، وكلها مسخر للإنسان يستعملها في العمارات والبناء وفي التخريب والفساد وكل ذلك بتمكين الله تعالى :(... ليبلوكم أيكم أحسن عملا... ٢ ) ( الملك ).
( وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ).
هذا نوع تفصيل بعد إجمال وقد اختير ما يكون ظاهره تحت أنظار الناس، وأسراره في علم الله تعالى العليم الخبير اللطيف البصير، وقد ابتدأ بالأوراق التي تسقط فقال سبحانه :( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) و ( من ) هنا الدالة على عموم العلم، وعلم الله ليس كعلمنا الظاهر المبني على البصر إنما علمه هو العلم بأصل تكوينها وسير نموها فهو يعلم الأشجار التي علقت بها كيف غرست، وكيف كونت، وكيف نمت جذورها وتفرعت فروعها وتهدلت أغصانها، وكيف تكونت أوراقها وأندت بالحياة حتى اخضرت وازدهرت ثم كيف جفت وسقطت فذلك بعض علم الله تعالى وهو علم بغيبها ولا يعلم ذلك العلم سواه لأنه هو الذي برأها ونماها وربها وفي الجملة هو الكامل العلم بالغروس والأشجار، ثم ذكر من بعدذلك علمه الكامل بالزروع فقال :( ولا حبة في ظلمات الأرض ) أي يعلم حال الحبة التي تلقى في جوف الأرض، وهو ظلماتها وعبر عن داخل الأرض بظلمات وهو ظلمة واحدة، لأنه ظلمة متكاثفة متكاثرة بسبب جهل الإنسان ما يجري في باطنها من أسباب لا يدركها الإنسان إلا بعد أن تظهر فهو لا يعرف كيف ينتفع من الماء، وكيف تمد بالغذاء من أرض صالحة وسماد مخصب وكيف تتنوع في نموها وهي تسير السير الفطري الذي سنه الله سبحانه وتعالى أي أكد أن الله وحده هو الذي يعرف كيف يتكون من الحبة نبات يستوي على سوقه وكيف يشتد ويغلظ سوقه ليعجب الزراع.
فالنص الكريم جمع فيه تكوين الأشجار والغروس وتكوين الزروع والحب كما قال تعالى :( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي... ٩٥ ) ( الأنعام ) وبعد أن بين سبحانه علمه بإنشاء الغروس والزرع بين سبحانه وتعالى علمه الكامل بثمرات الغروس والنباتات في ضمن علمه الكامل بالرطب واليابس فقال تعالى :( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) وتفسير العلماء للرطب يتجه الى اتجاهين : أولهما : تفسير الرطب واليابس بما يناسب الورق والحبة، وهو ما يكون ثمرا، للأشجار رطبا أو جافا من عموم الثمار كالموز والتفاح والقصب وغير ذلك وفيه توجيه للنعمة التي أنعم الله بها على عباده فوق إحاطة علمه وقدرته في التكوين والإبداع.
وبعض المفسرين يرى أن الرطب واليابس في كل الوجود فهو يعلم اللين والجامد في كل شيء فهو يعلم ما في باطن الأرض من فلزات ومعادن كريمة، ومعادن سائلة وما يكون في باطن الأرض من أحجار نباتية وغير نباتية وسائلة وجامدة.
وإني أرى ذلك الرأى وأختاره ليكون ذلك تقريبا لأكبر قدر من النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده.
ويقول سبحانه مؤكدا تمام العلم الذي لا يغيب عنه شيء :( الا في كتاب مبين ) أي أنه ثابت لا تغيير فيه ولا تبديل فهو عالم بكل شيء علما ثابتا كالمكتوب المبين المسجل في كتاب واضح لا يخفى منه خافية وعلى ذلك فكونه في كتاب مبين موضح وواضح هو في ذاته كناية عن الثبات والاستقرار لمعنى المعلم المؤكد وقال بعض المفسرين : إن ذلك الكتاب هو اللوح المحفوظ المشتمل على علم الله تعالى المكنون في الغيب.
وبعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى تمام علمه بالأشياء أشار إلى قدرته سبحانه وتعالى وعلمه بالإنسان وما يكون منه، فالله يعلم بما يسر وما يظهر فهو سبحانه يعلم ما ظهر وما بطن ويعلم السر وأخفى ولذا قال تعالى من بعد
( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ).
الضمير يعود على الله تعالى ذي الجلال وهو سبحانه الذي يتوفاكم بالليل والمراد إنامتكم ولم يعبر بتسكنوا في الليل وهو يتضمن معنى النوم لأن السياق لبيان قدرة الله تعالى وسلطانه عليهم وكونهم في قبضة يده، وأنه يحصى عليهم أعمالهم فكان التعبير بالوفاة عنه أنسب والنوم يعتبر من قبيل الوفاة كما قال تعالى :( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى... ٤٢ ) الزمر. فالموت الأكبر هو قضاء النحب، والموت الأصغر هو النوم، ولقد شبه النبي صلى اله عليه وسلم عند إنذار عشيرته بأمر ربه :( والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون وانها لجنة أبدا، أو لنار أبدا )١.
وقوله :( ويعلم ما جرحتم بالنهار ) الجرح هو اصابة الأعضاء والأجسام بما يدميها ويطلق على الكسب والمراد هنا الكسب خبيثا أو طيبا وسميت سباع البهائم جوارح، لأنها تجرح وتكسب قوتها بجراحتها وسميت الأعضاء العاملة في جسم الإنسان جوارح لأنها هي التي تكسب، وهي التي تجرح والمراد والله تعالى أعلم : أن الله تعالى يعلم ما جرح الناس بالنهار فيعلم خفايا نياتهم في أعمالهم ويعلم ما يكسبون من خير وشر، ويعلم ما يخفون وما يبدون وفي ذلك إنذار وتبشير فهو إنذار لمن يكسبون الشر وتبشير لمن يكسبون الخير، واحسب أن استعمال ( جرحتم ) الذوق البياني يجعلها أقرب إلى استعمال الشر، ولكن الأولى هو التعميم والله سبحانه وتعالى أعلم بالمراد.
وقوله تعالى :( ثم يبعثكم فيه ) الضمير يعود الى النهار، ويكون الكلام متصلا بالتوفى بالليل فالسياق يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم في النهار بعد الليل ولذلك قال الشوكاني في تفسيره : إن الضمير يعود إلى الليل لابتداء النهار والمؤدى واحد، وان كان ثمة اختلاف في توجيه السياق والإعراب وكان التعبير ب ( ثم ) لتفاوت ما بين مظهر الليل ومظهر النهار، والتفاوت ما بين أعمال النهار وأعمال الليل.
إن تداول الليل والنهار مستمر، فليل يعقبه نهار، ونهار يعقبه ليل لنهاية واحدة، وهو قضاء أجل مسمى عند الله تعالى : وإن كان لا يعلمه إلا الله تعالى لأنه سبحانه وتعالى يقول :( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ٣٤ )
( لقمان ).
( ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ) إنه بعد أن يقضي الأجل المسمى يكون المرجع إلى الله وحده، فلا سلطان لغيره ولا يرجع إلى أحد سواه ودل على هذا القصر تقديم الجار والمجرور فإنه دل على القصر والتعبير ب ( ثم ) لأن هناك تفاوتا زمنيا بمقتضى الأجل المسمى الذي يطول ويقصر ولتفاوت ما بين ما يكون في الحياة الدنيا من لهو وعبث وتفاخر وتقوى أحيانا ثم قال سبحانه :( ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) والتعبير ب ( ثم ) أيضا لتفاوت ما بين الحياتين وليتبين الإخبار بالعمل العظيم وإخبار الله تعالى بما كانوا يعملون يتضمن أمرين : أولهما : أن العمل يكون مبنيا لهم كأنه حاضر أمامهم يشاهد ويبصر لا يخفى منه شيء صغيرا أو كبيرا. وثانيهما : الجزاء عليه وسمى جزاء عمل العامل عملا لهن لأن الجزاء عادل مساو لاستحقاقه كأنه هو فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
وبعد أن بين سبحانه بكل شيء وبكل إنسان وأن لكل جزاءه على قدر عمله. بين قدرته القاهرة فقال تعالى :
١ ؟؟؟؟؟.
( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ).
هذه تبين قدرة الله تعالى، وكمال سلطانه على كل شيء فهو سبحانه وتعالى قد قهر له كل شيء وذل، ولا يخرج عن سلطانه أحد، وكل شيء في سلطانه وفي إرادته لا يقع شيء في الكون ولا يخرج دون أمره وقوله تعالى :( فوق عباده ) كناية عن علو إرادته ولا إرادة لمخلوق فوق إرادته أو يقال إنها استعارة تمثيلية فيها تصوير علو الله تعالى على كل شيء في الوجود سلطانا وتذليلا بمن يكون فوق كل شيء حسا، وفي الحقيقة ذلك مجاز مشهور لا يحتاج إلى تقدير تشبيه أو نحوه كقولنا : الأمير فوق رؤسائه أو فوق رعيته، وقد انحرف انحرافا كبيرا الذين قالوا : إن ثمة فوقية حسية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وإنه من قهره وسلطانه وكونه فوق الكل أرسل على الناس حفظة والتعبير ب ( أرسل ) لتناسق الكلام، اذ إن الذي يسيطر على كل شيء وفوق كل شيء يناسبه فيمن يسخره من خلقه على خلقه أن يكون ب ( أرسل ) و ( حفظة ) جمع حافظ مثل كتبة جمع كاتب وسفرة جمع سافر وهؤلاء الحفظة يحفظون العباد، ويحوطونهم ويكتبون ما يكون منهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ولقد ذكر سبحانه هذا المعنى في عدة آيات : من كتابه فقد قال تعالى :( وإن عليكم لحافظين ١٠ كراما كاتبين ١١ ) ( الانفطار ) وقال تعالى :( له معقبات من بين يديه ومن خلفه... ١١ ) ( الرعد ) وقال تعالى :( إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ١٧ ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد ١٨ ) ( ق ).
وإن هذه الرقابة والمحافظة لأولئك تستمر حتى الوفاة ولذا قال تعالى :( حتى إذا جاءأحدكم الموت توفته رسلنا ) ( حتى ) هنا للغاية والمعنى تستمر هذه الحال حتى يجيء أحدهم الموت وعبر بالماضي لتحقق المجيء مثل قوله تعالى :( اتى أمر الله فلا تستعجلوه... ١ ) ( النحل ) أو تكون حتى تفريعية أي إن تلك الرقابة لأجل الحساب كما يدل الكلام وقوله تعالى :( توفته رسلنا ) أي ملك الموت ومن معه وهنا يلاحظ أن ذكر مجئ الموت قادم على ذكر الوفاة والمراد من مجئ الموت تقدير نهاية الأجل ولذلك عبر ب( أحدكم ) ولم يقل حتى إذا ماتوا والوفاة قد جاءت بعد الإحصاء الدقيق من الحفظة ولذلك قال من بعد ذلك، ( وهم لا يفرطون ) أي لا يهملون ولا يتركون شيئا مما فعل بل كل ما عمل مهيأ له يجده حاضرا بعد وفاته.
( ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ).
وإنه بعد أن يموتوا يردون إلى الله تعالى معروضة أعمالهم محصاة إحصاء دقيقا يردون إلى الله تعالى مولاهم الحق، وفي هذا النص بضعة مباحث نشير إليها ففيها تقريب لمعنى النص الكريم.
أولها : التعبير ب ( ثم ) والتراخي هنا لبيان مكانة الحساب والرد على الله تعالى لأن الالتقاء بحساب الله أمر ذو خطر عظيم لما كانوا يفعلون غير متوقعين بعد ذلك من وقائع تزلزل قلوب الفاسقين وتطمئن لها قلوب المؤمنين.
وثانيهما : أنه عبر عن الرد للحساب بالرد لله تعالى ذي الجلال وذلك يشير إلى خطورة الأمر، ودقة الموقف وجلال الحساب.
وثالثها : أن الله تعالى عبر عن ذاته الكريمة أنه مولاهم الحق أي ذو الولاية الحق فلا ولاية لمن اتخذوهم أولياء بل إنهم ينسونهم وينكرونهم كما قال تعالى :( هنالك الولاية لله الحق... ٤٤ ) ( الكهف ) و ( الحق ) يصح أن نقول إنها وصف لمولاهم أي هو المولى الحق الذي لا يصدق على غيره أنه ولي قط أو نقول إنها الحق الثابت وبالعدل الذي لا يظلم ربك فيه أحدا.
وقوله تعالى :( ألا له الحكم ) ( ألا ) فيه للتنبيه وتقديمه له على الحكم للإشارة إلى أنه وجد له الحكم ولا حكم لأحد سواه فليترقبوا جزاء ما عملوا والحساب قائم ومؤكد ولذا قال من بعد :( وهو أسرع الحاسبين ) أي أنه لا يوجد حاسب في سرعة حسابه وهذا يؤكد الحساب وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ٤٨ ) ( النساء ) ويثبت أن حساب الله سريع لأن الله يعلم كل شيء قبل أن يقدموا عليه إن الله بكل شيء عليم.
( قل مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ٦٣ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ٦٤ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ٦٥ ).
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى عموم علمه، ما خفى منه وما ظهر وما جد وما يجد حتى إن الورقة تسقط يعلمها، والحبة تنبت فتكون في علمه لكونها وحالها، يعلم الرطب واليابس من الثمرات وهو الذي نظم الوجود بمقتضى هذا العلم المحيط هو الذي يعلم الوفاة بالليل، والصحو بعد، وما يكسب بالنهار من خير نافع، وشر ضار، وأنه المسيطر على كل شيء، وأن المرجع والمآب إليه وعنده الحساب السريع والحكم العادل.
وفي هذه الآيات يبين نعم الله تعالى عليهم إذا ادلهمت بهم كارثة يضرعون إليه وبين أنه إذا كان هو وحده الملجأ عند الكارثة تكرثهم فهو القادر على أن ينزل بهم البأساء والضراء، ومع هذه النعم السالفة ومظاهر القدرة الباهرة يكذبون بالحق إذ جاءهم وأنباء الرسالة ثابتة مستقرة لا تتخلف وأنه إذا كان الناس فيهم اطهار وأشرار فعلى الأطهار ألا يخوضوا في فتن الأشرار، وقد ابتدأ سبحانه بقوله :
( قل مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ).
كان المشركون يعرفون الله سبحانه وتعالى، ولكن لا يؤمنون به ولا يخصونه بالعبادة بل يشركون مع الأوثان ويقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وكذلك أكثر الوثنيين يعرفون أن قوة خفية تسير الوجود ولكنهم يعبدون أشياء حسية يحسبون أن روح الأولوهية تحل فيها، وهم في غيهم يعمهون.
فلا عجب، إذا كان المشركون عندما تشتد بهم الشديدة لا يتجهون إلا إلى خالق الكون ومنشئه ومسيره والقيوم عليه سبحانه وتعالى ولقد أمر الله تعالى الرسول الكريم أن يوجه أنظارهم إلى أنه لا يذكر في الشديدة إلا الله سبحانه وتعالى وأنهم يذكرونه حيث تكون الكريهة وحيث يكون الخطر، فأمره بأن يوجه إليهم الاستفهام ليقروا بهذه الحقيقة :( قل من ينجيهم من ظلمات البرو البحر ) والاستفهام إنكاري تقريري بمعنى لا أحد ينجيكم من ظلمات البر والبحر وأنتم تقرون بذلك إ ذتدعونه تضرعا وخفية، فلا تلجأون لغيره ولا تجدون منجاة إلا من عنده، والظلمة هنا الشدة فهي مجاز شبهت فيه الشدة والكرب بالظلمة لأن النفس فيها تتحير وتشده فتلبس فتكون كأنها لا ترى ولا تعرف وجه الخروج، ولذلك يقال لليوم الشديد الذي يملؤه الكرب : يوم مظلم ويقولون نهار ذو كواكب أي انه لشدته يكون كأنه ليل ترى فيه الكواكب وفي شدائد البر والبحر تكون غمة حقيقية فقد يكون غيم شديد لا رؤية فيه، أو ريح عاصف وإعصار قد يكون الخسف الذي يلقى في ظلمات الأرض وقد يكون اصطخاب الأمواج بالأذى وهكذا فتجتمع ظلمة الشدة، والظلمة الحقيقية وقد تكون الشدة حيرة يضلون فيها الطريق فتبتلعهم الصحراء أو تكون إذا ركبوا البحر، فضلت فيه المحجة١ أو ألقتهم الريح لا يهتدون ولا يجدون المنجاة، فكل هذه ظلمات متكاثفة.
وان حالهم أنهم لا يلجأون إلا إليه ولذا قال سبحانه عنهم :( تدعونه تضرعا وخفية ) أي أنكم في حال الشدة تتجهون إليه سبحانه وتعالى بقلوبكم ونفوسكم ولا تجدون ملجأ منه إلا إليه، ويظهر ذلك الالتجاء القلبي ضراعة وتذللا يجري على ألسنتكم ولا تجدون سبيلا للامتناع عن الجهر بالضراعة والتذلل لله تعالى، وتسليم الوجه له، فالتضرع دعاء الله تعالى مستسلمين له جهرا والخفية خنوع النفس، واتجاهها قلبيا إليه سبحانه وقد صور الله تعالى ضراعتهم بقوله :( لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ).
هذا قسم يقسمونه ويؤكدون به ما هم عليه من الالتجاء إلى الله، ولذلك كل التوكيد بالنون الثقيلة وباللام وموقع هذه الجملة مما قبلها أنها تفسير للضراعة التي جهروا بها أو هي تفسير بمعنى ( تدعون ) فهم يدعون الله تعالى، بمعنى أنهم في سريرة أنفسهم وضراعة قولهم، يقسمون بان الله تعالى إن أنجاهم من هذه الكروب الكاربة والشدائد الشديدة ليشكرونه حتى شكره الله تعالى بالعبادة وتخصيصه بها، إن أشركوا معه غيره في العبادة لا يعدون عابدين اذ أنه حيث أفرد بالالتجاء لا يتصور إلا أن يفرد سبحانه وتعالى بالعبادة.
ويصح أن يكون قوله تعالى عنهم
( لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ) مقولا لقول محذوف تقديره قائلين أنجيتنا من هذه.
ومع أنهم وعدوا بالشكر أي إخلاص العبادة لله تعالى فهل وفوا بذلك ؟ إنهم لم يفوا إذ إنها حال إذعان في الشدة فإذا نجوا عاد إليهم جحودهم، وغرتهم أنفسهم وأمانيهم.
١ المحجة: الطريق..
( قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ).
أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يبين لهم أن الله تعالى مستجيب لضراعتهم عند تضرعهم والتجائهم إليه الخفية ووعدهم بان يخلصوا عبادتهم لله ويشكروه على نعمائه المتضافرة المتكاثرة التي نعيش في ظلها دائما، وإن كان تعالت حكمته يعلم أنهم غير موفين لعهدهم وأنهم ناكثون في أيمانهم كما حكى سبحانه وتعالى عن طبيعة الإنسانية المنحرفة إذ قال تعالت كلماته :
( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ١٢ ) ( يونس ).
وان الله تعالى بين أنه لا ينجيهم مما يعرض لهم من شدائد من خارجهم وما لا قبل لهم به وحسب بل ينجيهم من ذلك، وينجيهم من الركوب التي تعتري نفوسهم من ضراء تنزل بهم، أو مرض يحل بأجسامهم ومن كل شيء يكربهم ويلقى غمة النفس عليهم، ولذلك قال سبحانه :( ومن كل كرب ) ولقد فسر الأصفهاني في مفرداته الكرب فقال : الكرب الغم الشديد (... فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ٧٦ ) ( الأنبياء ) والكربة كالغمة. وأصل ذلك من كرب الأرض وهو قبلها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ويصح أن يكون ذلك من كربت الشمس أي دنت للمغيب ويستفاد من هذا أن الكرب غمة شديدة تصيب الإنسان من أمر نفسي يثير النفس، ويجعلها في قلق وحيرة واضطراب نفسي، ويقيم عليها، كمرض عزيز أو موته، أو ضرر أو فقد مال أو خسارة في تجارة، فالله تعالى هو المنجي منه، وبهذا تبين أن الله تعالى هو الذي ينجي خلقه من كل شيء، فهو القائم على كل شيء ومع هذا الخير العميم ومع استجابة الله تعالى لضراعتهم والتجائهم اليه، وانجائه لهم بالفعل بعد أقسموا إن نجاهم يشكرونه أي يعبدونه وحده لأنه الذي أنجاهم وخلصهم مما هم فيه، مع هذا بمجرد أن يعودوا إلى الاطمئنان والاستقرار يشركون ويحنثون في ايمانهم ويعودون إلى ما كانوا عليه بل انهم يستمرون في غيهم يعمهون وإنه كان كما قال بعض المفسرين : الأصل في السياق أن تكون حالهم حال من لا يشرك فكان مقتضى الضراعة أن ينفى الله شركهم بعد قسمهم على الشكر والعبادة، ولكن عاد إليهم جحودهم ولذا قال سبحانه :( ثم أنتم تشركون ) أ ي أن إذعانهم العارض لم يكن ساكنا نفوسهم بل هو أمر عارض بسبب يزول بزواله ولم يكن إذعان الذين خلصوا بنفوسهم ويلاحظ بعد إشارات بيانية :
أولها : التعبير ب( ثم ) ففيه إشارة إلى التفاوت الكبير بين حال ضراعتهم وحال كفرهم أو بعبارة أدق استمرار حالهم.
الثانية : أنه سبحانه عبر بالجملة الاسمية وذلك تأكيد لشركهم الذي كان نقيض شكرهم الذي وعدوا به ونكثوا في وعدهم.
الثالثة : أنه عبر بالفعل المضارع الذي يصور حالهم ويدل على استمرارهم.
وبعد أن بين سبحانه وتعالى كمال سلطانه في النعم يمنحها ليرغبوا في الإيمان والإذعان ذكر سبحانه قوته في القهر والعذاب.
( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ ).
بعد بيان قدرته على كشف الكروب بين سبحانه وتعالى قدرته على إنزال الشدائد جزاء لهم بما كسبت أيديهم فهو كاشف الضر، وهو منزل العذاب كل يسير على مقتضى حكمته، وعلى ما يصلح به الإنسان ويستقيم عليه أمر العالم كما قدر رب العالمين :(... وكل شيء عنده بمقدار ٨ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ٩ ) ( الرعد ).
وقبل أن نتكلم في معنى القدرة القاهرة، نذكر كلمة في ناحية بيانية، وهو لماذا أمر الله تعالى نبيه في التنبيه إلى ضعفهم وقدرته سبحانه وتعالى، وصدر الكلام بكلمة ( قل ) في بيان ضعفهم واستجابته لضراعتهم واستعلائه بقدرته عليهم ؟ ونقول في الإجابة عن ذلك فيما يبدو : إن تصدير الكلام ب ( قل ) فيه تنبيه فضل تنبيه وفيه بيان مقام النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو الصلة بينهم وبين ربهم، وأنه المبعوث إليهم من قبله وأنه هو الذي يخاطبهم عنه سبحانه في كشف الضر عنهم ورفع الغمة إن نزلت بهم وهو منذرهم بالعذاب الشديد.
والخطاب هنا لمن ؟ أ هو للمشركين فقط الذين وعدوا بالشكر ثم أشركوا ؟ أم هو خطاب للناس أجمعين ؟ ظاهر السياق هو الأول لأنه الخطاب ولكن موضوع الخطاب يعم، ولا يخص المشركين ولأن مفسرى السلف والآثار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم تومئ إلى أن المؤمنين يدخلون في عموم الخطاب وإنا نميل إلى هذا العموم.
والنص الكريم يفيد عموم العقاب، لأن العذاب الذي ينزل من فوق يعم الجميع كذلك العذاب الذي يجيء من تحت الأرجل يجيء عاما لا خاصا، فإذا كانت صواعق أو إعصار شديد وصواعق أو سيل عارم كل هذا يعم ولا يخص، وكذلك الخسف الذي تمور به الأرض مورا، والزلازل المدمرة والبراكين الحارقة كل هذا يعم ولا يخص ينزل بالمؤمنين مع الكافرين وقد عبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمور بعبارتين جديرتين بالنظر فيهما :
أولهما : التعبير ب( يبعث عليكم ) فان البعث معناه الإثارة وعبر بيبعث للإشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يثير عليهم ذلك العذاب وعبر ب ( يبعث ) بدل ينزل عليهم لأن البعث والإثارة تعنى أن النزول يكون من عل ولأن البعث والإثارة فيهما معنى الإيجاد لما ليس بموجود.
ثانيهما : التعبير عن ذلك بكلمة ( عذابا ) ففيها الإشارة إلى أنه في معنى الجزاء على بنيان واقع، أو أن الذين نزل بهم أكثرهم يستحقون وهو على أية حال أمر مقصود وقد أشار الله تعالى في آيات أخرى إلى أن الكوارث قد تكون عقابا على ذنوب سلفت أو طغيان استحكم كقوله تعالى فيمن ينفقون من غير إيمان :
( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ١١٧ ) ( آل عمران ).
ومثل قوله فيما نزل بقارون وداره في حال طغيانه :( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ٧٦ ) ( القصص ). إلى أن قال سبحانه عنه :( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ٧٩وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ٨٠فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ٨١ ) ( القصص ).
فدلت هذه النصوص على أن الله تعالى ينزل عذابا كونيا لغرور أو طغيان أو فسق عن أمر ربهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أنواعا ثلاثة من العذاب الذي بعثه :
الأول والثاني : أن يبعث عذابا من فوق أو من تحت، ( أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم ).
ومعنى العذاب الذي ينزل من فوق أطلقه الكثيرون من العلماء على ما ينزل من السماء ببعث وإثارة من الله من صواعق وإعصار وريح فيها، صر، وحاصب من السماء وحجارة من سجيل تجعلهم كعصف مأكول وغير ذلك مما ينزل الله من عل، والعذاب الذي يكون من تحت الأرجل مما يكون من الأرض التي يفترشونها من خسف في الأرض وميد فيها، وبراكين وزلازل وغير ذلك من آفات الأرض التي تقرض الزرع.
وعبر عما يجيء من الأرض بقوله تعالى :( من تحت أرجلكم ) وذلك للإشارة إلى قربه الشديد منهم وإلى أنه يكون في مقام استقرارهم فيكون ميد الأرض من تحت أقدامهم حيث هم مستقرون فيها، وللإشارة إلى أنهم أول من يصابون بهذا العذاب ولا منجاة منه، إلا أن يكون لله تعالى في منجاتهم إرادة.
وروى عن ابن عباس أنه فسر العذاب من فوقهم بفوقية معنوية وهم الأئمة المفسدون والحاكمون العابثون ومن هم تحت أرجلهم بالرعاع الأقربين يهرفون بما لا يعرفون ويتبعون كل ناعقة يدعو إلى هواه ويقفون على ما يريد١ فعلى هذا النظر تكون الفوقية والتحتية ليست حسية وإن ذلك الكلام وجها من الحقيقة، فإن أشد ما تصاب به الأمم أن تتحكم فيهم أئمة الفساد وأن يجدوا تابعا من الذين لا يعرفون كيف يرادون أعلى الخير أم على الشر، وعلى ما ورد الماء العذب الذي يسقى النفوس، أم على منافع الأوباء الخلقية والاجتماعية فإن ذلك يفنى الأمم في وحدتها واجتماعها وإن تخريب السماء وتخريب الأرض يسرع تعويضه وإقامة بديل له أما تخريب النفوس وإشاعة الرذيلة فلكي تخرج الأمة منه لا بد من تبديل الأقوام وتغيير واستبدال نفوس بنفوس وذلك يحتاج إلى زمن طويل :( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال١١ ) ( الرعد ).
وإني أرى أن العذاب الذي ينزل من فوق والذي يجيء من تحت الأرجل، كلا الأمرين يشمل الحسي ويشمل المعنوي بولاة السوء، وتحكم السفلة ومن لا يفقهون ويتبعون كل ناعق، ولا يميزون بين الخبيث وغيره، لا على أن ذلك من الجمع بين الحقيقة والمجاز بل على أن ذلك تفسير لكلمة العذاب بما يعم ولا يخص حسيا أو معنويا.
والنوع الثالث : من العذاب الذي تصاب به الأمم وهو الداء العضال الذي اصاب أهل الإسلام هو التفرق والتباين ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ).
هذا عذاب للأمم يحل وحدتها، وينثر جمعها وهو أشد أنواع العذاب عندما يتفاقم ويكون الهوى المتبع والشح المطاع وإعجاب كل امرئ وكل جماعة بنفسها وطريقتها :(... كل حزب بما لديهم فرحون ٥٣ ) ( المؤمنون ) فعندئذ تنفك العرا وتنحل الأواصر ويقوم المنكر ويذهب المعروف ولا سماع لصوت الحق.
و ( يلبسكم ) المذكورة في الآية من لبس بفتح الباء يلبس وهي تتضمن معاني ثلاثة : أولها : الستر فالحقائق تستر عمن يلبس عليه، فلا يراها وثانيها الخلط فيختلط الحق بالباطل، والذين يقعون في هذا اللبس ( يلبسون بالباطل ) فلا يكون وضوح يفرق بين الحق والباطل وثالثها وجود غشاوة على القلوب تحجب عنها بسبب التعصب لما يعتقده فيزين له سوء عمله فيراه حسنا ويرين على قلبه فلا يدرك.
وقوله تعالى :( يلبسكم شيعا ) شيع هنا حال، أي يخلطكم حال تشيع جماعتكم فتكون كل جماعة شيعة قائمة بذاتها منفصلة عن سواها واصل كلمة شيعة من شيعت النار بالحطب : قويتها فالشيعة من يتقوى بها في حدة وحرارة، وينتشرون عنها منادين بها، وقد تستعمل في معنى التجمع للخير، كما في قوله تعالى ( وان من شعته لإبراهيم ٨٣ ) ( الصافات ) وقوله :(... هذا من شيعته وهذا من عدوه... ١٥ ) ( القصص ) ولكن كثيرا ما تكون في التشيع لغير الحق، وما يكون فيه تعصب شديد فتكون كأنها وقود يقوي النيران نيران الحقد والحسد والبغضاء.
ومعنى الجملة السامية ( يلبسكم شيعا ) أنه سبحانه يخلطكم وتلتبس الأمور ولا تميزون بين الخبيث والطيب، وتكونون قوما بورا، وذلك الضلال يصحبه انقسامكم شيعا متفرقين بينكم نيران البغضاء والعداوة وتفترقون فيما بينكم فلا تكونون أمة واحدة تجمعها وحدة جامعة، ولكن تكون طرائق متفرقة، وأخلاطا غير متجانسة ولا متمازجة.
ولا تكون العلاقة فيها مودة واصلة ورحمة عاطفة بل تكون العداوة المستحكمة كل شيعة تتربص بالأخرى الدوائر في غير هوادة ولا نفوس قارة، بل في نفوس فاترة وهذا مؤدى قوله تعالى :( ويذيق بعضكم بأس بعض ) أي تكون العلاقة أن يذوق كل جماعة شدة الجماعة الأخرى أي يكون بأسهم بينهم شديدا فقوتهم تكون على أنفسهم ولا تكون على غيرهم وعبر سبحانه عن البغضاء والعداوة بان يذيق بعضهم بأس بعض وذلك تصوير بياني يشبه الإصابة بالبأس بذوقه واستطعامه للإشارة إلى أنهم يستطعمون العداوة بينهم ويستطيبون البأس الشديد الذي يحكمهم كمن يستطيب طعاما شهيا، وذلك ينبئ عن فساد أمرهم واضطراب حالهم وقلب طباعهم حتى إنهم يستمرئون العداوة كأنها طعام مرئ.
ان كل بلاء يهون إلا بلاء التشيع وقد ابتلى الله تعالى به أهل الإيمان روت الصحاح بآثار متضافرة أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستبتلى بهذا البلاء٢. روى ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، واني أعطيت الكنزين الأحمر، والأبيض وإني سألت ربي ألا يهلك قومي بسنة عامة ( أي بأزمة وجوع ) وألا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض فقال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكوهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وبعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبى بعضا ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( إني أخاف على أمتي الأئمة الضالين فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة )٣ اللهم إن هذه دلائل قد رأيناها وأضلنا الضالون من الأئمة حتى صار بعضنا يأكل بعضا اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، وأجرنا من شر ذنوبنا وعواقب أعمالنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
( انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ).
يأمر الله تعالى نبيه بأن ينظر في تصريف الله تعالى آياته البينات وهو توجيه لما في القرآن الكريم من توجيه حكيم، وإعجاز يتحدى به الإنسانية كلها، فالسورة كلها تصريف في التوجيه وفي كل بيان جده ألم تره نبه إلى علمه المحيط الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة فهو يعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهو الذي يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها وهو الذي يرد إليه الأمر كله، ثم بين أنه وحده الذي يلجأ إليه المشركون، إذا اشتدت الشديدة وحلت الكريهة، وهو القادر على أن ينزل إليهم البلاء، ويذيقهم كؤوس الاختبار.
هذا تصريف في القول الحكيم الصادق ليدركوا الأمور على وجوهها بعد أن يوجهوا إليها، رجاء أن يفقهوا ويدركوا فالرجاء هنا في قوله تعالى :( لعلهم يفقهون ) هو في حالهم إذا كانوا يعتبرون وفيما هو من شان ذلك التصريف في القول الحكيم ويفقهون معناه
١ روى ابن جرير الطبري في جامع البيان ج٧ ص ١٤١ أن ابن عباس كان يقول في هذه: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم فأما العذاب من فوقكم: فأئمة السوء وأما العذاب من تحت أرجلكم فخدم السوء..
٢ من ذلك ما روى الترمذي: تفسير القرآن ومن سورة الأنعام (٣٠٦٦) عن سعد ابن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليهم وسلم في هذه الآية: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما غنها كائنة ولم يات تأويلها بعد) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب كما رواه أحمد في مسند العشرة (١٤٦٩).
٣ ورواه مسلم: الفتن وأشراط الساعةـ هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (٢٨٨٩) بلفظ مقارب..
( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ٦٦ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ٦٧ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٦٨ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٦٩ ).
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أنه سبحانه وتعالى هو الذي يلجأ إليه عند الشدة وأنهم يلجئون إليه ويدعونه تضرعا وخفية في ظلمات البر والبحر، وأنه وحده المنجى ولا منجى سواه وأنه سبحانه منزل الشدائد وهم بعد زوال الغمة بدل أن يوفوا بعهودهم ويشكروا نعمة الله باختصاصه بالعبادة كما اختص بالإنجاء والابتلاء يشركون غيره ممن لا يضر ولا ينفع، وفي هذه يقرر موقفهم من الحق وخوضهم في أمره بالباطل مما يدل على أن سبب ضلالهم أنهم لا ينظرون في قضية العبادة نظرة جادة، تتكافأ مع مقدار الجلال في الحقائق الدينية والمعاني الإلهية، ولذلك لا تنفذ بصائرهم ولا تهتدي قلوبهم بل هم في غي دائم حتى يسترشدوا فيرشدوا ويطلبوا الحق فيهتدوا.
( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ).
مع هذا التصريف في بيان الآيات بذكر النعمة التي يلجئون إلى طلبها دون سواه، وبيان القدرة الكاملة الشاملة، وبيان أنه الذي ينزل الابتلاء والعذاب الدنيوي ليقيسوا عليه من بعد العذاب الأخروي كذبت قريش قوم النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبها مع قيام البينات الصادقة ومع حالهم من الاستسلام وطلب النجاة منه عند الشدة يدل على إدراك ناقص أولا لان مناقضة الشخص لحاله أو لبعض أحواله دليل على غفلته عن إدراك الحقائق الكاملة وعن نسيان الوقائع ويدل أيضا على جحود مستحكم ومقاومة للحق مع قيام الأدلة، وشهادة الآيات ويدل على تغلغل التقليد في نفوسهم حتى إنه يضع على أعينهم غشاوة وإن كان البصر قائما فلهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها.
وقال بعض المفسرين : إن قوم النبي صلى الله عليه وسلم هم أمته الذين بعث فيهم لا فرق بين عربي وأعجمي ولا أبيض وأسود ولا شرقي ولا غربي فأولئك قومه صلى الله عليه وسلم.
ونحن نميل إلى ما عليه الجمهور من المفسرين لأن الأمة أعم من القوم في أصل الدلالة اللغوية وإنما ذكر الله تعالى قوم النبي صلى الله عليه وسلم من قريش لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حفيا بان يؤمنوا حريصا على إيمانهم حتى إنه عندما كان الأذى بشتى ضروبه قال : اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون وقال :( وإني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله )١ وللإشارة عالى عموم الدعوة الى هذه الدعوة وإنه إن وجد من يرد دعوته من قومه ويشددون في بلائه فسيجد المستجيب من غيرهم وان الهداية قد تكون من خارج قومه ( انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.. ٥٦. ) ( القصص ).
قوله تعالى :( وهو الحق ) فيه إشارة إلى أنهم لا دليل عندهم ولا موجب، لأنه الحق الثابت الذي قام الدليل عليه وشهدت له البينات وقام من أنفسهم دليل صدقه فالواو ما يسمى في عرف النحويين واو الحال، أي أني يكذبون ذلك التكذيب والحال أنه حق ثابت وذلك لشدة العناد
إذ إن الدليل قائم والقربى بينك وبينهم ثابتة ومع ذلك جحدوا بها، وان استيقنتها أنفسهم ولست مسؤولا عن كفرهم وقد بينت وبلغت وما عليك إلا البلاغ.
وإذا كان قومك يكذبون بالحق، وقد ظهرت دلائله وبرقت بوارقه، فقل لهم غانك إذ بلغت وبينت لست مسئولا عنهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :( قل لست عليكم بوكيل ) وأمره صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى لتأكيد أن عليهم وحدهم تبعة تكذيبهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم مهما تكن صلته بهم من قرابة ورحم موصولة من جانبه لا يتحمل تبعة ما يفعلون بل كل امرئ بما كسب رهين، ولا تزر وازرة وزر أخرى وما على الرسول إلا البلاغ والوكيل هنا هو المتكفل بأمورهم والموكول إليه شؤونهم الذي شملت كفالته عليكم فليس بذي رقابة ومسئولية عنهم، وقد قال الراغب في معنى وكيل : وكيل فعيل بمعنى مفعول قال تعالى :(... وكفى بالله وكيلا... ٨١ ) ( النساء ) أي اكتف به أن يتولى أمرك ) ويتوكل لك، وعلى هذا :(... حسبنا الله ونعم الوكيل١٧٣ ) ( آل عمران ) (... وما أنت عليهم بوكيل ١٠٧ ) ( الأنعام ) أي بموكول عليهم وحافظ لهم كقوله تعالى :( لست عليهم بمسيطر ٢٢ إلا من تولى وكفر ٢٣ ) ( الغاشية ) وعلى هذا قوله تعالى :( قل لست عليكم بوكيل ) أي لست بموكول بكم حافظ عليكم لأحملكم على الجادة، بل على التبليغ فقط وأنتم مسئولون عما تكذبون وتقترفون ولذا حملهم سبحانه التبعة وأنه واقع بهم ما أنذرهم، وأن إخبارهم بما يكون في اليوم الآخر واقع لا محالة :
١ قال عبد الله ابن مسعود كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) متفق عليه، البخاري: أحاديث الأنبياء حديث الغار، (٣٤٧٧) ومسلم الجهاد والسير غزوة أحد (١٧٩٢) وأما قوله صلى الله عليه وسلم (بل ارجو أن يخرج الله من أصلابهم...) فهو في حديث الأخشبين وهو متفق عليه رواه البخاري: بدء الخلق ذكر الملائكة (٣٢٣١) ومسلم: الجهاد والسير ما لقى النبي صلى الله عليه وسلم (١٧٩٥).
( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ).
النبأ هو الخبر العظيم الذي يكون ذا فائدة، وله واقع مصدق يفيد علما يقينيا أو علما ظنيا، ولذلك يقال عن الأخبار المتواترة أنها أنباء ومن ذلك قوله تعالى :( تلك من أنباء الغيب نوحيها غليك... ٤٩ ) ( هود ) ومستقر هي مصدر مسمى بمعنى استقر أو اسم زمان بمعنى زمان يستقر.
ومعنى الاستقرار مأخوذ من القرار بمعنى الثبوت والتحقق والوجود فالمؤدى اللفظي للنص الكريم لكل خبر عظيم بالإنذار أو التبشير زمان يكون فيه، ويتحقق مضمونه والمؤدى العام، أن أولئك الذين كذبوا بالحق لما جاءهم قد جاءتهم الأنباء بالنذر وجاءت المؤمنين الأنباء بما سيجدون من نعيم مقيم وجنات عدن خالدين فيها، وإنه نبأ في الدنيا أو في الحاضر وتحققه ومستقره في القابل وستجدون حقيقته ثابتة معلومة علم اليقين بالمشاهدة المحسوسة وكذلك قال تعالى :( وسوف تعلمون ) أي من المؤكد أنكم ستعلمونه علم اليقين والاستقرار والوجود.
وقد يرد سؤال أليس في ذكر القرآن الكريم وإنذار النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه العلم اليقيني أو ما من شأنه تكوين العلم اليقيني فلا علم أعلى منه كما قال تعالى بعد هذه البينات ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم... ١٤ ) ( النمل ) ؟ والجواب عن ذلك أن العلم الذي قامت أسبابه بإنذار الله تعالى الصادق صدقا لا يرتاب فيه عاقل هو علم الإخبار، أما العلم الذي يكون عند نزول العذاب فهو علم المعاينة والمشاهدة والنزول بهم، حيث لا مجال للمراء ولا للمباهتة والتكذيب.
وقوله تعالى :( لكل نبأ مستقر ) أهي من قول النبي عليه الصلاة والسلام المأمور به في قوله تعالى :( قل لست عليكم بوكيل ) ظاهر السياق أنها من مقول النبي عليه الصلاة والسلام الذي أمر به، ويكون إجراء الإنذار على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فيه فضل من التشديد بسبب المواجهة والمخاطبة وفوق ذلك له صلة بنفى أنه ليس وكيلا عليهم فوضت أمورهم إليه، إنما التبعية عليهم وحدهم ويصح أن يكون قوله تعالى :( لكل نبأ ) كلام من الله تعالى ويكون حكما منه تعالى بما سيجري عليهم وكله من الله وإليه يعود.
( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِه ).
كان المشركون الذين خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الوحدانية. بعد أن أنذر وبشر وصدع بأمر ربه، يتخاطبون فيما بينهم لا يظلهم طلب الحق، ولا تدفعهم إرادة الحقيقة وإنما يسود حديثهم اللجاجة في الجحود ومعاندتهم للنبي صلى الله عليه وسلم واستهزائهم بضعاف المؤمنين وتدبيرهم أساليب تعذيبهم فحالهم ليست حال من يستمعون إلى الحق، اذ دعوة الذين يلجون في الخصومة والمعاندة تزيدهم تشديدا في موقفهم وصم آذانهم ولذلك لا يكون من الخير تذكيرهم في هذه الحال الجاحدة لأنها تزيدهم إصرارا وجفاء وبعدا وعنادا.
والخوض أصل معناه في اللغة المرور في الماء والشروع والانغمار في موجاته، ثم استعمل في الانغمار في الأحاديث والأقوال باعتبارها تغطي الفكر، وتسيطر عليه كما يغطي الماء الخائض فيه. جاء في تفسير الشوكاني ما نصه :( الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب والخوض أصله في الماء ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها لغمرات الماء، فاستعير من المحسوس إلى المعقول، وقيل هو مأخوذ من الخلط وكل شيء خضته فقد خلطته ومنه خاض الماء بالعسل وخلطه، والمعنى إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والرد، والاستهزاء فدعهم ولا تقعد معهم لسماع هذا المنكر العظيم، حتى يخوضوا في حديث مغاير ).
وإن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء لا يتصور أن يكون لمجرد المسامرة، ولكن لأجل رسالته. والدعوة في هذا الخوض المعاند لا تجدى كما ذكرنا وإن الأمر بالأعراض عنهم في حال العناد أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولخاصته المؤمنين، وعامتهم فعلى المؤمنين ألا يغشوا مجالس المبتدعة في أثناء تقرير ابتداعهم وإعلان انحرافهم فإنه لا جدوى في إرشادهم وهم في هذه الحال وان المؤمنين معرضون بكثرة الجدل معهم لأن تسرى اليهم عدوى تفكيرهم فإن الأفكار الفاسدة تعدى كما تعدى الأجسام المريضة الفاسدة وقد شكا بعض الحنابلة أنهم لكثرة مجادلتهم مع الزنادقة سرت إليهم بعض طرق تفكيرهم.
( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على دعوة المشركين فبين الله تعالى كما ذكر آنفا أنهم إذا خاضوا في الآيات التي هي دلائل الرسالة واستهزءوا بها وألحوا في جحودها ولجوا في استمساكهم بما هم عليه لا يزيدهم ذكر الحق إلا لجاجة وعنادا وطغيانا إذ كلما جاءتهم آية ودلائل أخرى زادتهم كفرا كما قال تعالى :( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ١٢٤ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ١٢٥ ) ( التوبة ) فنكران الحق لا يزيد الظالمين إلا خسارا، ويدفعهم الى اللجاجة.
ولذلك كان النهي في الآية السابقة، ولكن دعاة الحق في قلوبهم ميل إلى ذكره، وهداية الناس إليه فقد يدفعهم ذلك إلى أن يعاودوا الدعوة إليه وذكره عند الخائضين منكرين مستهزئين ولذلك كان النص الكريم مكررا النهى في حال النسيان بسبب الرغبة في الدعوة إلى الهداية وقوله :( وإما ينسينك الشيطان ) هي ( ان ) الشرطية مؤكدة ب ( ما ) ويصحب التأكيد بما التأكيد بالنون الثقيلة لغة وبيانا في ( ينسينك ) وهذا من مواضع وجوب التأكيد والمعنى إن أنساك الشيطان نسيانا مؤكدا فقعدت معهم فلا تقعد بعد التذكر معهم لأنهم ظالمون ولأجل بيان بعض مرامى النص نتكلم في النواحي الآتية :
الأولى : أن التأكيد إنما هو في النسيان وأن السبب هو الشيطان وإذا كان الشيطان هو السبب في الوسوسة التي أدت إلى ذلك النسيان فإنه يجب التوقي منه ومحاربته وعدم الأخذ بما يدعو إليه، والتوبة والإقلاع عما دعا ولكن هل الشيطان بمعنى إبليس يسيطر على نفس النبي صلى الله عليه وسلم فينسيه ما يجب عليه وان الذي نعلمه وهو مقرر أن إبليس نزعت من قلبه علقته فهو لا يؤثر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الطبيعة الإنسانية هي التي تعتري الإنسان فينسى فكيف ينسب نسيان النبي الى الشيطان ؟ وقد أجيب عن ذلك بأن المراد بالخطاب في هذا المقام من يخاطب من الأمة فليس للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن اللفظ للنبي صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يدخل فيه ابتداء بمقتضى السياق وإن كان الأمر يعم كل داع والجواب الذي نرتضيه إن الشيطان ليس هو إبليس هنا، إنما هو ما يعتري النفس الإنسانية من غفوات أو سهو وهو جائز على النبي صلى الله عليه وسلم في غير بيان الأحكام والتبليغ عن الله تعالى، فان النسيان في هذا يتنافى مع مقام الرسالة من الله تعالت قدرته وسمت حكمته. وعبر عن النسيان بنسبته إلى الشيطان للإشارة إلى وجوب توقيه.
الثانية : أن النهي جاء بعد التذكر، فلا نهى في حال النسيان لأنه رفع عن الامة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وقال سبحانه :( فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) عبر سبحانه وتعالى عن الذكربالذكرى ومعنى الذكرى كثرة الذكر، والتحري له والحرص عليه وذلك فيه إيماء إلى وجوب التحرز من النسيان ما أمكن حتى لا يزداد الداعي تعبا، ويزداد لجاجة فلا دعوة إلى الحق مع الإعراض عنه واللجاجة في الإعراض.
الثالثة : أن النص الكريم منع من القعود مع القوم الظالمين أي تجمعوا وتحزبوا وهم مستمرون في ظلمهم بكفرهم وإصرارهم عليه، ولجاجتهم واستهزائهم ففي النص وصف لهم بالظلم وأنه السبب في عدم القعود معهم.
وإن دعاة الباطل يتخذون لهم أوكار أن لا يجالسهم فيها إلا من هم على شاكلتهم فيجب الابتعاد عنهم.
( وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ) الباعث لأهل التقوى على الجلوس والاستماع إلى الظالمين، وهو يخوضون في الآيات البينات الثابتة الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم منكرين، جاحدين مستهزئين لاجين في عنادهم هو رغبتهم الملحفة في الهداية فأشارت الآية الكريمة أنه لا رجاء فيهم، ولا غضاضة على أهل التقوى في ذلك ما عليهم إلا التذكير، وما عليهم من تبعات أعمالهم شيء إنما تبعات أعمالهم عليهم.
وهذا النص الكريم الذي نتكلم في معناه يبين أن الذين يتقون الله تعالى حق تقاته ويجعلون بينهم وبين غضبه سبحانه وتعالى وقاية ليس عليهم تبعة عن أعمال الذين يخوضون في آيات الله تعالى فالمراد من حسابهم أي أعمالهم المحسوبة عليهم فهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول باعتبار أن العمل هو السبب في الحساب وهو من إطلاق اسم المسبب وإرادة السبب والمعنى ما دمتم قد أديتم واجب الإرشاد والتذكير فما عليكم من تبعة أعمالهم من شيء. ولقد قال في معنى :( ما عليك من حسابهم من شيء ) الأصفهاني ما نصه : وقوله تعالى :(... ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء... ٥٢ ) ( الأنعام ) فنجد قوله تعالى :(... عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم... ١٠٥ ) ( المائدة ) أي أن المعنى ما دام أهل التقوى قد أدوا فلا حساب عليهم ولا ينالهم أذى من حسابهم وقوله :( من شيء ( من ) هنا للدلالة على عموم النفى واستغراقه أو تأكيد استغراقه أي ما عليكم أي قدر ولو ضؤل من تبعات أعمالهم ما دمتم قد ذكرتموهم العاقبة لما هم عليه فالواجب عليكم التذكر ولذا قال سبحانه :
( ولكن ذكرى لعلهم يتقون ).
هذا النص الكريم يبين ما على النبي والمتقين من بعد إلا التذكير الثابت الدائم المستمر وفي أوقات يرجى فيها الإنصات والالتفات والعناية بما يلقى عليهم وذلك التذكير لرجاء أن يكونوا في حال من يتوقع إيمانهم والتذكير بذاته موجب للإيمان إذا زالت الموانع واشد الموانع أن يسبق الجحود وأن تغلف القلوب فالرجاء في قوله تعالى :( ( لعلهم يتقون ) ليس من الله تعالى ولكن تصوير حالهم إذا استقامت قلوبهم وخلصت من الشر والجحود نفوسهم وهو أنه يرجى إيمانهم ولكنهم أحلوا محل الرجاء الجحود والإصرار على الكفر والعناد وقانا الله شر ذلك وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ٧٠ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ٧١ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٧٢ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ٧٣ )
بين الله سبحانه وتعالى قدرته القاهرة وأنه الملجأ في الكرب، ومع ذلك كانوا يخوضون ويعبثون والله يامر نبيه بأن يعرض عنهم ولكنهم يستمرون في استهزائهم بالمتقين إذ كانوا ضعفاء فيسخرون منهم، وبذلك اتخذوا دينهم الذي كان يجب عليهم أن يعتنقوه لعبا، وذلك من غرورهم بالحياة وظنهم أن الحياة الدنيا هي الباقية أو لا حياة بعدها ولذا قال تعالى بعد أن أمر نبيه بالإعراض عن مجالسهم قال آمرا له :
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ).
( ذر ) بمعنى اترك، وقال علماء النحو : إن ( ذر ) و ( دع ) لا ماضي لهما ولكن لهما مضارع وأمر ولكن وجدنا في أساس البلاغة للزمخشري أن ماضيها حتى يستعمل فقد جاء فيه إذا قيل للقوم : ذروا هذا قالوا : وذرناه.
والمعنى أعرض عن الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا والدين المضاف إليهم هو عبادة الأوثان التي عبدوها كأنهم اتخذوها لعبا ولهوا، واللعب هو الفعل الذي ليس مقصد يقره أهل العقل، واللهو ما يتلهى به، ويشغل به عن الأمر الجاد المنتج المثمر، الذي يكون له غرض مقصود مطلوب فهؤلاء في اتخاذهم الأوثان التي يصنعونها ولا تنفع ولا تضر آلهة تعبد كأنهم يلعبون إذ يعملون عملا لا يقره أهل العقل والإدراك ويلهون لأنه عبث يعبثون به، ولا غاية له عند أهل الفكر والمنطق ولا على أن يفسر الدين بما هم عليه من عبادة الأوثان.
ويرد على ذلك التفسير أن هذا ليس جديرا بأن يسمى ولو كان مضافا إليهم.
ورأى بعض المفسرين أن المراد من دينهم الإسلام لأنه الدين الذي جاء إليهم وهم مخاطبون به ومكلفون ان يتبعوه، فهو دينهم الذي جاء به رسول منهم وهو الذي ارتضاه لهم أن يكون دينا، وقد اتخذوا ذلك الدين لعبا ولهوا إذ لم يفهموا ما هم عليه ومعنى اتخاذه لعبا ولهوا أنهم سخروا بمن اتبعه وتهكموا على أهلهن وأخذوا يخوضون فيه لعبا في مجالسهم ولهوا عن الحق، يزكى ذلك قوله تعالى :( واذا رايت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره... ٦٨ ) ( الأنعام ) وقال تعالى :( وقد نزل عليكم في الكتاب إن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ١٤٠ )( النساء ).
وإن هذا اللعب وذلك اللهو وتعابثهم بالمؤمنين سببه هو غرورهم بالحياة الدنيا وفهمهم لها أنها غاية الوجود ونهايته، ولذلك قال تعالى عاطفا على قوله تعالى :( اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا ) أي خدعتهم هذه الحياة وما اتخذوه فيها من مباهج غير ملتفتين للحياة الآخرة، ولا مؤمنين بها، ولا بالبعث والنشور ( وما الحياة الدنيا الا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون٣٢ ) ( الأنعام ).
خدعوا بالحياة الدنيا فكان منهم ما كان من العبث بالحقائق الدينية والسخرية بأهلها ولذا امر الله تعالى نبيه وإن ذلك فيه معنى التهديد لهم بأن يتركهم في غيهم حتى يفاجئوا بمآلهم ولكن مع ذلك أمر الله تعالى نبيه رحمة بهم أن يذكرهم دائما رحمة لمن يهتدي ويطلب الحق ويشغل به نفسه فقال تعالى :
( وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ).
الضمير في ( به ) قال أكثر المفسرين : أنه يعود على القرآن والقرآن في حضور كل ذهن فكأنه مذكور يعود الضمير عليه، وأميل إلى أن الضمير الذي يعود إلى الدين الذي هم مكلفون أن يأخذوا به ويتبعوا هديه وإن الله تعالى مع امر نبيه أن يتركهم فلا يلتفت على هزلهم وعبثهم واستهزائهم بالمؤمنين أمره بأن يستمر في تذكيرهم بالدين تبليغا لرسالته التي أنزلت عليه ولا يأخذونه الأذى الذي ينزلونه به وبمن معه، فذلك هو ما يصيب دعاة الحق، ولكن يجب مع الإعراض عن لعبهم ولهوهم أن يستمر في دعوته ومثله معهم كمثل المربي الكامل الذي لا يهمه عبث تلاميذه يعرض عنه، ولكن يستمر في هدايته لهم.
وذكر بالدين كراهة أن تبسل نفس بما كسبت والابتسال : معناه في اللغة الإسلام إلى الهلاك، وأن تؤخذ بسوء ما اختارت.
والمعنى الجلي لا تشغل نفسك بلهوهم وعبثهم ولا يمنعك ذلك من أن تستمر في تذكيرهم حتى لا يسلموا إلى الهلاك ويمنعوا من الخير ويكون نصيبهم جهنم وبئس المصير، وإنك منذر ولكل قوم هاد.
وانه في هذه الحال لا منجاة لهم منها، فلا ينقذهم منها ولى يناصرهم ولا شفيع يشفع لهم اذ هي الهلاك الدائم والعذاب المستمر ولذا قال تعالى :( لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ) وإذا أسلموا إلى الهلاك في جهنم لا يكون لهم من غير الله ولي يناصرهم أو يواليهم بمقتضى القرابة أو العصبة التي كانوا يتنادون بها، أو شفيع يشفع ويترضى عنهم وإن يقدموا ما يستطيعون من فداء لا يقبل منهم فلا ولاية ولا شفاعة ولا فدية من عذاب أليم، فالعدل هو الفداء الذي يعادل ما ارتكبوا ويخرجون به من النار والعذاب ومعنى –( وإن تعدل ) وإن تقدم فداء يكون عدلا لا يؤخذ منهم.
وقوله تعالى :( من دون الله ) أي من غيره والتعبير بقوله ( من دون ) اشارة على أنه مهما يكن في نظرهم فهو دون الله، والله هو العلي المسيطر على كل شيء.
وقد بين ذلك هذا العقاب الذي لا مناص منه، ولا منجاة ولا خلاص، فقال تعالت قدرته :( أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ).
والإشارة إلى الذين يخوضون في آيات الله تعالى الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وكانوا يسخرون من الذين آمنوا وهم يذكرون بالدين الذي بعث به رسوله إليهم وقد كانوا بفعلهم هذا ( أبسلوا ) أي اسلموا أنفسهم للهلاك والبوار وأتوا إلى النار ذلك بما كسبوا من عبث وعتو، واستهانة، وعبر سبحانه بقوله :( بما كسبوا ) للإشارة على أنهم قد فعلوا ذلك يريدون الكسب فكان ذلك العذاب فهم اشتروا العذاب والضلالة بالهدى وهذا العذاب شديد يحيط بكل أجسامهم النار في بطونهم وفي جلودهم لهم شراب من حميم أي ماء يغلى يدخل بطونهم فيمزق أمعاءهم وهو نار في جوفهم ونار تكوى جلودهم (... كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب... ٥٦ ) ( النساء ). ولهم بذلك عذاب أليم وذلك العذاب بما كانوا يكفرون أي بسبب كفرهم المستمر الذي كان يتجدد فكانوا يحدثون كل وقت من مظاهر ما أوجب استحقاقهم لهذا الألم فمرة يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، ومرة يؤذون المستضعفين من المؤمنين ومرة يقطعون عنهم الميرة١ ويقاطعونهم وأهلهم، ومرة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأخرى يخوضون في آيات اله تعالى ويتخذون الدين الذي بعث به رسول منهم لعبا ولهوا، فهو كفر مستمر متعدد الوجوه أساسه الجحود، والآيات قائمة.
