ﰡ
والملائكة خلق مطيعون لربهم، لا يفعلون إلّا ما يؤمرون به، ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى، وهم من خوفه حذرون، ومن يقل منهم: إنه إله.. فلا جزاء له إلا جهنم، وهي جزاء كل ظالم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: نعي إلى النبي - ﷺ - نفسه، فقال: "يا رب فمن لأمتي" فنزلت ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿اقْتَرَبَ﴾؛ أي: قرب ودنا ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ أي للمشركين ﴿حِسَابُهُمْ﴾؛ أي (٢): وقت محاسبة الله إياهم على أعمالهم يوم القيامة، نزلت في منكري البعث؛ أي: قرب (٣) بالنسبة إلى ما مضى، أو عند الله تعالى لقوله: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧)﴾، أو لأن كل ما هو آت قريب، وإنما البعيد ما انقرض ومضى، قال الشاعر:
فَمَا زَالَ مَنْ يَهْوَاهُ أَقْرَبُ مِنْ غَدِ | وَمَا زَالَ مَنْ يَخْشَاهُ أَبْعَدُ مِنْ أَمْسِ |
(٢) الخازن.
(٣) البيضاوي.
والحساب بمعنى المحاسبة (٢)، وهو إظهار ما للبعيد وما عليه ليجازى على ذلك، والمراد باقتراب حسابهم: اقترابه في ضمن اقتراب الساعة، وسمي يوم القيامة بيوم الحساب، تسمية للزمان بأعظم ما وقع فيه، وأشدّه وقعاً في القلوب، فإن الحساب هو الكاشف عن حال المرء، ومعنى اقترابه لهم تقاربه، ودنوّه منهم بعد بعده عنهم، فإنه في كل ساعة من ساعات الزمان أقرب إليهم من الساعة السابقة، ما أن ما مضى أكثر مما بقي، وفي الحديث: "أمّا بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس" وإنما لم يعيّن الوقت؛ لأن كتمانه أصلح كوقت الموت.
والمعنى (٣): دنا من مشركي قريش وقت محاسبة الله إياهم على أعمالهم السيئة، الموجبة للعقاب يوم القيامة، ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾؛ أي: والحال أنهم في غفلة تامة من الحساب على النقير والقطمير، والتأهّب له، ساهون عنه بالكلية، لا أنهم غير مبالين مع اعترافهم بإتيانه، بل منكرون له، كافرون به مع اقتضاء عقولهم له؛ لأن الأعمال لا بد لها من الجزاء، وإلّا لزم التسوية بين المطيع، والعاصي وهي بعيدة عن مقتضى الحكمة والعدالة ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن الإيمان والآيات، والنذر المنبّهة لهم من سنة الغفلة.
وهما خبران للضمير، وحيث كانت الغفلة أمرًا جبليًا لهم، جعل الخبر الأول ظرفا منبئًا عن الاستقرار بخلاف الأعراض. والجملة حال من ﴿الناس﴾،
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
وحاصل المعنى: أي (١) دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها في دنياهم، وعلى النِّعَم التي أنعمها عليهم ربهم في أجسامهم، وعقولهم، ومطاعمهم ومشاربهم، ماذا عملوا فيها؟ هل أطاعوه فيها، فانتهوا إلى أمره ونهيه، أو عصوه فخالفوا أمره فيها، وهم في هذه الحياة في غفلة عما يفعل الله بهم يوم القيامة، ومن ثمّ تركوا الفكر والاستعداد لهذا اليوم، والتأهُّب له جهلًا منهم بما هم لاقوه حينئذٍ من عظيم البلاء، وشديد الأهوال، وآثر بيان اقتراب هذا اليوم مع أن الكلام مع المشركين المنكرين للبعث للإشارة إلى أن البعث لا ريب فيه، وأن الذي يرجى بيانه ذكر ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للاضطراب على وجه أكيد، ونهج سديد.
وخلاصة ذلك: أنه قد دنا وقت الساعة، وهم غافلون عن حسابهم، ساهون، لا يتفكرون في عاقبتهم، مع أن قضية العقل تقضي بجزاء المحسن والمسيء، وإذا هم نبهوا من غفلتهم بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا، وسدوا أسماعهم عن سماعه،
٢ - ثم ذكر ما يدل على غفلتهم، وإعراضهم بقوله: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ﴾؛ أي: ما يأتي هؤلاء المشركين ﴿مِنْ ذِكْرٍ﴾ ينبّههم عن سِنة الغفلة والضلالة، أي: (٢) طائفة نازلة من القرآن تذكرهم الحساب أكمل تذكير، وتنّبههم عن الغفلة أتم تنبيه، كأنها نفس الذكر والعظة ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ﴿من﴾ لابتداء الغاية، متعلقة بـ ﴿يَأْتِيهِمْ﴾، أو صفة لـ ﴿ذِكْرٍ﴾ وفيه دلالة على فضله وشرفه، وكمال شناعة ما فعلوا به ﴿مُحْدَثٍ﴾ بالجر صفة لـ ﴿ذِكْرٍ﴾؛ أي: متجدد تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة، ليكرر على أسماعهم التنبيه، كي يتعظوا، فالمحدث (٣) هو تنزيله في كل وقت على حسب المصالح، وقدر الحاجة، لا الكلام الذي هو صفة
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
قلت: والأسلم الإمساك عن القول بحدوث القرآن وقدمه، وتفويض علم ذلك إلى الله سبحانه، فإنه لم يسمع من النبي - ﷺ -، ولا من السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم شيء من الكلام في ذلك.
قالوا: القرآن اسم مشترك يطلق على الكلام الأزلي الذي هو صفة الله، وهو الكلام النفسي القديم، من قال بحدوثه كفر.
ويطلق أيضًا على ما يدل عليه وهو النظم المتلو الحادث، من قال بقدمه سجّل على كمال جهله. وقيل: الذكر المحدث ما قاله النبي - ﷺ -، وبيّنه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن وأضافه إليه؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ قاله في "الخازن".
وقرأ الجمهور (١): ﴿مُحْدَثٍ﴾ بالجر صفة لـ ﴿ذكر﴾ على اللفظ. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع، صفة لـ ﴿ذكر﴾ على المحل. وقرأ زيد بن علي بالنصب، على الحال من ذكر، إذ قد وصف بقوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾.
﴿إِلَّا اسْتَمَعُوهُ﴾ من النبي عليه السلام أو غيره ممن يتلوه. استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول ﴿يَأْتِيهِمْ﴾ بإضمار قد. ﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾؛ أي: يستهزئون به، ويستسخرون منه لتناهي غفلتهم، وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب. وجملة ﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ في محل نصب على الحال أيضًا من فاعل ﴿اسْتَمَعُوهُ﴾. يقال: لعب إذا كان فعل فعلًا غير قاصد به مقصدًا صحيحًا.
٣ - ﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ حال أخرى؛ أي ساهيةً معرضةً غافلةً قلوبهم عن ذكر الله تعالى. يقال: لها عنه إذا ذهل وغفل. قال الراغب: اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، يقال: لهوت بكذا، ولهيت بكذا، اشتغلت عنه، يلهو وألهاه عن كذا شغله عما هو أهم. وقرأ ابن أبي عبلة، وعيسى ﴿لَاهِيَةً﴾ بالرفع على
قدم اللعب على اللهو تنبيهًا على أنهم إنما أقدموا على اللعب، لذهولهم عن الحق، فاللعب الذي هو السخرية والاستهزاء نتيجة اللهو، الذي هو الغفلة عن الحق، والذهول عن التفكر. قال بعضهم: القلب اللاهي: هو المشغول بأحوال الدنيا، والغافل عن أحوال العقبى. قال الواسطي: لاَهِيةً عن المصادر والموارد، والمبدأ والمنتهى.
وقصارى ذلك: أنه (٢) ما ينزل الله من قرآن ويذكرهم به إلَّا استمعوه وهم لاهون لاعبون مستهزئون.
والخلاصة: أنه ما جدد لهم الذكر وقتًا فوقتا، وكررَّ على أسماعهم التنبيه، والموعظة لعلهم يتعظون، إلا زادَهم ذلك سخرية واستهزاء، وفي هذا ذم لأولئك الكفار، وزَجْر لغيرهم عن مثله، فالانتفاع بما يُسْمَعُ لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر، وإلا حصل مجرد إلاستماع الذي تشارك البهيمة فيه الإنسان.
وبعد أن ذكر ما يُظْهِرَونَه حين الاستماع من اللهو واللعب، ذَكَرَ ما يخفونه بقوله: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أي: وأمر هؤلاء الذين اقْتَرَبَتِ الساعة منهم، وهم في غفلتهم معرضون التناجي بينهم، وأخفوه عن سواهم. والنجوى في الأصل: مصدر، ثم جُعِلَ اسمًا من التناجي بمعنى القول الواقع بطريق المسارة؛ أي: السر بين اثنين فصاعدًا. يقال: تناجى القوم إذا تساروا، وتكالموا سرًا عن غيرهم. ومعنى (٣) إسرارها مع أنها لا تكون إلا سرًا أنهم بالغوا في إخفائها. وقوله: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ على أنفسهم بالشرك، والمعصية. بدل (٤) واو ﴿أسروا﴾ للإيماء بأنهم ظلموا فيما أسروا به. أو فاعل له والواو علامة الجمع، أو مبتدأ، والجملة المتقدمة خبره، وأصله: وهؤلاء الغافلون أسروا النجوى، فوضع
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) البيضاوي.
والمعنى (٢): أي قالوا في تناجيهم متعجبين من دعواه النبوة: هل هذا الذي أتاكم بهذا الذكر إلا بشر مثلكم، في خلقه وأخلاقه، يأكل كما تأكلون، ويشرب كما تشربون، ويموت كما تموتون، فكيف يختص دونكم بالرسالة؟ والهمزة في قوله: ﴿أَفَتَأْتُونَ السِّحْر﴾ للاستفهام الإنكاري الابتعادي، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف. وجملة ﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ حال من فاعل ﴿تأتون﴾، مقرّرة للإنكار، ومؤكدة الابتعاد؛ أي (٣) ما هذا الرجل الذي يدّعي النبوة إلّا من جنسكم، وما أتى به - يعنون القرآن - سحر، أتعلمون ذلك فتأتونه، وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول، وأنتم تبصرون، وتعاينون أنه سحر، قالوا ذلك لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلّا ملكًا، وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحرِ؛ أي: الخداع والتخيلات التي لا حقيقة لها.
وخلاصة ذلك: أنهم طعنوا في نبوته بأمرين:
١ - أن الرسول لا يكون إلّا ملكًا.
٢ - أنَّ الذي يظهر على يديه من قبيل السحر. وذلك فاسد إذ حجة النبوة تعرف من المعجزة، لا من الصورة، ولو بعث الملك إليهم.. لم يعلموا نبوته
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وإنما أسرّوا ذلك لأنه كالتشاور بينهم والتحاور لطلب الطريق الموصل إلى هدم دينه، وإطفاء نور النبوة، وقد جرت عادة المتشاورين في خطب عظيم أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم، بل يجتهدون في طيّ سرّهم عنهم مَّا استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، كما جاء في أمثالهم: (استعينوا في قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود)
٤ - فأطلع الله سبحانه نبيه - ﷺ - على ما تناجوا به، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم، فقال: ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ﴾ سرًّا كان أو جهرًا حال كون ذلك القول ﴿فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ فضلًا عما أسرّوا به، وإذا علم القول علم الفعل؛ أي: قل لهم أيها الرسول: إنكم، وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فيَّ فإن ربكم عليم بذلك، وإنه معاقبكم عليه ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لجميع المسموعات ﴿الْعَلِيمُ﴾ بجميع المعلومات؛ أي: المبالغ في العلم بالمسموعات، والمعلومات التي من جملتها ما أسرّوه من النجوى، فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم. وفي هذا من التهديد، والوعيد، ما لا يخفى، وإنما آثر كلمة ﴿الْقَوْلَ﴾ التي تعمّ السرّ والجهر دون كلمة (السرّ) التي تقدمت في الكلام للإيذان بأن علمه تعالى بالأمرين على وتيرة واحدة، لا تفاوت فيه بالجلاء والخفاء كما في علوم العباد.
وخلاصة ذلك (١): أنه يعلم هذا الضرب من الكلام، وأعلى منه، وأدنى منه، وفي هذا مبالغة في علمه تعالى بكل ما يمكن أن يسمع أو يعلم.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وأيوب، وخلف، وابن سعدان، وابن جبير الأنطاكي، وابن جرير (٢): ﴿قَالَ رَبِّي﴾ على معنى الخبر عن نبيّه - ﷺ -، وكذا في مصاحف الكوفيين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: ﴿قل ربي﴾ على الأمر لنبيّه - ﷺ -.
٥ - ولمّا ذكر سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا: إنَّ ما أتى به سحر، ذكر
(٢) البحر المحيط.
أي: بل قال بعضهم: أخلاط أحلام قد رآها في النوم. وقال آخرون: بل اختلقه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى الله تعالى. وقال قوم: بل هو شاعر، وما أتى به شعر.
وخلاصة ذلك (٢)؛ أنهم ما صدقوا بحكمة هذا القرآن، ولا أقروا أنه من عند الله، ولا أنه وحي أوحاه الله إليه، بل قالوا هذه المقالات.
وفي هذا الاضطراب منهم (٣)، والتلوّن والتردد، أعظم دليل على أنهم
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
وقد ذكرت (١) هذه المقالات على هذا الوضع إشارة إلى ترقيها في الفساد، فإن كونها سحرًا أقرب من كونها أضغاث أحلام، قد يقال: "إن من البيان لسحرا" بخلاف تخاليط الكلام التي لا تضبط، ولا شبه لها بهذا النظم البديع، وادعاء كونها مفترياتٍ أبعد وأبعد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد شهر بالأمانة والصدق، إلى أنهم أعرف الناس بالفرق بين المنظوم والمنثور، وبين ما يساق له الشعر وما سيق له هذا الكلام، إلى أنهم يعلمون من مخالطته مدى أربعين سنة أنه لا يسهل له الشعر وإن أراده.
وفي "روح البيان": قوله تعالى حكاية عن الكفار: ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ كثير من المفسرين (٢) حملوه على أنهم رموه بكونه آتيًا بشعر منظوم مقفى، حتى تأوّلوا عليه ما جاء في القرآن من كل لفظةٍ تشبه الموزون من نحو قوله: ﴿وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾، وقال بعض المحققين: لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به، وذلك أنه ظاهر من هذا الكلام أنه ليس على أساليب الشعر، ولا يخفى ذلك على الأغنام من العجم، فضلًا عن بلغاء العرب، وإنما رموه بالكذب، فإن الشعر يعبّر به عن الكذب، والشاعر الكاذب حتى سمّوا الأدلة الكاذبة بالشعر، ولكون الشعر مقرُّ الكذب قيل: أحسن الشعر أكذبه. فالمراد بقولهم: إنه شاعر: القدرة على إنشاء الكلام الموزون، وليس من مقتضاها التكلم.
ثم بعدما قدحوا في القرآن، طلبوا آيةً أخرى غيره فقالوا: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ﴾ وهذا جواب شرط مقدر يدل عليه السياق، تقديره: إن لم يكن كما قلنا، بل كان
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي (١) إن كان صادقًا في أن الله تعالى بعثه رسولًا إلينا، وأن الذي يتلوه وحي أوحاه الله إليه.. فليأتنا بحجة تدل على ما يقول ويدعي كما جاء به الرسل الأولون من قبله، من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وناقة صالح، وما أشبه ذلك من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله، ولا يأتي بها إلا الأنبياء والرسل، وفي التعبير بقولهم: ﴿كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ بيان كونها آيات مسلَّمات تثبت الرسالة بمثلها، ويترتب عليها المقصود، وليس لأحد أن ينازع فيها.
٦ - ثم كذبهم سبحانه فيما تضمنته خاتمة مقالهم من الوعد بالإيمان حين إتيان الآية المقترحة، وبين أن في ترك إجابتهم عما طلبوا إبقاء عليه، فإنهم لو أوتوها، ولم يؤمنوا بها لاستؤصلوا بالعذاب كما هي سنة الله في الأمم السالفة إذا كذبت رسلها بعد إتيانهم بما اقترحوا، ولكن قد سبقت كلمة الله أن مشركي هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال فقال: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ﴾ أي: قبل مشركي مكة ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾؛ أي: أهل قرية اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، وهو في محل الرفع على الفاعلية. و ﴿من﴾ مزيدة لتأكيد العموم ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾؛ أي: بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات. صفة قرية.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ للاستفهام الإنكاري (٢)، لإنكار الوقوع داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: إنه لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات أفهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سئلوا، وأعطوا ما اقترحوا، مع كونهم أعتى منهم وأطغى، كما
(٢) روح البيان.
وَلاَ تَكُ كَالشَّاةِ الَّتِيْ كَانَ حَتْفُهَا... بِحَفْرِ ذِرَاعَيْهَا فَلَمْ تَرْضَ مَحْفَرا
وأصله: أن رجلًا وجد شاة، وأراد ذبحها فلم يظفر بسكين، وكانت مربوطةً، فلم تزل تبحث برجليها حتى أبرزت سكينًا كانت مدفونة، فذبحها بها، يضرب في مادة تودي صاحبها إلى التلف، وما يورط الرجل فيه نفسه.
وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للترحم بهم، إذ لو أتي به لم يؤمنوا، واستوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم، وقد سلف وعده تعالى في حق هذه الأمة أن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة. ومعنى الآية؛ أي: إنَّ هؤلاء أشد عتوًا من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات، ووعدوا أنهم يؤمنون حين مجيئها، فلما جاءتهم نكثوا العهد، وخالفوا، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلو أعطوا ما اقترحوا... لكانوا أشد نكثاً، فينزل بهم عذاب الاستئصال، وقد سبقت كلمة ربك أنه يؤخر عذابهم إلى اليوم المعلوم.
قال قتادة: قال أهل مكة للنبي - ﷺ -: إذا كان ما تقوله حقًا، ويسرُّك أن نؤمن فحول لنا الصفا ذهبًا، فأتاه جبريل فقال: إن شئت.. كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك؟ قال: "بل أستأني بقومي" فأنزل الله ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ﴾ الآية كما سبق في مبحث الأسباب.
٧ - ثم أجاب سبحانه عن قولهم: هل هذا إلّا بشر مثلكم بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ﴾ أيها الرسول رسولًا إلى أمة من الأمم التي خلت من قبلك ﴿إِلَّا رِجَالًا﴾ أمثالهم ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ ما نريد من أمرنا ونهينا، لا ملكا نوحي إليهم بوساطة الناموس ما نوحي من الشرائع والأحكام، والقصص والأخبار، فما بالهم لا يفهمون أنك لست بدعًا من الرسل.
وجاء بمعنى الآية قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾، وقوله: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾، وقوله: حكاية عمن تقدم من الأمم: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾.
وقرأ حفص، وحمزة، والكسائي ﴿نُوحِي﴾ بالنون وكسر الحاء. وقرأ الجمهور ﴿يوحى﴾ بالياء التحتية مبنيًا للمفعول.
ثم أمرهم سبحانه أن يسألوا في ذلك أهل الكتاب من اليهود والنصارى تبكيتاً لهم، وإزالةً لما علق بأذهانهم من الاستبعاد، بعد أن بيَّن لهم وجه الحق فقال: ﴿فَاسْأَلُوا﴾ أيها الكفرة الجهلة ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾؛ أي: أهل الكتاب ممن يؤمن بالتورة، والإنجيل، الواقفين على أحوال الرسل السالفة لتزول شبهتكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ الحق؛ أي: أن الرسل بشر، ولا يتبيّن لكم الصواب، يخبروكم عن ذلك، أمروا بذلك؛ لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عدواته - ﷺ -، ويشاورونهم في أمره، وكانوا لا ينكرون كون الرسل بشرًا، وإن أنكروا نبوته - ﷺ -. روي أنه قيل للإمام الغزالي رحمه الله: بماذا حصل لكم الإحاطة بالأصول والفروع؟ فتلا هذه الآية، وأشار إلى أن السؤال من أسباب العلم وطرائقه.
٨ - وبعد أن بيّن أنه - ﷺ - على سنة من مضى من الرسل في كونه رجلًا، بيّن أنه على سنتهم في سائر الأوصاف التي حكم بها على البشر في معيشتهم وموتهم
وخلاصة ذلك (٢): أنا جعلنا الرسل أجسامًا تتغذى حين الحياة، ثم يصير أمرها إلى الفناء بعد استيفاء آجالها، ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون، وما كانوا مخلدين بأجسادهم، بل يموتون كما مات الناس قبلهم وبعدهم، وإنما امتازوا عن غيرهم من سائر الناس بما يأتيهم عن الله من الوحي والزلفى عنده.
والخلود (٣) تبرّىء الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، والمراد إمّا المكث المديد كما هو شأن الملائكة، أو الأبدي وهم معتقدون أنهم لا يموتون.
والمعنى: جعلناهم أجسادًا متغذية حائرة بالموت إلى الآخرة على حسب آجالهم لا ملائكة، ولا أجسادًا مستغنيةً عن الأغذية مصونةٌ عن التحلل كالملائكة.
٩ - وجملة قوله: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ﴾ معطوفة على جملة محذوفة، يدل عليها
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
١٠ - وبعد أن حقق رسالته - ﷺ - ببيان أنه كسائر الرسل الكرام شرع يحقق فضل القرآن الكريم، ويبين نفعه للناس، بعد أن ذكر في صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته، واضطرابهم في شأنه فقال: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ يا معشر قريش، أي: وعزتي وجلالي لقد أنزلنا إلى رسولكم محمد - ﷺ - ﴿كِتَابًا﴾ عظيم الشأن نبر البرهان، وهو القرآن ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ صفة لـ ﴿كِتَابًا﴾، أي: فيه شرفكم لكونه بلسانكم، أو فيه موعظتكم بذكر الوعد والوعيد لترغبوا، وتحذورا، أو فيه ذكر أمر دينكم بما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق، وفاضل الآداب، وسديد الشرائع، والأحكام مما فيه سعادة البشر في حياتهم الدنيوية والأخروية، وليس بسحر، ولا شعر، ولا أضغاث أحلام، ولا مفترىً كما تدّعون.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي التقريعي. والفاء عاطفة على محذوف، والتقدير: ألا تتفكرون فتعقلوا أن الأمر كذلك، أي: أفلا تتفكرون فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ، وقوارع الزواجر، فتحذروا الوقوع فيما يخالف أمره ونهيه، ولا يخفى ما في هذا من الحثّ على التدبر؛ لأن الخوف من لوازم العقل، فمن لم يتدبَّرْ فكأنه لا عقل له.
وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (١): لمّا دنا فراق رسول الله - ﷺ - جمعنا في بيت أمِّنا عائشة - رضي الله عنها - ثم نظر إلينا فدمعت عيناه، وقال: "مرحبا بكم، حيّاكم الله، رحمكم الله تعالى، أوصيكم بتقوى الله تعالى وطاعته،
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من تعلم القرآن في صغره اختلط القرآن بلحمه ودمه، ومن تعلمه في كبره فهو يتفلت منه، ولا يتركه، فله أجره مرتين" وجه الأول أنه في الصغر خال عن الشواغل، وما صادف قلبًا خاليًا يتمكن فيه، قال الشاعر:
أَتَانِيْ هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى | فَصَادَفَ قَلْبَاً خَالِيَاً فَتَمَكَّنَا |
١١ - ثم حذّرهم وأوعدهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ﴾ كم خبرية للتكثير، محلها النصب على أنها مفعول به لـ ﴿قَصَمْنَا﴾ ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾ تمييز لها. القصم كسر الشيء ودقه من الإبانة، وإزالة تأليفه بالكلية، وفي التعبير به من الدلالة على الغضب وشدة السخط ما لا يخفى.
والمعنى هنا: الإهلاك والعذاب ﴿كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ صفة ﴿قَرْيَةٍ﴾ على تقدير مضاف، والظلم في الأصل وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر
١٢ - ثم بيَّن حالهم حين حلول البأس، فقال: ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا﴾؛ أي: فلما أحس أهل تلك القرية الظالمة، وأدركوا ﴿بَأْسَنَا﴾؛ أي: عذابنا الشديد إداركًا تامًا، كأنه إدراك المشاهد المحسوس، ورأوه ﴿إِذَا هُمْ مِنْهَا﴾؛ أي: من القرية. ويحتمل أن يعود على ﴿بَأْسَنَا﴾؛ لأنه في معنى الشدة، فأنّث على المعنى. ذكره في "البحر". و ﴿إِذَا﴾ للمفاجاة. و ﴿هُمْ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿يَرْكُضُونَ﴾؛ أي: يهربون مسرعين راكضين مثل دوابّهم، أو مشبّهين بهم من إفراط الإسراع.
أي (٢): فلمّا أيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما أوعدهم أنبياؤهم، إذا هم يهربون سراعًا عجلين يعدون منهزمين.
والخلاصة: أنهم لمَّا علموا شدة بأسنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا في ديارهم هاربين من قراهم، بعد أن كانوا قد تجبروا على رسلهم، وقالوا لهم: ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾.
١٣ - ثم ذكر أنهم في ذلك الحين ينهون عن الهرب، ويقال لهم بلسان الحال، أو بلسان المقال من الملك، أو ممن هنالك من المؤمنين على طريق الاستهزاء والتهكم: ﴿لَا تَرْكُضُوا﴾، أي: لا تهربوا من مساكنكم ﴿وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ﴾؛ أي (٣) إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم. والمترف: المنعم. يقال: أترف فلانٌ؛ أي: وسع عليه في معاشه، وأترفته النعمة أطغته. وأترف فلان أصر على البغي، أي: ارجعوا إلى ما أعطيتموه من العيش الواسع، والحال الطيبة،
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
والمعنى: أي يقال لهم على طريق الاستهزاء والسخرية: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة، والسرور، والمساكن الطيبة، والفرش المنجّدة الوثيرة، لعلكم تقصدون للسؤال عما جرى علكيم ونزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائلين عما تشاهدون وتعلمون.
١٤ - ثم حكى عنهم ما أجابوا به القائلين لهم: لا تركضوا وارجعوا، فقال: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أهل تلك القرية الظالمة لمَّا يئسوا من الخلاص بالهرب، وأيقنوا بنزول العذاب ﴿يَا وَيْلَنَا﴾؛ أي: يا هلاكنا تعال فهذا أوانك ﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ لأنفسنا مستوجبين للعذاب بما قدّمنا، وهو اعتراف منهم بالظلم، وباستتباعه للعذاب، وندمهم عليه حين لا ينفعهم ذلك.
والمعنى: أي قالوا حين يئسوا من الخلاق إذ نزل بهم بأس الله بظلمهم اْنفسمهم: يا قومنا هلاكًا لنا لكفرنا بربنا، وهذا منهم اعتراف بكفرهم، وندم عليه حين لا ينفع الندم.
نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاَتَ كسَاعَةُ مَنْدَمِ | وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ |
١٥ - ﴿فَمَا زَالَتْ تِلْكَ﴾ الكلمة؛ أي كلمة ﴿يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾، وهي اسم "زال"، وخبره قوله: ﴿دَعْوَاهُمْ﴾؛ أي: دعاؤهم ونداؤهم. والدعوى مصدر دعا دعوى ودعوة كقوله: وآخر دعواهم لأن الويل كانه يدعو الويل. أي: رددوها وكرروها مرة بعد مرة ﴿حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ﴾؛ أي: حتى صيرنا أهل تلك القرية ﴿حَصِيدًا﴾؛ أي: محصودين بالعذاب كما يحصد الزرع بالمنجل؛ أي: مثل الحصيد، وهو المحصود من الزرع والنبت، ولذلك لم يجمع؛ لأن الفعيل بمعنى المفعول، يستوي فيه المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث، حالة كونهم ﴿خَامِدِينَ﴾؛ أي: ميِّتين. حال من المنصوب في ﴿جَعَلْنَاهُمْ﴾. من خمدت النار إذا أطفىء لهبها، وخمدت الحمى إذا سكنت حرارتها.
والمعنى: أي (١) فما زالوا يردّدون هذه المقالة، ويجعلونها هجيراهم حتى حصدوا حصداً، وخمدت حركاتهم، وهدأت أصواتهم، ولم ينبسوا ببنت شفة.
وخلاصة هذا: أنهم صاروا يكرّرون الاعتراف بظلمهم أنفسهم، ولكن لم ينفعهم ذلك كما قال: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ حتى لم يبق لهم حس، ولا حركة، وأبيدوا كما يباد الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار. وفي الحديث: "خمس في خمس: ما نقض العهد قوم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلَّا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا منع عنهم القطر".
١٦ - ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ﴾؛ أي (٢): وما أبدعنا السماء التي هي كالقبة المضروبة، والخيمة المطنبة ﴿وَالْأَرْضَ﴾ التي هي كالفراش والبساط ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من أنواع الخلائق، وأصناف العجائب، حالة كوننا ﴿لَاعِبِينَ﴾؛ أي: عابثين. بل لحكم
(٢) روح البيان.
قال الكرماني: "اللعب: فعلٌ يدعو إليه الجهل، يروق أوله، ولا ثبات له، وإنما خلقناهما لنجازي المحسن والمسيء، وليستدل بهما على وحدانيته، والقدرة" انتهى.
أي (١): لم نخلقما عبثًا، ولا باطلًا، بل للتنبيه على أن لهما خالقاً قادرًا يجب امتثال أمره. وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم. والمراد بـ ﴿ما بينهما﴾ سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض، على اختلاف أنواعها، وتباين أجناسها من الهواء والسحاب والرياح. والمعنى؛ أي: وما خلقنا هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع، وما بينهما من أصناف المخلوقات البديعة للهو واللعب، بل خلقناهما لفوائد دينية، وحكم ربّانية، كأن تكون دليلًا على معرفة الخالق لها، ووسيلة للعظة والاعتبار، إلى ما فيها من منافع أخرى لا حصر لها.
وخلاصة ذلك (٢): أن إيجاد العالم كله، ولا سيما النوع الإنساني، واستخلافه في الأرض، مبني على بديع الحكم، مستتبع لغايات جليلة لا تخفى على ذوي الألباب، وقد علم بعضها من أمعنوا النظر في الكون وعجائبه، وأوتوا حظًّا من صادق المعرفة، فعرفوا بعض أسراره، وانتفعوا ببعض ما أودع في باطن الأرض، وما على ظاهر سطحها مما كان سببًا في رقيّ الإنسان، ولا يزال العلم يؤكد لنا كل يوم عجيبًا، ويظهر لنا من كنوزها غريبًا ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)﴾
١٧ - ثم أكّد نفي اللعب بقوله: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا﴾ أي (٣) ما يتلهّى ويلعب به
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وخلاصة هذا: أنا خلقناكم لحكمة، وصوّرناكم لغاية، وجعلنا لكم السمع والأبصار لمنافع قدرناها لكم، لا للهونا ولعبنا، ومن ثمّ لا نترككم سدًى، بل نحاسبكم ونؤاخذكم، والجد مطلبنا، واللهو واللعب من شأن العبيد المخلوقين،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
١٨ - وقوله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ﴾ اضراب (١) عن اتخاذ الولد وإرادته، كأنه قيل: لكتا لا نريد اتخاذ اللهو والولد، بل شأننا أن نقذف بالحق الذي من جملته الجدّ والإيمان، والقرآن ونحوها، ونرميه، ونغلبه على الباطل الذي من جملته اللهو، والكفر، والأباطيل الأخر ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾؛ أي: يصيب دماغه فيهلكه ويعدمه ويذهبه بالكلية، كما فعلنا بأهل القرى المحكية ﴿فَإِذَا﴾ فجائية ﴿هُوَ﴾؛ أي: الباطل ﴿زَاهِقٌ﴾؛ أي: ذاهب بالكلية. والزهوق ذهاب الروح. يقال: زهقت نفسه خرجت من الأسف. وفي "إذا" المفاجاة، والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى، فكأنه زاهق من الأصل، فجملة قوله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ﴾ انتقال من إرادة اتخاذ اللهو إلى تنزيه ذاته تعالى، كأنه تعالى قال: سبحاننا أن نريد اتخاذ اللهو، بل شأننا بمقتضى حكمتنا أن نغلب اللعب بالجد، وندحض الباطل بالحق. والمقصود من هذه الآية: تقرير نبوة محمد - ﷺ -، والردّ على منكريها؛ لأنه تعالى أظهر المعجزة عليه - ﷺ -، فإن كان محمد كاذبًا.. كان إظهار المعجزة عليه من باب اللعب، وذلك منفي عنه تعالى، وإن كان صادقًا.. فهو المطلوب، وحينئذٍ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن ﴿وَلَكُمُ﴾ يا كفار مكة ﴿الْوَيْلُ﴾؛ أي: شدة العذاب ﴿مِمَّا تَصِفُونَ﴾ "من" تعليلية متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر؛ أي: استقرَّ لكم الويل والهلاك أيها المشركون من أجل وصفكم له سبحانه بما لا يليق بشأنه الجليل من اتخاذ الصاحبة والولد، ووصف كلامه بأنه سحر، وأضغاث أحلام، ونحو ذلك من الأباطيل.
وقرأ عيسى بن عمر (٢): ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾ بنصب الغين. وقال الزمخشري: وهو في ضعف كقوله:
(٢) روح البيان.
سَأَتْرُكُ مَنْزِلِيْ لِبَنِيْ تَمِيْمٍ | وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيْحَا |
وحاصل معنى الآية: أي أنَّ من شأننا أن نرمي الحق الذي من جملته الجدّ على الباطل الذي منه اللعب، فيكسر دماغه بحيث يشق غشاءه، فيؤدي ذلك إلى زهوق روحه فيهلك، وقد شبّه الباطل بإنسان كسر دماغه فهلك، وإذا كان هذا من شأننا فكيف نترككم بلا إنذار، كأننا خلقناكم لنلهو بكم ولكم العذاب الشديد من وصفكم ربكم بغير صفته، وقولكم: إنه اتخذ ولدًا وزوجة، وافتراؤكم ذلك عليه.
