تفسير سورة الشرح

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الشرح من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة الانشراح
مكية وهى ثمان آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ هذه الجملة وما بعدها على ما روى البغوي عن ابن عباس متصل بقوله تعالى الم يجدك يتيما فاوى الى قوله تعالى فاغنى فان صح تلك الرواية فذلك والا فالظاهر ان هذه السورة ايضا نازلة فى مثل تلك الحالة بعد سوال من النبي ﷺ محققا او مقدرا ومعنى الاية على مثل ما سبق شرحنا لك صدرك حتى اتسع فى صدرك من العلوم الحقة والمعارف الدينية المبصرة بنور الله تعالى ما لا سبيل إليها لعقل العقلاء واجمع فيه التوجه الى الله تعالى والحضور التام مع التوجه الى الخلق لاجل الدعوة فى مرتبة النزول فليس لك فى حالة النزول انقطاعا عن الله تعالى فى الحقيقة حتى تغتم به وشرح الصدر قد وقع للنبى ﷺ فى مرتبة العيان مرتين مرة فى صباه كما روى مسلم عن انس ان رسول الله ﷺ أتاه جبرئيل وهو يلعب فى الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج منه علقة فقال هذا حظ الشيطان منك ثم غسله فى طشت من ماء الزمزم ثم لأمه وإعادة فى مكانه وجاء الغلمان يسعون الى امه اى ظئره فقالوا ان محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون قال انس فكنت ارى اثر المخيط فى صدره ومرة ثانية ليلة المعراج كما فى الصحيحين عن انس قال كان أبو ذر يحدث ان رسول الله ﷺ قال ذكر ايضا قصة المعراج وفيه فنزل جبرئيل ففرج صدرى ثم غسله بماء الزمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلى حكمة وايمانا فافرغه فى صدرى ثم اطبقه وفى رواية فى الصحيحين عن انس عن مالك بن صعصعة ان نبى الله حدثهم فشق ما بين هذه الى هذه يعنى من ثغرة نحره الى شعرته فاستخرج قلبى ثم أتيت بطست من ذهب مملو ايمانا فغسل قلبى ثم حشى ثم أعيد وفى رواية ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملى ايمانا وحكمة الحديث
قلت والعلقة التي أخرجت من قلب النبي صلى الله عليه واله وسلم هى رزائل العناصر والنفس والقلب الداعية للنفس على كونها امارة بالسوء وباعثة للجوارح على المعاصي ثم عطف على شرحنا لك صدرك المفهوم من الم نشرح قوله تعالى.
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الوزر فى الأصل الجبل قال الله تعالى كلّا لا وزر يعنى جبل هناك يلتجى اليه والمراد هاهنا الثقل على سبيل الاستعارة وذلك الثقل اما ان يراد به غم الفراق وتوهم الوداع الذي احزن النبي صلى الله عليه واله وسلم وانقض ظهره فزال الله سبحانه ذلك الغم والحزن بانزال الآيات من سورة الضحى والم نشرح حتى سكن للنبى صلى الله عليه واله وسلم جاشه واستقر نفسه وعلم ان ذلك الفراق ليس على سبيل الوداع والقلى بل لحكمة ومنفعة فعد الله سبحانه ازالة هذا النعم من النعم واما ان يراد به ثقل التكاليف الشرعية من دعوة الحق وتبليغ الاحكام وإتيان ما امر الله به وانتهاء كل ما نهى فان التكاليف الشرعية شاق إتيانها الم تر ان السموات والأرض والجبال أبين ان يحملنها وأشفقن منها وقال الله تعالى وانها لكبيرة الا على الخاشعين فلما شرح الله صدره ﷺ للايمان والحكمة وأزال عنه حظ الشيطان ورزائل النفس التي جبلت عليها النفوس صارت التكاليف الشرعية له صلى الله عليه واله وسلم طبيعته ومرغوبة ومحبوبة حتى قال وجعلت قرة عينى فى الصلاة وهذه المرتبة التي عبر الله سبحانه عنها بوضع الوزر يسمونها الصوفية بالايمان الحقيقي وهذا هو المعنى من قولهم بسقوط التكليف عن الصوفي وهذه المرتبة العليا اعنى شرح الصدر ووضع الوزر حصلت للنبى - ﷺ - ظاهرا وعيانا كما روينا وتحصل لاولياء أمته بوراثته باطنا بحيث يظهر فى المثال وذلك بعد فناء النفس وزوال العين والأثر وهناك يحكم الصوفية العلمية ويبشرون بشرح الصدر والايمان الحقيقي كذا قال المجدد رض واستعدنا من المشائخ الكرام عليهم الرحمة والرضوان وما قال عبد الله بن يحى وابو عبيدة يعنى حققنا عنك أعباء النبوة والقيام بامرها يناسب التأويل الثاني مما قلنا وما ذكرنا من التأويلين اولى مما قيل ان معناه خططنا عنك ما سلف منك فى الجاهلية من الزلات لان النبي - ﷺ - ارفع شانا من ان يصدر عنه زلة وما قيل المراد بالوزر ترك الأفضل مع إتيان الفاضل وغيرها من التكلفات.