وإن ذلك كله الأصل فيه ضلال استهواهم وهو عبادة أحجار لا تضر ولا تنفع قد صنعوها بأيديهم ثم عبدوها بقلوبهم ولذا قال الله تعالى :
١ الميرة: بالكسر جلب الطعام القاموس المحيط (مير).
( قل أندعوهم من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ).
الله سبحانه وتعالى يامر نبيه بان يقول مصورا ضلالهم وفساد تفكيرهم في أن يعود محمد وأصحابه إلى عقيدتهم فيقول :( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ).
ذلك أن قريشا بذلوا ما بذلوا في سبيل حمل محمد صلى الله عليه وسلم على أن يرجع عن دعوته، عرضوا عليه المال، وعرضوا عليه الإمرة عليهم وعرضوا عليه كل من يظنون أنه يرغب في العود إليهم كما يتصورون، ليرتاحوا في ذات أنفسهم حاسبين أن ما يدعوهم إليه يضرهم في عصبيتهم وجاهليتهم وأنه يمنعهم مما كان عليه آباؤهم.
فالله أمر نبيه أن يستنكر ما يدعونه إليه، ويبين في استنكاره بطلان ما يعتقدون وأنه انحدار في الإنسانية وذلك من الجدل الحكيم، والدعوة إلى الإسلام في رفق وتواضع فيقول :( أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ) أي لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا يملك من أمره شيئا ولا يملك موتا ولا حياة وإن هذا إهمال لحكم العقل، نترك عبادة ما يضر وينفع، وهو مالك كل شيء وهو القاهر فوق عباده، وهو الذي نلجأ إليه في شدائد البحر والبر، كيف نترك عبادته على ما تدعونا إليه من أوثان لا تنفع ولا تضر، وإن الله تعالى قد هدانا إليه سبحانه وإن ما تدعوننا إليه نكسة بعد تقدم، ورجعة بعد الهداية ولذلك قال تعالى فيما أمر به نبيه :( ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ) أي أنرد إلى الضلال بعد الهدى وإلى الباطل بعد الحق والى الظلمات بعد النور وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله وأن نرد على أعقابنا. العقب ما وراء القدم، أي أنرجع مدبرين على أعقابنا منكسين بعد أن أبان الله الحق واهتدينا بهديه وامتلأت قلوبنا بوحدانيته في العبادة فلا نعبد سواه.
وقوله تعالى :( أندعو من دون الله ما لا تيفعنا ولا يضرنا ) وقد فسر الزمخشري ( ندعو ) بنعبد وهو حسن ويصح أن نفسر ( ندعو ) بكل ادعاء بالعبادة وبالاستغاثة في النصر وغير ذلك مما يدعون به أصنامهم. وقدم نفى النفع على نفى الضرر لان نفىالنفع أجلب للترك إذ ان من يدعو إنما يدعو لنفعه لا للضرر ولذا قدم عليه.
والاستفهام هذا إنكاري بمعنى النفى أي لا ندعو ما لا ينفعنا ولا يضرنا وهو نفى فيه معنى التوبيخ لمن يدعو ما لا ينفعه ولا يضره.
وقد صور الله تعالى حالهم في دعوتهم الى الباطل من اهتدى ومن تنزل عليه أسباب الهداية كحال الشياطين التي تستهوي الضال بدعوتهم إلى ما هداية فيه بجوار أن له أصحابا يدعونه إلى الطريق اللاحب١ والسير فيما فيه النجاة فقال تعالى :( كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ).
استهواه أي طلب هواه واستولى عليه يوجهه كيف شاء كالذين يصنعون ذلك بالنوم والاستيلاء على الحس، والشياطين هم الذين يضلون ومن ذلك الأوهام التي تعترى من يسير في صحراء قفراء يتلمس المرشد في مهامه الأرض٢ فيسمعه الوهم نداء يسير به في طريق الضلال وسماهم الله تعالى شياطين تستهوي الأنفس فيسيرون وراء هذه الأوهام والضلال كما قال المفسرون وفي الوقت نفسه له أصحاب يدعونه إلى الطريق المستقيم، وهو حيران متردد بين دعوة الأوهام والدعوة الحق، فهو تشبيه حال المؤمن الذي يرى الأوهام ويرى الهادي.
وهذا تصوير من الله تعالى لحال من يترك الحق إلى أوهام ويكون حيران أي مترددا بين الضلال والهدى وبين النور والظلمة.
وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم بعد هذا التشبيه البين المبين :( قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) أي إن هدى الله تعالى هو وحده الهدى أي لا هدى غيره، وقد بين سبحانه أن الهدى هو حق الله وحده، بالعبارة الدالة على القصر وهي تعريف الطرفين وضمير الفصل الذي يدل على أنه لا هداية غير هداية الله، ومن عدم هذه الهداية فهو في ضلال مبين.
ولقد قال تعالى فيما ترتب على أن الهداية من الله وحده :( وأمرنا لرب العالمين ) أي أمرنا من الله تعالى الهادي إلى سواء السبيل بألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا وأن نكفر بالجبت والطاغوت وأن نطيع الله تعالى الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث وأن نكون ربانيين وذلك لنسلم اللام لام العاقبة أو لام كي للتعليل ونسلم أي نخلص ونكون لله تعالى حده، وقد أسلمنا وجهنا لله مخلصين له سبحانه.
وهنا كان البناء للمجهول لأن الآمر معلوم وهو في صدورنا وأطواء نفوسنا ولم تذكر المأمورات ولكن ذكرت نهايتها وغايتها، وهو أن نسلم لرب العالمين الذي خلقنا وربانا ويقوم على عامة أمورنا وخاصيها وهو الحي القيوم.
ويلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه أن يقول أندعو ما لا ينفعنا ولا يضرنا وكل ما كان من بعده بصيغة المتكلم ومعه غيره وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره ربه، كان يتكلم ومعه المؤمنون المخلصون الذين لاقوا الشدائد في مكة حتى هاجر منهم إلى الحبشة من هاجر وقد آذاهم المشركون يريدون ردهم على أعقابهم بعد إذ هداهم الله.
فالله تعالى أمر نبيه بأن يقول هذا القول عنه وعنهم ليلقى اليأس في قلوب المشركين من أن يعود أحد إلى الشرك بعد الوحدانية وإلى الكفر بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان.
وقد قال من بعد أن ذكرنا ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين :( وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ).
١ لحب: اللحب: الطريق الواضح واللاحب مثله ويقال أيضا: لحب، إذا مر مرا مستقيما الصحاح للجوهري (لحب).
٢ المهمه: المفازة البعيدة الأطراف والجمع المهامه الصحاح للجوهري..
حكى النبي صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى بالصيغة التي أمره الله تعالى بها فقال :( وأن أقيموا الصلاة ) وهذا عطف على معنى ( لنسلم ) أي أمرنا سبحانه بأن نسلم لله رب العالمين وأمرنا أن نقيم الصلاة وكان الأمر بإقامة الصلاة بصيغة قول الله تعالى، لا قول النبي صلى الله عليه وسلم لمكانة الصلاة في الدين فإنه لا دين من غير صلاة فهي عموده وهي لبه وهي مظهره ودلالته والوحدانية أظهر ما تكون في الصلاة فهي عبادة الله وحده لا يشرك به شيئا فيها، إلا أن يرائي فهذه ليست صلاة.
وطلب الله تعالى من المؤمن إقامة الصلاة بأن ياتى بها مقومة كاملة في أركانها الظاهرة ومعانيها من خشوع وخضوع يتحقق فيها قوله تعالى :(... إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر... ٤٥ ) ( العنكبوت ).
وأورد سبحانه وتعالى إقامة الصلاة بالأمر بالتقوى فقال تعالى :( واتقوه ) أي اجعلوا بينكم وبين الله تعالى وقاية بينكم وبين غضبه بإطاعته حق الطاعة فيما يأمر وينهى وأن يملأ نفسه بتقواه دائما فيذكره في سره وعلانيته ويملأ قلبه بخشيته ويحس بأنه يراه دائما ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور يحس بأنه مع الله دائما، وبذلك يتربى فيه معنى الربوبية.
وذكر تعالى ما يربى التقوى في النفس فقال :( وهو الذي اليه تحشرون ) أي و آمنوا بأنكم إليه تحشرون وهذا التعبير السامي يتضمن ثلاث حقائق يجب الإيمان بها :
الحقيقة الأولى : البعث وأن الناس يجتمعون بين يديه سبحانه وتعالى : وأن الإيمان بالبعث هو سر الإيمان وهو علو بالنفس الإنسانية إلى المرتبة السامية فلا يكون آكلا شاربا فقط يقول :( إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ) ( المؤمنون ) بل يعلو بإنسانيته يفعل الخير ويرجو الجزاء.
الحقيقة الثانية : أن الملك لله وحده وأنه في هذا اليوم هو الحكم وحده، فهو مالك يوم الدين وقد دل النص السامي على ذلك بقوله :( إليه تحشرون ) بتقديم ( إليه ) على الفعل أي إليه وحده تحشرون فالمصير إليه سبحانه.
الحقيقة الثالثة : الحساب والعقاب والثواب فهو نهاية الحشر فتجزى كل نفس ما كسبت.
وقد ذكر سبحانه ما يدل على البعث والنشور بكمال قدرته فقال تعالت كلماته :( وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ) أي خلق سبحانه وتعالى السموات والأرض وما فيهما بالأمر الثابت وهو الحق، أي خلقه قائما على الحق والحكمة وأنه قدر وجود هذا الكون بحكمته، وما خلقه ليفنى وينتهي بل خلقه ليبقى ويستمر وهذا كقوله تعالى :( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ١١٥ ) ( المؤمنون ) بل إنكم راجعون وستبقون إما في نعيم مقيم وإما في عذاب خالد وقال القرطبي : معنى الحق أي بالكلمة الحق، وهي كن وما ذكرناه أوضح.
ثم بين سبحانه وتعالى أن بعثهم ليس شيئا عسيرا ولا بعيدا ولا غريبا بل إن البعث يكون بكلمة هي الحق فقال تعالى :( ويوم يقول كن فيكون ) أي هذا القول الثابت الذي هو حق في ذاته وهو كن فيكون أي أنه بقوله تعالى : كن فإنه يكون كل شيء قد حضر فيجمع ما بعث من القبور ويخرج الناس أشتاتا، مهما يكونوا وأينما يكونوا كما قال تعالى :( قل كونوا حجارة أو حديدا ٥٠ أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ٥١ يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ٥٢ ) ( الإسراء ) فيوم يقول كن فيكون يكون البعث الكامل.
وقد قال سبحانه وتعالى إن قوله هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وإنه آت لا محالة ولذا قال :( قوله الحق ) وهو مبتدأ خبره ( يوم ينفخ في الصور ) أي الظرف الذي تعلق بالخبر، ووصف سبحانه وتعالى ذلك بالحق لما أحاطه من إنكار وجحود واستغراب وعجب كما قال تعالى :( وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد... ٥ ) ( الرعد ) وأن الله تعالى يذكر حال ذلك اليوم الذي يقول سبحانه وتعالى قوله الحق ( كن فيكون ) يكون الملك الثابت الدائم الذي لا يشاركه فيه أحد ولذا قال تعالى :( وله ا لملك يوم ينفخ في الصور ) والصور كما يقول القرطبي قرن من نور ينفخ فيه بقدرة الله تعالى فيكون الجمع مما بعث في القبور من بعده الحساب والعقاب أو الثواب كما قال تعالى :( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ١٠١ ) ( المؤمنون ).
وقد وصف الله تعالى ذاته الكريمة بما يدل على أنه يعلم كل ما يفعله الذين يبعثون فقال تعالى :( عالم الغيب والشهادة ) أي يعلم ما غيب وما يشهد ويحضر أي يعلم ما تسرون وما تعلنون ويكافئ الناس على ما عملوا إن خيرا فخير وإن شرا فشر وكال امرئ بما كسب رهين.
وإن ذلك كله على مقتضى حكمته وعلمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولذا ختم سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله تعالى :( وهو الحكيم الخبير ).
ايمان ابراهبم بعد تفكير وتاملاته في الكون
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ٧٤ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ٧٥فَلَمَّا جن عليه اليل رءاكوكبا قال هذا ربي فلما افل قال لااحب الافلين٧٦فلما رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ٧٧ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ٧٨ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٧٩ )
كان الكلام في الآيات السابقات في الأصنام وأنها لا تنفع ولا تضر، وإنها لا تملك من أمر نفسها شيئا حتى تملك من أمر غيرها ممن يدعونها واقعين تحت أوهام تضافرت وتكاثرت عليها السنون حتى صارت كأنها حقائق في زعمهم وقد ذكر الله سبحانه وتعالى كيف أنكرها ابو العرب الذي يعتزون بنسبهم اليه، وأنه عدها ضلالا مبينا وخاطب بذلك اباه مستنكرا ورؤية الحقائق بارزة من لسان شخص يكون أشد أثرا وأنقى فكرا وابعث على الاعتبار.
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ).
( إذ ) ظرف للزمان والمعنى اذكر لهم ما كان في الماضي من موقف أبيهم إبراهيم -عليه السلام- من الأصنام اذ قال لابيه الذي كان يحبه ويؤثره مستنكرا ما كان منه من عبادة : أتتخذ أصناما آلهة ؟ وهو استفهام إنكاري للتوبيخ ولم يمنعه مقام الأب من أن يوبخه على عظيم ما يرتكب مستنكرا فعله : أتتخذ أصناما مصنوعة صنعتها أنت وأمثالك أتتخذها آلهة تعبد أي أتتخذ صناعتك آلهة معبودة إن ذلك ضلالا مبينا تصنعه الأوهام في العقول حتى تجعل غير المعقول اعتقادا ولذا قال لأبيه الذي كان يحبه :( اني أراك وقومك ) إني أراك مع قومك ( في ضلال مبين ) أي بين واضح والتعبير باسم الفاعل ( مبين ) للمبالغة في وضوح الضلال أي الضلال مبين لنفسه موضح لها، إذ كيف تصنع بيديك حجرا ثم تعبده، هذا إجمال كلامه لأبيه، ولقد فصل الله سبحانه وتعالى مقالته لأبيه في آية أخرى، فقال تعالى حكاية للمجاوبة التي كانت بينهما :( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ٤٢يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ٤٣يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ٤٤يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ٤٥قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ٤٦قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ٤٧وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا ٤٨ ) مريم ).
اعتزل قومه وأباه وكان في بلد يعبد أهله النجوم ولهم علم بها فانصرف إلى تعرف حال النجوم التي يقدسونها ويجاريهم في تقديسها حتى تبين له ولهم أنها غير جديرة بالتقديس والربوبية لأنها متغيرة وتأفل وتختفي ثم تظهر، وذلك ليس شأن الإله الخالق المنشئ المبدع.
قال تعالى :( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) كهذا الإلهام الذي ألهمه إبراهيم صغيرا من إنكاره الأصنام نرى إبراهيم سر الوجود نريه ( ملكوت ). أي ملك، وزيدت من إنكاره الواو والتاء للمبالغة في ملك الله تعالى، وأنسب أنها للمبالغة في سر الملك وهو دلالته على الخالق المنشئ ليعلم ويعرف، ويحكم بالحق وقال تعالى :( وليكون من الموقنين ) الواو للعطف على فعل مفهوم من مضمون الكلام السابق، إذ تقدير القول نرى إبراهيم سر الملك السماوات والأرض وما يدل عليه ليعرف الله تعالى وليكون من الموقنين الذين يعرفون الحق، ويجزمون به من دليله ومن المعاينة التي تكشف عما غيب، لتعرف الغيب من مظاهر الحس.
قد أخذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو بعد لم يبلغ أشده كما تدل على ذلك الأخبار الصحاح يتعرف الا له على ما يجري عليه علمهم وما يقدسون لقد كانوا يقدسون الكواكب أو يعبدونها ويسمون أصنامهم بأسمائها، أخذ يتتبع النجوم والكواكب، يتعرف خواصها في ظهورها وخفائها، وذلك في الليل لأنه وقت ظهورها إذ ضوء الشمس يخفيها،
( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ) مسايرة لهم في تفكيرهم واعتقادهم أي على حسب ما تدعون وما تعبدون، ( فلما أفل ) واختفى وجده، قد تغير من حال ظهور إلى حال اختفاء وليس ذلك شان الرب القائم على كل شيء ولذا أثبت لهم لأول وهلة أن هذا لا يمكن أن يكون رباو قال مبينا بغض هذه الحال، وأنه لا يعبد ما يكون على هذه الشاكلة ( قال لا أحب الآفلين ) وإذا كنت لا أحبها فإني لا أعبدها، لأن العبادة محبة، وإذا فقدت المحبة فلا عبادة.
واتجه إلى كوكب آخر وهو القمر، فقال الله تعالى عنه :( فلما رأى القمر بازغا ) أي باديا في أوله ( قال ) مسايرا لهم ومتجها في الظاهر اتجاههم أو ظانا :( هذا ربي فلما أفل ) تبين أنه لا يصلح إلها وأراهم رأى العين أنه لا يصلح الها ( قال لئن لم يهديني ربي لأكونن من القوم الضالين ).
ولقد قال المفسرون أو الكثير منهم : إنه ما قال واحدة هذا ربي مؤمنا بذلك أو ظنا له، وإنما قاله مسايرة لهم في اتجاههم ليبين من وراء ذلك بطلان ما يعتقدون على أساس أن تساير مجادلك فيما يعتقد، ثم تبين نتيجة قوله، وأنه ينتهي على غير الحق فتأخذه إلى الحق برضا واختيار أو بقطع وإفحام.
وقال بعض آخر من المفسرين : إنه يتلمس الإله الذي يعبد بحق، بفطرته المستقيمة المدركة التي أدرك بها أنه لا يمكن أن يكون ما يجري عليه الأفول إلها، فهو عندما قال : هذا ربي على النجم وقد كان يظنه ربا، فلما أفل عدل عن وصفه بالربوبية.
وهذا ما نراه لأنه يتفق بعد ذلك مع قوله عندما رأى بزوغ القمر وأفوله إنه علم أنه ضال إن اعتمد على تفكيره من غير أن تلمسه نعمة الهداية من الله الذي علم مظاهر ألوهيته وتلمسها فيما يعتقد قوم أبيه في الكواكب والنجوم والشمس والقمر وقال :( لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) اقسم انه أصبح في حاجة إلى هداية من ربه يهتدي بها إلى هذا الديجور، فاللام لام القسم، واللام الأخيرة في جوابه، وأكد أنه يكون من الضالين الذين لا سبيل عندهم إلى الهداية على الحق في الألوهية إن لم يهده ربه الذي لا يعرفه ويريد أن يعرفه.
وإن هذا الكلام يدل على أنه يعلم أنه له ربا هو الذي أنشأه ورباه، ويقوم على حفظه وصيانته، ولكن ما هو ؟ لقد تلمسه في كوكب ساطع من الكواكب في دجنة الليل البهيم كاهل بلده، فلم يجده، وتلمسه في القمر فلم يجده، فاتجه طالبا الهداية إليه، وإن كان لم يعرفه في النجوم.
ثم عاوده طلب المعرفة في الشمس الساطعة التي هي ضياء الوجود وتمده بالدفء والحرارة
( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) تتبع الكواكب متدرجا إلى القمر ثم تدرج على الشمس التي تمد الوجود كله بالنور في النهار، و الدفء في الليل والنهار، وتمد الأحياء من حيوان ونبات وأشجار بعناصر الحياة اتجه إليها، فلم يجد فيها معنى الإله الذي لا يتغير ولا يتبدل، ولذا رفض شرك أولئك الذين يعبدون الكواكب ويظنونها قادرة على كل شيء، وابتدأ من أصغرها إلى أكبرها وقال عليه السلام :( إني بريء مما تشركون ) لا أعبده ولا أشركه مع القادر سبحانه.
انتهت نظرات إبراهيم الناشئ، وسياق المؤرخين يدل على أنه في ذلك الإبان كان ناشئا ولم يكن قد بلغ أشده اتجه إلى رفض عبادة النجوم، والأصنام التي تسمت بأسمائها واتجه إلى خالق الكون وما فيه، ومن فيه، وإنه قد آمن بان له موجدا لا محالة، وبطل أن يكون كوكبا أو نجما، أو قمرا أو شمسا فلم يبق الا أن يكون موجودا واجب الوجود وليس واحدا مما رأى.
ولذا اتجه إليه وحده، لا على أنه قد عرف ذاته، ولكن عرف وجوده وكفاه، ذلك معرفة ؛ولذا قال الله تعالى عنه :
( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) اني وجهت نفسي، وعبر عن ذلك بوجهه لأن الوجه هو الذي يواجه به ويتجه به إلى ما يتجه، ولأنه مظهر الخضوع والطاعة وبه يكون السجود فكان الوجه له مظهر يجعله صالحا لأن يعبر به عن الجسم كله.
اتجه إلى الخالق لأنه عرفه مما خلق، والأثر يدل على المؤثر و ( فطر ) معناها أنشأه وأوجده على غير مثال سبق، وهذا يدل على أن الفطرة السليمة تدرك بذاتها من فطرها ولذا قال تعالى في دين الحق :(... فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ٣٠ ) ( الروم ).
وان بعض العلماء كالظاهرية يرون أن إدراك الله تعالى بدهي يدرك بالبداهة لا بالبرهان ذلك أن إبراهيم عليه السلام أدرك الله تعالى بفطرته بعد أن أبعد عنها ضلال الوثنية ولأن أوهام الوثنية غشاء صفيق يحول بين الفطرة وإدراكها السليم.
وقد صنع الشباب إبراهيم- عليه السلام- صنيع المدرك الفاهم، فأخذ يزيل هذه الأوهام بعقله الصافي النافذ إلى الحقائق أزالها عن نفسه وأزالها عن غيره ولكن آمن وغيره لم يزلها من عقله الذي لصقت به، فلما زالت الأوهام اتجه فورها الى ربه الذي أنشا هذا الوجود واستدل من هذا الوجود الممكن إلى وجود الله تعالى الكامل الأول والآخر والظاهر والباطن والقادر على كل شيء سبحانه.
وقد وصف نبي الله إبراهيم بقوله :( حنيفا ) أي متجها ناحية الحق وحده دون غيره فهو الحق وإن لم أره وهو الكمال وإن لم أحسه بالجارحة فقد أدركته بعقلي وقلبي وهو ملء نفسي.
وقد ختم بقوله :( وما أنا من المشركين ) نفى أن يكون من المشركين، فذكر ضمير المتكلم في موضع النفى وقد نفى أن يكون في عداد المشركين الذين أشركوا النجوم مع الله أو الأصنام التي تسمت بأسمائها، وبذلك انخلع من الشرك وأهله وصار حجة للمؤمنين على الكافرين.
بين العقل والاوهام
انتهى إبراهيم بعد أن تعرف الكواكب وأحوالها، وان واحدا منها لا يمكن أن يكون الذي يعبد وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر واتجه الى خالق الكون، واعتزل الشرك، وقال :( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله... ٤٨ ) ( مريم ) وبعد هذا أخذوا يحاجونه في أمر أصنامهم وقوتها وهددوه بأنه سيصيبه منها ضرر وهو يقول لهم : إن كانت تكيد وتضر، فكيدوني ولا تنظروني.
والمحاجة التي أقاموها بينهم وبينه كانت محاجة بين اثنتين احدهما اعتمد على الهداية والعقل، والثاني اعتمد على الخرافة والوهم ولقد قال تعالى :
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ ) والمحاجة تكون مناظرة، ويقدم كل واحد من المتناظرين حجته ويدلى ببرهانه، وقد عجب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أن يحاجوه في الله تعالى منكرين له، قال :( أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ ) والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع وإنكار الواقع توبيخ فهو يوبخهم ويؤيسهم من نتيجة المحاجة فيقول :( وقد هدان ) أي أنه لا مطمع لكم في أن أعود إلى عبادة الأصنام وقد هداني الله تعالى ووفقني لأن أدرك أنه وحده المعبود بحق، ولا معبود سواه.
وتدل الآية الكريمة على أن أوهامهم زينت لهم أن أصنامهم قادرة على إنزال الأذى فخوفوه من الأذى وقد ذكر سبحانه وتعالى محاجتهم لإبراهيم عليه السلام في مواضع من كتابه العزيز فقد قال تعالى :( قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ٥٥ قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ٥٦ ) ( الأنبياء ).
وجاء في محاجتهم :( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ٦٩ ا ِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ٧٠قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ٧١قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ٧٢أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ٧٣قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ٧٤قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ٧٥أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ٧٦فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ٧٧الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ٧٨وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ٧٩وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ٨٠وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ٨١وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ٨٢ ) ( الشعراء ).
هذه عبارات من المحاجة التي اثبت بها أنه سبحانه وتعالى هداه ولا يصح أن يتوهموا أنه يعود إليهم أن هداه الله وقد هددوه بأن تصيبه آلهتهم بأذى رجاء أن يخاف ويسكت عن أصنامهم وفحطمها، وجعلها جذاذا غلا كبيرها، ولكنه قد اعتصم بالله تعالى وهو يرى أنها لا تضر ولا تنفع وهكذا نجد العقل والهدى في صدام مع الوهم والضلال ولذا قال لهم في إدراك عقلي مستقيم :( ولا أخاف ما تشركون به ) أي أنني لم يستول على الوهم كاستيلائه عليكم، فأخاف مما تشركون عبادته مع الله تعالى، فانا أعلم أنها لا تضر ولا تنفع، وهي أحجار صماء، تنقل من مكان إلى مكان فكيف أخاف منها، كيف أخاف من حجر لا يسمع ولا يبصر تصنعونها بأيديكم وتعبدونها بأوهامكم.
وقد كان إبراهيم حريصا في إجابته ويخشى أن يصيبه قدر، فيتوهمون أن ذلك من سر آلهتهم فقطع عليه السلام أسباب ذلك، وقال مطمئنا إلى قضاء الله تعالى :( إلا ان يشاء ربي شيئا ) هذا استثناء يدل على أمرين :
أولهما : تفويضه لله تعالى في كل أموره، وأنه راض بما يقدره الله تعالى له، ويتقبل ما يأتي به وأنه وحده الذي يفعل ما يشاء.
ثانيهما : الرد عليهم في أن أصنامهم تستطيع أن تفعل شيئا، انما الأمر كله لله وحده هو الذي يصيب بالضرر إن شاء وهو الذي ينزل الخير من سحائب رضوانه إن شاء.
وأنه قادر على ذلك، وهو القادر وحده، وهو العليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكل شيء على مقتضى علمه بما كان وما سيكون ولذا قال تعالى :( وسع ربي كل شيء علما ) وهو تمييز محول ومعناه : وسع علم ربي كل شيء، وفي تأخير التمييز إيهام مؤقت للتشويق وبذلك يثبت في النفوس علم الله تعالى فضل ثبوت.
وذكر لله تعالى بوصف ( ربي ) للدلالة على أنه يستشعر معنى الربوبية دائما فهو الذي رباه، وهو الذي يحميه ويحفظه من كل ضر وسوء الا أن يكون من حكمة أرادها وهو العليم الخبير.
ثم قال تعالى ( أفلا تتذكرون ) الهمزة للاستفهام والفاء للإفصاح، والمعنى إذا كان الأمر كله بيد الله تعالى وأن أحجاركم لا تنفع ولا تضر أفلا تتذكرون الأمور وتعرفونها على وجهها، والاستفهام هنا للتحريض على التذكر، ولقد كان حالهم مع إبراهيم كحال قوم هود مع نبيهم فقالوا لهم :( قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ٥٣إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ٥٤مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ٥٥إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا... ٥٦ ) ( هود ).
إن حال هؤلاء الذين ساروا وراء الأوهام عجب، يخوفون نبي الله تعالى من أن يصيبه سوء من أحجارهم التي لا تضر ولا تنفع كما هو مشاهد بالحس ومدرك العقل ومع ذلك لا يخافون أن ينزل بهم مقت من الله تعالى الذي يملك الوجود كله، آلهتهم وغيرها.
ولذا قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام :( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ).
الاستفهام هنا للتعجب من المفارقة التي كانت منهم، وهي مفارقة عجيبة يخوفون ابراهيم من أن تصيبه آلهتهم بسوء ومع ذلك يخافون هم من إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا، والعجب من ناحيتين :
أولاهما : أن أصنامهم لا تملك نفعا ولا ضرا، والله تعالى يملك كل شيء يملك النفع والضر، والإنقاذ من أسباب الضرر.
وثانيتهما : أنهم يخوفون إبراهيم عليه السلام ولا سبب للتخويف ولا يخافون وقد توافر سبب الخوف، وقوله تعالى :( ما لم ينزل به عليكم سلطانا ) قالوا : السلطان هو الحجة وقد ورد السلطان بمعنى الحجة في آيات من القرآن الكريم قال تعالى :( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان... ٢٣ ) ( النجم ).
و ( ما ) دالة على الأصنام التي صنعوها، و ( من سلطان ) لاستغراق النفي، أي ما لم ينزل به سلطانا أي سلطان كان، والتعبير عن الحجة هنا بالسلطان إشارة أولا الى أنه لا دليل يسوغ عبادتها وثانيا : أنها لا قوة لها، ولا سلطان لها، حتى تصيب بسوء أو بنعمة إنما هي أوهامكم التي جعلت لها تلك الصفة.
وقد رتب الله تعالى على هذه الحال أن قال تعالى :( فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ) الفاء هنا فاء الإفصاح الذي يفصح عن هذا الشرط المقدر أي إذا كنتم تلجئون إلى من يضر ولا ينفع، وتحسبون أنه يمس من لا يعتقد به، وإبراهيم يلجأ إلى الله تعالى الذي يملك كل شيء فأي الفريقين أحق بان يكون في أمن لا خوف أهو الذي يلجأ إلى الله القادر على كل شيء أم الذي يلجأ في عبادته إلى أصنام لا تضر ولا تنفع ؟ وعلق سبحانه وتعالى الحكم على العلم، لأنه لا حكم من غير علم ولذا قال سبحانه وتعالى :( إن كنتم تعلمون ) اي إن كنتم تدركون الأمور على وجهها ولا تسيطر عليكم الأوهام التي تضل ولا تهدي وقال في أداة التعليق التي تفيد الشك في العلم لا اليقين فيه، وإنه لا ريب الحكم واضح بين، وهم الذين يعبدون الله وحده ولا يلجئون إلا إليه في خوفهم.
ولذا قال تعالى في بيان الفريق الآمن :( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون )
( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) إذ الأمن من الخزي في الدنيا ومن عذاب الله تعالى في الآخرة يكون لفريق الإيمان وهم الذين يؤمنون بالله تعالى ولا يخلطون إيمانهم بأي ظلم ولا يعبدون مع الله غيره، ولا يقدمون أي شيء إلا بامره، و ( لبس ) هنا معناها خلط.
وقوله :( ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) هنا فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك، روى أنه لما نزلت هذه الآية ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا : اينا لم يظلم نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم : ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح لابنه :( يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم١٣ )١. وكان الشرك ظلما، لانه تجاوز الحد المعقول إذا كان الظلم تجاوز الحد، فالشرك أشد الأمور تجاوزا للحد، وقد فسر الزمخشري الظلم بالمعصية سيرا على مذهب من أن مرتكب الكبيرة غير مؤمن وقد نرى تفسيره من غير أن ننتهي الى نهايته لأن العصاة وإن كانوا يدخلون في أهل القبلة ليسوا في أمن من العذاب إنما يعذبون بمقدار ذنوبهم الا أن يتغمدهم الله تعالى برحمته.
وقال بعض المفسرين : إن الظلم الذي يعد شركا ما يلبسون به إيمانهم وهو الذي يقرره عباد الأوثان من أنهم يؤمنون بأن الله خالق السموات والأرض ولكنهم يجعلون الأوثان مع الله لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى كما جاء في قوله تعالى :( ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ٣ ) ( الزمر ). وإن هذا التفسير ينتهي على أن الشرك هو الظلم ولكنه يبين لنا لماذا عبر الله تعالى بقوله :( ولو يلبسوا إيمانهم بظلم ) أي بشرك فانه يكون هذا التعبير ردا على المشركين الذين يقولون : ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى، فانهم يكونون مشركين في عبادتهم ولو كانوا معتقدين أن الله وحده هو الذي خلق السموات والأرض، وأنه وحده الذي ينجي من ظلمات البر والبحر، وأنه وحده الذي يكشف الضر، وانه وحده الذي يلجأ إليه، وإنهم مع هذا الاعتقاد مشركو أوثانهم مع الله تعالى في العبادة ومناط الشرك هو الإشراك في العبادة، وخلوص النفس في العبادة لله وحده هو الوحدانية الحق، وقد قرر الله تعالى أن الأمن لهؤلاء الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك ولذا قال تعالى :( أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) الإشارة إلى الموصوفين بالإيمان الذي لم يخالطه ظلم أو شرك، بسبب هذين الوصفين كان لهم الأمن من أن يصيبهم في الدنيا سواء وإن كان يصيبهم نصب وتعب في الحياة الدنيا، وينالون الأمن المطلق في الحياة الآخرة، والنعيم المقيم فيها، ورضوان الله تعالى، وأي أمن أعلى من هذا ؟.
ووصفهم الله تعالى بوصف فيه راحة النفس واطمئنان البال وهو نعمة الهداية فإنها وحدها نعمة لا يحس بها إلا المهتدون.
١ متفق عليه رواه البخاري: ورواه أحمد. وفي آخره زيادة: (غنما هو الشرك) مسند المكثرين مسند عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه (٣٥٧٨)..
انتهت محاجة إبراهيم لقومه الذين كانوا يعبدون الأوثان والكواكب والنجوم، وقد كانت محاجة بين حكم عقل، وحكم الأصنام وانتهت المحاجة ببيان أن الأمن والهداية في جانب الحق، ولقد قال سبحانه وتعالى إن حجة إبراهيم هي حجة العقل وهي الجديرة بأن تنسب إلى الله، ونسبها الله سبحانه وتعالى إليه. فقال تعالى :
الإشارة في قوله :( وتلك حجتنا ) هي الإشارة للبعيد، وهي تبتدئ من وقت أن جن الليل فرأى كوكبا فظنه ربه، ثم لما أفل نفر منه، وأنكر أن يكون ربا، ولما رأى القمر بازغا ظن هذا ربه فلما أفل أحس أنه ضال إذ يتبع النجوم والكواكب في أفلاكها ثم رأى الشمس فبهره ضياؤها وحجمها، فظنها ربه فلما افلت علم أن ربه ليس كوكبا ولا نجما مهما يعظم حجمه، وأن ربه هو خالق الشمس والنجوم والوجود كله ثم من بعد ذلك حاجه قومه فأفلج عليهم، الإشارة إلى كل هذا فكانت للبعيد، ولعظم الفكر وقوة الاستدلال مع البعد كانت الإشارة للبعيد وأضاف الله سبحانه وتعالى الحجة إلى ذاته العلية إعلاء لمكانتها ولصدقها وتشريفا لمن أجراها على لسانه وقلبه، وقوله تعالى :( آتيناها ) أي أعطيناها له بإلهام الفطرة السليمة والعقل الحنيف الذي لا يميل الا للحق، ولا يتجه إلا إليه وكانت هذه حجة قوية، أفلج١ بها على قومه، وقامت حجة عليهم فيما يفعلون ويتوهمون، ويزعمون ثم يعتقدون الباطل الذي ليس فيه حق، ولا شبهة حق، انما البهتان العظيم، والظلم العظيم للحقائق.
وإن الاله تعالى اختار إبراهيم ابا الأنبياء لتقوم به الحجة لأنه لم يخلق الناس في الفكر والعلم على سواء فمنهم الهادي المرشد الذي اختاره الله تعالى ليكن رسول الحق إلى الناس، ورسوله إليهم، ومنهم الضال الذي يطلب الهداية ومنهم من أركس في الشر، وختم الله على بصيرته وسمعه وبصره، فلا يدرك حقا، ولا يستمع لداعي الحق، ولذا قال تعالى :( نرفع درجات من نشاء ) الدرجات المراتب العالية في الهداية والتوفيق وعبر سبحانه وتعالى بالمضارع ( نرفع ) لتجدد الرفعة المستمرة، فالوجود الإنساني يستمر الخير فيه بوجود الهداة المرشدين والمستمعين الأخبار الذين يستمعون فيقولون سمعنا وأطعنا وبجوار هؤلاء أولئك الذين يستمعون طيب القول فيقولون سمعنا وعصينا، وبذلك يتفاعل الخير والشر في هذه الحياة، وسيق لبيان العاقبة للمتقين قال تعالى :( يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ٢٦٩ ) ( البقرة ).
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :( ان ربك حكيم عليم ) إن الله الذي رباك وقام على نفسك وعلى عقلك وهدى الأنفس فجورها وتقواها، وعلمك ما لم تكن تعلم عليم بكل شيء، حكيم يضع كل شيء بميزان وله فيما يشاء ويختار الحكم والعبر البالغات تبارك الله رب العالمين.
١ من الفلج: الظفر والفوز، كما في القاموس..
أبو الأنبياء
بعد أن بين الله تعالى هداية إبراهيم عليه السلام والتفكير المستقيم الذي هداه الى ربه وأن الله رفعه بذلك الإدراك المستقيم، ليكون هاديا مرشدا، ذكر الله سبحانه وتعالى ذريته من النبيين الهداة المهدين من بني إسرائيل ومن العرب، واشار سبحانه إلى من سبقه من النبيين، فذكر نوحا، وهو من قبله.
لم يستطع إبراهيم المقام في قومه بعد أن بلغ ما بلغ من الإدراك، وبعد أن اتسعت الهوة بينه وبينهم عندما جعل أصنامهم جذاذا وألقوه في النار كما قال تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ ٥١إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ٥٢قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ ٥٣قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ٥٤قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ٥٥قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ٥٦وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ٥٧فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ٥٨قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ٥٩قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ٦٠قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ٦١قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ٦٢قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ٦٣فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ٦٤ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ ٦٥قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ٦٦أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ٦٧قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ٦٨قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ٦٩وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ٧٠ ) ( الانبياء ).
رأى إبراهيم ذلك، وأنه لا مقام له بينهم ولا قبل له بتحويلهم فهاجر واعتزلهم وأخذ يطوف في الآفاق فذهب إلى بلاد الشام، والى مصر وأخذ رسول التوحيد يبث التوحيد في كل ركن، ولا يصاحبه الا امرأته ومعه ابن أخيه لوط عليهما السلام.
عوضه الله تعالى عن هذا الانفراد في هذا التطواف أن وهب له إسحاق ويعقوب، ومن جاء من ذريتهما، وأن جعل من ذريته إسماعيل ويونس ولوطا.
وإذا كان قد عاش مفردا داعيا الله تعالى بين الوثنيين في الأرض فقد عوضه عن هذا الانفراد بأن جعل في ذريته النبوة والحكمة، وقد قال تعالى فور اعتزاله لقومه، وهجرته عنهم :( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ٤٩ ) ( مريم ) وان هذه المهمة لم تكن فور اعتزالهم بل بعد أن جاهد داعيا إلى الوحدانية في وسط المدينة حينما كان في بلاد المشرق أن بلغ الكبر، فقد قال تعالى حكاية عنه :( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ان ربي لسميع الدعاء ٣٩ ) ( إبراهيم ).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى فيمن وهبهم له من الأنبياء خمسة عشر نبيا وذكر نوحا من قبله لأنه أبو الخليقة بعد آدم عليه السلام فهو الأب الثاني.
ولقد ذكر الله تعالى طائفة من أنبياء الله تعالى من ذرية إبراهيم بلغ عددها كما ذكرنا خمسة عشر نبيا، كان لكل منهم مزية خصه الله تعالى بها، وذكر رسالة نوح من قبل.
وان الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم في هذه الآيات من ذرية إبراهيم أولا : إسحاق ويعقوب، لأن إسحاق أول أنبياء بني إسرائيل، وهو الأب الأول لهم، ويعقوب الذي يسمى إسرائيل وينسبون إليه، وجاء الرسل والأنبياء من بعده، وقال تعالى عنهما،
( كلا هدينا ) أي أعطى الله تعالى كل واحد منهما هداية قائمة بذاتها لأن كل واحد كان نبيا مبعوثا وتلك مكرمة لإبراهيم أن جعل ابنه وحفيده نبيين كل له هداية وبعثة.
بعد ذلك ذكر الله تعالى ذريته من غير ترتيب زمني، ولا ترتيب في المكانة، وتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ومن غير تفرقة بين أولي العزم من الرسل، وغيرهم، بل ذكرهم القرآن فيما يبدو مجموعات ظاهرة تجمع كل مجموعة منها صفة بارزة فيها.
المجموعة الأولى : بعد ذكر نوح وإسحاق ويعقوب الذين كان لكل واحد منهم هداية بعثه الله تعالى بها، وان تلاقت الهدايات كلها، لأنها من الله تعالى موحد الشرائع وهم : داود وسليمان، وأيوب ويوسف، وموسى وهارون وهذه المجموعة تمتاز بالصبر، وهو واضح في حياة كل نبي منهم فداود وسليمان كانا خليفتين في الأرض، ولهما ملك شرقي وغربي، والملك العادل يحتاج إلى صبر حكيم، الامتناع عن الظلم، وهو شهوة الملوك وداؤهم وإن الصبر على نعمة يحتاج الى أفق أوسع من الصبر في الشديدة فتحرى الأحكام وتعرف أسبابها وغاياتها يحتاج إلى عقل أريب١ مدرك ونفس هادية مؤمنة.
وكان داود وسليمان من رجال الحرب الذين لاقوا باسها وشدتها والصبر في البأس أمر واضح بين، وأيوب عليه السلام صبر على الضراء إذ نادى ربه رب اني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين، وقد ضرب به المثل في الصبر على الضراء لكل من يصيبه ضر حتى لقد قالوا في أعلى درجات الصبر، إنه صبر أيوب، فقد صبر من غير أنين ولا شكوى مع الرحمة والمحبة لمن عاشره في ضرائه.
ويوسف عليه السلام كان عبدا صابرا صبر على كيد إخوته، وإظهارهم البغض والعداوة ثم صبر على نعمة السلطان بعد ذلك، فاجتمع له نوعان من الصبر، صبر على الباساء والشديدة حتى إنه ليسترق وصبر عن هوى الشيطان وكف لشهوة النفس، وإنه رأى برهان ربه في ادق المواقف انفعالا نفسيا، وتعرض لمهاوى الشهوات، (... ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء... ٢٤ ) ( يوسف ) وصبر على السجن مع الإحساس بالبراءة، وصبر على كيد النساء مع الكتمان من غير إفحاش، ولا تفحش، ابتلاه الله بترغيب النساء، فتقبل السجن عن أن يكون تحت إغرائهن :( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني اليه والا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ٣٣ ) ( يوسف ).
وهكذا نجد المغالبة بين الإغراء الجارف، والصبر والعزيمة، وضبط النفس من الشاب القوي الجميل، ولقد هيأ الله تعالى من بعد ذلك لهذا الشاب القوى أن يجلس على عرش مصر، فيكون الصبر على العدل، وتنظيم سياسة الاقتصاد ومدافعة أهواء الناس، مع الصبر على البعد عن الأقارب، وعن أبيه الصابر الشفيق الرفيق، ثم يكون بعد ذلك الصبر الكريم عن حب الانتقام، والعفو الذي تطيب به النفوس فيقول لإخوته :( قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ٩٢ )( يوسف ).
وموسى وهارون، وكانا من عباد الله الصابرين صبرا على أذى فرعون لقومهما كان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم وصبر موسى كليم الله الذي عاش في بيت فرعون عدو قومه، فصبر على مجابهة أهله حتى اجتذب بصبره وتحمله من آمن من آل فرعون وكان على رأسهم امرأته الطيبة الطاهرة.
وصبر كليم الله تعالى على بني إسرائيل بعد أن خرج من ارض فرعون صبر على فساد قلوبهم، فكان يعالجه بصبر المؤمن التقي الهادئ وصبر على كفرهم وعاود دعوتهم إلى الإيمان وصبر عندما اتخذوا العجل إلها، وصبر عليهم وهم يقولون اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
دعاهم إلى القتال ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله تعالى أن يدخلوها فقالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.
ثم كان القتال بهؤلاء المستخدمين الضعفاء في أنفسهم الأقوياء في ابدانهم تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وإني أحسب أن صبره عليهم، كان كصبر أيوب، وإن اختلف الشكلان والنوعان ولكن كليهما صبر.
وختم سبحانه الآية بقوله :( وكذلك نجزي المحسنين ) أي كهذا الجزاء من الهدى نجزي المحسنين وحيث كان الإتقان والإحسان كان الصبر.
١ الأريب: العاقل، ورجل اريب من قوم ارباء لسان العرب..
والمجموعة الثانية : تمتاز بالروحانية والزهادة في الدنيا إلا ما يكون الحلال الصرف وهم زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، فزكريا هو الذي كان قائما على المسجد الأقصى وهو الذي ربى مريم البتول :(... وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله... ٣٧ ) ( آل عمران ).
ويحيى ابنه الذي كان إجابة دعوة أبيه زكريا اذ نادى ربه نداء خفيا، فأجاب الله نداءه ) ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ٣٩ ) ( آل عمران ).
وعيسى كانت ولادته معجزة وكانت حياته كلها معجزة وقد أتى بالبينات كان ينفخ في الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله وينادي الموتى فيخرجون من قبورهم بإذن الله ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله وينبئهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم وإلياس كان قليل الطلب للحياة وملاذها كإخوانه من أولئك ذوي الأرواح الطاهرة وانه حيث كانت المادة كان النزاع في الأرض وحيث غلبت الروحية كان الصلاح في الأرض وكان منع الفساد ولذلك قال تعالى عقب ذكر هذه المجموعة الطاهرة التي امتلأ قلبها بنور الله والروح الزاهدة.
وقد وصفهم الله تعالى بوصف الصلاح الكامل لانه ذهبت عنهم كل أدران المادية الداعية الى النزاع في الأرض
( كل من الصالحين ) أي كل واحد من هؤلاء من الصالحين الداخلين في جماعاتهم وهم وجهاء في الدنيا والآخرة.
المجموعة الثالثة : هي ذرية إبراهيم من العرب وهم إسماعيل باني الكعبة مع أبيه وابنه البكر، والذبيح الذي فداه الله تعالى بذبح عظيم، وقد قال : يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله مع الصابرين واليسع ويونس، ولوط وكان ابن أخيه فكان من ذريته بهذا الاعتبار.
وكان من صلب إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا كان لهم فضل فوق كل فضل سبقه، لأنه اجتمع في محمد صلى الله عليه وسلم والصبر والاقدام في موطن الإقدام والروحانية بما لا يقل عن روحانية عيسى، ولذلك قال تعالى :( وكلا فضلنا على العالمين ) أي أن كل واحد من هؤلاء كان له فضل على العالمين بفضل الله تعالى والله ذو فضل عظيم.
وهناك مجموعة رابعة من الأنبياء لم يذكرهم الله تعالى من ذرية إبراهيم ولكنهم من ذوي قرابتهم أو من جنس الأنبياء وان لم يكن لهم من قرابة إلا أخوة الأنبياء فقد قال
تعالى فيهم :( ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ) أي جعلنا أنبياء اخلصوا وجوههم لله من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم كإدريس عليه السلام وشعيب وهود، وصالح، وغيرهم وقد اجتبيناهم أي اصطفيناهم واخترناهم للرسالة الإلهية وهديناهم إلى صراط مستقيم من الحق لا اعوجاج فيه، ولا التواء والصراط الطريق كما ذكرنا من قبل، ولقد قال تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله... ١٥٣ ) ( الأنعام ) والصراط المستقيم هو صراط الحق جل جلاله ومن سار فيه لا يضل ولا يغوى.
وإن ما عليه أولئك النبيون من صبر في النعماء والضراء، والقوة والضعف، والشدة والرخاء، ومن سيطرة للروح على الجسد وجعله خادما لمطالب الحياة والعزة التي لا ذلة فيها، والتواضع الذي لا ضعة فيه، هذه هي الهداية تؤخذ من أخلاق النبوة، هذا هدى الله تعالى ولذا قال تعالى بعد قصص الأنبياء السابقين :( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ).
الإشارة هنا للتقييد وهو ما ذكر من إحسان الأنبياء وروحانيتهم وما فعلوا من خير هو هدى الله تعالى المنسوب إليه، المطلوب من العباد من اتباع النبيين يختار الله من عباده من يهديه إذا سار في طريق الخير، واتبع سواء السبيل فإنه إن اتجه إلى الله هداه الله، وإن اتجه إلى الشيطان أكسبه الله تعالى فضلا، وفي نفسه أسباب الهداية ولكنه طمسها بإغواء الشيطان.
وقد قال تعالى :( من عباده ) فالجميع عبيد لله تعالى يهدي إلى الحق من كتب الله له الهداية على النحو الذي بيناه وإن هؤلاء وصلوا إلى ما وصلوا بالوحدانية، ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) ( لو ) كما يقول النحويون : حرف امتناع لامتناع، أي امتناع الجواب لامتناع الشرط، أي لو أشركوا وهو ممتنع عليهم لاختيار الله لحبطت أعمالهم وهو أيضا ممتنع لامتناع الشرط وحبوط الأعمال بطلانها حتى كأنها لم تكن أي يذهب ما في الأعمال من الخير ولسلبت منهم الهداية فالشرك يمحو كل خير، ويذهب بكل عمل نافع، وما يفعله المشركون من خير يكفرونه.
والشرط هنا في امتناعه وامتناع الجواب للتحريض على الوحدانية، وترك الشرك تركا تاما وبيان أنه يحبط كل عمل يظن فيه الخير ألا ترى أنه يحبط عمل الأنبياء وهداهم فكيف لا يحبط عمل من دونهم فالنص تقبيح للشرك أيا كانت صورته وحث لهم على فعل الخير، وحمايته بالوحدانية.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى ما آتى به النبيين من فضل فقال تعالى :( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ) الإشارة إلى الأنبياء الذين ذكر الله تعالى بعضهم بأسمائهم ورتب جموعهم من حيث الغالب على أوصافهم، و ( آتاهم ) معناها أعطاهم.
الكتاب هو الكتاب المنزل، والمراد جنس الكتاب وليس كتابا معينا كالقرآن أو التوراة ومعنى أوتوه أنهم أوتوا علمه، وعلموه ونشروه وتوارثوا ما اشتمل عليه، فيشتمل الذين أوتوه من ( نزل عليهم، ومن جاؤوا داعين إلى ما فيه والتكليفات التي اشتمل عليها كبعض الأنبياء الذين لم ينزل عليهم كتاب، ولكن بينوا الكتاب الذي جاءوا لبيانه، كأيوب ويوسف، وسليمان، ويشمل الذين أوتوا من عملوا به وأقاموا دعائمه من اتباع النبيين المخلصين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا ولم يحرفوا ولم يبدوا قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا منها.
والحكم وهو الفصل بين الحق والباطل والظلم والعدل، والصالح والفاسد، ويدبرون الأمور على الهدى والشرع.
والنبوة، وهي الإنباء عن الله بخطاب منه سبحانه، وما كان خطابه سبحانه الا أن يكلم من وراء حجاب، أو يوحى إليه أو يرسل رسولا. وقد أفرد الله سبحانه وتعالى النبوة بالذكر مع أن ما مضى يتضمنها وذلك لشرفها باتصالها بالله تعالى وللتصريح بالأنبياء الذين لم ينزل عليهم كتاب، ولبيان مكان العلم الذي أوتوه واتبعوه وأنه عن الله العلي الحكيم وليرتب الحكم على الكفر بها اذ كان من العرب من كفر بالنبوة وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء.
ولذلك قال تعالى :( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ )
الإشارة إلى هؤلاء الذين أنكروا النبوة، وكان من المشركين من قريش وغيرهم من كانوا يجابهون النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار أصل النبوات، وأن تكون مع النبي رسالة في قرطاس من الله سبحانه وتعالى أو يكون معه ملك، كما سيذكر الله تعالى بعد ذلك :( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء... ٩١ ) ( الأنعام ). وسيجيء الكلام في هذه الآية قريبا إن شاء الله تعالى.
كان المشركون ينكرون أصل النبوة فالإشارة في قوله تعالى :( فإن يكفر بها هؤلاء ) هو الإشارة إلى قوم النبي صلى الله عليه وسلم الذين أنكروا نبوته، وحاربوا رسالته وآذوه هو والمستضعفين من المؤمنين وصابرهم حتى كانت الهجرة وهذه السورة مكية، فتعينت الإشارة إلى ما ناوءوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :( فان يكفر بها هؤلاء ) شرط جوابه :( فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) ومعنى وكلنا، وعهدنا إلى قوم من بعد كفرهم يحفظونها ويصونونها، وينقلونها للأخلاف من بعدهم جيلا بعد جيل، فيقال : وكلت فلانا بهذا الأمر أي عهدت به على يوم يقوم عليه، ويحافظ.
وهؤلاء الأقوام الذين وكل الله بهم أمر النبوة المحمدية ليسوا كافرين بها، بل يؤمنون ويصدقون وقدم الجار والمجرور وهو ( بها ) على ( كافرين ) للاهتمام، والتنبيه.
وان هذا النص فيه تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بان عهد الظلم والإيذاء سيأتي بعده عهد النصرة والقوة، وفيه تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بان هذا سينتشر بين الناس، وستخالف فيه الأقوام، ولن يكون مقصورا على العرب، بل يتجاوزهم إلى الفرس والرومان والشام ومصر، وسيعتنقه الأبيض والأسود، وكل من له في الدعوة إليه فضل عظيم.
وأكد الله سبحانه وتعالى ذلك ب ( قد ) وأكد إيمان أولئك الذين سينصرونها بأنهم ليسوا بها بكافرين فنفى عنهم الكفر نفيا مؤكدا مستغرقا شاملا.
بعد ان ذكر سبحانه وتعالى الأنبياء من ذرية إبراهيم ومن قبله وما اختص به بعضهم من الصبر وشكر النعمة والعدالة في القوة وبعضهم من الزهد، والروحانية وبعضهم من الصدق في القول والوعد، بين الله تعالى أن أولئك الأنبياء نالوا هدى الله، وصبروا على أقوامهم وأنه حق على محمد خاتم النبيين أن يقتدي بهم فقال تعالى :( أولئك الذين هدى الله ).
الإشارة إلى ما كانوا عليه من صفات الصبر والشكر والزهد والصدق والتوحيد ومجادلة المنكر، والصبر على أذى المعاندين فالإشارة إلى أشخاصهم المتصفين بهذه الصفات العليا، وهي أساس هداية الله، واسند سبحانه وتعالى الهدى إليه تشريفا لمعناها وبيان أنه اختارها واختيار الله تعالى يوجب اتباعها، والسير في طريقها، ولذا قال سبحانه وتعالى :( فبهداهم اقتداه ) الهاء هي هاء السكت، تكون عند الوقف على المحذوف حرف العلة منه بالجزم تعويضا لذلك المحذوف، وينطق عند الوقف، وقال بعضهم لا ينطق بها إذا لم يقف، ولكن الحق أنه ينطق بها في الأحوال كلها، لأنها مكتوبة في المصحف الإمام ولا يوجد في هذا المصحف ما لا ينطق به.
والاقتداء الموافقة في سلوك الطريق الذي سلكوه، والهدى الذي اتبعوه، والمنهج الذي نهجوه، و ( الفاء ) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأنه إذا كان ذلك الهدى من الله فانه يجب اتباعه والاقتداء بهم فيه وتقديم ( بهداهم ) على ( اقتده ) للاختصاص ومؤداه الاقتداء بهذا الهدى دون غيره، إذ ان الهدى هدى الله فلا هداية إلا هدى الله.
( هداهم ) كما أشرنا التوحيد وألا تشركوا بالله شيئا وما جاءوا به من شرائع أبدية لا تتغير بتغير الأزمان وبما اتصفوا به من صفات الصبر، والشكر والروحانية والزهد والصدق والأخلاق الكريمة وإن الاقتداء يوجب الدعوةالى هذا الهدى.
وان هذا الكلام السامي يفيد أن الأنبياء الذين تختلف مراتبهم، وخواصهم، وصفاتهم كما قال تعالى :( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض... ٢٥٣ ) ( البقرة ) قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم جميعا في صفاتهم كلها مجتمعة فهو يكون بهذا الاقتداء جامعا لكل ما عندهم منهم لأنه خاتم الأنبياء ولأنه مخاطب للأجيال كلها، وأرسل للناس، كافة بشيرا ونذيرا، فكان هو وشريعته صالحين لكل الأجيال، لانه و شرعه جمعا كل ما عند الأنبياء السابقين من صفات فاضلة ومراتب من التكليفات عالية.
وإذا كان ذلك مقام رسالته فقد أوجب الله سبحانه وتعالى الدعوة اليها : لأنها الكمال البشرى وأنه لا يريد منهم جزاء ولا شكورا ولذا قال تعالى مخاطبا نبيه :( قل لا أسألكم عليه أجرا ) لا أريد منكم أي أجر من مال أو جاه أو سلطان لقد ظنوا بادئ رأيهم أنه يريد مالا فعرضوا عليه مالهم، أو يريد السلطان فيسودوه عليهم، فبين الله لنبيه أن يقول لهم إن شيئا من أعراض الدنيا لا يريدها ولكن يريد الإصلاح والتذكير بالله واليوم الآخر( ان هو إلا ذكرى للعالمين ).
ان المقصود من إنزال الله تعالى القرآن على نبيه الكريم ليس مالا يأخذ ولا سلطانا يفرضه ولا سيادة يطلبها وإنما جاء للذكرى والموعظة والهداية للعالمين أي للعقلاء أجمعين فهو ذكرى لهم بما فيه صلاحهم وقيام أمرهم، ونشر العدالة وذكرى لهم باليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب، وذكرى ربهم بان يكونوا دائما ذاكرين أي تذكر دائم لله تعالى وفي ذكر الله طب للقلوب من أدوائها.
