ﰡ
[سورة الفجر]
فاتحة سورة الفجر
لا يخفى على من ترقى عن حضيض الغفلة وغور الغرور الى ذروة المعرفة وأوج السرور ان الترفع من مضيق الناسوت والترقي نحو فضاء اللاهوت انما يحصل بالجذبة الغالبة الإلهية المفنية للقوى البهيمية المانعة عن مقتضياتها الطبيعية مطلقا المعطلة للوهم والخيال عن التصرف في عالم المثال الرادعة للعقل الفطري المنشعب من حضرة العلم الإلهي المقتبس من مشكاة لوح القضاء عن متابعة القوى الداركة البشرية وآلاتها وكذا عن سفارة الحواس الظاهرة والباطنة له ومعاونة الواهمة والمتخيلة اللتين هما من جنود إبليس الامارة بالسوء ولا شك ان هذا الترقي انما يتيسر بعد الموت الإرادي وبعد التبدل عن مقتضيات الأوصاف البشرية وحصوله انما هو بالميل الفطري المترتب على الرابطة المعنوية والعلقة الحقيقية التى هي مناط التكاليف الإلهية المثمرة لانواع المعارف والحقائق اللدنية المنتشئة عن صفاء مشرب التوحيد لذلك اقسم سبحانه بمسالك ارباب السلوك المهاجرين عن عالم الناسوت نحو فضاء اللاهوت منبها اصحاب اليقظة المترددين في بادية الطلب الساعين فيها لوجدان الارب وابتدأ بفلق صبح الانجلاء اللاهوتى فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عباده ليخرجهم من ظلمات الطبيعة الى نور الحقيقة الرَّحْمنِ عليهم بوضع التكاليف الشاقة القالعة لعرق الالف والعادة الموروثة لهم من مقتضيات عالم الناسوت الرَّحِيمِ لهم يميتهم بالموت الإرادي عن لوازم بشريتهم الزائلة الاركانية ولواحق هوياتهم الباطلة الامكانية
[الآيات]
وَالْفَجْرِ اى بحق انفلاق صبح السعادة الازلية المتنفس بالانفاس الرحمانية المتلألئ من سماء العماء وأفق العالم الأعلى اللاهوتى
وَلَيالٍ عَشْرٍ اى بحق ليالي الحواس العشر المقبلة الى الأدبار والانمحاء عند انجلاء الفجر اللاهوتى وضياء صبح العماء الذاتي وطلوع الفجر الجبروتى
وَالشَّفْعِ اى بحق رفع شفع الملوين وتجدد الجديدين وارتفاعهما عن العين وانمحائهما من البين وَالْوَتْرِ اى بحق الوجود الوحدانى المطلق المنزه عن التعدد والتكثر مطلقا في ذاته
وَاللَّيْلِ اى بحق ليل العدم المظلم في ذاته المرأة للوجود المطلق الذي يتراءى منه عموم كمالاته إِذا يَسْرِ وذهبت ظلمته بامتداد اظلال الوجود وشروق شمس الذات عليه
هَلْ يحتاج فِي ذلِكَ اى في كل واحد واحد من المقسمات العظيمة الشأن قَسَمٌ ويمين يؤكدها لِذِي حِجْرٍ وعقل فطري خالص عن شوب الوهم والخيال خال عن مزاحمة مطلق الالف والعادات الحاصلة من سلاسل الرسوم وأغلال التقليدات الناشئة من ظلمات الطبيعة وبالجملة قد اقسم سبحانه بهذه المقسمات الرفيعة القدر والمكان انه سبحانه يعذب اصحاب الزيغ والضلال المقيدين بسلاسل الحرص وأغلال الآمال في الدنيا بشهوات الإمكان وفي الآخرة بدركات النيران يعنى كفار مكة خذلهم الله
أَاستبعدت أنت ايضا يا أكمل الرسل تعذيبنا إياهم وانتقامنا عنهم ولَمْ تَرَ اى لم تعلم ولم تجزم بالتواتر
إِرَمَ اسم لبنائهم وبلدتهم ذاتِ الْعِمادِ اى الأساطين الطوال شديدة الأساس رفيعة السمك عريضة الجدار
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ ولم يوجد مِثْلُها اى مثل بنائهم وبلدتهم فِي الْبِلادِ في الاحكام والرفعة وانواع النزاهة واللطافة وهم قد كانوا اكثر الناس أعمارا واولادا وأموالا وأتمهم جاها وثروة بأضعاف هؤلاء المسرفين المفسدين فاهلكهم سبحانه واستأصلهم بالمرة بعد ما افرطوا في أطوارهم الخارجة عن حد الاعتدال