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ اى أثقله فاوهنه حتى سمع له نقيض اى صوت مثل صوت الرجل عند ثقل الحمل صفة الوزر فان كان المراد من الوزر غم الفراق كما ذكرنا اولا فلا حاجة الى التكلف
والتأويل فأنه كان انقض ظهره وان كان المراد به كلفة التكليف كما ذكرنا ثانيا فمعناه لولا شرحنا صدرك ووضعنا وزرك انقض كلفة التكليف ظهرك ولم تستطع إذا ما وجب عليك حق ادائه قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا يعنى لولا فضل الله ولما كان كلفة التكليف موجبا لنقض الظهر فى الدنيا مانعا عن إتيان الواجبات أورد النقض بصيغة الماضي كما قيل مع كون النبي صلى الله عليه واله وسلم معصوما كان المناسب حينئذ إيراد صيغة المستقبل فان المعاصي لا تنقض الظهر الا فى الاخرة حين يجازى عليها.
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ط روى البخاري عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه واله وسلم انه سال جبرئيل عن هذه الاية ورفعنا لك ذكرك قال الله تعالى إذا ذكرت ذكرت معى قلت هذه الاية والحديث يقتضى ان الملأ الأعلى إذا يذكرون الله تعالى يذكرون معه محمدا صلى الله عليه واله وسلم وقد سبق انه مكتوب على ساق العرش وقد مر فى سورة البروج ما روى البغوي بسنده عن ابن عباس قال ان فى صدر اللوح لا اله الا الله وحده دينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله الحديث قال عطاء عن ابن عباس يريد الاذان والاقامة والتشهد والخطبة على المنابر ولو ان عبدا عبد الله وصدقه فى كل شىء ولم يشهد ان محمدا رسول الله ﷺ لم ينفع بشئ وكان كافرا قال الحسان ابن ثابت رض أعز عليه بالنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي باسمه إذا قال فى الخمس الاذان اشهد فشق له من اسمه لحله فذو العرش محمود ذاك محمد صلى الله عليه واله وسلم وقيل رفعه بأخذ ميثاقه على النبيين والزمهم الايمان به والإقرار بفضله.
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ الذي أنت فيه يُسْراً عظيما فان تنكيره للتعظيم وهذه الجملة واقع موقع التعليل المحذوف تقديره لا تحزن على ما أصابك من العسر فان مع العسر يسرا انّ مع العسر يسرا قيل التنكير لتاكيد الوعد وتعظيم الرجاء والصحيح انه استيناف وعده بان العسر مشفوع ميسر اخر لما روى عبد الرزاق فى تفسيره والحاكم فى المستدرك والبيهقي فى شعب الايمان مرسلا انه لما نزلت هذه الاية قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ابشروا قد جاءكم اليسر انه لن يغلب عسر يسرين ورواه ابن مردويه بإسناد ضعيف عن جابر وله شاهد موقوف على عمر رواه مالك فى الموطإ والحاكم وقال هذا أصح طرقه وقال البغوي قال ابن مسعود لو كان العسر
فى حجر لطلبه اليسر حتى يدخله انه لن يغلب عسر يسرين قال اهل العربية ان الكلمة إذا أعيد معرفة فالثانية عين الاولى سواء كانت اولى معرفة او نكرة لان الأصل فى اللام العهد وإذا أعيدت نكرة فالثانية غير الاولى سواء كانت اولى معرفة او نكرة لان حمل الكلام على التأسيس اولى من حمله على التكرير والتأكيد قال فى تنقيح الأصول ان أقر بألف مقيدا بصك مرتين يجب الالف وان أقربه منكرا يجب الفان عند ابى حنيفة رحمة الله تعالى الا ان يتحد المجلس قلت معنى إذا قامت القرينة ان المراد بالثاني هو الاول فان قيل هذا قول مدخول فيه فانه إذا قال الرجل ان مع الفارس سيفا ان مع الفارس سيفا لا يوجب ان يكون الفارس واحدا والسيف اثنان قلنا نعم إذا قامت القرينة ان الثانية هى الاولى يحمل على الاتحاد ومثال الفارس والسيف من هذا القبيل واما الاية فانه تصلح التأويلين لكن ما فسر به النبي ﷺ والصحابة رضى الله تعالى عنهم هو التأويل الصحيح وقال البغوي ما حاصله ان المراد بالآية ان مع العسر الواحد يسران لكن لا لتكرير النكرة بل لاجل ان قوله تعالى مع العسر يسرا متصل بما سبق ليليه ووعده النبي ﷺ خاصة باليسر والغنى فى الدنيا عاجلا بعد الفقر الذي كان فيه ثم أنجز ما وعد وفتح عليه القرى ووسع ذات يده حتى كان يعطى المائتن من الإبل ويهب الهبات المسنية وقوله.