وإن ذكر هؤلاء الأنبياء ونسبتهم إلى إبراهيم عليه السلام تذكير لعرب مكة ومن حولها بالنبوة الأولى نبوة نوح أولا، ونبوة إبراهيم أبيهم الذي ينتسبون إليه ثانيا وتعليمهم أن الله يرسل أنبياء ورسلا، ولا يصح أن يكفروا بإرسال الله تعالى، والعرب وقت بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان كلامهم ينبئ عن أنهم لا يؤمنون برسالة ولا رسول وجابهوا النبي صلى الله عليه وسلم منكرين أصل الرسالة مستغربين لها، قال تعالى :( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس... ٢ ) ( يونس ) وقال تعالى :( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ٩٤ ) ( الإسراء ).
وأنكر اليهود أن يكون محمد رسولا زاعمين أن الرسالة فيهم ولذلك نزل قوله تعالى ردا على كل من أنكر أن يرسل الله بشرا رسولا، وعلى من أنكر أن تكون الرسالة في غير بني إسرائيل ولذا قال تعالى :( وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ).
قدره أن تعرف مقداره بكيل أو وزن أو قياس، ولما صارت تطلق العقلاء كانت بمعنى تقدير المعاني، والمعنى هنا ( وما قدروا الله ) ما علموه حق العلم، وما عظموه حتى التعظيم إذا اعتقدوا أن الله يبعث بشرا رسولا، لأن ما خلق هذا الوجود الإنساني عبثا، بل بعثه ليتحمل الأمانة التي حملها بمقتضى فطرته، وليكون خليفة في الأرض وما كان ليبعثه ويتركها من غير بشير ونذير، يرشده إلى الحق، وينذره لكيلا يقع في الآثام فكان من مقتضى الحكمة الإلهية أن تكون الرسالة الإلهية ليهدي الرسول ويرشد وينذر ويجنب الإثم والشر :(... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير٢٤ ) ( فاطر ) وقال تعالى :( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ١٥ ) ( الإسراء ).
أنكر المشركون الرسالة الإلهية وأنكر اليهود أن تكون في العرب فرد الله تعالى كلامهم بالحجة الباهرة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يورد الحجة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك كل أمر يرد الله به على الباطل المعاندين يامر رسوله أن يتولى هو الرد عليهم، بما أوحى الله تعالى به، وهذا ما يلاحظه المتتبع لكتاب الله تعالى بترك الرد على باطلهم للنبي صلى الله عليه وسلم بأمره وبيانه.
قال الله تعالى آمرا نبيه :( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) أي بينا واضحا كالنور في تكليفاته ومعانيه، ليكون مصدر الهدى للناس، يعلمون التكليفات والعقائد السليمة منه، ويرشدهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، إن أطاعوه وأخذوا بما فيه، واهتدوا بهديه.
ولقد قال سبحانه بعد ذلك :( تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلمو أنتم ولا آباؤكم ) والقراءة المشهورة بالتاء في ( تجعلونه ) و ( تخفون )١ وهنا قراءة صحيحة متواترة بالياء في الاثنتين.
وقد اختلف في هذه الآية أنزلت بمكة وهو الأصح أو نزلت بالمدينة، والخطاب فيها ابتداء لليهود الذين غيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، والقراطيس هي الصحائف من التوراة المكتوبة أبدوا بعضها وأخفوا أخرى، وعلى ب ( من ) أن الآية مكية، تكون قراءة الآية سائرة على مقتضاه فيكون الاحتجاج بنزول الآية نقضا لعموم نفيهم إذ قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء فقد نفوا مؤكدين بمن أي بأي شيء والنفى العام ينقض بإثبات أي جزء من المنفى، والجزء الذي ذكره القرآن هو نزول التوراة وقد كانوا يعرفونها وإن لم يقرؤوها، ويتسامعون بينهم بها، وإن لم يتداولوها لأنهم قوم أميون وكانوا يلتقون باليهود، ويعرفون أنهم أهل كتاب دونهم وذلك لأن أهل مكة كانوا تجارا يذهبون إلى اليمن والى الشام في متاجرهم فيمكن الاحتجاج عليهم بما عند اليهود إذ يعلمونهم والمعنى أنه ثبت أن اليهود نزل عليهم كتاب هو في أصله نور وهدى، وذلك ينقض قولكم ما أنزل الله على بشر من شيء وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى التوراة بالإكبار لأنه كتاب من عند الله تعالى ذكر سبحانه وتعالى ما فعله اليهود فيها مزقوها، وجعلوها قراطيس ابدوا بعضها وأخفوا كثيرا وليست الكثرة بمقدار ما أخفوه ولكن بقيمته وكان فيما أخفوا البشرى بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي ينكرون وإن الرسالة التي أنكرتم أصلها، وألزمتم بها، فيها خيركم وفيها رفعكم من مرتبة الأمية إلى العلم، وفهم الحقائق الدينية، ولذا قال تعالى :( وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ) وعلى أن الآية مكية مع قراءة التاء يكون على أنه بعد إثبات نزول التوراة الذي ينقض نفيهم يكون هناك التفات من الحديث عن الغائب إلى الحضور لتوبيخ اليهود على صنيعهم فكان ثمة احتجاجان في النص القرآني احتجاجا على المشركين من اهل مكة بنقض النفى العام عندهم بنزول التوراة التي تفيد أنه كان من البشر رسول من أولى العزم من الرسل، واحتجا ج على اليهود الذين غيروا وبدلوا أو احتجاجا على العرب، وتوبيخ وتنديد بعمل اليهود.
هذا كله على أن الآية نزلت بمكة أما على أنها مدنية فيكون الخطاب ابتداء لليهود الذين كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى عن ابن عباس أن اليهود قالوا القرآن : ما أنزل الله كتابا ويكون قوله تعالى :( تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) توبيخا شديدا لهم ولوما عنيفا على تغيير في كتابهم وإنكار الحقائق الاعتقادية التي اشتمل عليها، وعلمتم بهذا الكتاب ما لم تعلموا انتم ولا باؤكم وافتريتم بانكم أهل علم بكتاب، وجحدتم حقوق غيركم بانتمائكم إلى هذا الكتاب، وقلتم ما علينا في الأميين من سبيل وان كنتم بذلك ظالمين.
وتفسيرها على هذا واضح بين وكونها آية مدنية في سورة مكية لا يمنع، فإن العبرة بكون السورة مكية بالأغلب الكثير، لا بالنادر القليل، وقد قال بعض الناس : إنها نزلت مرتين مرة في مكة وأخرى في المدينة وأودعت في سورة مكية، لانها نزلت فيها أول مرة، وعلى قراءة ( يخفون ) و( يجعلون ) يكون التفات عن اليهود تحقيرا لأمرهم، في توبيخهم على ما حرفوا وبدلوا.
سألهم الله تعالى على لسان رسوله الأمين ( من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) ولكن الجواب لم يجئ الا في آخر الآية الكريمة وكان الجواب الكريم الذي أمر الله نبيه أن يقوله :( قل الله ) أي الذي أنزله الله تعالى القادر انزل التوراة فهو منزل القرآن قال الله تعالى لنبيه :( قل الله ذرهم في خوضهم يلعبون ) ) قل لهم ( الله ) بإيجاز ولا تزدهم ليتفكروا أو يتدبروا بما فيه أمرهم إن كان فيهم عقل غير عابث، ( ثم ذرهم ) أي اتركهم ( في خوضهم ) في القول الذي لا يعرفون مرماه، ولا يدركون نهايته، ولا يصلون على مؤداه لاعبين، فقوله تعالى :( يلعبون ) حال من ضمير ذرهم.
١ (يجعلونه... يبدونها... ويخفون) بالياء غيبا ـ ابن كثيرا وابو عمرو وقرا الباقون بالتاء..
وقد ذكر الله تعالى ذلك الكتاب الذي أنكروه فقال تعالت كلماته :
( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) الإشارة إلى الكتاب وهو القرآن ذكر الله تعالى أمورا ثلاثة، بعضها فيه معنى التعليل، وبعضها فيه تعليل بالغاية، وأولها أنه ( مبارك ) ومعنى البركة النماء والزيادة، وإن القرآن مبارك في معانيه فهو يشمل كل علوم الدين والأخلاق وفيه ذكر للكون، وفيه بيان العقيدة الإسلامية، وفيه أسماء الله الحسنى، وفيه أوصاف الله الذاتية، وثبوت الكمال المطلق لله تعالى، ونفى كل مالايليق بالله، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم، وفيه كل أصول التكليفات الدينية، وفيه القصص الحق عن النبيين وعن الأمم التي خالفت أنبياءها وكيف كان مصيرها وان معانيه وما كشفه ألفاظه تذهب في العقول على مذاهب من الإدراك لا نهاية لها، وكلما أمعن القارئ في ألفاظه وعباراته أشعت منها نورا مبينا، وذكرا حكيما، حتى قال بعض الناس إن للقرآن ظاهرا وباطنا، إذ كلما أمعن فيه النظر أدرك ما لم يكن من قبل، وهو يوجه الأنظار على علم الأكوان بإشارات لامحة وعبارات واضحة.
ومهما نتكلم في معاني القرآن، فلن ندرك الغاية، ولا نقاربها، وهذا يصور معنى أنه مبارك الأمر الذي في القرآن أنه مصدق الذي بين يديه، ونجد اللفظ عاما لكل ما بين يديه من أخبار الأنبياء السابقين وأخبار أقوامهم، والعبر، والمثلات فيهم، فهو سجل النبوات، ومعجزات الرسل، وكان كذلك ليعلم بها من يعلم، ومن عنده العظة والاعتبار كما قال تعالى :(... إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ١٣ ) ( آل عمران ) ومصدقا للكتب السابقة من التوراة والإنجيل والزبور.
كان القرآن لذلك كله ( ولتنذر أم القرى ومن حولها ) والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأم القرى هي مكة، لأنها في البلاد العربية فإنها الأصل لها، وذلك لأن بها البيت الحرام التي يتخطف الناس من حولهم وإذا جاءوا اليها كانوا آمنين، فهي الملجأ من كل مخوف ولأن الناس يحجون إليها ولأنها كانت وسط التجارة في البلاد العربية ولأن بها قريشا ذرية إبراهيم عليه السلام وقد قال بعض العلماء : انها جغرافيا تعد في وسط العالم لذلك سميت بأم القرى.
وإنذار أم القرى هو إنذار أهلها وإطلاق المكان وإرادة أهله هذا كثيرفي القرآن ومن ذلك قوله تعالى :( فليدع ناديه ١٧ ) ( العلق ) وما كانت البقع والمباني لتنذر إنما ينذر أهلها.
( ومن حولها ) من مساكن سواء أكانت لاهل المدر ام كانت لاهل الوبر، بل يمتد ما حولها على الفرس والشام وما وراءه والرومان وغير ذلك، للدلالة على عموم الرسالة المحمدية ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( كان كل نبي يبعث لقومه، وبعثت للأحمر والأسود )١ ولقد قال تعالى في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن :(... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ١٩ ) ( الأنعام ). وقال تعالى :( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ١ الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا ٢ ) ( الفرقان ).
وهكذا نجد الآيات الكثيرات الدالة على عموم الرسالة المحمدية، وهو خاتم النبيين فلا نبي بعده، وما كان الله تعالى ليترك عباده سدى من غير نذير يرهب بسوء عاقبة الشر، وبشير يبشر بحسن العاقبة لأهل الخير.
واان القرآن يؤمن به من يدرك حقيقة الدين، وحقيقة الدين أن يعلم الإنسان أنه لم يخلق عبثا وأن الحياة الباقية وأن الدنيا سبيل لها، وان نعيمها هو الباقي.
ولذا أخبر تعالى أن الذين يؤمنون بالآخرة هم الذين يؤمنون بالقرآن فقال تعالى :( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ) ذلك أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بالحق والخير لأنهم يرون أن الحياة الدنيا فيها التنازع بين الخير والشر، بين النفس اللوامة والنفس الأمارة، ولا بد أن ينتصر الخير، لأنه الفطرة ولا يكون ذلك إلا بحياة أخرى ولأن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بحكمة الإيجاد والتكوين، ولا يمكن أن تكون نتيجة الحياة النهائية هي تلك المغالبة وذلك التناحر، وفوق ذلك أن الإيمان بالغيب يجعل النفس مستسلمة لله تعالى راضية بما عنده، وما أعده لها من نعيم فلهذا كان الإيمان بالآخرة والإيمان بالقرآن العظيم متلازمين لا ينفصلان، فمن آمن بالآخرة آمن بالقرآن ومن آمن بالقرآن آمن بالبعث والنشور والقيامة واليوم الآخر.
وان كمال وصف المؤمنين بالقرآن أن يكونوا صالحين غير مفسدين وألا يعملوا الا معروفا، ولا يقع منهم منكر، وذلك بالصلاة التي هي عمود الدين لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتملأ النفس بذكر الله وبذكر الله تطمئن القلوب، ولذا قال تعالى :( وهم على صلاتهم يحافظون ) وتقديم الجار والمجرور لبيان أن اختصاص الصلاة بالمحافظة يؤدى الى كل الخير، والمحافظة عليها بإقامتها مستوفية الأركان حسا ومعنى وامتلاء النفس بخشية الله تعالى، وأدائها في أوقاتها فغنه بهذا يكمل الدين، ويتم الإيمان.
١ عن جابر ابن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي إنما يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ونصرت بالرعب من مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته) رواه أحمد: باقي مسند المكثرين مسند جابر رضي الله عنه (١٣٨٥٢) واصله عند البخاري ومسلم بنحوه..
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ٩٣ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ٩٤ )
بين الله تعالى منزلة كتابه الكريم وذكر انه الحق الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد بدأ سبحانه وتعالى بذكر ظلم من يفتري عليه سبحانه ويدعى أنه أوحى الله تعالى اليه، ولم يوح إليه بشيء فقال تعالى :
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ ).
الاستفهام في قوله تعالى :( ومن أظلم ) هو للإنكار بمعنى النفي وفيه من التنديد بالذين يفعلون ذلك أشد التنديد وقد ذكر سبحانه افتراءهم على الله بنفيهم إنزال الرسل وقولهم :(... ما أنزل الله على بشر من شيء... ٩١ ) ( الأنعام ) والآن يبين انهم لا يقفون موقف الإنكار بل يبهتون ويكذبون ويفترون، وذكر سبحانه طوائف ثلاثة ترتكب في حق الله تعالى أشد الظلم لأنفسهم بتضليلها وإيغالها في الشر وظلم الناس بنشر الباطل بينهم وتضليلهم وظلمهم للحقائق الدينية.
أولى هذه الطوائف التي افترت على الله تعالى كذبا، أي اختلقت على الله كذبا، والافتراء هو اختلاق الكذب، وهو يتضمن معنى الكذب، ولكن صرح بالكذب لبيان شدة افترائهم واختلاقهم وكلامهم الباطل الذي ليس له أصل من الحق أو الحقيقة كعبادتهم الأوثان وادعاء أنهم يقربونهم اليه زلفى، كادعاء النصارى أن لله ولدا، وأنه إله، وكتحريم المشركين بعض النعم على أنفسهم، وتحريم البحيرة والموصولة وغير ذلك وكافترائهم على الله بأنهم أولياؤه وأحباؤه، فهؤلاء في اشد أحوال الظلمة.
الطائفة الثانية : تلك التي تدعى أنه أوحى لها، ولم يوح إليها بشيء كبعض المقربين من النصارى مثل بولس الذي كان وثنيا، وادعى بعد ذلك دخوله في دين المسيح وحوله من وحدانية الى وثنية وادعوا أن من سموهم رسلا أوحى إليهم وتجلى لهم روح القدس، وغير ذلك من الاوهام الباطلة والأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان وكبعض الأعراب الذين كانت منهم نواة الردة الذين ادعوا أنه يوحى إليهم كما يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
الطائفة الثالثة : التي ادعت ان القرآن لا يعجز وأنها ستنزل مثل ما أنزل الله تعالى من قران وقد أخبر تعالى عنهم، فقال :( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ٣١ ) ( الأنفال ).
هؤلاء الطوائف الثلاث هم اظلم الناس لأنهم كذبوا على الله تعالى، وأضلوا أنفسهم وأضلوا الناس وكان كلامهم افتراء وان هذا النوع الذي يبهت الناس بالباطل هو الذي نشر الأديان الباطلة والأوهام الكاذبة، وما من عقيدة باطلة تنتشر الا بظلم هؤلاء، ومن تبعهم.
وان هؤلاء مآلهم جهنم وبئس المصير، وقد صور الله تعالى حالهم، وأرواحهم تنتزع من أجسامهم، والأيدي تبسط اليهم بالعذاب الشديد العتيد المهيأ لهم، فقال تعالت كلماته :( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ) والغمرات الشدائد جمع غمرة أي شدة واصلها الذي يغمر الأشياء فيغطيها وإطلاقها على الشدائد من قبيل أنها مغمورة فيها لا تكاد تخرج منها، ولهذا قد أحاطت بها كما يغمر الماء الغريق فيحيط به من كل جوانبه، وغمرات الموت شدائده التي تكون عند الاحتضار أو عقبه، يحس فيها بغمرة شديدة عند الموت وإذ يقبر والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار١ وإنهم في هذه الحال التي يحتضرون وبعد موتهم، الملائكة تبسط أيديهم بالشدة والعذاب المهيأ لهم ولذا قال تعالى :( والملائكة باسطوا أيديهم ) تقول لهم بلسان الحال ( أخرجوا أنفسكم ) يقال بسط يده بالعطاء وبسط يده بالحرب، والبلاء والشدة، وذكرت في القرآن كثيرا بمعنى الشدة، ولذا قال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ١١ ) ( المائدة ) وقول المعتدي عليه من ولدى آدم :( لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ٢٨ ) ( المائدة ) فمعنى قوله تعالى :( والملائكة باسطوا أيديهم ) أي بالضرب والعذاب الذي لا مناص منه، ولا يمكنهم التخلص منه ولا الخروج، والملائكة يقولون لهم بالقول أو بلسان الحال :( أخرجوا أنفسكم ) أي انه قد أحيط بهم فلا خلاص لهم، ويقال أخرجوا أنفسكم إن استطعتم إلى الخروج سبيلا فهو مصيركم ونهايتكم وما صرتم إليه، بأعمالكم المتكافئة بالشر التي حبط فيها كل خير، لأنه قد طمس على بصائركم.
وقال بعض المفسرين : إن قوله تعالى :( أخرجوا أنفسكم ) خطاب لهم حال الاحتضار كأنه يقال لهم سلموا أنفسكم لنا وقد علمتم أن هذا اليوم ساعة الأداء لما كسبتم وما قدمتم فتأخذوا جزاءه، وقالوا : إن هذا تشبيه لحالهم بحال المدين الذي يلازمه غريمه، فلا يستطيع الهرب منه حتى يؤدى الذي عليه ونرى أن الأول اوضح وأبين والنتيجة واحدة.
وقوله تعالى :( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ) فيه اداة شرط وهي ( لو ) وفعل شرط والجواب غير مذكور يدل عليه التعبير بغمرات الموت، وبسط الملائكة، وحالهم من انهم لا يستطيعون حولا ولا طولا، ويكون الجواب، لرايت ثم رايت هولا شديدا هو جزاء وفاقا لما قدموا من سوء وفعلوا من شر.
وقد ذكر الله الجزاء فقال ( اليوم تجزون عذاب الهون ) اليوم فيما يظهر هو ما بعد القيامة من عقاب وعذاب الهون هو العذاب الذي يكون هوانا وذلا واستحقارالامرهم وإضافة العذاب الى الهوان إضافة تدل على أن الهوان ملازم للعذاب فقد استكبروا على الحق، وقالوا غير الحق، فكانت العقوبة من جنس الجريمة ولقد قال سبحانه في سبب ذلك :( بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) أي السبب في العقاب أمران جمع الله فيهما الظلم كله :
أولهما : أنهم كانوا يقولون على الله غير الحق فيشركون به، ويقولون إنه ثالث ثلاثة ويقولون : المسيح اله، ويحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله تعالى وقوله تعالى :( كنتم تقولون ) تدل على استمرار قولهم وعدم انقطاعه عنهم، وإصرار عليه، لأن ( كنتم ) تدل على الاستمرار والمضارع يدل علىتجدد القول آنا بعد آن. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ثانيهما : أن الآيات البينات الهادية من معجزات دالة، ومن دلائل أخرى فكانوا يعرضون عنها، ويستكبرون ويظنون أن الالتفات إليها فيه هوان عليهم، وكبرياؤهم منعهم عن الالتفات إلى الحق، فاستكبروا وتجبروا وخاب كل جبار عنيد وكان الاستكبار متضمنا الإعراض عن الآيات ولذا عدى ب ( عن ) التي تدل على التجاوز والإعراض إذ قال تعالى :( وكنتم عن آياته تستكبرون ) أي كنتم تستكبرون معرضين عن آياتنا الدالة ولأنها قاطعة على الحق وفيها الهداية ولكن لا تهتدون استكبار وإعراضا فنالوا جزاءهم. ولقد بين الله تعالى جزاءهم الذي أشار إليه في الآية السابقة بينةوقد زالت عنهم أسباب الطغيان والكبرياء.
١ رواه الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع باب منه (٢٤٦٠) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه)..
وقال تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) فرادى جمع فريد كأسارى جمع أسير، أي جئتم منفردين عن النصراء الذين كنتم تعتزون بهم، فما لكم من نصراء وذهب عنكم افتراؤكم وما كنتم تقولون نحن أعز نفرا، وذهبت عنكم أموالكم التي كانت تعزكم، وتدفعكم إلى الاستكبار والتطاول بها، وتقولون معتزين نحن أكثر مالا، ذهب عنكم هذا وجئتم إلى الله بأنفسكم منفردين وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة : له ( ايها الناس إنكم تحشرون الى الله حفاة عراة غرلا )١ ( أي غير مختونين ) قال تعالى :(... كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ١٠٤ ) ( الأنبياء ).
وإنكم تكونون في هذه الحال كالحال التي بدا خلقكم بها ولذا قال تعالت كلماته :( كما خلقناكم أول مرة ) أي تعودون ضعفاء كما خلقكم من ضعف أول أمركم إذ خلقكم ضعفاء لا تقدرون على شيء ولا تملكون شيئا وفي النص إشارة على حجة البعث على الذين ينكرونه ويستغربونه إذ مؤداها أنه خلقكم ابتداء بقدرته ويعيدكم بقدرته ومن كان قادرا على الإنشاء هو على الإعادة أقدر وهو العزيز الحكيم.
وإن كل ما كانوا يملكونه من مال ونسب، وعبيد وصولة وسلطان يكون وراء ظهورهم وقال تعالى في ذلك :( وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) خولناكم أي مكناكم من أموال وأنعام، وسلطان وراء ظهوركم، أي جئتم إلينا، وقد خلفتموه وراء ظهوركم فلا يمكن حينئذ أن تعتزوا بشيء منه وقوله تعالى :( وراء ظهوركم ) تشبيه لحالهم في أنهم لا ياخذون شيئا معهم كمن ترك ما يملك وراء ظهره وذهب تاركا له، أو من ولى الأدبار من اللقاء فقد كانوا يغترون بأموالهم وأصبح يعرف ماله، فضلا عن أن يغتر به كما كان في الدنيا، ولم يعد المال إلا لحفظ الحياة بالقوت والكساء والصدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم أنه قال :( يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك الا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس )٢ تذهب عنهم كل قواتهم الذاتية التي غرتهم واستكبروا بها عن آيات الله تعالى وغرتهم في الحياة الدنيا فاغتروا بها وغرهم بالله الغرور.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك حالهم مع ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى بغير الحق فقال تعالى :
( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء ).
أي أنهم في اليوم الآخر حيث للحساب ثم العقاب لا يرى معهم شفعاؤهم أي الاصنام التي زعموها تقربهم على الله زلفى إذ كانوا يقولون (... ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى... ٣ ) ( الزمر ) أي ليكونوا شفعاء لنا يقربوننا الى الله تعالى ولقد قال تعالى :( وما نرى معكم شفعاؤكم ) ولم يقل تركتموهم وراءكم ظهريا، لأن المال والأنصار والعصبيات كان لها وجود أما هذه الأحجار فلا وجود لها، وليس لها لسان تنطق فقال سبحانه وما نرى هؤلاء الشفعاء لأنهم لم يكن لهم وجود في الدنيا الا بزعمهم فهم موجودون في أوهامهم ولا وجود لهم في ذاتهم إلا أنهم حجارة، ولقد قال تعالى في أوصاف هؤلاء الشفعاء في زعمهم :( الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) ( الذين ) وصف للشفعاء وهم حجارة وكان الموصول بعبارة ( الذين ) التي تكون للعقلاء إجراء على لفظ الشفعاء لا على حقيقتهم والزعم هو الاعتقاد الباطل الذي ليس له أساس من العقل أو النقل، والزعم هو أنهم شركاء الله تعالى فيكم بالنسبة للنفع والضرر والجزاء عقابا أو ثوابا وقدم قوله تعالى :( فيكم ) إشارة إلى أن الزعم الذي زعمتموه فيكم أنتم وفي أوهامكم ولا يتجاوزكم على غيركم ممن لم يسقط في مزاعمه مثلكم.
وإن السبب في أنه تعالى لا يراهم ( معهم ) أنه لا وجود لهم وان الشيطان الذي سول لهم عبادتهم يتبرأ منهم كما يتبرأ المتبوعون عن التابعين في قوله تعالى :( اذ تبرا الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ١٦٦ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ١٦٧ ) ( البقرة ).
كذلك هنا كان الشفعاء الذين غابوا ولم يروا قد انقطع ما بين هؤلاء وأولئك لانه كان وهما ولم يكن هناك سبب يربط بينهم، فلما انكشف الأمر يوم القيامة تقطعت الحبال الواهية التي كانت تربطهم فقال تعالى :( لقد تقطع بينكم ) أي تقطعت الصلة التي كانت بينكم التي خلقها وهمكم والآن قد تكشف لكم الحق البين، وهم أنهم لا وجود لهم إلا ما كان من أوهامكم فإذا زالت فقد الذي بينكم ثم أكد الله تعالى هذا المعنى فقال تعالت كلماته :( وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) أي غاب عنكم الزعم الذي كنتم مستمرين عليه مجددين له آنا بعد آن.
١ جزء من حديث متفق عليه، رواه بهذا اللفظ مسلم: الجنة ونعيمها وأهلها فناء الدنيا وبيان الحشر (٢٨٦٠) والبخاري بنحوه، أحاديث الأنبياء (٣٣٤٩) عن ابن عباس رضي الله عنهما..
٢ سبق تخريجه..
ايات الله في الكون وتوليد الاشياء من الاشياء بقدرته
ذكر الله سبحانه وتعالى كيف اهتدى إبراهيم عليه السلام إلى ربه مما خلق في الكون وكيف استدل بالوجود على من أنشا الوجود كله، وهو رب العالمين ثم ذكر سبحانه السموات ورد على من أنكر أن يبعث الله بشرا رسولا، ذكر بعد ذلك الكون وما فيه من توالد الأشياء بعضها من بعض بقدرته، وبعلمه وإرادته التي كان بها الخلق والتدبير فقال تعالى :
( إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ).
ويروى عن ابن عباس وبعض التابعين أن قوله تعالى :( إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ) أن معناها خالق الحب والنوى وفالق في أصل معناه بمعنى فاطر أو يلتقيان في معنى واحد وهو الشق، فمعنى فلق أي شق، ثم كان من الشق الإيجاد وفاطر تطلق بمعنى خالق، كقوله تعالى فاطر السموات والأرض أي خالقهما و الحب هو ما ينتجه الزرع كالقمح والشعير والذرة و ( النوى ) هو ما يكون في الثمار كالتمر، والمشمش، والخوخ، وغير ذلك من الثمرات.
ووجه الإعجاب في خلق الحب والنوى هو التوجيه إلى أن هذا الحب يكون منه ذلك الزرع الأخضر الذي تغلظ سوقه ويقوى، وإن هذا النوى يكون منه النخيل الباسق والدوحات العظام ويكون منه ذلك الشجر، المثمر المعروف، كما قال تعالى :( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ٣٣ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ٣٤ ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم افلا يشكرون ٣٥ ) ( يس ).
وقد ضعف ابن جرير تفسير، ( فالق ) بمعنى خالق لأنه لا يوجد ( فلق ) بمعنى ( خلق ) ولكن الزجاج جوز ذلك، وأكثر المفسرين على أن الفلق ليس معناه الخلق أنما معناه الشق، وإن الله تعالى يشق الحب فيخرج منه نبات أخضر فذلك إشارة إلى التوالد الذي يتولاه الله تعالى فيشق الحب فيكون منه الزرع الذي يكون منه حب... متراكب كثير والنوى يشق فيكون أشجار باسقة وثمرات طيبة ويكون من النواة ثمر فيه نوى كثير وثمرات ناضجة كثيرة.
وقد ذكرنا أن هذا رأى الأكثرين وهو ينتهي إلى معنى الخلق، ولكنه خلق عن طريق التوالد الذي يتولاه الله سبحانه وتعالى فيتوالد بخلق الله وتكوينه من الحب الذي يبدوا جامدا زرع أخضر وحب متراكب ويتولد من النواة التي تبدوا كأنها جماد لا حياة فيها شجر عليه ثمر وفي الثمر نوى، فهو توجيه من الله تعالى إلى خلق خاص، لا مجرد خلق النواة والحبة ولكن ما يتولد عن النواة والحبة من نوى وحبوب.
وإذا كانت الحياة تخرج من هذا الجامد الذي يبدو بادي الأمر أنه لا حياة فيه، فيخرج منه، ولذا قال تعالى :( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ).
هذه الجملة السامية الأكثرون على أنها في معنى التفسير لفالق الحب والنوى، ويكون قوله تعالى :( يخرج الحي من الميت ) أي يخرج من ذلك الزرع وذلك الشجر وهما من الأحياء من الحب والنوى اللذين هما كالجماد الذي لا حياة فيهما في مظهرهما، وبذلك لا يقال كيف تعد الحبة ميتة أو النواة كذلك، وهما يطويان في أنفسهما بذرة الحياة، ولا يعدهما علماء النبات من الأموات.
وقوله تعالى :( ومخرج الميت من الحي ) أي أن هذا الحي : وهو الزرع والشجر يخرج منه الذي يشبه الجماد وإن كان فيه أصل عنصر الحياة، فقوله تعالى :( ومخرج الميت من الحي ) معطوف في الظاهر المتبادر على ( يخرج ) وقالوا إنه يجوز عطف اسم الفاعل على الجملة المصدرة بفعل مضارع لأن اسم الفاعل في معناه.
وقد يسأل سائل لماذا عبر بالمضارع ثم عبر باسم الفاعل ؟ ونقول في ذلك : أن التعبير باسم الفاعل يدل على تصوير الفعل، وهو الحياة وتجددها آنا بعد آن فيبتدئ بنبت ثم يخضر ثم يكون له سوق، فهو يصور تدرج الحياة فيه بحكمة الله تعالى وكذلك في النواة فالحياة فيها تبتدئ مما يشبه النبت، ثم تكون عودا فشجرة أما الحبة أو النواة التي تجيء من الزرع أو الشجرة، فإنها تكون نهاية التجديد وتظهر دفعة واحدة ولذا كان التعبير باسم الفاعل.
وختم الله تعالى الآية التي موضوعها في التكوين بالتوليد بقوله تعالى ( ذلكم الله فأنى تؤفكون ) الإشارة إلى ما ذكره سبحانه من فلق الحب والنوى، وتوليد الحياة منهما وان كانت مطوية فيهما، وكانت الإشارة للبعيد لعلو المنزلة السامية لذات الله ذي الجلال والإكرام.
وكانت الإشارة بخطاب الجمع اذ قال :( ذلكم ) وذلك لأن ثمة خطابا للناس الذين أشركوا بالله تعالى والفاء في قوله تعالى :( ذلكم ) لترتيب ما قبلها على ما بعدها، فهي لتعريف الذات العلية بأنها التي فلقت الحب والنوى، وأنها تحيي الموتى فترتب على ذلك استنكار موقف المشركين وتعريف الذات العلية وقال تعالى :( فأنى تؤفكون ) فالفاء للإفصاح عن شرط مقدر مطوي في إذا كانت الذات العلية هي التي خلقت، وتحيي وتميت، فكيف تؤفكون، أي تصرفون عن عبادته وحده سبحانه وتعالى على الشرك : وتؤفك وتأفك وأفك بمعنى صرف، واحسب انها صرف فيه إفك وكذب على الله فالمعنى كيف تصرفون كاذبين على الله تعالى، مفترين عليه بعبادة غيره، سبحانه وتعالى عما تشركون.
وإن الله تعالى خلق الأرض وأحياها بالنبات والشجر وغذاها بالماء وقد أظلها بالسماء، وإذا كان قد فلق الحب فأخرج منه النبات، والنوى فأخرج منه الثمر فقد فلق السحاب فانشق ولذا قال تعالى :( فالق الإصباح ) الإصباح هو شروق الفجر، وذلك بأن يشق الخط الأبيض ظلام الليل.
والذين قالوا : إن معنى ( فالق الحب والنوى ) خالقهما قالوا هنا أيضا ان معنى :( فالق الإصباح ) أي خالق الإصباح بعد إظلام الليل والذين قالوا وهم الأكثرون : إن معنى فلق شق وإن معنى ( فالق الإصباح ) شق الظلمة بخيط الفجر الأبيض الذي يتسع شيئا فشيئا حتى يعم النور الوجود فكان النهار المضيء الذي يكون فيه العمل والسعي في الحياة وطلب الرزق ولذلك قال تعالى ( وجعلنا النهار معاشا١١ ) ( النبأ ).
وإن الإصباح كما ترى هو دخول النهار، أو إيذان بدخوله ولذا عطف عليه الليل فقال تعالى :( وجعل الليل سكنا ) أي تسكن فيه النفوس والأجسام بعد طول النصب واللغوب ولذلك قال تعالى :( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلهم تشكرون ٧٣ ) ( القصص ). فالليل تسكن فيه النفوس وتقر، ويرجع المرء الى أهله وولده، وهي مسكنه ومطمأنه وفي النهار يبتغي الرزق في الأرض وإن الليل في أحواله طولا وقصرا والنهار كذلك طولا وقصرا يتبعان الشمس والقمر كما يتبعان في أصل وجودهما الشمس، ولذلك قال تعالى بعد الليل والنهار ( والشمس والقمر حسبانا ) وقوله تعالى :( والشمس والقمر ) عطف على ( جعل الليل سكنا ) و ( حسبانا ) لحساب الأيام والسنين والأشهر فبالشمس تعرف الأيام ونعرف ساعاتها فان شروقها وغروبها يحدد عدد ساعات الليل والنهار ودرجاتهما واختلاف أقاليم الأرض فيها طولا وقصرا حتى يقل النهار في بعض الأرض ويكون الأكثر ليلا، ويتناسب الليل والنهار في بعض الأرض وبالشمس تعرف مناطق الأرض على حسب تسلط نورها وأشعتها على الأرض وتكون الفصول الأربعة من صيف وخريف وشتاء وربيع.
والقمر تقدر به الأشهر القمرية بالأهلة، وتعرف أيامها بحال الهلال ولذا قال تعالى فيما تلونا من قبل :( هو الذي جعل الشمس ضياءا والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب... ٥ ) ( يونس ) وقوله تعالى :(... بحسبان٥ ) ( الرحمان ) أي بحساب دقيق لا يتخلف عن مواقيته في كل بقعة في الأرض على حالها لا يتقدم ميقاتها ولا تتأخر حتى ينفخ في الصور فيصعق من في السموات.
والفرق بين الحساب والحسبان أن الحساب مقدر بعد وقوع ما يحسب وما يعد، أما الحسبان فإنه يحسب ويقدر قبل الوقوع.
ويلاحظ أنه إن ذكر التوالد في النبات والإحياء والإماتة ذكر الشمس والقمر، لأثرهما في إنبات النبات ووجود الأشجار وحياة الأحياء فالشمس توجد الحرارة التي تمد الأحياء بالنماء والدفء ومن الحرارة إيجابا وسلبا يكون المطر، ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :( ذلك تقدير العزيز العليم )أي هو القادر الغالب صاحب السلطان المطلق والملك التام في هذا الكون وهو العليم بما يكون فيه، وما يجري وما يدبر.
وقد ابتدأ سبحانه ببيان سلطانه سبحانه في الأرض وما يتوالد فيها من أحياء ثم ذكر ما يؤثر فيها وفي أهلها في الليل والنهار وما جعل من الشمس والقمر بحسبان بعد ذلك ذكر السماء وما يكون فيها فقال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ).
خلق الله تعالى النجوم في السماء وهي ذات أبراج كمطالع الشمس والنجوم ولكل نجم مدار خاص به، يظهر في إبانه واتجاهه يهدي السائرين في البر، فيهتدون به، ويعرفون به أهم متجهون إلى الشرق أم إلى الغرب وهل هم متجهون إلى الشمال أم إلى الجنوب فيهتدون في الحيرة ويصح أن يراد بها في ظلمات البر بالاهتداء بها في حيرة البر، وظلمات البحر بالاهتداء بها في ظلمات البحر.
ويصح أن يراد بذلك ظلمات الليل في البر والبحر، فإن الناس في نهارهم يهتدون بالشمس في شروقها وغروبها ومن ذلك يعرفون الاتجاه إلى الجنوب أو الشمال أما في ظلمات الليل فالنجوم ليس بكونها منيرة، إنما بمسارها في اتجاهها.
هذه إحدى فوائد النجوم أما المزايا الأخرى فأهمها أنها والأرض دلالة على منظم حكيم مبدع فقد قال تعالى :( أفلم ينظرون إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ٦ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل زوج بهيج ٧ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ٨ ونزلنا من السماء ماء مباركا فانبتنا به جنات وحب الحصيد ٩ والنخل باسقات لها طلع نضيد ١٠ رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ١١ ) ( ق ).
قوله تعالى :( قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ) أي بينا الآيات مفصلة واضحة لقوم يعلمون ويعرفون حقائق هذا الوجود ويعلمون مصالحهم.
( وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ٩٨ وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٩٩ ).
بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى خلق النبات من الحبات والشجر من النواة بين خلق الإنسان في الأرحام فقال تعالى :
( وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ).
اتجه المفسرون إلى اتجاهات في تفسير قوله تعالى :( فمستقر ومستودع ) فمنهم من نظر إلى أن قوله تعالى :( فمستقر ومستودع ) تتجه إلى أصل التكوين الإنساني في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات فقال : معنى مستقر أي مكان استقرار وهو رحم الأم، ومستودع أي مكان الوديعة الإلهية في أصلاب الآباء، فهو بيان لأدوار النطفة حتى تخرج من المستودع الذي أودعه الله تعالى فيها، وهو الأصلاب إلىا لمقر الذي اقرها الله فيها لتنمو فتكون نطفة في قرار مكين، ثم تكون النطفة علقة، ثم تكون مضغة ثم تكون عظاما فيكسوا العظام لحما، ثم يصير بشرا سويا، فتبارك الله أحسن الخالقين، والنفس الواحدة هي نفس آدم أبى البشر.
وكما أشار سبحانه إلى فلق الحبة فتكون خضرة، وفلق النواة فتكون نخلا باسقا وأشار هنا إلى خلق الإنسان حتى يصير إنسانا مكتملا.
واتجه آخرون إلى الاستقرار في الحياة والاستيداع في النهاية إلى باطن الأرض، فالمستقر هو الدنيا والوجود في هذه الأرض، والمستودع القبر، الذي يودع فيه حتى يكون البعث والنشور وذلك كقوله :(... ولكم في الأرض مستقر... ٣٦ ) ( البقرة ) والأكثرون من الصحابة والتابعين على الاتجاه الأول، وهو أوضح، وأقرب تبادرا للذهن وإني أرى أنه لا مانع من أن تكون في الاثنين، واللفظ يحتملهما، ويكون في الأول بما يشبه العبارة وفي الثاني بما يشبه الإشارة فالعبارة سيقت لأصل التكوين كما سيق أمر الحبة والنواة وما جاء بعدها لذلك ودلت بالإشارة على أنه استقرار على أمد وبعده الاستيداع في القبر، حتى يوم البعث فتأتي كل نفس بما كسبت، وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :( قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) أي ينفذون إلى أسرار الوجود من وراء مظاهره لأن فقه ليس المراد بها مجرد العلم، انما المراد بها العلم الذي يشق المظهر ليصل الى سر ما وراءه وقد علل الزمخشري أنه ختم الآية التي تدل على الاهتداء بالنجوم بقوله تعالى :( قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ٩٧ ) ( الأنعام ) وهنا ختم بقوله :( قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) بأن الاهتداء حسي يرى فهو آية بينة محسوسة لا تحتاج إلى النظر والانتفاع والاهتداء وأما الثانية فأن الآيات فيها سر الوجود الإنساني الذي يتدرج فيه الحي من نطفة تجيء من الأصلاب وتودع في الأرحام حتى يكون بشرا سويا.
وليس الفقه هو الفهم المجرد إنما الفقه هو شق الحقائق حتى يصل إلى لبها وغايتها فقوله تعالى :( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ١٢٢ ) ( التوبة ).
وبعض الكتاب قال : إن العلم أعلى درجة من الفقه لأن الفقه مطلق الفهم والعلم هو المعرفة عن دليل قاطع يؤدى إلى اليقين، ونحن إلى قول الزمخشري نميل، ونرى أنه هو الذي يتفق مع ( فقه ) ومن غير الزمخشري أكثر إدراكا منه.
بعد أن بين الله تعالى كون الإنسان وتدرجه في الخلق من أصلاب الآباء على أرحام الأمهات وتدرجه وتدرجه فيها إلى أن صار إنسانا في أحسن تقويم ذكر سبحانه وتعالى نعمة الماء في هذا الوجود وما يخرج به في الأرض من حبوب وثمار تتشابه في شكلها ولا تتشابه في طعمها فهي متشابهة وغير متشابهة، فقال تعالى كلامه :( وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ).
أخبر الله عن ذاته العلية أنه هو الذي انزل من السماء ماء، فهو وحده الذي أنزل من السماء الماء فلم ينزل إلا بقدرته وهو وحده الذي يثير السحاب حاملة المطر الذي ينزل ماء على الأرض، فنزوله من السماء هو نزوله من السحاب لأن السماء ما تعلو فوق الأرض وسماها الله تعالى سماء، لأنها تغطى الناس، بالغمام الذي يتكاثف فيصير ماء فيهطل على الأرض مطرا، ولقد التفت البيان القرآني السامي من الغيبة إلى التكلم فقال تعالى :( فأخرجنا به نبات كل شيء ) أضاف الإخراج إلى ذاته العلية بصيغة المتكلم لبيان عظيم فضله، وان إخراج النبات والنخيل والأعناب والزيتون والرومان وغيرها من أنواع الثمر والمطعومات بإراداته وتخيره وتشكيله لها سبحانه وتعالى وقوله تعالى :( به ) أي منه وبه وعن طريق ولقد قال تعالى :(... وجعلنا من الماء كل شيء حي... ٣٠ ) ( الأنبياء ).
وان النص الكريم يفيد أن الله تعالى أنزل الماء وهو في ذاته نعمة لأن منه حياة الأحياء من نبات وحيوان وإنسان كما قال تعالى :( أفرأيتم الماء الذي تشربون ٦٨ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ٦٩ ) ( الواقعة ) والنعمة الثانية أنه أخرج الله تعالى به نبات كل شيء أي كل صنف من أصناف النبات من قمح وشعير وذرة وأرز، وسمسم وغير ذلك من أنواع الحبوب والبقول، وغيرها وهو منوع مختلف وإن اتحدت الأرض واتحد السقي ولذا قال تعالى في آية أخرى :( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضهاعلى بعض في الأكل... ٤ ) ( الرعد ).
ولقد فصل الله تعالى أدوار الإنبات فقال :( فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ) أي يخرج الله تعالى خضرا أي اخضر غضا طريا ذا شعب ومن هذا الأخضر الغض يخرج بعظيم قدرته حبا جامدا متراكبا أي يركب بعضه بعضا في نظام رتيب متسق بقدرته تعالى كالسنبلة في القمح والأرز والكوز في الذرة، وغيرها من الأنواع المختلفة كيف تبدأ خضرا مزهرة فإذا نضجت وصارت حطاما أو قريبا من ذلك أتت بنبات نافع يكون مطعوما يغذى الأبدان وهنا نجد عجيب قدرة الله تعالى فلقت الحبة الصلبة وجعلت منها عودا أخضر غضا، ثم جعلت من هذا العود الأخضر وقد صار ثمارا حوى حبا متراكبا صلبا.
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر النبات لأنه يكون منه الغذاء والكساء من العرى كالقطن والكتان والتيل وغيرها مما يكون اللباس والكساء للناس.
وبعد ذلك بين سبحانه الثمرات التي تكون من النوى وابتدأ منها بالنخيل لأنه يجيء منه التمر وهو إن كان فاكهة هو أيضا غذاء وقد كان غذاء عند العرب يشبه أن يكون رئيسيا.
فقال تعالى :( ومن النخل من طلعها قنوان دانية ) طلع النخل هو أول ما يبدوا من ثمر النخل فيبدو فيه شق فإذا شق كان العزق، وهذا العزق هو القنوان، وهو الذي بعد التمر يكون عرجونا وتكون الشماريخ.
وفي هذا بيان نعم الله تعالى في التمر وهو عطف على الكلام السابق عطف جملة على جملة ولم يقل سبحانه وتعالى، وأخرجنا النخل، وان كان قد أخرجه فعلا من النوى، ولكنه صار كالأرض يخرج منه مثل ما تخرج الأرض نبات وقد قدر إخراج الله لهذا القنو من الطلع كإخراج النبات من الأرض، فإخراج القنو كإخراج النبات من الأرض بقدرة الله تعالى و ( قنوان ) جمع قنو، و ( دانية ) أي قريبة تتناولها الأيدي وقد ذكر الدانية لأن نعمتها أقرب، ولأنه يظهر أن النخل القصير يكون طيب الجنى، ويظهر أن هذا النوع هو النخل الذي أكرم الله به السيدة البتول مريم عندما ولدت المسيح قال تعالى :( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا٢٥ ) ( مريم ).
وقد ذكر الله تعالى النخل والتمر عقب الحب لان التمر كما ذكرنا يكون غذاء وكما يقول علماء النبات انه غذاء كامل
وقد ذكرسبحانه وتعالى تعالى بعد ذلك الأعناب والزيتون والرومان فقال تعالى ( وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ).
وقوله ( جنات ) معطوفة على ( نبات كل شيء ) أي أخرجنا جنات من أعناب جمع عنب، والجنات جمع جنة، وهي الأرض ذات الأشجار الملتفة المتكاثفة التي تجن الأرض وتظلها، وعبر عن الأعناب بالجنات لانه إذا نما وترعرع واقيمت له العرائش كان جنة ساترة للارض وحديقة غناء، تظهر خضراؤها، وتجن أرضها، وذكرت الأعناب بعد النخيل لأنه كان كثيرا في ارض العرب، ولأنه فاكهة كانت أطيب الفواكه عندهم ولأنه غذاء ودواء من عجمة وهو نواه.
ثم ذكر سبحانه وتعالى الزيتون والرومان، معطوفين على ( نبات كل شيء ) والتقدير في كل هذا أخرجنا بالإسناد إلى الذات العلية لبيان قدرته العظيمة وإرادته الحكيمة وآلائه على العرب وغيرهم.
وكان النخيل وطلعه بمقتضى السياق يكون معطوفا على ( أخرجنا ) ولكن الاختصاص عندهم بالأهمية ولأنه أكبر الأشجار المثمرة وأعلاها فكان موجب الاختصاص أن يتغير الإعراب.
وقال تعالى :( مشتبها وغير متشابه ).
المشتبه والمتشابه بمعنى متقارب كمستو ومتساو، وهنا في تفسير مشتبه وغير متشابه اتجاهان في الفهم :
أحدهما : أن ثمار الزيتون قد يكون متشابها في الحجم والطعم وقد يكون غير متشابه وذلك دليل على أن الأمر باختيار الله تعالى جعل هذا متغيرا فقد يخلق التمر متشابها في حجمه وطعمه وقد يخرج غير متشابه في ذلك وكل بإرادة الله تعالى.
واتجاه آخر : وهو أن تتشابه الثمرتان في أنهما من شجرة واحدة ولكن لا تتشابهان في الطعم أو اللون والرائحة كما ترى في ثمر الرمان فقد تكون رمانتان من شجرة واحدة، ولكنهما مختلفتان في الحجم وطعم الثمر ولونه، ويقول بعض العلماء، إن شجر الزيتون والرومان تتشابه فيهما الأوراق ويختلف ما ينتجانه والحق أن الوجهين الأولين يمكن الجمع بينهما بأن يكون التشابه في العدد والحجم وألا يكون تشابه قط، وقد قال تعالى :( انظروا على ثمره إذا أثمر وينعه ).
( الينع ) النضج والمعنى انظروا نظرة اعتبار واستبصار إذا أثمر كيف يبتدئ الثمر خيوطا رفيعة ثم يغلظ شيئا فشيئا نامية متدرجة في نموه، حتى تصل الى حال النضج فانه يكون متغير الأحوال كما يبتدئ الجنين نطفة ثم علقة ثم مضغة حتى يصير خلقا سويا كذلك انظر إلى الثمر، كيف يسير في نموه حتى يصير ناضجا طيبا.
ثم قال تعالى :( إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ).
الإشارة إلى ما تقدم من إنزال الماء من السماء، وإخراج نبات كل شيء منه، والنخيل وطلعه من قنوانه، وتدرجه من حال إلى حال، والأعناب والزيتون والرومان متشابها وغير متشابه الإشارة إلى هذا كله ما فيه من عجائب أن فيه آيات بينات على قدرة الله تعالى في تكوين الأثمار وتوالدها وإذا كان الله تعالى متصرفا في الوجود ذلك التصرف فهو الذي خلقكم وهو قادر على إعادتكم كما بدأكم أول مرة وقال تعالى :( لقوم يؤمنون ) لان أهل الايمان هم الذين يدركون حكمة الله تعالى فيما خلق وهم الذين يذعنون للحقائق إذا بدت ىياتها.
وخاطب بالإشارة بالجمع بقوله تعالى :( ان في ذلكم ) للتنبيه وتوجيه أنظار الجمع الى ما في هذا الخلق أو التكوين من عبر تعالى الله العلي القدير.
الوثنية وادعاء النبوة لله
( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ١٠٠ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ١٠١ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ١٠٢ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ١٠٣ ).
بعد أن بين سبحانه وتعالى آياته في خلق الأشياء وتوالده وإثبات قدرته القاهرة وإرادته العلية وأنها تقتضي الإيمان بالله تعالى منشئ هذا الكون وما فيه ومن فيه، وأنه الحي القيوم القائم عليه يمسكه ويمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا لا يمسكهما أحد من بعده.
مع هذه البينات ظهر أولئك الذين يشركون بالله تعالى وذكر سبحانه وتعالى أنهم يشركون الجن، فقال تعالى :
( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ).
ومعنى قوله تعالى :( وجعلوا لله شركاء الجن ) أي ان الشركاء هم الجن أي أنهم عبدوا الجن بجوار عبادة الله تعالى، وقد يسال سائل إن المشركين قد عبدوا الأصنام ولم يعبدوا الجن، فكيف يقال إن الشركاء لله الجن، وقد قال في محكم آياته أنهم اتخذوا الأنداد والأنداد التي حبسوها أندادا لله هي الأصنام.
وقد اتجه المفسرون في إجابة هذا السؤال اتجاهين : أولهما أن الشياطين وهم من أتباع إبليس وهو رأس الجن هم الذين سولوا لهم عبادة الأوثان وزينوها لهم وقد جاءت بذلك النصوص القرآنية الكثيرة من ذلك قوله تعالى :( الم اعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ٦٠ وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم٦١ ) ( يس ). ويقول الله تعالى على لسان الملائكة :(... سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ٤١ ) ( سبأ ) ويقول تعالى :( ان يدعون من دونه الا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ١١٧ لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ١١٨ ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ١١٩ ) ( النساء ).
وانه ما من شرك إلا والشيطان وراءه والشيطان من الجن إذ هو تابع لإبليس وهو من الجن كما قال تعالى :(... إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه... ٥٠ ) ( الكهف ) هذا هو قول الأكثرين.
الاتجاه الثاني : روى عن ابن عباس والكلبي أنهما قالا : إن الذين كانوا يعبدون الجن هم الثنوية من المجوس الذين كانوا يقولون إن الوجود يحكمه إلاهان إله الخير واسمه يزدان وإله الشر واسمه أهرمن.
ولقد قال ابن عباس : إن موضوع الآية الزنادقة وقد رجح فخر الدين الرازي ذلك الراى ولنترك الكلمة له، فقد قال :( هذا مذهب المجوس وإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله سمى بالزند والمنسوب إليه سمى زندي، ثم عرب فقيل زنديق، ثم جمع فقيل زنادقة، واعلم أن المجوس قالوا : كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وكل ما فيه من الشرور فهو من أهرمن واهرمن هو إبليس بلغة القرآن والقرآن قال إنه من الجن فمن قال بهذا المذهب فهو يعتبر إبليس وذريته من الجن شركاء لله تعالى في معنى الألوهية وبذلك تتحقق شركة الجن.
وفي الحق : إن الآية تشمل بعمومها عباد الأوثان والزنادقة لأن كليهما عبدا الشيطان وإبراهيم عليه السلام عندما نهى أباه عن عبادة الأوثان قال له :( يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا٤٤ ) ( مريم ).
وعلى ذلك يكون المشركون والمجوس قد أشركوا الجن في عبادة الله تعالى، سواء أكان ذلك بان سولوا لهم عبادة الأحجار فتكون عبادة الأحجار عبادة للجن، أو عبدوا الجن مباشرة كالثنوية.
ولقد قال تعالى بعد أن ذكر هذه الشركة الوثنية قال تعالى :( وخلقهم ) أي أن الله تعالى خلقهم فهم مخلوقون حادثون ولا يصلحون أن يكونوا معبودين لأن المعبود بحق هو القديم الذي لا أول له، والباقي الذي لا آخر له، ولأنه ليس من العقل في شيء أن يشترك الخالق مع المخلوق.
ثم ذكر سبحانه وتعالى افتراءات المشركين ومن لف لفهم فقال تعالى :( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) وخرقوا معناها اختلقوا القول، وافتعلوا، كان الرجل إذا كذب في النادي قالوا خرق ورب الكعبة أي اختلق فالمعنى : اختلقوا أن يكون لله بنون أو بنات ومن الناس من قال الملائكة بنات الله، وقد تردد ذلك على ألسنة المشركين وعلى السنة اليهود.
ومن الذين خرقوا القول بأن الله تعالى بنين ( الهنود والبوذيون ) وأخذ عنهم النصارى بنو عيسى واليهود قالوا عزيرا ابن الله فادعاء البنوة لله تعالى قد أخذ به اليهود ثم سار وراءهم اليهود والنصارى وكل من افترى على الله تعالى ذلك الافتراء.
ولقد قال تعالى عن ذلك قول ليس له أصل قام عليه، ولكنه جهالة فقال تعالت كلماته :( بغير علم ) أي انه ادعاء ليس له أساس من أين أوتوه. بل عن أوهام توهموها وجهل مبين بمعاني الألوهية ويدل على فساد فكر وضلال فهم واستهواء نفس ممن سيطر على نفوسهم. والله تعالى منزه عن ذلك.
وختم الله تعالى الآية بما يدل على التنزيه وعلو المقام الإلهي عن ذلك فقال تعالى :( سبحانه ) وهي مصدر يدل على التسبيح وتنزيه الله العلي الكريم عن ذلك ( وتعالى ) أي تسامى سبحانه وتعالى عما يشركون.
ولقد بين سبحانه وتعالى استحالة أن يكون له ولد فقال تباركت آياته :( بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ).
وكلمة ( بديع ) فعيل بمعنى اسم الفاعل، أي مبدع السماوات والأرض وهي تقتضي معنيين : أحدهما : أنه أنشاها على غير مثال سبق، والثاني : أنه لم يكن قبلها شيء يحتذى فقد أنشاها من العدم إنشاء فهو خالقها قبل أن لم تكن ومن كان منشئا لهذا الوجود بإرادة مطلقة لا يمكن أن يكون وجود الأشياء لديه بنظام الأسباب والمسببات فلم تكن الأشياء كإيجاد العلة للمعلول بل هو إنشاء الموجد للموجود.
وإن من كانت هذه الحال حاله لا يمكن أن يكون له ولد.
وقد بين الله سبحانه وتعالى استحالة ذلك من وجهة الأسباب العادية التي تقتضي أن يكون الوالد له امرأة تلد منه ولذا قال تعالى :( أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ).
( أنى ) من أين يكون له ولد، أو يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة، أي امرأة يعقب منها ولد، كما تزين ذلك عقولكم الواهمة، ونفوسكم المطوقة بآفة الوهم والضلال إذ ثبت أن الله واحد أحد لا شريك له، في السموات والأرض فكيف يقولون ذلك الوهم لقد ضل الذين قالوه أولا كالبراهمة وضل الذين قالوه من بعدهم متبعين لهم، وضل الذين يتبعونهم اليوم.
لقد قال النصارى الذين أخذوا من البراهمة والبوذية، إن مريم البتول ولدت عيسى، وأقروا بأنها ولدته بعد أن حملت به تسعة أشهر وجاءها المخاض كما يجيء كل امرأة تلد وألجأها إلى جذع النخلة وولدته ووضعته في مزود، ثم عاش كما يعيش الناس، ثم ادعوا له بنوة لله تعالى ثم ألوهية زعموها فمن أين أتت إليه الأولهية وقد عاش بشرا سويا، ياكل كما يأكل الناس ؟
لقد زعموا لفرط وهمهم أن مريم البتول عليها السلام ولدت الإنسان والإله وزعم بعضهم مخففا فساد القول الأول أنه ولد إنسانا ثم فاضت عليه الألوهية والبنوة معا، (... كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ٥ ) ( الكهف ).
ولقد قال الله تعالى مؤكدا نفى البنوة عن ذاته العلية :( وخلق كل شيء ) أي انه سبحانه وتعالى خالق كل شيء فهو غير محتاج لأحد، لأنه خالق الوجود كله، والبنوة ثمرة الاحتياج لتكون امتدادا للوالد والله تعالى الخالق للوجود كله فكيف يحتاج لولده ولكنها الأوهام المسيطرة وكل عقيدة تشتمل على أن شخصا له بنوة أو ألوهية عقيدة أساسها الوهم الباطل وأصحابها يعيشون في أوهام، وشيوعها دليل على فسادهم من يتبعونهم.
