تفسير سورة التكوير

مراح لبيد
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة التكوير
مكية، تسع وعشرون آية، مائة وأربع كلمات وخمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) أي لفت أي صارت مختفية عن الأعين. وقيل: أي رميت عن الفلك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «تكويرها» إدخالها في العرش، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢)، أي تساقطت على وجه الأرض. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت من أيديهم. وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) عن وجه الأرض بالرجفة، وَإِذَا الْعِشارُ أي النوق الحوامل التي هي أنفس ما يكون عند أهلها، عُطِّلَتْ (٤) أي تركت من غير راع لاشتغال أربابها بأنفسهم. وقيل: أي وإذا السحب تعطلت عن الماء.
وقرئ «عطلت» بالتخفيف، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) أي جمعت من كل جانب لا للقصاص.
وقيل: بعثت للقصاص إظهارا للعدل.
قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، فإذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس ونحوه. وقرئ «حشرت» بالتشديد، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) أي ملئت من الماء، فيفيض بعضها إلى بعض، فتصير شيئا واحدا، ثم تيبس البحار من الماء، ثم تقلب نارا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم، وهذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا. أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة وهي ما ذكر بقوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) أي ردت الأرواح إلى أجسادها.
وقال ابن عباس: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين.
وقال الزجاج: قرنت النفوس بأعمالها، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) أي وإذا البنت المدفونة حية سئلت تبكيتا لمن دفنها في القبر وهي حية بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)، أي هي وذلك كأن قيل
للموءودة إن القتل لا يجوز إلا لذنب عظيم، فما ذنبك أيتها البنت، فكان جوابها: إني قتلت بغير ذنب، فيفتضح القاتل. وقرئ «قتلت» بكسر التاء للمخاطبة مع قراءة «سئلت» بقراءة الجمهور.
وقرئ «سألت» بالبناء للفاعل، أي خاصمت أباها، أو سألت الله تعالى. وهذه القراءة مع قراءة «قتلت» بضم التاء للمتكلم، وبسكونها على التأنيث فالقراءات الشاذة ثلاثة، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) أي وإذا صحف الأعمال فرقت بين أصحابها عند الحساب، وتطايرت في الأكف.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين. والباقون بتشديدها،
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) أي أزيلت عما فوقها، وهي الجنة وعرش الله. وقرأ ابن مسعود «قشطت»، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) أي أوقدت إيقادا شديدا. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين. والباقون بتخفيفها وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣)، أي قربت من المتقين.
وقال عبد الله بن زيد: أي زينت عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) أي ما قدمت من خير أو شر فإن الأعمال لما عملتها النفس فكأنها أحضرتها في الموقف، فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) «لا» زائدة، أي فأقسم بالكواكب الرواجع من آخر الفلك إلى أوله التي تجري مع الشمس والقمر التي تختفي تحت ضوء الشمس. وهي هذه الأنجم الخمسة: بهرام، وزحل، وعطارد، والزهرة، والمشتري، ليس في الكواكب شيء يقطع المجرة غيرها، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧)، أي ذهب، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) أي أضاء إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) أي إن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة، ولا ظن، ولا افتعال، إنما هو قول جبريل أتاه به وحيا من عند الله تعالى أو أن القرآن لقول جبريل نزل به إلى محمد من جهة الله تعالى، فهو رسول الله إلى الأنبياء، وهو كريم لأنه يعطي أفضل العطايا وهو الهداية ذِي قُوَّةٍ أي شدة.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل: «ذكر الله قوتك فماذا بلغت؟» قال: رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذ سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها
. وذكر مقاتل أن الأبيض- وهو شيطان- قصد أن يفتن النبي صلّى الله عليه وسلّم فدفعه جبريل دفعة رفيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند، عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) أي ذي جاه عند الله تعالى، فإنه يعطي ما يسأل، وهذه العندية عندية إكرام وتشريف، لا عندية مكان وجهة،
مُطاعٍ ثَمَّ أي في السموات فتطيعه الملائكة، فإنهم يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأيه أَمِينٍ (٢١) على وحي الله ورسالته، قد عصمه الله من الخيانة والزلل، وَما صاحِبُكُمْ أي نبيكم محمد يا معشر قريش بِمَجْنُونٍ (٢٢)، كما زعمتم. والمقصود: من عدّ فضائل جبريل واقتصار النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفي الجنون ردّ قول
الكفرة في حقه صلّى الله عليه وسلّم، إنما يعلمه بشر افترى على الله كذبا، أم به جنة لا الموازنة بينهما ولا تفضيل جبريل على النبي، ثم إنك إذا أمعنت النظر وقفت على أن إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا
607
المقام ادماج لتعظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ من علو المنزلة عند الله تعالى بجعل السفير بينه وبينه تعالى، مثل هذا الملك المقرب، فهذه الصفات التي لجبريل رفع منزلة له صلّى الله عليه وسلّم، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) أي وبالله لقد رأى رسول الله جبريل عليهما الصلاة والسلام بمطلع الشمس الأعلى على صورته التي خلق عليها، وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤).
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة أي وما محمد بمتهم في القرآن، بل هو ثقة فيما يؤدى عن الله تعالى. وقرأ الباقون بالضاد أي وما محمد ببخيل بالقرآن، بل يخبر بما في القرآن من أخبار الغيب، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا، وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) أي وما القرآن بقول مسترق للسمع اسمه مرمى، فيلقيه على محمد، وهذا نفي لقول أهل مكة، إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسان محمد وأنه كهانة وسحر، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) أي فمن أيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن أمن نسبته للجنون أو الكهانة، أو السحر، أو الشعر، وهذا استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أين تذهب؟ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧)، أي ما القرآن إلا عظة للإنس والجن، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) أي لمن شاء منكم الاستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب، فإن القرآن إنما ينتفع به من شاء أن يستقيم، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)، أي إلا أن يشاء الله أن يعطيه تلك المشيئة، ففعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة، وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة، فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها موقوفة على مشيئة الله.
608
Icon