١٩ - ولمَّا حكى كلام الطاعنين في النبوات (١)، وأجاب عنها، وبيَّن أن غرضهم من تلك المطاعن إنما هو التمرّد، والعناد.. بيَّن في هذه الآية أنه غني عن طاعتهم؛ لأنه هو المالك لجميع المخلوقات، والملائكة على جلالة قدرهم مطيعون له، خائفون منه، فأجدر بالبشر على ضعفهم أن يطيعوه، وما أخلقهم أن يعبدوه، فقال: ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: جميع المخلوقات فيهما خلقًا، وملكًا، وتدبيرًا، وتصرفًا، وإحياءً وإماتة وتعذيبًا، وإثابةً دون أن يكون لأحد في ذلك سلطان، لا استقلالًا، ولا استتباعًا. وقوله: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ﴾ سبحانه وتعالى معطوف على (من) الأولى، من عطف الخاص على العام؛ أي: وله (٢) سبحانه الملائكة المكرمون عنده، المنزَّلون لكرامتهم عليه منزلة المقرّبين عند الملوك على طريقة التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على أكثر خلقه، لا على الجميع كما زعم أبو بكر الباقلاني، وجميع المعتزلة، فالمراد بالعندية: عندية الشرف، لا عندية المكان والجهة، و"عند" وإن كان من الظروف المكانية إلَّا أنه شبَّه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة، فعبَّر عن المشبّه بلفظ المشبّه به.
وجملة قوله: ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ حال من (من) الثانية؛ أي: وله
(٢) روح البيان.
ويجعل أبو السعود ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ﴾ مبتدأ خبره ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أو المعنى عليه، أي: والملائكة الذين شرفت منزلتهم عند ربهم لا يستعظمون عن عبادته، ولا يكون ولا يتعبون. وتخصيص الملائكة بالذكر للدلالة على رفعة شأنهم. كما خص جبريل من بين الملائكة في قوله ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾.
٢٠ - ثم بيّن سبحانه كيف يعبدون ربهم، فقال: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ جملة مستأنفة لبيان عبادتهم، كانه قيل: كيف يعبدون؟ فقيل: يسبّحون الليل والنهار؛ أي: ينزّهونه سبحانه وتعالى في جميع الأوقات عن وصمة الحدوث، وعن الأنداد، ويعظمونه ويمجّدونه دائمًا حالة كونهم ﴿لَا يَفْتُرُونَ﴾ ولا يسكنون عن نشاطهم في العبادة؛ أي: لا يتخلل تسبيحهم فترة وانقطاع وسكون طرفة عين بفراغ منه، أو بشغل آخر؛ لأنهم يعيشون بالتسبيح، كما يعيش الإنسان بالنفس، والحوت بالماء، يعني (١): أن التسبيح بالنسبة إلى الملائكة كالتنفس بالنسبة إلينا، فكما أن قيامنا وقعودنا وتكلُّمنا، وغير ذلك من أفعالنا، لا يشغلنا عن التنفس، فكذلك الملائكة لا يشغلهم عن التسبيح شيء من أفعالهم، كما قال عبد الله بن الحارث لكعب: أليس أنهم يؤدون الرسالة، ويلعنون من لعنه الله، كما قال: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ وقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ﴾؟ فقال: التسبيح لهم كالتنفس لنا، فلا يمنعهم عن عمل. فإن قلت: التسبيح، واللعن من جنس الكلام، فكيف لا يمنع أحدهما الآخر؟
قلنا: لا يبعد أن يخلق الله لهم ألسنةً كثيرةً، ببعضها يسبحون، وببعضها يلعنون. أو المعنى: لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته، كما يقال: فلان
٢١ - و ﴿أَمِ﴾ في قوله: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً﴾ منقطعة (١) مقدرة ببل، وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: إنكار وقوع النشر، لا إنكار الاتخاذ الواقع. والضمير للمشركين. والمراد بالآلهة: الأصنام ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ متعلق بـ ﴿اتخذوا﴾؛ أي: بل اتخذ وصنع ونحت المشركون آلهةً وأصناما ﴿هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ ويبعثون الموتى من القبور من بعض أجزاء الأرض، وحجارتها، وجواهرها، كالذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص. وجملة ﴿هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ صفة لآلهة، وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل، والتشنيع، لا نفس الاتخاذ، فإنه واقع لا محالة.
والمعنى: بل اتخذوا آلهةً من الأرض هم خاصةً مع حقارتهم وجماديتهم، ينشرون الموتى، كلا فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك، وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحًا، فإنهم لم يثبتوا النشر لله تعالى كما قالوا: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ فكيف يثبتونه للأصنام؛ لكنهم حيث ادَّعوا لها الإلهية، فكأنهم ادَّعوا لها النشر، والبعث للموتى ضرورة أنَّه من الخصائص الإلهية حتمًا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُنْشِرُونَ﴾ مضارع نشر الرباعي، ومعناه: يحيون.
وقرأ الحسن، ومجاهد ﴿يَنْشرُون﴾ مضارع نشر. وهما لغتان، نشر وأنشر متعديان، ونشر يأتي لازمًا، يقال: أنشر الله الموتى فنشروا؛ أي فحيوا.
٢٢ - ثم أقام (٣) الدليل العقلي على التوحيد، ونفى أن يكون هناك إلهٌ غير الله تعالى، فقال: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا﴾، أي: في السموات والأرض ﴿آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ﴾؛ أي: إله غير الله تعالى ﴿لَفَسَدَتَا﴾، أي: لفسدت السموات والأرض، وخرجتا عن هذا النظام المشاهد؛ لأن كل أمر بين اثنين لا يجري على نظام واحد، والرعية
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوْهُ | لَعَمْرُ أبِيْكَ إلَّا الْفَرْقَدَانِ |
ولمّا أثبت بالدليل أن المدبّر للسموات والأرض لا يكون إلَّا واحدًا، وأنَّ ذلك الواحد لا يكون إلّا الله قال: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾؛ أي: فتنزيهًا لله ﴿رَبِّ الْعَرْشِ﴾؛ أي: مالك العرش المحيط بهذا الكون، ومركز تدبير العالم ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾؛ أي:
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
والفاء في قوله: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان، أي: إذا ثبتت الوحدانية بالبرهان، فنزّهوا الله تنزيهًا عما يقول الكفار من وجود آلهة غير الله تعالى، وفيه إرشاد للعباد أن ينزَّهوا الربَّ سبحانه عما لايليق به
٢٣ - ثم أكد هذا التنزيه بقوله: ﴿لَا يُسْأَل﴾ سبحانه ﴿عَمَّا يَفْعَلُ﴾؛ أي: عما يحكم في عباده من إعزاز، وإذلال، وهدى وإضلال، وإسعاد، وإشقاء لأنه المالك القاهر. فهذه الجملة مستأنفة مبيّنة أنه سبحانه لقوة سلطانه، وعظيم جلاله، لا يسأله أحدٌ من خلقه عن شيء من قضائه وقدره، وإنما لا يسأل سبحانه سؤال إنكار، ويجوز السؤال عنه على سبيل الاستكشاف والبيان كقوله: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾، وعلى سبيل التضرّع والحاجة كقوله تعالى حكاية عن الكافر: ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾. قال في "بحر العلوم" (١): إنما لا يسأل عما يفعل؛ لأنَّه ربّ مالك علّام، لا نهاية لعلمه، وكل من سواه مربوبٌ مملوك، جاهلٌ لا يعلم شيئًا إلَّا بتعليم، فليس للمملوك الجاهل أن يعترض على سيّده العليم بكل شيء فيما يفعل ويقول: لم فعلت؟ وهلّا فعلت؟ مثلًا.
﴿وَهُمْ﴾؛ أي: العباد ﴿يُسْأَلُونَ﴾ عما يفعلون نقيرًا وقطميراً؛ لأنهم مملوكون مستعبدون خطاؤون فيقال لهم في كل شيء فعلوه: لم فعلتم؟. والسؤال استدعاء معرفة، أو ما يؤدي إلى المعرفة، وجوابه على اللسان، واليد خليفة له بالكتابة أو الإشارة. فإن قيل: ما معنى السؤال بالنسبة إلى الله تعالى؟
قلنا: تعريف للقوم وتبكيتهم، لا تعريف لله تعالى فإنه علام الغيوب، فالسؤال كما يكون للاستعلام يكون للتبكيت. وقرأ الحسن ﴿لا يسل وهم يسلون﴾ بفتح السين، نقل حركة الهمزة إلى السين، وحذف الهمزة. وقيل: إن المعنى (٢)
(٢) الشوكاني.
٢٤ - ثم أعاد وكرّر الإنكار مرَّةً أخرى، استفظاعًا لشأنهم، واستعظامًا لكفرهم، وإظهارًا لجهلهم، فقال: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ فـ ﴿أَمِ﴾ هنا بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الإنكار كالسابقة؛ أي: للإضراب والانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهةً لا يصلح للألوهية، لخلوها عن خصائصها إلى إظهار بطلان اتخاذهم تلك الآلهة، مع خلوها عن تلك الخصائص بالمرة. والهمزة لإنكار الاتخاذ المذكور، واستقباحه اهـ "أبو السعود"؛ أي: أبعد ظهور هذه الأدلة، يقولون: إن لله شركاء. و ﴿مِنْ﴾ متعلقة بـ ﴿اتَّخَذُوا﴾، والمعنى: بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى آلهةً مع ظهور خلوهم عم خواص الألوهية بالكلية.
ثم أمرهم بإقامة الدليل على صحة ما يدَّعون، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد بطريق الإلزام وإلقام الحجر ﴿هَاتُوا﴾؛ أي: (٢) أعطوني ﴿بُرْهَانَكُمْ﴾؛ أي: حجتكم على ما تدّعون من جهة العقل والنقل، فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية، لا سيما في مثل هذا الشأن الخطير. قال في "المفردات": البرهان أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبدًا. أي: قل لهم: هاتوا برهانكم على دعوى أنها آلهة، أو على جواز اتخاذ آلهةٍ سوى الله تعالى، ولا سبيل لهم إلى شيء من ذلك، لا من عقلٍ، ولا من نقلٍ؛ لأن دليل العقل قد مرَّ بيانه. وأمّا دليل النقل فقد أشار إليه بقوله: ﴿هَذَا﴾ الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمّن للبرهان القاطع ﴿ذِكْرُ مَنْ مَعِي﴾؛ أي: عظةٌ من معي من أمتي، وتذكيرهم
(٢) روح البيان.
وعبارة "أبي السعود" (٢): ﴿هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي﴾؛ أي: عظتهم ومتمسكهم على التوحيد، فأقيموا أنتم برهانكم على التعدد، اهـ. و ﴿هذا﴾ اسم (٣) إشارة مبتدأ، أشار به للكتب السماوية، وقد أخبر عنه بخبرين، فبالنظر للخبر الأول يرادبه القرآن، وبالنظر للخبر الثاني يراد به ما عداه من الكتب السماوية.
وقرأ الجمهور (٤): بإضافة ﴿ذكر﴾ إلى ﴿من﴾ فيهما على إضافة المصدر إلى المفعول كقوله: ﴿بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ﴾. وقرىء بتنوين ﴿ذكر﴾ فيهما، و ﴿من﴾ مفعول منصوب بالذكر كقوله: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا﴾. وقرأ يحيى بن يعمر، وطلحة بتنوين ﴿ذِكْرُ﴾ فيهما، وكسر ميم ﴿من﴾ فيهما، ومعنى ﴿مَعِيَ﴾ هنا عندي، والمعنى: هذا ذكر من عندي، ومن قبلي؛ أي: أذكّركم بهذا القرآن الذي عندي، كما ذكّر الأنبياء من قبلي أممهم. ودخول ﴿مَنْ﴾ على ﴿مع﴾ نادر، ولكنه اسم يدل على الصحبة والاجتماع، أجري مجرى الظرف، فدخلت
(٢) أبو السعود.
(٣) الفتوحات.
(٤) البحر المحيط.
ثم لمّا توجهت الحجة عليهم، ذمّهم بالجهل بمواضع الحق فقال: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ﴾ إضراب من جهته تعالى، غير داخل في الكلام الملقن؛ أي: إضراب من جهته سبحانه، وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا يؤثر فيهم إقامة البرهان، لكونهم جاهلين للحق، لا يميّزون بينه وبين الباطل، فلا تنجع فيهم المحاجّة بظهار حقيّة الحق وبطلان الحق. وفي "بحر العلوم": كأنه قيل: بل عندم ما هو أصل الفساد كله، وهو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل، فمن ثمَّة جاء الإعراض، ومن هناك ورد الإنكار ﴿فَهُمْ﴾ لأجل ذلك ﴿مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، وأما أقلّهم العالمون فلا يقبلونه عنادًا أي: فهم (١) لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم أعرضوا عن قبول الحق، وعن النظر الموصول إليه، فلا يتأملون حجةً، ولا يتدبرون برهانًا، ولا يتفكرون في دليل.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿الْحَقَّ﴾ بالنصب، والظاهر نصبه على المفعول به. وقرأ الحسن، وحميد، وابن محيصن ﴿الْحَقَّ﴾ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا القول هو الحق، والوقف على هذه القراءة على ﴿يَعْلَمُونَ﴾.
٢٥ - ولما ذكر انتفاء عِلْمِهِم الحق، وإعراضهم عنه أخبر أنه ما أرسل من رسول، إلَّا جاء مقرّرًا لتوحيد الله وإفراده بالإلهية، والأمر بالعبادة، فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾ يا محمد ﴿مِنْ رَسُولٍ﴾ مرسل إلى أمة من الأمم ﴿إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلَّا أوحينا إليه ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: أن الشأن ﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا معبود بحق في السموات والأرض ﴿إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ أنت وأمتك؛ أي: فأخلصوا لي
(٢) البحر المحيط.
وخلاصة ذلك (١)؛ أنَّ الرسل جميعًا أرسلوا بالإخلاص، والتوحيد، لا يقبل منهم سواه، ونحو الآية قوله: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾، وقوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾.
ولما كان (٢) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾ عامًا لفظًا ومعنَى أفرد على اللفظ في قوله: ﴿إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ﴾، ثم جمع على المعنى في قوله: ﴿فَاعْبُدُونِ﴾، ولم يأت التركيب ﴿فاعبدني﴾. ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته، وهذه العقيدة من توحيد الله، لم تختلف فيها النبوات، وإنما وقع الاختلاف في أشياء من الأحكام.
وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، والقطعي، وابن غزوان، عن أيوب، وخلف، وابن سعدان، وابن عيسى، وابن جرير: ﴿نوحي﴾ بالنون وكسر الحاء، وباقي السبعة بالياء وفتح الحاء، واختلف عن عاصم.
وقال بعضهم: التوحيد على ثلاث مراتب (٣): توحيد أهل البداية وهو: لا إله إلّا هو، وسير أهل هذا التوحيد في عالم الأجسام. وتوحيد أهل التوسط، وهو: لا إله إلَّا أنت، وسير أهل هذا التوحيد في عالم الأرواح. وتوحيد أهل النهاية، وهو: لا إله إلا أنا، وسير أهل هذا التوحيد في عالم الحقيقة، انتهى.
٢٦ - وبعد أن بيَّن سبحانه الدلائل الباهرة على أنه منزَّه عن الشريك والندّ..
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال: ﴿بَلْ﴾ ليست الملائكة كما قالوا: بل هم ﴿عِبَادٌ﴾؛ مخلوقون له تعالى ﴿مُكْرَمُونَ﴾ مقرَّبون عنده، مفضَّلون على كثير من العباد، لا على كلهم، والمخلوقية تنافي الولادة؛ لأنها تقتضي المناسبة؛ فليسوا بأولاد، وإكرامهم لا يقتضي كونهم أولادًا كما زعموا
٢٧ - ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾؛ أي: لا يتقدموفه بالقول، ولا بالفعل. صفة أخرى لـ ﴿عِبَادٌ﴾. وأصل (٣) السبق المتقدم في السير، ثم تجوِّز به في غيره من التقدم؛ أي: لا يقولون شيئًا حتى يقوله تعالى ويأمرهم لكمال انقيادهم وطاعتهم كالعبيد المؤدَّبين.
وقرأ عكرمة ﴿مُكْرَمُونَ﴾ بالتشديد. والجمهور بالتخفيف. وقرأ الجمهور ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ﴾ بكسر الباء. وقرىء بضمها، من سابقني فسبقته أسبقه. ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: الملائكة ﴿بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: كما أنهم يقولون بأمره كذلك يعملون بأمره، لا بغير أمره أصلًا، فالقصر المستفاد من تقديم الجار معتبر بالنسبة إلى
(٢) السمرقندي.
(٣) روح البيان.
٢٨ - وجملة قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ تعليل لما قبلها. ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدَّموا وأخّروا لم يعملوا عملًا، ولا يقولوا إلَّا بأمره؛ أي: يعلم الله سبحانه وتعالى، ولا يخفى عليه ما بين أيديهم؛ أي: ما قدَّموا من الأقوال والأعمال ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾؛ أي: وما أخَّروا منهما، وهو الذي ما قالوه، وما عملوه بعد، فيعلمهم بإحاطته تعالى بذلك، أو يعلم ما بين أيديهم، وهو الآخرة، وما خلفهم وهو الدنيا، ولا يزالون يراقبون أحوالهم، فلا يقدمون على قول أو عمل بغير أمره تعالى، فهو تعليل لما قبله، وتميهدٌ لما بعده كما مرّ آنفًا.
﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ الله تعالى أن يشفع له من أهل الإيمان مهابةً منه تعالى؛ أي: وهم لا يشفعون إلّا لمن رضي الله عنه، فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه تعالى، قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله. وقد ثبت في الصحيح أنَّ الملائكة يشفعون في الدار الآخرة. قال قتادة؛ أي: لأهل التوحيد. والشفاعة (١) الإنضمام إلى آخر ناصرًا له، كما سيأتي في "مفردات اللغة".
﴿وَهُمْ﴾؛ أي: الملائكة مع ذلك ﴿مِنْ خَشْيَتِهِ﴾؛ أي: من خشيتهم منه تعالى وخوفهم منه. فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله ﴿مُشْفِقُونَ﴾؛ أي: مرتعدون. والخشية: الخوف مع التعظيم، والإشفاق: الخوف مع التوقع والحذر؛ أي: لا يأمنون مكر الله تعالى. والمعنى: أي: وهم من خوف الله، والإشفاق من عقابه، حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه
٢٩ - ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من الملائكة ﴿إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى؛ أي: حال كونه متجاوزًا إياه تعالى. قال المفسرون (٢): عني بهذا إبليس؛ لأنه لم يقل أحد من الملائكة: إني إله إلّا
(٢) الشوكاني.
وقوله: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ مصدر (١) تشبيهي مؤكد لمضمون ما قبله؛ أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين، الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها، ويتعدون أطوارهم بالإشراك وادعاء الإلهية. والقصر المستفاد من التقديم معتبر بالنسبة إلى النقصان، دون الزيادة؛ أي: لا جزاء أنقص منه. والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة، إن خيرًا.. فخير، وإن شرا. فشر، يقال: جزيته كذا، وبكذا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿نجزيه﴾ بفتح النون. وقرأ أبو عبد الرحمن المقرىء بضمها، أراد ﴿نَجْزِيهِ﴾ بالهمز، من أجزأني كذا كفاني، ثم خفف الهمزة، فانقلبت ياءً.
وخلاصة ما تقدم (٣): أنه تعالى وصف الملائكة بخمس صفات تدل على العبودية، وتنافى الولادة:
١ - المبالغة في الطاعة، فإنهم لا يقولون قولًا، ولا يفعلون فعلًا إلَّا بإذنه.
٢ - أنه سبحانه يعلم أسرارهم، وهم لا يعلمون أسراره، فهو المستحق للعبادة، فهم كما قال عيسى عليه السلام: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾.
٣ - أنهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى الشفاعة، ومن يكون إلهًا أو ولدًا
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
٤ - أنهم في نهاية الإشفاق والوجل من الله.
٥ - أن حالهم كحال سائر المكلفين في الوعد والوعيد، فكيف يكونون آلهة.
الإعراب
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢)﴾.
﴿اقْتَرَبَ﴾: فعل ماض. ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق به. ﴿حِسَابُهُمْ﴾: فاعل، ومضاف إليه، الجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية ﴿هم﴾ مبتدأ. ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾ جار ومجرور، خبر أول. ﴿مُعْرِضُونَ﴾ خبر ثان. والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿حِسَابُهُمْ﴾. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَأْتِيهِمْ﴾ فعل ومفعول. ﴿مِنْ﴾ حرف جر زائد لسبقه بالنفي. ﴿ذِكْرٍ﴾ فاعل مجرور لفظًا، مرفوع تقديرًا. ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه صفة أولى لـ ﴿ذِكْرٍ﴾، أو متعلق بـ ﴿يَأْتِيهِمْ﴾. ﴿مُحْدَثٍ﴾ صفة ثانية لـ ﴿ذِكْرٍ﴾، تابع للفظه. والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرّغ. ﴿اسْتَمَعُوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب، حال من مفعول ﴿يَأْتِيهِمْ﴾، ولكنها على تقدير قد لكونها ماضوية؛ أي: إلّا حالة كونهم مستمعين إياه. ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾ حالية. ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَلْعَبُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿اسْتَمَعُوهُ﴾، أي: إلّا استمعوه حالة كونهم لاعبين.
﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)﴾.
﴿لَاهِيَةً﴾: حال من فاعل ﴿يَلْعَبُونَ﴾، فتكون حالًا متداخلة، أو حال من فاعل ﴿اسْتَمَعُوهُ﴾ أيضًا، فتكون حالًا مترادفةً؛ لأن الحال يجوز تعددها كالصفة.
فائدة: قال أبو البقاء (١): ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ في موضعه ثلاثة أوجه:
أحدها: الرفع وفيه أربعة أوجه:
١ - أن يكون بدلًا من ﴿الواو﴾ في ﴿أسروا﴾.
٢ - أن يكون فاعلاً، و ﴿الواو﴾ حرف للجمع، لا اسم.
٣ - أن يكون مبتدأ، والخبر قوله: ﴿هَلْ هَذَا﴾، والتقدير: الذين ظلموا يقولون: ﴿هَلْ هَذَا...﴾ الخ.
٤ - أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين ظلموا.
وثانيها: أن يكون منصوبًا على إضمار أعني.
وثالثها: أن يكون مجروراً صفة ﴿لِلنَّاسِ﴾، والمعروف أن الفعل يجب أن يبقى مع الفاعل بصيغة الواحد، وإن كان مثنًى أو مجموعًا، قال ابن مالك:
وَجَرَّدِ الْفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا | لاثْنَيْنِ أَوْ جَمْعٍ كَفَازَ الشُّهَدَا |
أُلْفِيَتَا عَيْنَاكَ عِنْدَ الْقَفَا | أوْلَى فَأَوْلَى لَكَ ذَا وَاقِيَهْ |
﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿هَلْ﴾ حرف استفهام للاستفهام الإنكاري. ﴿هَذَا﴾ مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿بَشَرٌ﴾ خبر. ﴿مِثْلُكُمْ﴾ صفة لـ ﴿بَشَرٌ﴾، والجملة الاستفهامية في محل النصب بدل من ﴿النَّجْوَى﴾ لأنها بمثابة التفسير لها، أو جملة مفسرةٌ لا محل لها من الإعراب، أو مقول لقول مضمر هو جواب عن سؤال مقدّر، نشأ مما قبله، كأنه قيل: فماذا قالوا في نجواهم؟ فقيل: قالوا: هل هذا... الخ. ﴿أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿تَأْتُونَ السِّحْرَ﴾ فعل وفعل ومفعول. والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة، والتقدير: أتعلمون ذلك فتأتون السحر. والجملة المحذوفة في محل النصب، بدل ثانٍ من ﴿النَّجْوَى﴾ وعبارة السمين: يجوز في هاتين الجملتين الاستفهاميتين أن تكونا في محل نصب بدلًا من ﴿النَّجْوَى﴾، وأن تكونا في محل نصب بإضمار القول، قالهما الزمخشري، وأن تكونا في محل نصب على أنهما محكيتان لـ ﴿النَّجْوَى﴾؛ لأنها في معنى القول. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾ حالية، ﴿أنتم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿تُبْصِرُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿تأتون﴾، مقرّرة للإنكار.
﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الرسول، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّي﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿يَعْلَمُ الْقَوْلَ﴾ فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الرب، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ أو مقول ﴿قل﴾. ﴿فِي السَّمَاءِ﴾ جار ومجرور حال من ﴿الْقَوْلَ﴾، أو متعلق بـ ﴿يَعْلَمُ﴾. و ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاءِ﴾. {وَهُوَ
﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾.
﴿بَلْ﴾ حرف إضراب وانتقال ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: ما أتى به أضغاث أحلام، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿بَلْ﴾ حرف اضراب. ﴿افْتَرَاهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب. ﴿هُوَ شَاعِرٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَلْيَأْتِنَا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إن لم يكن الأمرك ما قلنا، بل كان رسولًا، وأردتم بيان ما يطلب منه فأقول لكم: ﴿ليأتنا﴾ ﴿بِآيَةٍ﴾، و ﴿اللام﴾ لام الأمر. ﴿يأتنا﴾ فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لام﴾ الأمر، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿بِآيَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿يأتنا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب قول ﴿قَالُوا﴾. ﴿كَمَا﴾ ﴿الكاف﴾ حرف جر وتشبيه. و ﴿ما﴾ اسم موصول في محل الجرّ بالكاف الجار والمجرور صفة لـ ﴿لآية﴾؛ أي: بآية كائنة كالآية التي أرسل بها الأولون، أو ﴿الكاف﴾ اسم بمعنى مثل، في محل الجر، صفة لـ ﴿آية﴾، و ﴿الكاف﴾ مضاف و ﴿ما﴾ اسم موصول، في محل الجر، مضاف إليه؛ أي: بآية مثل الآية التي أرسل بها الأولون. ﴿أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أرسل بها الأولون.
﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿آمَنَتْ﴾: فعل ماض وتاء تأنيث. ﴿قَبْلَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿قَرْيَةٍ﴾: فاعل والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم واستبعاد إيمانهم. ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول به. والجملة في محل الرفع صفة لقرية
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾ نافية، ﴿أَرْسَلْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿قَبْلَكَ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. إِلا أداة استثناء مفرغ. ﴿رِجَالًا﴾ مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَتْ﴾. ﴿نُوحِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿رِجَالًا﴾. ﴿إِلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿نوحي﴾ ﴿فَاسْأَلُوا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا سمعتم أيها الكفرة ما أخبرته لكم، وأردتم يقينه فأقول لكم: اسألوا أهل الذكر ﴿اسألوا﴾ فعل وفاعل. ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وجملة ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، ومفعول العلم محذوف، تقديره: أن الرسل بشر. وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم لا تعلمون ذلك... فاسألوا أهل الذكر، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة.
﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾: نافية. ﴿جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وما أرسلنا قبلك﴾ ﴿لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿جَسَدًا﴾.
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (١١)﴾.
﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿كِتَابًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿فِيهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدّم. ﴿ذِكْرُكُمْ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لـ ﴿كِتَابًا﴾. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف ﴿لا﴾ نافية. ﴿تَعْقِلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الأمر كذلك، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَكَمْ﴾ ﴿الواو﴾ استثنافية. ﴿كم﴾ خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب مفعول مقدّم لـ ﴿قَصَمْنَا﴾. ﴿قَصَمْنَا﴾ فعل وفاعل ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾ تمييز لـ ﴿كم﴾ مجرور بـ
﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا عرفت إهلاكنا كثيرًا من القرية، وأردت بيان حالهم عند إهلاكها فأقول لك. "لما" حرف شرط غير جازم. ﴿أَحَسُّوا بَأْسَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾، لا محل لها من الإعراب. ﴿إِذَا﴾: فجائية رابطة لجواب لمّا وجوبا لكونه جملة اسمية. ﴿هُمْ﴾ مبتدأ. ﴿مِنْهَا﴾ متعلق بـ ﴿يَرْكُضُونَ﴾، وجملة ﴿يَرْكُضُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. ﴿لَا تَرْكُضُوا﴾ ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَرْكُضُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وقيل لهم: لا تركضوا، وجملة القول المحذوف مستأنفة. ﴿وَارْجِعُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿لَا تَرْكُضُوا﴾ ﴿إِلَى مَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿ارجعوا﴾ ﴿أُتْرِفْتُمْ﴾ فعل ونائب فاعل. ﴿فِيهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضمير فيه. ﴿وَمَسَاكِنِكُمْ﴾ معطوف على ﴿مَا﴾، مجرور بالكسرة ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿تُسْأَلُونَ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا للقول المحذوف.
﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (١٥) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿ويلنا﴾
﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)﴾.
﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿أَرَدْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿أَنْ﴾ حرف نصب. ﴿نَتَّخِذَ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَهْوًا﴾ مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: لَوْ أردنا اتخاذ لهو ﴿لَاتَّخَذْنَاهُ﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾. ﴿اتخذناه﴾ فعل وفاعل ومفعول به ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾ جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: لاتخذناه اتخاذًا كائنًا من لدنا، والجملة جواب لو، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ مستأنفة. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كُنَّا﴾ فعل
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠)﴾.
﴿وَلَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَنْ﴾: اسم وصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ جار ومجرور صلة من الموصولة. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع معطوف على من الأولى. ﴿عِنْدَهُ﴾ ظرف ومضاف إليه، صلة من الموصولة، وجملة ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ حال من من الثانية. ﴿عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ﴿وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ معطوف على ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾، ويجوز أن تكون ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿من عنده﴾ مبتدأ خبره جملة ﴿لَا يَسْتَكْبِرُون﴾، ﴿وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ معطوف عليه، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿يُسَبِّحُونَ﴾: فعل وفاعل
﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)﴾.
﴿أَمِ﴾: منقطعة بمعنى بل، و ﴿همزة﴾ الإنكار. ﴿اتَّخَذُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿آلِهَةً﴾ مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ جار ومجرور، صفة أولى لـ ﴿آلِهَةً﴾ ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يُنْشِرُونَ﴾ خبره، ومفعول ﴿يُنْشِرُونَ﴾ محذوف تقديره: الموتى، والجملة الاسمية في محل النصب، صفة ثانية لـ ﴿آلِهَةً﴾. ﴿لَوْ﴾ حرف شرط. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص. ﴿فِيهِمَا﴾ خبر كان مقدم. ﴿آلِهَةٌ﴾ اسمها مؤخر، وجملة ﴿كَانَ﴾ فعل شرط لـ ﴿لو﴾، لا محل لها من الإعراب. ﴿إِلَّا﴾ اسم بمعنى غير، صفة لـ ﴿آلِهَةٌ﴾، ولكن ظهر إعرابها فيما بعدها؛ لكونها على صورة الحرف، ولا يصح أن تكون استثنائية لأن مفهوم الاستثناء فاسد هنا، إذ حاصله أنه لو كان فيهما آلهة لم يستثن الله منهم لم تفسدا. وليس كذلك، فإن مجرد تعدد الآلهة يوجب لزوم الفساد مطلقًا ﴿اللَّهُ﴾ صفة. ﴿لَفَسَدَتَا﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ ﴿فسدتا﴾ ﴿فسد﴾ فعل ماض، و ﴿التاء﴾ علامة تأنيث الفاعل، و ﴿الألف﴾ ضمير للمثنى في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ ﴿سبحان﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الله سبحانًا عما لا يليق به. ولفظ الجلالة مضاف إليه، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿رَبِّ الْعَرْشِ﴾ صفة للجلالة، ومضاف إليه. ﴿عَمَّا﴾ متعلق بـ ﴿سبحان﴾، وجملة ﴿يَصِفُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، أو لـ ﴿ما﴾ المصدرية. ﴿لَا يُسْأَلُ﴾ ﴿لا﴾ نافية. ﴿يُسْأَلُ﴾ فعل مضارع مغير الصفة، ونائب فاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان تفرده سبحانه بالسلطان بحيث لا يسأله أحد عما يفعله ﴿عَمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُسْأَلُ﴾. ﴿يَفْعَلُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾
﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾.
﴿أَمِ﴾: منقطعة بمعنى (بل)، و (همزة) لإنكار. ﴿اتَّخَذُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ دُونِه﴾ جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾. ﴿آلِهَةً﴾ مفعول أول لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾، أو الجار والمجرور حال من فاعل ﴿اتَّخَذُوا﴾، أي: حالة كونهم متجاوزين الله، أو متعلق بـ ﴿اتَّخَذُوا﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿هَاتُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾ فاعل. ﴿بُرْهَانَكُمْ﴾ مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿هَذَا﴾ مبتدأ. ﴿ذِكْرُ مَنْ﴾ خبر، ومضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة في محل النصب، مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿مَعِيَ﴾ ظرف، ومضاف إليه، صلة من الموصولة. ﴿وَذِكْرُ﴾ معطوف على ﴿ذِكْرُ﴾، وهو مضاف، و ﴿مَنْ﴾ الموصولة في محل الجر، مضاف إليه. ﴿قَبْلِي﴾ ظرف، ومضاف إليه، صلة من الموصولة، ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب. ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ. ﴿الْحَقَّ﴾ مفعول ﴿يَعْلَمُونَ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿فَهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع. ﴿هم﴾ مبتدأ، ﴿مُعْرِضُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على الجملة التي قبلها.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾ نافية. ﴿أَرْسَلْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ جار ومجرور حال ﴿مِنْ رَسُولٍ﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿مِنْ﴾
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾ وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ ﴿سُبْحَانَهُ﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الله سبحاناً، والجملة مستأنفة ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب ﴿عِبَادٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره: بل هم عباد ﴿مُكْرَمُونَ﴾ صفة لـ ﴿عِبَادٌ﴾، والجملة مستأنفة ﴿لَا يَسْبِقُونَه﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿بِالْقَوْلِ﴾ متعلق بـ ﴿يَسْبِقُونَهُ﴾، والجملة في محل الرفع، صفة ثانية لـ ﴿عِبَادٌ﴾ ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ ﴿بِأَمْرِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَعْمَلُونَ﴾، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع، صفة ثالثة لـ ﴿عِبَادٌ﴾.
﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع، صفة رابعة لـ ﴿عِبَادٌ﴾، أو مستأنفة. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بمحذوف، صلة لـ ﴿مَا﴾ ﴿وَمَا﴾ معطوف على ما الأولى. ﴿خَلْفَهُمْ﴾ ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿ما﴾. ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿يَعْلَمُ﴾ على كونها صفة خامسة. ﴿إِلَّا﴾ أداة إستثناء مفرغ. ﴿لِمَنِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَشْفَعُونَ﴾. ﴿ارْتَضَى﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة ﴿مِنْ﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: إلَّا لمن ارتضاه. ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ. ﴿مِنْ خَشْيَتِهِ﴾ متعلق بـ ﴿مُشْفِقُونَ﴾. ﴿مُشْفِقُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَشْفَعُونَ﴾ على كونها صفة سادسة، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿يَشْفَعُونَ﴾.
﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)﴾.
﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما. ﴿يَقُلْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل يقل. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿إِلَهٌ﴾ خبره. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ جار ومجرور، صفة لِـ ﴿إِلَهٌ﴾، أو متعلق به؛ لأنه بمعنى معبود، وجملة ﴿إِنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿يَقُلْ﴾. ﴿فَذَلِكَ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿ذلك﴾ مبتدأ. ﴿نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعولان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿ذلك﴾، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب لـ ﴿من﴾ الشرطية، وجملة ﴿مِنْ﴾ الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿يَعْلَمُ﴾ على كونها صفة سابعة. ﴿كَذَلِكَ﴾ جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والتقدير: نجزي الظالمين جزاءً
التصريف ومفردات اللغة
﴿اقْتَرَبَ﴾ وقرب بمعنى، والمراد من اقتراب الحساب؛ اقترابُ زمانه، وهو مجيء الساعة. وفي "أبي السعود": وإسناد الاقتراب إليه، لا إلى الساعة كما في الآية الأخرى، مع استتباعها له، ولسائر ما فيها من الأحوال، والأهوال الفظيعة لانسياق الكلام إلى بيان غفلتهم عنه، وإعراضهم عما يذكرهم ذلك اهـ ﴿الناس﴾ هم المكلّفون.
﴿مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: عن التأهب لهذا اليوم، يقال: أعرض؛ أي: ولَّى مبدياً عرضه؛ أي: ناحيته ﴿النَّجْوَى﴾ في الأصل مصدر، ثم جعل اسمًا من التناجي بمعنى القول الواقع بطريق المسارَّة؛ أي: السر بين اثنين فصاعدًا، يقال: تناجى القوم إذا تسارّوا، وتكالموا سرًّا عن غيرهم، والمراد: أنَّهم أخفوا تناجيهم، ولم يتناجوا بمرأى من غيرهم. قال الراغب: ناجيته ساررته، وأصله: ارتحلوا به في نجوة من الأرض؛ أي: المرتفع المنفصل بارتفاعه عما حوله، ومعنى إسرارها مع أنها لا تكون إلّا سرًا أنهم بالغوا في إخفائها.
﴿مِنْ ذِكْرٍ﴾؛ أي: قرآن ﴿مُحْدَثٍ﴾؛ أي: جديد نزوله ﴿بَشَرٌ﴾ اسم جنس يستوي فيه الواحد والجمع ﴿بَلْ قَالُوا﴾ بل كلمة يؤتى بها للانتقال من غرض إلى غرض آخر، ولا تذكر في القرآن إلَّا على هذا الوجه كما قاله ابن مالك، وسبقه إليه صاحب "الوسيط"، ووافقه ابن الحاجب، وهو الحق.
﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾؛ أي: أخلاط رآها في النوم، وقد تقدم البحث فيها ﴿جَسَدًا﴾ قال الراغب: الجسد كالجسم لكنه أخص فإن الجسد ما له لون، والجسم يقال: لما لا يبين له لون كالماء، والهواء، ﴿خَالِدِينَ﴾ والخلود: تبرؤُ الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، والمراد إما المكث المديد كما هو شأن الملائكة، أو الأبديُّ وهم معتقدون أنهم لا يموتون ﴿الْوَعْدَ﴾ نصرهم وإهلاك أعدائهم ﴿الْمُسْرِفِينَ﴾؛ أي: الكافرين، قال الراغب:
﴿وَكَمْ قَصَمْنَا﴾ ﴿كم﴾ كلمة تفيد تكثير وقوع ما بعدها، والقصم هو الكسر بتفريق الأجزاء، وإذهاب التئامها، والقصم، أبلغ من الكسر. وفي "القاموس": قصم من باب ضرب قصماً الشيء إذا كسره، وقصم الرجل أهلكه، ويقال: قصم الله ظهر الظالم؛ أي أنزل به البلية ﴿وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا﴾ والإنشاء والاختراع، والتكوين، والتخليق، والإيجاد، أسماء مترادفة يراد بها معنى واحد، وهو إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود، كما في "بحر العلوم". قال الراغب: الانشاء إيجاد الشيء وتربيته، وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان كما في هذه الآية ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا﴾ والإحساس الإدراك بالحاسة؛ أي: أدركوا بحاسّة البصر عذابنا الشديد، والبأس الشدة والمكروه، والنكاية، ﴿إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ والركض: ضرب الدابة بالرجل، يقال: ركض الدابة يركضها ركضاً من باب قتل، إذا ضربها برجله، والركض هنا، كناية عن الهرب والفرار، ويقال: ركض الرجل الفرس برجليه إذا كدّه بساقيه، ثم كثر حتى قيل: ركض الفرس إذا عدا، فمتى نسب إلى الراكب: فهو إعداء مركوبه نحو ركضت الفرس، ومتى ما نسب إلى الماشي، فوطىء الأرض، ومنه ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ ﴿إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ﴾ يقال: أترفته النعمة أطغته، وأترف فلان أصر على البغي، والإتراف إبطار النعمة، يقال: أترف فلان؛ أي: وسع عليه في معاشه، وقيل فيه همه ﴿حَصِيدًا﴾ فعيل بمعنى مفعول، يستوي فيه الواحد وغيره، وحصد يأتي من باب ضرب، ونصر، والكلام على التشبيه البليغ؛ أي كالزرع المحصود بالمناجل ﴿خَامِدِينَ﴾؛ أي: كالنار التي خمدت، وانطفأت، يقال: خمدت النار إذا انطفأ لهبها، والكلام على التشبيه البليغ أيضًا، يقال: خمدت النار وهمدت، كل منهما من باب دخل، لكن الأول عبارة عن سكون لهبها مع بقاء الجمر، والثاني: عبارة عن ذهابها بالكية حتى تفسير رمادًا اهـ "فتوحات".
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ﴾ الخلق أصله: التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل، ولا احتذاء ﴿لَاعِبِينَ﴾ واللعب الفعل الذي لا يقصد به مقصد صحيح، واللهو: الفعل الذي يفعل ترويحًا عن النفس، ومن ثم تسمى المرأة والولد لهوًا؛ لأنه يستروح بكل منهما. ويقال لامرأة الرجل وولده:
﴿نَقْذِفُ بِالْحَقّ﴾ القذف: الرمي البعيد الشديد المستلزم لصلابة المرمى، قال الراغب: القذف الرمي البعيد، ولاعتبار البعد فيه قيل: منزل قذف وقذيف وبلدة قذوف طروح بعيدة. والباطل: نقيض الحق، وهو الذي لا ثبات له عنه الفحص عنه ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾؛ أي: فيهلكه ويعدمه، من باب: قطع. وفي "القاموس": دمغه قهره، ودمغ الحق بالباطل أبطله ومحقه. وأصل الدمغ: كسر الشيء الرخو الأجوف، وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدّي إلى زهوق الروح، ويراد به هنا: القهر والإهلاك ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾؛ أي: زائل ذاهب، والزهوق: ذهاب الروح وخروجها يقال: زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف.
﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ﴾؛ أي: الهلاك، قال الأصمعي: ويل قبوح، وقد يستعمل في التحسر، وويس استصغار، وويح ترحم. ومن قال: الويل واد في جهنم، فإنه لم يرد أن ويلًا في اللغة هو موضوع لهذا، وإنما أراد أن من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرًّا من النار، وثبت ذلك له ﴿يَسْتَحْسِرُونَ﴾؛ أي: يكون ويتعبون يقال: استحسر البعير؛ أي: كل وتعب. ويقال: حسر وحسرته أنا فيكون لازمًا ومتعديًا. وأحسرته أيضًا فيكون فعل وأفعل بمعنى واحد. ويقال: حسر واستحسر إذا تعب، وأعيى يعني أتى استفعل بمعنى فعل نحو قر واستقر، قال في "المفردات": الحسر كشف الملبس عما عليه، يقال: حسرت عن الذراع، والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر، اهـ. ﴿لَا يَفْتُرُونَ﴾ قال الراغب: الفتور: سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة ﴿يُنْشِرُونَ﴾ وفي "المصباح": نشو الموتى نشورًا من باب قعد حيوا، ونشوهم الله يتعدى ولا يتعدى، ويتعدى
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ هات: من أسماء الأفعال، يقال: هات الشيء؛ أي: أعطيه. وقال الراغب: البرهان: فعلان مثل الرجحان والبنيان اهـ. وقال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيض، انتهى. وقد أشار صاحب "القاموس" إلى كليهما حيث قال في باب النون: البرهان - بالضم - الحجة، وبرهن عليه أقام البرهان، وفي باب الهاء: أبره أتى بالبرهان. وقال في "المفردات": البرهان أوكد الأدلة، وهر الذي يقتضي الصدق أبدًا.
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾ قال الراغب: الأخذ: وضع الشيء وتحصيله، وذلك تارة بالتناول نحو قوله: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا﴾، وتارة بالقهر نحو قوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾، ويقال: أخذته الحمى، ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ، والاتخاذ افتعال منه، فيتعدى إلى مفعولين، ويجري مجرى الجعل ﴿سُبْحَانَهُ﴾، أي: تنزه بالذات تنزهه اللائق به، على أن السبحان مصدر من سبح؛ أي بعد، أو أسبحه تسبيحه على أنه علم للتسبيح، وهو مقول على ألسنة العباد، أو سبحوه تسبيحه ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ﴾ الشفع: ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرًا له، وسائلًا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في القيامة.
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التنكير في قوله: ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾ للتعظيم والتفخيم.
ومنها: الدلالة على فخامة الذكر وشرفه وفضله في قوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
ومنها: الإضراب والترقي في قوله: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾. وهذا الاضراب في وصف القرآن يدل على التردد، والتحيّر في تزويرهم للحق الساطع المنير، فقولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث: أفسد من الثاني.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿قَرْيَةٍ﴾ إذ المراد أهلها، وقد تقدم أمثال ذلك كثيرًا.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ وحق العبارة: إلا رجالا أوحينا إليهم.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ للدلالة على فخامة شأنه وعظيم فضله.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ لأن الركض كناية عن الهرب.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ لأن الترجي هنا استهزاء بهم، وتهكم بما كانوا يظنونه بأنفسهم من أنهم مظنة السخاء ومطلع الكرم.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قولهم: ﴿وَيْلَنَا﴾ فقد خاطبوا الويل - وهو الهلاك - كأنه شخص حتى يدعونه لينقذهم مما هم فيه.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾؛ أي: جعلناهم كالزرع المحصود وكالنار الخامدة، فقد شبَّههم بعد حلول العذاب بهم بالحصيد
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ فقد شبّه الحق والباطل - وهما معنويان - بشيئين مادّيين محسوسين يقذفان ويدفعان، ثم حذف هذين الشيئين، واستعار ما هو من لوازمهما، وهما القذف والدمغ لتجسيد الإطاحة بالباطل واعتلاء الحق عليه، وتصوير إبطاله وإهداره ومحقه، كأنه جرم صلب كصخرة، أو ما يماثلها في القوة والصلابة قذف على جرم رخو أجوف فدمغه، وهي من استعارة المحسوس للمعقول.
ومنها: قوة اللفظ لقوة المعنى، وهو نقل اللفظ من وزن إلى وزن آخر أكثر منه ليتضمّن من المعنى الدال عليه أكثر مما تضمّنه أولًا؛ لأن الألفاظ أدلة على المعاني، وأمثلة للإبانة عنها، فإذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعاني، وهذا الضرب من الزيادة لا يستعمل إلّا في مقام المبالغة، وهو هنا في قوله: ﴿وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ فقد عدل عن الثلاثي، وهو حسر إلى السداسي، وهو استحسر، وقد كان ظاهر الكلام أن يقال: يحسرون؛ أي: يكلون ويتعبون.
ومنها: التصريح بالضمير في قوله: ﴿هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ وقد كان يكفي أن يقول: ينشرون، ولكنه عدل عن ذلك إلى التصريح بالضمير لإفادة معنى المخصوصية أولًا، كأنهم قالوا: ليس هنا من يقدر على الإنشار غيرهم، وثانيًا لتسجيل إلزامهم ادّعاء صفات الألوهية لآلهتهم، وهذا الإدعاء قد أبطله الله في الآية التالية لهذه الآية ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾.
ومنها: المذهب الكلامي في قوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ وتعريفه: أنه هو احتجاج المتكلّم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له على طريقة أرباب الكلام، وله طرق متعددة كما هو مبين في محله.
ومنها: التبكيت وإلقام الحجر للخصم في قوله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا حكى (١) مقالات أولئك المشركين الذين كانوا يعبدون آلهةً من دون الله، ومقالات أولئك
قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأدلة على وجود الخالق الواحد القادر، بما يرون من الآيات الكونية.. أردف ذلك ببيان أن هذه الدنيا ما خلقت للخلود والدوام، ولا خلق من فيها للبقاء، بل خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون وسيلةً إلى الآخرة التي هي دار الخلود، فلا تشمتوا إذا مات محمد - ﷺ - فما هذا بسبيله وحده، بل هذه سنة الله في الخلق أجمعين، قال الشافعي - رحمه
الله تعالى -:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوْتَ وَإِنْ أَمُتْ | فَتِلْكَ سَبِيْلٌ لَسْتُ فِيْهَا بِأَوْحَدِ |
فَقُلْ لِلَّذِيْ يَبْغِي خِلاَفَ الَّذِيْ مَضَى | تَزَوَّدْ لأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ |
قوله تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر أنه كلما أتى المشركين آية كفروا بها، وكلما توعّدهم بالعذاب كذبوا به، وقالوا تهكمًا وإنكارًا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.. قفّى على ذلك بنهيهم عن العجلة، وبيان أن ما أوعدوا به آت لا محالة، ثم أرشد إلى أن العجلة من طبيعة الإنسان التي جبل عليها، ثم ذكرهم بجهلهم ما يستعجلون فإنهم لو عرفوا عنه ما طلبوا ما دار بخلدهم ذلك المطلب.
ولئن أصابهم القليل من عذاب الله لتنادوا بالويل والثبور، واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين، ثم قفّى على ذلك ببيان أن الدار الآخرة لا ظلم فيها، ولا محاباة، فالمرء يحاسب فيها على الجليل والحقير، فهناك تنصب موازين العدل، ويجازي كل امرئ بما قدّم من خير أو شرّ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا أمر رسوله - ﷺ - أن يقول لهم: إنما أنذركم بالوحي.. أردفه ببيان أنَّ هذه سنة الله في أنبيائه، فكلهم قد أتاهم الوحي، وبلغهم من الشرائع والأحكام ما فيه هدايةٌ للبشر، وسعادةٌ لهم في دنياهم وآخرتهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه - ﷺ - مرّ على أبي سفيان، وأبي جهل، وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان وقال: أتنكر أن يكون لبني عبد مناف نبي، فسمعها النبي - ﷺ - فرجع إلى أبي جهل، فوقع به وخوَّفه، وقال: ما أراك منتهياً حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة، وقال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلَّا حمية، فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ...﴾ الآية، روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٣٠ - و ﴿الهمزة﴾ في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لإنكار نفي الرؤية (٢)، وإنكار النفي نفي له، ونفي النفي إثبات. و ﴿الواو﴾ للعطف على مقدر، والرؤية قلبية، لا بصريةٌ حتى لا يناقض قوله تعالى: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ والمعنى: ألم يتفكروا، أو ألم يستفسروا من العلماء، أو ألم يطالعوا الكتب، أو ألم يسمعوا الوحي ولم يعلموا: ﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا﴾ ثنّى الضمير الراجع إلى الجمع باعتبار أن المرجع إليه جماعتان: جماعة السموات، وجماعة الأرض ﴿رَتْقًا﴾؛ أي ذواتي رتق، فهو على حذف مضاف. ولم يقل: رتقين؛ لأنه مصدر؛ أي: ملتزقتين ومنضمَّتين، لا فضاء ولا هواء بينهما، ولا فرج، فإن الرتق هو
(٢) روح البيان.
واعلم: أن المراد برؤية الآيات الانتقال من رؤيتها إلى رؤية صانعها، رؤيةً قلبيةً، هي حقيقة الإيمان. والمعنى؛ أي: ألم يعلم الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا مرتوقتين؛ أي: ملتحمتين متصلتين ففصلناهما وأزلنا اتحادهما.
وعبارة ابن الجوزي هنا: واعلم أن للمفسرين في المراد بالفتق ثلاثة أقوال (٣):
أحدها: أن السموات كانت رتقًا لا تمطر، وكانت الأرض رتقًا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات. رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة، ومجاهد، في رواية، والضحاك في آخرين.
والثاني: أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففتقهما الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة.
(٢) البيضاوي.
(٣) زاد المسير.
واعلم: أنه سبحان وتعالى ذكر أدلة ستة تثبت وجود الخالق الواحد القادر لو تدبّرها المنصفون، وعقلها الجاحدون لم يجدوا مجالًا للإنكار، ولا سبيلًا إلى الجحد:
الأول: ما ذكره بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...﴾ إلخ. وقرأ ابن كثير، وحميدٍ، وابن محيصن (١): ﴿ألم ير﴾ بغير ﴿واو﴾ العطف بين الهمزة ولم. والجمهور ﴿أَوَلَمْ يَرَ﴾ ﴿بالواو﴾، وقرأ الجمهور ﴿رَتْقًا﴾ بسكون التاء، وهو مصدر يوصف به كزور وعدل، فوقع خبرًا للمثنى. وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وأبو حيوة، وعيسى ﴿رَتْقًا﴾ بفتح التاء، وهو اسم بمعنى المرتوق كالقبض والنقضى، فكان قياسه أن يثنى ليطابق الخبر الاسم. ذكره في "البحر".
والثاني: ما ذكره بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾؛ أي: وخلقنا من الماء كل شيء متصفٍ بالحياة؛ أي: أحيب، بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء، فيشمل الحيوان والنبات، والمعنى: أن الماء سبب حياة كل شيء، ويدخل في الآية النبات والشجر لنمائهما بالماء (٢)، والحياة قد تطلق على القوة النامية الموجودة في النبات، والحيوان، كما في "المفردات". ويدل على حياتهما قوله تعالى: ﴿وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ كما في "الكبير". وقيل: المراد بالماء هنا النطفة، وبه قال أكثر المفسرين، وعرّف الماء باللام قصدًا إلى الجنس، أي: جعلنا مبدأ كل شيء حي من هذا الجنس؛ أي: جنس الماء، وهو النطفة كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾؛ أي: كل فرد من أفراد الدواب من نطفه معينة، هي نطفة أبيه المختصة به، أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه، وهو
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿حَيٍّ﴾ بالخفض، صفة لشيء. وقرأ حميد ﴿حَيًّا﴾ بالنصب، مفعولًا ثانيًا لـ ﴿جعلنا﴾، والجار والمجرور لغو؛ أي: ليس مفعولًا ثانيًا لـ ﴿جعلنا﴾. والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ للاستفهام الإنكاري التعجبي للإنكار عليهم حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية، داخلةٌ على محذوف و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا يتدبرون هذه الأدلة فلا يؤمنون بتوحيدي.
٣١ - والثالث: ما ذكره بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالاً ثوابت. جمع راسية من رسا إذا ثبت ورسخ، كراهة ﴿أَنْ تَمِيدَ﴾ الأرض، وتميل، وتتحرك، وتضطرب، وتدور ﴿بِهِمْ﴾؛ أي بما عليها من المخلوقات. والأرض (٢) جسم غليظ، أغلظ ما يكون من الأجسام، واقف على مركز العالم، مبين لكيفية الجهات الست، فالشرق حيث تطلع الشمس والقمر، والغرب حيث تغيب، والشمال حيث مدار الجدي، والجنوب حيث مدار سهيل، والفوق ما يلي المحيط، والأسفل ما يلي مركز الأرض. والميد اضطراب الشيء العظيم ودورانه كاضطراب الأرض، يقال: ماد يميد ميدًا إذا تحرك، ومنه سميت المائدة، وهي الطبق الذي عليه الطعام. قال ابن عباس (٣) - رضي الله تعالى عنهما -: إنّ الأرض بسطت على وجه الماء، فكانت تميد بأهلها، كما تميد السفينة على الماء، فأرساها الله بالجبال الثوابت، كما ترسى السفينة بالمرساة.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
واعلم (١): أنه قد أثبت العلم حديثاً أن الأرض كانت نارًا ملتهبةً، ثم بردت قشرفها، وصارت صوانيةً صلبةً، وقدّروا زمن ذلك بنحو ثلاث مئة مليون سنةً. ومما يدل على صدق هذه النظرية ما نراه من حمم النيران التي تخرجها البراكين في جهات كثيرة من الأرض كما حدث في سنة (١٩٠٩) لبركان فيزوف بإيطاليا، وقد طغى على مدينة مسينا، وابتلعها في باطنه، ولم يبق منها شيئًا، فهذه البراكين أشبه بأفواهٍ تتنفس بها الأرض لتخرج من باطنها نيرانًا، ومواد ذائبة، مما يرشد إلى أنها كلها في أحقاب طويلة كانت كذلك.
ولولا هذه القشرة الصلبة لتفجرت ينابيع النيران من سائر جهاتها، كما كانت بعدما انفصلت من الشمس كثيرة الثوران والفوران، وهذه القشوة الصوانية البعيدة الفور المغلقة للكرة النارية هي الحافظة لكرة النار التي تحتها، وهي التي تنبت منها الجبال التي نراها فوق أرضنا، وقد جعلت لحفظ الأرض من أن تميد، وما هي إلّا كأسنانٍ لها، طالت وامتدت فوق طبقات الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقي ما تحتها مفتوحًا، وإذ ذاك ربما تثور البراكين في جهات كثيرةٍ من الأرض، وتضطرب اضطرابًا شديدًا، وتزلزل زلزالًا كثيرًا.
وخلاصة ذلك: أنه لو لم تكن هذه الجبال التي هي قطعةٌ من قشرة الأرض مرتفعةٌ لما وجد ما يحفظ النيران المشتعله في باطن الأرض من الظهور على سطحها، بالبراكين والزلازل، وإذ ذاك ربما تضطرب الأرض اضطرابًا شديدًا، وتخرج نيرانها الملتهبة من باطنها، وتطغى على سطحها، وتهلك الحرث والنسل.
وهذه هي المعجزة الثالثة في الآية التي ترشد إلى أن القرآن وحي يوحى،
والرابع: ما ذكره بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا﴾؛ أي في الأرض، أو في الرواسي، وعليه اقتصر في الجلالين؛ لأنها المحتاجة إلى الطرق ﴿فِجَاجًا﴾، أي: طرقًا ﴿سُبُلًا﴾؛ أي مسلوكةً؛ لأن السبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك، والفجُّ الشقُّ بين الجبلين. قال أبو عبيدة: الفجاج المسالك.
وقال الزجاج: الفجاج جمع فجّ، وهو كل مخترق بين جبلين، و ﴿سُبُلًا﴾ تفسير للفجاج؛ لأنَّ الفج قد لا يكون طريقًا نافذًا مسلوكًا ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾؛ أي: لكي يهتدوا إلى مصالحهم ومهماتهم التي جعلت لهم في البلاد البعيدة، أو إرادة أن يهتدوا إلى ذلك.
وعبارة النسفي هنا: ﴿فِجَاجًا﴾ أي (١): طرقا واسعة: جمع فج، وهو الطريق الواسع، ونصب على الحال من ﴿سُبُلًا﴾ متقدمة، فإن قلت: أي فرق بين قوله تعالى: ﴿لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠)﴾ وبين هذه الآية؟
قلت: الأول للإعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة. والثاني لبيان أنه حين خلقها، خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثَمَّ، انتهت.
وعبارة البيضاوي: قوله: ﴿فِجَاجًا سُبُلًا﴾؛ أي (٢): مسالك واسعة، وإنما قدّم ﴿فِجَاجًا﴾ وهو وصف له ليصير حالًا، فيدل على أنه حين خلقها خلقها كذلك، أو ليبدل منها سبلًا، فيدل ضمناً على أنه خلقها، ووسعها للسابلة مع ما يكون فيه من التوكيد انتهت.
والمعنى: أي وجعلنا في الأرض طرقًا بين جبالها يسلكها الناس من قطر إلى
(٢) البيضاوي.
٣٢ - والخامس: ما ذكره بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا﴾ سميت سقفًا لأنها للأرض كالسقف ﴿مَحْفُوظًا﴾ من أن يقع ويسقط على الأرض كقوله: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ﴾، وقال الفراء (١): ﴿مَحْفُوظًا﴾ من الشياطين بالشهب كقوله: ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (١٧)﴾، وقيل: محفوظاً لا يحتاج إلى عماد. وقيل: المراد بالمحفوظ هنا المرفوع. وقيل: مَحْفُوظاً من الشرك والمعاصي. وقيل: مَحْفُوظاً عن الهدم والنقض ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: الكفار ﴿عَنْ آيَاتِهَا﴾؛ أي: عن الأدلة الواضحة التي خلقها الله تعالى فيها، وجعلها علاماتٍ نيّرةً على وجوده ووحدته وكمال صنعه، وعظيم قدرته، وباهر حكمته مثل الشمس والقمر والنجوم ﴿مُعْرِضُونَ﴾ غير متفكرين، ولا متدبرين فيها فيؤمنون؛ أي (٢): معرضون عن أحوالها، وكيفية حركاتها في أفلاكها، ومطالعها ومغاربها، والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة، والقدرة الباهرة، لا يتفكرون ولا يعتبرون بها. وقرأ الجمهور (٣): ﴿عَنْ آيَاتِهَا﴾ بالجمع، وقرأ مجاهد وحميد ﴿عَنْ أيَتِهَا﴾ بالإفراد.
والمعنى (٤): أي أنه سبحانه وتعالى نظم السماء، وجعلها كالسقف المحفوظ من الاختلال وعدم النظام، فقد حفظت الشموس والكواكب في مداراتها، بحيث لا يختلط بعضها ببعض، ولا يتخبط بعضها في بعض، بل جعلت في أماكنها الخاصة بها بقوة الجاذبية، فالشمس والقمر والكواكب الأخرى متجاذبات حافظات لمداراتها لا تخرج عنها، وإلَّا اختل نظام هذا العالم، وبهذا الحفظ ونظام الدوران كان الليل والنهار، الحادثين من جري الأرض حول الشمس. ونحو الآية قوله: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
٣٣ - السادس: ما ذكره بقوله: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ وأوجد لكم ﴿اللَّيْلَ﴾ الذي هو (١) ظل الأرض، لتسكنوا فيه ﴿وَالنَّهَارَ﴾ الذي هو ضوء الشمس، لتتصرفو في معايشكم ﴿و﴾ خلق ﴿الشمس﴾ الذي هو كوكب مضيء نهاري، وجعلها آية النهار ﴿وَالْقَمَرَ﴾ الذي هو كوكب مضيء ليلي، وجعله آية الليل؛ أي: خلقهما، لتعلموا عدد السنين والحساب، كما مرّ بيانه في سورة الإسراء؛ أي: فالله سبحانه وتعالى، هو الذي أوجد هذه الأشياء، وأخرجها من العدم إلى الوجود دون غيره، فله القدرة الكاملة، والحكمة الباهرة ﴿كُلٌّ﴾؛ أي: كل واحد من الشمس والقمر والنجوم. والتَّنوين (٢) فيه عوض عن المضاف إليه؛ أي: كلهم، والضمير للشمس والقمر، والمراد بهما: جنس الطوالع. وجمع جمع العقلاء للوصف بفعلهم، وهو السباحة، وحسَّن ذلك. كونه جاء فاصلة رأس آية. وهو مبتدأ، وقوله: ﴿فِي فَلَك﴾ متعلق بـ ﴿يَسْبَحُونَ﴾ الواقع خبرًا عن المبتدأ؛ أي: كل من الشمس والقمر والنجوم يسبحون في ذلك على حدة؛ أي (٣): يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، والفلك مدار النجوم الذي يضمها، وهو في كلام العرب، كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك. وقيل: الفلك طاحونة، كهيئة فلك المغزل، يريد: أن الذي تجري فيه النجوم، مستدير كاستدارة الرحى. وقيل: الفلك: السماء الذي فيه ذلك الكوكب، فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه، قال الراغب: الفلك مجرى الكواكب، وتسميته بذلك، لكونه كالفلك.
والمعنى (٤): أن الكواكب يجرون في سطح الفلك، كالسبح في الماء، فإن السبح المرور السريع في الماء، أو في الهواء، واستعير لمرور النجوم في الفلك، كما في "المفردات" ويفهم منه: أن الكواكب مرتكزة في الأفلاك، ارتكاز فض
(٢) النسفي.
(٣) الخازن.
(٤) روح البيان.
والحق، أنه لا سبيل إلى معرفة صفة السموات؛ إلَّا بإخبار الصادق المصدوق، ولم يرد منه نص في بيان ذلك، والأسلم الإمساك عن البحث فيها، إلّا بما ورد النص فيه، فسبحان الخالق المدبّر لخلقه، بالحكمة البالغة، والقدرة الباهرة، غير المتناهية.
والمعنى (١): أي والله خلق لكم الليل والنهار، نعمة منه عليكم، وحجة على عظيم سلطانه، فهما يختلفان عليكم، لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم، وخلق الأرض والشمس والقمر، تجري في أفلاكها كما يجري السمك في الماء.
وهذا هو الرأي الحديث، وأن هذه كلها تجري في عالم الأثير، المالىء لهذا الفضاء، فالشمس تجري، والأرض تجري، والقمر يجري، وبينها هذه المخلوقات الحية، فما مثل هذه العوالم، إلا كآلة الطباعة، والمخلوقات كلماتها وسطورها، أو كدار صناعة تخرج كل يوم منصوعات جديدة، بعد فناء القديمة وزوالها.
٣٤ - ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ والبقاء والدوام في الدنيا، لكونه مخالفًا للحكمة التكوينية والتشريعية، كما في "أبي السعود"؛ أي (٢): وما جعلنا لفرد من أفراد الإنسان من قبلك، يا محمد، دوام البقاء في الدنيا؛ أي: ليس من سنتنا أن نخلد آدميًا في الدنيا، ان كنا قادرين على تخليده، فلا أحد إلَّا وهو عرضة للموت. قال في "بحر العلوم": المراد بالخلود: المكث الطويل، سواء كان معه دوام أم لا، اهـ. فإذا كان الأمر كذلك ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ في الدنيا بقدرتنا، لا بل أنت وهم ميتون، كما هو من سنتنا، دليله قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ
(٢) روح البيان.
فَقُلْ لِلشَّامِتِيْنَ بِنَا أَفِيقُوْا | سَيَلْقَى الشَّامِتُوْنَ كَمَا لَقِيْنَا |
والمعنى: أي (١) وما كتب لأحد من قبلك البقاء في الدنيا، حتى نبقيك فيها، بل قدّر لك أن تموت، كما مات رسلنا من قبلك، أفهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون بعدك، لا ليس الأمر كذلك، بل هم ميتون، عشت أو مت. أخرج البيهقي وغيره، عن عائشة قالت: دخل أبو بكر على النبي - ﷺ -، وقد مات فقبَّله، وقال: وانبيَّاهُ، واخليلاه، واصفيَّاه، ثم تلا ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ...﴾ الآية.
٣٥ - ثم أكّد ما سلف، وبيّن أن أحدًا لا يبقى في هذه الدنيا، فقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾؛ أي: كل نفس منفوسة من خلقه، ذائقة مرارة الموت ومتجرعة كأسه، وشدة مفارقة الروح للبدن، وقد جاء في الحديث: "إن للموت لسكرات"، فلا يفرحنّ أحد لموت أحد، ولا يظهرن التشفي منه، كما لا ينبغي أن تبدوا عليه علامات الجزع والحسرة لموت أحد.
وهذا برهان على ما أنكر من خلودهم (٢)، والمراد: النفس الناطقة، التي هي الروح الإنساني، وموتها عبارة عن مفارقتها جسدها؛ أي: ذائقة مرارة المفارقة، والذوق هذا لا يمكن إجراؤه على ظاهره؛ لأن الموت ليس من المطعوم حتى يذاق، بل الذوق إدارك خاص، فيجوز جعله مجازًا عن أصل الإدراك، والموت: صفة وجودية خلقت ضدًّا للحياة، أو هو عبارة عن زوال
(٢) روح البيان.
وفي "التعريفات": النفس: هي الجوهر البخاري اللطيف، الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية. وسماه الحكيم: الروح الحيواني، فهي جوهر مشرق للبدن، فعند الميت ينقطع ضوؤه عز ظاهر البدن وباطنه، والنوم والميت أو جنس واحد؛ لأن الميت هو الانقطاع الكلي، والنوم هو الانقطاع الناقص.
والحاصل: أنه إن لم ينقطع ضوء جوهر النفس، عن ظاهر البدن وباطنه.. فهو اليقظة، وان انقطع عن ظاهره دون باطنه.. فهو النوم، أو بالكلية.. فهو الموت.
وهذا (١) العموم مخصوص بقوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ فإن الله سبحانه وتعالى حيّ دائم لا يموت، لا يجوز عليه الموت، كما أشرنا إلى هذا التخصيص أولًا بقولنا: منفوسة من خلقه. والذوق هنا: عبارة عن مقدمات الموت، وآلامه العظيمة قبل حلوله.
﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾؛ أي (٢): ونختبركم أيها الناس، بالمضارّ الدنيوية، أو الفقر والآلام وسائر الشدائد، وبنعم الدنيا، أو الصحة واللذة والسرور والتمكين، من حصول ما تريدون لنرى أتصبرون في المحن، وتشكرون في المنح، فيزداد ثوابكم عند ربكم، إذا قمت بأداء ذلك، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فالمنحة أعظم البلاءين، ومن ثم قال عمر - رضي الله عنه -: بُلينا بالضرّاء فصبرنا، وبلينا بالسرّاء فلم نصبر. وقال علي - كرّم الله وجهه -: مَن وسع عليه دنياه، فلم يعلم أنه قد مكر به.. فهو مخدوع عن عقله. وقوله: ﴿فِتْنَةً﴾ مصدر مؤكد لـ ﴿نَبْلُوكُمْ﴾ أو غير لفظه؛ في: نبلوكم بلاءً واختبارًا.