وَثَمُودَ يعنى كيف فعل ربك مع ثمود المردود ايضا ما فعل من الهلاك والإهلاك مع انهم هم البطرون المفرطون الَّذِينَ جابُوا قطعوا ونقبوا الصَّخْرَ اى صخور الجبال بِالْوادِ اى بواد القرى واتخذوا فيها بلادا حصينة منيعة من شدة قدرتهم وقوتهم ومع ذلك قد اهلكهم سبحانه
وَكيف فعل مع فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي ذِي الْأَوْتادِ اى ذي العسكر الكثير المشتمل على المضارب والخيام المشتملة على الأوتاد والاطناب وهؤلاء المذكورون هم
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ وقد استكبروا على ضعفاء العباد اتكالا واتكاء على ما عندهم من المال والجاه والثروة والسيادة
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ والإفساد
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ اى نوعا من العذاب كأنه يصب عليهم ويمطر كالماء من السحاب وهو كناية عن ترادف موجبات الهلاك وتتابعها وبالجملة قد اهلكهم الله جميعا باشد العذاب وأفظعه. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه ﷺ منبها له على كمال قدرته على الانتقام من عصاة عباده
إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل على كمال المعرفة واليقين لَبِالْمِرْصادِ اى مراقب محافظ لطرق عباده يرقبهم سبحانه كيف يسلكون نحوه هل هم في سبيل الضلال والفساد او في طريق الهداية والرشاد مع ان الكل مجبولون على فطرة التوحيد لكن الحكمة الإلهية تقتضي الابتلاء والاختبار
فَأَمَّا الْإِنْسانُ المذبذب بين الإحسان والكفران إِذا مَا ابْتَلاهُ اختبره وجربه رَبُّهُ بالغنى واليسر فَأَكْرَمَهُ بالجاه والثروة وَنَعَّمَهُ بالأموال والأولاد فَيَقُولُ شكرا لما وصل اليه من النعم ومقتضيات الكرم رَبِّي أَكْرَمَنِ وتفضل على بما أعطاني من الخير والحسنى
وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ ربه بالفقر والعسر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وقصر على قدر كفايته وحاجته وقوت يومه بحيث لم يزد على مؤنة معاشه فَيَقُولُ مشتكيا الى الله باثا شكواه عنده سبحانه رَبِّي أَهانَنِ وأذلني حيث لم يعط لي ما اعطى وأنعم لفلان وفلان تفضلا وإحسانا مع ان الفقر خير له من الغنى إذ الفقر لو اقترن بالتسليم والرضا لأدى صاحبه الى جنة المأوى وملك لا يبلى والغناء لو لم يقترن بالشكر والانفاق والإحسان لأدى صاحبه الى دركات الجحيم واودية النيران. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا له عن هذا الاعتقاد بان الكرامة باليسرى والتوسعة والاهانة بالفقد والفقر بَلْ الكرامة بالإنفاق والإطعام لفقراء الله طلبا لمرضاته وأنتم ايها الأغنياء الممسكون لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ولا تتفقدونه بالنفقة والكسوة
وَلا تَحَاضُّونَ اى لا تأمرون غيركم ايضا عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ او إطعامه
وَمع ذلك الشح والبخل أنتم ايها الأغنياء تَأْكُلُونَ التُّراثَ اى ميراث الأيتام التي هي اخطر المحظورات وأخسها واخبثها أَكْلًا لَمًّا اى اكلا على سبيل الجمع بين سهامكم وسهام الأيتام بان تأخذوا وتخزنوا أموالهم لتحفظوا حالهم وتزيدوها لأجلهم فتأكلوا منها ومن نمائها دائما
وَما سبب ذلك الا انكم تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا كثيرا مع حرص
