تفسير سورة القيامة

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة القيامة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة عزيزة من سمعها بشاهد العلم استبصر، ومن سمعها بشاهد المعرفة تحيّر..
فالعلماء في سكون برهانه، والعارفون في دهش سلطانه.. أولئك في نجوم علومهم، فأحوالهم صحو في صحو، وهؤلاء في شموس معارفهم: فأوقاتهم محو في محو.. فشتان ما هما!! قوله جل ذكره:
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٤ الى ١]
أي: أقسم بيوم القيامة «وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» أي: أقسم بالنفس اللّوّامة، وهي النّفس التي تلوم صاحبها، وتعرف نقصان حالها.
ويقال: غدا.. كلّ نفس تلوم نفسها: إمّا على كفرها، وإمّا على تقصيرها- وعلى هذا فالقسم يكون بإضمار «الرّب» أي: أقسم بربّ النفس اللوامة. وليس للوم النّفس في القيامة خطر- وإن حمل على الكلّ «١» ولكنّ الفائدة فيه بيان أنّ كلّ النفوس غدا- ستكون على هذه الجملة. وجواب القسم قوله: بلى...
قوله جل ذكره: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟» أيظن أنّا لن نبعثه بعد موته؟
«بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» «قادِرِينَ» نصب على الحال أي بلى، نسوى بنانه في الوقت قادرين، ونقدر أي نجعل
(١) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (الاكل) وهي خطأ قطعا.
أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخفّ البعير وظلف الشاة فكيف لا نقدر على إعادته؟!
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٥ الى ١٠]
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)
يقدّم الزّلّة ويؤخر التوبة. ويقول: سوف أتوب، ثم يموت ولا يتوب. ويقال: يعزم «١» على ألا يستكثر من معاصيه في مستأنف «٢» وقته، وبهذا لا تنحلّ- فى الوقت- عقدة الإصرار من قلبه، وبذلك لا تصحّ توبته لأن التوبة من شرطها العزم على ألا يعود إلى مثل ما عمل. فإذا كان استحلاء الزلّة في قلبه، ويفكر في الرجوع إلى مثلها- فلا تصح ندامته.
قوله جل ذكره: «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟» على جهة الاستبعاد، فقال تعالى:
«فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟» «برق» بكسر الراء معناها تحيّر، «وبرق» بفتح الراء شخص (فلا يطرف) من البريق، وذلك حين يقاد إلى جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بيد سبعين ألف ملك، لها زفير وشهيق، فلا يبقى ملك ولا رسول إلّا وهو يقول: نفسى نفسى! «وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» كأنهما ثوران عقيران «٣».
ويقال: يجمع بينهما في ألّا نور لهما.
(١) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (يزعم) وهي خطأ قطعا بدليل ما بعدها.. من شرطها (العزم).
(٢) أي: فى المستقبل.
(٣) قال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران.
وفي مسند أبى داود الطيالسي عن يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه إلى النبي (ص) قال: قال رسول الله ص «إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار».

[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١١ الى ١٥]

كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
والمفرّ موضع الفرار إليه، فيقال لهم:
«كَلَّا لا وَزَرَ» اليوم، ولا مهرب من قضاء الله «١».
«إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ»
أي: لا محيد عن حكمه.
«يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ»
أي: يعرف ما أسلفه «٢» من ذنوب أحصاها الله- وإن كان العبد نسيها.
«بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ»
للإنسان على نفسه دليل علامة وشاهد فأعضاؤه تشهد عليه بما عمله.
ويقال: هو بصيرة وحجّة على نفسه في إنكار البعث.
ويقال: إنه يعلم أنه كان جاحدا كافرا، ولو أتى بكلّ حجة فلن تسمع منه ولن تنفعه.
قوله جل ذكره:
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١٦ الى ١٩]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)
لا تستعجل في تلقّف القرآن على جبريل، فإنّ علينا جمعه في قلبك وحفظه، وكذلك علينا تيسير قراءته على لسانك، فإذا قرأناه أي: جمعناه في قلبك وحفظك فاتبع بإقرائك جمعه.
«ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» نبيّن لك ما فيه من أحكام الحلال والحرام وغيرها. وكان رسول الله ﷺ يستعجل في التلقف مخافة النسيان، فنهى عن ذلك، وضمن الله له التيسير والتسهيل.
(١) الوزر في اللغة ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو نحوهما: قال الشاعر:
لعمرى ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر
(٢) هكذا في م وهي في ص (أسفله) وهي خطأ من الناسخ.
قوله جل ذكره:
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)
أي: إنما يحملهم على التكذيب للقيامة والنشر أنهم يحبون العاجلة في الدنيا، أي: يحبون البقاء في الدنيا.
«وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ» : أي: تتركون العمل للآخرة. ويقال: تكفرون بها.
قوله جل ذكره: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» «ناضِرَةٌ» : أي مشرقة حسنة، وهي مشرقة لأنها إِلى رَبِّها «ناظِرَةٌ» أي رائية لله.
والنظر المقرون ب «إِلى» مضافا إلى الوجه «١» لا يكون إلّا الرؤية، فالله تعالى يخلق الرؤية فى وجوههم في الجنة على قلب العادة، فالوجوه ناظرة إلى الله تعالى.
ويقال: العين من جملة الوجه (فاسم الوجه) «٢» يتناوله.
ويقال: الوجه لا ينظر ولكنّ العين في الوجه هي التي تنظر كما أنّ النهر لا يجرى ولكنّ الماء في النهر هو الذي يجرى، قال تعالى: «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ».
ويقال: فى قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» دليل على أنهم بصفة الصحو، ولا تتداخلهم حيرة ولا دهش فالنضرة من أمارات البسط لأن البقاء في حال اللقاء أتمّ من اللقاء.
والرؤية عند أهل التحقيق تقتضى بقاء الرائي، وعندهم استهلاك العبد في وجود الحقّ أتمّ فالذين أشاروا إلى الوجود رأوا الوجود أعلى من الرؤية.
قوله جل ذكره:
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٤ الى ٣٠]
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
(١) (مضافا إلى) معناها (منسوبا إلى).
(٢) ما بين القوسين وارد في ص ولم يرد في م وهو هام في توضيح السياق.
«باسِرَةٌ» : أي كالحة عابسة. «فاقِرَةٌ» أي: داهية «١» وهي بقاؤهم في النار على التأييد.
(تظن أن يخلق في وجوههم النظر) «٢».
ويحتمل أن يكون معنى «تَظُنُّ» : أي يخلق ظنّا في قلوبهم يظهر أثره على وجوههم.
«كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ» أي ليس الأمر على ما يظنون بل إذا بلغت نفوسهم التراقيّ «٣»، وقيل: من راق؟
أي يقول من حوله: هل أحد يرقيه؟ هل طبيب يداويه؟ هل دواء يشفيه؟ «٤».
ويقال: من حوله من الملائكة يقولون: من الذي يرقى بروحه أملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟.
«وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ» : وعلم الميت أنه الموت!.
«وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ» : ساقا الميت. فتقترن شدّة آخر الدنيا بشدّة أوّل الآخرة.
«إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ» أي الملائكة يسوقون روحه إلى الله حيث يأمرهم بأن يحملوها إليه: إمّا إلى عليين ثم لها تفاوت درجات، وإمّا إلى سجّين- ولها تفاوت دركات.
ويقال: الناس يكفّنون بدن الميت ويغسلونه ويصلّون عليه.. والحقّ سبحانه يلبس روحه ما تستحق من الحلل، ويغسله بماء الرحمة، ويصلى عليه وملائكته.
قوله جل ذكره:
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣١ الى ٣٦]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦)
(١) الفاقرة لها معان كثيرة منها: الداهية، والأمر العظيم، والشر، والهلاك، ودخول النار. وهي فى الأصل: الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم.
(٢) العبارة هكذا في م أما في ص فهى (... الظن) بدلا من (النظر)، ويمكن قبول عبارة م على أساس ن (النظر) أمر عظيم- وهو أحد معانى (الفاقرة) كما قلنا.. ولكننا نرجح- والله أعلم- أن العبارة ربما كانت فى الأصل على هذا النحو: [تظن: (أي) يخلق في وجوههم (الظن) ] فحتى هذا الظن مخلوق في وجوههم من قبل الله..
وربما يتأيد ما ذهبنا إليه بما جاء بعدها مباشرة.
(٣) جمع (ترقوة) : العظام التي تكتنف مقدم الحلق من أعلى الصدر، وهي موضع الحشرجة. [.....]
يعنى: الكافر ما صدّق الله ولا صلّى له، ولكن كذّب وتولّى عن الإيمان. وتدل الآية على أنّ الكفار مخاطبون بتفصيل الشرائع.
«ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى» أي: يتبختر ويختال.
«أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» العرب إذا دعت على أحد بالمكروه قالوا: أولى لك! وهنا أتبع اللفظ اللفظ على سبيل المبالغة.
ويقال: معناه الويل لك يوم تحيا، والويل لك يوم تموت، والويل لك يوم تبعث، والويل لك يوم تدخل النار «١».
«أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً» مهملا لا يكلّف!؟. ليس كذلك.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
«مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى» أي تلقى في الرّحم، ثم كان علقة أي: دما عبيطا «٢»، فسوّى أعضاءه فى بطن أمه، وركّب أجزاءه على ما هو عليه في الخلقة، وجعل منه الزوجين: إن شاء خلق الذّكر، وإن شاء خلق الأنثى، وإن شاء كليهما.
«أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟» أليس الذي قدر على هذا كلّه بقادر على إحياء الموتى؟ فهو استفهام في معنى التقرير «٣».
(١) فى معنى «الويل لك» تقول الخنساء:
هممت بنفسي كل الهموم... فأولى لنفسى أولى لها
سأحمل نفسى على آلة... فإما عليها وإما لها
ويقال: إن الرسول هدد أبا جهل بهاتين الآيتين.. حتى إذا كان يوم بدر، ضرب الله عنقه وقتل شر قتله.
(٢) اللحم العبيط: الطريّ الذي لم ينضج (الوسيط).
(٣) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (التقدير) بالدال وهي خطأ.
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
(٤) معروف ألا رقية ولا دواء للموت ولكنهم يتساءلون هكذا على وجه التحير عند الإشفاء على الموت.