وخلاصة ذلك: أنَّا نعاملكم معاملة من يختبركم، ونفتنكم كما يفتن الذهب إذا أريد تصفيته بالنار عما يخالطه من الغش، لنرى أتصبرون في الشدائد، وتشكرون بين الرَّخاء ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ لا إلى غيرنا، لا استقلالًا، ولا اشتراكًا؛
(٢) المراغي.
قال بعضهم: فائدة حالة المفارقة رفع الخبائث التي حصلت للروح بصحبة الأجسام، وفائدة حالة الإعادة حصول التنعمات الأخروية، التي أعدت لعباد الله الصالحين، ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تُرْجَعُونَ﴾ بتاء الخطاب مبنيًا للمفعول. وقرأت فرقة: بضم الياء للغيبة. مبنيًا للمفعول، على سبيل الالتفات. وقرأت فرقة، منهم ابن عامر، بالتاء مفتوحة مبنيًا للفاعل.
٣٦ - ﴿وَإِذَا رَآكَ﴾ يا محمد هؤلاء ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأشركوا بالله تعالى، يعني المستهزئين منهم، كأبي جهل وأضرابه أو صناديد قريش ﴿إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا﴾؛ أي: ما يتخذونك إلّا مهزوءًا بك. والهزء مزح في خفية؛ أي: لا يفعلون بك إلّا اتخاذك مهزوءًا بك. والمراد: قصر معاملتهم معه على اتخاذهم إياه هزؤاً، لا قصر اتخاذهم على كونه هزوًا كما هو المتبادر، حالة كونهم يقولون في حال الهزء ﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ بسوء ويسبها. وإنما أطلقه (٣) لدلالة الحال عليه، فإن ذكر العدوّ لا يكون إلّا بسوء؛ أي: يقبل بعضهم لبعض فيما بينهم: أهذا الرجل هو الذي يسبُّ ويعيِّب آلهتكم وأصنامكم؛ أي: يبطل كونها معبودة، ويقبح عبادتها. يقال فلان يذكر الناس؛ أي: يغتابهم ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله؛ أي: يصفه بالتعظيم ويثني عليه. وجملة قوله: ﴿وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ حال (٤) من فاعل ﴿يَتَّخِذُونَكَ﴾، والضمير الأول
(٢) البحر المحيط.
(٣) البيضاوي.
(٤) روح البيان.
ويقولون استنكارًا وتعجبًا: أهذا الذي يسبّ آلهتكم، ويسفّه أحلامكم، وكيف يعجبون من ذلك، وهم كافرون بالله، الذي خلقهم وأنعم عليهم، وبيده نفعهم وضرهم، وإليه مرجعهم.
وخلاصة ذلك: كيف يعجبون من ذكر آلهتهم بالسوء، وهم قد كفروا بربهم الذي برأهم وصوّرهم، فأحسن صورهم، وإليه مرجعهم، فيحاسبهم على النقير والقطمير.
وفي الآية (٢): إشارة إلى أن كل من كان محجوبًا عن الله بالكفر لا ينظر إلى خواص الحق إلّا بعين الإنكار والاستهزاء؛ لأن خواص الحق من الأنبياء والعلماء يقبحون في أعينهم ما اتخذوا لهم آلهةً أو شهوات الدنيا، من جاهها ومالها وغير ذلك مما اتخذوه آلهة، كما قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ وكل محب يغار على محبوبه، ولذا يذكرونهم بعيب ونقصان، والحال أن العيب والنقصان فيهم، لا في أضدادهم، فعلى العاقل أن يصون لسانه عن ذكر العيوب، ويشتغل في جميع الأوقات بذكر علام الغيوب، وأفضل الذكر: "لا إله إلَّا الله"؛ لأنه إعراض عما سوى الله تعالى. وإقبال بالكلية على الله سبحانه. قيل:
(٢) روح البيان.
٣٧ - ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ﴾؛ أي: جنسه ﴿مِنْ عَجَلٍ﴾؛ أي (١): جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من العجل، قال الفرّاء: كأنه يقول: بنيته وخلقته أو العجلة، وعلى العجلة. والعجلة (٢) طلب الشيء وتحرِّيه قبل أوانه، وهو من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومة حتى قيل: العجلة من الشيطان، جعل الإنسان لفرط استعجاله، وقلة صبره، كأنه مخلوق منه، كما يقال: خلق زيد أو الكرم، تنزيلًا لما طبع عليه من الأخلاق منزلة ما طبع منه أو الأركان، إيذانًا بغاية لزومه وعدم انفكاكه عنه، ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد. قال النضر بن الحارث: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم (٣): ﴿خَلَقَ﴾ مبنيًا للفاعل. ﴿الْإِنْسَانَ﴾ بالنصب؛ أي: خلق الله الإنسان.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن المراد بالإنسان آدم، وأنه حين بلغت الروح صدره أراد أن يقوم؛ أي: استعجل بالقيام قبل أن يبلغ الروح أسفله، فسقط فقيل: خلق الإنسان من عجل. والمعنى؛ أي: إنه تعالى فطر هذا النوع على العجلة، وجعلها من سَجِيَّته وجِبِلَّتِه، فليس بعجيب من المشركين أن يستعجلوا عذاب الله، ونزول نقمته بهم، وقد كان من الحق عليهم أن يتريّثوا قليلًا، فإن الله تعالى سينزل بهم من سخطه مثل ما أنزل بالمكذبين قبلهم، ويحل بهم من العذاب ما لا قبل لهم بدفعه، وهذا ما أشار إليه بقوله: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي﴾؛ أي: نقماتي منكم بعذاب النار؛ أي: سأريكم عذابي ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ في طلبه؛ أي: فلا تستعجلوني في الإتيان به، بطريق إيذاء نبي، والاستهزاء به،
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
٣٨ - ثم حكى عنهم ما يستعجلون فقال: ﴿وَيَقُولُونَ﴾ بطريق الاستعجال والاستهزاء ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾؛ أي: وعد العذاب والساعة فليأتنا بسرعة ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في وعدكم بأنه يأتينا، والخطاب للنبي - ﷺ - والمؤمنين الذين يتلون الآيات المنبئة عن مجيء الوعد.
أي: ويقولون للنبي - ﷺ - ولمن معه من المؤمنين، الذين يتلون الآيات المنبئة بقرب الساعة، ونزول العذاب بمن كفر بها استهزاءً: متى يجيئنا هذا العذاب الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين في وعدكم. وهذا استبطاء منهم للموعود به، يراد به إنكار وقوعه، وأنه لن يكون ألبتة، وفي ذمِّ العجل قيل:
لاَ تَعْجَلَنَّ لأمْرٍ أَنْتَ طَالِبُهُ | فَقَلَّمَا يُدْرِكُ الْمَطْلُوْبَ ذُوْ الْعَجَلِ |
فَذُوْ التَّأَنِّي مُصِيِبٌ فِي مَقَاصِدِهِ | وَذُوْ التَّعَجُّلِ لاَ يَخْلُوْ عَنِ الزَّلَلِ |
(٢) الخازن.
والخلاصة: أي (٢) لو يعلم هؤلاء الكفار المستعجلون، ماذا أعدّ لهم ربهم من البلاء، حين تلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون، فلا يستطيعون ردّها عن تلك الوجوه، ولا يدفعونها بأنفسهم عن الظهور، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم وينقذهم من ذلك العذاب، لما أقاموا على كفرهم بربهم، ولسارعوا إلى التوبة منه، ولما استعجلوا لأنفسهم هذا النكال والوبال.
٤٠ - ولمّا بيّن شدة العذاب في ذلك اليوم، بيّن أن ثقته لا يكون معلومًا فقال: ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً﴾ وهذا الكلام إضراب (٣) انتقالي، حكى الله عنهم أنهم يستعجلون العذاب الموعود بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾، وبين أن سبب ذلك الاستعجال هو عدم علمهم بهول وقت وقوعه، وما فيه من العذاب الشديد، ثم أضرب وانتقل من بيان السبب إلى بيان كيفية وقوع الموعود، فقال: ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً﴾؛ أي: بل تأتيهم العدة، أو النار، أو الساعة بغتة؛ أي؛ فجأة. والبغتة مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب. وهو مصدر؛ لأن البغتة نوع من الإتيان، أو حال؛ أي: باغتة ﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾؛ أي: تحيّرهم. والبهت الحيرة والدهشة. وقال الجوهري: بهته بهتًا أخذه بغتةً؛ أي: فتفجؤهم. قال الإمام: وإنما لم يُعلم الله وقت الموت والساعة؛ لأن المرء مع الكتمان أشدُّ حذرًا
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
وفيه إشارة إلى أنه لو علم أهل الإنكار (٢) قبل أو يكافئهم الله تعالى على إنكارهم، نار القطيعة والحسرة والبعد والطرد، لما أقاموا على إنكارهم، ولتابوا ورجعوا إلى طلب الحق، وعلم منه أن أعظم المقاصد هو طلب الحق والوصول إليه.
والمعنى: أي (٣) بل تأتيهم الساعة وهم لأمرها غير مستعدين، فتدعهم حائرين، لا يستطيعون حيلة في ردّها، ولا منصرفًا عما يأتيهم منها، ولا هم يمهلون لتوبة، ولا لتقديم معذرة، فقد فات ما فات، وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون.
وقرأ الأعمش (٤): ﴿بل يأتيهم﴾ بالياء ﴿بَغْتَةً﴾ بفتح الغين ﴿فيبهتهم﴾ بالياء، والضمير عائد إلى الوعد، أو الحين، قاله الزمخشري. وقال أبو الفضل الرازي: لعله جعل النار بمعنى العذاب فذكَّر، ثم ردَّ ردّها إلى ظاهر اللفظ.
٤١ - ولما (٥) كان استعجالهم ذلك بطريق الاستهزاء، وكان عليه الصلاة والسلام يتأذى من ذلك نزل قوله: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فالجملة مسوقة لتسلية رسول الله - ﷺ -، وتعزيته، كأنه قال: إن استهزأ بك هؤلاء، فقد فعل ذلك بمن قبلك من الرسل، على كثرة عددهم وخطر شأنهم؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد استهزيء برسل أولي شأن خطير، وذوي عدد كثير، كائنين في زمان قبل زمانك،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
(٥) زاده.
والمعنى (١): أي والله لقد استهزىء برسل من رسلنا، الذين أرسلناهم قبلك إلى أممهم، فنزل بالذين استهزؤوا بهم، العذاب والبلاء، الذي كانت الرسل تخوِّفهم نزوله، ولن يعدوا أن يكون أمر هؤلاء المشركين كأمر أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها، فينزل بهم من عذاب الله وسخطه باستهزائهم، مثل ما نزل بمن قبلهم، فانتظر لهم عاقبةً وخيمةٌ كعاقبة أولئك، وسيكون لك النصر عليهم، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾.
٤٢ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المستهزئين على سبيل التقريع والتبكيت ﴿مَنْ﴾ للاستفهام التقريعي، المضمّن للإنكار ﴿يَكْلَؤُكُمْ﴾؛ أي: يحفظكم ويحرسكم. الكلاء الكلاءة، بكسر أولهما حفظ الشيء وتبقيته. والكالىء الذي يحفظ. وقرأ أبي جعفر والزهري وشيبة (٢): ﴿يَكْلُوكم﴾ بضمة خفيفة من غير همز. وحكى الكسائي والفرّاء ﴿يَكْلَوكم﴾ بفتح اللام وإسكان الواو.
﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾؛ أي: فيهما ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾؛ أي: من بأسه الذي يستحقون نزوله ليلًا أو نهارًا من أراد بكم؛ أي: لا يمنعكم من عذابه إلَّا هو. وفي (٣) ذكر ﴿الرَّحْمَنِ﴾ تنبيه على أنه لا كالىء غير رحمته العامة، وأنّ اندفاعه بمهلته وتقديم
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
والخلاصة: من يحفظكم بالليل إذا نمتم، وبالنهار إذا تصرّفتم في أمور معايشكم، من عذاب الرحمن إن نزل بكم، ومن بأسه إذا حل بساحتكم.
﴿بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: عن القرآن ومواعظه ﴿مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: لا يتأملون في شيء منها؛ أي: لا يخطرون ذكره تعالى ببالهم، فضلًا عن أن يخافوا الله، ويعدّوا ما كانوا عليه من الأمن والدعة، حفظًا وكلاءةً، حتى يسألوا عن الكالىء؛ أي: دعهم عن هذا السؤال؛ لأنهم لا يصلحون له لإعراضهم عز ذكر الله تعالى.
والمعنى: أي إن هؤلاء القوم قد ألهتهم النعم عز المنعم، فلا يذكرون الله تعالى حتى يخافوا بأسه، فهم مع وجود الدلائل العقلية، والنقلية، الدالة على أنه تعالى هو الكالىء الحافظ، معرضون عنها، لا يتأملون فيها. وفي ذكر (١) "الرب" إيماء إلى أنهم خاضعون لسلطانه، وأنهم في ملكوته وتدبيره وجميل رعايته وتربيته، وهم على ذلك معرضون، فهم في الغاية القصوى من الضلال، وفي النهاية الكبرى من الجهل والغباء.
والحاصل: أن الله سبحانه، لمّا بيّن (٢) أنهم سيصيبهم لا محالة مثل ما أصاب الأولين، بيّن أن عدم إصابة ذلك لهم عاجلًا إنما هو بحفظه، حيث أمهلهم مدة بمقتضى رحمته العامة، فأمره - ﷺ - بأن يسألهم عن الكالىء ليقروا وينتبهوا، لكونهم في قبضة قدرته، ليكفوا عن الاستهزاء، ثم أضرب عن ذلك الأمر بقوله: ﴿بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: دعهم يا محمد عن هذا السؤال؛ لأنهم لا يصلحون له لإعراضهم عن ذكر الله، فلا يخطرونه ببالهم حتى يخوّفوا بالله، ثم إذا رزقوا الكلأة من عذابه عرفوا أن الحافظ هو الله،
(٢) زاده على البيضاوي.
٤٣ - ثم أضرب إلى ما هو أهمّ، وهو الإنكار عليهم فيما زعموا أن لهم آلهة تنصرهم وتمنعهم من العذاب، فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا﴾ و ﴿أَمْ﴾ فيه منقطعة، بمعنى همزة الإنكار، و ﴿بَلْ﴾ التي للإضراب، والانتقال من الكلام السابق، المشتمل على بيان جهلهم بحفظه سبحانه إياهم، إلى توبيخهم وتقريعهم باعتمادهم على من هو عاجز عن نفع نفسه، والدفع عنها؛ أي: بل ألهؤلاء المستعجلي عذابنا آلهة تمنعهم منا من نحو أنزلناه بهم، وتدفع عنهم بأسنا، إن حلّ بساحتهم. وقيل (١): فيه تقديم وتأخير، والتقدير: أم لهم آلهة من دوننا، تمنعهم أو عذابنا، ومجمل ذلك أن آلهتهم لا تمنعهم بأسنا من أردنا؛ أي: ليس لهم.
ثم وصف تلك الآلهة التي اتخذوها بالضعف فقال: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ﴾ استئناف مقرر لما قبله أو الإنكار، وموضح لبطلان اعتقادهم؛ أي: أن آلهتهم لا يقدرون أن ينصروا أنفسهم، وحمايتها أو الآفات، فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم ممن عبدهم ﴿وَلَا هُمْ﴾؛ أي: ولا آلهتهم ﴿مِنَّا﴾؛ أي: من عذابنا ﴿يُصْحَبُونَ﴾؛ أي: يمنعون، فكيف يمنعون غيرهم من العذاب. أو المعنى ولا يصحبون بالنصر من جهتنا (٢). قال الراغب: لا يكون لهم من جهتنا ما يصحبهم، أو سكينة وروح وترفق وغير ذلك، مما يصحب أولياءنا، فكيف يتوهم أو ينصروا غيرهم.
والخلاصة: أنهم في غاية العجز، فكيف يتوهم فيهم ما يتوهمون أو القدرة والسلطان، ويدينون لهم بالخضوع والعبادة،
٤٤ - ثم بيّن سبحانه تفضله عليهم، مع سوء ما أتوا به من الأعمال، فقال: ﴿بَلْ مَتَّعْنَا﴾ وأنعمنا ﴿هَؤُلَاءِ﴾ المشركين في الدنيا ﴿وَآبَاءَهُمْ﴾ الكفار أو قبلهم وأمهلناهم ﴿حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾؛ أي: طال عليهم الرجل، وامتدّ بهم الزمان في التمتع، فاغترّوا وحسبوا أنهم ما زالوا على ذلك لا يغلبون. والعمر (٣): بضم الميم وسكونها، اسم لمدة عمارة البدن
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أن الذي غرّهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال، أنهم متِّعوا في الحياة الدنيا، ونعموا بها، وطال عليهم العمر، حتى اعتقدوا أنهم على شيء، وقصارى ذلك: أنهم طالت أعمارهم وهم في الغفلة، فنسوا عهدنا، وجهلوا مواقع نعمتنا فاغتروا بذلك، ولم يعرفوا مواضع الشكر.
ثم بيّن لهم سوء مغبّتهم فقال: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ﴾ الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا ينظر ولا يتدبر هؤلاء المشركون بالله، المستعجلون بالعذاب فلا يرون ﴿أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ﴾؛ أي: نأخذ أرض الكفرة، التي هي دار الحرب حالة كوننا ﴿نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ ونواحيها؛ أي: ننقصها من أرض الكفرة واحدة بعد واحدة، وبلدة بعد بلدة، بتسليط المؤمنين عليها من أطرافها، ونفتح البلاد والقرى مما حول مكة لمحمد - ﷺ -، وأصحابه، ونميت رؤساء المشركين المتمتعين بالدنيا، وننقص من الشرك بإهلاك أهله، فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا، والهمزة في قوله: ﴿أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد نقصان أرضهم من أطرافها هم طامعون في النجاة من بأسنا، فهم الغالبون على محمد وأصحابه؛ أي: لا يطمعوا في ذلك فهم المغلوبون، والله ورسوله والمؤمنون هم الغالبون.
وهذا تمثيل وتصوير لما يخرّبه الله أو ديارهم على أيدي المسلمين، ويضيفه إلى دار الإسلام، وذلك أن الله لا يأتي، بل العساكر تغزو أرض الكفرة، وتأتي غالبة عليها ناقصة أو نواحيها. والمعنى؛ أي: أفلا يرى هؤلاء المشركون
والخلاصة: ألا يعتبرون ويحذروا أن ينزل بهم بأسنا، كما أنزلناه بسواهم، ثم وبّخهم، وأنّبهم على غفلتهم عن الحق بعد وضوحه فقال: ﴿أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾؛ أي: أفهم الغالبون أم نحن؛ أي: فبعد ظهور ما ذكر، ورؤيتهم إياه يتوهمون غلبتهم.
٤٥ - وبعد أن بيّن هول ما يستعجلون، وحالهم السيئة حين نزوله بهم، ثم نعى عليهم جهلهم، وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم أو طوارق الليل وحوادث النهار، أمر رسوله أن يقول لهم: إن ما أخبركم به جاء به الوحي الصادق، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المستعجلين عذابنا ﴿إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ﴾ وأخوفكم وأحذركم ما تستعجلونه من الساعة وشديد أهوالها ﴿بِالْوَحْيِ﴾ الصادق والقرآن الناطق بحصوله، وفظاعة أهواله، وقد أمرني ربي بذلك، وها أنا ذا قد قمت بما أمرني به، فإن لم تجيبوا داعي الله، وتقبلوا ما دعوتكم إليه فعليكم النكال والوبال، لا عليّ.
ثم أردف هذا ببيان أن الإنذار مع مثل هؤلاء لا يجدي فتيلاً، فما حالهم إلّا حال الصمّ الذين لا يسمعون دعوة الداعي، فقال: ﴿وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ﴾ جمع الأصمّ. والصمم فقدان حاسة السمع ﴿الدُّعَاءَ﴾ إلى الإيمان ﴿إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾؛ أي: يخوفون من عذاب الله سبحانه.
والمعنى: أن من أصمّ الله سمعه، وختم على قلبه، وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء. شبّهوا بالصُمِّ (١)، وهم صحاح الحواس؛ لأنهم إذا سمعوا ما ينذرون به من آيات الله، لا تعيه آذانهم، وكان سماعهم كلا سماع، فكانت حالهم
والمعنى (١): أي فما مثلهم إذ لم ينتفعوا بما سمعوا أو الإنذار، على كثرته وتتابعه، إلَّا مثل الصم، الذين لا يسمعون شيئًا، إذ ليس الغرض من الإنذار السماع فحسب، بل العمل بما يسمع بالإقدام على فعل الواجب، والتحرّز من المحرم ومعرفة الحق، فإذا لم يحصل شيء من هذا، فلا جدوى في السمع، وكأن لم يكن.
والخلاصة: أن الكافر بالله لا يوجِّه همَّه إلى العظة بما في كتابه، من المواعظ، حتى يقلع عما هو عليه مقيمٌ من الضلال، بل يعرض عن التفكر فيها فعل الأصم، الذي لا يسمع ما يقال له حتى يعمل به.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يَسْمَعُ﴾ بفتح الياء والميم، الصُمُّ رفع به، والدعاء نصب. وقرأ ابن عامر وأحمد بن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص بالتاء أو فوق مضمومة، وكسر الميم، ﴿الصُّمُّ الدُّعَاءَ﴾ بنصبهما، والفاعل ضمير المخاطب، وهو الرسول - ﷺ -. وكذا قرأه أبو حيوة ويحيى بن الحارث. وقرأ ابن يعمر والحسن كذلك إلّا أنه بالياء أو تحت؛ أي: ولا يسمع الرسول، وعنهما أيضًا. ولا يسمع مبنيًا للمفعول. الصم رفع به، ذكره ابن خالويه، وكذا قرأه أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن السميقع. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عز أبي عمرو ﴿يُسْمِع﴾ بضم الياء وكسر الميم، ﴿الصمَّ﴾ نصبًا،
(٢) البحر المحيط.
٤٦ - ثُمَّ بيَّن سرعة تأثرهم من العذاب حين مجيئه، إثر بيان عدم تأثرهم به حين مجيء خبره فقال: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن أصابتهم ﴿نَفْحَةٌ﴾؛ أي: قطع ودفعة، أو فوحة وشمةٌ، أو شيء قليل ﴿مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ﴾ من غاية الاضطراب وشدة الحيرة ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ ويا هلاكنا احضر إلينا، فهذا أوانك ﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أنفسنا، بكفرنا بالله تعالى وتكذيبنا رسوله - ﷺ -؛ أي: ليدعون على أنفسهم بالويل والهلاك، ويعترفون عليها بالظلم حين تصامّوا وأعرضوا عن الحق.
والمعنى: أي (١) ولئن أصاب هؤلاء المستعجلين للعذاب، أدنى قسط من عقاب ربك بكفرهم به، وتكذيبهم برسوله.. ليقولون إنا كنا ظالمين لأنفسنا، بعبادتنا الآلهة والأنداد، وتركنا عبادة الذي برأنا وأنعم علينا، وجحودنا لما يجب علينا من الشكر له، بالإخلاص في عبادته.
والخلاصة: أنهم يوم القيامة، حين يمسَّهم العذاب، يدعون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويقولون: هلاكًا لنا، إنا ظلمنا أنفسنا بكفرنا بمن خلقنا، وخضوعنا لمن لا يضرُّ ولا ينفع، ويندمون على ما فُرّط منهم، ولات ساعة مندم.
٤٧ - ثم بيَّن الأحداث، التي ستقع حين يأتي ما أنذروا به، فقال: ونضع الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال، ونحضرها لأجل جزاء يوم القيمة، فاللام للتعليل. وقيل: بمعنى في؛ أي: في يوم القيامة، أو توزن الأعمال باعتبار التجوهر والتجسم. وهذا قتل أئمة السلف. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: المراد أو الوزن العدل بينهم، فلا يظلم عباده مثقال ذرة فمن أحاطت حسناته بسيئاته، ثقلت موازينه؛ أي: ذهبت حسناته بسيئاته، ومن أحاطت سيئاته
والموازين (١): جمع ميزان، قال الراغب: والوزن معرفة قدر الشيء، وجمع الموازين باعتبار تعدد الأعمال، أو لأن لكل شخص ميزانًا. وأفرد القسط؛ لأنه مصدر وصف به مبالغة كرجل عدل. قال الإمام (٢): وصف الموازين بالقسط؛ لأنها قد لا تكون مستقيمة. وقال الراغب: وذكر الموازين في بعض المواضع بلفظ الواحد، اعتبارًا بالمحاسبة، وفي بعضها بلفظ الجمع اعتبارًا بالمحاسبين، انتهى. وفي "الفتوحات": وصف الموازين بذلك؛ لأن الميزان قد يكون مستقيمًا، وقد يكون غير مستقيم، فبيَّن الله تعالى أن تلك الموازبن تجري على حد العدل، ومعنى وضعها: إحضارها اهـ "خازن" ﴿فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ من النفوس عاصيةً كانت أو مطيعةً ﴿شَيْئًا﴾ من الظلم، بل يوفى كل ذي حق حقه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، على أن يكون مفعولا مطلقًا، فلا ينقص ثوابها الذي تستحقه، ولا يزاد عذابها الذي كان لها، على قدر ما دست به نفسها من سيء الأعمال، أو لا تنقص حقًا من حقوقها على أن يكون مفعولًا ثانيًا لـ ﴿تظلم﴾، لأنه بمعنى تنقص، وتنقص يتعدى إلى مفعولين، يقال: نقصه حقه.
﴿وَإِنْ كَانَ﴾؛ أي: العمل المدلول عليه بوضع الموازين ﴿مِثْقَالَ حَبَّةٍ﴾؛ أي: وزن حبة كائنة ﴿مِنْ خَرْدَلٍ﴾ والمثقال ما يوزن به من الثقل؛ أي: مقدار حبة كائنة من خردل؛ أي: وإن كان في غاية القلة والحقارة، فإن حبة الخردل مثل في الصغر، والخردل حبُّ شجرٍ مسخن ملطف، جاذب قالع للبلغم، ملين هاضم، نافع طلاؤه للنقرس والنسا والبرص، ودخانه يطرد الحيات، وماؤه يسكن وجع الأسنان تقطيرًا، ومسحوقه على الضرس الوجع غاية "قاموس" ﴿أَتَيْنَا﴾ بقصر الهمزة أو الإتيان، والباء في قوله ﴿بِهَا﴾ للتعدية؛ أي: أحضرنا ذلك العمل المعبَّر عنه بمثقال حبة الخردل للوزن، والتأنيث لإضافته إلى الحبّة.
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مِثْقَالَ﴾ بالنصب، خبر ﴿كَانَ﴾. وقرأ زيد بن علي وأبو جعفر وشيبة ونافع: ﴿مثقالُ﴾ بالرفع إلى الفاعلية، و ﴿كَانَ﴾ تامة. وقرأ الجمهور: ﴿أَتَيْنَا﴾ بالقصر، من الإتيان؛ أي: جئنا بها. وقرأ أبي ﴿جِئْنا﴾ كأنه تفسيرٌ لـ ﴿أَتَيْنَا﴾. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سَيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني ﴿آتينا﴾ بمدة على وزن "فاعلنا" من المواتاة، وهي المجازاة والمكافأة، فمعناه: جازينا بها، ولذلك تعدى بحرف الجر، ولو كان على (أَفْعلنا) من الإيتاء بالمد، على ما توهمه بعضهم لتعدَّى مطلقًا دون جار، قاله أبو الفضل الرازي.
٤٨ - ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)﴾؛ أي: وعزتي جلالي لقد أعطينا موسى وأخاه هارون الفرقان؛ أي: كتابًا (٣) جامعا بين كونه
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
والخلاصة (١): لقد آتيناهما كتابًا جامعًا لأوصافٍ كلها مدحٌ وفخار،
٤٩ - ثم ذكر أوصاف المتقين، فقال:
١ - ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ مجرور المحل، على أنه صفة مادحة للمتقين؛ أي: الذين يخافون عذابه، وهو غائب عنهم، غير مرئي لهم ومشاهد، فيعملون له تعالى. ففيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهدوا ما أنذروه من العذاب، فقوله: ﴿بِالْغَيْبِ﴾ إما حال من المفعول؛ أي: حالة كونه غائبًا عنهم، أو من الفاعل؛ أي: يخشون عذاب ربهم، حال كونهم في الخلوات منفردين عن الناس، فخشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم، لا أنَّ ذلك مما يظهرونه في الملأ.
٢ - ﴿وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ﴾؛ أي: من عذاب يوم القيامة، وسائر أحوالها، من الحساب والميزان ﴿مُشْفِقُونَ﴾؛ أي: خائفون وجلون، فيعدلون بسبب ذلك الخوف عن معصية الله تعالى. والساعة (٢): اسم لوقتٍ تقوم فيه القيامة، سمّي بها لأنها ساعة خفية، يحدث فيها أمر عظيم، وسُمّيت الساعة ساعة، لسعيها إلى جانب الوقوع ومسافته الأنفاس، وقال الراغب: الساعة جزء من أجزاء الزمان، ويعبَّر بها عن القيامة، وسُمّيت القيامة بذلك لسرعة حسابها، وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق، للإيذان بكونها معظم المخوفات، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾، وقوله: ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾.
(٢) روح البيان.
أي (٢): فبعد أن استبان لكم جليل خطره، وعظيم أمره تنكرون وتقولون: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾.
وقد يكون المعنى: كيف تنكرون كونه منزلًا من عند الله تعالى، وأنتم من أهل اللسان، تدركون مزايا الكلام ولطائفه، وتفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيركم، وفيه شرفكم وصيتكم.
وخلاصة ذلك: أفبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة، تنكرون أنه منزل من عند الله، فهذا ما لا يستسيغه عقل راجح، ولا فكر رصين، فمثل هذا في غاية الوضوح والجلاء.
الإعراب
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ
(٢) المراغي.
﴿أَوَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿لم﴾ حرف نفي وجزم. ﴿يَرَ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: ألم يتفكر الذين كفروا، ولم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقًا. والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ﴾: ناصب واسمه. ﴿وَالْأَرْضَ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿كَانَتَا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿رَتْقًا﴾ خبره، وجملة ﴿كَانَتَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي ير. ﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿كَانَتَا﴾. ﴿وَجَعَلْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنَّ﴾. ﴿مِنَ الْمَاءِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿جعلنا﴾ إن كان ﴿جعل﴾ بمعنى خلق أو حال من ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾: مفعول به لـ ﴿جعل﴾ ويحتمل كونه بمعنى: صيّر، فيكون ﴿مِنَ الْمَاءِ﴾: في محل المفعول الثاني، و ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ مفعول أول. ﴿حَيٍّ﴾ صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾. ﴿أَفَلَا﴾: المرة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف (لا) نافية: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا يتدبرون هذه الأدلة، فلا يؤمنون بتوحيدي، والجملة المحذوفة، جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١)﴾.
﴿وَجَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ إما مفعول ثان. ﴿رَوَاسِيَ﴾ هو المفعول الأول، وإما متعلق بـ ﴿جعلنا﴾، أو بمحذوف حال، و ﴿رَوَاسِيَ﴾ مفعول به. ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿تَمِيدَ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْأَرْضِ﴾. ﴿بِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَمِيدَ﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل
﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)﴾.
﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان. ﴿مَحْفُوظًا﴾ صفة ﴿سَقْفًا﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿جعلنا﴾ الأول. ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ. ﴿عَنْ آيَاتِهَا﴾ متعلق بـ ﴿مُعْرِضُونَ﴾، و ﴿مُعْرِضُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ﴿السَّمَاءَ﴾، ولكنها حالة سببية، والرابط ضمير ﴿آيَاتِهَا﴾، أو الجملة مستأنفة. ﴿وَهُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿خَلَقَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿اللَّيْلَ﴾ مفعول به. ﴿وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾: معطوفات على الليل. ﴿كُلٌّ﴾ مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة لما فيه من معنى العموم. ﴿فِي فَلَكٍ﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿يَسْبَحُونَ﴾، وجملة ﴿يَسْبَحُونَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من الشمس والقمر والنجوم، المقدّرة لدلالة السياق عليها، وإنما جعل الضمير واو العقلاء لوصفه إياها بفعل العقلاء، الذي هو السباحة، وتقدم نظيره في قوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾.
فائدة: ذهب سيبويه والجمهور، إلى القول (١): بأن لفظي كل وبعض،
والجواب: أن الضمير عائد عليهما مع الليل والنهار، وذلك لأن الليل والنهار يسبحان أيضًا؛ لأن الليل ظل الأرض، وهو يدور على محيط كرة الأرض، على حسب دوران الأرض، وكذلك النهار يدور أيضًا؛ لأنه يخلف الليل في المحيط.
﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٣٥)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية. ﴿جَعَلْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿لِبَشَرٍ﴾ جار ومجرور في محل نصب، مفعول ثان. و ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ صفة ﴿لِبَشَرٍ﴾ ﴿الْخُلْدَ﴾: مفعول ﴿جَعَلْنَا﴾ الأول، والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتقرير عدم خلود البشر. ﴿أَفَإِنْ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿مِتَّ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها. ﴿فَهُمُ﴾ (الفاء): رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿هم الخالدون﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وهي على نية التقديم؛ لأن أصل الكلام: أفهم الخالدون إن متّ، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على الجملة المحذوفة، والتقدير: أيبقى هؤلاء المشركون حتى يشمتوا بموته، فإن مت يا محمد، فهم الخالدون في الدنيا بعدك، كما مر في مبحث التفسير، والجملة المحذوفة، جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {كُلُّ
﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿رَآكَ﴾ فعل ومفعول به لأن رأى بصرية. ﴿الَّذِينَ﴾ فاعل، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿رَآكَ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿إن﴾: نافية. ﴿يَتَّخِذُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، مرفوع بالنون. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿هُزُوًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿اتخذ﴾، والجملة الفعلية جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة.