وقد قال تعالى مؤكدا معنى خلقه وقدرته بسعة علمه وإحاطته بكل شيء علما، فقال تعالى :( وهو بكل شيء عليم ) فالخلق والتكوين هو بمقتضى العلم والحكمة والإرادة.
ولقد أكد سبحانه وتعالى حقيقة ربوبيته وألوهيته بقوله تعالى :( ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالق كل شيء فاعبدوه ) الإشارة في ( ذلكم ) إلى ما ذكر من فلق الحب والنوى وإنشاء النبات والأشجار والأنفس والتوالد والنزاهة المطلقة عن الشريك والوالد وانفراده سبحانه وتعالى بالخلق والتكوين والقيام لكل شيء والعلم بكل شيء وهذه أوصاف الوحدانية وإذا كان واحدا في ذاته العلية، وواحدا في إنشائه للكون فهو الجدير بالعبادة وحده وكل عبادة لغيره تكون باطلة بطلانا مطلقا ولذا قال سبحانه :( ذلكم الله ) أي ذلك المعبود بحق وحده وهو ذو الجلال والإكرام والإشارة بالخطاب للجميع ( ذلكم ) للإشارة الى التكليف العام بعبادة الله تعالى وحده، وقد ذكر سبب الألوهية الكاملة فقرنها بوصفين يزكيان معنى الألوهية أولهما : الربوبية الكاملة الذي يربي الناس والأشياء يربها ويرعاها ويحفظها الوصف الثاني أنه خالق كل شيء ولا شيء في الوجود الاو هو الخالق له والقائم عليه، والمدبر لأمره والكالئ له، وهو على كل شيء وكيل.
وقد قال تعالى :( فاعبدوه ) أي انه إذا كان هو وحده الخالق وهو وحده المدبر فاعبدوه وحده، لا شريك له، فهذه نتيجة للمقدمات الواقعة السابقة، ومن عبد غيره فإنه قد سبق إليه وهم وهو عبد للأوهام وليس مؤمنا بالله.
وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى أنه خالق كل شيء بين أنه خلقه، وهو يحافظ عليه، ولذا قال جلت قدرته، وعظمت حكمته :( وهو على كل شيء وكيل ) ( وكيل ) هنا من وكل إليه الأمر ليحفظه ويصونه فمعنى وكيل هنا قائم على الأشياء كلها ليحفظها ويصونها ويدبر أمرها أن يقضي فيها قضاءه وكان امرأ مفعولا فهو إلاله القائم على كل شيء سبحانه.
وان الله سبحانه وتعالى منشئ الوجودنحس بآثاره وننعم بنعمه ولا نراه فهو خفى الألطاف ظاهر بنعمه وآثاره ولذا قال تعالى :( لا تدركه الأبصار ).
الأبصار : جمع بصر، والبصائر جمع بصيرة، والبصر يعلم بالرؤية البصرية. والبصيرة تعلم بالرؤية القلبية والإدراك العقلي والخشوع والاتجاه الروحي والتعلق بالذات العلية، ولذا قال تعالى :(... فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور٤٦ ) ( الحج ).
والإدراك هو : الرؤية المحيطة بالشيء من كل جوانبه، فالرؤية البصرية لا ترى إلا الجانب الذي يكون مقابل العيون أما الإدراك فهو الإحاطة بكل الجوانب من كل ناحية ومعنى قوله تعالى( لا تدركه الأبصار ) لا تحيط الأبصار بكل جوانب عظمته وجلاله، ، وعندئذ ننتقل من الرؤية البصرية على ما تنتجه الرؤية من تأمل وتفكير، ذلك أن الرؤية البصرية رؤية للمحسوس، ثم بعد رؤية المحسوس يكون التفكير فيما توجهه هذه الرؤية فاذا رأيت منظرا جميلا فالرؤية تريك هذا المنظر فتستريح نفسك، وتستروح معاني من الإحساس بالجمال فإذا علا إدراكك فإنك تفكر في بديع الصنع، وحسن هندسة التناسق ثم أطياف الألوان ثم مهارة الصانع فهذا هو الإدراك بالإبصار فالإدراك بالإبصار هو المعاني التي تومئ بها الرؤية ويوجه اليها النظر المستقيم.
وقوله تعالى :( لا تدركه الأبصار ) هو كناية عن التفكير والعلم الذي ينتج عن البصر، وقد نفى الله تعالى الإدراك وهو يتضمن نفى الرؤية البصرية ابتداء لأن الرؤية البصرية في الدنيا انما تكون في مكان متميز متحيز والله سبحانه وتعالى ليس له مكان ولا يحده شيء في الوجود وسع كرسيه السموات والأرض وهو السميع العليم.
وفوق ذلك لا يمكن للعقل البشري أن يدرك الحقيقة الا لهية لأنه أعلى وأجل وأعظم من ان تصل إليه المدارك ونحن ندرك آياته ولا نعرف كنه ذاته، تبارك الله العلي الحكيم هذا معنى نفى إدراك الأبصار وما تؤدي إليه، وما يمكن أن يؤدي إليه مضمون هذا النفى ثم قال تعالى :( وهو يدرك الأبصار )أي يعلمها علما محيطا وسع علمه كل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء والأرض يعرف ما تراه الأعين وما تدركه وما تؤدي النظرة من تأملات نفسية فهو العليم بخواطر النفوس وخلجات الأفئدة وهو اللطيف الذي يعلم أدق علم الخبير الذي يعلم دقائق كل شيء.
وقد تكلم العلماء في هذا المقام في رؤية الله في الآخرة وفي الدنيا فقال الأكثرون : إن الله تعالى يرى يوم القيامة بكيفية لا نعرفها يراه الأبرار وقد أخذوا ذلك من ظاهر قوله تعالى :( وجوه يومئذ ناضرة ٢٢ إلى ربها ناظرة ٢٣ ) ( القيامة ) وإن ذلك من جزاء المتقين ولا يراه المجرمون أخذا من ظاهر قوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم لمحجوبون١٥ ) ( المطففين ) ومن ظاهر قوله تعالى :(... ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم... ٧٧ ) ( آل عمران ).
وأما في الدنيا فإن الله لا يرى فيها، لأن الرؤية تقتضي التحيز في مكان والله تعالى منزه عن ذلك وقد طلب موسى عليه السلام رؤية ربه فقال (... قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ... َ ١٤٣ ) ( الأعراف ) فدلت هذه الآية على أن الرؤية في الدنيا غير ممكنة.
وهنا يثار سؤال هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المعراج ؟ بعض العلماء زعم أنه رآه ولا يوجد نص قاطع يدل على ذلك، ولكن وردت آثار كثيرة تدل على نفيه فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت ربك ؟ قال :( إنه نور فأنى أراه )١.
وروى مسلم في صحيحه بسنده الى مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال : كنت متكئا عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ( كنية مسروق ) ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت : ما هن ؟ قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني الم يقل الله تعالى :( ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ) ( التكوير ) و ( لقد رآه نزلة أخرى١٣ ) ( النجم ) فقالت : أنا أول هذه الأمة سال عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم انما هو جبريل لم يره على صورته التي خلق الله عليها غير هاتين المرتين : فقالت : أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول :( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول :( ما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا... ٥١ ) ( الشورى ) قالت : ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم الفرية والله تعالى يقول :( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته... ٦٧ ) ) ( المائدة ) قالت : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم الفرية والله تعالى يقول :( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب الا الله... ٦٥ ) ( النمل ).
هذه بالنسبة لرؤية الله تعالى في الدنيا وأما في الآخرة فالأمر فيها إلى الله تعالى وهو على كل شيء قدير.
١ ؟؟؟؟؟.
البينات لا يدركها الجاحدون
( قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ١٠٤ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ١٠٥ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ١٠٦ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ١٠٧ ).
بعد أن ذكر الله تعالى أنه خالق كل شيء ووجه الأنظار إلى تصريف الله تعالى في الكون مما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة ووجه الأنظار إلى ما فيها من دلائل على أنه وحده هو الخالق وأنه ليس كمثله شيء وانه وحده المستحق للعبادة، قرر أن هذه آيات تبصر ذو العقول الواعية والقلوب الخاشعة المبصرة فقال تعالى :
( قد جاءكم بصائر ) والبصائر جمع بصيرة، والبصائر هنا هي الآيات التي ساقها الله تعالى مبصرة للمدارك هادية للقلوب وهي التي بسببها يدرك أهل البصر النفسي الذي لا غشاوة عليه، وعلى ذلك يكون في الكلام مجاز إما أن نقول فيه : إنه شبه سبحانه وتعالى الآيات التي تبين الحق بالبصائر التي تدركه وتعرفه وتستبينه وجامع التشبيه أنها تبين بنفسها كما تدرك البصيرة الحق بفطرتها أو نقول : إن الآيات سبب لنور البصائر فأطلق المسبب وأريد السبب، وهو آيات الله تعالى في الكون وفي أنفسنا وفيما يحيط بنا، وما نراه من توالد الأحياء بعضها من بعض بقدرته تعالى.
وإن هذه الآيات علامات الحق ودلالاته فمن أدركها فقد نجا، ومن لم يدركها فقد بغى على نفسه وأضلها ولذا قال تعالى :( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) الإبصار هنا ليس هو النظر الحسي انما هو الإدراك الحقيقي الذي يدرك معنى الآيات وما تدل عليه، فهو المجاز الذي يشبه فيه الإدراك والخضوع للحق البين بإبصار الأمور الحسية التي ترى بالأعين من حيث وضوح الدلالات في كل، بل إن دلالات الآيات على ما تدل عليه أقوى.
وكذلك قوله تعالى :( ومن عمى فعليها ) فشبه سبحانه الإعراض عن آيات الله تعالى بمن عمى فلا يبصر، وأضاف الله سبحانه البصائر إلى الذات العلية بلفظ ( ربكم ) للإشارة إلى أنه صاحب النعم المتوالية عليهم التي توجب شكرها، والإيمان بها وتبصر ما تدعو اليه الآيات.
وقوله تعالى :( وما أنا عليكم بحفيظ ) ظاهر ذلك أنه من النبي صلى اله عليه وسلم ولم يكن ثمة حاجة إلى أنه يقول الله تعالى لنبيه : قل :( وما أنا عليكم بحفيظ ) لأن الكلام منزل من عند الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم يخاطب به العرب، والقرينة دالة على أن ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم لقومه الذي هو رءوف بهم، ولكنه ليس بحفيظ عليهم، ثم إن هذا النص السامي، وهو ( وما أنا عليكم بحفيظ ) هو كالنتيجة المنطقية لقوله تعالى :( فمن ابصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) أي فالتبعة عليكم. كما قال تعالى :( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل١٠٨ ) ( يونس ).
يقول تعالى حكاية عن قول النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره ربه :( وما أنا عليكم بحفيظ ) قدم الجار والمجرور لأن نفوسهم ستهمهم ولذلك قدم خطابهم على الوصف وقد أكد سبحانه النفي بالباء، وأكده بالجملة الاسمية، والمعنى وما انا بحفيظ عليكم من أن تتدلوا في العذاب بإنكاركم بآيات ربكم وكفركم بالله بعد أن بدت الدلائل القاطعة، والأدلة البينة الواضحة كما قال تعالى :( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه انما أنت منذر ولكل قوم هاد٧ ) ( الرعد ) ولقوله تعالى :( وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم... ٨١ ) ( النمل ) مسئولية على الرسول في ضلالهم.
صرف سبحانه وتعالى الآيات الكونية وصرف سبحانه وتعالى الآيات في كتابه تعالى وفي معانيها وفي مبانيها فمرة يكون بالأمرا والنهي أو الاستفهام والبيان أحيانا بالإيجاز المعجز وأحيانا بالإطناب المفصل في نسق يعلو عن البشر وذلك ليعلموا مقدار الإعجاز وليستبينوا الحق من عباراته السامية وتوجيهاته الهادية ولكن كذبوا عليه وافتروا وقالوا علمه إنسان ولذا قال تعالى :( وكذلك نصرف الآيات ) ( الآيات ) هنا فيما يظهر لنا الآيات القرآنية والتشبيه في قوله تعالى :( وكذلك نصرف الآيات ) أي مثل هذا التصريف في ذكر الآيات في الخلق والتكوين وتوليد الأحياء وبيان الوحدانية بادلتها من خلق الله تعالى، كذلك التصريف في الآيات الدالة على التوحيد نصرف في الآيات القرآنية من إيجاز وإطناب واستفهام وإنكار وتوكيد للقول، وإرسال في البيان وغير ذلك ليدركوا مقام القرآن وقال تعالى :( وليقولوا درست ) وفي قراءة ( دارست ) الواو في قوله تعالى :( وليقولوا درست ) معطوفة على فعل محذوف يؤخذ من سياق القول، كأن يكون التقدير أو كذلك نصرف الآيات لتصلوا إلى ما فيها من إعجاز إن كنتم تعقلون وليقولوا دارست غيرك أو درست ذلك على غيرك فقد كان الكافرون يدعون ذلك، واللام هنا ليست للتعليل ولكنها لام يسمونها لام العاقبة أي لتكون العاقبة عند الكافرين أن يقولوا دارستها مع أهل الكتاب أو درست عليهم وأعانوك وهذا كما جاء في آيات كثيرة عن افترائهم كقوله تعالى عنهم ( وقال الذين كفروا إن هذا الا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا ٤ ) ( الفرقان )و قوله ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا ٥ ) ( الفرقان ) وقال الله تعالى :( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ١٠٣ ) ( النحل ) وقرئ ( درست ) بفتحتين ومعناها مضت وتكررت كقولهم سمعنا هذا من قبل.
وإن الله تعالى أمر نبيه ان يعرض عن المشركين وإنه يعتبر بحقائق المؤمنون ولذا قال تعالى :( ولنبينه لقوم يعلمون ) واللام هنا للتعليل أي نبين لمن ينتفعون بعلمه وعظاته وبيناته وإن نفع هؤلاء لمؤكد به يوجب بيانه فمهما يضل الضالون الجاحدون فإن القرآن لا يزيدهم الا خسارا أما المؤمنون فهو شفاء لهم وهداية كما قال تعالى :( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَار٨٢ )( الإسراء ).
وقوله ( لقوم يعلمون ) أي لقوم يعلمون علما متجددا بنزول القرآن فهو يزيدهم علما كما يزيد غيرهم خسارا.
إن الأدلة على صدق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة لا يماري فيها إلا جحود وآيات الله تعالى هي بصائر لمن عنده قلب يذعن للحق إذا تبين وقد قامت دالة على وحدانيتة، وإذا كان الجاحدون ينكرون دلالات الوحدانية في العبادة فلا تلتفت اليهم وامض لما أمرك الله تعالى ولذا قال تعالى :( اتبع ما أوحي إليك من ربك ) الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ولمن اتبعه في الغاية والمآل اتبع ايها النبي ما أوحي إليك وهو القرآن لأنه رأس ما أوحي الله به إلى نبيه الأمين وعبر بالموصول ( ما ) دون ذكر الاسم الشريف لبيان سبب الاتباع وحقيقة القرآن وهو أنه وحي من الله تعالى فاتباعه هو اتباع الله تعالى وشرف القرآن بشرف من أنزله فقد التقى فيه شرفان جليلان :
أولهما : شرف ذاتي وهو أنه الكتاب الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه المعجز الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله وأنه النبوة فمن حفظه فقد حفظ النبوة بين جنبيه.
ثانيهما : شرف إضافي وهو أنه الكتاب الوحيد الذي ينسب إليه وإذا كانت سبقته كتب أخرى فهو جامعها وهو سجل النبوات قبله فيه الشرائع السماوية كلها من غير تفريط في واحدة منها.
وقوله تعالى :( من ربك ) تقوية للاتباع بأنه من الله ذي الجلال والإكرام الذي رب هذا الوجود ونماه وعلمه وكونه، فهو أوحي إليك من ربك الذي يعرف ما يشتمل على مصالح العباد في معاشهم ومعادهم في حياتهم الدنيا، وفيما يوصل الى الآخرة.
واتباع ما أوحي الى النبي صلى الله عليه وسلم يكون باتباع ما يدعو إليه من وحدانية الله تعالى التي هي ملاك الأمر كله واتباع أوامره ونواهيه والإيمان بأنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث وأن ما أحله تعالى فيه الخير والنفع العام والمصلحة في الدنيا والآخرة وما يحرمه هو الفساد ويؤدي الى الهوان في الدنيا والآخرة.
وقرن الله تعالى الأمر باتباع ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :( وأعرض عن المشركين ) ومعنى الإعراض عنهم ليس هو السكوت عن دعوة الحق بينهم والإصرار عليها، فإن قوله تعالى :( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين٩٤ ) ( الحجر ) وإنما معنى الإعراض أن يعرض عن سخريتهم بالضعفاء من المؤمنين والجحود الذي يدأبون عليه وادعاء الأباطيل عليه من أنه علمه بشر، أو أنه دارسه مع أحد ويعرض عن إلحاحهم في النكران يعرض عن كل هذا ويمضي في دعوته ولا يهمه لغو اللاغين وعبث العابثين وخوض الخائضين الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ويعرض عن هؤلاء المشركين الذين اندفعوا في ذلك بسبب شركهم.
وإن ذلك الإعراض عنهم لأنك دعوتهم وتدعوهم ولست مسئولا عن إيمانهم ولا معاقبا على كفرهم ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد٧ ) ( الرعد ) وإن إشراكهم بتقدير الله تعالى وبعلمه، وإنهم ساروا في طريقهم إلى الشرك وسهلوا سبيلهم إليه، ولو شاء سبحانه ما مكنهم من الشرك ولكن لأن الله تعالى خلق الإنسان وأعطاه قدرة يرى بها الخير والشر كما قال تعالى :( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ٣٥ ) ( الأنبياء ) لهذا الاختيار الذي ركبه الله تعالى في نفوسهم من خروج على سلطانه تركهم في غيهم يعمهون لأنهم سلكوا طريقا واختاروه.
( ولو شاء الله ما أشركوا ) أي لو كانت مشيئة الله تعالى تعلقت بعدم شركهم ما أشركوا وما كانوا مشركين وإذا كان ذلك قدر الله تعالى الذي قدره وتدبيره الذي دبره ودخلوا الشرك باختيارهم فأعرض عن أذاهم وسخريتهم، واتجه إلى الدعوة واستمر فيها مع ملاحظة أنك لست كفيلا بإيمانهم إنما أنت منذر.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى أن النبي ليس مسئولا عن كفرهم ولا مطالبا بإيمانهم إنما هو منذر ومبشر فقال تعالى :( وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم ِبوَكِيل ).
وما جعلناك حفيظا عليهم بمنعهم من الشرك ودفعهم إلى الإيمان و ( حفيظ ) صيغة مبالغة من حفظ أي ما جعلناك ( حارسا ) على إيمانهم تمنعهم من الخروج منه، وتحملهم على الدخول فيه، وقدم ( عليهم ) بيانا لاهتمامه بشأنهم بمقتضى الحراسة الحافظة التي نفاها الله تعالى عنه، فالله تعالى لم يجعله كذلك ولكن جعله فقط مبشرا ونذيرا، وهاديا بإذنه وسراجا منيرا، وقد أكد الله سبحانه وتعالى عدم مسئولية النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :( وما أنت عليهم بوكيل ) أي ما أنت قد فوض أمرهم إليك بوكيل وكلته فتدبر أمرهم وتوجههم على حيث تريد إنما أنت منذر، وذلك كقوله تعالى :( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ٥٦ ) ( القصص ).
والله تعالى هو الذي ينظم علاقة الرسول بمن بعث إليهم وهي الدعوة، فمن أجاب فقد أحسن ومن أعرض عن ذكر الله تعالى فقد طغى وكفر، وليس على الرسول تبعة كفرهم، والله تعالى هو المجازي.
النهي عن سب الآلهة وقاعدة سد الذرائع
( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ ).
نهى الله تعالى عن سب الأوثان والأصنام وكل ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى، حتى لا يسبوا الله تعالى عدوانا وظلما واعتداء على الحق بجهل وبغير علم وإدراك سليم إذ سووا بين الله تعالى وآلهتهم فالفاء فاء السببية أي بسبب سب المؤمنين الحق لأصنامهم يسبون الله تعالى ظلما وجهلا بغير الحق، وعبر عن أصنامهم بالموصول الذي يكون للعاقلين بقوله :( الذين يدعون ) جريا على زعمهم من أن لهم فكرا وعقلا وإن كانوا لا يعقلون.
وهنا نسال عن معنى السب أهو الشتم أو مجرد ذكرهم بأنهم لا يضرون ولا ينفعون وأنها أحجارا لا تضر ولا تنفع، لا يمكن أن تكون من السب أن يقال إنهم لا يضرون ولا ينفعون فقد ذكر في القرآن كثيرا أنهم لا يضرون ولا ينفعون فقد قال تعالى :( قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ٧١ ) ( الأنعام ) وحكى الله تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لأبيه :( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ٤٢ ) ( مريم ) والقرآن الكريم المنزل من رب العالمين لا يكون فيه سب ولا شتم وانما يكون فيه ذكر الحقائق الثابتة التي لا مجال للريب فيها.
وعلى ذلك لا يمكن أن يكون وصف الأوثان بأنها لا تضر ولا تنفع سبا، لكنه لكي يمنع العرب من عبادتها، لا بد من وصفها بحقيقتها ومآلها ولقد قال تعالى :( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ٩٨ ) ( الأنبياء ).
إنما السب هو شتم الأوثان مثل :( لعنها الله ) و ( قبحت آلهتكم ) من غير ذكر أوصافها.
ولكن قد يقال : إن المشركين عدوا ذلك سبا فقد قالوا أو قال وفدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب لقد سفه أحلامنا وسب آلهتنا ونقول : اننا نفسر كلام الله تعالى وما علينا أن نفسر كلامهم فليسموا كر الحقيقة سبا كما يشاءون ولكن السب ليس كما يقولون.
( فيسبوا الله عدوا بغير علم ) أي يترتب على سب ما يدعونه من دون الله بالباطل سب الله تعالى ظلما وعدوانا جهلا، وقد فسرنا السب بانه الشتم، وليس من الشتم وصف الأوثان بأنها لا تنفع ولا تضر، لأن القرآن الكريم وصفها بذلك الوصف والقرآن ليس فيه شتم ولا سب، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم فحاشا ولا سبابا، ولذلك يجب أن يفسر السب بغير ذلك، ولقد استنبط العلماء من الآية أنه يجوز ترك الحسن إذا أدى إلى معصية وهو ما يسمى في الفقه ( سد الذرائع ) أي منع ما يؤدي إلى الفساد اتقاء إليه، ولو كان في ذاته حسنا وإنه يوازن بين الفعل وما يؤدي اليه فإن كان الضرر الذي يؤدي أكثر من النفع الذي يكون من الأمر قدم دفع الضرر الكثير على النفع القليل بل إن القضية الأصولية ( دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة ).
وان ذلك أصل ثابت قد قررته هذه الآية الكريمة، وقد قال الإمام الزمخشري في ذلك :( فإن قلت سب الآلهة حق وطاعة فكيف يكون صح النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي قلت : رب طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها، لأنها معصية لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر وهو من أجل الطاعات فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر، انقلب إلى معصية ووجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر فإذا قلت : فقد قال الحسن : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع في ذلك ديننا، قلت : ليس هذا مما نحن بصدده لان حضور الجنازة طاعة، وليس بسبب لحضور النساء، فإنهن يحضرنها، حضر الرجال أم لم يحضروا بخلاف سب ( الآلهة ).
وقد كان كلام الحسن ردا على ابن سيرين إذ امتنع عن السير في الجنازة لأن فيها النساء.
ويلاحظ على كلام الزمخشري أنه عد سب الآلهة طاعة كأن الدين أمرنا بسب الآلهة إن القرآن ومحمدا صلى الله عليه وسلم لم يأمران بسب قط وقد قلنا إن وصف الآلهة بأنها لا تنفع ولا تضر ليس سبا، ولا يمنع أن يقال بيانا للحقائق وإبعادا لهم عن عبادتها وليس سبا منهيا عنه، ولو أدى إلى قول التقبيح إنها النهي سب الأوثان لأنها ليست هي العاصية ولما يؤدي غليه السب.
ومهما يكن تعليقنا على قول الامام الزمخشري فإن مسألة سد الذرائع ثابتة، والآية الكريمة توحي اليها وتحث عليها وإنه من المقررات ما يفضى إلى المعصية يعد معصية ولو كان أصلها مباحا.
( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عملهم ).
أي كذلك الذي نراه من اندفاع المشركين إلى سب الله تعالى وهو العلي الحكيم، إذا كان السب لآلهتهم كذلك الأمر زين الله تعالى بمقتضى سنته في الأحياء أن في كل أمة أي طائفة من يحسن لها عملها، حتى تظنه الحق وما هو الا الباطل الصراح ومن زين له سوء عمله فظنه حسنا، فإن عليه مغبته وعليه تبعة ذلك الظن الفاسد وذلك العمل الظالم وتزيين الله تعالى لكم، ذلك سنة الله تعالى في خلقه ليس مؤداه أنه يبرره ويرضى عنه، فإن بيان الله تعالى هنا هو بيان لسنة الوجود وليس ذكرا للعقاب والثواب، والتكليف وإنه مختار فيما يفعل ومرده إلى الله تعالى في العقاب والثواب ولذا قال تعالى :
( ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ).
أي أنه اذاكان قد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا في الدنيا فإنهم راجعون إلى ربهم يوم القيامة، والتعبير ب ( ثم ) للدلالة على البعد الزماني في نظرهم والبعد بين ما زين لهم من الشر وما يستقبلهم من جزاء وفاقا لما عملوا من شر وقوله تعالى :( الى ربهم مرجعهم ) فيه تقديم الجار والمجرور على ربهم، للدلالة على الاختصاص أي المرجع إلى الله وحده، وهو الذي يتولى جزاءهم على ما قدموا من شر، والتعبيرب ( ربهم ) إشارة إلى كفرهم بالنعم التي أولاهم، إذا إنه هو الذي خلقهم ورباهم ونماهم وأمدهم بآلائه من وقت أن كانوا أجنة في بطون أمهاتهم إلى أن رمسوا١ في قبورهم.
النبأ الخبر الخطير، ينبئهم أي يخبرهم بما كانوا يعملون وهو إنباء مقترن بالجزاء فهو إنباء بأعمالهم وجزائها، فيجزون ما كانوا يعملون أي أن الجزاء موافق للعمل، وأعدل العدل أن يكون العقاب مأخوذ من الجريمة نفسها، والله يتولى المحسنين.
١.
الكافر الجاحد لايؤمن بمعجزة
( وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٠٩ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١١٠ ).
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بالمعجزة الكبرى، وهي القرآن وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله وعجزوا عن أن ياتوا بسورة من مثله ولو مفتراه، وكان يكفي ذلك برهانا على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يؤمنوا وأعنتوا في الطلب وأرادوا آيات أخرى فطلبوا أن ينزل عليه كتاب في قرطاس من عند الله ولن يؤمنوا حتى يروه، وطلبوا أن ينزل ملك من السماء مع هذا القرطاس، وهذا من طرق الإعنات المختلفة ولم يقدروا القرآن المعجزة الكبرى حق قدره ولم يعدوه آية كافية وهو أقوى الآيات وهو المناسب لشريعة خاتم النبيين ومخاطبة الأجيال إلى يوم القيامة ووعدوا قاسمين بأشد الأيمان وأغلظها أنه لو جاءتهم آية ليؤمنون بها.
( وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ).
جهد الأيمان، روي انه الحلف. ذلك أن العرب كانوا يعرفون الله تعالى، ويعلمون أنه الخالق وأنه ليس كمثله شيء، ولكن يعبدون معه غيره، فإذا حلف بغير الله لم يكن هذا الحلف اشد الأيمان، فإذا حلفوا بالله كان ذلك أشد الأيمان وهذا روي في التفسير المأثور.
واننا نرى أن القسم الذي يعد جهد أيمانهم هو أغلظها وأشدها أيا كانت صيغته وأيا كان المحلوف به، وإن كان القسم بالله في ذاته هو أغلظ القسم وأشدها ولا يمنع أن يكون غيره غليظا شديدا في زعمهم الوثني، وجهد : بمعنى الشاق وهو نائب عن مفعول مطلق محذوف أو هو مصدر بمعنى اسم الفاعل ومعناه جاهدين وهو حال من اقسموا واللام في ( ليؤمنن ) لام جواب القسم ونرى من هذا أنهم يؤكدوا أيمانهم إذ جاءتهم آية أي معجزة، وكأنهم لا يعتبرون ما جاءهم من معجزة قاهرة لا يعدونها آية لانهم قوم ماديون، ويريدون آية مادية كما طلبوا أن ينزل عليهم كسفا من السماء أو تفجر الأنهار تفجيرا، ولقد قال الله لنبيه :( قل انما الآيات عند الله ) ينزل بحكمته وإرادته وهو الذي يقدر مناسبتها ويقدر الهداية بها، وهو منزلها فالأمر إليه وفي ذلك إقناع وإنذار.
ولكن أهم صادقون في أيمانهم أنهم إذا جاءت الآية التي تكون على الوصف الذي طلبوه ؟ إنه لا دليل من ماضيهم المتعنت أنهم يؤمنون إن جاءت لأن كفرهم ليس في نقص الدليل ولكنه جحود ولا يزيدهم الدليل إلا شدة في الجحود وعتوا واستكبارا ولذا قال تعالى :
( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ).
( يشعركم ) أي يدريكم ويعلمكم علما يكون كالشعور الحسي ( أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) وقرئت بفتح همزة ( أن ) ويكون ا لمعنى ما يدريكم أنها إذا جاءت الآية كما يطلبون لا يؤمنون ويكون هذا إيذانا بانهم لا يؤمنون ولو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبونها لأنهم جاحدون ابتدءوه وهم يصرون عليه فهم لا يؤمنون لأن الجحود غلب عليهم فغلبت عليهم شقوتهم وكما قال تعالى :( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ٧ ) ( الأنعام ).
لقد سبق إليهم الجحود فاستقر في قلوبهم فلا يرجى إيمانهم وهم فوق ذلك بسبب جحودهم ومسارعتهم اليه في قلق فكري ونفسي دائم، يغيرون تفكيرهم حيثما كان موجب له، ولكنه تغيير في دائرة الجحود.
وقرئ بكسر ( إن )١ ويكون معنى : وما يشعركم أي وما يدريكم ويكون على معنى الاستفهام وما يدريكم أنهم صادقون في عزمهم وأنهم مريدون تحقيق أيمانهم الذين جهدوا فيها،
١ ؟؟؟؟؟.
ثم قرر سبحانه أنهم لا يؤمنون فقال تعالت كلماته :( إنها إذا جاءت لا يؤمنون ) إنهم ليس لهم عزم صادق ولذا قال تعالى :
( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ).
وإن الجاحد لا يكون مستقرا على قرار، ولا على نظر بل هو مضطرب النفس والفؤاد والنظر فهو ينظر إلى التي تلوح أماراته، فتبهره بيناته، وهو لجوج في جحوده فيكون متحيرا بين جحود مستكن قار، ونور تبدو آياته وهذا قريب من معنى ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) أي أن قلوبهم غير مستقرة وأبصارهم أي مداركهم وقد شبهت المدارك بالأبصار المبصرة فهم متقلبون في تفكيرهم ولا إيمان عندهم تستقر عنده القلوب، لا يفكرون ولا يتدبرون، ويستمرون على جحودهم كحالهم عندما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة إذ جاءهم أو كما كانت حالهم قبل أن يقسموا وهذا تأكيد لأنهم لا يؤمنون بعد القسم الذي أقسموه جهد أيمانهم.
وقوله تعالى :( ونقلب أفئدتهم ) معطوف على ( يؤمنون ) كما عطف عليه ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ).
( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ).
أي نتركهم في طغيانهم الظالم، وهو تمردهم على آيات الله تعالى، واقتراحهم على الله أن ياتي بآية أخرى، مما يدل على أنهم لا يريدون إيمانا، إنما يريدون أن يظهروا أنهم على استعداد لقبول ما يجيء من آيات يقترحونها وما كانوا يريدون بذلك إلا تعلة لكفرهم بأنهم لم يقتنعوا بالقرآن دليلا، ومهما يؤت لهم من آية لا يؤمنون بها، إنه قد سبق جحود نظرهم وفي الأدلة المقدمة لهم، فهم قضوا بكفر وأدلة الأيمان تقرع حسهم قرعا.
( يعمهون ) : معناها يترددون في باطلهم والبينات القائمة على بطلانه فهم يترددون متحيرين، ولا منجاة لهم إلا بايمان صادق مذعن وأنى يكون لهم وقد غلب عليهم طغيانهم الظالم الأثيم فلا سبيل لأن يصل الحق الى نفوسهم إذ قد غلفها الجحود فكان على قلوبهم غشاوة فلا يهتدون.
( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ١١١ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ١١٢ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ١١٣ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ١١٤ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ١١٥ ).
ذكر الله سبحانه وتعالى أنهم لا يؤمنون بالآيات ولو اقسموا جهد أيمانهم بأنهم يؤمنون إذا جاءهم ما يطلبون من آيات لأنهم قد سبق جحودهم تفكيرهم وأن أفئدتهم ومداركهم متقلبة وأنهم مترددون بسبب طغيانهم وفي هذه الآيات يبين سبحانه أنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله تعالى ولو نزل إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشر عليهم كل شي
( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ).
إن هؤلاء لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية. فليس هناك حاجة إلى دليل فوق ما تقدم من أدلة فإنه لا ينقصهم الدليل ولكن ينقصهم القلب المؤمن الذي يذعن، وقد كتب الله تعالى عليهم الجحود لأنهم لا يؤمنون ولو أننا أجبناهم إلى كل ما طلبوا على أقصى مداه ما أجابوا إلى الإيمان إلا ان يشاء الله، فيقول الله تعالى العليم بالنفوس، ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ) وقد طلبوا أن يكون من يبلغهم ملك من الملائكة ولو اننا نزلنا إليهم الملائكة والتعبير ب ( نزلنا ) يشير إلى أنه لو نزل إليهم الملائكة ملكا بعد ملك لكي يؤمنوا وقد طلبوا وكلمهم الموتى من قبورهم أو خرجوا من القبور ليدلوا بالفعل على البعث الذي أنكروه ولو حشر عليهم كل شيء قبلا أي قبيل بعد قبيل كما فسر مجاهد عن ابن عباس لأن قبلا جمع قبيل.
وقرئ قبلا بكسر القاف١ بمعنى مقابلة، أي عاينوهم معاينة وقابلوهم مقابلة ويصح الجمع بين القراءتين بأن يكون المعنى وجمعنا كل شيء من المعجزات والناس المبعوثين وعاينوهم جماعة بعد جماعة ورأوهم بالعيان والمقابلة لو كان ذلك ما كانوا ليؤمنوا الا أن يشاء الله وقوله تعالى :( ما كانوا ليؤمنوا إلا ان يشاء الله ) معناها ما كان من شأنهم أن يؤمنوا الا أن يكون تعالى شاء ذلك فكل شيء بمشيئته سبحانه وتعالى.
وإن هذا النص السامي يفيد أنهم بجحودهم وإصرارهم عليه، وإنكارهم للمعجزات لو سيقت لهم لن يؤمنوا لأن الله تعالى لم يشأ لهم الإيمان فكتب عليهم الضلال لسوء ما يفعلون ويجحدون وتدل في سياقها على أنه لا جدوى عندهم في تكاثر الأدلة وما عندهم يكفي لقوم يؤمنون.
وقال تعالى :( ولكن أكثرهم يجهلون ) ( لكن ) للاستدراك عما يقتضيه السياق من أنهم يطلبون ويؤكدون أنه إذا جاءتهم آية يؤمنون فيبين أنهم بجحودهم لم يشأ لهم الإيمان فلا يجدي دليل فهو استدراك على ما زعموا من أن كفرهم لنقص الآيات وينسون مشيئة الله تعالى التي كانت لجحودهم وهي أنهم لا يؤمنون وإن ذلك بجهلهم أن الله قد كتب عليهم الكفر بسبب جحودهم ويجهلون أن ما عندهم من دليل وبينات فيها ما يوجب الايمان وهذا معنى ( ولكن أكثرهم يجهلون ) الحق، ولا يذعنون له ويرضون به وأن الله تعالى قد كتب على أكثرهم الكفر، وأنهم لا يؤمنون والتعبير بالمضارع يفيد استمرار جهلهم وتجدده آنا بعد آن.
١ ؟؟؟؟؟.
وإن هؤلاء المعاندين قد نصبوا أنفسهم لعداوة النبي صلى الله عليه وسلم ومقاومة دعوته وهم أشباههم من أعداء النبيين الذين قاوموا الدعوة ولذا قال تعالى :( وكذلك جعلنا لكل نبي عدو شياطين الإنس والجن. )
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصابر المشركين ويتحمل أذاهم هو وأصحابه ويتحمل معاندتهم له، لا يرضون القرآن دليلا على نبوتة، وقد عجزوا عن أن يأتوا بمثله أو بعضه واقروا صاغرين بعجزهم ولكن لم يمتنعوا هم عن معاداته بالباطل متخذين كل ذريعة سبيلا لباطلهم.
والله تعالى يثبت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كان للنبيين من قبله وكان مالوفا وهو سنة الله تعالى في رسالاته فقال تعالى :( كذلك جعلنا لكل نبي عدوا ) أي كذلك الذي تراه من عداوة نفر من المشركين ولجاجتهم في العداوة حتى لا يتركوا بابا من أبواب الكيد إلا سلكوه ولا مسلكا من مسالك الإعنات الا اتخذوه كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من شياطين الإنسان والجن، وشياطين الإنس هم أولئك الذين ناصبوك العداوة وشياطين الجن هم أعوان إبليس الذين يوسوسون ويأمرون بالسوء والفحشاء ويسولون كل قبيح ويزينونه، ويسمونه بغير اسمه فهؤلاء يدفعون النفس الأمارة بالسوء وأولئك يستجيبون لهم، ويفترون بوسوستهم ولذلك قال تعالى :( يوحي ) الوحي : الخطاب الخفى أو التوجيه الخفي كما قال تعالى :( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ٦٨ ) ( النحل ).
فالوحي هنا هو التوجيه الخفي الذي يوسوس في الناس فيلقي في نفوسهم بتغريرهم بزخرف القول فيوهم بأن الكفر إكرام للآباء وان تقليدهم تعصب لهم، وان الانطلاق من كل القيود الخلقية مروءة وأن المعاندة هداية، وأن إهمال حكم العقل هو الاتباع وهذا معنى قوله :( يوحي بعضهم على بعض زخرف القول غرورا ) أي يلقى في نفوسهم تحسين الباطل بأقوال باطلة، ولكنها مزخرفة بزخرف يكون غرورا للنفس الضالة فتتدلى به.
وهكذا يجيء تضليل النفوس في الآحاد والجماعات بزخرف القول فتسمى الحقائق بغير أسمائها فيسمى الجحود طلبا للدليل ويسمى الشجاعة في الحق تهورا، ويسمى الإفساد حرية، ويسمى الاستبداد شورى والشورى طغيانا، ولذلك كان بعض الحكماء يرى أن إصلاح الأخلاق يكون أولا بتصحيح الألفاظ، وان هذه العداوة للأنبياء من شياطين الإنس والجن بإرادة الله تعالى ولذا قال :( ولو شاء ربك ما فعلوه ).
أي إن هذه إرادة الله تعالى اختيارا وليبلغ النبيون أعلى مراتب الإنسانية بجهادهم في الدعوة إلى الله وقوله تعالى ( ولو شاء ربك ما فعلوه ) معناه لو أراد الله تعالى ما فعلوه أي شياطين الإنس والجن ولكنهم فعلوه ليكون التنازع بين الخير والشر ولأن الله تعالى مكن لإبليس الذي قال :( لأغوينهم أجمعين٨٢ الا عبادك منهم المخلصين ٨٣ ) ( ص ) ولو أراد الله ما تمكن ولو شاء الله تعالى ما خلقه.
وإذا كان ذلك أمرا ثابتا بالنسبة للنبيين أجمعين فتقبله وأعرض عنهم ولا تأس على القوم الفاسقين ولذلك قال تعالى :( فذرهم وما يفترون ) أي فاتركهم واكاذيبهم من إنكارهم حجية القرآن ودلالته على النبوة وافتراءهم على أنفسهم بحلفهم أنهم يؤمنون لو جاءتهم وافتراءهم عليك من أنك تعيب أحلامهم وتسفه آباءهم وأنت تنطق بالحق وترشدهم وتهديهم سواء السبيل.
وقوله تعالى :( فذرهم وما يفترون ) ( الواو ) واو المعية و ( ما ) اسم موصول أي أعرض عنهم واتركهم هم وما يفترونه هذه هي النتيجة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي ان يتركهم في غيهم يتحيرون
أما النتيجة بالنسبة لهم ولأمثالهم فقد ذكرها الله تعالى بقوله تعالى :( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ )
( الواو ) هنا عاطفة على نتيجة الجملة السابقة لأن نتيجة يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا أن يفتروا فكان العطف عليه، ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة )فالإغواء بزخرف القول غرهم فأفسدهم وافسد من هم على شاكلتهم وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة، وتصغى معناها تميل أي تميل قلوب أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة ولم يقل الجاحدون بالآيات بل ذكر الذين لا يؤمنون بالآخرة، و ليشير إلى سبب الكفر وهو عدم الغيمان بالآخرة ذلك أن الإيمان بالآخرة مقياس الإيمان وهو ما يفصل قلب المؤمن عن قلب الكافر، ِفقلب الكافر لا يتسع إلا لما هو مادي محسوس ولا ينظر إلى ما هو مغيب مستور، فهو لا يؤمن بأن وراء الحياة التي يعيشها حياة أخرى فيها جزاء ما يكون في هذه الحياة ولذلك كان من أوصاف المتقين كما قال تعالى :( الذين يؤمنون بالغيب... ٣ ) ( البقرة ) فالأيمان بالغيب ايمان بسر الوجود وغايته ونهايته، وإنه لا نهاية لها بالقبور، أما الكافرون الجاحدون فيقولون كما حكى القرآن ( إن هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين٣٧ ) ( المؤمنون ).
( وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ )
ليميل أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة على زخرف الشيطان وتغرير بالغرور يحسبون أنه الغاية فهو سبيلهم وإذا رضوه عملوا بمقتضاه وارتكبوا من الآثام ما هو غايته ونهايتهم وهذا معنى قوله :( وليقترفوا ما هم مقترفون ) والاقتراف معناه الاكتساب وهو أكثر ما يكون في اكتساب ما لا يحس وما ليس بخير، واصل مادة ( قرف ) أن يقول ما ليس بحق يقال قرفتين إذا رميتني ما ليس في فهو في القول الرمى بالباطل وفي الأفعال اكتساب ما فيه إثم أو ما تكون عاقبته إثم.
وإن هذا النص الكريم يبين كيف يبتدئ الشر في النفس.
فهو يبتدئ أولا : بالميل إليه واستحسانه وكما يقول الدارسون للنفس الإنسانية أول الشر استحسانه. وثانيا بالرضا به خلقا وقولا فالرضا أغلى من الميل المجرد في مراتب الإدراك النفسي والقلبي، وثالثا بالعمل على مقتضى ما مال اليه وارتضاه ولذا ختم الآية بقوله جل كلامه عن الشبيه والمماثل ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) أي ليرتكبوا من المعاصي ما شاءوا ان يرتكبوا حتى يكون اقتراف المعاصي وصفا ملازما لهم لا يفترقون وهناك بقراءة اللام بالسكون في قوله تعالى :( وليقترفوا ) ويكون الأمر للتهديد والإشارة إلى فساد طواياتهم كأنه وراء الرضا الارتكاب فليرتكبوا كقوله صلى الله عليه وسلم :( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )١ كأنه لا حاجز بين الإنسان والشر إلا الرضا به، فإذا رضى فقد زال وفتح باب الشر فليلج فيه. وهذا يدل على التهديد والإنذار ببلوغ نهاية الشر، والوصول إلى غايته فليفعل ما يشاء والعاقبة والمآل إلى الله وهو يستقبلهم بعذاب جهنم وبئس المصير.
١ ؟؟؟؟؟.
إن الكافرين يريدون آية غير القرآن والله تعالى هو الذي اختار القرآن آيته الكبرى ومعجزته الخالدة الباقية فإذا كان يستمع إليهم فقد اختارهم حكاما على آية الله تعالى التي اختار، وذلك أمر منكر لا يرضاه مؤمن ولا يرضاه محمد صلى الله عليه وسلم ولذا قال تعالى على لسان نبيه الأمين :( افغيراللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصّلا ).
( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وقد كان ما قبلها طلب آيات وقسم منهم بأنها إذا جاءت ليؤمنن بها، وكأنهم بذلك يريدون أن يجعلوا من أنفسهم حكاما على آيات الله تعالى على الآية الكبرى وهي القرآن فينكر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه أن يكونوا حكاما على آيات الله غير الله.
وقدمت همزة الاستفهام على الفاء، لأن الاستفهام دائما له الصدارة و ( حكما ) معناها حاكم بيد أن حكمه دائما حقا صوابا والحاكم قد يكون صوابا وربما يكون غيره وقد يكون حقا وربما يكون غيره والمعنى الجملي أتقولون في القران ما تقولون وتطلبون آيات أخرى غير القرآن وتريدون أن يكون غير الله تعالى حكما وانها في هذا المقام أهواؤكم.
وهنا إشارات بيانية :
أولها : أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أبتغي غير الله تعالى حكما، وقد قدم غير الله حكما، لمزيد استنكار ذلك، وإنه غير معقول وغير جائز وغير مقبول في ذاته.
الثانية : أن الابتغاء من ( بغى ) بمعنى طلب ومن موضع الاستنكار أن يرضى بغير الله حكما فضلا عن أن يبتغيه ويطلبه طلبا مشددا فيه كما يريدون أن يطلب النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى هو الذي ارتضى له هذه الآية وهي القرآن الكريم.
ولذا قال تعالى على لسان النبي :( وهو الذي أنزل عليكم الكتاب مفصلا ) وهذه الجملة حالية، أي كيف ابتغي غير الله تعالى حكما في آياته وقد أصدر حكمه، وانزل غليكم الكتاب مفصلا مبينا معرفا بالأحكام المطلوبة والأحكام المنهية في بلاغة تحداكم أن تأتوا بمثلها فعجزتم عجزا مبينا.
وقوله تعالى :( أنزل إليكم الكتاب ) أي آتاكم آيته الكتاب الكريم مفصلا مبنيا حجة باهرة وقد شهدت له الكتب السابقة والأنبياء السابقون ولذا قال تعالى :( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ )
فالله سبحانه وتعالى يبين أنه كتاب مجيد يعلمه السابقون من الأنبياء وهو كتاب أزلي أبدي علم أمره السابقون وسيبقى في الخلود الى يوم الدين وقد جاءت كتب اهل الكتاب بالشهادة له فهو معجزة أزلية ثابتة وقد قال تعالى في بيان ذكره في الكتب السابقة هو ورسوله الأمين :( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ١٥٧ ) ( الأعراف ) فهو كتاب الخليقة الذي يشتمل على كل الحقائق الشرعية.
ولقد قال تعالى ردا على أي شكوك وارتياب :( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ٩٤ ) ( يونس ).
وإن شك ليس من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه شك من المشركين أداهم إليه جحود الحق وقد عرفوه ولقد قال بعد ذلك في هذه الآية.
( فلا تكونن من الممترين ).
الامتراء : الشك، والنهي المؤكد بنون التوكيد الثقيلة والفاء للإفصاح عن شرط مقدر فان تقدير إذا علمت أنه حكم الله تعالى وأن الكتب السابقة شاهدة على الصدق فلا تكونن من الممترين والنهي للنبي صلى الله عليه وسلم بظاهر القول، وهو لأمته التي يدعوها إلى الإسلام والى أولئك الذين تهجموا بطلب آيات أخرى وليس النهي للنبي صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، لأن النهي عن فعل يكون حيث يتوقع وقوعه، ولا يمكن أن يكون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الذي نزل عليه القرآن فلا يمكن أن يكون منه امتراء إنما يكون من غيره وانما ذكر موجها إليه صلى الله عليه وسلم لإعلاء شأن القرآن ولبيان مكانته وأنه فوق ارتياب المرتابين ولأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم منهيا عن الامتراء وهو من نزل عليه القرآن فغيره أولى بالنهي.
وان نزول القرآن والتحدي به وعجزهم عن أن يأتوا بمثله وتقدير الله تعالى بأنه لا يؤتى بمثله قط اذ قال تعالت كلماته :( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ٨٨ ) ( الإسراء ).
وإذا قد نزل القرآن الآية الكبرى فقد تمت كلمة الله في ذلك ولذا قال سبحانه :( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ).
كلمة الله تعالى حكمه وتدبيره وما قرره كما نقول في الكلام الجاري، قال فلان كلمته أي ما قرره وانتهى إليه بمعنى ( وتمت كلمت ربك ) بعد ان ذكر شان الكتاب مقترفا بما يقترحون من آيات يسترون بها جحودهم وكفرهم فقررت وسجلت، فالقرآن هو المعجزة التي اختاراها حجة للنبي صلى الله عليه وسلم على المشركين ومن يجيء بعدهم من أجيال يخاطبهم القرآن الكريم إلى يوم الدين وكما تحدى العرب يتحداهم أن يأتوا بمثله.
وقوله تعالى :( وتمت كلمت ) قرئت بقراءة أخرى بالجمع لا بالمفرد ب ( كلمات ربك ) )١ وإسنادها إلى الرب في القراءتين للدلالة على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما يناسب الأقوام والشرائع من معجزات النبوات فهو يختار لكل نبي وشريعته ما يناسبهما.
وقوله تعالى :( صدقا وعدلا ) أي قررت كلمة الله تعالى في القرآن حال كونه صدقا وعدلا أن كل ما فيه عن الله تعالى صدق لا ريب فيه، وما فيه من أحكام هي العدل والقسطاس المستقيم، ثم أكد الله تعالى تمام كلماته فقال تعالت حكمته :
( لا مبدل لكلماته ) أي تمت وتقررت كلمة الله الصادقة في القرآن وأنه العدل والقسطاس ولا مبدل لكلماته اي فان الله تعالى لايبدل كلماته لأنها الصدق والعدل المستقيم ولا يمكن أن يكون هناك مبدل لكلمات الله تعالى غيره لأنه القادر على كل شيء وليس في الوجود أحد له إرادة بجوار إرادة الله سبحانه وتعالى وليس في قدرة مخلوق أن يغير على الله تعالى.
( وهو السميع العليم ) وقد ختمت الآيات الكريمة بذكر الله تعالى بهذين الاسمين من أسماء الله الحسنى وهو أنه السميع العليم بكل شيء علم من يسمع ويرى بغير كيف ولا مماثلة لعلمنا وأنه عليم علما مطلقا ختمت الآيات الخاصة بالمعجزات لتأكيد أن الله تعالى هو الذي يختار بعلمه المحيط بكل شيء ما مثله يؤمن عليه البشر لكل نبي وهو الحكيم الخبير فيما يختار فليس لأحد أن يختار عليه وهو الذي يقدر كل شيء :(... وكل شيء عنده بمقدار٨ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ٩ ) ( الرعد ).
١ ؟؟؟؟؟.
الاتباع يكون عن بينة( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ١١٦ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ١١٧ )
إن قوة الحق ليست بكثرة من يقولون وإنما قوته بقوة دليله فلا تطع الأكثرين لأنهم الكثرة بل أطعمهم لقوة ما عندهم من دليل فالآية تدعو إلى اتباع العقل والمنطق واليقين وليس اتباع الكثرة لأنها كثرة وقد ذكر الله تعالى عن كثرة ضلت وقلة اهتدت فقال تعالى مثلا لذلك :( ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ٧١ ) ( الصافات ) وقال تعالى :( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ١٠٣ ) ( يوسف )
. و لقد قال تعالى في الآية التي نتكلم في معناها :
( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ )
هذه الآية تدل بجملتها وظاهر ألفاظها أن الله تعالى يقول لنبيه الامين : إنك تضل لو أطعت من في الأرض واتبعت كثرتهم وإذا أريد بالأرض أرض المشركين من بلاد العرب فالمعنى يكون محدود بحدود الكثرة العربية الذين كانوا وفي ذلك الوقت المشركين فإن تطع أكثرهم يضلوك عن سبيل الله تعالى لأنهم مشركون والشرك ضلال فان أطعهتم دخلت في ضلالهم ويكون معنى القول نهى لمن مع النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتبعوا المشركين في ضلالهم لأنهم الأكثرون فالكثرة لا تعطي الدليل قوة، ولا تتبع اليقين دائما بل إن أقوالهم تعتمد على الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ولذا قال تعالى :( إن يتبعون إلا الظن ٢٣ ) ( النجم ) و ( ان ) هنا نافية بمعنى ( ما ) أي إنهم لا يتبعون إلا الظن فيظنون الأمر ظنا، ثم يعتقدونه اعتقادا كما قال تعالى عن أمثالهم :( إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ٣٢ ) ( الجاثية ) وأكد هذا ببيان طريق ظنهم فقال تعالى ( وإن هم إلا يخرصون ) والخرص مأخوذ من خرص النخل ليعرف ما تحمل من بلج فيقال : خرص النخل يخرصه إذا حزره ولا يمكن أن تكون نتيجة الخرص علما قطعيا تبنى عليه عقيدة أو يؤخذ به رأى سليم في أي أمر من الأمور وأقصى ما ينتهي إليه ظن لا قطع فيه.
فالمعنى : إن هم إلا يظنون وإن هم في سبيل ذلك لا يتبعون إلا الخرص الذي لا ينتهي إلى يقين قط.
هذا الكلام خرجنا ه على أن الأرض المراد بها ارض الشرك ويكون المقصود طاعة المشركين ولكن الأرض لو يراد منها الأرض الواسعة أرض الله تعالى ويكون المراد إن تطع الناس فيما يرون ويبتغون يضلوك عن سبيل الله تعالى، وليس الحق دائما مع الكثرة، بل قد تكون الكثرة على غير الحق بل انه ثبت من التحليل للعقلية الجماعية أنها لا تدرك ما يدركه المتفكر في خاصة نفسه وذلك لان الجماعات تغلب عليها العاطفة الجماهيرية ولا يكون مجال لتمحيصها ولعل هذا هو ما يرمي إليه النص القرآني في وصف تفكير أكثر من في الأرض إذ يقول سبحانه ( ان يتبعون الا الظن وإن هم إلا ليخرصون ).
ومهما يكن فان الآية الكريمة تدل على أمرين :
( أولهما : أن الاتباع عن غير بينة لا يجوز بل إنه يجب النظر والبحث وأن اتباع الجماعات من غير دراسة لا يجوز وأن الجماعات يغلب على تفكيرها الحدس والتخمين ولا يسودهاالتفكير والدرس العميق والمنطق السليم.
ثانيهما : أن قوة الآراء ليست بكثرة معتنقيها وإنما بقوة ما فيها من دليل، وإنه يترتب على ذلك أن التقليد لا يجوز.
وقد يقول قائل إن الكثرة تغلب في الآراء عند الشورى فلا يغلب رأى القلة وإن كان معقولا، فكيف رأى الكثرة غير صحيح.
ونقول في الإجابة عن ذلك : إن أساس الشورى الرضا بالعمل ورأى الكثرة اتباعه هو الدليل على النزول على رضا الجماعة والنبي صلى اله عليه وسلم نزل على رأى الكثرة عند الشورى في حرب احد ولو كان رأيه غير ذلك.
إذا كان الناس يضلون في تفكيرهم الجماعي، فلا تطعهم لأنهم يظنون ظنا والظن لا يغنى من الحق، فإن الله هو الذي يعلم من يضل ومن يهديه، ولذلك قا ل( إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ).
أكد الله سبحانه وتعالى أنه هو وحده الذي يعلم علما لا يدانيه علم بمن يضل عن سبيله وهنا أمور بيانية نشير اليها :
أولها : أن الله سبحانه وتعالى عبر ب ( ربك ) وهو إشارة على كمال علمه الخاص بالأنفس لأنه ربها الذي كونها وربها وقام عليها ووجهها على النجدين نجد الخير ونجد الشر.
ثانيها : أن ( اعلم ) بصيغة أفعل التفضيل وليست على بابه لأنها إذا كانت على بابه تكون موازنة بين علمه تعالى وعلم غيره، وعلم غيره لا يوزن به علم الله تعالى إذ هو نسبي وعلم الله تعالى علم إحاطة شاملة، ومعنى ( ربك أعلم ) أنه سبحانه وتعالى يعلم من يضل ومن يهتدي علما ليس فوقه علم ولا يصل إليه علم كائنا لمن كان.
ثالثها : أن قوله :( من يضل عن سبيله ) فيه حرف جر محذوف دل عليه قوله تعالى بعد ذلك ( وهو أعلم بالمهتدين ) ف ( من ) على حد تعبير النحويين منصوب بنزع الخافض.
رابعا : أن قوله تعالى :( يضل عن سبيله ) عبر بالمضارع للدلالة على بقائه في الضلال مع تجدده كلما جاء تارة يضل عنه، ويزداد إيغالا في الضلال ومعنى ( عن سبيله ) أي عن طريق الهداية والوصول إلى الحق المبين.
خامسا : أن الله سبحانه وتعالى أكد علمه الذي لا يصل إليه علم ب ( أن ) الدالة على التوكيد وبالجملة الاسمية وبضمير الفصل الذي يدل على تأكيد الخبر.
( وهو أعلم بالمهتدين ) العطف على ( هو ) في الجملة السابقة وتكرر ضمير الفصل تأكيدا للإسناد وعبربالصفة بالنسبة لمن لم يضلوا تأكيد لهدايتهم وأنهم بسلوكهم طريق الحق، قد أنار الله تعالى قلوبهم فكانوا مهتدين بهدايته.
الله أحل الطيبات
( فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ١١٨ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ١١٩ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ١٢٠ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ١٢١ ).
نهى الله تعالى عن اتباع المشركين خاصة والجماعات من غير نظر عامة، وقد أشار سبحانه وتعالى الى الضلال الذي كانوا يتبعونه فكانوا ياكلون ما ذبح باسم أصنامهم وما ذبح على نصبها وكانوا يحرمون على أنفسهم بعض الأنعام ويزعمون أن تحريم ذلك من الله لذلك أباح الله تعالى للمؤمنين أن ياكلون مما ذكر عليه اسم الله، والا ياكلوا مما لم يذكر عليه اسم الله وألا يحرموا على أنفسهم إلا ما حرم الله فقال تعالى :( فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ) ( الفاء ) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها إن كنتم قد نهيتم عن اتباع المشركين في تحريمهم وتحليلهم وتحريمهم بعض ما أحل الله فكلوا مما ذكر اسم الله تعالى عليه.