كَلَّا ردعا لهم عما هم عليه من حب المال والخلط بين الحلال والحرام يعنى كيف تؤدون ايها البخلاء الممسكون حسابها وقت إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ اى كسرت واستوت فصارت دَكًّا دَكًّا وهباء منبثا
وَجاءَ يومئذ رَبُّكَ يا أكمل الرسل اى امره وظهرت طلائع هيبته وآثار قهره وجلاله وَصف الْمَلَكُ اى الملائكة الموكلون من عنده سبحانه المأمورون لتنقيد اعمال العباد والحساب والسؤال صَفًّا صَفًّا اى صفا بعد صف بما يؤمرون من قبل الحق
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ اى قد أحضرت وهيأت تهويلا على أصحابها وتفظيعا وبالجملة يَوْمَئِذٍ اى يوم القيامة التي ظهرت فيها هذه الآثار يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ المجبول على السهو والنسيان المبادر على الكفر والكفران معاصيه وقول من كان يمنعه ويزجره عنها وينذره منها فيتندم عليها ويتأسف وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى اى من أين ينفعه التذكر والذكر حينئذ والتندم والتلهف إذ نشأة التلافي والتدارك قد انقضت ومضت وبعد ما قد جزم الإنسان انه لا نفع يومئذ لتذكرة
يَقُولُ متمنيا على سبيل الحسرة والندامة يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ في نشأة الاعتبار والاختبار لِحَياتِي ونجاتي في هذا اليوم وبالجملة
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ اى لا يعذب احد من الزبانية إياه مثل ما عذبه هو نفسه بالحسرة والندامة وانواع الكربة والكآبة والحرمان والخذلان
وَلا يُوثِقُ ولا يحكم وَثاقَهُ ونكاله ايضا أَحَدٌ مثل ما أوثقه وأحكمه هو على نفسه بأنواع الخيبة والخسران واصناف القطيعة والحرمان إذ العذاب الروحاني الطارئ من الندامة والخذلان لا تقاس شدة تأثيره بسائر العذاب الجسماني. ثم أشار سبحانه الى حسن احوال ارباب العناية والكرامة يومئذ من المؤمنين الذين تزودوا في النشأة الاولى للأخرى واتصفوا بالتقوى ولم يعصوا في مدة اعمارهم للمولى ولم يتبعوا الهوى بل اطمأنوا ووطنوا نفوسهم بما جرى عليهم من مقتضيات القضاء وبالجملة لم يضطربوا مطلقا لا في السراء ولا في الضراء ولم يبالوا لا بالشدة ولا بالرخاء بل قد كان في دار الدنيا قرينهم الرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء لذلك يقال لهم من قبل الحق يومئذ على سبيل التبشير
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ويا اصحاب النفوس الزاكية والقلوب الصافية المتقررة المتمكنة في مقام التسليم والرضا
ارْجِعِي إِلى كنف رَبِّكِ واصعدي على الطريق الذي قد هبطت عنه راضِيَةً متصفة بالرضاء كما كنت راضية بالقضاء في النشأة الاولى مَرْضِيَّةً مقبولة مكرمة عند المولى وبعد ما قد رجعت على الوجه المذكور
فَادْخُلِي فِي زمرة عِبادِي الذين وصلوا الى كنف جواري وحصلوا في مقعد الصدق لدى
وَبالجملة ادْخُلِي جَنَّتِي اى جنة وحدتي واستريحى في خلدة لاهوتي. جعلنا الله ممن خوطب بهذا الخطاب المستطاب انه هو الملهم للصواب وعنده حسن المآب
خاتمة سورة الفجر
عليك ايها الموحد المترقب لهذا النداء والمحب المترصد لسماع هذا الصداء ان تكون في عموم أوقاتك على حضور مع ربك بحيث لا يشغلك عنه سبحانه الالتفات الى غيره مطلقا من الميل الى الدنيا وآمالها وأمانيها وعموم ما فيها بل لك ان تكون مطمئنا راضيا بعموم ما جرى عليك من