فائدة في جواب إذا: تخالف إذا أدوات الشرط جميعًا، فإن أدوات الشرط، متى أجيبت بأن النافية، أو بما النافية.. وجب الإتيان بالفاء، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى أيضًا: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾، انتهت.
﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧)﴾.
﴿أَهَذَا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام السخري التعجبي. ﴿هذا﴾ مبتدأ
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨)﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿يقولون﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة، لإيراد نمط من استعجالهم المذموم. ﴿مَتَى﴾ اسم استفهام، للاستفهام الاستخباري، في محل النصب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف خبر مقدم. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿الْوَعْدُ﴾ بدل منه، والتقدير: هذا الوعد كائن متى، أو بفعل محذوف يقع خبر المبتدأ، تقديره: هذا الوعد متى يجيء، أو في محل الرفع خبر مقدم، وهذا هو المشهور، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ليقولون. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بأن الشرطية. ﴿صَادِقِينَ﴾ خبره. وجواب إن الشرطية معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فمتى هو، وجملة إن الشرطية في محل النصب
﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)﴾.
﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿يَعْلَمُ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. وعلم هنا بمعنى: عرف، يتعدى لمفعول واحد، تقديره: لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود، الذي سألوا عنه واستبطأوه ﴿حِينَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بالمفعول المحذوف، الذي هو مجيء، أو مفعول به لـ ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَكُفُّونَ﴾ فعل وفاعل: ﴿عَنْ وُجُوهِهِمُ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَكُفُّونَ﴾. ﴿النَّارَ﴾ مفعول به. ﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة، ﴿لَا﴾ زائدة، زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. ﴿عَنْ ظُهُورِهِمْ﴾: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿عَنْ وُجُوهِهِمُ﴾. ﴿وَلَا﴾ الواو: عاطفة. (لا) نافية ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يُنْصَرُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل الجر، معطوفة على جملة ﴿لَا يَكُفُّونَ﴾ على كونها مضافًا إليه لـ ﴿حِينَ﴾، وجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية محذوف، تقديره: لو يعلم الذين كفروا مجيء العذاب الموعود لهم، حين لا يقدرون على كف النار ودفعها عن وجوههم، ولا عن ظهورهم، ولا يقدرون على نصر أنفسهم لمَّا استمروا على الكفر، واستعجلوا بالعذاب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب وابتداء، ﴿تَأْتِيهِمْ﴾ فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على النار والجملة مستأنفة. ﴿بَغْتَةً﴾ حال من فاعل تأتيهم، ولكنه بتأويله بمتشق، أي: حالة كونها باغتة فاجئة، أو مفعول مطلق؛ لأن البغتة نوع من الإتيان. ﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ الفاء: عاطفة ﴿تبهتهم﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على النار، والجملة معطوفة على جملة تأتيهم. ﴿فَلَا﴾ الفاء عاطفة. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يَسْتَطِيعُونَ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿تبهتهم﴾. ﴿رَدَّهَا﴾ مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَلَا﴾ الواو: عاطفة. ﴿لا﴾ نافية. ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يُنْظَرُونَ﴾ خبره، والجملة
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤١)﴾.
﴿وَلَقَدِ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، و (اللام) موطئة للقسم و (قد): حرف تحقيق. ﴿اسْتُهْزِئَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿بِرُسُلٍ﴾ جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿اسْتُهْزِئَ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿فَحَاقَ﴾ الفاء: عاطفة. (حاق) فعل ماض. ﴿بِالَّذِينَ﴾ متعلق به. ﴿سَخِرُوا﴾ فعل وفعل صلة الموصول. ﴿مِنْهُمْ﴾ حال من فاعل ﴿سَخِرُوا﴾، أو متعلق به. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل حاق. ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وجملة ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾ خبر كانوا، وجملة ﴿كَانُوا﴾ صلة الموصول، وجملة (حاق) معطوفة على جملة ﴿اسْتُهْزِئَ﴾ على كونها جواب القسم.
﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿يَكْلَؤُكُمْ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول قل. ﴿بِاللَّيْلِ﴾ متعلق بـ ﴿يَكْلَؤُكُمْ﴾. ﴿وَالنَّهَارِ﴾ معطوف على الليل. ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ متعلق بـ ﴿يَكْلَؤُكُمْ﴾ أيضًا. ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب وابتداء. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مُعْرِضُونَ﴾. ﴿مُعْرِضُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، مسوقة للإضراب عما تضمنه الكلام من النفي، والتقدير: ليس لهم كالىء، ولا مانع غير الرحمن، مع أنهم لا يخطرونه في بالهم، فضلًا عن أن يخافوا بأسه وعذابه. ﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، والتقدير: بل ألهم آلهة. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿آلِهَةٌ﴾
﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
﴿بَلْ﴾: حرف إضراب وابتداء. ﴿مَتَّعْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿هَؤُلَاءِ﴾ في محل النصب مفعول به. ﴿وَآبَاءَهُمْ﴾: معطوف على ﴿هَؤُلَاءِ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية. ﴿طَالَ﴾: فعل ماض في محل النصب بأن مضمرة. ﴿عَلَيْهِمُ﴾ متعلق به. ﴿الْعُمُرُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية، في تأويل مصدر، مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى تقديره: إلى طول العمر. ﴿عَلَيْهِمُ﴾ الجار والمجرور، متعلق بمحذوف، تقديره: بل متعنا هؤلاء وآبائهم، وأمهلناهم إلى طول العمر بهم. ﴿أَفَلَا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿لا﴾ نافية. ﴿يَرَوْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: ألا يتدبر هؤلاء المشركون، المستعجلون بالعذاب فلا يرون. والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿أَنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿نَأْتِي الْأَرْضَ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر أن، وجملة ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر، سادّ مسدّ مفعولي ﴿يَرَوْنَ﴾؛ لأن الرؤية هنا علمية، ويجوز أن تكون بصرية. ﴿نَنْقُصُهَا﴾ فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله تقديره: نحن. ﴿مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ متعلق بـ ﴿ننقص﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿نَأْتِي﴾، أو من مفعوله؛ أي: نفتحها أرضًا بعد أرض، بما ينقص من أطراف المشركين، ويزيد في أطراف المؤمنين.
﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٤٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر. ﴿أُنْذِرُكُمْ﴾ فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿بِالْوَحْيِ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة. (لا) نافية. ﴿يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرّد عن معنى الشرط ﴿مَا﴾ زائدة ﴿يُنْذَرُونَ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾، والظرف متعلق بـ ﴿يَسْمَعُ﴾. ﴿وَلَئِنْ﴾ الواو: استئنافية، واللام موطئة للقسم. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿مَسَّتْهُمْ﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿نَفْحَةٌ﴾: فاعل. ﴿مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿نَفْحَةٌ﴾، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف لدلالة جواب القسم عليه، والتقدير: وإن مستهم نفحة من عذاب ربك، يقولون: يا ويلنا إلخ، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة بين القسم وجوابه. ﴿لَيَقُولُنَّ﴾: اللام، موطئة للقسم، مؤكدة للأولى. ﴿يقولن﴾ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة، لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، فاعل، والنون للتوكيد والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿ويلنا﴾ منادي مضاف. نادى الويل ليحضر فيتعجب منه؛ لأن الوقت أوانه. ويحتمل أن تكون الياء للتنبيه. ﴿ويلنا﴾: منصوب بفعل محذوف وجوبًا تقديره: ألزمنا الله ويلنا، وجملة النداء، أو الفعل المحذوف، في محل النصب مقول القول. والويل الهلاك، أو كلمة تقال لمن وقع في هلكة.
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)﴾.
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿نَضَعُ الْمَوَازِينَ﴾ فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿الْقِسْطَ﴾ صفة لـ ﴿الْمَوَازِينَ﴾، وقد وصفت بنفس المصدر مبالغة. ﴿لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نضع﴾، واللام فيه بمعنى في ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتقريع. ﴿لا﴾ نافية. ﴿تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾: فعل مغير ونائب فاعل. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول مطلق، أو مفعول به ثان لـ ﴿تُظْلَمُ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿نضع﴾ ﴿وَإِنْ﴾ الواو استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير مستتر تقديره: هو يعود على العمل. ﴿مِثْقَالَ حَبَّةٍ﴾ خبر ﴿كَانَ﴾ ومضاف إليه. ﴿مِنْ خَرْدَلٍ﴾ صفة لـ ﴿حَبَّةٍ﴾. ﴿أَتَيْنَا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جواب شرط لها. ﴿بِهَا﴾ متعلق بـ ﴿أَتَيْنَا﴾. وأنث ضمير المثقال؛ لأنه أضيف إلى الحبة، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَكَفَى﴾ الواو عاطفة. ﴿كفى﴾ فعل ماض. ﴿بِنَا﴾ فاعل، والباء: زائدة. ﴿حَاسِبِينَ﴾ تمييز لفاعل كفى، أو حال منه، والجملة معطوفة على جملة إن الشرطية. ﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مُوسَى﴾ مفعول أول. ﴿وَهَارُونَ﴾ معطوف عليه. ﴿الْفُرْقَانَ﴾ معفول ثان لأن آتى بمعنى أعطى. ﴿وَضِيَاءً﴾: معطوف على ﴿الْفُرْقَانَ﴾. ﴿وَذِكْرًا﴾ معطوف على ضياء. ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ متعلق بـ ﴿ضياء﴾. وعطف الصفات جائز عندهم، فهو من هذا الوادي. وفي "السمين": قوله: ﴿وَضِيَاءً وَذِكْرًا﴾: يجوز أن يكون من باب عطف
﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الجر صفة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾. ولك أن تعربه خبرًا لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين. ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول. ﴿بِالْغَيْبِ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَخْشَوْنَ﴾؛ أي: حال كونهم غائبين ومنفردين عن الناس، أو حال من المفعول. ﴿وَهُمْ﴾ الواو: عاطفة، أو حالية. ﴿هم﴾ مبتدأ. ﴿مِنَ السَّاعَةِ﴾ متعلق بمشفقون. و ﴿مُشْفِقُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة، أو حال من فاعل ﴿يَخْشَوْنَ﴾، وذكر الاشفاق من الساعة بعد الخشية، من ذكر الخاص بعد العام، لكونها أعظم المخلوقات، وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون، وآثر الجملة الاسمية، للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه اهـ من "أبي السعود" ﴿وَهَذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿هذا ذكر﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مسوقة لخطاب أهل مكة، ومحاورتهم حول القرآن الكريم، الذي أنزل بلسانهم. ﴿مُبَارَكٌ﴾ صفة أولى لـ ﴿ذِكْرٌ﴾ ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة صفة ثانية لذكر. ﴿أَفَأَنْتُمْ﴾ الهمزة: للاستفهام التوبيخي المضمّن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف ﴿أنتم﴾ مبتدأ. ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿مُنْكِرُونَ﴾. و ﴿مُنْكِرُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أأنتم عالمون، أن شأنه كشأن التوراة، فأنتم له منكرون، والجملة المحذوفة مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ الرتق: الضم والإلتحام خلقة كان أو صنعة. والفتق: الفصل بين الشيئين الملتصقين وفي
﴿رَوَاسِيَ﴾ جمع راسية، من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ. اهـ "أبو السعود". وفي "المختار": والرواسي من الجبال الرواسخ، واحدتها راسية. وفي "المصباح": وما الشيء يرسو رسوًا ورسوا، إذا ثبت فهو راسٍ، وجبالٌ راسيةٌ وراسياتٌ ورواسي.
﴿أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ﴾؛ أي: أن تتحرك وتضطرب. وفي "المصباح": ماد يميد ميدا من باب باع، وميدانا بفتح الياء إذا تحرك. وفي "الأساس": غصن مائد مائل وماد يميد ميداناً.
﴿فِجَاجًا﴾ وفي "المختار": الفج بالفتح: الطريق الواسع بين الجبلين، والجمع فجاج بالكسر، مثل سهم وسهام. والفج بالكسر البطيخ الشامي، وكل شيء من البطيخ والفواكه لم ينضج، فهو فجّ بالكسر. وفي "القاموس" الفج وجمعه فجاج الطريق الواسع بين جبلين، والسبل جمع سبيل، وهو الطريق الواسع مطلقًا.
﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ﴾ والفلك: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، وعبارة الخازن: وقيل: الفلك: طاحونة مستديرة كهيئة ذلك المغزل بمعنى: أن الذي تجري فيه النجوم، مستدير كاستدارة الرحى. وقيل: الفلك: السماء الذي فيه ذلك الكوكب، وكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه. وفي "تفسير الرازي": المسألة الثالثة: الفلك في كلام العرب، كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك.
﴿الْخُلْدَ﴾ الخلود والبقاء ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾؛ أي: مخلوقةٍ، فلا يرد الباري تعالى ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾؛ أي: موارة مفارقة جسدها، اهـ شيخنا. وهذا دليل على ما أنكر من خلودهم، اهـ "أبو السعود". والذوق هنا: الإدراك. والمراد من الموت، مقدماته من الآلام العظيمة، والمدرك لذلك هي النفس المفارقة، التي تدرك مفارقتها للبدن ﴿نبلوكم﴾ أي: نختبركم. والمراد: نعاملكم معاملة من يختبركم ﴿بالخير والشر﴾؛ أي: بالمحبوب والمكروه ﴿فِتْنَةً﴾ أي: بلاءً واختبارًا، فهو مصدر مؤكد لنبلوكم، من غير لفظه. وأصل الفتن، إدخال الذهب النار. لتظهر جودته من رداءته. وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - ﷺ -: "إن الله يجرِّب أحدكم بالبلاء. كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار. فمنه من يخرج كالذهب، فذاك الذي افتتن". قال الراغب: يقال: بلى الثوب بلى؛ أي خلق، وبلوته اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له، وسمي الغم بلاءً، من حيث إنه يبلي الجسم ﴿إِلَّا هُزُوًا﴾؛ أي: ما يتخذونك إلّا مهزوءًا به؛ أي: مسخورًا منه.
﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ في "المصباح": بهت وبهت، من بابي قرب وتعب. دهش وتحيَّر، ويعدَّى بالحركة، فيقال: بهته يبهته بفتحتين، اهـ ﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ﴾ يقال: حاق به، يحيق حيقًا، أحاط به. وحاق بهم الأمر، لزمهم ووجب عليهم، وحاق نزل، ولا يكاد يستعمل إلّا في الشر. الحيق: ما يشمل الإنسان من مكروه، فعل ﴿يَكْلَؤُكُمْ﴾ يحرسكم ويحفظكم ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾؛ أي: من بأسه وعقابه، الذي تستحقونه ﴿مِنْ دُونِنَا﴾؛ أي: من غيرنا. وفي "المصباح": كلأه الله يكلؤه، مهموزٌ بفتحتين من باب قطع، كلاءةً بالكسر والمد حفظه، ويجوز التخفيف، فيقال: كليته أكلاه وكلئته أكلؤه من باب تعب لغة قريش، لكنهم قالوا: مكلو بالواو وأكثر من مكلي بالياء اهـ ﴿وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ﴾؛ أي: يجارون من عذابنا. تقول العرب: أنا لك جار. وصاحب من فلان؛ أي: ومجير منه. واختاره الطبري.
﴿بَلْ مَتَّعْنَا﴾ المتاع: انتفاع ممتد الوقت، يقال: متعه الله بكذا، وأمتعه وتمتع به ﴿الْعُمُرُ﴾ بضم الميم وسكونها، اسم لمدة عمارة البدن بالحياة؛ أي: طال عليهم الأجل في التمتع فاغتروا. وحسبوا أنهم ما زالوا على ذلك لا يغلبون.
﴿مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ والأطراف: جمع طرف بالتحريك، وهو ناحية من النواحي، وطائفة من الشيء ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ﴾؛ أي: قسط ونصيب ضئيل. والمس اللمس، ويقال في كل ما ينال الإنسان من أذى. والنفحة من الريح الدفعة، ومن العذاب القطعة. كما في "القاموس". قال في "بحر العلوم". من نفحته الدابة، إذا ضربته؛ أي: ضربة، أو من نفحت الريح إذا هبت؛ أي: هبة،
فصل في مصادر المرة والنوع أو الهيئة
مصدر المرة، هو ما يذكر لبيان عدد الفعل، ويبنى من الثلاثي المجرد على وزن فعلة. بفتح الفاء وسكون العين، مثل وقفت وقفة ووقفتين ووقفات، فإن كان الفعل فوق الثلاثي ألحقت بمصدره التاء، مثل أكرمته إكرامة، وفرحته تفريحة، وتدحرج تدحرجة، إلا إن كان المصدر ملحقاً في الأصل، بالتاء، فيذكر بعده ما يدل على العدد، مثل رحمته رحمة واحدة، وأقمت إقامة واحدة، واستقمت استقامة واحدة.
أما مصدر النوع أو الهيئة: فهو ما يذكر لبيان نوع الفعل. وصفته، نحو وقفت وقفةً، ويبنى من الثلاثي المجرد، على وزن فعلة بكسر الفاء، مثل عاش عيشة حسنة، ومات ميتة سيئة، وفلان حسن الجلسة، وفلانة هادئة المشية، فإن كان الفعل فوق الثلاثي يصير مصدره، بالوصف مصدر نوع، مثل أكرمته إكرامًا عظيمًا.
هذا، وهنا تنبيه هام. نبه عليه الشيخ أبو حيان، وهو أن هذه التاء الدالة على المرة الواحدة، لا تدخل على كل مصدر، بل على المصادر الصادرة عن الجوارح المدركة بالحس، نحو قومة وضربةٍ وقعدة وأكلة. وأما مصادر الأفعال الباطنة، والخصال الجليلة الثابتة، نحو: الظرف والحسن والجبن والعلم، فلا يقال، من ذلك: علمته علمةً، ولا فهمته فهمةً، ولا صبرته صبرةً.
﴿مِنْ خَرْدَلٍ﴾ الخردل: نبات له حب صغير جدًّا أسود مقرح، والواحدة خردلة، ويقال: خردل الطعام: أكل خياره، وخردل اللحم: قطع أعضاءه، والخرادل: القطع من اللحم.
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ﴾ جمع ميزان، والجمع فيه للتعظيم، أو باعتبار أجزائه فإن الصحيح أنه ميزان واحد لجميع الأمم، ولجميع الأعمال، وهو جسم مخصوص،
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام التعجبي الإنكاري في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
ومنها: الطباق بين الرتق والفتق في قوله: ﴿كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾.
ومنها: التنكير للتعميم في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ وقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ﴾.
ومنها: التذييل بقوله: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ بعد قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾. وعرَّفوه بقولهم: بأنه تذييل الكلام بعد تمامه، وحسن السكوت عليه، بجملة تحقق ما قبلها من الكلام، وتزيده توكيدًا، وتخرجه مخرج المثل السائر، ليشيع الكلام بعد دورانه على الألسنة، فإن لم تكن الزيادة تفيد ذلك، فلا يسمى تذييلا. أما في الآية التي نحن بصددها، فإن المعنى مستوفى في الإخبار، بأنه سبحانه لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد، ثم ذيل ذلك الإخبار بما أخرجه مخرج تجاهل العارف، وهو قوله: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾، ثم ذيلّ هذا التذييل بما أخرجه مخرج المثل السائر. حيث قال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾.
ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ بعد قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾، وذلك لتأكيد الاعتناء بالنعم الجليلة، التي أنعم بها على العباد.
ومنها: الطباق بين الشر والخير في قوله: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾.
ومنها: الاستعارة المكنية، في قوله: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ فقد شبّه العجل الذي طبع عليه الشخص، وصار له كالجبلة بأصل مادته، وهي الطين، تشبيهًا مضمراً في النفس، ثم حذف المشبّه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو قوله: خلق. وقيل: لا استعارة فيه، وإنما هو من باب القلب، والأصل خلق العجل من الإنسان، لشدة صدوره منه، وملازمته له، والقلب موجود في كلامهم كثيرًا، والأول أولى وأقعد بالبلاغة، ومن بدع التفاسير ما قالوه: من أن العجل هو الطين، بلغة حمير.
ومنها: إيثار صيغة المضارع والشرط في قوله: ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وإن كان المعنى على المضي، لإفادة استمرار عدم العلم.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ﴾؛ لأنه كناية عن إحاطة النار بهم من كل جانب، ذكره أبو السعود.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ لفائدة التسجيل عليهم، فقد كان مقتضى السياق أن يقول: ﴿ولا يسمعون﴾ ولكنه صرح بالصم، وتجاوز بالظاهر عن ضميره، للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم، إذا أنذروا، وللدلالة على صدور إنكار شديد، وغضب عظيم، وتعجب من نبو أسماعهم عن الوحي، وعدم إصاغتهم لما ينفعهم وإمعانهم في ركوب الغي والضلال.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ﴾ حيث استعار الصم للكفار؛ لأنهم كالبهائم التي لا تسمع الدعاء، ولا تفقه النداء.
ومنها: إسناد الضمير إلى الله تعالى في قوله: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ أسند سبحانه الضمير إلى نفسه. تعظيمًا للمسلمين، الذين
ومنها: ثلاث مبالغات في قوله: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا﴾.
١ - ذكر المس وهو أقل شيء، بل هو شيءٌ رفيقٌ جدًّا، فما بالك إذا انشال عليهم، أي: يكفي للدلالة على ذلهم، وهو أن أمرهم، ووهن عزيمتهم، أن أقل من يكفيهم ليذعنوا ويتطامنوا ويعلنوا ذلهم وخضوعهم، والإقرار على أنفسهم. بأنهم تصافوا وأعرضوا.
٢ - وما في النفحة، من معنى القلة والنزارة، يقال: نفحته الدابة ونفحة بعطيَّة.
٣ - بناء المرة من النفح، فمصدر المرة، يأتي على فعلة؛ أي: نفحة واحدة لا ثاني لها، تكفي لتشتيت أمرهم، وتوهين كيانهم، وتصدع صفوفهم، فكيف إذا عززت بثانية أو ثالثة.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾؛ لأن السبح حقيقة في المر السريع في الماء، أو في الهواء، فاستعير لمر الشمس والقمر والنجوم في الفلك.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿سَقْفًا﴾؛ أي؛ كالسقف للأرض.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿يَذْكُرُ﴾ و ﴿ذِكْر﴾ في قوله: ﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ وبين عجل ويستعجلون في قوله: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧)﴾.
ومنها: الجناس المماثل بين ﴿استهزىء﴾ و ﴿يستهزئون﴾، في قوله: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ الآية، وبين ﴿إنما أنذركم﴾ و ﴿ينذرون﴾، في قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ...﴾ الآية.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾، لأنه كناية عن العمل، ولو كان في غاية القلة والحقارة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٥٤) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (٦٠) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٧) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٦٨) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٦٩) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٧٣) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (٨٢)﴾
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا قدّ الكلام في دلائل التوحيد (١)، والنبوة والمعاد، أتبع ذلك بثلاثة عشر نبيًا غير مراعٍ في ذكرهم الترتيب الزماني، وذكر بعض ما نال كثيرًا منهم من الابتلاء، كل ذلك تسليةً للرسول - ﷺ -، وليتأسى بهم فيما جرى عليه من قومه.
قوله تعالى: ﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الكفرة، لما أقروا (٢) على أنفسهم، بأن لا فائدة في آلهتهم، قامت لإبراهيم الحجة عليهم، فوبّخهم على عبادة ما لا يضر ولا ينفع، إذ هذا مما لا ينبغي لعاقل، أن يقدم عليه، وبعد أن دحضت حجتهم، وبان عجزهم، انقلبوا إلى العناد واستعمال القوة الحسية، إذ أعيتهم الحجة، فقالوا: حرّقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم التي جعلها جذاذًا، ولكن الله سلّمه من كيدهم، وجعل النار بردًا وسلامًا عليه.
قوله تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٧١)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر ما أكرم به إبراهيم، من نجاته من النار، قفّى على ذلك، ببيان أنه أخرجه من بين قومه مهاجرًا إلى بلاد الشام، وهي الأرض المباركة، ثم وهب له من الذرية إسحاق وابنه يعقوب - عليهما السلام -، وكانا أهل صلاح وتقوى يقتدى بهما، ويؤتمر بأمرهما، ثم أردف ذلك، بذكر ما آتى لوطًا من العلم والنبوة، وجعله يعزف عن مفاسد تلك القرية، التي كان يقيم فيها بين ظهراني أهلها، وقد أهلكهم جميعًا وأنجاه هو وأهله، وأدخله في جنات النعيم، وقرّبه إلى حظيرة قدسه وساحة رحمته.
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى، لمّا ذكر ما أنعم به على نوح - عليه السلام - من النعم الجليلة، قفّى على ذلك بذكر الإحسان العظيم، الذي آتاه داود وسليمان - عليهما السلام -، وهو قسمان:
أولًا: نعم مشتركة بينهما وبين غيرهما من النبيين، وهي العلم والفهم، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾.
ثانيًا: نعم خاصة بواحد دون الآخر:
١ - فأنعم على داود بتسخير الجبال والطير للتسبيح معه، وتعليم صنعة الدروع، للوقاية من أذى الحرب.
٢ - وأنعم على سليمان بتسخير الريح العاصفة التي تجري بأمره، وبتسخير الشياطين تغوص في البحار، لتخرج اللؤلؤ والمرجان، وتعلم له أخرى غير ذلك.
التفسير وأوجه القراءة
٥١ - ولما تكلم (١) الله سبحانه وتعالى، في دلائل التوحيد، والنبوة، شرع في قصص الأنبياء - عليهم السلام -: تسلية لرسوله - ﷺ -، فيما يناله من أذى قومه، وتقويةً لقلبه على أداء الرسالة، والصبر على كل عارض، وذكر منها عشر قصص:
الأولى: قصة موسى - عليه السلام -، المذكورة في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
القصة الثانية: قصة إبراهيم - عليه السلام - المذكورة في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ﴾.
القصة الثالثة: قصة لوط - عليه السلام -، المذكورة في قوله: ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾.
القصة الرابعة: قصة نوح - عليه السلام -، المذكورة في قوله: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ﴾.
القصة الخامسة: قصة داود وسليمان - عليهما السلام -، المذكورة في قوله: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾.
القصة السادسة: قصة أيوب - عليه السلام -، المذكورة في قوله: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾.
القصة السابعة: قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل، المذكورة في قوله: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ﴾.
القصة الثامنة: قصة يونس - عليه السلام - المذكورة في قوله: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾.
القصة التاسعة: قصة زكريا - عليه السلام - المذكورة في قوله: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾.
القصة العاشرة: قصة مريم وابنها - عليه السلام -، المذكورة في قوله: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ الخ، اهـ من الخطيب.
ثم شرع في ذكر قصة إبراهيم - عليه السلام - فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي؛ وعزتي وجلالي لقد آتينا وأعطينا إبراهيم الخليل - عليه السلام - ﴿رُشْدَهُ﴾؛ أي (١): ما فيه صلاحه وهداه ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل موسى وهارون ووفقناه
والرشد (١): خلاف الغي، وهو الابتداء لمصالح الدين والدنيا، وكماله يكون بالنبوة؛ أي: بالله لقد آتينا بجلالنا وعظيم شأننا إبراهيم الخليل - عليه السلام -، الرشد اللائق به، وبأمثاله من الرسل الكبار، على ما أفادته الإضافة من قبل؛ أي؛ من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة، وتقديم زكريا إيتائها، لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التام ﴿وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾؛ أي؛ وكنا عالمين، بأنه أهل لما آتيناه، من الرشد والنبوة، وتقديم الظرف، لمجرد الاهتمام، مع رعاية الفاصلة، ونظير الآية قوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
وقرأ الجمهور: (٢) ﴿رشده﴾ بضم الراء وسكون الشين، وقرأ عيسى الثقفي: ﴿رشده﴾ بفتح الراء والشين، وأضاف الرشد إلى إبراهيم، بمعنى: رُشْدَ مِثْله، وهو رشد الأنبياء، وله شأن؛ أي: شأن. أو المعنى: وكنا عالمين بأنه ذو يقين، وإيمان بالله، وتوحيد له، لا يشرك به شيئًا، فهو جامع لأحاسن الفضائل، ومكارم الأخلاق، وجميل الصفات.
٥٢ - والظرف في قوله: ﴿إِذْ قَالَ﴾ متعلق بآتينا، على أنه وقت متسع، وقع فيه الإيتاء، وما ترتب عليه من أفعاله وأقواله. أو بمحذوف، تقديره: اذكر حين قال إبراهيم ﴿لِأَبِيهِ﴾ آزر، والظاهر، من عدم التعرض لأمه، كونها مؤمنةً، كما يدل عليه تبريه وامتناعه من أبيه دونها ﴿وَقَوْمِهِ﴾ نمرود ومن اتبعه.
والمراد من قومه (٣): أهل بابل بالعراق، وهي بلاد معروفة، من عبادان إلى
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾؛ أي: آتيناه الرشد، حين قال لأبيه آزر ولقومه، وهم مجتمعون: ما هذه الأصنام التي تقيمون على عبادتها وتعظيمها، وقد أراد - عليه السلام -، بهذا السؤال، تنبيه أذهانهم، إلى التأمل في شأنها، وتحقير أمرها، متجاهلًا حقيقتها، وكأنه يومئ بذلك، إلى أنهم لو تأملوا قليلًا، لأدركوا أن مثل هذه الأحجار، والخشب، لا تغني عنهم قُلًّا، ولا كثرًا؛ أي (١) ما هذه الصور التي أنتم عابدون لها، وكانت تلك الأصنام اثنين وسبعين صنمًا، بعضها من ذهب، وبعضها من فضة، وبعضها من حديد، وبعضها من رصاص، وبعضها من نحاس، وبعضها من حجر، وبعضها من خشب، وكان كبيرها من ذهب مكلَّلا من جواهر، في عينيه ياقوتتان، تتقدان، تضيئان في الليل.
والتماثيل (٢): جمع تمثال، وهو الشيء المصوَّر، المصنوع مشبهًا بخلق من خلائق الله، والممثل المصوّر على مثال غيره. من مثلث الشيء بالشيء، إذا شبّهته به. والعكوف الإقبال على الشيء، وملازمته على سبيل التعظيم، لغرض من الأغراض، ضمَّن معنى العبادة، كما يدل عليه الجواب الآتي، ولذا جيء باللام دون على؛ أي: ما هذه الأصنام التي أنتم لها عابدون لها، مقيمون عليها. وهذا السؤال، تجاهل منه، وإلّا فهو يعرف أن حقيقتها حجر، أو شجر، اتخذوها معبوداً، فالاستفهام فيه، استفهام متجاهل.
٥٣ - وقوله: ﴿قَالُوا﴾ كلام مستأنف، واقع في جواب سؤال مقدر، تقديره: قال إبراهيم لهم: أي شيءٍ حملكم على عبادتها؟ قالوا: ﴿وَجَدْنَا آبَاءَنَا﴾ وأسلافنا ﴿لَهَا عَابِدِينَ﴾؛ أي: عابدين لها، فنحن نعبدها اقتداء بهم، وهو جواب العاجز عن الإتيان بالدليل.
(٢) روح البيان.
٥٤ - وجوابهم، هو ما أجاب به الخليل هاهنا بقوله: ﴿قَالَ﴾ لهم إبراهيم - عليه السلام -: والله ﴿لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ وأسلافكم الذين سنوا لكم هذه السنة الباطلة ﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: في خطأ بيّن، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ذلك، فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام. التي لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، وليس بعد هذا الضلال ضلال، ولا يساوي هذا الخسران خسران.
وقال آخر أيضًا:
يَأْبَى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى | وَمَنْهَجُ الحَقِّ لَهُ وَاضِحُ |
والاستفهام فيه استفهام تعجب واستبعاد؛ أي (٣): قالوا له حين سمعوا مقالته، مستبعدين أنهم في ضلال، ومتعجبين من تضليله إياهم: أجادُّ أنت فيما تقول، أم أنت لاعبٌ مازحٌ. فإنّا لم نسمع بمثله من قبل.
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
٥٦ - فرد عليهم منتقلًا من تضليلهم في عبادة الأوثان، إلى بيان الحق، وذكر المستحق للعبادة مضربًا عما بنوا عليه مقالتهم من التقليد فـ ﴿قَالَ﴾ إبراهيم لهم: ﴿بَلْ﴾ جئتكم بالحق، لا باللعب ﴿رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: إن ربكم ومالككم الذي يستحق منكم العبادة، مالك السموات والأرض ﴿الَّذِي فَطَرَهُنَّ﴾؛ أي: أنشأ السموات والأرض، وخلقهن ابتداء من غير مثال سابق يحتذى، فهو الخالق كما أنه المربي. فالضمير (١) للسموات والأرض، أو للتماثيل؛ أي: فكيف تعبدون من كان من جملة المخلوقات.
وخلاصة هذا: أن الجدير بالعبادة، هو من ربّاكم تحت ظلال عطفه، وأنعم عليكم بجزيل برّه ولطفه، وأوجدكم، وأوجد السموات والأرض من العدم، لا من كان بمعزل عن كل ذلك.
وفي هذا، إرشاد إلى أنه، ينبغي لهم أن يرعووا عن غيِّهم، ويعلموا من يستحق العبادة فيعبدونه، ويخضعون له وبذلك يهتدون إلى الطريق السوي.
ثم ختم مقاله: بنفي اللعب والهزل عن نفسه فقال: ﴿وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ﴾ الذي ذكرته لكم، من كون ربكم رب السموات والأرض فقط، دون ما عداه، كائنًا ما كان ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾؛ أي: من العالمين به على الحقيقة المبرهنين عليه، وليس المراد حقيقة الشهادة؛ لأنه لا شهادة من المدعي، بل استعيرت الشهادة لتحقيق الدعوى بالحجة والبرهان؛ أي: لست من اللاعبين في الدعاوى، بل من المحتجين عليها بالبراهين القاطعة، بمنزلة الشاهد الذي تقطع به الدعاوي.
وقصارى ما أقول (٢): لست من اللاعبين الهازلين، بل من العالمين بذلك بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة، كالشاهد الذي يكون قوله الفصل في إثبات الدعوى وإحقاق الحق.