وقد دلت هذه الجملة السامية على أمرين :
أولهما : إباحة ما ذكر اسم الله عليه تعالى عند ذبحه فغن الذبح بإنهار الدم يكون تطهيرا له من الخبث الحسي، وذكر الله تعالى يكون تطهيرا معنويا من خبث الوثنية.
ثانيهما : أن كل الأنعام مباح أكله بعد تذكيته مع ذكر اسم الله تعالى عليه، فلا يحرم المؤمن شيئا مما حرمه المشركون وإنه رد على بعض المشركين الذين استباحوا الميتة فقد روى النسائي في سننه أن بعض المشركين قالوا : كيف نحل ذبيحة الإنسان، ولا نحل ذبيحة الله ؟١ يقصدون أن الميت ذبيحة الله تعالى، وذلك غلط فاحش، وكذب على الله، فالذبح إنهار الدم وإزالة ما يكون فيها من خبائث تضر الجسم، والميتة ليس ذبحا وفيها بقاء الدم بخبائثه في الجسم.
وقال تعالى :( إن كنتم بآياته مؤمنين ) أي إن المؤمن لا يتبع المشركين، ولا يحرم إلا ما حرم الله تعالى ولا يحل إلا مااحل الله، وقوله تعالى :( ان كنتم بآياته مؤمنين ) فيه توكيد وصفهم بالإيمان بقوله :( كنتم ) الدالة على البقاء والاستمرار على وصف الإيمان وأكد سبحانه وتعالى الإيمان بوصفهم به.
وهنا يثار بحث : هل تناول المباح يعد من الايمان ؟ ونقول في الجواب عن ذلك : إن تناول المباح له جانبان جانب التناول، وهو مباح بالجزء، فيجوز للإنسان أن يأكل نوعا، وألا يأكل آخر، فيجوز أن يأكل اللحم وأن يأكل الطير أو يأكل السمك فكلها حلال طيب، ولكن لا يجوز أن يمتنع عنها جملة، فهي مباح بالجزء مطلوبة بالكل، فلا يجوز أن يمتنع عن كل المباحات والجانب الثاني أن يحسب أن الامتناع عن بعض المباحات تعبد كأن تمنع عن اللحم من غير ضرورة جسمية كبعض الذين يسمون أنفسهم نباتيين فإن هذا يكون ممنوعا لغير ضرورة أو حاجة، فإنه يدخل في النهي في قوله تعالى :( يا ايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم... ٨٧ ) ( المائدة ) وقال تعالى مستنكرا من حرم بعض اللباس من غير نص والطيبات من الرزق فقال تعالى :( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق... ٣٢ ) ( الأعراف ).
١ رواه النسائي: الضحايا تأويل قول الله عز وجل: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) (٤٤٣٧) عن ابن عباس في قوله عز وجل: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) قال: خاصمهم المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟..
ولذا قال تعالى :( وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ).
( ما ) هنا للاستفهام الإنكاري، وهو بمعنى التوبيخ للمشركين إذ حرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله من بعض الأنعام كالسائبة والبحيرة والحام وذلك لأنه إنكار للواقع وإنكار الواقع توبيخ، والمعنى أي حجة لكم في ألا تأكلوا ما ذكر اسم الله تعالى عليه، لا دليل فأنتم تحرمون على أنفسكم ما أحل الله لكم، وتنسبون التحريم لله سبحانه وتعالى وذلك افتراء على الله تعالى وكذب عليه كما قال الله تعالى في هذا الشأن اذ حرموا ما حرموا مدعين أنه من عند الله :( قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ١٤٨ ) ( الأنعام ).
( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) أي تحرمون على أنفسكم ما أباحه الله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم أي بينه فإنه حرام وقد ذكر تفصيل ما حرم الله تعالى فيما ياتي من سورة الأنعام فقال تعالى :( قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٤٥ ) ( الأنعام ).
وقوله تعالى :( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) فيه قراءتان متواتراتان قراءة بالبناء للفاعل بفتح الفاء والحاء١ ويكون المعنى تحرمون عليكم بعض الأنعام التي ذكر اسم الله عند ذبحها وأنتم تعلمون ما بينه الله من محرمات أباحها للضرورة ولم يكن المنع فيها إلا في حال الاختيار ولا منع فيها في حال الاضطرار.
ويكون التوبيخ على أنهم علموا تحريم الله وأن ما عداه حلال، ومع ذلك حرموا من تلقاء أنفسهم والمعنى على قراءة البناء للمجهول بضم الفاء والحاء ٢ يكون المعنى تحرمون ما تحرمون بغيا، وقد علم بالتفصيل ما حرم عليكم، أي إن المحرم كان معلوما من الله، وهو تحريم أيضابمقتضى الفطرة السليمة لأنه لا تستبينه النفوس السليمة ولا الأذواق التي تعاف الرجس القذر.
( وإن كثيرون ليضلون بأهوائهم بغير علم ) : المعنى : إن كثيرا من الناس تسيطر عليهم الأوهام حتى تزين لهم الضلال فيتوهمون أنه حق وما هو الا الباطل والهوى هو الذي يخرج الوهم ويحكمون من غير علم.
وقوله :( ليضلون ) فيها قراءتان إحداهما بفتح الياء٣ والمعنى أن كثيرا من الناس يضلون في ذات أنفسهم باهوائهم التي تسيطر عليهم بغير علم بل بوهم توهمون وحكموا على مقتضاه من غير علم أوتوه، وينسبون ذلك إلى الله والله تعالى برئ منه، لأنه مفتري عليه.
وهناك قراءة أخرى بضم الياء ويكون المعنى : إن كثيرا من الناس يضلون غيرهم تبعا لأهوائهم التي تجعلهم يتوهمون تحريما في اشياء بغير ما حرم الله تعالى وينسبون ذلك لله تعالت قدرته بغير علم علموه من قبل الله سبحانه وتعالى.
وإن القراءتين متواترتان كل منهما قرآن كريم، فكل واحدة قرآن ويكون بين القراءتين أنهم يضلون بأهوائهم في ذات أنفسهم حتى استمكن الضلال منهم فأضلوا غيرهم فهم يضلون ويضلون بغير علم وهذا فيه تنبيه للمؤمنين بان يجتهدوا في عدم اتباع المشركين الذين ضلوا واضلوا :( إن ربك هو أعلم بالمعتدين ).
وان هؤلاء اعتدوا على الله فكذبوا عليه، واعتدوا على الناس فاضلوهم واعتدوا بتحريم ما لم يحرم عليهم، فكما أن الاعتداء يكون بتحليل ما حرم الله تعالى فالاعتداء ايضا يكون بتحريم ما احل الله.
وأفعل التفضيل على غير بابه والمراد أن الله تعالى علما، ليس فوقه علم بمن يعتدون وعبر سبحانه وتعالى بالوصف، ( بالمعتدين ) على أن الاعتداء صار وصفا لهم، إذا اعتدوا فأشركوا واعتدوا فحرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله تعالى من الطيبات.
وقد أكد سبحانه علمه باعتدائهم بذكر أنه رب كل شيء، والرب يعلم بمن خلق وربي، وأكد بضمير الفصل :( هو ) وهو يدل على أنه وحده العليم بالمعتدين وأكده ب ( ان ) وهذا فيه إنذار شديد للمعتدين.
١ (فصل) بالفتح (ما حرم) بالضم قراءة عاصم وحمزة والكسائي غير حفص والمفصل كلاهما عن عاصم غاية الاختصار (٨٦٣).
٢ (فصل... حرم) بضم الفاء والحاء قراءة ابن عامر وابن كثير وأبو عمر والمفضل. وقرأ الباقون وهم نافع وأبو جعفر وحفص ويعقوب: (فصل... ما حرم) المرجع السابق.
٣ (يضلون) بضم الياء قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف غير المفضل، و (يضلون) بفتحها ابن كثير وابو عمرو وقرأ الباقون وهم نافع وابو جعفر وروح بفتح الياء غاية الاختصار (٨٦٤).
( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) الإثم هو ما يبطئ عن الخير وأطلق على كل شر إثم وعلى كل مخالفة لأمر الله تعالى إثم، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم أن الإثم يبتدئ من القلب ولذا قال فيما رواه مسلم، ( البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس )١.
وقد جاء النص السامي في هذا الموضع الذي يذكر فيه إباحة الذبائح التي ذكر فيها اسم الله للإشارة على أن الأساس في الذبائح وغيرها، وهو ترك الآثام فذكر اسم غير الله إثم ظاهر وهو شرك واجب تركه، وإن بجوار ترك الإثم الظاهر إثم باطن، وهو ما يتعلق بالنفس من حقد وحسد، ورغبة في الشر، والدس، والنميمة والغيبة، والهم بالشر، بحيث لا يكون التخلف عنه بقدرته، بل يكون بأمر خارج عن إرادته والشرور قسمان : شرور ظاهرة كالقتل والزنى والقذف وشرب الخمر والسرقة، وقطع الطريق والمجاهرة بالمعاصي، وشر خفي وهو أن تركس النفس في الآثام فلا يكون في النفس، إلا عزم على الشر أو إخفاء الضغن على الناس وألا ينوي الخير، وأن يفعل الأمر الحسن مرائيا وأن يزكى ويصلي مرائيا وذلك هو الشرك الخفي كما قال صلى الله عليه وسلم :( من تصدق يرائي فقد أشرك )٢
وقد حرم الله الإثم الظاهر والخفي في هذه الآية فقال تعالى :( وذروا ظاهر الإثم وباطنه... ١٢٠ ) أي اتركوا الاثم في ظاهره وباطنه، وعبر عن الإثم الخفي بباطنه لأنه مستور في باطن النفس غير معلوم والإثم واحد في الحالين، ظهر أو بطن ولقد قال تعالى :( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ٣٣ ) ( الأعراف ).
وفي هذه الآية سمى الإثم فواحش لأنه زيادة عن الفطرة زيادة فاحشة فما من معصية الا كان فيها خروج فاحش على الفطرة.
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ) هذا هو الجزاء الذي كتبه الله تعالى لمرتكبي الآثام ما ظهر منها وما بطن والذين يكسبون الإثم سواء اكانوا يكسبونه بجوارحهم الظاهرة أم يكنونه في نفوسهم مع اعتزاله، والحرص عليه، ( سيجزون بما كانوا يقترفون ) و ( السين ) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، وعبر سبحانه وتعالى بالموصول للإشارة إلى أن الصلة سبب الجزاء، وأن الجزاء يعم كل من يفعل، وكسب الاثم ارتكابه بقصد وإصرار عليه، وإغلاق باب التوبة، والكسب يجعله يسكن في النفس حتى يصير لونا من ألوانها أو تعزيزه والملكة فيها، فلا يقال إنه كسب السوء، من يفعله مرة أو مرتين عن جهالة ثم يتوب من قريب.
وقال تعالى في الجزاء :( سيجزون بما كانوا يقترفون ) والاقتراف الكسب ويطلق كثيرا على الكسب الآثم، وقد يطلق في قلة على كسب الخير، كما في قوله تعالى :( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور٢٣ ) ( الشورى ).
١ سبق تخريجه.
٢ سبق تخريجه.
( وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) أباح الله أن نأكل مما ذكر اسم الله عليه، فقال تعالى :( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ) وندد بالذين لا ياكلون مما ذكر اسم الله ممن يحرمون بعض الأنعام لأنهم حرموا ما أحل الله تعالى لهم.
وفي هذه يبين تحريم ما ذكر عليه غير اسم الله كأن يذبح على النصب، ويذبح باسم صنم من الأصنام او شخص من الأشخاص تقديسا له، وتقربا عن طريقه فإنه لا يحل كما قال في اية أخرى في المحرمات من الذبائح (... أو فسقا أهل لغير الله به... ١٤٥ ) ( الأنعام ).
وفي هذه الآية الكريمة أكد سبحانه أن الاهلال عند الذبائح لغير الله تعالى فسق فقال تعالى :( وإنه لفسق ) وقد أكد سبحانه وتعالى أنه فسق ب ( إن ) المؤكدة و ( اللام ) المؤكدة والجملة الاسمية.
وقد تكلم الفقهاء في هذا الموضوع موضحين موجهين الآيات الكريمةغير مخالفين لها.
وذلك أن امرين نص عليهما :
أولهما : إباحة ما ذكر عليه اسم الله تعالى وان ذلك مباح بالاتفاق لأنه منصوص عليه ولأن الله وبخ الذين لا ياكلون ما ذكر عليه اسم الله، ولأنه يكون قد حرم ما أحل الله تعالى.
ثانيهما : أن الله تعالى نص على النهي عن أكل ما أهل به لغير الله، وأكد النهي ب ( ان ) ذلك فسق أي خروج على الدين ولكن بقيت حال لم ينص عليها نصا صريحا وهي الحال التي يترك فيها اسم الله تعالى سهوا أو عمدا.
قال بعض العلماء : إنه في حال العمد يكون الأكل غير حلال، وقيل ولو كان سهوا، وحجتهم في ذلك أن الله تعالى أباح ما ذكر عليه اسم الله تعالى، فكان مفهوم المخالفة لا يباح ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه، ولأنه نص على تحريم ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه وإن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أن المباح هو ما أنهر دمه وذكر عليه اسم الله تعالى عند ذبحه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الصيد لا يحل الا إذا ذكر اسم الله تعالى عند إرسال السهم أو الكلب الصائد فقد روى في الصحيحين ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكر اسم الله عليه فكلوه )١ هذا نظر متفق مع النصوص المذكورة في هذه الآية ويتفق مع الأحاديث الواردة في هذا الباب.
وقال آخرون من الفقهاء : إن المحرم هو ما ذبح بأنه لغير الله تعالى ويباح غيره لتلاقي الآيتين في المعنى، إذ إنه ذكر في تحريم المطعومات أن ما أهل لغير الله هو المحرم فقد قال تعالى :( قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ١٤٥ ) ( الأنعام ) فمعنى :( مما لم يذكر اسم الله عليه ) أي ذكر غيره والدليل على ذلك الآية الأخرى، وقوله تعالى ( وإنه لفسق ) والضمير يعود إلى الأكل مما لم يذكر عليه اسم الله، أي الذبيحة ولا يمكن أن يكون فسقا إلا إذا كان ثمة ذكر لغير الله تعالى.
وفوق ذلك فانه من المقررات الشرعية أن ذبائح اهل الكتاب حلال أكلها فقد قال تعالى :( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ٥ ) ( المائدة ).
وهكذا نرى فريقا حرم ما لم يذكر عليه اسم الله سواء أتركه عمدا أو سهوا، وآخرون قالوا : يحل سواء أتركه عمدا أو سهوا وهناك قول وسط بين القولين المحل والمحرم فقال : إن لم يذكر اسم الله سهوا، فإنها تحل وإن تركه عمدا لا تحل الذبيحة وهذا الراى اقرب الى روح الإسلام، لأن من لم يذكر اسم الله سهوا فإنه قد رفع الخطأ والنسيان وما كان بإكراه وإما من تركه عمدا فقد أعرض عن ذكر الله، وذلك إثم لا يبرره شيء.
ونحن نميل إلى هذا الرأي ).
( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) الظاهر أن الشياطين هنا هم شياطين الإنس يوسوسون إلى أصدقائهم ليجادلوا في أمر ما أبيح من الأطعمة وما لم يبح فقد روى أن بعض المشركين كما روينا من قبل كان يقول، للمؤمنين : ما ذبحه الله لا تأكلونه وما ذبحتموه تأكلونه، وانهم يفعلون ذلك ليثيروا جدلا بين المؤمنين ليشككوهم في أمر دينهم والجدل في غير موضع الجدل إثارة للريب والشكوك وإثارة الريب تضعف الإيمان بالحق وتفتح الأبواب للباطل وإذا فتحت الأبواب للباطل في القلوب ضلت الإفهام وارتابت العقول والنفوس ولذا قال تعالى :( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) أي عن سايرتموهم في جدلهم وفتحتم لهم صدوركم فإنهم يجرونكم إلى طاعتهم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون مثلهم وهنا قسم مقدر في القول، وقوله تعالى :( انكم لمشركون )
هو جواب القسم بدليل وجود ( اللام ) وبدليل أنه لم توجد ( الفاء ) إذ لو كانت جوابا للشرط لجاء بالفاء.
وهذاتأكيدلاشراك المؤمنين ان سايروهم في الجدل في أمور ليست موضع جدل فالجدل كما قلت يولد الريب. اللهم أكف أمة محمد شر جدل أهلها وامنحها الإيمان بما تقول وما تدعو إليه.
١ سبق تخريجه..
الإيمان حياة والشرك ظلمات
( أوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ١٢٢ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ١٢٣ وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ١٢٤ ).
كانت الآيات السابقات في أحوال المشركين من إشراك بالله الى سيطرة الأوهام عليهم، حتى حرموا على أنفسهم ما أحل الله تعالى، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الشرك موت نفسي كمن يموت موتا حسيا، وأن الهداية حياة بعد الموت وأنها نور، وأن الشرك ظلمات متكاثفة بعضها فوق بعض، تبتدئ بالأهواء وهي ظلمة ثم بالأوهام وهي ظلمة ثم تنتهي بالشرك وهو ظلمات.
شبه الله تعالى حال من يكون في جهل ثم يتجه الى الهداية كحال من يكون ميتا فيحييه الله ويجعل له نورا يمشي به في الناس، ليهتدي به، ثم نفى أن يكون ذلك الحي المهدى بعد الجهل الذي هو الموت نفى أن يكون مثله من يعيش في ظلمات من الجهالة والضلالة لا يمكن أن يخرج منها، وهذا معنى قوله تعالى :
( أوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ).
( الواو ) عاطفة، هذه الجملة عطفت على ما قبلها، من ذكر أوهام المشركين وطلبهم آيات وتحريمهم ما أحل الله، وإحالة الإثم منهم ظاهرا وباطنا، وهذه الآية هي بيان للفرق بين المؤمن والمشرك والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فهو نفى للمشابهة والمعنى لا يستوي من يكون ميتا بالجهالة فأحييناه بالإسلام والهداية والمعرفة وجعلنا له إدراكا ومعرفة يمشي بها في الناس هاديا لهم ويرشدهم ويسترشد بهم، كمن مثله من نشا في الظلمات لا يخرج منها، بل يتردى فيها يتحرك في جنباتها ولا يخرج وعبر سبحانه عن عدم خروجه من الظلمات بقوله :( ليس بخارج منها ) أي أنه ألف الظلمات وصار لا يمكن أن يخرج منها، فعبر باسم الفاعل أي صار مثل المقيم في الظلمات وأكد سبحانه وتعالى نفى الخروج بالباء وبالوصف فهو مرتكس في الظلمات ليس بخارج منها.
فلا يستوي بمقتضى هذا النفى المؤمن والمشرك كما لا يستوي النور والظلمة كما لا يستوي المبصر والأعمى وهذا كقوله تعالى في آية أخرى :( وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ١٩وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ٢٠وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ٢١وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ٢٢إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ٢٣ ) ( فاطر ).
( كذلك زين للكافرين ما كانوا يعلمون ) كهذه الحال التي صاروا بها في ظلمات ليسوا بخارجين منها، لأنهم استمرواوا الظلام وألفوه، واستطابوا الإقامة فيه لا يخرجون مثل هذه الحال زين للكافرين ما كانوا يعلمونه من إنكار وبقاء في الباطل حتى حسبوا أن ما هم عليه، هو الحق الذي لا ياتيه الباطل.
وقوله تعالى :( زين ) بالبناء للمجهول للإشارة إلى أنهم لم يكن لهم من عقل أو فكر أو هداية إنما زين لهم باهوائهم وأوهامهم فضلوا ضلالا بعيدا و ( ما ) هنا موصول بمعنى الذي و ( كانوا ) دالة على استمرار عملهم وسيكون ما زينته لهم أوهامهم وبالا عليهم يوم القيامة.
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ).
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعارض، ويمكربه ويدبرله وللمؤمنين زعماء مكة وكبراؤها وذوو البيوتات الكبيرة فيها يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وضعفاء المؤمنين وكانوا هم الذين يدبرون ما يقال توهينا لأمر الدعوة وإدحاضا لقول الحق، ينسون ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أمانة قربته منهم، وجعلته الثقة فيهم ويقولون مرة كذاب ويقولون أملاه عليه قوم آخرون ويقولون ثالثة : إنه مسحور وما كان يدبر ذلك القول الا إذا كانوا بحكم وصفهم الجاهلي أشرافا وأكابر فبين تعالى أن ذلك شان أعداء النبوات ويكون أكابرهم مجرميهم ويمكرون بالنبي ومن معه ولذا قال تعالى :
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ).
الأكابر جمع اكبر : وهو الذي بلغ أعلى العلو في قومه على حسب مقياس العلو عندهم، وكذلك أي كالحال التي ترى من ذوي البيوتات في قومك جعلنا في كل قرية أي مدينة عظيمة أكابر مجرميها يمكرون ويدبرون وقوله تعالى ( أكابر مجرميها ) الظاهر منها أن ( أكابر ) مضافة إلى ( مجرميها ) أي صيرنا في كل قرية مجرميها ( ليمكروا فيها ) أي يدبرون ما يقاومون به الأنبياء ويعارضون ويكون المؤدى الذين يعارضون الأنبياء في القرى أي المدن هم الذين يمكرون المكر السيء فيها، وهذا كقول الله تعالى :( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ٣٤وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٣٥ ) ( سبأ ).
وإن مقياس الكبر عندهم هو النسب وكثرة المال والقوة الظاهرة، وليست الأخلاق الفاضلة والعقيدة السليمة والشرف الذاتي الذي لا يكتسب بالنسب، ولكن يكتسب بالخلال الكريمة الفاضلة.
ومعنى ( ليمكروا فيها ) أي ليدبروا الأمور العامة كما يحبون أي يسيطرون على الفكر العام، فلا يكون الرأي العام عندهم فاضلا وإنما يكون فاسدا أثيما.
( وما يمكرون الا بأنفسهم وما يشعرون ) أي إن عاقبة التدبير الفاسد الأثيم يعود عليهم بالوبال، لأنهم يريدون إعلاء الرذيلة بتدبيرهم وإنكار الحق بتفكيرهم، وشيوع الشرك بتقليدهم لآبائهم وإن ذلك يؤدي لا محالة الى الهلاك، ومصداق قوله تعالى :( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا١٦ ) ( الإسراء ) وهكذا لا يحيق المكر السيء الا بأهله وقد قال تعالى أيضا :( ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ٢٣ ) ( الزخرف ).
مكر هؤلاء أن يحرضوا على معارضة الرسول وان يلقنوا الناس ما يردون به على دعوة الحق التي جاء بها النذير من قبل الله تعالى، وان يزيدوا معارضة الحق أن يثبتوهم على الشرك.
( وما يمكرون الا بأنفسهم وما يشعرون ) لا يحيق المكر السيء إلا بأهله كما يكون ولذا قال سبحانه وتعالى :( وما يمكرون الا بأنفسهم ) أي أن مآل مكرهم عائد بالوبال عليهم وقد أكد سبحانه وتعالى أن مآل الوبال على أنفسهم لا على النذير الذي أنذرهم، أكد ذلك بالنفي ثم الإثبات وذلك فيه معنى القصر أي أن المكر في عاقبته لا يكون الا عليهم فهم في حقيقة الأمر يمكرون بأنفسهم لا بغيرهم.
وما يشعرون بتلك العاقبة لأنهم سادرون في غيهم لا يرشدون ولا يفكرون عميت عليهم أمورهم فلا يشعرون بمغبة ما يفعلون ولا بنتيجته وإنهم إذ يقاومون أمر الله ونهيه اللذين حملهما نبيه المرسل، يقاومون مالك كل شيء والعليم بعواقب الأمور.
وكان مكرهم بأنفسهم لأنهم يضللونها ويزيدونها ضلالا إذ إن كثرة التدبير للدفاع عن الضلال يزيد الضال ضلالا والخاسر خسارا وإن عاقبة كل ذلك عليهم إذ سينالون جزاء ذلك وسيحملون اوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بمكرهم وسوء تدبيرهم.
( وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) سمعوا القرآن الكريم وهو يتلو عليهم قصص النبيين وآياتهم التي أجراها الله تعالى على أيديهم من أخبار كسفينة نوح وإغراق قومه، وأخبار موسى، وتسع آيات بينات جاءت على يده، وأخبار شعيب وصالح ولوط وهود وما جرت من آيات حسية نزلت لهم ليؤمنوا ونزلت بهم إذ كفروا والمشركون متعنتون دائما ليسوا طلاب هداية ولكنهم طلاب إعنات وإرهاق ليبرروا جحودهم ومظهر إعناتهم أن يطلبوا آيات وحسبوا أو أظهروا أن آية القرآن وهو المعجزة الكبرى، لا تكفيهم١ وقد طلب منهم أن يأتوا بمثله فعجزوا وبدا عجزهم عيانا ومع ذلك أخذوا يمارون ويطلبون آيات أو تأتيهم آية مثل ما أوتي الرسل أنفسهم. ومع أنهم لم يؤمنوا بالقرآن ولم يعرفوا الرسل إلا عن طريقه طلبوا آيات كآيات الرسل الذين لم يؤمنوا بهم وقالوا ( لن نؤمن حتى نؤت مثل ما أوتي رسل الله ).
قال مؤكدين النفى ب ( لن ) بأنهم لا يؤمنون ( حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) أي حتى نؤتى من المعجزات مثل ما أوتي رسل الله.
أي أنهم إذا جاءتهم آية بينة تدل على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا مؤكدين النفى لن نؤمن حتى نؤتى الآيات التي أوتيها رسل الله تعالى أي حتى ينزل علينا كما نزل عليهم أو تكلمنا الملائكة كما كلموهم وجاء ذلك على لسان بعض المشركين الذين يمكرون في أم القرى وقد قال تعالى عنهم إنهم يريدون أن يكونوا كالرسل لهم صحف منشرة :( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ٥٢ ) ( المدثر ).
وروى أنه عندما دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه في مكة، وابلغهم أنه رسول من رب العالمين قال الوليد بن المغيرة : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا، وقال أبو جهل والله لا نرضى ولا نتبعه حتى يأتينا وحي كما يأتيه.
وهذا يدل على أنهم طلبوا ان يكونوا أنبياء مثل الأنبياء، ورسلا مثل الرسل قال هؤلاء المشركون إنهم لا يؤمنون إذ أنزل عليهم الذي ينزل على الرسل فبين الله تعالى أن هذه رسالة يختار الله تعالى لها من يشاء بحكمته وعلمه الذي أحاط بكل شيء فقال تعالت كلماته :
( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) الله ذو الجلال والإكرام والعلم والقدرة على كل شيء أعلم حيث يجعل رسالته وافعل التفضيل ليس على بابه وكذلك كل افعل تفضيل يوصف به الله تعالى لأنه لا توجد مفاضلة بينه وبين أحد من خلقه في أي وصف من الأوصاف ومعنى افعل التفضيل في العلم بالنسبة لله تعالى على هذا أن الله تعالى يعلم مواضع الرسالة علما ليس فوقه علم قط، لأنه علم الله العليم بما كان وما سيكون وما هو كائن إلى يوم الدين.
وقوله تعالى ( حيث يجعل رسالته ) ( حيث ) ظرف مكان، أي الموضع من خلقه الذي يرتضيه ويصطفيه رسولا فهو الذي يربيه على عينه، ويشب على التقوى والعفة والأمانة والخلق الكريم حتى صح له أن يقول :( أدبني ربي فأحسن تأديبي )٢.
وان ذلك لبين لهم لو كانوا لا يجحدون بالحق إذا بدت لهم بيناته وظهرت آياته ولقد كان من أوسطهم نسبا، فكان في الذؤابة من قريش٣ وكان أكرمهم خلقا وأطيبهم نفسا، وأعفهم وأشدهم أمانة، حتى كان يقال : الأمين وسموه بهذا الاسم فكانوا إذا أطلقوا كلمة ( الأمين ) لا تنصرف إلا اليه عليه الصلاة والسلام، وكانوا يرضون حكمه إذا جاء الأمر بالاحتكام فعندما اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود بعد أن بنوا الكعبة ارتضوا أن يكون الحكم أول من يدخل البيت فكان الأمين أول من دخل البيت فقالوا مطمئنين راضين هذا الأمين وطابت نفوسهم بحكمه.
فالله تعالى العليم الحكيم قد وضع رسالته في خيرهم بإقرارهم فكيف يمارون من بعد ذلك، ويقول قائلهم كبرا وعلوا في الأرض : أنا أولى ويقول آخر : نريد أن نؤتى مثل ما أوتي الرسل قالوا ذلك استكبارا فكان عقابهم صغارا وعذابا أليما ولذا قال تعالى :( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ).
الصغار : هو الضيم والذل والهوان، فقد كانوا الأكابر الذين أجرموا فكان العقاب الهوان وكان عقاب الإجرام الذي ارتكبوه واستمرؤوه وداوموا عليه العذاب الشديد.
وقوله تعالى :( سيصيب الذين أجرموا ) فيه ( السين ) لتأكيد الوقوع في المستقبل القريب، والتعبير بالموصول فيه فائدتان بيانيتان أولاهما : أنها تفيد أن الصلة هي سبب هذا العذاب الشديد والثانية : تسجيل الإجرام عليه وأنهم كانوا فيما يمكرون مجرمين ولم يكونوا اشرافا كراما كما هو شأن الأكابر الذين يستعلون بأنسابهم.
وقوله تعالى :( بما كانوا يمكرون ) أي بسبب مكرهم السيء، وهذا يفيد أن الكلام في موضع الأكابر المجرمين الذين ذكروا في الآية السابقة، ولذا قالوا إن الواو في قوله تعالى :( وإذا جاءتهم آية ) واو عاطفة على قوله تعالى :( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ).
اللهم أبعدنا عن الإجرام وأسبابه وعن الطغيان وبواعثه.
١ راجع كتاب (المعجزة الكبرى) للمؤلف طبعة دار الفكر العربي وقد نصح الإمام رحمه الله تعالى في المقدمة بقراءته كتقدمة لهذا التفسير..
٢ ذكره السيوطي في الجامع الصغير: (ج ١ ص ٢١.
٣ الذؤابة: الشعر المضفور واستعير هنا للدلالة على الصدارة وأنه كان موضع الشرف والتباهي فيهم. صلى الله عليه وسلم.
( فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٢٥ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ١٢٦ ).
بين الله تعالى في هذه الآية أن الناس صنفان صنف سلك طريق الهداية فهداه الله تعالى وشرح صدره للإسلام فدخله مطمئنا نير القلب وقسم قد كتب الله تعالى عليه الشقوة فضاق صدره ولم يدخل النور قلبه وهذا بعض ما يشير إليه النص السامي.
( فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ).
هذا قسم المهديين الذين كتبهم في عباده المؤمنين وإنه قد فهم القسمان فهما إجماليا من حال الجحود عند الوثنيين وتدبيرهم الأذى للمؤمنين ففهم أن هناك فريقين فريق اهتدى وآمن وفريق كفر وجحد وأنزل الأذى وفي هذا يبين الله كيف يدخل الايمان القلوب وكيف يكون الصد عن سبيل الله.
والفاء مترتبة على ما فهم من أن الناس فريقان فهي لبيان الحال النفسية، ولتفصيلها فمن يرد الله أن يهديه فالأمر أولا لهداية الله تعالى وإرادته وانه لا بد أن يكون من حال النفس ما يجعلها تتجه إلى الهداية فلا تكون معوجة بل تكون إرادة العبد مستقيمة خالصة نقية من الشوائب ويكون الاتجاه مستقيما فتكون إرادة للهداية ويريد سبحانه أن يهديه مع اختباره من غير إجباره، ( يشرح ) معناها يوسع لان معنى ( شرح ) في اللغة التوسعة والصدر القلب، وفي العبارة مجاز، شبه اتساع القلب للحقائق بالشرع الحسي، وكل تعبيرات القرآن عن المعاني النفسية بالألف الدالة على المحسوسات من قبيل المجاز يستعان به على بيان الأمور المعنوية وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم من عبد الله ابن مسعود قال : هل ينشرح الصدر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( نعم يدخل القلب نور ) فقال ابن مسعود : فهل لذلك من علامة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزول الموت )١.
وإن هذا يدل على أن شرح القلب يكون بتوسعة المدارك وفهم قيمة هذه الحياة الفانية، وإدراك أنها قنطرة للحياة الباقية، ومن غم عليه ذلك فهو من الفريق الثاني الذي قال الله تعالى فيه :
( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ).
ليس الإضلال من غير عمل من جانب من أراد الله تعالى إضلاله إنما يكون بعمل من جانبه قد كتبه الله تعالى عليه بأن تهوى نفسه في طريق الضلالة بالميل إليها والرغبة فيها والحرص على طريق يدفعه إليه الغرور ونسيان الآخرة وأن يعتقد أنه لا حياة إلا الدنيا وما فيها.
وإنه إذا سار على هذا النحو أراد الله تعالى له الضلال والكل بما كتبه الله تعالى عليه، وإنه أراد الله ضلاله على هذا النحو الذي بيناه جعل صدره ضيقا حرجا، أي أن قلبه لا يتسع لغير ما ختم عليه، كما قال تعالى :( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ٧ ) ( البقرة ) فالله تعالى يضيق صدره وفي هذا أيضا مجاز لأنه تشبيه للأمر المعنوي وهو الإعراض عن الحق، وابتعاده عنه بالضيق الحسي وإسناد الضيق إلى الصدر من ترشيح الاستعارة وتقويتها.
وقوله تعالى :( حرجا ) قرئ بالفتح٢ على أنه اسم جنس جمعي لحرجة وهي الأشجار الملتفة التي لا تسمح أن ترعى فيها راعية والحرجة هي الشجرة التي تكون مختفية بين الأشجار لا يصل إليها.
وقرئ ( حرجا ) بكسر الراء٣ بمعنى الضيق، وهي تأكيد للضيق أي ضيقا شديدا لا يمكن أن تدخله الهداية وعلى تفسير الحرج بالفتح على اسم جنس جمعي للحرجة قيل إن الإمام عمر رضي الله عنه هو صاحب هذا التفسير.
فقد روى أنه سأل رجلا من الأعراب من أهل البادية عن الحرجة. فقال هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء فقال عمر رضي الله عنه وكذلك قلب المنافق لا يصل إليه خير.
وعلى هذا التفسير يكون في الكلام تشبيه، أو استعارة وهو تشبيه قلب الكافر في أنه لا ينتفع به، ولا يصل اليه بالحرج، وهو الشجرالملتف الذي لا ترى الأرض من تحته ولا تصل إليه راعية، ولا وحشية ولا شيء، لأنه لا ينتفع به في شيء.
( كأنما يصعد في السماء ).
هذا تشبيه آخر للكافر، ( يصعد ) أصلها يتصعد، وقلب التاء صادا، وأدغمت الصاد في الصاد وقرئ يصاعد٤ واصله تصاعد وكان التصريف ما ذكرنا في يصعد وهما بمعنى واحد، وتزيد تصاعد على تصعد، في انها تدل على محاولة الصعود بعد الصعود وذلك أثقل.
والمعنى انه شبهت حال الكافر في جهده وثقل الإيمان عليه بمخالفته الفطرة بذلك، بحال من يحمل عبئا ثقيلا، ويرد ان يصاعد إلى السماء فينوء به حمله ولا يصل.
وإن ذلك يدل على أمرين : أولهما أنه مهما يكن الجحود فإن الفطرة تقاومه وتجعله عبثا ثقيلا، ومن يحارب الفطرة فإنه يبوء بخسران مبين.
ثانيهما : أنها تشير إلى أن الضيق الشديد الذي جعله الله تعالى في قلب الكافر يجعله غير قادر على الرقى على الحقائق السماوية التي جاء بها الإسلام.
( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ).
( كذلك ) الاشارة إلى حال المشركين التي أركسوا والتشبيه هو تشبيه الرجس الذي ينزل بهم، و ( الرجس ) أصل معناه الفتن أي الأمر القذر الذي تستقذره النفوس وتعافه وفيه بيان أن الكفر أمر قبيح تعافه العقول المستقيمة، وكيف تدرك العقول ان حجرا يصنع بأيديهم وهو لا يضر ولا ينفع يعبدونه.
والمعنى لهذه الحال التي رأيناها في الكافرين ووصف الله تعالى الكافرين بقوله :( الذين لا يؤمنون ) وذلك وصف لهم باقل أوصافهم وهو انهم لا يؤمنون النفى نفى المضارع وهو أنه يدل على الدوام المتجدد آنا بعد آن أي يتكرر بتكرار الآيات التي تزيدهم إلا كفرا.
١ مصنف ابن أبي شيبة (٣٠١٠٤) والحاكم في المستدرك (٧٩٣٥) ج ٤، ٣٤٦.
٢ (حرجا) بالفتح كلهم الا نافع وأبو جعفر وأبو بكر غاية الاختصار (٨٦٦).
٣ (حرجا)بكسر الراء نافع وابو جعفر وايو بكر البق.
٤ (يصاعد ) بتشديدالصاد وبالالف قراءة ابو بكر والمفضل عن عاصم وقراها '(يصعد) بالتخفيف ابن كثير وقرا الباقون بالتشديد بغير الف (يصعد) غاية الاختصار.
( وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ).
بعد أن بين الله تعالى شرح صدر المؤمن لنور الحق، وضيق صدر الكافر حتى لا يدخل النور قلبه، بعد ذلك بين الصراط المستقيم، والصراط هو الطريق والخط المستقيم.
والاشارة في قوله تعالى :( وهذا صراط ربك ) إشارة إلى ما أوحي للنبي صلى الله عليه وسلم مما نزل عليه من الدين والقرآن، وقال سبحانه وتعالى :( مستقيما ) وهي حال من اسم الإشارة وهو حكم من الله تعالى بأنه مستقيم لا عوج فيه، ولا التواء، والخط المستقيم يصل إلى الحق بأقل طريق وقال تعالى ان ذلك الحق واضح نير مسلوك ولذا قال تعالت كلماته :( قد فصلنا الآيات ) أي بينا الأدلة القائمة على صدقه، أو يراد من الآيات القرآنية أي بيناها ووضحناها لقوم يذكرون، من شانهم التذكر والإدراك السليم فلم يطمس على قلوبهم ولم تضيق عن الحق صدورهم والله تعالى يهدي من يشاء الى صراط مستقيم.
الجزاء
لهمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ١٢٧ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ١٢٨ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ١٢٩ ).
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى حال الناس في الدنيا بين مهدي كتبت له الهداية وبين شقي كتبت له الغواية وبين من هداه الله على الصراط المستقيم صراط الله، أخذ يبين سبحانه جزاء كل من الفريقين، وابتدا سبحانه بمن هداه الله تعالى إلى صراط العزيز الحميد فقال تعالى :
الضمير في ( لهم ) يعود على من فصل لهم الآيات فتذكرها اذ يقول سبحانه :( قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ) فقال سبحانه وتعالى :( لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ ) والسلام معناه الأمن، ودار السلام هي الجنة، وسميت دار السلام لأنها دار الأمن من الخوف فلا يخافون أحدا، ولا يحزنون على شيء فاتهم فيها، وهي دار إقامة وفيها النعيم المقيم، وغيرهم في العذاب وهم فيها يتمتعون بأمرين أولهما النعيم الدائم الذي لا يخافون فيه انقطاعا.
ثاني الأمرين أنهم يكونون عند ربهم فهم يلقون الله تعالى وهو وحده نعيم نفسي لا يعدله نعيم، وهو الذي ربهم في الدنيا ويربهم في الآخرة فهم في رحمته في الدنيا وقد قاموا بالشكر، وفي رحمته في الآخرة لاستحقاقهم الأجر، فالشكر منهم، والأجر من الله تعالى متقابلان وهما البيع الرابح.
وأكد الله تعالى الأمر الثاني وهو قربهم من الله تعالى فقال تعالى :
( وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ).
( الوالي ) الموالي والنصير، والحبيب، والله سبحانه وتعالى هو ذلك كله بالنسبة للمؤمن الطائع الذي سلك طريق الله تعالى المستقيم، وتذكر الله تعالى في الدنيا، في سره وجهره، في ظاهره وباطنه، فهو وليه إذ أخرجه من الظلمات إلى النور، وهو وليه إذ شرح قلبه للإسلام وهو وليه إذ وقاه الله تعالى ضر النفس بالانحراف والظلم، ثم هو وليه إذ لقيه في الآخرة ووقاه عذاب الجحيم.
وقد تكرم الله تعالى وهو مجرى النعم، بان جعل نعيم الجنة جزاء وهو المتفضل وله المن والفضل، فقال تعالى :( بما كانوا يعلمون ) أي أنهم استحقوا دار السلام عند ربهم وولايته بالذين عملوا في الدنيا وداوموا عليه، وكان يتجدد عملهم بتجدد شعورهم بنعمة الله تعالى عليهم، ذلك الفضل من الله، والله يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
( وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ).
بين الله الجزاء الخاص بالمؤمنين أولا، لأن بيان جزاء الطاعة أعظم أهميةمن جزاء العذاب، ولذا بينه سبحانه وتعالى أولا، لمكان التبشير والله تعالى قدم التبشير على الإنذار رجاء الطاعة.
وقال تعالى :( ويوم يحشرهم ) ( الواو ) تصل الكلام السابق بالكلام اللاحق، وإن ( الواو ) قد تكون عاطفة على ما فهم من الكلام السابق.
( ويوم ) مفعول متعلق بفعل معناه اذكر لهم يوم يحشرهم الله جميعا ويخاطبهم سبحانه بهذا الخطاب، ( يا معشر الجن قد استكثرتم ) والمراد والله أعلم قد شددتم في طلب الكثرة من الإنس لتضلوا فالسين والتاء للطلب، وخبر الله تعالى بطلب استكثارهم يدل على أنهم نالوا هذه الكثرة فاغووها كما قال تعالى في كتابه العزيز عن إبليس :( قال رب بما أغويتني لازينن لهم ما في الأرض ولأغوينهم أجمعين٣٩ غلا عبادك منهم مخلصين ٤٠ ) ( الحجر ).
وقال تعالى :( الم اعهد إليكم با بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين٦٠ وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ٦١ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ٦٢ ) ( يس ).
والجن هنا هم إبليس وجنده من الشياطين كما تدل على ذلك الآيات الكريمة وكما يدل على قسمه بان يغويهم أجمعين إلا عباده منهم المخلصين ولم يرد الجن، أو لم يذكر الله تعالى جوابا لهم، لأن ماضي قولهم يدل على فعلهم فلم يكن سبيل لأن يردوا وقد توعدوا المؤمنين وجاهروا بعصيان ربهم، فلم يبق الا أن ينالوا الجزاء راضين أو ساخطين ( وقال أولياؤهم من الإنس ) المغرورين لأنهم لم يكونوا قد رأوا العذاب بما ذكر سبحانه وتعالى بقوله :( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا ).
قالوا غير مدركين عاقبة أقوالهم ظانين أنهم في لهو كلهو الدنيا، أو لعب كلعبها، او قائلين بلسان الواقع الذي هم فيه، فهم قالوا بلسان الحال، لا بلسان المقال، وقد نطقت أيديهم وجوارحهم بما كانوا يفعلون، ( ربنا ) شاعرين بمعاني الربوبية الكاملة التي لم يشعروا بها في الدنيا ( استمتع بعضنا بعض ) أي انتفع بعضنا ببعض انتفاع متعة وبهجة، استمتعنا بإغرائهم فاجترفنا من اللذات، والشهوات، والأحقاد، والعداوات، ووجدوا هم متعة في إغرائنا، وإغوائنا وتلهينا، وتعابثنا، وكأنهم يجدون متعة في متعتنا ولذة في لذاتنا، كانت هذه حالهم، ونريد أن نذكر إشارة بيانية في التعبير بقوله :( ويوم يحشرهم جميعا ) فإن التعبير بالحشريشير الىامرين اولهما انه يجمعهم غير مختارين ولا مريدين وثانيهما أنه يشير إلى كثرتهم وأن الكثرة الكاثرة لم تمنعه تعالي من جمعهم وحسابهم ومؤاخذتهم على ما فعلوا ولقد قال تعالى في جزائهم.
( قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ ).
قال جل جلاله بلسان الفعل والمقال :( النار مثواكم ) أي محل إقامتكم الدائم الخالد الذي لا ينتهي فله ابتداء، وليس له انتهاء، و ( المثوى ) اسم مكان من مثوى بمعنى أقام إقامة دائمة لا يخرج منها مختار فالغالب فيها الإقامة الاختيارية وقد عبر بها هنا تهكما عليهم كأنهم اختاروا بأفعالهم اذ قد اختاروا أسبابها ومن اختار بابا فقد اختار الدخول فيه، وإن التعبير ب ( خالدين ) يدل على البقاء الدائم بمشيئة الله تعالى الخالدة وبإنذاره بذلك في عدة من آياته.
ولكنه قال سبحانه وتعالى مستثنيا :( الا ما شاء الله ) فهل هذا الاستثناء يدل على أن النار لها نهاية، تنتهي بمشيئة الله تعالى وأنه لا خلود فيها ؟ وكذا قال بعض العلماء ونسب هذا القول إلى ابن تيمية وقرره ابن القيم في كتابه حادي الأرواح.
ونحن نرى أنه قول يناقض الآيات الكثيرة الواردة في خلود الجنة وخلود النار، وأن الحياة الآخرة ليست على فناء وإنما هي دار بقاء ولا دار بعدها ينتقل إليها الناس والنبي صلى اله عليه وسلم في خطبته التي أنذر فيها عشيرته الأقربين وصدع فيها بأمر ربه قال :( إنها الجنة أو النار ابدا واني لنذير لكم بين يدي عذاب شديد )١ وان الله تعالى يقرر الخلود ولا يترك أجسامهم تبلى من العذاب إذ يقول تعالت كلماته :(... كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب... ٥٦ ) ( النساء ).
وقوله تعالى :( إلا ما شاء الله ) لا يدل على أنه عذاب غير ابدي، لأنه صرح في النص بأنهم خالدون فيها، ولأنه صرح سبحانه وتعالى بكلمة أبدا في كثير من آياته فيقول سبحانه :( خالدين فيها أبدا... ٢٢ ) ( التوبة ) ولأن كلمة ( إلا ما شاء ) تدل أن الأمر إلى مشيئته عذابا وغفرانا، وأنه شاء العذاب وأنه : توعد بالتأبيد وهو لا يخلف الميعاد وذكر المشيئة هنا للدلالة على انه شاء ذلك وأنه يمكن أن يشاء غير ذلك، ولقد قال الزمخشري امام البيان في ذلك :( يخلدون فيها في عذاب النار الأبد كله إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار على اذاب الزمهرير، فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاونون ويطلبون الرد الى الجحيم، أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بوتره، ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب أن ينفس من خناقه أهلكني الله ان نفست عنك إلا إذا شئت وقد علم الله أنه لا يريد الا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله : الا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكمه بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع ).
هذا تخريج حسن في الثاني لا في الأول، لأن الأول يفيد أن ثمة عقابا بالبرد الشديد.
والذي نراه ما قلناه من قبل وهو بيان أن العذاب بمشيئته سبحانه وتعالى وإنه إن شاء رفعه ولكن لم يشأ فبقي الخلود على مدلوله.
ولا يقال إن مشيئة الله تعالى في عدم التخليد تتحقق في عصاة المسلمين إذ عقابهم على سيئاتهم وما يفعلوا من خير فلن يكفروه، ويرد هذا أن الكلام في الكافرين بدليل وصف الخلود إذ يقول سبحانه خالدين فيها.
ومن الغريب أن ابن القيم الذي ساق الادلة غير الصحيحة في أن العذاب غير دائم قال عن نعيم الجنة دائم وأنه لا مرية فيه، مع أنه جاء في سورة ( هود ) الآية الخاصة بنعيم الجنة والاستثناء بالمشيئة أيضا فقد قال تعالى :( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ١٠٨ ) ( هود ).
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى :
( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ).
ختم هذه الآية الكريمة بذلك الكلام وهو يؤيد مشيئة الله المطلقة التي دل عليها الاستثناء ( إلا ما شاء ) فإن مشيئة الله تعالى تسير على مقتضى ربوبيته ربت الإنسان وأتمت عليه بالنعمة، وحكمته التي تقدر الأمور والأشياء والأشخاص وأنه ما خلق هذا الوجود عبثا، كما قال تعالى :( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لاترجعون ١١٥ ) ( المؤمنون ) وان تدبيره للوجود بمقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء تعالى الله علوا كبيرا وتنزهت ذاته وعلت حكمته وسع كل شيء علما.
١ سبق تخريجه..
( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ).
إن الولاء يصلح، ويفسد، فإذا كان الولى صالحا صلح به من والاه، وإذا كان فاسدا أفسد من والاه وقوله تعالى :( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ).
التشبيه فيه هو تشبيه حال الناس في تأثير بعضهم في بعض بالفساد بحال تولى شياطين الجن أو شياطين الإنس يغرونهم بالفساد، ويحسب أولئك أنهم يستمتعون أو يستمتع بعضهم ببعض وكلمة ( نولي ) ما المراد منها أهي الولاية بمعنى السلطان ويكون المعنى وكذلك نجعل بعض الظالمين ولاة على ظالمين مثلهم فيفسد الأمر ويضطرب الحال، ويكون الفساد في الأرض بدل الصلاح، فيها وهذا يفيد أن ظلم الولاة يكون بسبب ظلم الرعية فيما بينها كما روى ( كيفما تكونوا يولى عليكم )١ وان فساد الرعية يؤدى على ألا يحكمها إلا راع ظالم، فإنهم يتعاونون على الظلم والعدوان ولا يتعاونون على البر والتقوى، وإن الوالي الظالم يجد العون على ظلمه من الرعية نفسها وهذا منهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم ( من أعان ظلما سلط الله تعالى عليه ظلما ) ٢ وقد رأينا ذلك، وإنه كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منع ظلم الرعية ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ك ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم ) ٣.
ووجه الشبه في الظلم بين الراعي والرعية بالتولي بين الجن والإنس بإغراء الأولين وتلقي الآخرين وان كليهما ظالم.
هذا إذا فسرنا التولية بمعنى السلطان سلطان الظالم من الحكام على الرعية الظالمة الفاسدة ويرشح لهذا معنى قوله تعالى :( بما كانوا يكسبون ) أي بما كانت الرعية تكسب من ظلم في نفسها وظلم في معاملاتها وفساد فيما بينهم يفسدون ولا يصلحون فيجيء حكام على شاكلتهم فيتشاكلون فيما بينهم يحكمون بمثل أخلاقهم.
وقد يكون معنى تولية الظالمين بعضهم بعضا، بمعنى الولاء النفسي والتشاكل الخلقي، فكما أن الإغراء يكون من الجن للإنسان فكذلك يكون الإغراء بالشر بوسوسة الولي لوليه كالصديق للصديق وإن الأولياء الظالمين يسرى بينهم الظلم سريان المرض بين المرضى فإن السلامة لا تنتقل بالعدوى ولكن العدوى تنتقل من المرضى ومثل الظالمين كمثل المرضى يسري الظلم فيهم، فيتظالمون ويتبادلون الظلم ويسري من بعضهم إلى بعض.
وعند أن الآية الكريمة تحتمل التخريجين ولا مانع من الجمع بينهما والتشابه قائم في الحالين.
١ جاء في كشف الخفا: ج٢ ص ١٨٤ بلفظ (كما تكونوا يولي عليكم) وقال في الأصل رواه الحاكم ومن طريق الديلمي عن أبي بكرة مرفوعا، وأخرجه البيهقي بلفظ ك (يؤمر عليكم) وذكر أيضا أنه رواه الطبراني..
٢ رواه ابن عساكر في تاريخه عن ابن مسعود رضي الله عنه رفعه وفيه ابن زكريا العدوي متهم بالوضع كما في المقاصد وراجع أيضا: كشف الخفا ج٢ ص ٣١٥.
٣ رواه أبو داود: (الملاحم الأمر والنهي (٤٣٣٦) كما رواه الترمذي أحمد وابن ماجه بنحوه..
( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ١٣٠ ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ١٣١ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ١٣٢ ).
بعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى يكشف يوم الحشر استغواء الجن لأوليائهم من الإنس واستكثارهم من ذلك، وشعور الإنس بأنهم انتفعوا انتفاع متعة لا انتفاع مصلحة بعد ذلك بين تقصيرهم جميعا وأنهم مخاطبون جميعا بهذا التقصير وأنهم خوطبوا جميعا بالرسل فما استجابوا للحق فقال تعالى :
( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا ).
( المعشر ) الجماعة العامة يا جماعة الإنس والجن ألم يأتيكم رسل منكم، والخطاب للجن والإنس معا، وقدم الجن : لأنهم الذين كان منهم الاستغواء، والإنس استجابوا لاستغوائهم فهم أساس الشر اذ هم الذين وسوسوا بالشر، وهم الذين دعوا إليه وأغووا به، ولذا قدموا عند اللوم على إهمال دعوة الرسل، أولا، والإنس كان لومهم لأنهم أطاعوا فالمضل منزلته في الضلال أقوى من منزلة من استجاب للتضليل اختيارا وقوله تعالى :( ألم ياتيكم رسل منكم ) فيه استفهام إنكاري لإنكار الوقوع وفيه معنى التوبيخ والتأكيد والمعنى قد أتتكم رسل منكم.
والرسل أهم من الإنس والجن أم من الإنس فقط ؟ والأكثرون على أنهم من الإنس فقط أولا لأن الله تعالى لم يذكر رسلا من الجن قط، ولو كان منهم رسل لذكرهم وثانيا، لأن إرسال الرسل كان لما صنعه إبليس مع آدم إذ وسوس له ان يأكل من الشجرة فكان الهبوط وكانت الهداية بالرسل لقوله تعالى :( فاما يأتيكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( البقرة ) وثالثا : أنه جاء النص بان الرسل ذوو الكتب المنزلة وجاء على لسان الجن أنهم خوطبوا بما جاءوا به فقد قا ل تعالى عنهم :( إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي على الحق والى طريق المستقيم ٣٠ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ويغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ٣١ ومن لا يجيب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ٣٢ ) ( الأحقاف ) ورابعا : أن الله تعالى ذكر الأنبياء وكلهم من الإنس فذكر أعدادا كبيرة، ثم قال تعالى :( منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ٧٨ ) ( غافر ) ولم يذكر ولا بالإشارة أن في الجن رسلا أرسلهم.
لهذا رجح الأكثرون أو اختاروا أن الرسل ليسوا من الجن ولكن قال بعض العلماء إنه كان من الجن رسل أخذها من هذه الآية وهي قوله تعالى :( ألم يأتيكم رسل منكم ) فالتعبير يشير على أن من الجن رسلا لأن الرسل من الفريقين ولأن قوله تعالى ( منكم ) قريب من قوله تعالى :( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ١٢٨ ) ( التوبة ).
وقد أجيب عن ذلك بأن هذا لا يقتضي أن يكون من كل فريق رسول، بل إن الظاهر أن يكون الرسول من جماعة الجن والإنس معا، وبذلك يسوغ أن يكون من أحدهما دون الآخرين ما دام ينطبق عليه أنه من جماعة الإنس والجن فهما جماعة المكلفين وضربوا لذلك مثلا قوله تعالى :( مرج البحرين يلتقيان ١٩ بينهما برزخ لا يبغيان ٢٠ فبأي آلاء ربكما تكذبان ٢١ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ٢٢ ) ( الرحمان ) فذكر سبحانه أنه يخرج من البحرين اللؤلؤ والمرجان مع أنه لا يخرج من الماء العذب اللؤلؤ والمرجان بل يخرجان فقط من الماء والملح ولكن عبر عنهما بقوله تعالى ( مهما ) لأنه ذكر البحرين وهو يخرج منهما وإن كان لا يخرج إلا من احدهما.
وإن أولئك الرسل يقصون آيات الله تعالى الدالة على الوحدانية وأنه قادر على كل شيء ولذا قال تعالى :( يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) ( يقصون ) من القصص أو قص الأثر والآية الكريمة تحتملهما والمعنى على الأول يذكرون لكم آياتي التي جاءت على أيدي الأنبياء السابقين فكل رسول يتقدم بالآيات التي أجراها الله تعالى على يديه ويذكر آيات من سبقوه من الرسل السابقين له فمحمد صلى الله عليه وسلم تقدم بالمعجزة الكبرى وهي القرآن وكان معه آيات آخر من خوارق العادات وإن لم يتحد بها، وذكر الآيات التي جرت على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وابراء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى على آخر ما جاء في القرآن الكريم من آياته وذكر في القرآن معجزات موسى عليه السلام من العصا، وفلق البحر وانفجار الماء من الأحجار وغير ذلك من المعجزات الباهرات الدالة على رسالة الله تعالى وعلى قدرته القاهرة، وآياته الباهرة.
فالأنبياء قصوا آيات الأنبياء قصوها في مجموعهم لا في آحادهم وبذلك كانت الآيات بين يدي الجن والإنس معلومة ظاهرة بينة تدعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وتنذرهم بلقاء ربهم في ذلك اليوم فلم يتعظوا ولم يعتبروا وكان ذلك اللقاء الذي وراء الحساب والعقاب.
هذااذا خرجنا كلمة ( يقصون عليكم آياتي ) على معنى القصص وإذا خرجناها على معنى قص الأثر، أي تتبع الأثر واستدل يكون المعنى في نظرنا أن الرسل عليهم السلام يتتبعون آيات الله في الكون من سماء ذات أبراج وارض ذات جبال وماء ينزل من السماء إلى الأرض فينبت كل شيء ويكون منه كل شيء حي، ورياح تجري بإذن الله، وسحاب مسخر بين السماء والأرض وغير ذلك من آيات الله قص رسل الله تلك الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى أولا، وعلى قدرته القاهرة التي تقدر على الإعادة كما قدرت على الإنشاء وكما قال تعالى :( كما بدأكم تعودون٢٩ ) ( الأعراف ). وإنه من بعد ذلك كان الإنذار باللقاء والإنذار باللقاء ليس بذات اللقاء، ولكن بما وراءه من حساب وعقاب، ودخول جهنم والعياذ بالله من نارها وشرها.
هذا ما نراه في معنى القص، ونرى أن الآية تحتمل المعنيين ولا مانع من الجمع بينهما بأن يكون المعنى ذكر قصص آيات النبيين التي جرت على أيديهم وتتبع الأنبياء لآيات الله في الكون الدالة على وحدانيته وكمال قدرته هذا ما يقوله الله تعالى للجن والإنس في ذلك المشهد الرهيب فبماذا يجيبون ؟.
( قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ).
ومعنى ( شهدنا ) أقررنا فإن الشهادة تكون بمعنى الإقرار وبمعنى الإثبات وبمعنى الحكم وهي هنا بمعنى الإقرار المبني على المعاينة والرؤية فهو إقرار مؤكد بالمعاينة والمشاهدة لا بمجرد الإخبار عن أمر مغيب، وأكدوا الإقرار بأنه على أنفسهم وهذا الإقرار موضوعه أن الرسل قد أتوا إليهم، وأشارت الآية على أنهم شهدوا على أنفسهم بمجيء الأنبياء ولم يؤمنوا بهم، ولم يصدقوهم، أشار سبحانه إلى السبب في عدم صدقهم فقال تعالت كلماته :( وغرتهم الحياة الدنيا ) أي غرهم ما فيها من متع تسلط بها الجن على الإنس فضلوا وأضلوا ولذا قال سبحانه بعد ذلك عنهم :
( وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ).
كانت الشهادة الأولى على أنفسهم بأنهم جاءتهم الرسل ثم ذكر ما يشير بأنهم لم يؤمنوا بالرسل، اذ غرتهم الحياة الدنيا فدلاهم بغرورها ( واستجابوا لغواية الأبالسة ) ولذا كان تكرار الشهادة والإقرار وإذا كانت الشهادة الأولى إقرارا بان الرسل دعتهم الى الحق فالشهادة الثانية إقرار بأنهم دعوا إلى الحق، وكفروا به، ولذلك قال تعالى :( وشهد واعلى أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) وهي إقرار على أنفسهم بالكفر وهي شهادة تنطق بها ألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم، كما قال تعالى في آية أخرى :( يوم تشهد عليهم ألسنتهم ٢٤ ) ( النور ).
ولقد اعترض بأنه ذكر أنهم يكونون في حال فتنة، ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين وقد أجيب عن ذلك بجوابين :
أولهما : أنهم كانوا في اضطراب من هول الموقف، فمرة ينكرون وذلك بسبب ما فتنوا به، وما أخذت به نفوسهم المضطربة الحائرة.
وثانيهما : أنهم في حال الإنكار كانوا في اضطراب ولم يكن كشف لهم المكتوب عليهم، والمسجل عليهم في كتابهم فقد كتب عملهم في سجل كمن يكون في حساب وتحقيق في القضاء فينكر ابتداء فإذا عرض عليه فعله المسجل اضطر على الإقرار لأنه يحس بأنه لا مناص من أن يقر والله أعلم بما يكون في يوم القيامة.
( ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ).
( ذلك ) الإشارة إلى إرسال الرسل، وقصهم للبينات وآيات الله وذكر يوم القيامة كل هذا ليكون نذيرا لأهل القرى حتى يهلكهم الله تعالى بظلمهم وهم غافلون والقرى المدائن الكبيرة، وقيل : إن الإشارة إلى شهادتهم على أنفسهم بمجيء الرسل وشهادتهم على أنفسهم بأنهم كفروا بهم، فإذا كان قد ثبت ما ارتكبوا من جرائم وذنوب ثبت بإقرارهم فالحجة قد قامت عليهم فلا ظلم ولا شبه ظلم.
وهنا إشارتان بيانيتان.
إحداهما : أن الله تعالى ذكر هلاك القرى والهلاك نازل على أهلها ولكنه ذكر القرى وحذف الأهل للإشارة إلى عمومه وشدته وأنه لا قبل لهم به.
الثانية : أنه نص على المحذوف في قوله :( وأهلها غافلون ) فكان المحذوف هنالك مذكورا هنا، ونفى الله تعالى الغفلة عنهم عند نزول الهلاك بهم اذ أنذروا بالرسل والآيات كما قال تعالى :( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ١٥ ) ( الإسراء ) وكما قال تعالى :( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ٢٤ ) ( فاطر ) وقال تعالى عن أخبار جهنم :( كلما ألقي فيها فرج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ٨ قالوا بلى قد جاءنانذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ان أنتم إلا في ضلال كبير٩ )( الملك ).
وقد نفى الله تعالى أن يهلك القرى قبل الإنذار، بقوله تعالى :( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى ) نفى سبحانه وتعالى عنه وصف الإهلاك باسم الفاعل من غير إنذار تأكيدا للنفي ومنعا للظلم.
وقوله تعالى ( ذلك أن لم يكن ) ( أن ) مخففة من الثقيلة وهنا ضمير محذوف هو ضمير الشأن والمعنى أنه ليس من شان ربك أن يكون مهلكا للقرى.
والظلم المنفى أهو نفى الظلم عن الله أي أن الله تعالى لا يهلك القرى وأهلها غافلون لهم بعدم الإنذار الإنذار، كقوله تعالى :( وما أنا بظلام للعبيد ٢٩ ) ( ق )وكقوله تعالى :( إن الله لا يظلم الناس شيئا ٤٤ ) ( يونس ) أي أن الله سبحانه وتعالى مهلك قرى المشركين ولكي يكون الهلاك عدلا لا ظلما كان الإنذار.
وهناك تخريج آخر ذكره ابن جرير، وهو الظلم منهم، والمعنى أنه ما كان ربك مهلك القرى بظلمهم وإشراكهم وهم لم ينبهوا بمنع ذلك الظلم.
وقوله ( وأهلها غافلون ) حال من القرى والمعنى ما كان الله ليهلكهم حتى ينذروا ويبين لهم الحق حتى يهتدوا عن بينة أو يضلوا عن بينة والله الهادي إلى سواء السبيل.
( ولكل درجات مما عملوا ).
ولكل من المكلفين درجات في القيام بما كلفوه من أعمال، فمنهم من يحسن ويبلغ أقصى درجات التقوى فيكون له في الجنة على مقدار ما فعل ومنهم من يفعل دون ذلك فليغفر الله تعالى ما شاء أن يغفر ورحمته سبحانه وتعالى قد سبقت غضبه وعذابه فيعطي بمقدار ما عمل وكذلك العصاة درجات فمن أطاع الكبراء له عذاب يناسب طاعتهم أي أن الطاعة لها مراتب، والعصيان له دركات والمنافقون في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى :( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ١٨ ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ١٩ ) ( الأحقاف ).
ويكون المعنى على الدرجات في الخير والشر وأهل الخير درجات وأهل الشر دركات متفاوتة على مقدار شرهم وان كانوا جميعا منغمرين فيه، كما قال تعالى، ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون٨٨ ) ( النحل ).
وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الدرجات في العذاب فقط، لأن الآيات في تهديد الكافرين وإنذارهم لا في جزاء المؤمنين ودرجاتهم.
وعندي أن الآية فيها تبشير للمؤمنين وأنهم درجات وإنذار للكافرين وإنهم في دركات جهنم طبقات والآية الكريمة تفيد أن الدرجات مما عملوا أي مأخوذة من أعمالهم فإن كانت خيرا فخير، وإن كانت شرا فشر، فهي مشتقة منها، ومن جنسها
( وما ربك بغافل عما يعملون ).
إن هذه الأعمال يعلمها الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فهو جزاء لما يعملون جزاء من يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه بشيء ولذا قال تعالت كلماته :( وما ربك بغافل عما يعلمون ) عبر سبحانه وتعالى بنفي الغفلة عنه سبحانه وتعالىنفيا مؤكدابمؤكدات ثلا ث اولها التعبير بالجملة الاسمية وثانيها دخول ( الباء ) التي تدل على استغراق النفي ثالثها : التعبير ب ( ربك ) لأن الرب هو الذي رب النفوس والأخلاق فهو أعلم الوجود بها، وأخبرهم بأحوالها فجزاؤه جزاء من يضع العقاب في موضعه والثواب في مكانه.
( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ١٣٣ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ١٣٤ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ١٣٥ ).
إن الله سبحانه وتعالى أشار على أن الكافرين يجحدون وقد قامت الآيات حجة عليهم تدعوهم الى الوحدانية وأنه لا يعبد الا الله وثبت أنهم يعاندون ويردون الآيات ويكذبون رسل الله سبحانه وتعالى وقد أوتوا بالبينات من ربهم وما من نبي الا أوتي ما مثله آمن عليه البشر. وفي هذه الآية الكريمة بين سبحانه وتعالى أن الله غني عن العباد فلا يستفيد من عبادتهم عن عبدوه مخلصين ولا ضير عليه من كفرهم إن كفروا ولكن الله تعالى برحمته بهم، يريد لهم الحق، ولا يرضى لعباده الكفر ولذا قال تعالى :
( وربك الغني ذو الرحمة ).
( الواو ) عاطفة عطفت هذه الجملة على ما قبلها وصدرها بقوله تعالت كلماته :( وربك ) أي خالقك ومربيك وقد تولاك بربوبيته كما تولى الوجود كله بربوبيته وهذا ترشيح لمعنى أن الغنى من لا يحتاج فيكون في غناء عن غيره، ومن هو قائم على الوجود لا يحتاج لأحد في الوجود وقد ذكر الله تعالى أنه الغني، وحده فكل من في الوجود يحتاج لغيره والله تعالى لا يحتاج الى أحد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقد عرف الله سبحانه وتعالى الطرفين في قوله تعالى :( وربك الغني ) وتعريف الطرفين يدل على القصر أي لا غنى في الوجود سواه، كما قال تعالى :( يا ايها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هوا لغني الحميد١٥ ) ( فاطر ).
ووصف الله سبحانه وتعالى بعد تأكيد أنه الغني وحده، وان كل من في الوجود فقراء إليه، بأنه ذو الرحمة أي انه صاحب الرحمة وحده، و ( ذو ) بمعنى صاحب فهو الرحيم رحمة مطلقة بعباده ورحمة غيره رحمة نسبية تليق بالمخلوقات أما الله تعالى فرحمته واسعة وسعت كل شيء، خلق الكون والناس برحمته وخلق العقلاء وكفلهم برحمته وأنزل من السحاب ماء مدرارا برحمته، وخلق من الماء كل شيء حي برحمته وجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا برحمته وخلق الموت والحياة برحمته وخلق البعث والنشور برحمته، وأنشأ السمع والأبصار والأفئدة برحمته.
فإذا كان هو الغني وحده فهو الرحمان الرحيم، والقادر على كل شيء ولذا قال تأكيد لقدرته وفقر العباد إليه.
( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء ).
إن الذين يعاندون الله تعالى، ويحادون الرسول ومن اتبعه من المؤمنين ويحادون الله بمحادة عباده المؤمنين، الله لا يحاده شيء في الوجود فانه ( إن يشأ يذهبكم ) لا تكونون في الوجود وذلك بإماتتكم أو إفنائكم ( ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) من الخلق ومعنى ( يستخلف ) يكون خلفا لكم في الأرض ما يشاء من عباده وجاء الكلام للدلالة على العموم والمعنى أنكم وجدتم بمشيئته الله، ويذهبكم بمشيئته ويجعل خلفا لكم ما يشاء فانتم في حياتكم ومماتكم، وحياة من بعدكم ومماته بمشيئته سبحانه وهذا كما قال تعالى :( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ٣٨ ) ( محمد ) وكما قال تعالى :( ان يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين... ١٣٣ ) ( النساء ) وقد أقام سبحانه الدليل على الإذهاب والاستخلاف بحالهم هم، فقال تعالى :
( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) :
أي أنتم لستم أول المخلوقين ولا آخرهم فقد كنتم ذرية لمن سبقوكم، وهم قوم آخرون وستكون من بعدكم ذرية وقوله تعالى :( كما أنشاكم من ذرية قوم آخرين ) تشبيه لحال الذين يخلفونهم بحالهم، فهو قياس حالهم على حال من يجيئون بعدهم فإذا كنتم قد نشاتم من ذرية سبقوكم، فمن يخلفونكم ينشئون من ذريتكم. والخلاصة : الله غني عنكم وهو يرحمكم والوجود يتوالد بعضه من بعض بقدرة الله تعالى والأجيال متعاقبة فإن كنتم جيلا كافرا سيجيء من بعدكم جيل مؤمن والله على كل شيء قدير.
( ان ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ).
إن أشد إنكارهم كان في البعث وكان هو العجب الغريب عليهم فقد كانوا يعتقدون أن الله خالق كل شيء وأنه ليس كمثله شيء ولكن يعبدون ما يعبدون من الأوثان ليقربوهم على الله زلفى في زعمهم وما كانوا يؤمنون بالبعث ولا في الجزاء بعده :( وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا ائنا لفي خلق جديد٥ ) ( الرعد ).
وان البعث يكون بعده الحشر والحساب ثم العقاب أو الثواب وقد ذكرهم الله تعالى بالبعث بذكر ما يكون فيه مما وعد الله تعالى به، وأوعد وقد ذكر آخر ما يكون فيه وهو العقاب على كفرهم والثواب لغيرهم فقال تعالى :( إن ما توعدون لآت ) ( ما ) هنا اسم موصول بمعنى الذي وقد حذف الضمير من الصلة والمعنى إن الذي توعدونه لآت فأكد الله سبحانه وتعالى إثبات ذلك الذي أوعدوا به ب ( إن ) وبالجملة الاسمية وباللام في قوله تعالت كلماته ( لآت ) وكان الكلام بالبناء للمجهول لمزيد التهديد بإبهام الوعيد وعدم ذكره ليذهب فيه العقل كل مذهب وبعدم ذكر ما أوعد وهو معلوم ليزدادوا خوفا فيضعفوا عن المقاومة ويؤمن من كتب الله تعالى الإيمان له ويستمر في غيه من كتب الله العقاب له.
وإن الله تعالى قادر على كل شيء فهو قادر على إعادتهم كما هو قادر على إنزال العقاب بهم، ولذا قال تعال ( وما أنتم بمعجزين ) نفى الله تعالى قدرتهم على إعجاز الله تعالى عن الإعادة فإنه قادر عليها كما قال تعالى :( كما بدأكم تعودون ٢٩ فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة٣٠ ) ( الأعراف ). وكما قال تعالى :( كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ٥٠أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا٥١ ) ( الإسراء ).
ونفى سبحانه وتعالى قدرتهم على الامتناع عن عقابه فهو مالك يوم الدين، وهو المسيطر وحده :(.. لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ١٦ ) ( غافر ).
وهنا في قوله تعالى :( وما انتم بمعجزين ) إشارات بيانية :
أولاهما : في النفي توكيد فقد أكده بذكرهم وخطابهم وبذكر الضمير ( انتم ) وباستغراق النفي بذكر ( الباء ) وبان النفي منصب عليهم، أي ليس من شانهم أن يعجزوا لأنهم ضعفاء والضعيف لا يعجز أحدا كما قال تعالى :(... وخلق الإنسان ضعيفا ٢٨ ) ( النساء ).
الإشارة الثانية : انه لم يذكر في النفي من يعجزونه، فلم يذكر الله تعالى إعلاء لاسمه الكريم عن أن يكون مظنة عجز أو أن يعجزه أحد، إذ إعجازه مستحيل ونفى أمر هو مستحيل في ذاته غير سائغ في سنة البيان.
الثالثة : نفى عموم الإعجاز من أي نوع هو، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى وما أنتم بمعجزين )١.
١ رواه ابن أبي حاتم وخرجه الحافظ العراقي: الإحياء: ج٤ ص ٤٣٧.
وإنهم يستمرون في طريقتهم من معاندة محمد صلى الله عليه وسلم وجحودهم وإيذائهم له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه الذين اتبعوه مخلصين مسلمين وجوههم لله تعالى وقد هددهم سبحانه وتعالى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم أمر تهديد لقوله :( قل يا قوم اعلموا على مكانتكم إني عامل ).
وقد أمر الله تعالى نبيه الأمين أن يتولى هو القول التهديدي وهو اعملوا على مكانتكم والمكانة : الطريقة أو الأمر الذي مكنوا منه، والأمر هنا التهديد بالإشارة إلى عاقبة ما يفعلون كقول النبي صلى الله عليه وسلم :( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )٢ فالأمر ( اصنع ) للتهديد بان يفعل متحملا تبعة ما يفعل ونتيجته فان كنتم تزعمون أنكم على حق فاعملوا وسترون العاقبة واني عامل على ما أدعو إليه، وهو الحق الذي لا ريب فيه، ولكل وجهةهوموليها فكونوا كما تريدون لأنفسكم.
وإنه في هذا المقام المهدد المنذر الذي يحملهم الله سوء ما يعملون يأمر نبيه بأن يناديهم نداء يقربهم ولا يبعدهم ويدنيهم ولا يجافيهم فقال تعالى :( قل يا قوم ) فأمره تعالى بأن يناديهم بما يربطه بهم، وهو أنهم قومه الذين تربطهم رابطة النسب فيحب خيرهم وإنهم إن كذب الناس جميعا لا يكذبهم فهو يناديهم بنداء المحب الذي لا يعادي ولكن ذكرهم بالحقائق التي لا تقبل مداجاة٣ ولا مواربة، وكأنه اذ يحملهم تبعة ما يعملون لا يبعد عنهم بل يدنيهم ليهديهم فالهادي لا بد أن يكون قريبا من أنفس من يتصدى لهدايتهم ولقد ذكر من بعد ما يشير إلى العاقبة وأنهم سيعلمونها علم البيان فقال :( فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ).
( الفاء ) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، و ( سوف ) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل أي سوف يعلمون بالعيان لا بالخبر من له عاقبة الدار و ( العاقبة ) النهاية التي تعقب ما يسبقها من أسباب تؤدى إليها، و ( عاقبة الدار ) المراد بها نهاية هذه الدار وعاقبتها تكون لمن والدار هنا قد ترادبها مكة وما حولها مما يسيطرون عليه اوالبلاد العربية أو الدار الدنيوية على العموم.
أي سوف تعلمون من تكون له في النهاية وفي عاقبة الأعمال الدار والسلطان فالمراد من تكون له العاقبة في الدار والسلطان وينصره الله تعالى حيث يكون لأهل الحق السلطان.
ويصح أن يراد الآخرة وعندي أنه يراد الداران أما الدار الآخرة، فأمرها الى الله تعالى وقد أشار سبحانه وتعالى أن النعيم المقيم يكون للمؤمنين والجحيم يكون للكافرين.
وأما في الدنيا، وهذه الآيات قد نزلت بمكة فانه قد آل أمر البلاد العربية من اليمن إلى حدود الشام إلى المؤمنين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصارت الكلمة للمؤمنين وحقت كلمة الله تعالى :( إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ٥١ يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ٥٢ ) ( غافر ) وقال تعالى :( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ٢١ ) ( المجادلة ).
هذه عاقبة الدار في الدنيا والآخرة ولقد ختم الله تعالى الآيات بقوله :( إنه لا يفلح الظالمون ).
تحريم ما أحل الله
الضمير ضمير الشأن أي عن الله والشأن وسنة الله تعالى في خلقه لا يفلح الظالمون أي لا يفوز الظالمون والتعبير بالوصف يشيرالى أن الظلم هو سبب الخسران و‘إنه وإن بدا الظلم قويا غالبا فائزا فإلى حين، والعاقبة للعادلين المنصفين المقيمين للحق، وللظلم صور شتى : ظلم في العقيدة وظلم في العمل وظلم في الحكم وظلم في المعاملة بين الناس فإن الظالم لا يفوز في نهايته وان فاز في بعض الأمور العرضية والله هو الحكم العدل.
تحريم ما أحل الله
( وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ١٣٦ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ١٣٨ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ ١٣٩ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ١٤٠ ).
ان فساد الاعتقاد يؤدي إلى فساد الأعمال فحيث فسدت العقيدة اتجهت النفس تحت تأثير الأوهام إلى مفاسد كثيرة، فالأوهام التي تفسد الاعتقاد تفسد أيضا الحياة فتحت تأثير أوهام الوثنية أفسدوا حياتهم فحرموا على أنفسهم بعض ما أحل الله، وقتلوا أولادهم حاسبين أن ذلك يرضى أوثانهم ونذروا للأوثان بعض الزرع والنعم ولله نصيب فكما سووا بينها وبين الله في العبادة أو زادوهم فكذلك سووا بينه وبينها في النذر وتحيفوا في تنفيذها لله ولم يتحيفوا على الأوثان ولذا قال تعالى :
( وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا ).
( الواو ) تصل هذا الكلام بما سبقه من جحودهم وكفرهم وعنادهم بباب آخر من مفاسدهم مترتب على فساد عقيدتهم وخضوعهم لحكم الأوهام فخضعوا بحكم الأوهام في الأصنام أيضا، أن جعلوا بهواهم ومن غير دليل من الشرع أو النقل عندهم جعلوا من الحرث والأنعام وهي الإبل والبقر والغنم جعلوا نصيبا لله ينفقونها في الضيافات وإعانة الفقراء وجعلوا شيئا آخر أو نصيبا آخر لآلهتهم ينفق لسدنتها وخدمتها مع ان الجميع ملك لله تعالى فقالوا : هذا لله وهذا لشركائنا أي لالهتهم وعبر تعالى عنهم ب ( شركائنا ) أي من جعلناهم شركاء لله تعالى باعتقادنا أو ظننا أو نسيناهم شركاء لله تعالى.
وهنا إشارات بيانية ننبه إليها :
أولاها : أن التعبير ب ( ذرأ ) أي خلق متولدا من الحب، وانفلاق النوى، فالله سبحانه وتعالى هو الذي ذرأ النبات وذرا الثمار وعبر عنه تعالى بالحرث وهو نلت الأرض لإنتاج الزرع وهو سبب عادي لاخراج الزرع من الأرض فأطلق السبب وأريد المسبب فأطلق الحرث على كل ما أخرجت الأرض من زروع وثمار.
الثانية : التعبير بقولهم :( نصيبا ) وهو قدر ذكروه مجهولا ولم يعرفوه ليتصرفوا فيه بما يشاءون وهو المالك لكل شيء فالأصل أن يكون كله لله تعالى ويعطي بحكم الله لا بحكم الهوى كل ذي حق حقه، فهو مقسم الأرزاق وهو الخالق لكل شيء ولكنهم يذكرون نصيبا ويعينونه بأنفسهم وعلى حسب ما تهوى.
الثالثة : قولهم :( هذا لله بزعمهم ) التعبير( بزعمهم ) في هذا والزعم معناه الكذب أو الظن الذي لا دليل عليه يفيد أمرين :
أولهما : أن ذلك التقسيم فاسد في ذاته لأنهم لا يملكون تقسيم الأرزاق، بل الذي يملكها لأنه هو بارئها وهو الله تعالى ولكنهم يتهجمون على الله، فيقسمون بأهوائهم وأوهامهم ومع ذلك يغيرون ولا ينفقون بأمر الله في أوجه البر فيعتدون.
ثانيهما : أن الله تعالى عبر عن أصنامهم ب ( شركائنا ) لأنهم لا يقبلون يقولون لأوثانهم أو أصنامنا، والله تعالى والحق لا يقبل أن يقال عنهم آلهة فعبر الله تعالى عنهم بقوله :( وهذا لشركائنا ) أي للشركاء الذين قلنا إنهم شركاء لله تعالى، وإضافة الشركاء غليهم لأدنى ملابسة ولأنهم ابتدعوها وما أنزل الله بها من سلطان ولكنهم لا ينفذون ما قرروا فلا يعطون لله ما قرره بل يطففون ولكنهم كما قال الله تعالى :( فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ ).
انها قسمة ضيزي، فينقضون مما هو لله في زعمهم ويزيدون ما هو لشركائهم فما يكون لشركائهم يخصصون لها شيئا غير منقوص وما يكون لله لا يخصصونه له كاملا، ويقولون الله غني وهؤلاء فقراء محتاجون والله لا يحتاج لشيء فإذا كان ما خصص للأوثان لا يكفي سدنتها وخدمتها وما ينفق حولها لا يكفيها أخذوا من نصيب الله ليسدوا كل حاجاتها في نظرهم وكله إنفاق في باطل لا خير فيه.
وقد روى أنهم كانوا في الحرث عندما يخرصون ما ينتج كل زيادة عما خرصوه يكون للأوثان ولا يكون لله، وإذا كان الماء الذي يسقي به نصيب أوثانهم قد ذهب إلى حرث الله عدوه حرثا للأوثان وإذا كان الماء المخصص لحرث الله ذهب الى حرث أوثانهم جعلوا الخارج لأوثانهم ولو كان قد سقى بماء الله تعالى : وهذا قد روى عن ابن عباس فقد روى عنه رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الآية : إن إعداء الله تعالى كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منها جزءا وللوثن جزءا فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه، وأحصوه وإن سقط شيء مما سمى للصمد ردوه الى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا مما جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوها لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير، ولم يردوه على ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمى للوثن تركوه للوثن.
تلك إذن قسمة باطلة في مآلها وفي أصلها ولعل الذي جعلهم يفرطون في حق الله تعالى أنهم ماديون يؤمنون بالمادة وحدها، فظنهم في الوثن ما ظنوا وهم يرون ويلمسونه أنساهم الله تعالى فنسوا أنفسهم فكل شيء يذهب من نصيب الوثن على نصيب الله يردونه حرصا عليه، وكل ما يجيء إلى نصيب صنمهم من نصيب الله يحسبون أن الوثن أراده فيسقطونه فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
وختم الآية بقوله تعالى :
( ساء ما يحكمون ).
( ساء ) في معنى التعجب أي ما اسوأ ما يحكمون به، أي إنه أبلغ الأحكام إساءة فهو حكم سيء في ذاته وعندي أن الحكم السيء أشد من الحكم الظالم لأن الحكم الظالم قد يكون في تطبيقه ظالم أما الحكم السيء فإنه في اصله فاسد وفي تطبيقه ظالم وفاسد.
( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ ).
إن الوثنيين تحكمهم أوهام باطلة يتوهمونها وتسيطر عليهم أهواء ينسبونها على أوثانهم الذي سماهم الله شركائهم أي الشركاء التي زعموها شريكة لله تعالى في عبادته سبحانه.
وكما موهوا عليهم فأرادوا تحت سلطانه الوهم أن يجعلوا من الحرث والنسل نصيبا لشركائهم كذلك زين لهم شركاؤهم أي أوثانهم في أوهامهم قتل أولادهم.
( زينوا ) أي حسنوا وجعلوه كأنهم زينة لهم، يتباهون بها، ( شركاؤهم ) ونقول في معنى الشركاء : أهم الأوثان أم شياطين الجن الذين تغلغلوا في نفوسهم وشاركوهم في إرادتهم ؟ إن قلنا إنهم شياطين الجن الذين وسوسوا لهم، وزينوا لهم قتل أولادهم. كما زينوا لهم أن يجعلوا لله نصيبا مما ذرا من الحرث والانعام فالآيات تسير من غير تأويل لظاهرها.
وإن قلنا : إن الشركاء هي الأوثان التي جعلوها شركاء لله تعالى في عبادته فإنها أحجار فكيف تحسن أو تزين وهي لا تعقل ولا تتكلم ولا تضر ولا تنفع ونقول إن أوهامهم نحوها من أنها تضر وتنفع وأنهم يريدون إرضاءها وقد توهموا أنها تطالبهم بذلك فإن هذا يكون هو التزيين فوهمهم نحوها هو الذي زين لهم قتل أولادهم وقدم ( قتل ) وهو المفعول على الفاعل وهم ( شركاؤهم ) لأنه ابلغ في التشنيع، والقتل هو الأمر الذي لا يبرر.
وقال تعالى :( لكثير من المشركين قتل أولادهم ) فعبر سبحانه وتعالى بقوله :( لكثير من المشركين ) فلم ينسب على كلهم بل نسب سبحانه إلى كثير منهم، وذلك إنصاف القرآن الكريم في حكاية أفعال العباد وقتل الأولاد كان عند كثيرين منهم، وقد نص القرآن الكريم من شناعتهم في ذلك في الكثير من آياته ومنها قوله تعالى :( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ٥٨ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ٥٩ ) ( النحل ).
وقال تعالى :( واذا الموءودة سئلت ٨ بأي ذنب قتلت ٩ ) ( التكوير ).
وكن بعضهم إذا وصل أبناؤه عددا من الأبناء نذر قتل أحدهم كما يروى عن عبد المطلب أنه نذر إذا وصل عدد أبنائه إلى عشرة قتل واحدا منهم فكانت القرعة على عبد الله أبي النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان منهم من يقتل أولاده من إملاق أو خشيته كما قال تعالى :( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ١٥١ ) ( الأنعام ) وقال تعالى :( ولا تقتلوا أولادكم خشية من إملاق نحن نرزقكم وإياكم ٣١ ) ( الإسراء ). فالذين يدعون على منع النسل الآن خشية الإنفاق أو الإملاق يدعون بدعوة الجاهلية لعنهم الله وأخزاهم.
وقد ذكر الله تعالى ما توسوس به الأنفس والأوهام المسيطرة ونهاية ما تؤدي إليه فقال سبحانه :
( ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ).
( اللام ) للتعليل أو ما يسمونها لام كي، وهي مع كونها تعليلا هي بيان نتيجة قنل أولادهم ذلك أن النتيجة أن يوقعهم في الردي هو الهلاك فمآل قتل الأولاد سواء أكان بالوأد أو كان بالقتل خشية الفقر، أو للفقر، وقد يكون ذلك بالعمل على منع النسل بالعزل أو نحوه مما سماه النبي صلى الله عليه وسلم ( الوأد الخفي ) فان ذلك يؤدي الى منع نسل الأمة ومنع نسل الأمة هلاك لها، وفناء تدريجي لقوتها فالولد قوة والعرب يعتزون بكثرة النفر.
وقال تعالى :( وليلبسوا عليهم دينهم ) أي ليخلطوا دين إسماعيل الذي كان الحنفية كدين أبيه إبراهيم بأوهام كاذبة وبذلك يفسدونه وقد أفسدوه بالشرك، وافسدوه أيضا أن ا دخلوا فيه ما ليس من الدين ولا بأمر من الله ونهيه كما فعلوا في جعل نصيب الله تعالى مما ذرا من الحرث والانعام ومن قتل الا ولاد فان هذا خلط ما ليس بالأصل الديني وبذلك سواء السبيل.
( ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ).
عن الله سبحانه وتعالى قدر لهم الضلالة اذ ستروها وتركوا الهداية، وسلكوا سبيلها فاختارها الله تعالى لهم بعد أن اختاروها لأنفسهم وإن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون وإذا كان الله تعالى قد كتب عليهم ذلك فعن مشيئته صدر فعلهم ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه ولكنه شاء لهم لأنهم اختاره. وإذا كان تعالى قد شاءه لهم فقد افتروه، وقد أنذرت وما عليك جناح إذا استمروا على غيهم فذرهم أي فاتركهم مع ما يفترونه يرتعون غيه وما أنت إلا نذير.
( وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ ).
هذا كلام موصول بما قبله مما ترتب على العقيدة الفاسدة إذ إنه متى فسدت العقيدة فسد الفكر وضلت الأفهام، فلا يصد عن القلب الذي امتلأ بالعقيدةالا باطل، وكان أظهر مظاهر بطلان العقيدة الفاسدة ما يتعلق بالحرث والانعام فإن فرط أوهامهم في الأوثان اثر في حرثهم وأنعامهم يعطون لها الأكثر ويبقون الأقل.
وقالوا بأفواههم جازمين في قولهم مشيرين :( هذه أنعام وحرث حجر ) أي محجورة وممنوعة ليس لأحد أن يأكل منها، فمعنى حجر محجورة ممنوعة، فهي حجر بمعنى محجور كذبح بمعنى مذبوح ونقض بمعنى منقوض أي انهم يشيرون الى ناحية من الزرع والثمار فيمنعونه وإلى قدر من الأنعام فيمنعونه وقرروا أن الأصل فيه المنع حتى يكون منهم الإذن بأخذه لمن شاؤوا ولكن المنع يكون لمن ولأجل من ؟ قالوا : إنه يمنع لأجل الأوثان تكون لخدمتهم وسدانتهم ومن يكون حولهم، ومن بقي ينفق منهم على من نريد ويرون أنه ينتفع منه رجالهم دون نسائهم.
ومهما يكن فانهم يقررون أنه ممنوع لا يقربه أحد الامن يشاءون وهذا مؤدى ما قال الله عنهم :( لا يطعمها الا من نشاء بزعمهم ).
وهنا عبارتان نقف عندهما قليلا ).
أولاهما :( لا يطعمها ) أي لا ينال منه أي قدر ولو بالذوق الا من نشاء.
الثانية :( بزعمهم ) فإنه بزعمهم أي بافترائهم وظنهم وهي تدل على أن المنع كان على فاسد منهم لا على حق اعتمدوا عليه ويدل أيضا على أن إطعامهم من يشاءون مبني على زعم باطل كاختيار الرجال على النساء وكاختيار خدام الأوثان على غيرهم.
وقد ندد الله تعالى بهذا العمل في قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ٥٩ ) ( يونس ).
وإنهم لضلالهم مع علمهم بان الله تعالى خالق كل شيء وأنه ليس كمثله شيء ما يتخذونه حلالا من طعامهم لا يذكرون اسم الله تعالى فهم آثمون فيما يحرمون واثمون في تناول ما أحل الله تعالى ولذا قال تعالى :
( وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ ) كما حرموا على أنفسهم بعض الحرث والنسل، حرموا ركوب بعض الحيوان ولا يذكرون اسم الله تعالى في الأنعام التي يأكلونها فمن الأنعام التي حرموا ظهورها أي لا تركب مهما كانت الحاجة إلى ركوبها ولو كان هناك من يريد ركوبها يعني انقطع ولا يستطيع البحيرة والحام فالبحيرة هي التي نتجت منها خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا فإنها تبحر أي تشق أذنها وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل، وذاتها من الذبح ولا ترد عن ماء، ولا تمنع من مرعى.
والحام هو الفحل من الإبل يضرب عشرا ونتج فإذا بلغ ذلك قالوا هذا حام، أي حمى ظهره من الركوب وقد بينا هذه في سورة المائدة في ربع، ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما ) عند تفسير قوله تعالى :( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ١٠٣ ) ( المائدة ).
يحرمون هذا بأوهام سيطرت على أفهامهم ويقولون هذا من عند الله، وما هو من عند الله أن هذا افتراء افتروه فارتكبوا إثمين إثم تحريم ما أحل الله من الأنعام أكلا وحملا، وإثم افترائهم على الله تعالى بإسناد التحريم إليه، فضلوا ضلالا بعيدا.
وإذا تناولوا ما أحل الله تعالى ارتكبوا إثما من نوع آخر، وهو ألا يذكروا اسم الله تعالى عليها وهو الذي خلقها وأحلها، وانعم بها، وإنهم إذ لا يذكرون اسم الله تعالى يذكرون أسماء الأوثان وكان كل ذلك افتراء على الله تعالى، ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى في كلامه العظيم.
( سيجزيهم بما كانوا يفترون ).
أي أن الله تعالى سيجزيهم أشد الجزاء و ( السين ) لتأكيد الوقوع في المستقبل وسيكون جزاء وفاقا بسبب ما كانوا يفترونه، أي يقصدون الكذب فيه، فقد افتروا على الله وأشركوا وافتروا على الله تعالى وأحلوا ما حرم الله تعالى ونسبوا التحريم إليه، فكان ذلك بهتانا وإثما مبينا.
( وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء ).
الكلام الموصول في بيان ما حرموه على أنفسهم أو بعضهم من الأنعام، وما في بطون هذه الأنعام هي من الإناث لان الذكور لا يكون في بطونها شيء يناله الرجال دون النساء، وما في بطونها الذي يحرم على النساء ويباح الرجال خالصة قيل هو اللبن وقيل هو الحمل وأرى أنه يشمل الأمرين وان كان قوله تعالى :( وإن يكن ميتة ) أي ان تجيء به فهم فيه شركاء أي يشترك الذكر والأنثى يرجح أو يقرب أن المراد الأجنة في الظاهر ولكنه لا يمنع أن يكون ما في البطون يشمل الألبان والأجنة معا، وخصت الأجنة بأنها ان نزلت ميتة اشتركوا فيها جميعا.
والإشارة في قوله تعالى :( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) إشارة نوع معين من إناث الأنعام وقد قال مفسرو السلف انها البحيرة والسائبة التي ترد عن حوض ماء ولا مرعى، إذا ولدت خمسة أبطن فإن هذه يكون لبنها وما في بطنها من حمل للذكور دون الإناث ان نزل حيا ان نزل ميتا فهم فيه شركاء بمعنى اشترك فيه الذكور والإناث.
وروى أن لبن الوصيلة والسائبة كان الرجال يشربونه والنساء لا يأخذن منه شيئا والوصيلة والسائبة لا يذبحان بل تتركان حتى تموتا فإذا ماتت إحداهما أكل منه الرجال والنساء.
وإنه يجب ان ننبه هنا الى أنهم في هذا الإفك الذي يافكون يجعلون للمرأة من الطعام الشيء الذي يعاف ويجعلون للرجل الطيب من الطعام ولا يحرمونه مما يخص النساء.
وقوله تعالى :( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة ) ( التاء ) لتأكيد الوصف بالخلوص فهي تاء للمبالغة كالتاء في علامة ونسابة وليست تاء التأنيث لأنها خبر لما في البطون وبدليل ما بعدها وهو محرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء.
هذا ضلال جاءهم من أوهامهم في أوثانهم وفساد اعتقادهم فان فساد الاعتقاد يجعل العقل عشا للأوهام وتضل به الإفهام وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت حكمته :
( سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ) الوصف الذي جعل سببا للجزاء هو الظلم الذي افتروه في جعل بعض الحرث والنعم لله، والطغيان في نصيب الله تعالى وقتل الأولاد من كثير منهم، وتحريمهم بعض الحرث والنسل الا من يريدون ان يطعموه وفي الغالب يحسبونه لأوثانهم الا من يكون فيما حولهم، هذا هو الوصف وطغوا في الظلم في ذاته، وشرك في الباعث عليه، وظلم لأنفسهم وان قوله تعالى :( سيجزيهم وصفهم ) قالوا : ان معناه سيجزيهم بوصفهم فوصفهم منصوب على نزع الخافض وكان حذف ( الباء ) فيه بيان أن الجزاء هو على قدر هذا الوصف وهو الظلم المبين الذي لا يمكن الا أن يكون من الشرك وما حوله.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته :( إنه حكيم عليم ) أي أن ذلك الجزاء الحكيم هو من وصفين لله تعالى وهو انه ( حكيم عليم ) يضع الأمور بمقتضى حكمته وإرادته، وبمقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء وأنه يعلم ما يخرصون وما تجيش به نفوسهم وما تنبعث منه أفعالهم وهو السميع العليم.
( قد خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ).
هذا حكم الله تعالى فيهم في الدنيا والآخرة فقد خسروا أنفسهم وأولادهم وأموالهم في الدنيا ونالوا العذاب الدائم في الآخرة بافترائهم على الله بزعمهم أن ذلك بأمر الله أو رضا منه والافتراء على الله تعالى عاقبته عذاب اليم وقوله تعالى :( سفها ) أي بخفة عقول وجهل، ولا علم ولا سبب للعلم.
وأي سفه وخفة عقل وعدم تفكير أقبح من أن يقتلوا أولادهم من إملاق او خشية إملاق وفي الوقت نفسه يحرمون بعض أموالهم على أنفسهم كتحريمهم البحيرة والسائبة والحام والوصيلة إنه جهل مبين، وعقل سفيه، لا إدراك فيه، وينسبون ذلك إلى الله من غير علم.
إن الخسارة في الدنيا واضحة خسروا أولادهم الذين هم فلذات أكبادهم بوأدهم أو قتلهم من إملاق او خشية إملاق وخسروا أموالهم التي حرموها على أنفسهم بأوهامهم وأنفقوها إسرافا وبدارا على خدمة أوثانهم وخسروا إيمانهم إذ أشركوا بالله وافتروا وأنهم حرموا بالوهم الفاسد وزعموا أن ذلك تحريم الله تعالى وخسروا الحق في ذاته وأثموا إثما عظيما، مع قتل الأولاد.
( وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله ) هذا هو الأمر الثاني الذي خسروه، أو كان فيه خسرانهم بأن رزقهم رزقا، فجعلوا منه حراما فخسروا ولم ينتفعوا بنعمة الله التي أنعمها، وافتروا على الله، فقالوا : بزعمهم الكاذب : إن الله تعالى هو الذي حرمها، وبذلك حكموا أوهامهم فخسروا عقولهم وسيطرت عليهم أوهام بثها فيهم الشياطين فهم في تحريم ما رزقهم ارتكبوا إثمين : إثم التحريم وإثم نسبته على الله تعالى افتراء عليه، ولذلك كان الخسران في الدنيا، والعقاب في الآخرة والضلال المبين ولذا قال تعالى :
( قد ضلوا وما كانوا مهتدين ).
حكم الله تعالى عليهم حكمين وأكدهما : أولها الحكم عليهم بأنهم وقعوا في الضلال والبعد عن الحقيقة وقد أكد الضلال بقد لأن قد يكون في القرآن للتحقيق سواء أدخلت على الماضي أم على المضارع فلا يكاد في القرآن استعمالها غلا للتحقيق فلا تكون للتقريب ولا تكون للتكثير أو التقليل.
فالله قد أكد ضلالهم وأي ضلال اشد من أن يقتلوا أولادهم للإملاق وفي الوقت نفسه يمنعون ما رزقهم فيقعون في الإملاق.
الحكم الثاني : أنه سبحانه وتعالى حكم بأنهم ما كانوا مهتدين فبين في الحكم، ضلالهم وبين في الحكم أنه ليس من شانهم أن يهتدوا ولذلك نفى وصف الاعتداء وأكد ذلك النفى بالجملة الاسمية وبنفى الوصف عنهم.
ونقول هنا إننا بينا أن الخسران في الدنيا والآخرة وهو في الدنيا واضح بين وفي الآخرة مؤكد وقد رأينا بعض المفسرين يقولون إن الخسارة هي في الآخرة لا في الدنيا واستدل بقوله تعالى في سورة يونس :( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ٦٩مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ٧٠ ). ( يونس ).
ولكنا لا نراها تدل على أن الخسارة في الآخرة فقط وفوق ذلك أن الآية السامية التي نتكلم في معناها السامي، قد شملت قتل الأولاد وتحريم ما رزق الله تعالى افتراء أما هذه الآية التي ساقها المفسر الفاضل فانها في اتخاذ الولد ونسبته إلى الله بدليل الآية التي قبلها إذ يقول الله تعالى :( قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٦٨قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ٦٩ ). ( يونس )ا لى آخر الآية الكريمة... فكان بمقتضى النسق البياني للقرآن أن يكون العقاب الآخرون أما في الآية التي نتكلم في معناها فواضح أنهم خسروا في الدنيا بقتل أولادهم سفيها بغير علم وتحريم ما أحل الله تعالى وافتراء على الله تعالى.
وإنه من أقبح ما يتصور الإنسان من سفه الأحلام قتل أولادهم وخصوصا وأد البنات انهم خسروا بذلك خسرنا مبينا.
وقد جاء في تفسير القرطبي : روى أن رجلا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك تكون محزونا فقال يا رسول الله : اني أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله، وإن أسلمت فقال صلى الله عليه وسلم اخبرني عن ذنبك قال : يا رسول الله اني كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت لي بنت فتشفعت إلي امرأتي أن اتركها، فتركتها، حتى كبرت وأدركت وصارت من أجمل النساء فخطبوها فدخلتني الحمية، ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة : اني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا في زيارتي أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك، وزينتها بالثياب والحلي وأخذت على المواثيق بألا يخونها فذهبت الى رأس بئر، فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن القيها في البئر فالتزمتني، وجعلت تبكي وتقولك يا أبت أي شئ تريد أن تفعل بي، فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية ثم التزمتني وجعلت تقول : يا أبت لا تضيع أمانة أمي فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها أرحمها، حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر معكوسة وهي تنادي في البئر يا أبت قتلتني فكنت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال :( ان الله لرءوف لو أمرت أن أعاقب أحدا بما كان في الجاهلية لعاقبتك )١
هذه قصة مثيرة ولا بد أنها كانت تقع من الجاهليين سواء أصحت هذه الرواية بالذات أم لم تصح فكيف لا تكون الخسارة في الدنيا بهذا الطيش الجاهل رحم الله أمثال هذه الفتيات.
١ ذكره القرطبي في التفسير: ج٤ ص ٢٥٣٣ طبعت الشعب ورواه الدارمي في سننه المقدمة ما كان عليه الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم (٢)..
( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ١٤١ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ١٤٢ ).
ذكر الله تعالى أحوال أولئك الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا على أنفسهم ما رزقهم الله من بهيمة الأنعام ونسبوا التحريم إلى الله تعالى افتراء، ثم ذكر سبحانه من بعد ذلك بطلان التحريم من خلق الله تعالى للبنات والنعم، مع ذكر نعمته في النبات والأشجار مما كان يدعوهم الى التوحيد والإيمان بالله وحده بدل أن يشركوا به ويفتروا على الله بأوهامهم فقال تعالى :
( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ).
الضمير يعود على الذات العلية و ( انشأ ) معناها خلق وعبر هنا سبحانه وتعالى بكلمة ( انشأ ) لبيان أنهم لم ينشئونها فإن إشراف أصحابها عليها يجعلهم يتوهمون أنها نشأت بفعلهم وإشرافهم فهم الذين غرسوا وهم الذين بذورا حبها، وهم الذين حرثوا أرضها وهم الذين رعوها وسقوها وأبرأوها، وسمدوها إلى غير ذلك. فنبههم الله سبحانه وتعالى أنه الذي أنشاها ونماها، وانزل لها الماء الذي يحييها فإن الماء يسير من جذورها ويعلو بقدرة الله ثم ينحدر وينزل حتى يصل الى أعلاها فتكون غصون الأشجار وأوراق الزروع والثمار وترى فيها ريق الماء، إذا سيقت وما ذلك الا بتصريف الحكيم.
ان الذي انشأ الأشجار وأنشأ الزروع والثمار هو الله تعالى، فما كانت الأرض لتخرج الغرس وحدها ولتخرج الزروع والثمار وحدها وانما يخرجها الله تعالى فهو الله تعالى الذي ينشئها.
وقوله تعالى :( معروشات ) أي لها ما يشبه العرش على سيقان كما في الكروم التي تقام على سيقان من الخشب وأحيانا شبه العروش من غيرما يقام عليه الا جذور الأشجار كأشجار البرتقال وغيره مما يشبهه فإنك اذ تراها متلاحمة تكون كالمعروشات القائمة على العروش وغير المعروشات كالأشجار التي تعلو وحدها.
( وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ).
خص هذه بالذكر، لما لها من أهمية في حاجة الناس، فالنخل قوت وفاكهة والزرع فيه غذاء الإنسان والحيوان، والحيوان فيه غذاء الإنسان وكل هذه من نعم الله تعالى ما أنشاناها ولكن أنشأها خالق هذا الوجود فهو الذي يتولاها في نموها من حبة فلقها، أو نواة شقها على أن تصير نباتا غلظ سوقه أو نخلة عالية، والزيتون والرومان متشابها في ورقه، فورق الرمان كورق الزيتون متشابهان ولكن ثمرتهما مع التشابه في الورق والأغصان لا تتشابهان.
وقوله تعالى ( مختلفا أكله ) الأكل الطعم وتناوله فهو مختلف في ذوقه وان تشابه نموه وعناصر الأرض التي يتغذى منها، والأسمدة التي تنميه واحدة.
وان هذا التنويع في التكوين وإشباع الحاجات الإنسانية يدل على فاعل مختار فعال لما يريد ولنستعرض في هذا المقام كلمات كتبها القرطبي في تفسيره، فقد قال رحمه الله تعالى :
وفي هذه الآية أدلة ثلاثة أحدها أن التغيرات لا بد لها من مغير، الثاني على المنة سبحانه وتعالى علينا، فلو شاء اذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم، وإذا خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى فلم يكن أن يفعل ذلك ابتداء لأنه لا يجب عليه شيء. الثالث : على القدرة في أن يكون الماء الذي من شانه الرسوب يصعد بقدرة الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة الى أعاليها حتى إذا انتهى الى آخرها أنشأ فيها أوراقا ليست من جنسها وثم خارج من صفته الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجنى الجديد، والطعم اللذيذ فأين الطبائع وأجناسها وأين الفلاسفة وأناسها، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب فلا يتم ذلك في العقول الا لحي عالم قدير مريد فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية
. وإن هذا الكلام كما ترى يتجه إلى أمرين هما أساس التوحيد : أولهما أن الله تعالى خلق كل شيء بإرادته المختارة وثانيهما أنه قائم على هذا الوجود، وأنه وحده الذي يربه ويدبر أمره، وهو الحي القيوم الذي لا يماثله أحد فيه، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون.
( كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ).
قوله تعالى :( كلوا من ثمره إذا أثمر ) الأمر فيه للإباحة لأن الأكل من جنس الثمر ليس بواجب، ولكنه مباح وقوله تعالى :( إذا أثمر ) إشارة الى وقت الإباحة فهو إباحة وإرشاد بالا يأكل قبل أوان الإثمار فإن ذلك قد يضر ولا ينفع لأن الفج من الثمار يضر الأجسام ولا يفيدها فوق ذلك أنه إتلاف لا فائدة فيه.
( وآتوا حقه يوم حصاده ) أهو الأمر فيه للندب أم للوجوب ومن المؤكد أنه ليس للإباحة لأن التغيير بحقه يفيد أن الإيتاء لصاحب الحق، والإيتاء لصاحب الحق في المال لا يمكن أن يكون مخيرا فيه بين الإعطاء والمنع وقد اختلف الفقهاء أهو واجب فتكون زكاة المال قد ثبتت قبل الهجرة مع أن الثابت أن الزكاة فرضت بعد الهجرة في السنة الثانية كذلك قال بعض الفقهاء أو زعموا أن الآية مدنية.
والحق أن هذا الحق في المال ثبت في مكة، ولكن لم تشرع الزكاة التي تعد فريضة، ومصارفها، التي جمعها ولي الأمر الا في المدينة، حيث قامت الدولة الإسلامية التي تجمعها أما في مكة حيث ثبت الإسلام ثبتت الصدقات حقا للفقراء والمساكين والسائل والمحروم فلقد قال تعالى في سورة المعارج وهي مكية وصفا للمؤمنين :( وإذا مسه الخير منوعا ٢١ الا المصلين ٢٢ الذين هم على صلاتهم دائمون ٢٣ والذين في أموالهم حق معلوم ٢٤ للسائل والمحروم ٢٥ والذين يصدقون بيوم الدين٢٦ ) ( المعارج ) فالصدقات كانت مفروضة في الأموال، وخصوصا في الزرع والثمار، وان كان ولي الأمر لا يجمعها، لأنه لم يكن للمؤمنين دولة تجمعها إذ كانوا مستضعفين في الأرض فلما كانت السنة الثانية بعد الهجرة نظمت وعمت الأموال التي يكون لها نماء بالفعل، أو القوة، وإن حق الفقراء في الزروع والثمار كان معروفا قبل الهجرة ونظم الجمع وعمم بعدها.
واقرأ ما جاء في قول الله تبارك وتعالى في ابتلاء أهل حديقة :( إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ١٧ ولا يستثنون ١٨ فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ١٩ فأصبحت كالصريم ٢٠ فتنادوا مصبحين ٢١ أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين ٢٢ فانطلقوا وهم يتخافتون ٢٣ أن لا يدخلها اليوم عليكم مسكين ٢٤ وغدوا على حرد قادرين ٢٥ فلما رأوها قالوا إنا لضالون ٢٦ بل نحن محرومون ٢٧ قال أوسطهم الم أقل لكم لولا تسبحون ٢٨ قالوا سيبحان ربنا انا كنا ظالمين ٢٩ فاقبل بعضهم على بعض يتلاومون٣٠قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين ٣١ عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا على ربنا راغبون ٣٢ ) ( القلم ).
ان هذه الآيات الكريمة تدل على أنه قبل الهجرة كان المؤمنون يشعرون بان في الزرع والثمار حقا للسائل والمحروم كانوا يشعرون بذلك مؤمنين بهذا الحق.
وإن الآية الكريمة تدل على هذا وتدعو إليه، وتحت عليه وهذا الحق كان المؤمنون يقومون به ويؤدونه من غير أن يجمعه حاكم ولا يتولاه ولي للصدقات، لأنه لم تكن الدولة الإسلامية هي المهيمنة في مكة فلما كانت الهجرة في السنة الثانية وجد نظام جمع الزكاة ونظام صرفها وتولت الدولة جمعها وصرفها.
ولذا نقول إن الآية مكية، ولا نسخ فيها بعموم ولا خصوص وحكمها داخل في فرضية الزكاة الذي ثبت في المدينة تنظيمه ولذا نرجح أن الأمر هنا للوجوب.
وقوله تعالى :( وآتوا حقه يوم حصاده ) أي يوم صرمه وقطعه، وسماه الله تعالى حق الزرع فقال ( حقه ) أي الحق الواجب فيه، فالصدقة حق المال وواجب فيه أي أن المال ينتفع منها، فهي تزكيه وتنميه وتطهره وهي أيضا حق السائل والمحروم فهي حق الفقير لتسد حاجته وحق المال لتطهره وتنميه ويكون طيبا.
( وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ).
هذا عطف على قوله تعالى :( كلوا من ثمره إذا أثمر ) فالعطف على إباحة أكل الثمار فهو إذا أباح أكل الثمار وامر بإعطاء حق المال يوم قطعه لقد نهى عن الإسراف والإسراف معناه الإنفاق في غير موضعه أو الأكل من غير حاجة كقوله تعالى :( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين ) ( الأعراف ) وان النهي عن الإسراف ظاهر في أنه منع من الإسراف في الأكل في الثمر إذا أثمر بأن يأكلوا فوق طاقتهم أو أن يبيعوه وينفقوا ثمنه إسرافا وبدارا، أو أن يوزعوه على من يستحق ومن لا يستحق أو إعطاء الكثير لمن يستحق القليل، وبعض المفسرين يعمم النهي عن الإسراف فيمنعه على من يأكل الثمار إذا أثمرت وعلى إيتائه حقه يوم حصاده ومن الإسراف في ذلك أن يدع قرابته فقراء ويعطي غيرهم فابدأ بنفسك ثم بمن تعول، وقالوا : إن النهي عن الإسراف يشمل الولاة الذين يجمعون الصدقات ويأخذون أكثر من حق الله فيه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( المعتدي في الصدقة كمانعها )١.
وقد ختم الله النهي عن الإسراف ببيان سببه، فقال تعالى :( انه لا يحب المسرفين ) أي النهي سببه أن الله جل جلاله لا يحبه، فيغضب الله تعالى ممن يسرف بمجاوزة حق الإنفاق وبوضع المال في غير موضعه وبأخذ الصدقات مسرفا في الأخذ لأنها إذا أخذ منها أكثر من حقها فهو كمانعها والله رءوف رحيم.
١ رواه الترمذي: الزكاة ما جاء في المعتدي في الصدقة (٦٤٦) وابن ماجه: الزكاة ما جاء في عمال الصدقة (١٨٠٨٩) ورواه أبو داود الزكاة (١٥٨٥) بلفظ المعتدي المتعدي في الزكاة...) عن أنس ابن مالك..
( ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ).
( الواو ) عاطفة على قوله تعالى :( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ) أي : وأنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشا وطعاما ولحما طريا، فهي ذكر لآلاء الله تعالى ونعمه في خلقه إذ هيا لهم أسباب الهناء التي احل فيها طيباته ومكنكم منها.
و ( الأنعام ) جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وما شاكلها مما يؤكل وينتفع به الإنسان وجعل الله تعالى منه ( حمولة ) وهي ما يحمل عليها، و ( فرشا ) وهي ما يذبح بان يفرش ويذبح وما يتخذ من أصوافها وأوبارها وأشعارها فرشا، وهذه تشمل النعم التي تذبح والغنم والعجول التي تبلغ القدرة على حمل الأشياء بل تذبح ويؤكل لحمها وتسمى العجول والغنم فرشا لأنه يفرش ويذبح كما ذكر ولأنها قريبة من الأرض وقد جعلها الله فراشا وقد قال تعالى في ذلك :( أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ٧١ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها ياكلون ٧٢ ) ( يس ) ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ٦٦ ) ( النحل ). وهكذا كانت آيات الله تعالى تتلى، مبينة نعمة الله في الأنعام يتخذ منها حمولة ومنها فرش يذبح ومنها فرش يفرش من أصوافها وأوبارها وأشعارها متاعا على حين انتهاء الدنيا ).
ولأن الفرش منها الغنم ونسل الأنعام الذي يذبح قال تعالى بعد ذلك :( كلوا مما رزقكم الله ).
والمعنى إذا كان الله تعالى قد خلقها فرشا يذبح فكلوا منه لأنه رزق الله ورزق الله تعالى يقبل لأنه عطية الله، ويشكر عليها فلا تجعلوا مما رزقكم الله حلالا وحراما كما يفعل الذين يتبعون خطوات الشيطان والأمر هنا للإباحة والترغيب في تناول الحلال، وقد قلنا إن أوامر الإباحة تكون فيها الإباحة بالجزء وهي مطلوبة بالكل، فليس للإنسان أن يمتنع عن المباحات ويترك تناولها ولا يتركها كلها.
وقد كان بعض العرب يتصدقون بأكثر ما ينتج غرسه، فنهى الله تعالى عن الإسراف وقال :( كلوا مما رزقكم الله ).
( وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ).
الخطوات ما بين الأقدام، والمراد النهي عما يوسوس به الشيطان، وتجنبه بالا يسير سيره الذي يزين به الشر، وفي الكلام مجاز مشهور، والمجاز المشهور تنسى فيه العلاقة والقرائن وكأنه حقيقة ومؤدى المجاز تشبيه من يطيع الشيطان فيما يوسوس بالسائر وراء إنسان يتبعه خطوة خطوة، لا يحيد عن طريقه ولا يترك طريق الشر الذي يسير فيه. وقد علل سبحانه وتعالى النهي بأنه عدو بين العداوة وبيانه اببيان آثارها ونتائجها وليس معنى ( مبين ) أنه بين واضح عند السير وراءه، انما هو بين في نتائجه وغوايته.
واتباع خطواته هو ما كان عليه الجاهليون فيما رزقهم الله تعالى فحرموا بعضه، بغير ما حرم الله، حرموا السائبة والوصيلة والحام بغير ما أنزل الله، وجعلوا لله نصيبا مما خلق، وللشيطان في الأوثان التي زينها لهم، وزين لهم قتل أولادهم وزين لهم أكل الميتة، وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله تعالى به، وهو فسق وخروج عن طاعة الله الذي يلجاون إليه في الشدة، والبأساء والضراء.