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ط كلام مبتداء يدل عليه بقرينة عن الفاء والواو وهذا وعد لجميع المؤمنين ومجازة ان مع العسر فى الدنيا للمومنين يسر فى الاخرة فصار للنبى ﷺ مع عسر واحد يسران يسر فى الدين ويسر فى الاخرة وقوله لن يغلب عسر يسرين فانه وان غلب يسرا واحدا وهو اليسر فى الدنيا فلن يغلب يسر الاخرة البتة وهو قوى أبدى قال البغوي رحمة الله تعالى جعل اللام فى العسر للعهد وفى الثاني للجنس والله تعالى اعلم فبعض المفسرين قالوا المراد بالعسر الفقر والشدة والبلاء من المشركين الذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه واشتكى منه الى ربه والمراد باليسر الاول زوال تلك الحالة بنصر الله تعالى والغنى بعد الفقر وقال البيضاوي المراد بالعسر ضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم وباليسر الاول شرح الصدر ووضع الوزر والتوفيق للاهتداء والطاعة واما اليسر الثاني فالمراد به
عند كلهم ثواب الاخرة قالوا معنى الكلام ان بعد العسر يسرا وانما أورد مع موضع بعد مبالغة فى معاقبة اليسر للعسر واتصاله به اتصال المتقاربين وعندى المراد بالعسر التوجه الى الخلق فى مقام النزول الموجب للحزن والغم والمراد باليسر الاول التوجه الى الخالق فى عين مقام النزول فان الصوفي فى تلك الحالة وان كان فى بادى النظر معرضا من الله تعالى متوجها الى الخلق لكنه فى الحقيقة ليس بمعرض عنه تعالى بل مقبل اليه ايضا واتسع صدره للتوجهين جميعا بل التوجه الى الخلق لما كان بإذن الله وعلى حسب امره ومرضاته فهو ايضا فى الحقيقة توجه الى الله سبحانه ومن ثم سمى هذا اليسر السير من الله بالله فعلى هذا كلمة مع فى قوله تعالى فان مع العسر يسرا بمعناه الحقيقي بمعنى المقارنة واما كلمة مع فى الجملة الثانية فلا شك انه على المجاز كما قالوا او معنى الكلام على هذا التأويل لا تحزن فان مع العسر والتوجه الى الخلق الموجب لحزنك يسرا وتوجها الى الخالق ليست بهجوب عنه الاخرة وخلوص التوجه الى الله تعالى فى الاخرة من غير شائبة حجاب وغيبة.
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ قال المفسرون النصب التعب والمعنى فاذا فرغت من دعوة الخلق فانصب واتعب بالعبادة شكرا لما عددنا عليك من النعم السابقة ووعدناك بالنعم الآتية او المعنى إذا فرغت من عبادة فانصب فى عبادة اخرى ولا تجعل وقتا من أوقاتك ضائعا خاليا قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ليس يتحسر اهل الجنة الأعلى ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله فيها وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومقاتل والكلبي إذا فرغت من الصلاة المكتوبة او مطلق الصلاة فانصب الى ربك فى الدعاء وارغب اليه فى المسألة يعنى قبل السلام بعد التشهد او بعد السلام وقال الشعبي إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك وقال ابن مسعود إذا فرغت من الفرائض فانصب فى قيام الليل وقال الحسن وزيد بن اسلم إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب فى عبادة ربك وهذا معنى قوله ﷺ رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر وقال منصور عن مجاهد إذا فرغت من امر الدنيا فانصب فى عبادة ربك وقال حبان عن الكلبي إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب اى استغفر لذنبك وللمومنين فوجه اتصال هذه الاية بما سبق ان عند النعماء سبب للشكر واما على تأويلنا فمعنى الاية إذا فرغت
من دعوة الخلق المقصود من النزول الأتم فانصب اى انتصب وارتفع الى مدارج العروج ومقام الشهود فى الصحاح نصب الشيء وضعه وضعا ثانيا كنصب الزرع والبناء والحجر وفى القاموس نصب كفرج اعنى وهم ناصب اى منصب ونصب الشيء وضعه ورفعه ضد كنصبه فانتصب وتنصب وناقة نصباء مرتفعة الصدر وتنصب الغراب ارتفع فعلى هذا التأويل هذه الاية فى مقام التسلية مرادف بقوله تعالى ان مع العسر يسرا الاية.
وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ ع عطف تفسيرى يقوله فانصب يعنى ارغب بالسؤال الى ربك ولا تسال غيره قال عطاء تضرع اليه راهبا من النار راغبا فى الجنة وقيل فارغب اليه فى جميع أحوالك قال الزجاج اجعل رغبتك الى الله وحده والجار والمجرور متعلق بمحذوف دل عليه ما بعده يعنى فانصب وارغب الى ربك فارغب قلت تكرار الأمر بالرغبة لان الرغبة الاولى الى آلاء الله وصفاته والثانية الى ذاته المجردة الرفيعة عن الشيون والاعتبارات قرأة سورة الم نشرح لك صدرك يؤيد فى مقام النزول كما ان سبح اسم ربك الأعلى يؤيد فى مقام العروج وقد ذكرنا هناك والله تعالى اعلم.
Icon