٥٧ - وبعد أن أقام البرهان على إثبات الحق، أتبعه بالتهديد لهدم الباطل، ومحو آثاره، وأنه سينقل من المحاجة القولية إلى تغيير المنكر، ثقة بالله ومحاماة عن دينه، جمعا بين القول والفعل، فقال: ﴿وَتَاللَّهِ﴾ القوي العظيم، وقرأ الجمهور: ﴿وَتَاللَّهِ﴾ بالتاء الفوقية. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل ﴿بِاللَّهِ﴾ بالباء الموحدة ﴿لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾؛ أي: لأمكرن وأجتهدن في كسر أصنامكم، وإلحاق الأذى بها، قال مجاهد وقتادة: قال إبراهيم - عليه السلام - هذه المقالة سرًّا من قومه، ولم يسمع ذلك إلَّا رجل واحد منهم، فأفشاه عليه، وقال: إنا سمعنا فتى يذكرهم، يقال له إبراهيم. وفي التعبير بالكيد إيدان بصعوبة الوصول إلى كسرها، وتوقفه على استعمال الحيل، لا سيما زمن نمرود، على عتوّه واستكباره وقوة سلطانه، وتهالكه على نصرة دينه.
فإن قيل (٣): لِمَ قال: ﴿لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ والكيد: هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به، والأصنام جمادات لا تتضرر بالكسر ونحوه، وأيضًا ليست هي، مما يحتال في إيقاع الكسر عليها؛ لأن الاحتيال إنما يكون في حق من له شعور؟
أجيب: بأن ذلك من قبيل التوسع في الكلام، فإن القوم كانوا يزعمون أن الأصنام لهن شعور، ويجوز عليهن الضرر، فقال ذلك بناء على زعمهم. وقيل:
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
والأصنام: جمع صنم، وهي جثة متخذة من فضة، أو نحاس أو خشب مثلًا كانوا يعبدونها، متقربين بها إلى الله تعالى، كما في "المفردات".
﴿بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا﴾ وترجعوا (١) من عبادتها. مضارع ولّى مشدداً ﴿مُدْبِرِينَ﴾ وذاهبين إلى عيدكم، وهو حال مؤكدة؛ لأن التولية والإدبار بمعنى، والإدبار نقيض الإقبال وهو الذهاب إلى خلف؛ أي بعد أن ترجعوا عن عبادتها حالة كونكم ذاهبين ومنطلقين إلى عيدكم. وقرأ الجمهور: ﴿تُولوا﴾ بضم التاء، مضارع ولّى الرباعي وقرأ عيسى بن عمر ﴿تولّوا﴾ بفتح التاء فحذف إحدى التاءين وهي الثانية على مذهب البصريين، والأولى على مذهب هشام، وهو مضارع تولى الخماسي، وهو موافق لقوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)﴾ ذكره في "البحر".
وقال السدي: كان (٢) لهم في كل سنة مجمع عيد، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم، دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد، قال آزر: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا، أعجبك ديننا فخرج معهم، ولما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه، وقال: إني سقيم، أشتكي برجلي. فلمّا مضوا، نادى في آخرهم، وقد بقي فيهم ضعفاء الناس: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، وهي في بهو عظيم، وكان مستقبل هذا البهو، صنم عظيم، إلى جنبه أصغر منه، والأصنام بعضها إلى جنب بعض، يليه أصغر منه إلى باب البهو - والبهو: البيت الذي يقيمونه أمام البيوت، ويجتمون فيه للندوة - وإذا هم قد جعلوا طعامًا، فوضعوه بين يدي الآلهة، وقالوا: إذا رجعنا، وباركت الآلهة عليه أكلنا منه، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام، قال لهم، مستهزئًا: ألا تأكلون؟ فلما لم يجيبوه قال لهم: ما لكم لا تنطقون، وراغ عليهم ضربًا باليمين، وجعل يكسرهن بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلّا الصنم الأكبر، علّق الفأس في عنقه، ثم خرج فذلك
(٢) المراغي.
وقيل: الضمير في ﴿إِلَيْهِ﴾ عائد إلى إبراهيم؛ أي: لعلهم إلى إبراهيم يرجعون، لاشتهاره بإنكار دينهم وسبّ آلهتهم وعداوتهم، فيحاججهم بقوله: بل فعله كبيرهم، فيحجهم ويبكتهم، كما في "الإرشاد" وغيره، أو لعلهم (٣) يرجعون إلى دين إبراهيم بوجوب الحجة عليهم، قاله الزجاج.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿جُذَاذًا﴾ بضم الجيم. وقرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود وأبو رزين وقتاد وابن محيصن والأعمش والكسائي: ﴿جِذاذًا﴾ بكسر الجيم. وقرأ أبو رجاء العطاردي وأيوب السختياني وعاصم الجحدري وابن عباس وأبو نهيك وأبو السماك ﴿جَذاذا﴾ بفتح الجيم. وقرأ الضحاك وابن يعمر ﴿جَذذا﴾
(٢) المراغي.
(٣) زاد المسير.
(٤) زاد المسير والبحر المحيط.
قال قطرب: هي في لغاتها كلها مصدر، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث اهـ. وقال أبو حاتم: أجودها الضم، كالحطام والرفات، وهي قراءة العامة، والظاهر أن المضموم اسم للشيء المكسور، كالحطام والرفات والفتات بمعنى: الشيء المحطم والمفتّت. وقال اليزيدي: المضموم جمع جُذاذة بالضم، نحو زجاج في زجاجة، والمكسور جمع جذيذ، نحو كرام في كريم. وقال بعضهم: المفتوح مصدر بمعنى المفعول.
٥٩ - فلما رجعوا من عيدهم إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قوم إبراهيم على سبيل التوبيخ، والتأنيب حين رأوا آلهتهم قد صارت جذاذًا؛ إلّا الذي علق فيه إبراهيم الفأس ﴿مَنْ فَعَلَ هَذَا﴾ الكسر ﴿بِآلِهَتِنَا﴾؛ أي: من كسر هذه الآلهة وجعلها هكذا. والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ. ولم يقولوا ﴿بهؤلاء﴾ مع أنها كانت بين أيديهم حيث قالوا: ﴿بِآلِهَتِنَا﴾ مبالغة في اللوم، والتعنيف والتشنيع ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أنفسهم بكسرها، حيث عرض نفسه للهلاك؛ أي: إنه لمن زمرة الذين ظلموا أنفسهم، وتجرؤوا على إهانة هذه الآلهة، وهي المستحقة بالإعظام والتكريم
٦٠ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال بعض منهم ممن سمع قوله: تالله لأكيدن أصنامكم، للسائلين، فالآية تدل على أن القائلين جماعة منهم ﴿سَمِعْنَا فَتًى﴾ وهو الطري من الشبان ﴿يَذْكُرُهُمْ﴾ بسوء. صفة أولى لـ ﴿فَتًى﴾؛ أي: يعيب آلهتنا، ويستهزىء بهم، ولم نسمع أحدًا يقول ذلك غيره، وإنا لنظن أنه صنع ذلك بهم ﴿يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ أي: يطلق عليه هذا الاسم. صفة له
٦١ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: السائلون. قال بعضهم: بلغ ذلك النمرود الجبار وأشراف قومه، فقالوا فيما بينهم؛ أي: قال أولئك القائلون: من فعل هذا بآلهتنا؟ إذا كان الأمر كما ذكرتم ﴿فَأْتُوا بِهِ﴾؛ أي: بإبراهيم، والفاء فيه للإفصاح ﴿عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ﴾ حال (١) من ضمير ﴿بِهِ﴾؛ أي: إذا كان الأمر كما قلتم، فأتوا به، حالة
وفيه إشارة إلى أن في بعض الكفار، من لا يحكم على أهل الجنايات إلّا بمشهد من العدول، فكل حاكم يحكم على متّهم بالجناية، من غير بيّنة، فهو أسوأ حالا منهم، ومن قوم نمرود كما في "التأويلات النجمية".
٦٢ - وجملة قوله: ﴿قَالُوا﴾ جواب شرط مقدر تقديره: فلما أتوا به وشهدوا عليه، قالوا منكرين عليه فعله، موبّخين له ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا﴾ الكسر ﴿بِآلِهَتِنَا﴾ وأصنامنا ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ﴾؛ أي (١): أأنت الذي كسر هذه الأصنام، وجعلهم جذاذًا، وقد طلبوا منه الاعتراف بذلك، ليقدموا على إيذائه، وهم مقتنعون بصحة هذه الجريمة في زعمهم، فما كان منه إلّا أن بادرهم بما أدهشهم، حتى تمنّوا الخلاص منه،
٦٣ - فـ ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾؛ أي: الذي كان الفأس على عنقه، مشيرًا إلى الذي لم يكسره، وهذا صفة لـ ﴿كبير﴾؛ أي: قال إبراهيم: بل الذي فعل هذا الكسر، هو الصنم الأكبر، الذي لم يكسر. أسند (٢) الفعل إليه باعتبار أنه الحامل عليه؛ لأنه لما رأى الأصنام مصطفة، مزينة يعظمها المشركون، ورأى على الكبير ما يدل على زيادة تعظيمهم له، وتخصيصهم إياه بمزيد التواضع، والخضوع غاظه، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد، وقال بعضهم: فعله كبيرهم هذا، غضب من أن تعبد معه هذه الصغار، وهو أكبر منها.
وإيضاح هذا (٣): أن إبراهيم - عليه السلام -، لمّا رأى تعظيمهم لهذا الصنم، أشدّ من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام، غضب أشد الغضب، وأسند إليه الفعل الصادر منه من قبل أنه هو الذي حمله على ذلك، وهو يومىء بذلك إلى
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
ومجمل كلامه: أن شديد غضبي من تعظيمكم له، حملني على أن أفعل هذا، والفعل كما ينسب إلى المباشر له، ينسب إلى الباعث عليه، فهذا الصنم الأكبر، قد كان السبب في استهانتي بهم، وتحطيمي إياهم؛ أي: قال إبراهيم مقيمًا للحجة عليهم، مبكتاً لهم: بل فعله كبيرهم هذا، مشيرًا إلى الصنم الذي تركه، ولم يكسره ﴿فَاسْأَلُوهُمْ﴾؛ أي: فاسألوهم؛ أي: فاسألوا هؤلاء الأصنام المكسورة، عن كاسرهم ليخبروكم به ﴿إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾؛ أي (١): إن كانوا ممن يمكنه النطق، ويقدر على الكلام، ويفهم ما يقال له، فيجيب عنه بما يطابقه، أراد عليه السلام، أن يبيّن لهم، أن من لا يتكلم، ولا يعلم، ليس بمستحق للعبادة، ولا يصح في العقل، أن يطلق عليه أنه إله، فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم، بما يوقعهم في الاعتراف، بأن الجمادات التي عبدوها، ليست بآلهة؛ لأنهم إذا قالوا: إنهم لا ينطقون، قال لهم: فكيف تعبدون من يعجز عن النطق، ويقصر عن أن يعلم، بما يقع عنده، في المكان الذي هو فيه، فهذا الكلام، من باب فرض الباطل مع الخصم، حتى تلزمه الحجة، ويعترف بالحق، فإن ذلك أقطع لشبهته، وأدفع لمكابرته.
وفي الحديث المتفق عليه (٢): "لم يكذب إبراهيم النبي قط، إلّا ثلاث كذبات" سميت المعاريض كذبًا، لمَّا شابهت صورتها صورته، وإلّا فالكذب الصريح كبيرة، فالأنبياء معصومون منها. فإن قلت: إذا كانت هذه معاريض، لم جعلها سببًا في تقاعده عن الشفاعة، حين يأتي الناس إليه، يوم القيامة؟ قلت: الذي يليق بمرتبة النبوة والخلة، أن يصدع بالحق، ويصرح بالأمر، ولكنه قد تنزّل إلى الرخصة، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
والتعريض: تورية الكلام عن الشيء بالشيء، وهو أن تشير بالكلام إلى
(٢) روح البيان.
وقرأ ابن السميقع (١): ﴿بَلْ فَعَلَهُ﴾ بتشديد اللام على معنى بل، فلعل الكاسر والفاعل ذلك كبيرهم
٦٤ - ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجة خصمه، المراجع لعقله، وذلك أنهم تنبهوا وفهموا عند هذه المقالة بينهم وبين إبراهيم، أن من لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه، ولا على الإضرار بمن فعل به، ما فعله إبراهيم بتلك الأصنام، يستحيل أن يكون مستحقاً للعبادة، ولهذا ﴿فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾؛ أي: قال بعضهم لبعض: أنتم الظالمون لأنفسكم، بعبادة هذه الجمادات، وليس الظالم، من نسبتم الظلم إليه بقولكم ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وما هذا منكم إلّا غرور وجهل، بما ينبغي أن تكون عليه حال المعبود.
٦٥ - ثم أبان أنهم أركسوا بعدئذٍ (٢)، ورجعوا عن فكرة سليمة، لا غبار عليها، بوصفهم أنفسهم بالظلم إلى فكرة خاطئة، وهي الحكم بصحة عبادتها، مع اعترافهم بأن حالهم دون حال الحيوان، فلا ينبغي لعاقل أن يعبدها، فقال: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا﴾ وانكبوا ﴿عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ أي: رجعوا إلى جهلهم وعنادهم، شبه سبحانه، عودهم إلى الباطل، بصيرورة أسفل الشيء أعلاه. وقيل: المعنى أنهم طأطؤوا رؤوسهم خجلةً من إبراهيم؛ أي: انقلبوا عن الفكرة الصالحة إلى الحالة الأولى، فأخذوا في المجادلة بالباطل قائلين: والله ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾ يا إبراهيم ﴿مَا هَؤُلَاءِ﴾ الأصنام ﴿يَنْطِقُونَ﴾؛ أي: لقد علمت أنه ليس من شأنهم النطق، فكيف تأمرنا بسؤالهم.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن الجارود والبكراوي (٣):
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
٦٦ - فـ ﴿قَالَ﴾ إبراهيم مبكتًا لهم وموبخًا ﴿أ﴾ تعلمون ذلك ﴿فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: حال كونكم متجاوزين عبادته تعالى، فالهمزة للاستفهام التوبيخي التبكيتي المضمّن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أتعلمون عدم نطقها، فتعبدون من دون الله ﴿مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ﴾؛ أي: فتعبدون من دون الله معبودات، لا تنفعكم شيئًا من النفع إن عبدتموها، فتعلقوا رجاءكم بها، ولا تضركم شيئًا من الضرر إن لم تعبدوها فتخافوها، فإن العلم بالحالة المنافية للألوهية، مما يوجب الاجتناب عن عبادتها قطعًا
٦٧ - ﴿أُفٍّ لَكُمْ﴾؛ أي؛ تبًا ونتنًا لكم ﴿وَ﴾ قبحًا ﴿لِمَا تَعْبُدُونَ﴾ ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه، أي: لمعبوداتكم التي اتخذتموها من دون الله. واللام (١) لبيان المتضجر لأجله؛ أي: هذا التأفف لكم ولآلهتكم، لا لغيركم. وعائد الموصول محذوف كما قدَّرناه، وهذا تضجر منه - عليه السلام -، من إصرارهم على الباطل البيِّن. و ﴿أُفٍّ﴾ صوت التضجر، إذا صوت بها الإنسان علم أنه متضجّر، ومعناه: قبحًا ونتنًا. وفي كتب النحو، من أسماء الأفعال ﴿أُفٍّ﴾ بمعنى أتضجر. والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك، والتقدير: أجننتم، فلا تعقلون قبح صنيعكم؛ أي: أليس لكم عقل تعقلون به، أنَّ هذه الأصنام لا تستحق العبادة.
والمعنى: أي (٢) أفلا تتدبرون ما أنتم فيه، من الضلال والكفر، الذي لا يروج إلا على جاهل فاجر، وأنتم الشيوخ الذين بلوا الزمان حلوه ومره، وحنَّكتهم
(٢) المراغي.
قال ابن عطاء (١): دعا الله تعالى عباده إليه، وقطعهم عما دونه بقوله: ﴿أَفَتَعْبُدُونَ...﴾ إلخ كيف تعتمده وهو عاجز مثلك، ولا تعتمد من إليه المرجع، وبيده الضرُّ والنفع. قال حمدون القصَّار: استغاثة الخلق بالخلق، كاستغاثة المسجون بالمسجون. وقال بعض الكبار: طلبك من غيره لوجود بعدك عنه، إذ لو كنت حاضرًا بقلبك معه، ما صح منك توجه لغيره، وكل ما دون الله، خوض ولعب، فالتعلق به زور وكذب، فدع الكل جانبًا، وتعلق بمولاك حتمًا، تجده في كل مهم وغيره مغنيًا، وعند كل شيء حقًا يقينًا، جعلنا الله ممن تعلق به بلا علة، وعافانا من الذلة والزلة والقلة.
٦٨ - ولما بان عجزهم عن مجادلته، وحصحص الحق لجؤوا إلى الغلظة واستعمال القسوة فـ ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال بعضهم لبعض، والقائل ملكهم نمرود بن كنعان. وقيل: القائل، رجل من أكراد فارس، اسمه هينون، خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ﴿حَرِّقُوهُ﴾؛ أي: حرّقوا إبراهيم بالنار، واتفقت كلمتهم على إحراقه لأنه أشدّ العقوبات ﴿وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ بالانتقام لها؛ أي: انتقموا منه لآلهتكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ نصرها، ولا تريدون خذلانها وترك عبادتها.
ذكر القصة في ذلك
فلما (٢) اجتمع نمرود وقومه، لإحراق إبراهيم، حبسوه في بيت، وبنوا بنيانًا كالحظيرة بقرية يقال لها "كُوشْى" - بضم الكاف، قريةٌ بالعراق -: ثم جمعوا له أصلاب الحطب، وأصناف الخشب مدة شهر، حتى كان الرجل يمرض، فيقول: لئن عوفيت لأجمعن حطبًا لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب: لئن أصابته، لتحطبن في نار إبراهيم، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها، احتسابًا في دينها، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب من ماله لإبراهيم، فلما
(٢) الخازن.
وروى عن أبي بن كعب (١): أن إبراهيم، قال حين أوثقوه ليلقوه في النار: لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، قال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ قال: قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد - ﷺ -، حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم أخرجه البخاري.
قال كعب الأحبار: جعل كل شيء يطفىء عنه النار إلّا الوزغ، فإنه كان ينفخ في النار.
٦٩ - ثم أبان سبحانه، أنه أبطل كيدهم، ودفع عنه هلاكًا محققاً بمعونته وتأييده، فقال: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي﴾؛ أي: فأوقدوا له نارًا ليحرقوه، ثم ألقوه فيها، فقلنا للنار: يا نار كوني ﴿بَرْدًا﴾؛ أي: ذات برد من حرّك ﴿وَسَلَامًا﴾؛ أي: ذات سلامةٍ من ضرر بردك ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ خليلنا؛ أي: أبردي بردًا غير ضارٍ به، فزال ما فيها من الحرارة والإحراق، وبقي ما فيها من الإضاءة والإشراق. هذا (١) ما اختاره المحققون لدلالة الظاهر عليه، وهذا كما ترى، من أبدع المعجزات فإن انقلاب النار هواء طيبًا وإن لم يكن بدعًا من قدرة الله، لكن وقوع ذلك على هذه الهيئة، مما يخرق العادات. وقيل: كانت النار بحالها، إلّا أنه تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفيةً مانعة من وصول أذى النار إليه، كخزنة جهنم في الآخرة، وكما أنه ركب بنية النعامة، بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة، وبدن السمندل، بحيث لا يضره المكث في النار، كما يشعر به ظاهر قوله على إبراهيم.
ومكث إبراهيم في النار سبعة أيام (٢)، فما أحرقت منه إلا وثاقه، قاله كعب الأحبار ووهب بن منبه. وقال غيرهما: أربعين أو خمسين يومًا. وقال إبراهيم: ما كنت أطيب عيشًا زمانًا من الأيام، التي كنت فيها في النار، فنزل جبريل بقميص من الجنة، وطنفسة من الجنة، فألبسه القميص، وأجلسه على الطنفسة، وقعد معه يحدثه، وإن آزر أتى نمرود فقال: ائذن لي أن أخرج عظام إبراهيم فأدفنها، فانطلق نمرود ومعه الناس، فأمر بالحائط فنقب، فإذا إبراهيم في روضة تهتز وثيابه تندى، وعليه القميص، وتحته الطنفسة، والملك إلى جنبه، فناداه نمرود: يا إبراهيم إن إلهك الذي بلغت قدرته هذا لكبير هل تستطيع أن تخرج؟ قال: نعم، فقام إبراهيم يمشي حتى خرج، فقال: من الذي رأيت معك؟ قال: ملك أرسله إليّ ربي ليؤنسني، فقال نمرود: إني مقرب لإلهك قربانًا لما رأيت من
(٢) زاد المسير.
وكان وقت إلقائه فيها، ابن ست عشرة سنة، ذكره أبو السعود. وقيل: كان ابن ست وعشرين سنة، قاله الماوردي، والله أعلم. روى أبو هريرة أن النبي - ﷺ -، قال: "لمّا ألقي إبراهيم في النار، قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك".
فائدة: فإن قلت: لم ابتلاه الله بالنار في نفسه؟
قلت: كل رسول يأتي بمعجزة تناسب أهل زمانه، فكان أهل ذلك الزمان، يعبدون النار والشمس والقمر والنجوم، معتقدين ألوهيتها وتاثيرها، فأراهم الله تعالى، أنها لا تأثير لها.
٧٠ - ﴿وَأَرَادُوا﴾؛ أي: وأراد نمرود وقومه ﴿بِهِ﴾؛ أي: بإبراهيم عليه السلام، ﴿كَيْدًا﴾ أي: مكراً عظيمًا في الإضرار به ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾؛ أي: من ذوي الخسران والوبال، فإنهم خسروا السعي والنفقة، فلم يحصلى لهم مرادهم، وهلكوا بإرسال الله عليهم البعوض، فأكلت لحومهم، وشربت دماؤهم، ودخلت في دماغ نمرود بعوضة فأهلكته. أو المعنى ﴿جعلناهم من الأخسرين﴾؛ أي: من الهالكين بتسليط البعوض عليهم، وقتله إياهم، وهو أضعف خلق الله تعالى، وما برح النمرود، حتى رأى أصحابه، قد أكلت البعوض لحومهم، وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في منخره، فلم تزل تأكل، إلى أن وصلت إلى دماغه، وكان أكرم الناس عليه، الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد، فأقام بهذا، نحوًا من أربع مئة سنة. وقال هنا: ﴿من الأخسرين﴾، وفي الصافات: ﴿من الأسفلين﴾ لما تقدم على كل منهما، فتمت المناسبة في الموضعين.
٧١ - ﴿وَنَجَّيْنَاهُ﴾ أي: إبراهيم من الإحراق، ومن شر النمرود ﴿وَ﴾ نجينا معه ﴿لُوطًا﴾ ابن أخي إبراهيم هاران الأصغر من الخسف، وكان لهما أخ ثالث، اسمه: ناخور، والثلاثة أولاد آزر، وأما هاران الأكبر، فكان عمّا لإبراهيم، وكانت سارة بنت عم إبراهيم، الذي هو هاران الأكبر مهاجرين {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي
وقد كان الله تعالى، بارك في الأرض المقدسة، ببعث أكثر الأنبياء فيها، ونشر شرائعهم، التي هي البركات الحقيقية، الموصلة للعالمين، إلى الكمالات والسعادة الدينية والدنيوية، وبكثرة الماء. والشجر والثمر والحطب وطيب عيش الغني والفقير فيها.
٧٢ - ثم ذكر سبحانه ما أفاضه من النعم على إبراهيم فقال:
١ - ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ﴾؛ أي: لإبراهيم بعد نزوله في الأرض المباركة، وطلب الولد منها ﴿إِسْحَاقَ﴾ ولدا لصلبه من سارة، معناه: بالعبرانية الضحّاك، كما أن معنى إسماعيل بها، مطيع الله ﴿وَيَعْقُوبَ﴾؛ أي: ووهبنا له يعقوب أيضًا، حال كونه ﴿نَافِلَةً﴾؛ أي: ولد ولد، فهو حال من المعطوف عليه، فقط لعدم اللبس، وسمّي يعقوب؛ لأنه خرج عقيب أخيه عيص أو متمسكاً بعقبه، وعاش إسحاق مئة وسبعاً وأربعين سنة، كذا في "التحبير".
وقيل المعنى (٢): وهبناهما لإبراهيم نافلة؛ أي: عطية وفضلًا من غير أن يكونا جزاءاً مستحقاً. فنافلة منصوب على المصدر. وقيل (٣): النافلة الزيادة، وكان إبراهيم قد سأل الله سبحانه، أن يهب له ولدًا، فوهب له إسحاق، ثم وهب لإسحاق يعقوب من غير دعاء، فكان ذلك نافلة؛ أي: زيادة.
٢ - ﴿وَكُلًّا﴾؛ أي: وكل واحد من هؤلاء الأربعة: إبراهيم ولوط وإسحاق
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
٣ - ٧٣ ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ﴾؛ أي: وجعلنا هؤلاء الأربعة ﴿أَئِمَّةً﴾؛ أي: رؤساء يقتدى بهم، في الخيرات، وأعمال الطاعات ﴿يَهْدُونَ﴾؛ أي: يدعون الناس إلى دين الله تعالى، ﴿بِأَمْرِنَا﴾ لهم بذلك، وإذننا لهم فيه؛ أي: بما أنزلنا عليهم من الوحي، حتى صاروا مكملين.
٤ - ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: إلى هؤلاء الأربعة، فيما أوحينا ﴿فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾؛ أي: أن افعلوا الطاعات، واتركوا المحرمات، حتى صاروا كاملين، بانضمام العمل إلى العلم، بناء على أن التكاليف، يشترك فيها الأنبياء والأمم.
٥ - ٦ ﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾ من (١) عطف الخاص على العام، دلالة على فضله، وحذفت تاء الإقامة المعوضة من إحدى الألفين، لقيام المضاف إليه مقامها، أي: وأوحينا إليهم أن أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وقد خصهما بالذكر من بين سائر العبادات؛ لأن الصلاة أشرف العبادات البدنية، والزكاة أفضل العبادات المالية، والمال شقيق الروح، ومجموع العبادتين تعظيم الخالق والشفقة على المخلوق.
وبعد أن بيّن صنوف نعمه عليهم، ذكر اشتغالهم بعبادته، فقال: ﴿وَكَانُوا﴾؛ أي: وكان هؤلاء الأربعة ﴿لَنَا﴾ خاصة دون غيرنا ﴿عَابِدِينَ﴾؛ أي: مطيعين فاعلين لما نأمرهم به، تاركين ما ننهاهم عنه، لا يخطر ببالهم غير عبادتنا، والعبادة غاية التذلل.
٧٤ - وبعد أن ذكر ما أنعم به على إبراهيم، أتبعه بذكر ما أنعم به على لوط، فقال:
١ - ﴿وَلُوطًا﴾ منصوب بمضمر يفسره قوله: ﴿آتَيْنَاهُ﴾؛ أي: وآتينا لوطًا
٢ - ﴿وَعِلْمًا﴾ بأمر دينه وما يجب عليه لله من واجب الطاعة والإخبات له؛ أي: علما نافعًا، يتعلق بأمور الدين، وقواعد الشرع والملة.
٣ - ﴿وَنَجَّيْنَاهُ﴾؛ أي: ونجينا لوطا ﴿مِنَ الْقَرْيَةِ﴾؛ أي: من عذاب أهل قرية سدوم، أعظم القرى المؤتفكة؛ أي: المجعول عاليها سافلها، وهي سبع كما سبق ﴿الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ﴾؛ أي: التي كان أهلها يعملون الأعمال الخبائث، والرذائل الدنيئة (١): من اللواط ورمى المارّة بالبندق، واللعب بالطيور، والتضارط في أنديتهم، وغير ذلك؛ أي: ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل تلك القرية التي كانت تعمل خبائث الأعمال التي من أشنعها إتيان البيوت من غير أبوابها. ثم بيّن السبب الذي دعاهم إلى ذلك فقال: ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: أهل تلك القرية ﴿كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ﴾؛ أي: قومًا أصحاب عمل سيء ﴿فَاسِقِينَ﴾؛ أي: خارجين عن طاعتنا، منهمكين في الكفر والمعاصي، متوغلين في ذلك؛ أي: إن الذي حملهم على ذلك، وجرّأهم على ارتكابه، أنهم كانوا خارجين عن طاعة الله، منتهكين حرماته، قد دسوا أنفسهم بقبيح الأفعال والأقوال، فلا عجب إذا هم لجّوا في طغيانهم يعمهون. وفي (٢) الآية إشارة إلى أن النجاة من الجليس السوء من المواهب، والاقتران معه من الخذلان.
٤ - ٧٥ ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ﴾؛ أي: أدخلنا لوطا ﴿فِي رَحْمَتِنَا﴾؛ أي: في أهل رحمتنا بإنجائه من القوم المذكورين، أو في أهل رحمتنا الخاصة، وهي النبوة، أو وجعلناه في جملة من يستحقون رحمتنا ولطفنا، بإدخاله جنتنا، كما جاء في الحديث الصحيح: "قال الله، عز وجل للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي". ثمَّ ذكر علة هذا بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن لوطًا كان ﴿من عبادنا الصالحين﴾ الذين سبقت لهم منا الحسنى، إذ كان ممن يعملون بطاعتنا، فيأتمرون بأمرنا وينتهون عن نهينا.
(٢) روح البيان.
والمعنى (٢): أي واذكر أيها الرسول نبأ نوح، إذ نادى ربه من قبلك، ومن قبل هؤلاء المذكورين، فسألنا أن نهلك قومه، الذين كذبوا الله، فيما توعدهم به من وعيده، وكذبوه فيما آتاهم به، من الحق عند ربه، فقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ وقال: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ فاستجبنا له دعاءه، ونجيناه وأهل الإيمان من أولاده وأزواجهم، ومن قومه مما حل بالمكذبين من الغرق.
روى أنه بعث وهو ابن الأربعين، ومكث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، فذلك ألف وخمسون سنة. كذا في "التحبير".
٧٧ - ﴿وَنَصَرْنَاهُ﴾؛ أي: ونصرنا نوحًا نصرًا مستتبعًا للانتقام والانتصار، ولذلك عدي بمن حيث قال: ﴿مِنَ الْقَوْمِ﴾؛ أي: انتقمنا له من القوم ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: بحججنا وأدلتنا كلها أولًا وآخرًا. وقيل: من بمعنى على؛ أي نصرناه على القوم الذين كذبوا بآياتنا، قاله أبو عبيدة. وقيل: معنى نصرناه؛ أي: حفظناه من أن يصلوا (٣) إليه بسوء مع طول مكثه فيهم.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
والمعنى: أي لأنهم كانوا يسيئون الأعمال فيعصون الله، ويخالفون أوامره ويتصدون لأذى نبيهم، ويتواصون جيلاً بعد جيل، بمخالفة أمره، ورفع راية العصيان في وجهه.
٧٨ - ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾؛ أي: واذكر أيها الرسول نبأ داود وسليمان وقصتهما ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ فِي﴾ شأن ﴿الْحَرْثِ﴾ والزرع. قيل: كان زرعاً. وقيل: كرمًا. واسم الحرث يطلق عليهما ﴿إِذْ نَفَشَتْ﴾ وانتشرت وتفرقت ورعت. ظرف للحكم ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك الزرع ﴿غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ ليلا ترعى بلا راع، فرعته وأفسدته، فإن النفش أن ينتشر الغنم ليلًا بلا راع. والغنم محركة، الشاة، لا واحد لها من لفظها. الواحدة شاة، كما سيأتي في مبحث التصريف ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ﴾؛ أي: لحكم (١) داود وسليمان، فذكرهما بلفظ الجمع؛ لأن الاثنين جمع، كذا قاله الفراء، وفيه دليل لمن يقول، بأن أقل الجمع اثنان. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن أبي عبلة ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ﴾ على التثنية، أو المعنى لحكمهم؛ أي: لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما، قاله أبو سليمان الدمشقي ﴿شَاهِدِينَ﴾؛ أي: حاضرين غير غائبين؛ أي: كان ذلك بعلمنا ومرأى منا، لا يخفى علينا من أمرهم شيء.
فإن قيل (٢): كيف يجوز أن يجعل الضمير لمجموع الحاكمين، والمتحاكمين، وهو يستلزم إضافة المصدر إلى فاعله ومفعوله دفعةً واحدةً، وهو
(٢) روح البيان.
فالجواب: أن هذه الإضافة لمجرد الاختصاص، مع كون القطع عن كون المضاف إليه فاعلًا أو مفعولًا، على طريق عموم المجاز، كأنه قيل: وكنا للحكم المتعلق بهم ﴿شَاهِدِينَ﴾ حاضرين علمًا، وهو مفيد لمزيد الاعتناء بشأن الحكم. وجملة قوله: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ اعتراضية (١).
٧٩ - وجملة قوله: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا﴾ معطوفة على ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ﴾؛ لأنه في حكم الماضي. وقرأ عكرمة: ﴿فَأفَهَّمْنَاهَا﴾ عُدي بالهمزة كما عدى في قراءة الجمهور بالتضعيف، فالضمير في ﴿فَفَهَّمْنَاهَا﴾ للحكومة أو الفتوى؛ أي: ففهمنا الحكومة ﴿سُلَيْمَانَ﴾ وهو ابن إحدى عشرة سنة. قال في "التأويلات النجمية". يشير إلى رفعة درجة بعض المجتهدين على بعض، وأن الاعتبار في الكبر والفضيلة بالعلم، وفهم الأحكام والمعاني والأسرار، لا بالسن، فإنه فهم بالأحق والأصوب، وهو ابن صغير، وداود نبي مرسل كبير.
وفي القصص (٢): أن بني إسرائيل حسدوا سليمان على ما أوتي من العلم في صغر سنه، فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود إن الحكمة تسعون جزءًا، سبعون منها في سليمان، وعشرون في بقية الناس؛ أي: علّمناه وألهمناه حكم القضية ﴿وَكُلًّا﴾؛ أي: كل واحد من داود وسليمان ﴿آتَيْنَا﴾؛ أي: أعطيناه ﴿حُكْمًا﴾ أي: فيصلاً؛ أي: علم فصل بين الخصوم ﴿وَعِلْمًا﴾ كثيرًا نافعًا في الدين والدنيا، لا سليمان وحده، فحكم كليهما حكم شرعي. وعاش دادو مئة سنة، وابنه سليمان تسعًا وخمسين سنة. كذا في "التحبير".