ولقد أخذ سبحانه وتعالى يبين ضلالهم فيما يحرمون على أنفسهم بوسوسة الشيطان وينقض زعمهم فقال :
( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١٤٣ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ١٤٤ ).
نهى الله تعالى بالنسبة لما رزق الله تعالى، المكلفين أن يتبعوا خطوات الشيطان وما يزينه للذين يفتحون قلوبهم لوسوسته وآذانهم لسماع دعاته وأتباعه وقد زين لهم أن يحرموا بعض الثمرات والزروع ويجعلون جزءا لله، وجزءا لأوثانهم وتطيش فيعتدون على ما جعلوه لله، ويحمون ما جعلوه لأوثانهم وحرموا بعض الأنعام حرموا الوصيلة والسائبة والحام والبحيرة وقد بينا ما يريدون من هذه الألفاظ من مسميات في موضعها في سورة المائدة في ربع ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ) عند الكلام في معنى قوله تعالى :( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام... ١٠٣ ) ( المائدة ) وفي هذه الآية وما بعدها يبين الله تعالى أنه لا سند من عقل ولا نقل جعل بعض هذه الأنعام محرما فقال تعالى
( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ ).
( ثمانية أزواج ) عطف على ( أنشأ ) أو مفعول لفعل محذوف وإذا كان التأويل فهي منصوبة والأزواج جمع زوج يطلق على كل فرد يقابله فرد آخر، ويقال واحد منها زوج، ويقال لمجموعها زوج، وعد الله تعالت كلماته ثمانية : اثنان من الضأن ذكر وأنثى واثنان من الماعز ذكر وأنثى واثنان من الإبل فحل وناقة واثنان من البقر ثور وبقرة والضأن ذكره كبش وأنثاه نعجة والماعز ذكره تيس أو جدى وأنثاه معزة.
فهذه هي ثمانية أزواج عدا وقد سلك القرآن في احتجاجه عليهم مسلك الجمع والإفراد فبين أن التحريم في الرزق يكون لخبث في ذاته اقتضى تحريمه وأن التحريم يكون من الله تعالى مانح الأرزاق والوجود وقد ادعوا تحريمهم لما حرموا بوسوسة الشيطان أنه من الله تعالى متتبعا تحريمهم فقال تعالى :( الذكرين حرم أم الأنثيين ) أي كل زوج من المحرمات حرم الذكرين منها كالكبش والجدى فتحرم الذكور كلها، ولكنكم لم تحرموها كلها، بل خصصتم بعضها، ( أم الأنثيين ) منها فحرم النعجة والمعزة وكان يجب أن تحرم كل الإناث ولكنكم حرمتم بعضها وتركتم الآخر وعلى ذلك لا يكون التحريم بسبب في ذاتها أو ما اشتملت أرحام الأنثيين أي المواليد ذكورا وإناثا فيحرم الجميع، لكن خصصتم فلا يكون سببه التحريم لذاتها ولا بسبب من النقل فبينوا ما اعتمدتم عليه من العلم إن كنتم صادقين ولذا قال تعالى :
( نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ).
وإنه بعد البيان الصادق الذي ذكر أولا، يكون قوله تعالى :( نبئوني بعلم ) من قبيل التهكم بهم إذ لا دليل عندهم وطلبه بعد بطلان وجوده تهكم به أو تعجيز لهم، والعجز عن إقامة الدليل في وقت الاحتجاج تسليم بالمدعى بحكم المنطق المستقيم والتفكير القويم.
وقوله تعالى :( إن كنتم صادقين ) التعليق، ب ( ان ) فيه إشارة على أنهم لا صدق عندهم وأنهم يفترون على الله تعالى فيما يدعون وقوله تعالى :( نبئوني ) النبأ الخبر العظيم وهذا عظيم في زعمهم
( وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُالانثيين ).
هذه هي أربعة الأزواج بعد الأربعة الأولى فتكون عدتها ثمانية قال تعالى :( قل الذكرين حرم أم الأنثيين ) أحرم الفحل من الإبل والثور من البقر أم حرم الأنثيين من الأربعة فحرم الناقة من الإبل والبقرة من البقر، فإن كان التحريم للذكرين يشمل الذكور كلها، فإن التحريم على الإناث شمل الإناث كلها. أما وقد حرمتم بعضها دون بعضها فإنه لا يمكن التحريم لأمر ذاتي فيها، ولا لامر نقلي فلا دليل من عقل ولا نقل.
وإذا كان التحريم للمواليد كلها ذكورا وإناثا، وهي ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فانه بمقتضى عموم القول. يكون التحريم لجميع المواليد من البقر والإبل ولكنكم تحرمون بعضها دون بعض. فلا يمكن أن يكون التحريم لخبث فيها، لأن الخبث إن كان سبب التحريم فهو يعم ولا يخص فلا يمكن أن يكون التحريم بسبب في ذاتها ولا لنقل نقلتموه وإن ادعيتم ذلك فأنتم تكذبون على الله في ذلك ولا دليل عندكم على التحريم من قبل الله، بل هو اتباع الشيطان وتزيينه لكم، حتى صار ذلك هواكم وغلبتكم الأوهام ولذا قال تعالى :
( أم كنتم شهداء اذ وصاكم الله بهذا ) طالبهم الله تعالى أن يأتوا بعلم يقيني جازم من النقل يدل على تحريم ما حرموه، وقد جاءت النصوص بإباحة الجميع، ثم عدل متهكما عليهم بان ذكرهم بأنهم قد يدعون أنهم شاهدوا وعاينوا، لذلك قال تعالى :( أم كنتم شهداء ) و ( أم ) فيها معنى الإضراب عما طلب اولا، ثم ذكر أنهم قد يدعون انهم كانوا حاضرين إذ وصاهم الله تعالى والله علم من وصى بهذا وهذا تهكم عليهم، فإنهم ينكرون الوحي، ولا يدعونه لأنفسهم أنهم أوحي اليهم ولكنها وسوسة الذي أوجد فيهم أوهاما زينت لهم ما فعلوا. وهكذا نجد النص القراني سلك سبيل الاستقراء والسير والتقسيم فاستقرا معهم سبب التحريم وإن كان الذكورة فهي تعم الذكور وغن كان الأنوثة فهي تعم الإناث، وإن كانت الولادة فهي تعم المواليد، ولكنهم يخصون، فطالبهم بدليل من علم، فما عندهم، فسالهم أهم عاينوا ووصاهم الله فهم بلا ريب كاذبون وهذه هي نتيجة الاستدلال فهم كاذبون على الله تعالى ولذا قال سبحانه بعد ذلك :( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ).
الفاء لترتيب ما بعدها على معنى ما قبلها، والمعنى إذا كانوا قد كذبوا على الله تعالى وادعوا أن الله حرمها، فهم ظالمون مفترون ومن اشد ظلما ممن يفتري على الله كذبا ليضل الناس، ومن استفهامية وهي لإنكار الوقوع إذ معناه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا أي قصد الكذب على الله تعالى بادعاء أن الله تعالى حرم بعض ما رزقهم الله، وهو لم يحرم، وفي ذلك مع النفي توبيخ لهم، لانهم فعلوا ما استنكر اشد الاستنكار وإن ظلمهم مركب من أمرين أولا لأنهم كذبوا على الله وقصدوا الكذب والثاني أنه أضل الناس بهذا الكذب على الله فقال إنه تحريم من الله وليس من الله في شيء إلا أوهامهم الضالة.
وذلك الظلم والإضلال أوضح ما يكون في كبرائهم الذين أضلوا ضعفاءهم وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله تعالى :
( إن الله يهدي القوم الظالمين ) إنه سبحانه وتعالى بعد أن بين ظلمهم في تحريم ما أحل الله تعالى لهم، وجعلوا ما رزقهم سبحانه منه حلالا ومنه حراما، وظلمهم في الكذب على الله تعالى بادعاء ان التحريم كان بأمره وظلمهم للناس، بإضلالهم بغير علم، ذكر سبحانه قضية عامة وهي إن الله لا يهدي الظالمين لأن الظالم إذا سلك سبيل الظلم والتضليل استمرأه واستطال على الناس، وركبه الطاغوت، وأظلمت نفسه، وأصاب قلبه ظلام لا نور فيه، فلا يهتدي ولا يرعوى وقد بين الله تعالى وأكد أن الظالمين لا يهتدون فقال :( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) وقد أكد ذلك الجملة الاسمية، و ( ان ) وبنفي الهداية عن القوم الظالمين وكان نفي الهداية من الله تعالى عن القوم الظالمين لأنهم بسيرهم في طريق الظلم قد سدوا باب الهداية عن أنفسهم وذكر سبحانه نفى الهداية عن القوم الظالمين دون أن ينفيه هنا عن الواحد للظالمين لأن الظالمين يعاون بعضهم على الظلم فيتكون منهم رأى عام ظالم يبرر الظلم ويرتضيه ويشجع عليه، ويتعاونون فيه على الاثم والعدوان بدل البر والتقوى والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم.
( قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٤٥ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ١٤٦ ).
في هذه الآية حصر ما حرمه الله تعالى من الأنعام وبيان أن الله تعالى لم يحرم ما حرموه على أنفسهم من الأنعام وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى هو البيان فيما أوحي إليه به، لأنهم كانوا يجابهون النبي صلىالله عليه وسلم بتحريم ما يحرمون غير متحرجين في ادعاء التحريم على الله تعالى ويفترون على الله الكذب وكانوا ظالمين ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا.
وإن المتتبع لآي الله تعالى يجد أن كل امر يجري فيه الجدل أو يثيرون هم فيه الجدل يامر الله تعالى نبيه بأن يتولى البيان بلسانه مع بيان الله تعالى.
( لا أجد في ما أوحي إلي ) أي فيما أوحاه الله تعالى وإنما بنى للمفعول لبيان نفى وجود الوحي نفيا مطلقا بغير ما هو مذكور فالبناء للمفعول هنا.
لعموم نفي عدم الوجود وفيه إشارة إلى أن ما حرموه غير معقول إن سمى به وحي مطلقا.
وقال ( على طاعم يطعمه ) أي على آكل يأكله وعبر سبحانه بقوله تعالى ( على طاعم يطعمه )بدل ( آكل يأكله ) لأن الطعم تذوق واستطابة والأكل قد يكون أكل غير مرغوب فيه، أو ما ليس له ذوق يستطاب ففي هذا إشارة إلى أنهم يحرمون طيب اللحوم والمطعومات.
( إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ).
الميتة الحيوان الذي يموت وينحبس دمه فيه، ويدخل في معناه المنخنقة والموقوذة التي وقذت بالحجارة حتى ماتت والمتردية التي تردت في حفرة أو بئر والنطيحة التي نطحت من أخرى حتى ماتت فإن هذه تدخل في عموم كلمة ميتة ان توسعنا في معناها بان قلنا : إن لميتة ما لم تذك بالذبح وإنهار الدم ومهما يكن فانها في المعنى قريبة من الميتة.
والدم المسفوح هو الدم السائل، وقد تبين أنه سريع الفساد وتسارع الميكروبات إليه، والدم المسفوح خرج به الدم الذي يكون بعد الذبح في جوار اللحم أو مخالطا له، والكبد والطحال إن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه سماهما دما، كما روى أنه قال : أحلت لنا ميتتان ودمان : الكبد والطحال، والسمك والجراد )١.
والخنزير هو الدابة المعروفة وهو محرم في الديانات الثلاث : اليهودية والنصرانية والإسلام واستباحها اليهود والنصارى بعد تحريف دينهم عن موضعه وبعد أن نسوا حظا مما ذكروا به.
وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب التحريم فقال :( فإنه رجس ) أي قذر فهو قذر في ذاته وهو قذر في غذائه فهو يتغذى من الأقذار فيتغذى من العذرة ولحمه رجس اذ إنه مقشش٢ فيه ميكروبات. اخصها الدودة، ولا حظ كثيرون انه حيث يكثر آكلوه يكثر مرض السرطان، ولو تنبه العلماء اليه وبحثوا لحمه لوجدوا بعده الحيرة الطويلة أن هذا الداء العضال تكمن جرثومته فيه، لأن الله تعالى قال :( فانه رجس ) وهو اصدق القائلين واذا كان الخنزير فيه رجس حسي، ومن أجله حرم أكله فان الله تعالى قد حرم ما فيه رجس معنوي، وقرنه به، وهو ما أهل لغير الله به، ولذا قدم كلمه ( فسقا ) مقارنة لكلمة ( رجس ) لانهما يلتقيان في المعنى لأن هذا الخنزير رجس حسي، وهذا الفسق رجس معنوي فهما من باب واحد.
وقوله تعالى :( أهل لغير الله به ) أي انهم ذبحوه لا باسم الله بل باسم أوثانهم وكانوا حريصين على ذلك كل الحرص لأنهم قدموا غير الله ذبحهم فقصدهم التقرب لآلهتهم فيه.
وهنا يثار بحث، فإن الآية تدل على أن ما أهل لغير الله يكون حراما، وبمفهوم المخالفة ما لم يهل لغير الله به يكون حلالا، وعلى ذلك يكون ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى، ولم يهل به لغير الله يكون حلالا وقد قررنا أنه إن لم يذكر اسم الله تعالى، نسيانا فإنه يؤكل المذبوح وإن ترك عمدا ففيه نظر ما دام لم يذكر غير الله تعالى.
وهناك بحث آخر وهو أن ثمة محرمات قدو ردت بها آثار كسباع البهائم فإنها وردت الآثار بتحريمها وسباع الطيور، وبعض خشاش الأرض، كالحية والعقرب وغيرها، وكالحمر الأهلية التي حرمت في غزوة خيبر.
والآية تفيد القصر أي قصر المحرمات على المذكور كما تفيد إباحة غيره، لأن القصر كما هو مقرر في علم البيان نفي وإثبات، فقد أثبت التحريم في هذه الأشياء الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وثبتت الإباحة بالنص الذي أفاد القصر فيما عداها وقد ثبت أن بعض ما عداها كان حراما. وهذا يتناقض مع القصر.
وقد أجيب عن ذلك بعدة إجابات :
أولها : أن هذا القصر خاص بالأنعام، وما كان يشبهها من البهائم كالخنزير فإن النص سيق للرد على المشركين الذين حرموا بعض الأنعام وافتروا علىا لله تعالى بالكذب، فكان الرد بهذا القصر الذي يفيد تحريم ما نص عليه، وأن غيره مباح وغيره هو ما يتعلق بالأنعام وقد يرد على هذا أن التحريم كان فيه الخنزير وهو لا يشبهها فمجيئه لا يدل على أن الكلام في الأنعام فقط، ونقول عن مجيئه لا يمنع أن الإباحة فيما عدا المنصوص عليه كان في الأنعام فقط، فلا يدخل في مدلول نفى التحريم غير الأنعام، بل يبقى سكوتا عنه حتى يجيء نص فيحرمه والا فهو في مرتبة العفو أو الإباحة هذا تخريج للقصر، ونعتقد انه لا يمنع تحريم سباع البهائم وسباع الطير، وخشاش الأرض وهذا عندي أوضح التخريجات وأقربها.
والتخريج الثاني : تخريج الزمخشري وهو أن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، وأنه لا قصر حتى يكون الكلام مشتملا على نفى وإثبات نفى التحريم وإثبات الإباحة انما هناك نفى لتحريم ما حرموا، ويكون مؤدى التخريج هكذا قل لا أجد محرما علىفي ما تحرمون على طاعم يطعمه فهذا النفى رد عليهم لكن أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير أو أهل لغير الله فهو حرام وعلى ذلك لا يكون قصر فيه نفي وإثبات للإباحة ولكن فيه تحريم فقط تحريم بالرد، وتحريم بالاستدراك. هذا كلام قاله الزمخشري.
ونقول لإمام البلاغة : إنه تخريج لا يستقيم مع النسق البياني الذي يليق بكتاب الله العظيم.
والتخريج الثالث : أن الآية لم تدل على الإباحة المطلقة انما أخذت الإباحة بالمفهوم ولا يؤخذ بالمفهوم حيث يكون نص وهناك تمنع.
( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
هذا التحريم مؤكد في حال الاختيار لا في حال الاضطرار فمن كان في حال ضرورة لا يجد ما يطعمه وقد تعرض للهلاك جوعا، وهو غير باغ ولا معتد فان الله تعالى يغفر له أكله، وقد قلنا إن حد الضرورة قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم إجابة لمن سأله إذ قال له، ( انه يجيء الصبوح والغبوق ولا تجد ما تأكله )٣.
( والباغي ) له تخرجان :
أولهما : أن الباغي، هو من خرج باغيا على الحاكم العادل ظالما له، أو من خرج لمعصية فانه لا ينتفع بهذه الرخصة وذلك يكون سيرا على قاعدة ان من ارتكب معصية لا تكون المعصية سببا لنعمة الرخصة بسبب السكركمن يرتكب جريمة وهو سكران بمحرم فانه لايعفى من الجريمة بسبب السكر وذلك مبدأ مقرر عند بعض الفقهاء وخصوصا فقهاء العراق.
والثاني أن الباغي الطالب لهذا المحرم المشتهي له، كان يكون مضطرا فلا يجد الا خنزير يشتهيه ويأكله باغيا له طالبا.
و ( العادي ) هو له هذان التفسيران أيضا، فخرجه بعض الناس على أنه الظالم بمعصية أوقعته في هذه الضرورة فانه عاص لا يستمتع بنعمة الرخصة.
والثاني : أن العادي أي المتجاوز لحد الضرورة.
وأميل إلى أن الباغي المشتهي الطالب للميتة أو الخنزير وأن العادي هو المتجاوز لحد الضرورة فإن رحمة الله تعالى في الدنيا تتسع للأشرار كما تتسع للأخيار والحساب عند الله وعسى أن يغفر الله لهم وننبه هنا على أمرين :
أحدهما : معنوي : وهو أن هذه المحرمات ما حرمت الا لأنها خبائث والله حرم الخبائث وإن فيها إفسادا للجسم الإنساني وإضرارا به، وان الضرورة وشدة الجوع قد تذهب بأوضار الأخباث التي في هذه المحرمات وان ضررها يقل بالنسبة للجائع جوعا شديدا يؤدى إلى الهلاك وإن كان ثمة ضرر من بعد فإنه اخف مما يترتب على الامتناع ولذلك كانت الرخصة مقيدة بألا يتجاوز حد الضرورة لأنه إن تجاوزه غلب الضرر واشتد أثر الجراثيم المفسدة للجسم التي تحتوي عليها هذه المحرمات.
وثانيهما : وهو بياني ومعنوي أيضا وهو قوله تعالى :( فإن ربك غفور رحيم ) اثر لجواب الشرط المحذوف أو سبب له، فإن المقدر هكذا، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، كما ذكر في آيات أخر، أما هنا فلم يذكر ولكن ذكر سببه وهو فإن ربك غفور رحيم فالسبب أن الشارع الحكيم هو ربكم الذي خلقكم وربكم وقام على أمر حياتكم وأنه غفور يغفر الإثم ويستره وانه رحيم لا يرهقكم وان هذا يدل على رفع الاثم سببا بسببه.
١ رواه أحمد مسند المكثرين (٥٦٩٠) وابن ماجه الأطعمة الكبد والطحال (٣٣١٤) عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما..
٢ قشش: اكل ما في المزابل القاموس المحيط..
٣ سبق تخريجه..
( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) بعد أن بين الله ما أحل للمسلمين وما حرم وانه فتح باب إباحة الطيبات بإطلاق فكل طيب حلال، وقد استنكر في عدة آيات كريمات على من حرم الطيبات التي أحلها الله، ونهى عن تحريم الطيبات وقال تعالت كلماته :( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ٨٧ ) ( المائدة ).
بعد هذا بين سبحانه وتعالى أنه قد يحرم طيبات هي في ذاتها طيبات، ولكنها تزيد أدواء بعض النفوس فيكون التحريم خاصا بمن يحرم عليهم، ولا يكون عاما لكل الناس، كالدواء يكون غير جائز للأصحاء، ولكنه لازم للمرضى.
واليهود أصيبوا بالتخمة والترهل، وأدى ذلك إلى خمول وكسل، ومع الخمول والكسل، يكون القعود ودعاهم سيدنا موسى إلى أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يدخلوها لا أن يملكوها لهم دون سائر الناس، قالوا له متخاذلين بسبب ترهل أجسامهم :( إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ٢٢ ). المائدة
ويقولون أيضا :( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )( المائدة ).
كان لا بد من علاج لترهل أجسامهم وذهاب النخوة من نفوسهم. أما الثاني فرباهم على اليأس بان يعيشوا في الأرض تائهين في صحرائهم فقال تعالى :(... فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض... ٢٦ ) ( المائدة ) وأما الأول وهو ترهل الأجسام وكسلهم فقد عالجه سبحانه بأن حرم عليهم ما يؤدي على ترهل الأجسام من شحوم ولحوم تربى الدهن في الأجسام وتثقل عليهم حركاتهم ولذا قال سبحانه.
( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) حرم الله تعالى على اليهود كل ذي ظفر من الأنعام. وذو ظفر كما قال ابن جرير رضي الله تعالى عنه كالبهائم التي لم تكن مشقوقة الأصابع كالإبل والطير والأنعام والإوز والبط والحيتان.
ويلاحظ أن هذه المحرمات تمتاز بكثرة الشحم فالإبل لها سنام كله شحم، والإوز والبط هي شحوم قليل لحمها، وذو الظفر كما ترى قد فسرت به، وكل حيوان لم تنفرج أطراف أرجلها، وكان التحريم لهذا المعنى الذي ذكرناه وفطما لنفوسهم وفطم النفوس يعطيها قوة إرادة ويجعل للعقل سيطرة على أفعالهم.
( وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ).
هذا هو القسم الثاني مما حرمه الله تعالى، وقد نص على الشحوم مما يدل على سبب التحريم في الماضي فوق أنه يقال إن أكل لحوم الإبل يقسى القلب، وقلوبهم قاسية.
وهنا نرى علاج الله تعالى لأجسامهم مع ملاحظة الرحمة بنفوسهم، فقد حرم سبحانه وتعالى الشحوم لما تؤدى إليه من ترهل، وضخامة مع ضعف قوته وعزيمته ومع قسوة النفس، وضعف الإحساس ولكنه استثنى ما لا يستطيعون عليه صبرا، استثنى أولا ما حملت ظهور البقر والغنم لطيب طعامها، ولأنها ليست شحوما كثيرة ولا تؤدى إلى الترهل الكثير واستثنى أيضا سبحانه :
( أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) ( الحوايا ) جمع مفرده حاوية أو حوى، وهو ما تحوى واجتمع في البطن، وتشمل المعدة والأمعاء، ومواضع اللبن وأبيح ما حملت من شحم، كما أبيحت هي، وذلك لصعوبة فصله وإخراجه، وكان ذلك تيسيرا وتخفيفا في موضع التحريم وتسهيلا للاستجابة عن كانوا طائعين.
وأن ذلك التحريم كان علاجا لأجسامهم ولكسلهم وفطما لنفوسهم، وتزكية لأرواحهم وإرهافا لمداركهم وأجسامهم ولذا قال تعالى :
( ذلك جزيناهم ببغيهم ) البغي هو الظلم والظلم يشمل ظلمهم لأنفسهم بانطلاقهم في أكل ما يشتهون وتسمن به أجسامهم ويشمل بغيهم على غيرهم بالاعتداء والفحشاء، ويشمل ارتكابهم المعاصي ما ظهر منها وما بطن، ودلت الإشارة فيه إلى ما حرمه تعالى عليهم وفطم به نفوسهم الشرهة وهذا كقوله تعالى :( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ١٦٠ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ١٦١ ) ( النساء ).
وإن هذا التحريم كان تطهيرا لنفوسهم وتقوية لأجسامهم وجزاء دنيويا على ما اقترفوا من طغيان.
وإن الإسلام احل لهم الطيبات كلها، وقد قال الله تعالى ذلك عند بشارته بالنبي الأمي فقال تعالى :( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ... ١٥٧ ) ( الأعراف ) والله تعالى ولي النعم.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :
( وإنا لصادقون ) الصدق معنى جامع لكل المعاني العالية والصدق هنا هو الإخبار بالحق الذي لا مرية فيه، وكيف نشك في خبر حكاه الله رب العالمين، ويشمل العدل في الجزاء الذي جازى به بني إسرائيل على طغيانهم وعتوهم ويشمل الصدق الدواء الذي عالج ترهلهم وإفسادهم لأجسامهم بشهواتهم وإفراطهم إلى غير حد محدود وقد أكد الله سبحانه وتعالى صدقه في خبره وعدالته وعلاجه لأدواء جسمهم ونفوسهم بمؤكدات ثلاثة أولها، الجملة الاسمية وثانيها، ( ان ) المؤكدة وثالثها، اللام والله تعالى هو العلي الكبير.
( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ١٤٧ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ١٤٨ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ١٤٩ ).
ان الله سبحانه وتعالى في حكمته البالغة لا يجعل الكافر في يأس من مغفرته ولا يطمع في أن ينجو من عقابه إن أصر على معصيته ولم يتب وهو في عافية وقوة ولذا قال تعالى
( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ )
يخاطب الله نبيه الكريم بقوله :( فإن كذبوك ) كافرين برسالتك فلا تجعلهم في يأس من أن يتوبوا وينتهوا من كفرهم على إيمان بربهم، وقل لهم عن ربك فاتحا باب التوبة والإيمان من غير أن تؤيسهم ( ربكم ذو رحمة واسعة ) أي صاحب رحمة وسعت كل الوجود أنعم على الناس بالوجود، والنعم المترادفة لعصاتهم والطائعين فيهم، وقد فتح باب التوبة للعصاة والثواب ثابت للطائعين.
وانه مع هذه الرحمة الواسعة التي سعت كل عاص يفتح باب التوبة له، والطائع بالثواب والنعيم المقيم إنه سبحانه مع ذلك لا يترك العصاة المصرين من غير عقاب إذا استمروا على غيهم ولذا قال تعالى :
( ولا يرد باسه عن القوم المجرمين ).
البأس الشدة والظاهر أن المراد هنا العذاب الأليم يوم القيامة وعبر سبحانه بقوله :( القوم المجرمين ) بلفظ القوم، لأن الإجرام يكون في جماعة تتضافر على الشر ويتعاونون على الاثم والعدوان ونادر أن يكون من واحد بمفرده، أو عدد متنافر غير مجتمع متعاون على الشر. هذا وإن سنة الله تعالى في كتابه، الحكيم أن فتح التوبة مرغبا فيها، وان يذكر بجوارها العقاب كما قال تعالى :(... وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ٦ ) ( الرعد ) وكما قال عز من قائل :( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ٤٩ وأن عذابي هو العذاب الأليم ٥٠ ) ( الحجر ) وكقوله تعالت كلماته :( ان بطش ربك لشديد ١٢ إنه هو يبدئ ويعيد ١٣ وهو الغفور الودود ١٤ ) ( البروج ) وكقوله سبحانه :( غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ) ( غافر ).
( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ).
يبين الله سبحانه وتعالى ما يجول في قلوب الذين أشركوا وما أبدوه وهو قول الذين يعتذرون عن كفرهم بإلقاء التبعة عنهم، وقولهم هذا لا يؤمنون به ولا يخضعون له، ولكنهم قوم خصمون والمجادل المموه يحتج بالحجة الباطلة وغير الباطلة.
إنه لو شاء الله ما أشركوا ولا آباؤهم ولا حرموا من شيء ولكنهم في وسط هذا القول الظاهر ينسون حقيقتين :
الأولى : أنهم عصوا الله وأشركوا به، وحرموا ما حرموا مختارين وغير مجبرين وأنه على ذلك يكون حسابهم وعقابهم في الآخرة ومؤاخذتهم في الدنيا ببيان أنهم خارجون عن الحق ينحرفون عنه، وفوق ذلك حرموا ما حرموا وادعوا من غير أي برهان أو حجة بان التحريم من الله افتراء عليه.
الثانية : أنه ما كان الله تعالى ليتركهم في غيهم إلا لانهم اختاروا السير في طريق الضلالة فتركهم الله يسيرون فيه حتى بعدوا عن الحق بالضلال البعيد.
وإن ذلك دأب الخارجين فخرج الذين من قبلهم بذلك القول الذين يلقون به الاثم عن أنفسهم وهو محيط بهم، لا يخرجون من دائرته ولذلك قال تعالى :( كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا باسنا ).
كهذا القول الذي سيقوله الذين أشركوا ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء قال الذين سبقوهم بالشرك من قبلهم فالشر مسلسل فيهم قد ما داموا قد غووا، والكفر كله ملة واحدة في التفكير واستيلاء الهوى، وعدم تحملهم مسئولية فعلهم بإلقاء التبعة على غيرهم ونفيها عنهم، واعتذارهم بأنهم لا يؤاخذون على ما يرتكبون من آثام وذلك الشأن في العصاة يروى أنه حدث أن مرتكبا لما يوجب حدا سيق الى عمر، فسأله لم ارتكبت هذا ؟ قال : قضاء الله فأقام عمر عليه الحد وزاده أسواطا لأنه يحمل قضاء الله تعالى مسئولية عمله، ولقد قال الإمام ابو جعفر الصادق ابن محمد رضي الله عنه : أمرنا الله أمرا وقضى لنا أمرا فلماذا نترك ما أمرنا ونحمله على ما قضى لنا.
ذلك شأن الذين يفسقون عن أمر ربهم يلقون عن أنفسهم أوزارهم كاذبين بمثل هذه الاعتذارات وهم لا يؤمنون بها.
وإنهم استمروا على غيهم وعلى قولهم حتى ذاقوا عذاب الله تعالى، ولذا قال الله تعالت كلماته :( حتى ذاقوا باسنا ).
وهذا يحتمل أن يكون باس الله بقوة المؤمنين في الدنيا ويحتمل أن بأسه بعذابه الأليم في الآخرة وكيفما يكون العذاب فان الله تعالى عبر بالماضي وهو واقع في المستقبل للدلالة على تأكد وقوعه كما في قوله تعالى :( أتى امر الله فلا تستعجلوه ١ ) ( النحل ).
وان هذه الاعتذارات التي يسوقونها بانه لو شاء ما اشركوا ولا حرموا بعض الانعام على الله فهل عندهم حجة على أن شركهم برضا الله، وأن تحريمهم ما حرموا بامره أو رضاه لا حجة عندهم ولذا قال تعالى مفحما لهم ردا على افترائهم :
( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ).
قل يا محمد في جدلهم مفحما لهم إن ادعاء رضا الله لا يكون بمثل ظنكم ولكن يكون بعلم جاء اليكم من الله، فتحتجون بهذا العلم، لا بمجرد الظن والتخمين، وكثرة الكلام، والتهافت فيه، فهل عندكم من علم فتخرجوه لنا تحتجون به، وتسوغون كلامكم إن كان فيه ما يسوغ ما تزعمون.
والاستفهام للإنكار والتوبيخ واستغراق النفى المتضمن له الاستفهام ب ( من ) يفيد الاستغراق أي هل عندكم من علم أي علم تزعمونه فتخرجوه لنا ليكون دليلا لكم ؟.
وهذه الجملة السامية فيها إفحام، واستنكار وتهديد وتوبيخ وقد أكد الله تعالى أنه لا علم عندهم فقال :( ان تتبعون الا الظن وإن أنتم الا تخرصون ).
إنهم لا حجة لهم من علم أوتوه، ولا دليل اعتنقوه ولكن الظن الذي سبق اليهم وتوهموه حقا لا شك فيه دفعهم، وإن الظن لا يغني من الحق، شيئا فهو رجحان أمر في نفوسهم جعلوه حراما، وذلك الظن لم يبنوه ولو على دليل ظني مرجح، ولكن على خرص وتخمين سيطرت عليه أوهامهم ووجهتهم إليه وهذا معنى أو قريب من معنى قوله تعالى :( عن تتبعون الا الظن ) و ( ان ) للنفى و ( إلا ) للاستثناء، أي ما يتبعون الا الظن، فهذه الكلمة السامية نافية أن يكون دليلا مقنعا أو ملزما باليقين ولكنهم يتبعون ظنا ترجحه أوهامهم وأكد أن الظن مبنى على أوهام بقوله تعالى :( وإن أنتم إلا تخرصون ) أي ما هم إلا يخمنون تخمينا قائما على الأوهام المضللة وقد ضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
وقد التفت الله سبحانه وتعالى في خطابه الكريم من الغيبة على الخطاب لتكون المواجهة أرهب في نفوسهم وليفزعوا الى الحق وليلتزموا قول الحق ولكنهم لا يعلمون.
( فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ).
ساقوا كلاما كثيرا في تبرئة أنفسهم من ذنب شركهم وتحريمهم بعض ما أحل الله وطولبوا بالحجة فلم يجدوا عندهم ما يستدلون به، وتحداهم رب البرية أن ياتوا بعلم أي علم، وقد بهت أولئك الكفار، بما طلب إليهم أن ياتوا به، وفي هذه الآية الكريمة يبين الله أن عنده الحجة البالغة أي التي تبلغ بصاحبها أقصى الحق والاستدلال ف ( بالغة ) معناها مبلغة صاحبها أقوى الأدلة كقول الله تعالى :(... عشية راضية٧ ) ( القارعة ) أي مرضى بها أو مرضية، وإن استعمال المشتقات بعضها مكان بعض هو من أبلغ البيان العربي.
قوله تعالى :( قل فلله الحجة البالغة ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والفاء للإفصاح عن شرط مقدر المعنى إذا لم يكن عندكم من علم أي علم بما تدعون فالله تعالى عنده الحجة البالغة الموصلة للحق الهادية إليه.
وتلك الحجة البالغة هي هذا الخلق والتكوين والإنشاء وتوليد الأحياء بعضها من بعض فكل هذا يدل على الخالق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد وليس كمثله شئ وهو السميع العليم ولو كان معه آلهة كما يقولون لفسدت السموات والأرض وهكذا كل ما في الوجود يدل على أنه واحد سبحانه وتعالى وأنتم معشر العرب تقرون أنه الخالق وحده ليس كمثله شيء، ولكن مع هذه الحجة التي لا يمترى فيها عاقل وتقرون بها تشركون معه غيره في العبادة، والإلوهية فضلت عقولكم ولم ترتبوا على المعلوم نتيجته بل حكمتكم من بعد ذلك الأوهام وسيطرت. وتلك مشيئة الله تعالى ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) أي أن الله تعالى شاء لكم الضلالة لأنكم اخترتموها وسرتم في طريقها بإرادتكم المختارة فوصلتم إلى الضلال.
وهم في قولهم معتذرين مبطلين :(... لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) قد حسبوا أن مشيئة الله تستلزم رضاه كما فهم بعض الفرق الإسلامية من بعد ولذا قالوا ما قالوا، والحق أن المشيئة لا تستلزم الرضا، إنما الأمر هو الذي يستلزم الرضا والنهي يستلزم الغضب، فالهداية هي التي تستلزم الرضا، ولذا قال تعالى :( فلو شاء لهداكم أجمعين ).
أي أن كل شيء في الوجود تحت سلطانه وارادته وهو لو أراد أن تكونوا جميعا على هدى لكان ذلك، ولكنتم جميعا في أعمالكم في رضوان الله تعالى.
وانما أراد أن يكون منكم المهديون الدعاة إلى الحق، المؤمنون به، وأراد منكم من يكون على غير ذلك ليتم الابتلاء والاختبار وهذا قوله تعالى ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ٤٨ ) ( المائدة ). مهتدين كما قال تعالى :( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ١١٨إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ١١٩ ). ( هود ) وكما قال لو شاء لجمعهم على الهدى وكما قال تعالى :( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ٩٩ ). ( يونس ).
وإننا نؤكد هنا أن الإرادة والمشيئة لا يستلزمان رضاه سبحانه، فإذا كان قد شاء ضلالة بعض عباد فانه لا يرضى من عباده الكفر.
ولذا لا يصح للمشركين ولا لمن تكلموا في فلسفة أن يربطوا بين المشيئة والرضا، فقد نفى الله تعالى ذلك نفيا مؤكدا في الكثير من الآيات وما ربك بظلام للعبيد
( قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ١٥٠ ).
الكلام الكريم لا يزال فيما حرموه على أنفسهم مما أحله لهم وآتاهم من رزق، وقد طالبهم الله تعالى بما عندهم من علم أى علم بأن الله تعالى حرم هذا، فلم يكن علم أوتوه ولكن أوهام سيطرت عليهم، والىن يطالبهم ليشهدوا أن الله حرم هذا ولذا قال تعالى :
( قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا ).
( هلم ) اسم فعل أمر بمعنى ادعوا او هاتوا شهداءكم أي الذين تعدونهم قدوتكم والفضلاء فيكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا.
وإن هذا الكلام سائر مع سياق القول في تحريم ما أحل الله من رزق فجعلوا منه حراما وحلالا، فقد بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أنهم لا يستيقنون بشيء ان يظنون الا ظنا، وأنهم يخرصون أو يكذبون ولذلك دعاهم الى ان يحضروا أماثلهم ليشهدوا أن الله تعالى حرم هذا وإنهم حينئذ يرفضون، وذلك لأن أماثل العرب لا يشهدون كاذبين وان كانوا كافرين، وإنا لنذكر أن ابا سفيان زعيم الشرك قبل الفتح المبارك لمكة عندما سأله هرقل أجاب إجابة صريحة صادقة وهو متململ وقال، لولا أني أخشى أن تحفظ عنس كذبة في العرب لكذبت. فما كان الأماثل منهم يسارعون إلى الكذب أو يرضونه. طلب الله أن يحضروا شهداء ليشهدوا أن الله حرم هذا، وإنهم لا يشهدون.
ولكن حال تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، واتباعهم أهواءهم وسيطرة الأوهام عليهم قد تغلب عليهم نزعة الصدق، ولذا كان أمر الله تعالى الذي امره بدعوتهم بأنهم إن شهدوا بالباطل وليس بمستحيل على من أشرك فقد تدفعه لجاجة الكفر إلى أن يطمس معالم الحق فيكذب ان شهدوا بغير الحق، ( فلا تشهد معهم ) أي فلا تصدقهم لان الهوى قد يغلبهم على سجيتهم ومن يشرك لا يؤمن كذبه، ولو كان من أهل الصدق ولذا قال تعالى :( فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) أي فإن غلب عليهم فشهدوا بالباطل كما ذكر فأنكر عليهم شهادتهم ولا تشهد معهم ولا تسايرهم وهذا معنى قوله تعالى :( فلا تشهد معهم ) أي فلا تسايرهم في كذبهم الذي ينبعث من الهوى ولذا قال تعالى من بعد.
( وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ). نهى الله تعالى نبيه الكريم ونهيه نهى لكل الذين اتبعوه، ويتبعونه إلى يوم الدين، نهاه عن أن يتبع أهواءهم لأن الهوى ذاته يضل ولا يهدي ومن جعل إلهه هواه فقد ضل سواء السبيل.
ونص القرآن :( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ) والمعنى الذي هو المقصود لا تتبع المشركين المفترين على الله تعالى الذين يحرمون ما يحرمون ويفترون على الله الكذب. فيزعمون أنه الذي حرم، وعبر عن المشركين بقوله تعالى :( ولا تتبع أهواء الذين ) لأنه لازم لاتباعهم لأن من اتبعهم فإنما يتبع أهواءهم المنحرفة وكيف يتردى مؤمن في اتباع الهوى والهوى مضل ومرد وانى يكون ذلك من نبي كريم ومن أتباعه الكرام.
ولذلك كان النهى عن اتباع هواهم وقد ذكر لهم أوصافا ثلاثة مع أنهم أصحاب هوى وليسوا اصحاب عقل :
الوصف الأول أو الحال الأولى من أحوالهم أنهم كذبوا بآياتنا آي آيات الله تعالى في الكون الدالة على وحدانيته سبحانه وتعالى فكذبوا الآيات الدالة على وحدانيته ومعنى تكذيبهم هذه الآيات أنهم لم يعلموا بمقتضى ما تدل عليه من القدرة القاهرة، والإرادة المختارة وكذبوا بالآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا بالآيات القرآنية والأحكام التي نزل بها وحي الله تعالى على نبيه الأمين الكريم صلى الله عليه وسلم.
والمكذب بالحق المعلوم الذي تبهر آياته البينات لا يصح أن يتبع لأنه ضال مضل. الوصف الثاني أو الحال الثانية : أنهم لا يؤمنون بالآخرة، ومن ينكر الآخرة ينكر حقيقتين لا ينكرهما مؤمن ولا يقع في هذا الإنكار إلا مادي لا يؤمن بالغيب وهو لب الإيمان.
أولى : هاتين الحقيقتين إنكار البعث ويقولون : إن هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما نحن بمبعوثين وهم بذلك يحسبون أن الله سبحانه وتعالى خلقهم عبثا وأنه تركهم سدى، ( افحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون ١١٥ ) ( المؤمنون ).
الثانية أنهم ينكرون الحياة الروحية ولا يؤمنون إلا بالحياة المادية، ومن كان كذلك لا يتبع.
الوصف الثالث : وهو الحال الثالثة، وهي نتيجة للأمرين وهي انهم بربهم يعدلون أي يجعلون الأوثان وهي حجارة معادلة للعبادة مع ربهم الذي خلقهم وكونهم وربهم بربوبيته أي انه خلقهم ولم يتركهم بل قام على تطويرهم من حياة الى حياة فهو الحي القيوم القائم على كل شيء الذي يكلؤهم بالليل والنهار سبحانه الواحد القهار.
وتقديم ( بربهم ) على ( يعدلون ) لبيان ضلالهم في مساواتهم الله ربهم بالأوثان وهو تأنيب لهم، وبيان لضلال عقولهم.
وصايا الله
( قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ١٥١ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ١٥٢ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٥٣ ).
هذه وصايا العشر هي وصايا الله تعالى لبناء مجتمع إنساني كامل، يقوم على أساس التعاون الإنساني والمودة ودفع الأذى ووقاية المجتمع من الآفات ورعاية الضعفاء.
ولقد قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه :( من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات
( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) الى قوله تعالى :( لعلكم تتقون ).
هذا ما قاله ابن مسعود الصحابي الفقيه النافذ ببصيرته في معاني القرآن الكريم ومستخرج الأحكام من بين ما نص عليه وما ظهر وما استكن من معانيه العالية.
وفي الحق إن هذه الوصايا الإلهية التي هي وصايا النبي صلى الله عليه وسلم يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني السليم، وبها تجارب الآفات الاجتماعية التي تتردى بها الجماعات في مهاوي التفرق والانحلال. فيها تطهر النفس والعقول من آفات الفكر، وتطهير المجتمع من التقاطع والتنابذ ومنع الاعتداء بأي نوع من أنواعه وفيها التعاون على حماية الضعفاء وفيها إعطاء كل ذي حق حقه، وفيه إقامة العدل في كل ضروبه الذي هو ميزان الحقوق والواجبات وفيها الوفاء بالعهود الذي هو رباط الجماعات الإنسانية مهما تختلف أجناسها وشعوبها وقبائلها.
وإن شئت أن تقول إن فيها أكثر التكليفات الاجتماعية البانية والواقية، وهي متفق عليها في كل الديانات السموية، ومقررة في كل الشرائع العادلة، وإن لم تكن فيها على هذا السمو الرفيع كما جاء في القرآن.
( قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ).
خاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم ليبلغ جوهر رسالة ربه بان يقول لهم :( تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) أي اقبلوا أيها الناس أجمعين في شتى الأرض أجناسا وشعوبا وقبائل واقبلوا بعقولكم وأنفسكم أبين لكم ما حرم عليكم، فالنداء ب ( تعالوا ) دعوة لإقبالهم له بكل مداركهم وتفكير وتنبيه لعظم ما سيبنيه لهم من وصايا وتكليفات والتلاوة هي قراءة القرآن الكريم مرتلا متتابعا في كلماته وأساليبه، والمراد هنا البيان لأن البيان ثمرة تلك التلاوة المتتابعة الموضحة فهذا تعبير مسبب عن السبب.
وقوله تعالى :( ما حرم ربكم عليكم ) ( ما ) اسم موصول بمعنى الذي أي أبين لكم الذي حرمه الله تعالى عليكم ويصح أن تكون ما موصولا حرفيا، ويكون المؤدى تعالوا أتل تحريم ربكم تعالى عليكم.
وفي التعبير بقوله تعالى :( ما حرم ربكم عليكم ) إشارة إلى أن ذلك من ربكم الذي خلقكم وربكم وهذبكم وهو العالم بالأمور كلها وهو المحيط بما فيه خيركم و ( حرم ) إنما هو في الأمور الخمسة الأولى التي آخرها، ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ) فإن هذه الخمسة محرمات ننتهي عنها وإذا شئنا الإحسان إلى الوالدين أما الباقي فأكثره مأمورات من الوفاء بالكيل والميزان وألا يقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن، فهو في معنى الأمر في معاملة اليتيم بالتي هي أحسن في ماله ثم إقامةالعدل والوفاء بالعهد فهذه أوامر لا محرمات.
هذه الأوامر المذكورة في الآيات نهيا أو طلبا هي تسعة إن جعلنا الوفاء بالكيل والميزان أمرا واحدا وإن جعلناها أمرين تكون عشرة كاملة.
( ألا تشركوا به شيئا ) هذا هو الأمر الأول الذي حرمه الله تعالى، وهو أعظم الأمور، وأقواها أثرا لأنه يتعلق بخالق الكون ومنشئ الوجود، وأصل الاعتقاد الديني، وهو أول الشريعة وعليه اجتمعت كل الرسالات كما قال تعالى :( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ما وصينا به إبراهيم موسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ١٣ ) ( الشورى ).
فالوحدانية لب الإيمان والله تعالى يجعل كل السيئات قابلة للغفران الا الشرك ولذا يقول تعالى :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ٤٨ ) ( النساء ).
وإن الوحدانية فيها تطهير للعقول من رجس الأوثان والإذعان للإنسان والأوثان وهي تربى العزة في المرء، فلا يخضع الا للواحد الأحد، الفرد الصمد، وذلك من يعبد غير الله ومن يخضع لغيره، وأنه إذا كانت الوحدانية برا بالخالق فإن الإحسان إلى الوالدين بر بمن جعلهم الله سببا ماديا في وجود الولد ولذا قال تعالى :( وبالوالدين إحسانا ).
هذا هو الأمر الثاني وهو الوصية بالوالدين والوصية بهما هي الإحسان إليهما والإحسان مرتبة أعلى من العدل، إذ هو فوق العدل في الرحمة والرأفة فهو عدل ورأفة ووفاء وبر، ولذلك كان الأمر بالإحسان بجوار الأمر بالعدل، كما قال تعالى :( إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ٩٠ ) ( النحل ). وقال تعالى :( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا٢٣ ) ( الإسراء ) وإن الأمر بالإحسان يتضمن النهي عن الإساءة إذ هو نهي عن الإساءة وأمر بفضل العاطفة والمواساة والقرب وإحسان الصحبة.
وإن الله تعالى أمر بالإحسان الى الوالدين مقترنا بالنهي عن الشرك في كثير من الآيات الكريمة فقال تعالى :( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ٣٦ ) ( النساء ). وقرن الله تعالى شكر الوالدين بشكر الله وجمعهما معا، فقال تعالى ( اَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ١٤وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ١٥ ) ( لقمان ) والإحسان الى الوالدين شريعة النبيين أجمعين قد كفلها بني إسرائيل قال تعالى :( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ٨٣ ) ( البقرة ).
فمن يعق الوالدين فهو فاسق عن أمر الله ونهيه.
( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ )هذه هي الوصية الثالثة، وقد نزل سبحانه من إكرام الأصول والإحسان اليهم إلى الإحسان الى الأولاد ولم يذكر سبحانه الإحسان الى الأولاد لأنه أمر فطري تتقاضاه المحافظة على النفس فالولد امتداد أبيه وما جاء القران بالأمر بالإحسان الى الأولاد ولكن أمر الإسلام بالقيام على تربيتهم ورعاية شئونهم ورزق أمهاتهم كما قال تعالى :( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك ٢٣٣ ) ( البقرة ).
ولكن كان في وحشية الجاهلية من يئد بناته بغيا بغير علم، وكان من يفعل ذلك وغيره لإملاقهم والإملاق الفقر من كثرة الإنفاق وقد نهى سبحانه وتعالى عنه فقال :( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) أي من فقر بسبب الإنفاق عليهم، وهو متلاق في المعنى مع قوله تعالى :( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم... ٣١ ) ( الإسراء ) فكأنه كان في الجاهلية من يقتل أولاده لاملاق واقع بسبب الإنفاق ومن يقتل ولده لأنه يتوقع الإملاق إن لم يقتله.
وقد نهى الله تعالى عن ذلك الإثم الجاهلي وهو من إغواء الشياطين ولعله كان يسهل على الذين يفعلونه معهم، أنهم يفعلون ذلك، وهم بعد في المهد أو عقب ولادتهم فلم يكونوا تعلقوا بهم تعلق الآباء بالأولاد وكانوا يفعلون ذلك سفها بغير علم، ولم يكونوا قد ذاقوا محبتهم بالإلف والتودد وقد قال تعالى في بيان أن الفقر أو الإملاق لا يبرر لانهم لا يرزقونهم ولكن يرزقهم الله ولذلك قال تعالى، ( نحن نرزقكم وإياهم ) أي نحن نرزقكم معهم، كما رزقناكم وحدكم :( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها... ٦ ). ( هود ).
وقد فهم بعض العلماء من هذه الآية أن منع النسل لا يجوز بعزل أو نحوه، والعزل أن يلقى النطفة خارج الرحم ولكن رويت آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى العزل ولم يامر به ولم ينه عنه١واحد ولكن جاء آخر الحديث في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( العزل هو الوأد الخفى )٢.
وروى عن الصحابة أنه رأى أن العزل ليس به من بأس، ولكنه خلاف الأولى ورأى آخر منعه، والفقهاء بعد ذلك اختلفوا فيه، فمنهم من قال إنه مكروه، ومنهم من قال إنه حرام كالحنابلة وأهل الظاهر، والغزالي قال انه لا يجوز الا إذا كان ثمة عذر إليه، وفتح باب الأعذار على مصراعيه حتى لخشيت المرأة على جمالها فان زوجها يعزل عنها، ولكنه منع منعا مطلقا العزل أو حد النسل خوف الإملاق أو للإملاق فان ذلك يكون مصادمة للنص، ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق والقول الفصل في الحد من النسل المترتب على العزل ونحوه، أن جمهور الفقهاء لم يرضه، حتى عن الغزالي الذي فتح باب المبررات له، قال : إنه لا ينبغي.
ومهما يكن فإنه من المؤكدا ان الذين قالوا ليس به من بأس قرروا أن ذلك بالجزء لا بالكل أي أنه يكون لمن يريد ذلك أن يفعل إذا كان له مبرر على التوسعة في المبرر عند الغزالي ولكنه حرام بالكل أي حرام أن يدعو أحد إليه، أو تدعو الدولة إليه لأن ذلك مناهضة للنص الكريم في القرآن وقوله :( تزوجوا الودود الولود فاني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )٣.
وقد قرر مجمع البحوث الإسلامية المنعقد في الأزهر سنة ( ١٩٦٥ ) أن الإسلام يرغب في النسل لأنه يقوي الأمة اجتماعيا واقتصاديا، وحربيا، ويربى في الأمة روح العزة والمنعة، وقرر أن تنظيم النسل حق للزوجين دون غيرهما يستعملانه للضرورة، ومسئوليتهما عن الضرورة أمام الله وحده.
( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ).
هذه هي الوصية الرابعة وهي تتصل بالأولاد عن قرب أو عن بعد، لأن أخص الفواحش هو الزنى وقد قال تعالى :( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا٣٢ ) ة( الإسراء ).
والفواحش : جمع فاحشة، والأصل في الفحش الزيادة عن الأمر المعتدل والفاحش هو الزائد عن المعقول ولذا يقال غبن فاحش أي زائد عن الحد المعقول في الصفقة إذ لا يدخل في تقويم المقومين، والفواحش هي المعاصي لأنها انحراف وزيادة عن الفطرة وخروج عن منهاجها، وعن الطريق المستقيم، والظاهر
١ من ذلك ما جاء في باب العزل من صحيح البخاري ومسلم ففي صحيح مسلم النكاح حكم العزل (١٤٣٨) عن أبي سعيد الخذري قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ولم يفعل ذلك أحدكم.) ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم (فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)..
٢ سبق تخريجه..
٣ رواه ابو داود: النكاح النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (٢٠٥٠) وأحمد باي مسند المكثرين (١٢٢٠٢) عن أنس رضي الله عنه..
( ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ).
نهى الله تعالى أن يقربوا مال اليتيم أو يأخذوه وكان التعبير بالقرب، ويكون بالأولى النهي عن أكله لأنه إذا كان النهي عن القرب إلا بالخصلة أو بالطريقة التي هي أحسن لإنمائه وحفظه وصيانته ومنها الاتجار فيه إذا كان الوصى عليه أمينا قادرا ماهرا لقوله عليه الصلاة والسلام :( اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة )١ كان أولى بالنهي أكله.
واليتيم هو الذي مات أبوه والخصلة التي هي أحسن قال فيها بعض المفسرين إنه المحافظة على أصوله وتثمير فروعه، ولو عبر فقال المحافظة على الأموال الثابتة كالأرضين والدور والأغراس وتثمير المنقول بكل طرق التثمير بالأمانة ولا يأكلها فإن التعبير يكون أوضح.
وإنما كان النهي عن قرب ماله الا بما يحفظه وينميه لأنه فقد من يحميه، فقد الأب الحامي الذي يأخذ بيده على مدارج الحياة، يلاحظ جسمه ويلاحظ ماله، ان كان له مال، وهنا لم يذكر الا المال لأنه مطمع الطامعين ومطلب الذين يأكلون أموال الناس أكلا لما.
وإن مال اليتيم هو جزء من مال الأمة إن حوفظ عليه كان محافظة على جزء من ثروتها.
وإن المال أمانة في يد وصية وفي رعاية الأمة مجتمعة في قاضيها، حتى يبلغ أشده، أي يبلغ السن التي يقدر على المحافظة على ماله، والقيام على شئونه في خاصة نفسه، وفي معاملته والأشد قيل جمع شد، ككلب وأكلب، وقيل اسم لا مفرد له، والمراد ما ذكرنا وهو بلوغه حد القدرة على إرادة شئون ماله، وأدناه النكاح بأن يكون قد بلغ السن التي يمكن أن يتزوج وان يبلغ رشدا أو يؤنس منه الرشد بعد بلوغه سن النكاح قال تعالى :( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم اليهم أموالهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ٦ ) ( النساء ).
وقد شدد الله تعالى في الوصية باليتامى في أموالهم وأشخاصهم لأنهم ضعاف ولشدة الوصايا بالأيتام كان المؤمنون يخشون على أنفسهم أن يخالطوا اليتامى، فيظلموهم أو يأكلوا مالهم فأمرهم الله تعالى أن يكون برهم بالمحافظة على أموالهم ومخالطتهم لأن المخالطة تقر بها نفوسهم ويأنسون بها، ( فلا ينفرون من مجتمعهم ولذا قال تعالى :( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء لأعنتكم ٢٢٠ ) ( البقرة ).
وان رعاية نفس اليتيم تجعله قريبا بنفسه إلى الناس ولا ينشا نافرا منهم لأنه لا يجد الحماية والرعاية وينشأ عدوا للجماعة التي يعيش فيها، ولذا قال تعالى :( فأما اليتيم فلا تقهر ٩ ) ( الضحى ) وقال صلى الله عليه وسلم :( شر البيوت بيت يقهر يتيما، وخير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم )٢. هذا إصلاح في الأسرة وهو إكرام اليتيم وأوصى سبحانه وتعالى بالأمانة في الجماعة فهي رباط المودة فقال تعالت كلماته :
( وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ).
هذان هما الأمران السابع والثامن واللذان أوصى الله تعالى بهما في ضمن عشر الوصايا وهما الوفاء بالكيل في المكيلات والوفاء بالوزن في الموزون بالقسط من غير بخس ولا شطط ولا زيادة ولا نقص، بل الناس من وفاء الكيل بمقدار ما تطلب وتعطيهم من الوزن لمقدار ما تطلب لو كنت طالب الكيل والميزان، وذلك على حسب الطاقة في تحري الحق في مكيل غير منقوص، وموزون غير مبخوس، ولذا قال تعالى :( لا نكلف نفسا الا وسعها ) وإن الله تعالى إذ يطالب بالوفاء في الكيل والميزان يذم المطففين لهما فقد قال تعالى :( ويل للمطففين١ الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ٢ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ٣ ) ( المطففين ).
وكان الأمر بالوفاء، لأنه المطلوب فالزيادة غير مطلوبة إلا من أهل السماحة والنقص محرم ممنوع.
وإن الوفاء في الكيل والميزان يرمز إلى حسن التعامل في الأمة ومنع أكل أموال الناس بالباطل الذي يضعفها ويقتلها.
ولذا عقب الله تعالى النهي عن أكل أموال الناس بالباطل بالنهي عن قتل أنفسهم أي تفريق النفوس في جماعتهم فقال تعالى :( يا ايها الذين آمنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ٢٩ ) ( النساء ).
ولقد قال ابن عباس فيما روى عنه كلمة جامعة في آفات الجماعات ونتائجها :( ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان الا قطع عنهم الرزق ولا حكم قوم بغير الحق الا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد الا سلط الله تعالى عليهم العدو )٣.
هذا وان العدل في الأمة ميزانها ولذا قال تعالى :
( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ).
أمر الله تعالى بالعدل في القول، وان لا نقول الا عدلا، ولذا قال :( وإذا قلتم فاعدلوا ) والعدل في القول تحري الحق فيه، فلا ينطق بأمر لا يكون حقا.
والعدل في القول يشمل الحكم بين المتخاصمين كما قال تعالى :( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ٥٨ ) ( النساء ). وتشمل الفصل في الخلافات بين الناس، فلا يقول الا الحق لان الحق يحسم النزاع ويقطع دابر الخلاف، ويشمل القول في الشهادة فلا ينطق الا بما رأى وعاين، فإن الشهادة حكم أو هي طريق الحكم ودليله، وإذا قلت في مباراة فكن عادلا، وإذا قلت في امتحان فكن عادلا، لان الامتحان تقدير كفاية فهي حكم.