والمعنى: أي (٣) واذكر أيها الرسول الكريم نبأ داود وسليمان عليهما السلام حين حكما في الزرع الذي رعته غنمٌ لقوم آخرين غير صاحب الحرث، ليلًا
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وقد روى الرواة في تفصيل هذه القصة: أن رجلين دخلا على داود، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا الرجل أرسل غنمه في حرثي، فلم تبق منه شيئًا، فقال داود: اذهب فإن الغنم كلها لك. ومر صاحب الغنم بسليمان، فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود، فقال: يا نبي الله، إن القضاء سوى الذي قضيت، فقال: كيف؟ قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له منافعها من درّها وأولادها وأشعارها، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان، ثم يترادَّان فيأخذ صاحب الحرث حرثه، وصاحب الغنم غنمه. فقال داود: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك.
وجه الرأي لدى كل منهما (١)، أن داود قدر الضرر في الحرث، فكان مساويًا لقيمة الغنم، فسلم الغنم للمجني عليه، وأن سليمان قدر منافع الغنم بمنافع الحرث فحكم بها، وكان حكمهما بالاجتهاد دون الوحي، إذ لو كان به ما أمكن تغييره.
فإن قلت: فما حكم (٢) هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية؟
قلت: قد ثبت عن النبي - ﷺ - من حديث البراء، أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها، وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عينًا، أو قيمةً. وقد ذهب جمهور فيه العلماء، إلى العمل بما تضمنّه هذا الحديث. وقد ذهب أبو
(٢) الشوكاني.
ولما مدح داود وسليمان علي سبيل الاشتراك، ذكر ما يختص بكل واحد منهما، نبدأ بداود، فقال: ﴿وَسَخَّرْنَا﴾؛ أي: وذلّلنا ﴿دَاوُودَ الْجِبَالَ﴾ و ﴿مَعَ﴾ متعلقة بالتسخير، وهو تذليل الشيء وجعله طائعًا منقادًا، وقوله: ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ حال من الجبال؛ أي (١): حالة كونهن يقدسن الله تعالى، بحيث يسمع الحاضرون تسبيحهن، فإنه هو الذي يليق بمقام الامتنان، لا انعكاس الصدى، فإنه عام. وكذا ما كان بلسان الحال فاعرف؛ أي: (٢) ينطق بالتسبيح، وكان داود يسبح وحده، فالله تعالى خلق فيها الكلام، كما سبّح الحصى في كف رسول الله - ﷺ - وسمع الناس ذلك.
وقال أبو حيان (٣): قيل كان يمر بالجبال مسبّحًا وهي تجاوبه. وقيل: كانت تسير معه حيث سار. والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق، خلق الله فيها الكلام كما سبّح الحصى في كف رسول الله - ﷺ -، وسمع الناس ذلك، وكان داود يسمعه، قاله يحيى بن سلام. وقيل: كل واحد.
وقوله: ﴿وَالطَّيْرَ﴾ بالنصب عطفًا على الجبال؛ أي: وسخرنا الطير معه حالة كونها تسبّح معه. وقدمت الجبال على الطير (٤) لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز؛ لأنها جماد، والطير حيوان،
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
ومعنى الآية: أي (٢) وسخرنا الجبال والطير لداود، تقدس الله معه، بحيث تتمثل له مسبحة، فيكون ذلك أملك لوجدانه وجميع مشاعره، فيستغرق في التسبيح، وكنا فاعلين لأمثاله، فليس ذلك ببدع منا، وإن كنتم تعجبون منه، فإن المستغرقين في التسبيح والتقديس يحصل لهم من الأنس بالله ما يجعل العالم كله في نظرهم مسبحًا، وكأن العوالم كلها تنطق لهم به، بلسان أفصح من لسان المقال، ولا يدرك هذا أحد إلا بوجدانه. ونحو الآية قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾.
٨٠ - ﴿وَعَلَّمْنَاهُ﴾؛ أي: وعلمنا داود ﴿صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾؛ أي: عمل الدروع وإصلاحها والصنع (٣) وهذا الصنعة إجادة الفعل، فكل صنع فعل، وليس كل فعل صنعًا، والصناعة حرفة الصانع كالكتابة والحياكة، وعمل الصنعة. واللبوس في الأصل: اللباس درعًا كان أو غيرها، وكانت الدروع قبل داود صفائح؛ أي: قطع حديد عراضا، فحلقها وسردها ﴿لَكُمْ﴾ أي: لأجل نفعكم يا أهل مكة فإن الله تعالى ألان الحديد لداود، فكان يعمل منه بغير نار، كأنه طين، فهو متعلق بـ "علمنا"، أو بمحذوف هو صفة ﴿لبوس﴾.
والمعجزة فيه أنه فعل ذلك من غير استعانة بأداة وآلةٍ، من نحو الكير والنار
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي (١) وعلمناه صنعة الدروع، وقد كانت صفائح، فجعلها حلقا فتمنع عنكم إذا لبستموها ولقيتم أعداءكم أذى الحرب، من قتل وجرح ونحوهما ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ لهذه النعمة التي أنعمنا بها عليكم. والاستفهام هنا في معنى الأمر؛ أي: فاشكروا الله تعالى على ما يسره لكم من هذه الصنعة، التي تمنع عنكم غوائل الحروب، وتقيكم ضررها وعظيم أذاها. والخطاب (٢) فيه لهذه الأمة، من أهل مكة ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أخبر الله تعالى، أن أول من عمل الدروع داود، ثم تعلم الناس، فعمّت النعمة بها كل محارب، من الخلق، إلى آخر الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على هذه النعمة.
وقال بعضهم: الخطاب لداود وأهل بيته، بتقدير القول؛ أي: فقلنا لهم بعدما أنعمنا عليهم بهذه النعم، فهل أنتم شاكرون، على ما أعطى لكم من النعم، التي ذكرت، من تسخير الجبال له، والطير، وإلانة الحديد، وعلم صنعة اللبوس.
وقرىء (٣): ﴿لُبوس﴾ بضم اللام، والجمهور بفتحها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي (٤): ﴿ليحصنكم﴾ بالياء. وقرأ ابن عامر وحفص عن
(٢) روح البيان.
(٣) زاد المسير.
(٤) البحر المحيط.
فمن قرأ بالياء ففيه أربعة أوجه: قال أبو علي الفارسي: أن يكون الفاعل اسم الله لتقدم معناه، ويجوز أن يكون اللباس؛ لأن اللبوس بمعنى اللباس، من حيث إنه كان ضربًا منه، ويجوز أن يكون داود، ويجوز أن يكون التعليم. وقد دل عليه ﴿علمناه﴾. ومن قرأ بالتاء حمله على المعنى؛ لأنه الدرع. ومن قرأ بالنون فلتقدم قوله: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ﴾، ومعنى لتحصنكم: لتحرزكم وتمنعكم من بأسكم؛ أي: من حربكم كما مرّ.
٨١ - ﴿و﴾ سخّرنا ﴿لسليمان الريح﴾ عبّر هنا باللام الدالة على التمليك، وفي حق داود بـ ﴿مع﴾ الدالة على الاصطحاب؛ لأن الجبال والطير لما اشتركا معه في التسبيح، ناسب فيه ذكر (مع) الدالة على الاصطحاب، ولما كانت الريح مستخدمة لسليمان، أتى بلام الملك؛ لأنها في طاعته وتحت أمره، اهـ من "البحر". والريح (١) جسم لطيف متحرك، ممتنع بلطفه، من القبض عليه، يظهر للحس بحركته، ويخفى عن البصر بلطفه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿الريح﴾ مفردًا بالنصب. وقرأ ابن هرمز وأبو بكر في رواية بالرفع مفردًا. وقرأ الحسن وأبو رجاء ﴿الرياح﴾ بالجمع والنصب. وقرأ بالجمع والرفع أبو حيوة. فالنصب على إضمار سخرنا، والرفع على الابتداء.
(٢) البحر المحيط.
وعبارة "الخازن" هنا: فإن قلت: قد وصف الله سبحانه، هنا الريح بالعصف، وفي آية أخرى بالرخاء، وهي الريح الليّنة، فبين الوصفين معارضة؟
قلتُ: لا منافاة بينهما؛ لأن الريح كانت تحت أمره، إن أراد أن تشتدّ، اشتدت، وإن أراد أن تلين لانت، انتهت.
وحالة كونها ﴿تَجْرِي﴾؛ أي: الريح ﴿بِأَمْرِهِ﴾؛ أي: بأمر سليمان وإذنه ومشيئته ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾ الشامية ﴿الَّتِي بَارَكْنَا﴾؛ أي: أنزلنا البركة ﴿فِيهَا﴾ للعالمين بكثرة المياه والأنهار والأشجار، وكانت الريح تذهب به، غدوة من الشام إلى ناحية من نواحي الأرض، وبينها وبين الشام مسيرة شهر، إلى وقت الزوال، ثم ترجع به منها بعد الزوال إلى الشام عند الغروب، كما قال تعالى: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ والمعنى؛ أي (٢): وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، شديدة الهبوب تارةً، ورخاء لينة تارة أخرى، وفي كل حال منهما تجري بأمره إلى أي بقعة من الأرض المقدسة، فيخرج هو وأصحابه حين الغداة إلى حيث شاؤوا، ثم يرجعون في يومهم إلى منزله بالشام.
قال مقاتل: عملت الشياطين لسليمان بساطًا فرسخًا في فرسخ من ذهب في إبريسم، وكان يوضع له منبر من ذهب في وسطه، فيقعد عليه، وحوله كراسي من ذهب وفضة، يقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تطلع عليه الشمس، وترفع الريح الصبا، البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، ومن الرواح إلى الغروب، وكان عليه السلام امرأ، قلّما يقعد عن الغزو،
(٢) المراغي.
٨٢ - ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ﴾؛ أي: وسخرنا له من الشياطين والجن، ﴿مَنْ يَغُوصُونَ﴾؛ أي: يدخلون تحت البحر، ويستخرجون ﴿لَهُ﴾؛ أي: لسليمان من نفائس البحر وجواهره ودرره، من اللؤلؤ والمرجان ونحو ذلك ﴿و﴾ من ﴿يَعْمَلُونَ﴾ له ﴿عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ المذكور؛ أي: عملًا آخر غير ذلك المذكور، من الغوص في البحر، كبناء المدن والمحاريب والتماثيل والقصور والجفان ونحو ذلك، واختراع الصنائع الغريبة، وهؤلاء (١) إما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة ﴿مَنْ﴾، كأنه قيل: ومن يعملون. روي أن المسخر له كفارهم لا مؤمنوهم، لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ﴾. ﴿وَكُنَّا﴾ نحن ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء الشياطين المسخرين له ﴿حَافِظِينَ﴾ من أن يزيغوا عن أمره ويعصوا ويتمردوا عليه، أو يفسدوا ما عملوا على ما هو مقتضى جبلتهم، وكان دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار. والشياطين وإن كانوا أجسامًا لطيفة، لكنهم يتشكلون بأشكال مختلفة، ويقدرون على الأعمال الشاقة. ألا ترى أن لطافة الريح لا تمنع عصوفها، لا سيما أنهم تكشفوا في زمن سليمان، فكانوا بحيث يراهم الناس ويستعملونهم في الأعمال. وقال في "الأسئلة المقحمة": فلماذا لم تخرج الشياطين عن طاعة سليمان مع استعمالهم في تلك الأمور الشديدة؟ فالجواب أن الله تعالى، أوقع لسليمان في قلوبهم من الخوف والهيبة، حتى خافوا أن يخرجوا عن طاعته، وهذا من معجزاته.
والمعنى: أي (٢) وكنا حافظين لأعمالهم، فلا يناله أحد منهم بسوء، فكل في قبضته، وتحت قهره، لا يجسر على الدنو منه، وهو المتحكم فيهم، إن شاء حبس، وإن شاء أطلق، كما قال: ﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾.
(٢) المراغي.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: مفعول أول. ﴿رُشْدَهُ﴾ مفعول ثان. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ جار ومجرور، حال من إبراهيم؛ أي: حالة كونه من قبل موسى وهارون، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ﴾. ﴿وَكُنَّا﴾: الواو: عاطفة ﴿كنا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿عَالِمِينَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿آتَيْنَا﴾ أو متعلق بـ ﴿اذكر﴾ محذوفًا. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿لِأَبِيهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿وَقَوْمِهِ﴾ معطوف على ﴿أبيه﴾، وجملة ﴿قَالَ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿مَا﴾: اسم استفهام للاستفهام التوبيخي، في محل الرفع مبتدأ، ﴿هَذِهِ﴾ خبر. ﴿التَّمَاثِيلُ﴾ بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول قال، ﴿الَّتِي﴾ صفة للتماثيل. ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ. ﴿لَهَا﴾ متعلق بـ ﴿عَاكِفُونَ﴾. ﴿عَاكِفُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول.
﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٥٤) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿وَجَدْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿آبَاءَنَا﴾ مفعول أول ومضاف إليه. ﴿لَهَا﴾ متعلق بـ ﴿عَابِدِينَ﴾ ﴿عَابِدِينَ﴾ مفعول ثان، وجملة وجد في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة. ﴿لَقَدْ كُنْتُمْ...﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾. وإن شئت قلت: ﴿اللام﴾، موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿أَنْتُمْ﴾ تأكيد لتاء
﴿قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة. ﴿بَلْ رَبُّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿مُدْبِرِينَ﴾ مقول محكي. وإن شئت قلت: ﴿بَلْ﴾: حرف ابتداء وإضراب. ﴿رَبُّكُمْ﴾ مبتدأ ومضاف إليه. ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ﴾ خبر ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على السموات، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿الَّذِي﴾ اسم موصول، في محل الرفع. صفة لـ ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿فَطَرَهُنَّ﴾ فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿وَأَنَا﴾ مبتدأ. ﴿عَلَى ذَلِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿الشَّاهِدِينَ﴾. ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَتَاللَّهِ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة و ﴿التاء﴾ حرف جر وقسم. ﴿الله﴾ مقسم به مجرور بتاء القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم تالله، والجملة القسمية في محل النصب معطوفة على جملة بل ربكم على كونها مقول قال. ﴿لَأَكِيدَنَّ﴾ اللام موطئة للقسم. ﴿أكيدن﴾ فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿أَصْنَامَكُمْ﴾ مفعول به، والجملة جواب
﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (٦٠) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ. ﴿فَعَلَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿هَذَا﴾ مفعول به. ﴿بِآلِهَتِنَا﴾ متعلق بـ ﴿فَعَلَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول قالوا. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَمِنَ﴾ اللام: حرف ابتداء. ﴿من الظالمين﴾ جار ومجرور خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول قالوا، مسوقة لتأكيد إنكار ما قبلها. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿سَمِعْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿فَتًى﴾: مفعول أول لـ ﴿سمع﴾، وجملة ﴿يَذْكُرُهُمْ﴾ في محل النصب مفعول ثان له؛ لأن سمع هنا دخل على ما لا يسمع، فيتعدى إلى مفعولين، بخلاف ما إذا دخل على ما يسمع، كسمعت كلام زيد، يقول كذا
﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَأَنْتَ﴾ الهمزة للاستفهام التوبيخي. ﴿أنت﴾: مبتدأ، ﴿فَعَلْتَ هَذَا﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِآلِهَتِنَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول قالوا. ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول قالوا. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة. ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب وابتداء. ﴿فَعَلَهُ﴾: فعل ومفعول. ﴿كَبِيرُهُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه. ﴿هَذَا﴾ نعت لـ ﴿كَبِيرُهُمْ﴾، أو بدل منه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَاسْأَلُوهُمْ﴾ الفاء عاطفة. ﴿اسألوهم﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وجملة ﴿يَنْطِقُونَ﴾ في محل النصب خبر
﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٧)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿نُكِسُوا﴾: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قالوا﴾. ﴿عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ جار ومجرور حال من الواو؛ أي: حال كونهم كائنين على رؤوسهم، أو متعلق بـ ﴿نُكِسُوا﴾. ﴿لَقَدْ﴾ اللام موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿عَلِمْتَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم في محل النصب، مقول لقول محذوف، حال من الواو في نكسوا، تقديره: ثم نكسوا على رؤوسهم، حالة كونهم قائلين: والله لقد علمت. ﴿مَا﴾ حجازية. ﴿هَؤُلَاءِ﴾ في محل الرفع اسمها، وجملة ﴿يَنْطِقُونَ﴾ في محل النصب خبرها، وجملة ما الحجازية في محل النصب، سادّة مسد مفعولي علم، إن كانت يقينية، أو مسدّ مفعوله إن كانت عرفانية. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿أَفَتَعْبُدُونَ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿تعبدون﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أتعلمون عدم نطقها فتعبدون. والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من واو تعبدون؛ أي: حالة كونهم متجاوزين الله. ﴿مَا﴾ موصولة في محل النصب مفعول
﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٦٨) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٦٩) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿حَرِّقُوهُ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿حَرِّقُوهُ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَاعِلِينَ﴾ خبره، وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية محذوف دل عليه ما قبلها، تقديره: إن كنتم فاعلين فحرقوه وانصروا آلهتكم، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قُلْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا نَارُ﴾ منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء في محل النصب مقول قلنا. ﴿كُونِي﴾: فعل أمر ناقص واسمه. ﴿بَرْدًا﴾، خبر كوني. ﴿وَسَلَامًا﴾: معطوف عليه، وجملة كوني في محل النصب، مقول ﴿قُلْنَا﴾ على كونه جواب النداء. ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ جار ومجرور صفة ﴿سَلَامًا﴾. ﴿وَأَرَادُوا﴾ فعل وفاعل، ﴿بِهِ﴾ متعلق به. ﴿كَيْدًا﴾ مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ﴾ الفاء عاطفة. ﴿جعلناهم﴾ فعل وفاعل ومفعول
﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (٧٢)﴾.
﴿وَنَجَّيْنَاهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿نجيناه﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَلُوطًا﴾ معطوف على ضمير المفعول، أو مفعول معه، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ﴾ ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿نجينا﴾، أو متعلق بمحذوف حال، من ضمير المفعول والمعطوف عليه؛ أي: حال كونهما مهاجرين إلى الأرض. ﴿الَّتِي﴾ صفة للأرض. ﴿بَارَكْنَا﴾ فعل وفاعل، ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿بَارَكْنَا﴾. ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير فيها. ﴿وَوَهَبْنَا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿نجينا﴾. ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿وهبنا﴾. ﴿إِسْحَاقَ﴾ مفعول به. ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ معطوف على ﴿إِسْحَاقَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿نجيناه﴾. ﴿نَافِلَةً﴾ حال من ﴿يعقوب﴾؛ أي: ووهبنا له يعقوب، حالة كونه زيادة من غير سؤال؛ لأن المعنى ووهبنا له إسحاق إجابة لسؤاله، ويعقوب زيادة على مسؤوله، ويصح أن يكون مفعولًا مطلقًا، معنويًا لـ ﴿وهبنا﴾؛ لأن الهبة والعطية متقاربتان. ﴿وَكُلًّا﴾ مفعول أول لـ ﴿جَعَلْنَا﴾ مقدم عليه. ﴿جَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿صَالِحِينَ﴾: مفعول ثان له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿وهبنا﴾.
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٧٣)﴾.
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾ فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة ﴿جعلنا﴾. ﴿يَهْدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صفة لـ ﴿أَئِمَّةً﴾. ﴿بِأَمْرِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من واو ﴿يَهْدُونَ﴾، تقديره: يهدون إلى ديننا ملتبسين بأمرنا. ﴿وَأَوْحَيْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿إِلَيْهِمْ﴾ متعلق به. ﴿فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾. مفعول به. ﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾: معطوفان على ﴿فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ﴾. ﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه.
﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)﴾.
﴿وَلُوطًا﴾: منصوب بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وآتينا لوطًا، فهو مفعول أول له، فهو من باب الاشتغال، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة ﴿وَأَوْحَيْنَا﴾، ﴿آتَيْنَاهُ﴾ مفسرة، لا محل لها من الإعراب. ﴿حُكْمًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿آتيناه﴾ المحذوف. ﴿وَعِلْمًا﴾: معطوف على ﴿حُكْمًا﴾. ﴿وَنَجَّيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آتَيْنَاهُ﴾. ﴿مِنَ الْقَرْيَةِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نجيناه﴾. ﴿الَّتِي﴾ صفة لـ ﴿الْقَرْيَةِ﴾. ﴿كَانَتْ﴾ فعل ناقص واسمها ضمير مستتر، يعود على الموصول. ﴿تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على القرية وجملة ﴿تَعْمَلُ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿قَوْمَ سَوْءٍ﴾ خبره. ﴿فَاسِقِينَ﴾: صفة ﴿قَوْمَ﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿نجيناه﴾. ﴿فِي رَحْمَتِنَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أدخلنا﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة.
﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)﴾.
﴿وَنُوحًا﴾: معطوف على ﴿لوطا﴾، فيكون مشتركًا معه في عامله، الذي هو ﴿آتينا﴾ المفسربـ ﴿آتَيْنَاهُ﴾ الظاهر، وكذلك داود وسليمان، والتقدير: ونوحًا آتيناه حكمًا، وداود وسلميان آتيناهما حكما. و ﴿إِذْ﴾ بدل اشتمال من نوحًا، وداود وسليمان، ولك أن تعرب نوحًا وداود وسليمان مفعولًا به لفعل محذوف،
﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (٧٩)﴾.
﴿وَدَاوُودَ﴾: مفعول لفعل محذوف تقديره: واذكر داود. ﴿وَسُلَيْمَانَ﴾ معطوف عليه كما مر. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بالمضاف المقدر، كما مر، تقديره: واذكر خبر داود وسليمان الواقع في وقت كذا وكذا. ﴿يَحْكُمَانِ﴾ فعل وفاعل. ﴿فِي الْحَرْثِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿إِذْ نَفَشَتْ﴾ إذ ظرف لما مضى. بدل من إذا الأولى، على كونه متعلقًا بالمضاف المحذوف. ﴿نَفَشَتْ﴾ فعل ماض. ﴿فِيهِ﴾ متعلق به. ﴿غَنَمُ الْقَوْمِ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿وَكُنَّا﴾ الواو: اعتراضية. ﴿كنا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لِحُكْمِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿شَاهِدِينَ﴾.
﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (٨٠)﴾.
﴿وَعَلَّمْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾ مفعول ثان. و ﴿لَبُوسٍ﴾ مضاف إليه. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿علمناه﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿سَخَّرْنَا﴾. ﴿لِتُحْصِنَكُمْ﴾ اللام حرف جر وتعليل. ﴿تحصنكم﴾ فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على ﴿صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾. ﴿مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تحصنكم﴾ والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: لإحصانها إياكم، الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور قبله، على كونه متعلقًا بعلّمناه. ﴿فَهَلْ﴾ الفاء: استئنافية. ﴿هل﴾ حرف استفهام للاستفهام التوبيخي، ﴿أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة.
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (٨٢)﴾.
﴿وَلِسُلَيْمَانَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لسليمان﴾: متعلق بمحذوف تقديره: وسخرنا لسليمان، والجملة المحذونة، معطوفة على جملة ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿رُشْدَهُ﴾ الرشد: الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا، والاسترشاد الإلهي. كما في "أبي السعود".
﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ﴾ واحدها تمثال، وهو الصورة المصنوعة على شبه مخلوق من صنع الله كطير، أو شجر، أو إنسان، والمراد بها هنا الأصنام، سمّاها بذلك تحقيرًا لشأنها، وهذا الوزن فيه زائدان: أحدهما قبل الفاء. والآخر قبل اللام، وقد جاء اسما وصفة، فالاسم تمثال للصورة، ويجمع على تماثيل. وقالوا: تجفاف وتبيان، فالتجفاف واحد تجافيف الفرس، وهو ما يلبس عند الحرب
﴿والعكوف﴾ على الشيء: ملازمته والإقبال عليه ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالشيء الثابت في الواقع ﴿اللَّاعِبِينَ﴾؛ أي: الهازلين ﴿فَطَرَهُنَّ﴾؛ أي: أنشأهن ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾؛ أي: المتحققين صحته المثبتة بالبرهان ﴿لَأَكِيدَنَّ﴾ الكيد: الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه، والمراد المبالغة في إلحاق الأذى بها.
﴿جُذَاذًا﴾؛ أي: قطاعًا فعال بمعنى المفعول، من الجد الذي هو القطع، كالحطام من الحطم، الذي هو الكسر. وفي "القاموس": الجذ القطع المستأصل والكسر، والاسم الجذاذ. والجذاذ بتثليث الجيم ما تكسر من الشيء، وفعله جد يجد من باب نصر ﴿فَتًى﴾ هو الطري من الشبان.
﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ من قولهم: نكس المريض؛ إذا عاد إلى مرضه الأول بعد العافية. والنكس قلب الشيء، ورد آخره على أوله. والتنكيس القلب أيضًا، يقال: نكس رأسه ونكسه مخففًا ومشددًا؛ أي طاطأه حتى صار أعلاه أسفله ﴿بَرْدًا وَسَلَامًا﴾ البرد خلاف الحر، والسلام التعري من الآفات.
﴿نَافِلَةً﴾ قال في "القاموس": النافلة: الغنيمة والعطية، وما تفعله، مما لم يجب كالنفل، وولد الولد.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ قال بعضهم: جعلوا المصدر من المبني للمفعول بمعنى، أن يفعل الخيرات بناء على أن التكاليف يشترك فيها الأنبياء والأمم، ولكن قوله في أواخر هذه السورة: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾، وقوله تعالى في سورة مريم حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَأَوْصَانِي
﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ القاعدة في مصدر الفعل، الرباعي على وزن أفعل، أن يأتي على إفعال، إن كان صحيح العين، نحو أكرم إكرامًا، وأوجد إيجادًا، فإن اعتلت عينه، نحو أقام وأعان وأبان، جاء مصدره على إفالة كإقامة وإعانة وإبانة، حذف عين المصدر، وعوّض منها تاء التأنيث، والأصل: إقوام وأءعوان وإبيان، فنقلت حركة الواو والياء، وهي الفتحة إلى الحرف الساكن قبلهما، ثم حذفتا، فرارًا من اجتماع الساكنين، وعوض منهما التاء، وقد تحذف هذه التاء من المصدر إذا أضيف، كقوله تعالى: ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾، وما كان منه معتلّ اللام، مثل: أعطى وأهدى وأولى، قلبت لامه في المصدر همزة، مثل: إعطاء وإهداء وإيلاء، والأصل إعطاو وإهداي وإيلاي. قال في "شرح القاموس": العرب تهمز الواو والياء إذا جاءتا بعد ألف؛ لأن الهمزة أحمد للحركة منهما؛ ولأنهم يستثقلون الوقف على الواو، وكذلك الياء مثل الرداء أصله رداي، هذا ويرجع في هذا إلى بحث الإبدال، في كتب الصرف المطولة.
﴿الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ﴾ والخبائث جمع خبيثة، والخبيثة: ما يكره رداءةً وخساسةً، يتناول الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح في الفعال ﴿قَوْمَ سَوْءٍ﴾ قال الراغب: السوء: كل ما يغمّ الإنسان، من الأمور الدنيوية والأخروية، ويعبر به عن كل ما يقبح، وهو مقابل الحسن.
﴿فَاسْتَجَبْنَا﴾ قال في "بحر العلوم": الاستجابة الإجابة، لكن الاستجابة تتعدى إلى الدعاء بنفسها، وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه، أو استجاب له، ولا يكاد يقال: استجاب دعاءه، وهو الدليل على أن النداء المذكور بمعنى الدعاء؛ لأن الاستجابة تقتضي دعاءه.
﴿مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ قال الراغب: الكرب: الغم الشديد، من كرب
﴿فِي الْحَرْثِ﴾ الحرث: الزرع، وبابه نصر، أو كتب كما في "المختار". وفي "القاموس": الحرث مصدر، والأرض التي تستنبت بالبذر والنوى والغرس. قال ابن عباس وأكثر المفسرين: أن الحرث كان كرمًا، قد تدلت عناقيده. وقيل: كان زرعًا.
﴿نَفَشَتْ﴾ تفرقت وانتشرت فيه فرعته وأفسدته. وفي "المختار": نفشت الغنم والإبل؛ أي: رعت ليلًا بلا راع، من باب جلس. والنفش - بفتحتين - اسم منه، ومنه قوله تعالى: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾، ولا يكون النفش إلّا بالليل، ونفش الصوف والقطن، من باب نصر، والنفش تشعيب الشيء بأصابعك حتى ينتشر، والنفش أيضًا أن ينتشر الغنم ليلًا بلا راع.
﴿الغنم﴾ محركة، الشاة، لا واحد لها من لفظها، الواحدة شاة، وهو اسم مؤنث للجنس، يقع على الذكور والإناث، وعليهما جميعًا، كما في "القاموس".
﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ﴾ قال في "المختار": التسخير: التكليف للعمل بلا أجرة، وسخرة تسخيراً، إذا كلفه عملًا بلا أجرة، اهـ ﴿والطير﴾ جمع طائر، مثل صحب وصاحب وركب وراكب، وجمع الطير طيور وأطيار، ويقع الطير على الواحد والجمع. وقال ابن الأنباري: الطير جماعة، وتأنيثها أكثر من التذكير. ولا يقال للواحد طير، بل طائر، وقلما يقال للأنثى طائرة، اهـ.
﴿لبوس﴾ اللبوس اللباس، قالوا: إلبس، لكل حال لبوسها. والمراد: الدرع قال قتادة: كانت صفائح، فأول من سردها وخلقها، داود، فجمعت الخفة والتحصين، وهي المسماة، بالدرع، والدرع - كما في "المختار" - مؤنثة، وقال أبو عبيدة: تؤنث وتذكر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآية ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
ومنها: العدول عن علي، التي يتعدى بها فعل العكوف، إلى اللام في قوله: ﴿أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ لقصد معنى العبادة، من العكوف ليجيبوه بقوله: ﴿وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ تسجيلًا عليهم بالتقليد، والقول بغير برهان، والانجرار إلى ما عليه آباؤهم.
ومنها: المخالفة بين الجملتين في قوله: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥)﴾ لملاحظة التجدد في إحداهما، حيث أبرزها في صورة الفعلية بقوله: ﴿أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ﴾، ولملاحظة الثبات والدوام في الأخرى، حيث أبرزها في صورة الاسمية بقوله: ﴿أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ والمعنى: أحدثت عندنا الإتيان بالحق، وهو التوحيد فيما نسمعه منك، أم أنت على ما كنت عليه من اللعب، منذ أيام الصبا، وأرادوا بالتجدد في الجملة، أن التوحيد أمر مستحدث مخترع، وبالثبات في الثانية، أنه على عادتهم المستمرة من اللعب تحقيرًا له.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾؛ لأن الكيد حقيقة في الاحتيال. في إيصال الضرر إلى الغير، بطريق خفي، وهو هنا كناية عن الاجتهاد في إزالتها، فتجوّز به عنه إما استعارة، أو استعمالًا له في لازمه؛ لأن الكيد يستلزم الاجتهاد "الجمل" بتصرف.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾؛ لأنه ليس المراد هنا حقيقة الشهادة؛ لأنه لا شهادة من المدعي، بل استعيرت الشهادة لتحقيق الدعوى بالحجة والبرهان؛ أي: لست من اللاعبين في الدعاوى، بل من المحتجين عليها بالبراهين القاطعة، التي بمنزلة الشاهد الذي تقطع به الدعاوى، اهـ "روح البيان".
ومنها: تقديم الظرف في قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ للاختصاص أو لمجرد الاهتمام.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ أراد إبراهيم عليه السلام، أن يبيّن لهم، أن من لا يتكلم، ولا يعلم، ليس بمستحق للعبادة، ولا يصح في العقل، أن يطلق عليه أنه إله، فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم، بما يوقعهم في الاعتراف، بأن الجمادات التي عبدوها، ليست بآلهة؛ لأنهم إذا قالوا: لا ينطقون، قال لهم: فكيف تعبدون من يعجز عن النطق، ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان، الذي هو فيه، فهذا الكلام من فرض الباطل مع الخصم، حتى تلزمه الحجة، ويعترف بالحق، فإن ذلك أقطع لشبهته، وأدفع لمكابرته.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ شبّه رجوعهم عن الحق إلى الباطل، بانقلاب الشخص، جتى يصبح أسفله أعلاه، بطريق الاستعارة التصريحية.
ومنها: الطباق بين ﴿يَنْفَعُكُمْ﴾ و ﴿يَضُرُّكُمْ﴾.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿كُونِي بَرْدًا﴾ حيث أطلق المصدر، وأراد اسم الفاعل مبالغة؛ أي: باردة، أو ذات برد.
ومنها: عطف الخاص على العام اهتماماً بشأنه في قوله: ﴿فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾؛ لأن الصلاة والزكاة من الخيرات، وإنما خصهما بالذكر تنبيهًا على علو شأنهما وفضلهما.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ﴾ والمراد أهلها، من إطلاق المحل وإرادة الحال، والعلاقة الحالية.
ومنها: الاحتراس في قوله: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ دفعاً لتوهم انتقاص مقام داود عليه السلام.
ومنها: حكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها في قوله: ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾، وفي قوله: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾.
ومنها: جمع المختلف والمؤتلف في قوله: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ الخ وهو عبارة، عن أن يريد المتكلم التسوية، بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما، ثم يروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر، بزيادة فضل لا ينقص مدح الآخر، فيأتي لأجل ذلك الترجيح بمعان تخالف معاني التسوية.
والآية الكريمة ساوت بين داود وسليمان، في التأهل للحكم، وشرّكت بينهما فيه حيث قالت: ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ وأخبرت أن الله سبحانه، فهم سليمان إصابة الحكم، ففضل أباه بذلك بعد المساواة، ثم التفت سبحانه، إلى مراعاة حق الوالد فقال: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ فرجعا بذلك إلى المساواة بعد ترجيح سليمان، ليعلم الولد بذلك برّ الوالد، ويعرف ما له عليه من الحق، حتى إذا فكر الناظر في هذا الكلام، وقال: من أين جاءت المساواة في الحكم، والعلم بعد الإخبار، بأن سليمان فهم من الحكم، ما لم يفهمه أبوه، علم أن حق الأبوة قام مقام تلك الفضيلة، فحصلت المساواة.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي التشنيعي في قوله: ﴿فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا﴾.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ حيث أكّد بإن، وباللام، وبإسمية الجملة.