والعدل ميزان في معاملات الناس وأحوالهم والإسلام دين العدل، وإذا كان لكل دين سمة فسمة الإسلام هي العدل، ولذا قال تعالى :( إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون٩٠ ) ( النحل ). ولذا كان العدل رابطة الجماعة وميزانها وقال تعالى :( ولو كان ذا قربى ) أي ولو كان الذي يقوم عليه العدل في القول في حكم أو شهادة أو فصل في خصومة أو مباراة أو امتحان، فإنما العدل حيث تتنازع العواطف وتمتلك النفوس هو فعل الأبرار وهو المقياس الذي تتفاوت به مراتب العدول.
وإذا كان العدل ميزان الترابط بين الجماعات في الأمة فالوفاء بالعهد ميزان العدالة في الأمم ولذا قال تعالى :
( وبعهد الله أوفوا ).
هذه هي الوصية العاشرة من وصايا الله تعالى وهي تطلب من الناس أجمعين الوفاء بالعهد وقوله تعالى :( وبعهد الله أوفوا ) قدم فيه ( بعهد الله ) لأهمية الوفاء بعهد الله ولمعنى الاختصاص أي احرصوا على الوفاء بعهد الله دون غيره.
وعهد الله تعالى الذي يتجه غليه، ما عهده الى بني آدم من فطرة مستقيمة أنشاهم عليها، كما قال تعالى :( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ١٨٢ ) ( الأعراف ) وإن تكليفات الله تعالى عهود عليهم.
والعهود بين العباد عهود الله تعالى عليهم، لأنهم عادة يوثقونها بأيمانهم وقد قرر سبحانه وتعالى ذلك وقال :( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون٩١ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاتا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من امة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ٩٢ ) ( النحل ).
فهذه الآية تحث على الوفاء بما يكون من العهود بين الآحاد والجماعات وهي تدل على ثلاثة أمور :
أولها : أن من وثق عهده بالله فقد جعل الله تعالى كفيلا بالوفاء والخيانة أو خفر العهد خيانة لله تعالى.
ثانيها : أن الوفاء بالعهد يقوي الأمة فيجعل الناس يثقون بها، وتلك قوة ولذلك شبه الله تعالى من ينقض عهده بالحمقاء التي تنقض ما فتلته من غزل، فتجعله أنكاثا شعرا متفرقا.
ثالثهما : أنه لا يصح أن تكون الرغبة في زيادة الأرض والسلطان سببا لخيانة العهد لأن ذلك ظلم وطغيان وفقد لقوة أكبر وأعز من النكث في العهد والخيانة فيه.
وصدق ما قاله ابن عباس فيما نقلنا ( ما خفر قوم في العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوهم ).
هذه وصايا الله سبحانه وتعالى ويلاحظ أنه لم يذكر في هذه الوصايا الصلاة والزكاة والصوم والحج وهي من أركان الإسلام، والصلاة عمود كل دين، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم :( لا دين من غير صلاة )٤ لأنها لب العبادة.
ولماذا لم تذكر الصلاة في هذه الوصايا مع أنها لا تقل طلبا في الإسلام عما ذكر من الوصايا العشر ؟ ونجيب عن ذلك بثلاثة أمور.
أولها : أن المطالبة بها ذكرت إجمالا في قوله تعالى :( وبعهد الله أوفوا ) وقد ذكرنا أن أول عهود الله تعالى تكليفاته التي كلفها عباده.
ثانيهما : أن هذه الوصايا مجمع عليها في الأديان وهي الأساس النفسي والعملي لتكوين الجماعات الفاضلة وقد جاءت بها الأديان كلها، ورضيتها الشرائع الوضعية المستقيمة.
ثالثها : وهي أهمها أن هذه الآية مكية، ولم تكن الصلاة ولا الصوم ولا الحج قد فرض والزكاة لم تكن قد نظمت كما ذكرنا آنفا.
١ سبق تخريجه..
٢ رواه بنحوه ابن ماجه: الأدب حق اليتيم (٣٦٧٩)..
٣ الرواية موقوفة على ابن عباس في موطأ مالك: الجهاد ما جاء في الغولو (٩٩٨) وختر العهد نقضه..
٤ رواه ابو داود: الخراج والغمارةـ ما جاء في خبر الطائف (٣٠٢٦) وأحمد مسند الشاميين حديث عثمان ابن أبي العاص (١٧٤٥٤) بلفظ (لا خير في دين لا ركوع فيه) أي لا صلاة فيه..
وقد بين الله تعالى من بعد أن هذه الوصايا هي طريق الله الحق الذي بينه لعباده فقال تعالى :( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ).
( الواو ) واو العطف فهي عاطفة هذه الآية على ما قبلها من الوصايا، و ( أن ) مفتوحة فهي ليست صدر جملة مبتدأة بل مصدر منسبك مع ما بعدها، وعاملها ( اتل ) واتل عليهم وبين لهم أن هذا صراطي مستقيما لا عوج فيه، والصراط : الطريق، فطريق الله تعالى مستقيم، والمستقيم أقرب طريق يوصل إلى الحق، كما أن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتين.
والإشارة إلى ما يبينه الله تعالى من ضلال الذين يحرمون ما احل الله وبيان ما أحل وما حرم وبيان ضلال من قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وما بينه الله تعالى من نهي عن الشرك وطلب الإحسان إلى الوالدين والنهي عن قتل الأولاد من إملاق والنهي عن القرب من الفواحش والنهي عن قتل النفس التي حرم الله قتلها، والأمر بالإحسان الى اليتيم ووفاء الكيل والميزان والعدل في القول والوفاء بعهد الله.
كل هذه المعاني أو جماعها هو طريق الله تعالى وهو طريق مستقيم وقوله تعالى :( مستقيما ) حال من اسم الإشارة.
والطريق المستقيم الذي هو صراط الله، والذي هو الخط الذي بينه الله تعالى لعباده يجيء بجواره سبل مختلفة هي مثارات الشيطان يضل بها عباد الله تعالى عن الطريقة المثلى والمنهاج السوي الهادي.
ولقد روى ابن مسعود قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال صلى الله عليه وسلم :( هذا سبيل مستقيم ) وخط عن يمينه وعن شماله ثم قال :( هذه السبل ليس منه سبيل الا على رأسه شيطان يدعو إليه ) ثم تلا قوله تعالى :( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )١.
ومعنى قوله تعالى :( فتفرق بكم عن سبيله ) أن هذه السبل التي هي مثارات الشيطان فيها أمران يخرجان بهما عن سبيل الله.
أولهما : أنها آثام لا استقامة فيها بل هي معوجات مضلة. وثانيها : أنها مع ما فيها من إثم تبعد عن الحق وتتفرق في باطلها فهي لا تلتقي مع الخط المستقيم وتتفرق بعضها عن بعض.
جاء في سنن ابن ماجه بسنده عن العرباض ابن سارية قال :( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله عن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا فقال : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعد إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي. عضوا عليها بالنواجد وإياكم والأمور المحدثات فان كل بدعة ضلالة، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا وانما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد )٢.
اللهم إن اتباع السبل المتفرقة التي هي مثارات الشيطان والتي على كل رأس منها شيطان هي التي فرقت أمتك وجعلت باسها بينها شديدا اللهم فاهدها إلى صراطك المستقيم.
وإن هذا الصراط هو جماع التوصيات ولذا قال تعالى :( ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) ويصح أن نعد هذه الوصية العاشرة وتكون الوفاء بالكيل والميزان وصية واحدة، وهو أولى والإشارة إلى الصراط المستقيم وصى الله تعالى به، أي أمرنا بالوقوف على هدى الله في هذا صراط أمرا مشددا بالا نحيد عنه، لأن التفرق فيه يجعل أمرنا سددا بددا، لا تجمعنا فيه جامعة ولا نسلك طريق هداية، ولذلك قرر بعد هذه التوصية المؤكدة ( لعلكم تتقون ) أي رجاء أن تمتلئ قلوبكم بتقوى الله تعالى، وأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، ولعلكم أن ترجو رحمته بعد خوف عقابه فإن الله غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى.
١ رواه أحمد مسند المكثرين مسند عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه (٤١٣١) والدارمي المقدمة في كراهية الرأي (٢٠٢).
٢ رواه ابن ماجة: المقدمة اتباع سنة الخلفاء الراشدين (٤٤) وأحمد مسند الشاميين (١٦٦٩٢) من حديث العرباص ابن سارية رضي الله عنه..
الرسالة المحمدية حجة على المشركين
( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ١٥٤ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٥٥ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ١٥٦ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ١٥٧ ).
بين الله تعالى صراطه المستقيم، وهو صراط القرآن العظيم، وقد أشرنا من قبل إلى أن هذه وصايا الأديان كلها، ومن بعد ذلك أشار سبحانه وتعالى إلى شريعة موسى مبينة مع شريعة القرآن ليعلم العرب أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه من قران هو تكملة للرسالة الإلهية فقال تعالى
( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ).
( ثم ) هنا عاطفة على الصراط المستقيم وما سبقه من وصايا وفهم من التعبير ب ( ثم ) هنا أنها لمجرد العطف على التراخي من غير ترتيب، لأن ما يتعلق بموسى عليه السلام سابق على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن كثير ذلك، وقال إنه ترق في الخبر من الحاضر إلى الماضي، واستشهد بقول الشاعر :
قلن لمن ساد ثم ساد أبوه ثم من قبل ذاك قد ساد جده
ونحن نرى أن ( ثم ) هنا للترتيب والتراخي أيضا، لأن الترتيب والتراخي كما يكون في المستقبل يكون في الماضي، فهو قد ذكر الأب ثم ذكر الجد، وذلك تراخ في الزمن الماضي، وليس ذلك غريبا في استعمال ( ثم ) فهو ترق في الذكر من الحاضر إلى الماضي وفي الماضي ذلك التراخي وإن ذلك يتلاقى مع قول أبي السعود : إن ( ثم ) تجيء للتراخي في الإخبار مع الترتيب كأن تقول : قابلتك اليوم، ثم بالأمس ثم قبل ذلك فإن استعمال ( ثم ) هنا في موضعها.
ويكون معنى قوله تعالى :( ثم آتينا موسى الكتاب ) ا ننا وصينا بالصراط المستقيم الذي هو صراط الله تعالى وهو القرآن الكريم، ثم من قبل ذلك آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا... أي أن هذه الوصايا العشر، قد آتيناها من قبل موسى كما قال تعالى :( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة ١٤٥ ) ( الأعراف ) وكما قال تعالى :( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ٩١ ) ( الأنعام ).
وكما قال تعالى :( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ١٧ ) ( هود ) وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا.
وفي الجملة : ان الله تعالى يقرر بهذا أن الشرائع السماوية في الدعوة إلى الخير والنهى عن الشر ظاهره وباطنه وأن حديثها في الوحي والتنزيل واحد.
وقال تعالى( تماما على الذي أحسن ) أي تتميما وتكميلا لنعمة الهداية فلا شيء أتم من الهداية والتوفيق إلى الصراط وبيان الحق، ولأنه الكمال والتمام للخير جعله الله تفصيلا لكل شيء من شئون الهداية والتوجيه فهو كتاب قد آتاه الله تعالى موسى فيه كمال الخير وبيانه ووصفه الله سبحانه وتعالى بوصفين كريمين.
احدهما أنه هدى فهو يهدي الى الحق ويرشد الذي أحسن التلقي، وكان قلبه مفتوحا للحق ويدخل إليه، ويصل إليه ولم ينطمس قلبه وبصيرته ولم يكن على بصره غشاوة.
وثانيهما : أنه رحمة ففيه تفصيل الخير، وبيان الوصول إلى الحق في كل مسالك الحياة، والهداية ذاتها رحمة، والشريعة التي جاءت بها التوراة رحمة بمن بعث موسى عليه السلام لهم، وإن هذه الهداية والرحمة الأخذ بها هو طريق لرجاء الإيمان باليوم الآخر ولذا قال سبحانه وتعالى :( لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ).
أي أن الله تعالى آتى موسى هذا الكتاب تتميما وتكميلا للذي أحسن التلقي وشرح صدره لقبول الحق، وجعله الله تفصيلا للحق وبيانا له، ونورا وهدى ورحمة كان رجاء أن يؤمنوا بلقاء ربهم، فقوله تعالى :( لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) الرجاء من العبيد لا من الله تعالى.
وهنا يسال سائل، لماذا كان الرجاء في الإيمان باليوم الآخر وبلقاء الله تعالى ولم يذكر سبحانه وتعالى غيره مع أن الإيمان له عناصر غير مجرد الإيمان بلقاء الله تعالى ؟ ونقول في الإجابة عن ذلك، عن الإيمان بلقاء الله تعالى هو الجامع لكل معاني الإيمان فمن آمن باليوم الآخر لا يصعب عليه الإيمان باي جزء من أجزاء الإيمان من بعد، ولذلك كان النكير من العرب والاستغراب في الإيمان بالبعث والنشور.
وفي قوله تعالى :( لعلهم بلقاء ربهم ) ذكر لقاء الله الذي خلقهم وربهم كناية عما يكون في اليوم الآخر لأن لقاء الله تعالى هو أعظم ما يكون في يوم الدين.
( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ).
الإشارة الى القرآن لأنه حاضر مهيأ كامل، وهو مبارك لأنه يشمل الخير والحق والفضل، وفيه مصالح الناس في معاشهم وفيه الشريعة الإنسانية الكاملة ما ترك صغيرة ولا كبيرة من أمر الدين إلا بينها وفصلها تفصيلا، ففيه ما يطهر الروح والجسم وفيه ما يطهر الجماعة وينميها، وفيه ما يجمع الناس على الود والرحمة وفيه ما يحقق العدالة والميزان في هذا الوجود فهو مبارك وإنه لمستمر لكل من يتلقاه مهتديا بهدى الله تعالى فهو حبل الله تعالى إلى يومه فهو مبارك في كل نواحيه. وهذا كقوله تعالى :( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ٩٢ ) ( الأنعام ).
وإذا كان الكتاب له هذه البركة وهذه الهداية فإن اتباعه يكون واجبا ولازما لمصلحتهم فإن فيه النفع العميم ولذا قال تعالى :( فاتبعوه ) ( الفاء ) تفصح عن شرط مقدر وجوابه الأمر ( اتبعوه ) وقوله تعالى :( فاتبعوه ) كان لرجاء الخير منه، وقوله بعد ذلك ( واتقوا ) كانت للوقاية من العذاب فالاتباع لرجاء النفع، والاتقاء لتجنب ما يترتب على المخالفة من عقاب بعد الحساب فالأمران فيهما ترغيب في الخير بالاتباع وترهيب باتقاء نار جهنم عند الاختلاف والمعاندة، وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :( لعلكم ترحمون ).
أي إذا اجتمع اتباع القرآن والأخذ بهدايته وشريعته وكانت التقوى في قلوبكم فإن الرحمة ترجى لكم، ولذا قال تعالى :( لعلكم ترحمون ) أي رجاء أن تكون رحمة الله تعالى تعمكم ورحمة الله وسعت كل شيء والرجاء من العبيد لا من الله، ويصح أن نقول إن الآية فيها بيان أن الرحمة هي الغاية المرجوة للاتباع والتقوى.
وهنا يجب أن نلاحظ أن القرآن الكريم يذكر دائما شريعة موسى عليه السلام وذلك لأن موسى أنزل عليه الكتاب وهو التوراة فيه بيان كل شيء وفيه ما كان عقابا لبني إسرائيل ولذلك عندما سمع نفر من الجن قالوا كما أخبر القرآن الكريم :( قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي الى الحق والى طريق مستقيم ٣٠ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب اليم ٣١ ) ( الأحقاف ).
وإنه كان من المشركين من يعتذرون عن عبادة الأوثان بأنه لم يجيء إليهم من يهديهم كاليهود والنصارى فذكر الله سبحانه وتعالى أنه أنزل اليهم الكتاب المبارك لكي يقطع عذر جهلهم فقال تعالى :( أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ).
المشركون كانوا يعتذرون عن وثنيتهم بكل تعلة سواء أكانت مقبولة أو مرذولة فهم كانوا يرون اليهود والنصارى لا يعبدون الحجارة وان كان فيهم خصوصا النصارى لا يعبدون الحجارة، وإن كان فيهم خصوصا النصارى، من يقدسون بعض الأحجار كتمثال العذراء، فكانوا يعتذرون عن وثنيتهم بأنه لم يجيء كتاب يهديهم إلى الحق كهاتين الطائفتين.
وقوله تعالى :( أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفيتين ) متصل بالآيات التي قبلها فهي قطع الطريق عن تعلة متعللون، وهو أنهم لا كتاب يهديهم فالمعنى وهذا كتاب مبارك خاطبناكم لئلا تقولوا معتذرين أو فأنزلناه حجة عليكم، حتى لا تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين.
وقد اعتذروا باعتذارين :
أولهما : أنهم قالوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، والطائفتان هما اليهود والنصارى والكتاب المذكور هو فيما يظهر التوراة، فهي مصدر عند اليهود والنصارى، كما هو مقرر عند النصارى في هذا الزمان وقد قرروا قصر هذه الكتب على هاتين الطائفتين بكلمة ( انما ) أي الإنزال مقصور على هاتين الطائفتين ولم ينزل علينا، وما كنا لنكلف بكتاب لم ينزل علينا إنما نزل على غيرنا.
ثانيهما : أننا كنا عن دراستهم غافلين غير مهتمين بدراسة ما عندهم ولا ظالمين ولكن غافلين عنه، ولأننا لا نعرف لغة الكتاب ولم يبلغ إلينا.
وقوله تعالى :( وإنا كنا عن دراستهم لغافلين ) ( إن ) هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن والمعنى أنه الحال والشأن كنا عن دراستهم غافلين لا نعرفها ولم ننبه على معرفتها.
وقد أكدوا غفلتهم عنها بعدة مؤكدات.
أولها :( إن ) المخففة فهي للتأكيد ثانيها :( كنا ) وهي تدل على استمرار غفلتهم ثالثها : الجملة الاسمية فهي تؤكد ثبوت الغفلة رابعها ( اللام. )
وكان تسجيل الغفلة عليهم وتأكيدها لتأكيد عذرهم.
وقد بين الله تعالى انه قطع عليهم عذرهم بإنزال القرآن الكريم فلا حجة لجهلهم من بعد بيانه، وإنه المبارك والنور، وفيه الهداية وفيه الشريعة الكاملة.( أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ).
( أو ) عاطفة على ( أن تقولوا إنما انزل الكتاب على طائفتين... ) فإنزال الكتاب الكريم لكيلا يقولوا انما أنزل الكتاب على طائفتين أو يقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، فالآية السابقة اعتذار أو في معنى الاعتذار عن شركهم وإيمان غيرهم وهذا لبيان ما يرجون لأنفسهم من فضل لو انزل عليهم كتاب مثل ما أنزل على غيرهم بل انهم يحسبون كما يحسب كل مفتر أنه لو جاء إليهم أمر من الأمور لعملوا بما يدعو اليه.
وإن المشركين قرروا ذلك كما حكى عنهم القرآن الكريم في قوله تعالى :( واقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ) ( فاطر ).
أكدوا أنهم لو أنزل عليهم الكتاب لكانوا أهدى منهم فقالوا :( لو أنزلنا علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ) الكتاب المراد الذي أنزل على الطائفتين من قبلهم، ولكنه لم ينزل علينا، فلهم الهداية دوننا، و ( لو ) هنا حرف امتناع لامتناع، أي امتنع علينا أن نكون مثلهم لأنه لم ينزل علينا مثلهم.
أنزل الله تعالى الشرطية الأولى، وهي أنهم لم ينزل عليهم فقال تعالى :( فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ).
وعبر عن الكتاب الكريم بقوله :( بينة ) إذ المعنى فقد جاءكم كتاب هو بينة، وعبر بهذا التعبير للإشارة إلى أنه بين في ذاته، وهي بينة فيها ما يدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم والدلالة على النزول من عند الله تعالى فهو كتاب بين يحمل في نفسه دليل صدقه لأنه حجة يتحدى بها، وقد تحداهم أن ياتوا بمثله فعجزوا عجزا مبينا.
و ( الفاء ) في قوله تعالى :( فقد جاءكم ) للإفصاح عن شرط مقدر مضمونه في كلامهم أي فإذا كنتم تطلبون أن ينزل عليكم كتاب فقد جاءكم ).
وقد وصف سبحانه الكتاب بأربعة أوصاف.
أولها : أنه ( بينة ) أي هو بين في ذاته وفيما دل عليه من شرائع بينها وفصلها وأحكم بيانها.
ثانيها : بانه( من ربكم )الذي خلقكم ويعرف مايصلح اموركم وينفعكم في معاشكم ومعادكم
ثالثها : أنه فيه الهداية إلى الصراط المستقيم وإصلاح نفوسكم، وهداية جمعكم.
ورابعها : أن فيه الرحمة بكم، لأن فيه الشريعة المحكمة وهي رحمة للعالمين ولأنه هو نبي الرحمة، قد جاءكم القرآن بما تطلبون أو بما تتمنون أو بما يكون فيه ادعاؤكم فهل آمنتم ؟ كلا لم يؤمنوا وكان كلامهم غرورا أو تغريرا، وهو ضلال في كل أحواله، بل كذبوا بآيات الله، وانصرفوا عنها، ودعوا الناس للانصراف عنها، فضلوا وأضلوا وأشاعوا فساد الفكر والاعتقاد بين الناس وهم بهذا أشد الظالمين ولذا قال تعالى :
( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ) إنهم بعد أن جاءتهم الرسالة مع الكتاب الذي ادعوا أنه لو أنزل عليهم الكتاب لكانوا أهدى الأمم أي أكثرها هدى فلما جاءتهم كذبوا بها، وكذبوا بآيات الله التي أقامها عليهم في التصديق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم كذبوا بالآيات الكونية الدالة على وحدانية الخالق فكذبوا بدلالتها على هذه الوحدانية وكذبوا بآيات القرآن فلم يصدقوه وهو آية كبرى، فكانوا ظالمين أشد الظلم ولذا قال تعالى :( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ) ( الفاء ) للإفصاح عن شرط مقدر، أي انهم إذا كانوا قد كذبوا الرسول الذي جاء ببينة من عند ربهم فقد ظلموا والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي النفى مع التوبيخ أي لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى وصدف عنها فقد ارتكب ظلمين فاحشين :
أولهما : انه كذب بآيات الله تعالى الدالة على كمال ربوبيته ووحدانيته وعاند الله تعالى في رسالة نبيه وتكذيبه له، وإن ذلك ظلم وكفر وضلال.
ثانيهما : أنه صدف عنها : أي اعرض عنها إعراضا شديدا فانصرف عنها، وعمل على أن يصرف غيره عنها، فالصدف الانصراف عنها، وصرف الناس عنها بتضليلهم وإيذاء المهتدين لحملهم على الضلال والفساد والتحريض على ضعاف المؤمنين وإيجاد رأي عام ضال مضل، ولقد أنذر الله تعالى الذين أعرضوا عن الحق، ودعوا الناس إلى الإعراض وآذوا من لم يعرض عنه، وسلك سبيل المؤمنين فقال تعالت كلماته :
( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ).
( السين ) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل وعبر بالسين الدالة على قرب الوقوع المؤكد للدلالة على قرب الوقوع وتأكده وكل آت قريب ما دام مؤكد الوقوع.
واسند سبحانه وتعالى الجزاء إلى ذاته العلية لتأكد وقوعه فإن الله لا يخلف الميعاد عذابا أو ثوابا.
وعبر سبحانه وتعالى عن الظالمين بالاسم الموصول وهو إشعار بأن الصلة هي السبب في هذا الجزاء الشديد الذي وصفه سبحانه باسوا العذاب، أي عذاب وقعه يسوءهم ويؤلمهم وهو في ذاته سوء لا يكون الا لمن تكون عاقبته السوء، ولمن كان يفعل ما يسوء، ويكفر بالله تعالى وذكر سبحانه السبب في هذا العذاب الذي هو سوء في ذاته فقال :( بما كانوا يصدفون ) أي بسبب استمرارهم على الصدف بإعراضهم وحمل الناس على أن يعرضوا عن سبيل الله سبحانه وتعالى.
وهكذا نرى المشركين في ضلال مستر، فهم يضلون في أقوالهم وأفعالهم وشركهم وقانا الله شر مآلهم.
( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ١٥٨ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ١٥٩ )
أتى الله تعالى بالبينات فكذبوها، وأرسل عليهم الرسل بمعجزات قاهرة فلم يصدقوها، وأرسل اليهم محمدا خاتم النبيين فكذبوه فلم يبق إلا أن ينتظروا العذاب وما يسبقه والقيامة وما يتبعها من حساب وعقاب. منهم قد يئس الحق من أن يدركوه ولذا قال تعالى :( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ).
أكثر المفسرين على أن ذلك عندما يحين حين هذه الدنيا، والاستفهام إنكاري توبيخي لا ينتظرون بعد هذا التكذيب الا أن تأتيهم الملائكة تقبض أرواحهم أو ياتيهم ربك أي امر ربك، فهي من قبيل حذف المضاف والاكتفاء بذكر الله تعالى وأمر الله شديد لا قبل لكم باحتماله، إذ يتغير الكون، وينفخ في الصور، ( أو ياتي بعض آيات ) من تغيير كل شيء في الكون إذ تقوم القيامة.
( يوم ياتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت ) ولم ينفعها خير لم تكن قد قدمته من قبل وهذا قوله تعالى :( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ).
( يوم يأتي بعض آيات ربك ) وهي ما يجيء يوم القيامة، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم بعض هذه الآيات فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال :( لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة ويأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم وخروج الدجال وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب )١ رواه أحمد وصححه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وإذا كان ذلك اليوم المشهود يكون انتهى العمل وبقى الجزاء، تكون الدنيا قد انتهت وابتدأت الآخرة، فلا ينفع إيمان لأنه قد جاء بعد إبانة وفات أوانه فلا ينفع نفسا إيمانها ان آمنت إذ الإيمان يكون والنفس في فسحة من مجيء هذا اليوم، أو إذا كانت كسبت خيرا في إيمانها لا ينفع في ذلك اليوم فهو ليس يوم الكسب بل هو يوم الجزاء فلا إيمان يجدي، ولا ينفع كسب كسبه في إيمان في ذلك اليوم لأنه إذا كان الإيمان لا يجدي فما يكسبه فيه لا يجدي ( أو ) في معنى الواو هنا، ولكن عبر بها لتنويع عدم النفع إذ لا ينفع إيمان ولا ينفع كسب مع إيمان اذ إن هذا هو يوم الجزاء.
هذا تفسير المفسرين وقد خطر خاطر أذكره غير جازم به، ولكني أذكره على أنه احتمال وذلك أن قوله تعالى :( ينظرون إلا أن تاتيهم الملائكة أو ياتي ربك أو ياتي بعض آيات ربك ) أنهم لم تجئهم بينات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طلبوا أن تنزل عليهم الملائكة ولو جعله الله ملكا لجعله رجلا، وللبسنا عليهم ما يلبسون وطلبوا أن يروا الله كما طلب بنو إسرائيل أن يروا ربهم وقالوا أرنا الله جهرة.
وطلبوا هم بعض آيات كونية ومن ذلك ما حكى القرآن الكريم عنهم إذ يقول تعالى :( وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ٩٠أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ٩١أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ٩٢أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٣وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ٩٤قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً٩٥ ) ( الإسراء ).
هذه آيات طلبوها أن تسقط كسفا من السماء أو ياتي الله والملائكة قبيلا فالله تعالى يقول في هذه الآية :( هل ينظرون إلا أن تأتيهم ) هذه الآيات أن تأتيكم الملائكة أو ياتيكم ربكم أو بعض آيات ربكم ليؤمنوا وقد كفرتم بكل الآيات ثم هددهم بأن تأتيهم بعض آيات ربك فتكون القيامة ولذا قال سبحانه آمرا نبيه أن يقول لهم، ( قل انتظروا إنا منتظرين ). قل يا محمد يا خير الخلق : انتظروا بعض ايات ربك التي تستقبلكم فيكون الحساب والعقاب وانا منتظرون لنلقاكم فيكون الجزاء بعد الحساب وحينئذ ينزل العقاب بكم على كفركم وينال المؤمنون الثواب لإيمانهم والله بكل شيء محيط، وإن ذلك جزاء المشركين.
١ كما رواه مسلم: الفتن واشراط الساعةـ في الآيات التي يكون قبل الساعة (٢٩٠١)..
ومثل المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وأحزابا في دينهم من غير المشركين ولذا قال تعالى :
( ان ا لذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ).
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى المشركين وأحوالهم وكفرهم بالآيات البينات أخذ يبين سبحانه وتعالى غير مشركي العرب من يهود ونصارى وصابئة وقد تفرقوا فرقا مختلفة فقال تعالى :
( ان الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ).
وقراءة حفص بتشديد الراء١ وهناك قراءة بالمد ( فارقوا دينهم ) وتكتب في المصحف من غير ألف كشأن كثير من حروف المد في القرآن كالسموات ولقد قال علي كرم الله وجهه فرقوا حتى فارقوا.
وإن موضوع الآية الكريمة أهل الكتاب فقد تفرقوا في دينهم فرقا مختلفة قبل الإسلام فكان في اليهود الأريسيون والصدوقيون، ومنهم من لا يؤمن بالآخرة وكان منهم الربانيون والقرارون وكل فرع بما عنده يشايع فرعه ويعادي غيره ومن النصارى السامرة الذين ليسوا من بني إسرائيل ولكن ينفون عنهم مع أنهم يؤمنون برسالة موسى عليهم، وإن لم يكونوا في طغيان بني إسرائيل.
والنصارى اختلفوا قبل الإسلام فيما بينهم فكان منهم الكاثوليك الذين يسمون في التاريخ العربي الملكانية والأرثوذكس الذين كانوا على فرق مختلفة، ومن بعد الأرثوذكس الأقباط، وكانوا يسمون في التاريخ العربي اليعقوبيين وأرثوذكس اليونان والرومان وغيرهم.
وكان منهم قبل الإسلام النسطوريون، وهكذا اختلفوا على غير جامع من الحقائق يجمعهم وإن جمعهم اسم النصارى ولذا قال تعالى :( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ٣٤ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ٣٥وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ٣٦فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ٣٧ ) ( مريم ).
فواضح من سياق القرآن الكريم وتاريخ النصارى واليهود أنهم اختلفوا وفرقوا دينهم شيعا، وقد أكد القرآن الكريم أن الاختلاف بعد أن جاء الحق بينا ولذا قال تعالى :( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ٤ ) ( البينة ).
ولقد قال بعض المفسرين : ان موضوع الآية هم المبتدعة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين فرقوا دينهم من خوارج وشيعة ونهجوا غير منهاج السنة.
ولقد اختار الحافظ ابن كثير أن الآية الكريمة شاملة كل من يختلفون في دينهم من أهل الكتاب الحاليين الذين فرقوا دينهم من بعدما أوتوه من علم جامع، والذين يفرقونه ويحذون حذوهم من بعد ذلك في امة محمد صلى اله عليه وسلم الذين يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية.
وأقول : إن الآية موضوعها أهل الكتاب في مقابل الوثنيين الذين ضلوا مثل ضلال الوثنيين ومظهر ذلك اختلافهم في أصل دينهم ومروقهم من حقيقة ما أمر به ربهم وما فعلوه بعد ذلك من امة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون مدخلهم بالقياس أو الاتباع لهم فهم مثل ضلالهم.
والتشيع هنا معناه الفرق التي يشايع كل واحدة منها زعيما يكون على الضلال فيتبعونه عن غير بينة وهداية.
ولقد حكم الله تعالى على هذه الشيع ببراءة النبي صلى الله عليه وسلم : فقال تعالى :( لست منهم في شيء ) أي أنك برئ منهم لأنك لست منهم في منازعهم ومفترقهم في شيء ومن الاتصال فقوله تعالى :( في شيء ) تأكيد في نفى اتصاله بهم وتأكيد لمغايرته لهم في دعوته ويترتب على ذلك أن تبعة هذا الافتراق لا تعود إليك إنما أنت نذير ولكل قوم هاد ولذا قال تعالى :( إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ).
بين سبحانه وتعالى في هذا النص السامي أن أمرهم في مصيرهم ونهاية أمرهم هو لله وحده، فهو الذي يتولاهم بالحساب ومن بعده العذاب، و ( انما ) هنا دالة على القصر أي أن أمرهم على الله وحده، وفي ذلك من الترهيب بأمر الله تعالى ما فيه من إنذار بالهول الشديد والعذاب العتيد، ولذا قال تعالى :( ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) الإنباء والتنبئ معناه الخبر الشديد الخطير، ومعنى إنبائهم بما كانوا يفعلون إنباؤهم بما ينتظرهم من العقاب بما كانوا يقولون، فينالون من بعد ذلك جزاؤه ويصح أن يكون الإنباء بإنزال العذاب فعلا فيكون الإنباء بالفعل لا بالقول ويكون معناه أنه عذبهم بفعلهم لأن فعلهم هو الذي اقتضى العقاب فهو سببه وملازمه لا يفترق جزاء بما كسبوا.
وفي التعبير ب ( ثم ) إشارة الى افتراق حالهم في دنياهم عن حالهم في أخراهم افتراقا بينا لأن بينهم مسافة بعيدة اقتضت التعبير بما يدل على التراخي والله أعلم.
١ (فرقوا) هي قراءة العشرة غير حمزة والكسائي وابي غالب عن الاعشى عن أبي بكر عن عاصم فغقراءتهم (فارقوا) غية الاختصار (٨٨٢)..
ما أنعم الله به على من هداهم( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ١٦٠ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٦١ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٦٢ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ١٦٣ قْل أَغَُيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ١٦٤ )
ذكر الله تعالى أحوال الكافرين بالرسالة المحمدية وعناد المشركين الذين عاندوا وكفروا بالآيات كلها، وأعقبهم بالإشارة إلى المتنابذين الكفار من أهل الكتاب وضلالهم.
وكان لا بد من بعد ذلك من أن يذكر النور بعد الظلام فاخبر سبحانه وتعالى عن المهتدين وأنه يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات إذا صدق الإيمان وكانت الهداية الغالبة في أعمالهم وامتلأت بها قلوبهم ولذا قال تعالى :( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ).
من جاء بالحسنة أي العمل الذي هو حسن في ذاته واستحسنه الشرع الشريف وحسنة : صفة موصوفها فعله حسنة في ذاتها، وراها الشرع حسنة نافعة للناس فيها معاونة أو فيها طهارة وتزكية روح وإعانة محتاج وإغاثة ملهوف، وغير ذلك مما هو في أخلاق الناس أمر حسن أو فيه نفع قصد به وجه الله تعالى وجزاء الحسنة عشر أمثالها أي حسنات تساوي عشر أمثالها، أو هي عشر من هذه الحسنات وفي قراءة ( عشر أمثالها )١ برفع عشر وتنوينها أي بمقدار عشر هي امثال هذه الصدقة ويظهر أن ذلك هو الحد الأدنى، وتعلو الحسنة بعلو القصد في النفس وبعلو الموضوع بمقدار النفع والتعاون للإنسان وقد ذكر سبحانه وتعالى أن جزاء الصدقة سبعمائة مثل، فقال تعالى وهو اصدق القائلين :( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ٢٦١ ) ( البقرة ) وذلك لأن الصدقة تتضاعف آثارها وتكثر ثمراتها فهي تشبع نفسا جائعة وتمنع تفككا واضطرابا وتلقى أمنا وسلاما وتزيل أحقادا وتوجد تعاونا مستمرا، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وسماه الله تعالى قرضا لله تعالى فقال ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا... ١١ ) ( الحديد ) وإن من يقرض موجد الوجود يكون بدله أضعافا مضاعفة كمن يعطي ذا مروءة عطاء فإنه يزيد في بدله فكيف بخالق الناس ولله المثل الأعلى في السموات والأرض.
وجزاء سيئة مثلها لا يزيد عنها، وقد يغفرها سبحانه، ولذا قال تعالى :( ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الا مثلها ) وحد الله سبحانه وتعالى هنا الجزاء حدا لا يتجاوزه فذكر أنه لا يجزي الا مثلها، فنفى واثبت وذلك قصد للجزاء لا يعدوه أما ما ذكر من جزاء الحسنة فذكر أنه عشر أمثالها ولم يذكره سبحانه وتعالى حتى لا يعدوه بل هو حد أدنى يقبل بحسب أحوال النفوس وبحسب موضع الحسنة وكلما كانت متصلة بالناس لنفعهم تضاعف الجزاء كما جاء في آيات الصدقات والتعبير في بعضها بأنها قرض لله سبحانه وتعالى، وهو الغني الحميد كما قال تعالى :( يا ايها الناس أنتم الفقراء على الله والله هو الغني الحميد ١٥ ) ( فاطر ).
ولقد جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يفيد أن في معنى الآية من الحد بعشر أمثالها هو حد أدنى فقد روى مسلم والامام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بسيئة فجزاء سيئة مثلها أوا غفر ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذرعا ومن تقرب الي ذراعا تقربت منه باعا ومن أتى يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض ( أي بما يقربها في ملئها وحجمها ) خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة )٢
والسيئة الأمر الذي يسوء في نفسه، ويسوء الناس ويعصي به الله تعالى، وعبر عنه بالسيئة بأقبح ما يكون من معاص فان أعلى المعاصي ما يكون إساءة للناس وإيذاء.
وقد صرح الحديث بالنسبة لمن يهم بسيئة فلم يفعلها بأنه لا يكتب له شيء ومن هم بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة لأن النية الطيبة حسنة ذاتها فالأعمال بالنيات.
ولقد تكلم ابن كثير في بيان أحوال من يهم بسيئة فلم يفعلها فقد قسمها على ثلاثة أقسام باعتبار حال التارك لها بعد أن يهم فقال رضي الله عنه :( اعلم أن تارك السيئة الذي لا يعلمها على ثلاثة أقسام، تارك يتركها لله تعالى فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية، ولذا جاء أنه يكتب له حسنة، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح :( فانه تركها من جرائي ) أي من أجلي٣ وتارة يتركها نسيانا وذهولا عنها، فهذا لا عليه ولا له لأنه لم ينو خيرا وما فعل شرا، وتارة يتركها عجزا وكسلا عنها بعد السعي في أسبابها والتلمس بما يقرب منها، فهذا بمنزلة فاعلها ).
وإن ذلك تقسيم حسن اخص ما فيه أنه يخرج ممن يهم بسيئة ولم يفعلها من هم وأخذ في الشروع في جريمة ولكن حال بينه وبينها أمر لا يستطيع مدافعته فهو لا يكون قد هم فقط بل نوى الفعل واعتزمه ولكن عجز لأمر خارج عن إرادته.
ولقد ختم العلي القدير كلماته في هذا الموضوع بقوله تعالى :( وهم لا يظلمون ) إن الآيات عطاء وعفو، فالعطاء من فضل الله تعالى والعفو من رحمته وهو الذي يعطي من يستحق ويمنع عمن يستحق، وإن شاء غفر، وعلى ذلك لا يظلم أحدا شيئا لا يمنع حقا، بل يعفو ويصفح عن أهل الإيمان الذين لا يشركون به شيئا وهو السميع العليم.
١ (عشر امثالها) هي قراءة يعقوب وقرأ الباقون بالإضافة.
٢ رواه مسلم: الذكر والدعاء والاستغفار فضل الذكر والدعاء والتقرب على الله (٢٦٨٧) عن أبي ذر رضي اله عنه..
٣ كما في رواية مسلم: الإيمان، إذا هم العبد (١٢٩) عن أبي هريرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة ـ وهو أبصر به ـ فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وغن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي)..
( قل إنني هداني ربي الى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ) أمر الله تعالى نبيه أن يبين أنه يسلك الخط المستقيم الذي هو الدين القيم، وأنه ملة إبراهيم ( قل ) يا محمد ايها النبي الأمي العربي ( إنني هداني ربي الى صراط مستقيم ).
كان ذلك الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ليخاطب به العرب مخبرا عن نفسه الكريمة، وعمن اتبعه من المؤمنين هداني ربي الذي خلقني وربني، وقام على كل ما أقوم عليه فهو القوام على كل نفس والقائم على كل شيء فوصف الربوبية في هذا المقام للدلالة على أن الهداية منسوبة إلى الخالق المكون فهي هداية حق لا ضلال فيها، ولا أوهام ولا أهواء عند الله سبحانه وتعالى وقد أكد أن الهداية من رب الوجود ب ( إن ) والهداية إلى دين اتصف بأمور ثلاثة.
أولها : انه صراط مستقيم أي طريق مستقيم موصل على الحق الذي لا ريب فيه من غير التواء ولا اعوجاج فليس فيه تعقيد بل انه الفطرة المستقيمة فطرة الله التي فطر الناس عليها.
الوصف الثاني : قوله تعالى ( دينا قيما ) أي حال كونه دينا صحيحا قيما و ( قيم ) مصدر قوم، وزن فعل، كعوج. وهو نقيضه وقرئ ( قيما )١ أي هو في ذاته قيم بلغ أعلىا لمنزلة في الأديان والقراءتان متلاقيتان في المعنى وفي القراءة الأولى كان المصدر وصفا، وذلك في معنى المبالغة في أنه قيم وقويم كقولك فلان عدل.
الوصف الثالث : وهو شرف إضافي فالوصفان الأولان ذاتيان لأنهما وصفان حقيقيان لأنهما مشتقان من ذات الدين، وذلك الوصف هو قوله تعالى ( ملة إبراهيم حنيفا ) وذكر هذا الوصف ليبين للعرب الذين كانوا يتفاخرون بنسبهم إلى إبراهيم وبأنه ابو العرب ويدعون أنهم على ملة إبراهيم مع عبادتهم الأوثان فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين لهم بأنه هو الذي على ملة إبراهيم وليسوا هم على ملته في شيء.
وهنا وصف ذاتي لهذا الدين جاء في ثنايا ذلك القول. وهو قوله تعالى ( حنيفا ) أي غير منحرف على باطل بل هو مائل إلى الحق متجه إليه، فهو مستقيم متجه إلى الحق فحنيفا صفة للدين.
ثم بين سبحانه ردا على وثنية المشركين فقال :( وما كان من المشركين ) أي ليس لكم أن تفاخروا باتباعكم إبراهيم فما كان إبراهيم من المشركين ما كان إبراهيم أبوكم وأبو الأنبياء ممن دخل في صفوف المشركين بل أوابا مؤمنا. وهذا كقوله تعالى :( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ١٢٣ ) ( النحل ).
وقال تعالى :( ان إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ١٢٠ شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه على صراط مستقيم ١٢١ ) ( النحل ).
ولقد كانت ملة إبراهيم عليه السلام سمحة لا ضيق فيها ودين محمد عليه الصلاة والسلام دين سمح لا حرج فيه. ولقد قال تعالى :( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ٧٨ ) ( الحج ).
١ (قيما) بكسر القاف وفتح الياء وتخفيفها قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وقرأ الباقون (قيما) بفتح القاف وكسر الياء وتشديدها..
( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ١٦٢ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ١٦٣ ) امر الله تعالى نبيه بأن يقول قولة يكون بها كله لله تعالى ليس لحد شيء في نفسه أو جارحته أمره بأن يكون كله لله، وإنه لكذلك وخاطب من معه من المؤمنين ليكونوا ربانيين، وان يخاطب بذلك المشركين ليتخلفوا عن الشرك والأوهام والأهواء، ( ان صلاتي ) أي دعائي وضراعتي وعباداتي، ومنها الصلاة المفروضة، والنفل والتهجد لله وحده ليس لأحد فيها شركة أو نصيب، بل هي لله وحده لا شريك له ( نسكي ) النسك العبادة، والنسك أيضا جمع نسيكة وهي الذبيحة في أضحية أو حج أو عمرة، قال بعض المفسرين : انها هنا بمعنى العبادة، فيكون الكلام من عطف العام على الخاص وتكون كلمة الصلاة المقصودة الصلاة : فرضها ونفعلها والتهجد بها، وخصت بالذكر لأنها عمود الدين ولبه، ولا دين من غير صلاة.
وفسر ابن كثير النسك هنا بالذبائح في الأضحى والعمرة والحج ذلك أن العرب كانوا يشركون ويدعون أنهم على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويهلون لغير الله فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى له بالبيان بأن يذكر أن ملة إبراهيم كانت دينا قيما يعبد الله وحده، ويذبح مهلا لله تعالى وحده، وروى ذكر اسم الله تعالى في ذبيحة النبي صلى الله عليه وسلم فروى عن ابن عباس عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين وقال حين ذبحهما :( إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين٧٩ ) ( الأنعام )١.
( قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ١٦٢ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ١٦٣ ) وإن تفويض الرسول عليه السلام لربه تعالى تفويض كامل، وملكية الله تعالى له ولعباده ملكية كاملة لا مثنوية فيها لله سبحانه وتعالى ولذا أمره الله تعالى بان يقول :( محياي ومماتي لله رب العالمين ) وهي تدل على أمرين.
الأمر الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيا، ومماته من بعدها، ثم حياته في الآخرة لله تعالى هو المتصرف فيها المالك لها، فهو رب الوجود، ومالك يوم الدين، وهذا هو الفناء في ذات الله تعالى على الوجه الإسلامي الحنيف المستقيم.
والأمر الثاني : أن ( محيا ) و ( ممات ) مصدران ميميان بمعنى الإحياء المستمر، والممات من بعد ثم الإحياء المستمر والمعنى إحيائي في هذه الحياة الدنيا المستمدة منك ولك، وإماتتي لك أنت الذي تحييني وتميتني وحياتي الباقية الخالدة منك ولك يا رب العالمين.
وقرن القول السامي برب العالمين لبيان أنه القائم على الحياة وهو الذي بيده الموت والحياة من بعده وهو الحي القيوم لا اله الا هو العزيز الحكيم.
وأكد سبحانه وتعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :( لا شريك له ) لا يشركك يا رب العالمين في نفسي وفي حياتي ومماتي أحد من الناس، أو غير الناس، فكلى لك من غير شريك، فأنت المالك وحدك لي ولغيري من كل ما في الوجود.
١ رواه ابن ماجه: الأضاحي أضاحي رسول الله صلى الله عليه وسلم (٣١٢١) عن جابر ابن عبد الله. كما رواه الترمذي وأبو داود وأحمد..
ثم يقول صلى الله عليه وسلم بأمر ربه :( وأنا أول المسلمين ) أي أول من أخلص دينه لله ووجهه لله، فالإسلام استقامة النفس واتجاهها على الله وحده، من غير إشراك وثن، وامر الله تعالى نبيه بان يقول هذا لقومه من المؤمنين والمشركين تحريض لمن آمنوا على البقاء وتحريض للمشركين على خلع عبادة الأوثان فالأولية هي لمن يخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم ليحتملهم على الاتباع والاقتداء به، كمن يقول لآخر ادخل هذا الباب وأنا أمامك أول من يدخل.
فالأولوية على هذا بالنسبة لأمته ولمن بعث اليهم، وذكر تحريضا لهم على الاتباع والاقتداء، كما ذكرنا وليست الأولية مطلقة، فإن الإسلام دين الأنبياء جميعا قبل النبي صلى الله عليه وسلم ولقد قال تعالى فيما قال نوح عليه السلام لقومه :( فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري الا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين٧٢ ) ( يونس ) وقال تعالى في إبراهيم :( ومن يرغب عن ملة إبراهيم ا لا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ١٣٠ اذ قال له ربه اسلم قال أسلمت لرب العالمين ١٣١ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا أنتم مسلمون ١٣٢ ) ( البقرة ) ولقد قال يوسف :( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ١٠١ ) ( يوسف ).
وقال بعض العلماء : إن أولية إسلام النبي صلى الله عليه وسلم أولية مطلقة فهو كما قال ذلك القائل، أول الأنبياء إسلاما وآخرهم مبعثا والله سبحانه وتعالى أعلم.
( قل أغير الله ابغي ربا كل شيء ).
امر الله تعالى نبيه أن يقول للمشركين في سياق الدليل على أنه لا يعبد سواه ولا رب سواه، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع لا يمكن أن يقع مني ان ابغي غير الله ربا ويكون تقديم غير الله على الفعل. في معنى القصر أي لا أبغي غير الله تعالى ربا اعبده وعبر هنا بقوله ( ربا ) ولم يعبر بكلمة ( إلها ) مع أن المقصود هو العبادة إذ المعنى ابغي الله إلها وهو رب كل شيء، للإشارة إلى التلازم بين الربوبية والإلوهية إذ أنهم كانوا يعترفون بان الله تعالى رب كل شيء وخالق كل شيء ولكنهم يفرقون ذلك عن العبادة فهم يعتقدون أن الله خالق كل شيء ولكنهم يعبدون الأوثان ويقولون : ما نعيدهم الا ليقربونا الى الله زلفى فقوله تعالى ( أغير الله ابغي ربا ) فيه إشارة الى الربوبية والخلق والتكوين، والعبادة فالمعبود بحق هو الرب الخالق، لا هذه الأوثان التي تتوهمون فيها سرا وتقريبا وما هي بشيء.
وقد أكد القصر في العبادة على الله تعالى بقوله :( وهو رب كل شيء ) وكانت هذه مقدمة منطقية مؤداها، انه خالق كل شيء، وخالق كل شيء هو المستحق للعبادة وحده، لأنه مالك كل شيء.
وإن التعبير بقوله تعالى :( أغير الله ابغي ربا ) في التعبير ب ( رب ) مع ما اشرنا اليه من معنى التلازم بين الربوبية والعبودية فيه إشارة أخرى وهو انه لا يعبد غيره ولا يتوكل إلا عليه لأن الربوبية تقتضي ألا يلجا المؤمن إلا إليه سبحانه وتعالى وقد قال تعالى في معنى ذلك، ( قل هو الرحمان آمنا به وعليه توكلنا... ٢٩ ) ( الملك ) وقال تعالى :(... فاعبده وتوكل عليه... ١٢٣ ) ( هود ).
وإن كل امرئ بما كسب رهين يحمل تبعات أعماله ولا يحمل وزر غيره ولذا قال تعالى :( ولا تكسب كل نفس الا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ).
قالوا ان المشركين كانوا يريدون من المؤمنين أن يرجعوا الى دينهم الذي تركوه وقالوا نتحمل وزركم ولا تتحملون آثاما، فالله رد قولهم بهذا، وما نحسب أن ذلك وقع، إن كان قد وقع، فالآية عامة لحقيقة رئيسة، و ( الكسب ) الفعل الذي يصدر عن شخص مؤمن بما يفعل قد كسبته نفسه، وقام بها، ومعنى قوله تعالى :( ولا تكسب كل نفس الا عليها ) لا تكسب أي نفس عملا الا كانت مغبته ومآله عليها، تتحمل تبعته إن شرا وتنال جزاءه إن كان خيرا وبذلك يكون النص محتملا الجزاء بنوعيه عقابا أو ثوابا.
ويصح أن الكسب هنا كسب الاثم ويكون عليها بالعذاب، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى :( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) أي لا تحمل نفس وازرة وزر أخرى فكل امرئ بما كسب رهين، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى.
وإن جزاء الآخرة ثوابا وعقابا مبني على ذلك، فلا يحاسب امرؤ بجريمة غيره، ولا يلقى عن شخص جرم ليلحق على غيره والله تعالى علام الغيوب وكل يحمل كتابه.
ولكن في الدنيا عواقب للأعمال، قد تتعدى الفاعل، وقد قال تعالى :( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( التخريج ) فإنه إذا عم الفساد وطم سيله فسدت الجماعة وهلكت ولا يكون أثره مقصورا على العصاة، بل يتعداه الى غيرهم كما قال تعالى :( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا متر فيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ١٦ ) ( الإسراء ).
وروى أن أم المؤمنين زينب بنت جحش سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون فقال عليه السلام :( إذا عم الخبث )١، والخبث هنا هو المعاصي وأشدها الظلم والفاحشة وما يوعز بها وإن عموم الفساد يكون من إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعم العذاب، كما قال عليه الصلاة والسلام :( لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن على قلوب بعضكم ثم تدعون فلا يستجاب لكم )٢ وغن عذاب يوم الدين لاحق بكل نفس كسبت، أو قصدت، ولذا قال تعالى :
( ثم الى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ).
( ثم ) هنا للتراخي والترتيب، لان ذلك يوم الدين فيكون الجزاء العادل، ينال كل امرئ ما كسب أو قصد فالله تعالى يجازي على التقصير في بيان حدود الله ومنع العصاة كما يجازي على ذات المعصية لان ترك الواجب معصية كارتكابها.
وقدم الجار والمجرور لبيان أن المرجع اليه وحده فهو الذي يملك يوم الدين وحده، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته عذابا أليما.
وقال تعالى :( فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) ( الفاء ) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي هو الذي إليه وحده مرجعكم، فلا يكون لأحد سواه الحكم في هذا اليوم والقول النافذ له وحده، وهو حينئذ بقوله الطيب الصادق كبير بالحق، فيما كانوا فيه يختلفون فيعبد فريق الأوثان ويؤمن بالله آخرون ويختلف النصارى فيما بينهم، واليهود يختلفون مع أنفسهم وبينهم وبين أهل الحق من الناس ينبئ الله تعالى الناس بالحق، والباطل قولا وعملا، فيعذب المجرمين المبطلين ويحسن على المحسنين وكل امرئ وما كسبت يداه.
١ متفق عليه رواه البخاري: أحاديث الأنبياء قصة يأجوج ومأجوج ومسلم: الفتن واشرط الساعة: اقتراب الفتن (٢٨٨٠)..
٢ سبق تخريجه.
( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ١٦٥.
بين سبحانه اختلاف المؤمنين وما يجب أن يكونوا عليه متأسين بالنبي صلى الله عليه وسلم آخذين بهديه مخالفين ما عليه المشركين، وختم الآية التي قبلها بأن الله تعالى يحكم بين المختلفين يوم القيامة بعد ذلك بين سبحانه وتعالى أن الله تعالى هو الذي خلق الأجيال المتعاقبة الذي يخلف بعضها بعضا وهي متفاوتة فقال تعالت كلماته :
( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ )
( الواو ) هنا واو الفصل بيان الآيات وهي تفيد أن الآيات مترابطة تبع بعضها بعضا، في نسق محكم متناسب يرتبط بعضه بعجز بعض.
الخلائف جمع خليفة، أي طبقة تخلف طبقة، وجيلا يخلف جيل وكل واحد منها يعد خليفة في هذه الأرض يسيطر الإنسان عليها، إن ظالما، وان عادلا وذلك تحقيق مستمر للخلافة التي جعلها الله تعالى لآدم أبي البشر إذ قال تعالى :( وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء... ٣٠ ) ( البقرة ).
وهنا بقوله سبحانه :( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) أي صيركم أجيالا تخلف بعضها بعضا وكل جيل خليفة في الأرض يفسد بعضه، ويصلح بعضه، ويباح الفساد مع الصلاح وينازعه حتى لا يعم، ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ٢٥١ ) ( البقرة ).
ولذا قال تعالى :( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ).
الدرجات كما جاء بها التعبير في القربات هي الدرجات العالية التي تكون سابقات كريمة، والمعنى رفع منكم درجات بالهداية والسمو، والرفعة إذا أطاعوا اتجهوا الى الخير، وإعلاء منازل الإنسانية ولو كانوا هم الفقراء أو العبيد أو المستضعفين في الأرض ولا يلزم أن يكون من الأقوياء أو الأغنياء وقد اختبر كلا، فاختبر الأغنياء ليشكروا واختبر الفقراء ليصبروا.
وقد وردت آيات كثيرة في هذا التفاوت في الدرجة مع ملاحظة ان تفاوت الدرجات ليست بالغنى فليس الغنى درجة، دونها حال الفقر إنما الدرجات الرفعة عند الله تعالى بالعمل الصالح، ولو كان فقيرا أو ضعيفا تزدرية الأعين، كما كانت حال المؤمنين الذين آمنوا بنوح ( عليه السلام والذي أمره الله سبحانه وتعالى أن يقول :( وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ٣١ ) ( هود ).
إنما التفاوت في الدرجات بالقرب من الله والإيمان ومثل هذا قوله تعالى :( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون ٣٢ ولولا أن يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ٣٣ ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون ٣٤ وزخرفا وان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ٣٥ ) ( الزخرف ).
فإن الدرجات في هذه الآية واضح أن المراد منها الدرجات في الرفعة، لا الدرجات في المال، فالتفاوت في المال لا يكون درجات للأغنياء على الفقراء، وقوله تعالى :(... ليتخذ بعضهم بعضا سخريا... ٣٢ ) ( الزخرف ) أي ليكون الحال أن يسخر الأغنياء الكافرون من الفقراء المؤمنين.
ولو كان المراد التفاوت بالمال، لكان اعتراض الكافرين مسلما به، إذ قالوا ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) أي في المال وكثرته.
وان المقصود من ذلك السياق أن نقول إن قوله تعالى :( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) أن المراد برفعة الدرجات هو إيمان بعض المؤمنين ورفعتهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى الحكمة من ذلك فقال، ( ليبلوكم في ما آتاكم ) أي ليعاملكم معاملة من يختبركم فيما آتاكم من مال أو رفعة معنوية دينية حيث يزدري الكافرون الأغنياء المؤمنين الفقراء فيضيفون كفرا على كفرهم ويضيف أهل الإيمان إيمانا على إيمانهم بصبرهم على الأذى وليختبر الغنى في غناه فيشكر أم يكفر، ويختبر الفقير في فقره فيرضى ويصبر فيؤجر، أم يجزع ويكفر ويعاقب فالغنى نعمة يختبر صاحبها، والفقر باس يختبر صاحبه.
والعاقبة إما عقاب وإما غفران ورحمة، ولذا قال تعالى :( إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ).
( عن ربك سريع ) أي أن عقابه نازل لا محالة ومؤكد أنه آت لا ريب فيه، وكل آت قريب، ووصف سرعة العقاب لله تعالى يؤكد نزوله بالعاصي من غير تردد فيه، فهو العادل الذي لا يبطئ في إقامة العدل، ويسارع بإنزاله فليس المراد بالسرعة سرعة الزمان إنما المراد سرعة الإيقاع.
وإنه في مقابل هذا غفور رحيم يغفر لمن يشاء ورحيم بالخلق، أجمعين ومن رحمته أن كان العذاب للعصاة، والمغفرة لمن لم يشرك به شيئا وهذا كقوله تعالى :( نبئ عبادي إني أنا الغفور الرحيم ٤٩ ) ( الحجر ) وقوله تعالى :( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ٦ ) ( الرعد ).
اللهم اجعلنا أهلا لمغفرتك ورحمتك، وجنبنا سريع عقابك، واعف عنا وتجاوز عن سيئاتنا إنك أنت العفو الغفور.
Icon