ومنها: تبكيتهم وتعجيزهم في قوله: ﴿إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾؛ لأنه على إرادة القول؛ أي: قائلين: لقد علمت يا إبراهيم.
ومنها: الإطلاق في قوله: ﴿يَذْكُرُهُمْ﴾ لدلالة الحال عليه، فإن ذكر من يكره إبراهيم ويبغضه، إنما يكون بذم وسوء، ونظيره قولك: "سمعت فلانًا يذكرك" فإن كان الذاكر صديقًا فهو ثناء، وإن كان عدوًا فذم.
ومنها: نداء غير العاقل في قوله: ﴿يَا نَارُ كُونِي﴾ تنزيلًا له منزلة العاقل.
ومنها: التمثيل في قوله: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا﴾ حيث جعل الله النار باردة، من غير أن يكون هناك قول، ولا خطاب لقوله تعالى: ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ لغرض الحصر.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿لِتُحْصِنَكُمْ﴾.
ومنها: إيراد الاستفهام مرادًا به الأمر في قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾؛ أي: فاشكروا نعمتي.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٩١) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (٩٤) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (١٠٢) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (١٠٦) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) قصص داود وسليمان، وما كان منهما، من شكر على النعماء.. أردف ذلك قصص أيوب، لما فيه من صبر على البلاء، فداود وسليمان شكرا على النعم المترادفة، وأيوب صبر على النقم النازلة فأزيلت عنه، وإن في قصصه الذي ذكر هنا، وفي مواضع من الكتاب الكريم، لعبرًا له ولغيره، ممن سمع به، ولفتا لأنظارهم، إلى أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على المرء، أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله، ويصبر في حالي السرّاء والضرّاء.
قوله تعالى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر صبر أيوب عليه السلام، ودعاءه ربه وانقطاعه إليه، حتى كشف عنه الضرّ.. قفى على ذلك بذكر هؤلاء الأنبياء، الذين صبروا على ما أصابهم من المحن والشدائد.
قوله: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لمّا ذكر (٢) صبر أولئك، الذين صبروا على المحن والشدائد.. بيّن هنا انقطاع زكريا إلى ربه، لمّا مسّه الضرّ بتفرده، وأحبَّ أن يكون معه من يؤنسه، ويقوّيه على أمر دينه ودنياه، ويقوم مقامه بعد موته، فدعا ربه دعاء مخلص عارف، بأنه قادر على ذلك، وأنه قد انتهت الحال به، وبزوجه من كبر، وغيره إلى اليأس من الولد على مجرى العادة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ...﴾ الآيات: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر قصص
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر هول الموقف ودعاء المشركين على أنفسهم بالهلاك في هذا الحين، وشخوص أبصارهم من الحيرة والدهش، مما يشاهدون ويرون.. أردف هذا ذكر ما يؤول إليه أمرهم بعد الحساب، وأنهم يكونون هم ومعبوداتهم، من الأصنام والأوثان حطبًا للنار حين يردونها، وأنهم من شدة العذاب فيها يكون لهم أنين وزفير، حتى لا يسمع بعضهم أصوات بعض، لفظاعة ما هم فيه من العذاب، ثم أعقب ذلك بذكر حال السماء حينئذٍ، وأنها تطوى طيا، وكأنها لم تكن كما يطوي الكاتب الطومار الذي يكتب فيه، ويحوّل ذلك العالم المشاهد إلى عالم آخر، فيخلق الله أرضًا جديدة وكواكب جديدة، ويعيد الناس للحساب، وهو القادر على ذلك، فكما قدر على خلقه أول مرة، يعيده في حال أخرى، كما قال: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أحوال كل من الكافرين والمؤمنين.. ذكر أن الدنيا ليست كالآخرة، فلا يرثها إلّا من كان قادرًا
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أورد الحجج والبراهين، لإقناع الكافرين بأن رسالة الرسول حق، حتى لم يبق في القوس منزع، وبلغ الغاية التي ليس بعدها غاية، وبيّن أن هذا الرسول رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين، وأن من اتبعه سلك سبيل الرشاد، ومن نأى عنه ضل وسار في طريق الغواية والعناد.. أردف ذلك ما يكون إعذارًا وإنذارًا في مجاهدتهم، والإقدام على مناوأتهم، بعد أن أعيته الحيل، وضاقت به السبل، ولم تغنهم الآيات والنذر، فتمادوا في غوايتهم، ولجّوا في عنادهم، وأصبح من العسير إقناعهم وهدايتهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ...﴾ الآيتين، سبب نزولهما: ما رواه الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨)﴾ قال عبد الله بن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدًا فقال: يا محمد، أليس فيما أنزل عليك ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨)﴾؟ قال: "نعم، فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيرًا، وهذه بنو تميم تعبد الملائكة، فهؤلاء في النار" فأنزل الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١)﴾. وفيه عاصم بن بهدلة، وقد وثق، وضعّفه جماعة.
وذكره الخطيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ الآية، قال المشركون: فإن عيسى يُعبد، وعزير والشمس والقمر؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
التفسير وأوجه القراءة
٨٣ - ﴿وَأَيُّوبَ﴾؛ أي: واذكر يا محمد قصة أيوب لأمتك ﴿إِذْ نَادَى﴾ ودعا ﴿رَبَّهُ﴾ وخالقه بـ ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾؛ أي: أصابتني الشدة في جسدي، والضرّ بأنواعه، فأل للجنس، فارحمني ونجني منها ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ وألطفهم لعباده.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَنِّي﴾ بفتح الهمزة، وعيسى بن عمر بكسرها إما على إضمار القول: أي: قائلاً: إني، وإما على إجراء نادى مجرى قال، وكسر إني بعدها، وهذا الثاني مذهب الكوفيين، والأول مذهب البصريين، والضرّ بالفتح الضرر في كل شيء نفسًا، أو مالًا، أو أهلًا، وبالضم خاص بالضرر في النفس، كمرض وهزال، فرّق بين البنائين لاختلاف المعنيين، وقد ألطف أيوب في السؤال، حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب، ولم يعين الضر الذي مسّه، فإن (٢) أكثر أسئلة الأنبياء في كشف البلاء عنهم، إنما هي على سبيل التعريض.
وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِيْكَ فَطَانَةٌ | سُكُوْتِىْ بَيَانٌ عِنْدَهَا وَخِطَابُ |
(٢) روح البيان.
روي: أن امرأته ماخير بنت ميشا بن يوسف عليه السلام، أو رحمة بنت أفرايم بن يوسف قالت له يومًا: لو دعوت الله تعالى؟ فقال: كم كانت مدة الرخاء فقالت: ثمانين سنة، فقال: أستحي من الله تعالى أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي.
وروي أن إبليس أتاها على هيئة عظيمة. فقال: أنا إله الأرض، فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني، وعبد إله السماء، لو سجدت لي سجدة، لرجعت المال والولد، وعافيت زوجك، فرجعت إلى أيوب، وكان ملقى في الكناسة، لا يقرب منه أحد، فأخبرته بالقصة، فقال عليه السلام: كأنك افتتنت بقول اللعين، لئن عافاني الله تعالى، لأضربنك مئة سوط، وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئًا من طعامك وشرابك، فطردها، فذهبت فبقي طريحًا في الكناسة، لا يحوم حوله أحد من الناس، فلما نظر أيوب في شأنه، وليس عنده طعام ولا شراب، ولا صديق، وقد ذهبت امرأته خرّ ساجدًا، فقال: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ فقال تعالى ارفع رأسك فقد استجبت لك، اركض برجلك، فركض برجله، فنبعت من تحته عين ماء، فاغتسل منها، فلم يبق في ظاهر بدنه دابّة، إلَّا سقطت منه، ولا جراحة إلَّا برئت، ثم ركض برجله مرة أخرى، بعد أن مشى أربعين خطوة، فنبعت عين أخرى، فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلَّا خرج، وعاد صحيحًا، ورجع إليه شبابه وجماله، حتى صار أحسن، ثم كسي
٨٤ - وذلك قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾؛ أي: أجبنا له دعاءه ﴿فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾؛ أي: أزلنا منه ما به من الضرر، من مرض وهزال، وقد كان الذي نزل به امتحانًا من الله، واختبارًا له؛ أي: شفاه الله مما كان به. وأعاضه بما ذهب عليه، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾؛ أي: وأعطينا أيوب في الدنيا ﴿أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ أي (١): مثل أهله عددًا مع زيادة مثل آخر، فولد له من الأولاد ضعف ما كان. قيل (٢): تركهم الله، عز وجل له، وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والإسناد بذلك صحيح، وقد كان مات أهله جميعًا إلَّا امرأته، فأحياهم الله في أقل من طرف البصر، وآتاه مثلهم معهم، وانتصاب ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ على العلة؛ أي: آتيناه ذلك لرحمتنا له ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾؛ أي: وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر، فيثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة؛ أي: آتيناه ما ذكر لرحمتنا إياه بالرحمة الخاصة، وتذكرة، وعبرة لغيره، من العابدين، ليعلموا بذلك كمال قدرتنا، ويصبروا كما صبر أيوب، فيثابوا كما أثيب.
(٢) الشوكاني.
إنما ختم القصة هنا، بقوله: ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾، وختمها في سورة ص بقوله: ﴿مِنَّا﴾؛ لأن أيوب بالغ هنا في التضرع بقوله: ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ فبالغ تعالى في الإجابة، فناسب ذكر ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾؛ لأن ﴿عِنْدِنَا﴾ يدل على أنه تعالى. تولى ذلك بنفسه، ولا مبالغة في ص، فناسب فيها ذكر ﴿مِنَّا﴾ لعدم دلالته على ما دل عليه ﴿عِنْدِنَا﴾. قاله شيخ الإسلام زكريا" اهـ كرخي.
قال ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين (٢): رد الله إليه أهله، وأولاده بأعيانهم، أحياهم الله، وأعطاه مثلهم معهم، وهو ظاهر القرآن. وعن ابن عباس رواية أخرى أن الله رد إلى المرأة شبابها، فولدت له ستة وعشرين ذكرًا. وقيل: سبعة بنين وسبع بنات. وعن أنس يرفعه أنه كان له إندران، أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق، حتى فاضا. وروي أن الله بعث إليه ملكًا، وقال له: إن ربك يقرئك السلام بصبرك، فاخرج إلى أندرك، فخرج إليه، فأرسل الله عليه جرادًا من ذهب، فذهبت واحدة، فأتبعها وردها إلى أندره، فقال له الملك: ما يكفيك ما في أندرك، فقال: هذه بركة من بركات ربي، ولا أشبع من بركاته.
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "بينما أيوب يغتسل عريانًا، خرّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكني لا غنى لي عن بركاتك".
(٢) الخازن.
وما روى من مقدار ما لحقه من الضر في نفسه، حتى وصل إلى حد النفرة منه، وأن الناس جميعًا تحاشوه، وطردوه من مقامه إلى ظاهر المدينة في موضع الكناسة، ولم يكن يتصل به إلَّا امرأته التي تذهب إليه بالزاد والقوت.. فكل ذلك من الإسرائيليات التي يجب الاعتقاد بكذبها (٢)؛ لأنه ليس لها من سند صحيح يؤيدها، ولأن من شروط النبوة أن لا يكون في النبي من الأمراض والأسقام ما ينفر الناس منه، ولأنه متى كان كذلك، لا يستطيع الاتصال بهم وتبليغ الشرائع والأحكام إليهم، وسيأتي لهذا مزيد إيضاح في سورة ص.
٨٥ - ولما ذكر الله سبحانه، أمر أيوب وصبره على البلاء، أتبعه بذكر هؤلاء الأنبياء، الذين سيذكرهم؛ لأنهم صبروا على المحن والشدائد والعبادة أيضًا فقال: (و) اذكر ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾ بن إبراهيم عليهما السلام، ومعناه: مطيع الله؛ أي: اذكر قصته لقومك، وعاش إسماعيل مئة وثلاثين سنة، وكان له، حين مات أبوه تسع وثمانون سنة، وأخوه إسحاق ولد بعده بأربع عشرة سنة، وعاش مئة وثمانين سنة، اهـ من "التحبير". ﴿وَإِدْرِيسَ﴾ بن شيث بن آدم، واسمه أخنوخ، قال بعضهم: سمّي به لكثرة دراسته، هو جد نوح، ولد في حياة آدم قبل موته بمئة سنة، وبعث بعد موته بمئتي سنة، وعاش بعد نبوته مئة وخمسين سنة، فتكون
(٢) بالنسبة للإسرائيليات قال ابن كثير: لا تصدق ولا تكذب. انظر "تفسيره" (١/ ١٧٢، ١٧٣)، و"تاريخه" (١/ ٨) وانظر أيضًا "المسجد الحرام" (١٦٥ - ١٧٥) للدكتور وصي الله عباس ومحمد أبو الليث، وأرجو الاطلاع على ما كتبه أستاذنا محمد محمد أبو شهبة رحمه الله في كتابه "الإسرائيليات" فتجدون أن ذلك الحكم... حكمتم به على الإسرائيليات اطلاقه وإنما هو مقيد.
والمعنى: واذكر يا محمد نبأ هؤلاء الرسل الكرام، الذين صبروا على ما ابتلاهم الله به، وأخبتوا له، فنالوا رضاه، وأدخلهم جنته:
١ - أما إسماعيل: فإنه صبر على الانقياد للذبح، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه، ولا ضرع، ولا بناء، وصبر على بناء البيت، وتكلف المشاق في ذلك، وقد أكرمه الله سبحانه، فأخرج من صلبه خاتم النبيين محمدًا، - ﷺ -.
٢ - وأما إدريس - أخنوخ - فقد صبر على دراسة الكتب، وبعث إلى قومه داعيًا لهم إلى الله تعالى، فأبوا (٢)، فأهلكهم الله، ورفعه إلى السماء الرابعة.
ويزعم كثير من الناس، أنه أول من خاط الثياب، ولبس المخيط، وكانوا من قبل يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح عدّة.
٣ - وأما ذو الكفل: فقد اختلف العلماء في شأنه: فمن قائل: إنه نبي، وهم الأكثرون، وقالوا: إنه ابن أيوب عليه السلام، بعثه الله نبيًا بعد أبيه، وسمّاه ذا الكفل، وأمره بالدعاء إلى توحيد الله، وأقام عمره بالشام. وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد: لم يكن نبيًا، بل كان عبدًا صالحًا، استخلفه اليسع عنه، على أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب ففعل.
٨٦ - ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ﴾؛ أي: وأدخلنا كل هؤلاء ﴿فِي﴾ محل ﴿رَحْمَتِنَا﴾ جنات
(٢) مراح.
٨٧ - ﴿وَذَا النُّونِ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة ذي النون؛ أي: قصة صاحب الحوت، والمراد به يونس بن متّى - بفتح الميم وتشديد التاء المثناة فوق مفتوحة - قيل (١): هو اسم أم يونس، كذا في جامع الأصول. وقال عطاء: سألت كعبًا عن متّى أهو اسم أبيه أم أمه؟ فقال: اسم أبيه، وأمه بدورة، وهي من ولد هارون، وسمّي يونس بذي النون؛ لأنه ابتلعه الحوت. قال الإمام السهيلي: أضافه هنا إلى النون، وقد قال في سورة القلم: ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ وذلك أنه حين ذكره في موضع الثناء عليه قال: ذو النون، فإن الإضافة بذو أشرف من الإضافة بصاحب؛ لأن قولك: ذو يضاف إلى التابع، وصاحب إلى المتبوع، تقول: أبو هريرة - رضي الله عنه - صاحب النبي عليه السلام، ولا تقول: النبي صاحب أبي هريرة، إلَّا على جهة. وأما (ذو) فإنك تقول: ذو مال، وذو العرش، فتجد الاسم للاسم متبوعًا غير تابع، ولفظ النون أشرف من الحوت لوجوده في حروف التهجي، وفي أوائل بعض السور نحو ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾.
وقوله: ﴿إِذْ ذَهَبَ﴾ ظرف لما مضى، متعلق بالمضاف المقدر؛ أي: اذكر خبره وقت ذهابه حال كونه ﴿مُغَاضِبًا﴾؛ أي: مغضباً ومراغماً لقومه أهل نينوى، وهي قرية بالموصل، أو غضبان على قومه، لما مر من طول دعوته إياهم، وشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم، مهاجرًا عنهم قبل أن يؤمر؛ لأنهم لما لم يؤمنوا، وعدهم بنزول العذاب بهم لأجل معلوم، وفارقهم، ثم بلغه بعد مضي الأجل، أنه تعالى لم يعذبهم، ولم يعلم سببه، وهو أنهم حين رأوا أمارات العذاب، تابوا وأخلصوا في الدعاء والتضرع إلى الله، فاندفع العذاب عنهم، فظن أنه كذبهم، وغضب من اندفاع العذاب عنهم، وذهب غضبان. وقرأ أبو شرف ﴿مُغَاضِبًا﴾ اسم مفعول ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: أنه لن نضيق عليه الأمر بالحبس أو
وقرأ الجمهور: ﴿نَقْدِرَ﴾ بنون العظمة مخففًا. وقرأ ابن أبي ليلى وأبو شرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب: بضم الياء وفتح الدال مخففًا. وعيسى والحسن: بالياء مفتوحة وكسر الدال. وعلي بن أبي طالب واليماني: بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة. والزهري: بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة.
وبناء المفاعلة في قوله: ﴿مُغَاضِبًا﴾ ليس على بابه (١)، فلا مشاركة كعاقبت اللص، وسافرت، بل للدلالة على كمال غضبه والمبالغة فيه، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ أي: غاضب قومه، وغاضبوه، حين لم يؤمنوا في أول الأمر، اهـ كرخي.
والفاء في قوله: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فاقترعوا فخرجت عليه القرعة، فرموه في البحر، فالتقمه الحوت، فنادى في الظلمات؛ أي: في ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت آخر فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر والليل. وقال الشيخ السمرقندي في تفسيره "بحر العلوم": وعندي - والله أعلم - أن تلك الظلمات
﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ﴾؛ أي (١): بأنه، فأن مخففة من أنّ المشددة، أو مفسرة بمعنى أي ﴿سُبْحَانَكَ﴾؛ أي: أنزهك تنزيهًا لائقا بك، من أن يعجزك شيء ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم بفراري من قومي بغير إذنك، فكان ذلك ظلمًا، فعوقب (٢) على ترك الأفضل، الذي هو المكث فيهم صابراً على أذاهم، فإنه خرج لا على تعمّد المعصية، بل لظنه أن خروجه موسّع، يجوز أن يقدّم ويؤخّر، فقد وصف يونس عليه السلام ربه، بكمال الربوبية، وهذا القدر يكفي في السؤال،
٨٨ - ولذا قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ دعاءه الذي دعا به، وأظهر به التوبة على ألطف وجه وأحسنه، وأول هذا الدعاء تهليل، وأوسطه تسبيح، وآخره إقرار بالذنب، اهـ شيخنا.
وعن رسول الله - ﷺ -: "ما من مكروب يدعو بدعوة ذي النون في بطن الحوت إلا استجيب له". وروى ابن جرير والبيهقي في جماعة عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي - ﷺ - قال: "دعوة ذي النون في بطن الحوت: لا إله إلّا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلّا استجاب له".
وروي عن أنس مرفوعًا "أنه عليه السلام حين دعا بذلك، أقبلت دعوته تحف بالعرش، فقالت الملائكة: هذا صوت ضعيف، معروف من بلاد غريبة - وفي رواية: صوتًا معروفًا من مكان مجهول - فقال الله تعالى: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب من هو؟ قال: ذاك عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل مقبول، ودعوة مستجابة، يا رب أفلا ترحم من كان يصنع في الرخاء: فتنجيه من البلاء، قال: بلى، فأمر الحوت، فطرحه"، فذلك قوله:
(٢) المراح.
وعن جعفر بن محمد قال: عجبت ممن يبتلى بأربع، كيف يغفل عن أربع: عجبت لمن يبتلى بالهم كيف لا يقول: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)﴾، وعجبت لمن يخاف شيئًا من السوء كيف لا يقول: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ لأن الله تعالى يقول: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾. وعجبت لمن يخاف مكر الناس كيف لا يقول: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾، وعجبت لمن يرغب في الجنة كيف لا يقول: ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ﴾.
وعن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، إني أروع في منامي، قال: قل: "أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون".
وقرأ الجمهور (٣): ﴿نُنْجِي﴾ مضارع أنجى. والجحدري مشددًا مضارع نجّى. وقرأ ابن عامر وأبو بكر (نجّي) بنون مضمومة وجيم مشددة وياء ساكنة،
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
٨٩ - ﴿و﴾ اذكر يا محمد لقومك ﴿زكريا﴾؛ أي: خبر زكريا بن آذن بن ماتان، من أنبياء بني إسرائيل، والظرف في قوله: ﴿إِذْ نَادَى﴾ ودعا ﴿رَبَّهُ﴾ وخالقه، متعلق بالمضاف المقدر، وقال في دعائه: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ ولا تتركني وحيدًا، بلا ولد يرثني إرث نبوة، وعلم وحكمة. ومثل (٢) هذه العبارة من العبد للسيد، تضرع ودعاء، لا نهي؛ أي: هب لي ولدًا، ولا تدعني وحيدًا، بلا ولد يرثني، لما بلغ عمر زكريا، عليه السلام مئة سنة، وبلغ عمر زوجته تسعًا وتسعين سنة، ولم يرزق لهما ولد، أحب أن يرزقه الله من يؤنسه، ويقويه على أمر دينه ودنياه، ويكون قائمًا مقامه بعد موته، فدعا، ثم رد الأمر إلى مولاه مستسلمًا ومنقادًا لمشيئته فقال ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾؛ أي: خير من يبقى بعد من يموت، فحسبي أنت إن لم ترزقني وارثًا، فهو ثناء على الله تعالى، بأنه الباقي بعد فناء الخلق، وله ميراث السموات والأرض
٩٠ - ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾؛ أي: أجبنا لزكريا دعاءه في حق الولد كما قال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾ نبيًا حكيماً عظيمًا، لا في حق الوراثة، إذ المشهور أن يحيى قتل، قبل موت أبيه، وهذا لا يقدح في شأن زكريا، كما لا يقدح عدم استجابة دعاء إبراهيم في حق أبيه في شأنه، فإن الأنبياء عليهم السلام، وإن كانوا مجابي الدعوة، لكن أثر بعض الدعوات، لا يظهر في هذا الموطن للحكمة الإلهية ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ إيشاع بنت عمران، أو بنت فاقود للولادة، بعد انتهائها إلى سن اليأس منها، بحكم العادة؛ أي: جعلناها ولودًا. بعد أن كانت عقيمًا، فإنها لم تلد قط بعد أن بلغت تسعًا وتسعين سنة.
(٢) روح البيان.
والمسارعة في الخيرات من أكبر ما يمدح به المرء (٢)؛ لأنها تدل على حرص عظيم في طاعة الله تعالى. ﴿و﴾ كانوا ﴿يَدْعُونَنَا﴾ أي يفزعون إلينا ﴿رَغَبًا﴾ أي رغبة في ثوابنا ﴿وَرَهَبًا﴾ أي: رهبة من عقابنا. وقيل؛ الرغبة رفع بطون الأكف إلى السماء، والرهبة رفع ظهورها إليها. أو حال كونهم راغبين في اللطف والجمال، وخائفين من القهر والجلال، أو راغبين فينا، وراهبين مما سوانا ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ أي خائفين متواضعين في عبادتهم، حذرين عن الانبساط في الأمور، أي (٣) كانوا لنا عابدين في تواضع وضراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح، ولكن شأن الأنبياء أعلى من أن يكون حالهم منحصرًا في الظاهر، فلهم خشوع كامل في القلب والقالب جميعًا، وأكل العبد خشنا، واللبس خشنا، وطأطأة الرأس ونحوها من غير أن يكون في قلبه الإخلاص، والخوف من الله تعالى صفة المرائي والمتصنع.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
وخلاصة معنى الآيات: أي واذكر خبر زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيًا، فقال خفية عن قومه: "رب لا تدعني وحيدًا، لا ولد لي، ولا وارث يقوم بعدي في النادي، فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث" فأجبنا سؤله، ووهبنا له يحيى، وأصلحنا له زوجة بأن أزلنا عنها الموانع التي كانت تمنعها من الولادة، فولدت له بعد أن كانت عقيمًا، ثم ذكر السبب في إجابة مطلبهم، فقال: إنهم كانوا أي لأن زكريا وزوجه ويحيى كانوا يسارعون في طاعتنا، والعمل بما يقربهم إلينا حال كونهم يدعوننا، ويعبدوننا رغبة منهم فيما يرجون من رحمتنا وفضلنا، وخوفاً من عذابنا وعقابنا، وكانوا لنا متواضعين متذللين، لا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا.
وقرأ ابن مسعود وابن محيصن (١): ﴿يدعونا﴾ بحذف نون الرفع. وطلحة بنون مشددة، أدغم نون الرفع في "نا" ضمير النصب. وقرأ ابن وثاب والأعمش ووهيب بن عمرو النحوي وهارون وأبو معمر الأصمعي واللؤلؤي ويونس وأبو زيد سبعتهم عن أبي عمرو ﴿رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ بالفتح وإسكان الهاء، والأشهر عن الأعمش بضمتين فيهما. وقرأت فرقة بضم الراءين وسكون الغين والهاء.
٩١ - ﴿وَ﴾ اذكر يا محمد ﴿الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾؛ أي: قصة مريم بنت عمران، التي أحصنت فرجها إحصاناً كليًا، وحفظته حفظًا تامًا من أن يصل إليه أحد من الرجال بحلال أو حرام جميعًا كما قالت: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾، وجاء في سورة التحريم: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾.
﴿فَنَفَخْنَا﴾ الروح في عيسى، وأحييناه حالة كونه كائنًا ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في جوفها وبطنها، فهو (٢) حال من المفعول المحذوف ﴿مِنْ﴾ جهة ﴿رُوحِنَا﴾ جبريل الأمين وبواسطته؛ أي؛ أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها، فخلقنا
(٢) روح البيان.
﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا﴾ أي: جعلنا حالهما وشأنهما ﴿آيَةً﴾ عظيمة ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ وعلامة دالة على القدرة الكاملة، لأهل زمانهما، ولمن بعدهما، فإن من تأمل في ظهور ولد، من بتول عذراء، من غير فحل، تحقق كمال قدرته تعالى. ولم يقل: "آيتَيْ"؛ لأنها قصة واحدة، وهي ولادتها له من غير ذكر، ولكل واحد منهما آيات مستقلة متكاثرة، كما أشير إلى بعض منها في القرآن، وإلى بعض آخر في التفاسير وكتب القصص، أما آيات مريم فمنها: ظهور الحمل من غير ذكر. ومنها: أن الملائكة كانت تأتيها برزقها، كما حكى القرآن قول زكريا لها وردها عليه: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾. وأما آيات عيسى فقد سبق تفصيلها في سورتي آل عمران ومريم.
٩٢ - ثم لمَّا ذكر سبحانه الأنبياء، بيَّن أنهم كلَّهم مجتمعون على التوحيد فقال: ﴿إِنَّ هَذِهِ﴾ الملة التي هي ملة الإسلام والتوحيد المذكورة في كتابكم ﴿أُمَّتُكُمْ﴾؛ أي: ملتكم وطريقتكم التي يجب أن تكونوا عليها، لا تنحرفون عنها. والظاهر أن قوله: ﴿أُمَّتُكُمْ﴾ خطاب لمعاصري الرسول - ﷺ -، حالة كونها ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾؛ أي: ملة واحدة متفقة، لا يخرج عنها إلّا المشركون بالله؛ أي: إن هذه الشريعة المنزلة على محمد - ﷺ -، شريعتكم، أيها الناس، التي يجب أن تحافظوا على حدودها، وتراعوا حقوقها، ولا تخلوا بشيء منها، حالة كونها شريعة واحدة، غير مختلفة فيما بين الأنبياء، فإنهم متفقون في الأصول، وإن كانوا مختلفين في الفروع، بحسب اختلاف الأمم والأزمنة والأمكنة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أُمَّتُكُمْ﴾ بالرفع خبر ﴿إن﴾. ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ بالنصب على الحال. وقيل: بدل من ﴿هَذِهِ﴾. وقرأ الحسن ﴿أُمَّتُكُمْ﴾ بالنصب بدل من ﴿هَذِهِ﴾. وقرأ أيضًا هو وابن إسحاق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجعفي وهارون عن أبي عمرو والزعفراني ﴿أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ برفع الثلاثة على أن ﴿أُمَّتُكُمْ﴾ و ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ خبر ﴿إن﴾، أو ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ بدل من ﴿أُمَّتُكُمْ﴾ بدل نكرة من معرفة، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هي أمة واحدة.
٩٣ - ثم نعى على المسلمين ما فعلوا من تفريق شأنهم فرقًا وشيعاً فقال: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: تفرقوا في أمرهم، وجعلوا دينهم قطعًا، ومذاهب مختلفة بينهم، بأن آمنوا بالبعض، وكفروا بالبعض. والضمير (٢) في ﴿وَتَقَطَّعُوا﴾ عائد على ضمير الخطاب على سبيل الالتفات؛ أي: وتقطعتم. ولما كان هذا الفعل من أقبح المرتكبات، عدل عن الخطاب إلى لفظ الغيبة، كأن هذا الفعل ما صدر من المخاطبين؛ لأن في الإخبار عنهم بذلك نعياً عليهم ما أفسدوه، وكأنه يخبر غيرهم ما صدر من قبيح فعلهم، ويقول: ألا ترى إلى ما ارتكب هؤلاء في دين الله، جعلوا أمر دينهم قطعًا، كما يتوزع الجماعة الشيء، لهذا نصيب، ولهذا نصيب، تمثيلًا لاختلافهم. وقرأ الأعمش ﴿زبرا﴾ بفتح الباء، جمع زبرة ذكره أبو حيان في "البحر".
والمعنى (٣): جعل الناس أمر الدين قطعًا، واختلفوا فيه، فصاروا فرقًا، كأنه قيل: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء، حيث جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعًا، فأصاب كل جماعة قطعة من
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
قال الحسن البصري (١): في هذه الآية يبيّن لهم ما يتقون، وما يأتون، يريد أن هذا إخبار بالغيب بما سيكون منهم.
والخلاصة: أنهم قد غفلوا عما أمر به دينهم، من وجوب الاعتصام بوحدة الأمة ونبذ الفرقة، ففعلوا ضد هذا، وذاق بعضهم بأس بعض، وكان في هذا وبال للجميع، وتمكن عدوهم من أن يهيض جناحهم، ويبطش بهم، ويستعبدهم في عقر دارهم، ويسميهم الخسف والصَّغار، بعد أن كانوا سادة أحراراً، ولله الأمر من قبل، ومن بعد.
ثم توعدهم على ما فعلوا، فقال: ﴿كُلٌّ﴾ أي: كل واحدة من الفرق المتقطعة ﴿إِلَيْنَا﴾ لا إلى غيرنا ﴿رَاجِعُونَ﴾ بالبعث فنجازيهم حينئذٍ بحسب أعمالهم؛ أي: أنهم سيرجعون إلينا، ونجازيهم على تفرقهم واختلافهم شيعاً. وفي هذا إخبار بالغيب، بما سيحدث في هذه الأمة، التي ذاقت وبال أمرها، وعاقبة اختلافها، وكانت لقمة سائغة للآكلين، ونهبا مقسمًا بين الطامعين جزاء ما اجترحت من التفرق.
٩٤ - وبعد أن أبان أن افتراق الأمة واقع لا محالة، أردفه فتح باب الرجاء في لم شعثها واتفاقها بعد تفرقها، عسى أن تقوم من كبوتها، وترجع إلى وحدتها، وتصير لها الدولة والصولة، كما كانت في سالف عهدها، فقال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: من بعض الأعمال الصالحة، لا كلها إذ لا يطيق ذلك أحد. ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ بالله ورسله واليوم الآخر ﴿فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾؛ أي: لا جحود لعمله، ولا تضييع لجزائه، ولا حرمان لثواب عمله. وفي قراءة (٢) ابن
(٢) الشوكاني.
﴿وَإِنَّا لَهُ﴾ أي: لسعيه ﴿كَاتِبُونَ﴾؛ أي: مثبتون في صحائف أعمالهم، حافظون له، لا نغادر منه شيئًا.
والمعنى: أي (١) ومن يعمل صالح الأعمال، وقلبه مليء بالإيمان بربه، والتصدق لأنبيائه ورسله، واليقين باليوم الآخر، يوم تجزي كل نفس بما عملت، من خير أو شر، فإنا لا نضيع سعيه، ولا نبخسه حقه، بل نوفيه على عمله الجزاء الأوفى، وإنا مثبتون له ذلك في صحيفة أعماله، لا نترك منه شيئًا جلَّ أو قلَّ، عظم أو حقر، ونحو الآية قوله: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ وقوله: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾.
٩٥ - وقوله: ﴿وَحَرَامٌ﴾؛ أي: ممتنع، خبر مقدم ﴿عَلَى﴾ أهل ﴿قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾؛ أي: استأصلناها بالعذاب في الدنيا، لكفرهم، متعلق بـ "حرام"، وجملة قوله: ﴿أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ إلينا في الآخرة، للمجازاة في تأويل مصدر مرفوع، على كونه مبتدأ مؤخرًا، أو فاعلًا سدّ مسدّ الخبر. والمعنى (٢): وممتنع ألبتة على أهل القرية المهلكة عدم رجوعهم إلينا للجزاء بأن يذهبوا تحت التراب، من غير إحساس بالنعمة، أو بالعذاب، بل لا بد من جزائهم في الآخرة على أعمالهم السيئة.
وقيل المعنى (٣): واجب على أهل قرية أهلكناها بالموت عدم رجوعهم عن الشرك والمعاصي، فإن الحرام قد يأتي بمعنى الواجب، ومنه قول الخنساء:
وَإِنَّ حَرَامَاً لاَ أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيَاً | عَلَى شَجْوِهِ إِلاَّ بَكَيْتُ عَلَى صَخْرِ |
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
(٤) الشوكاني.
وتخصيص (١) امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله: ﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾؛ لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم.
وفي "التأويلات النجمية" (٢): يشير إلى قلوب أهل الأهواء والبدع المهلكة باعتقاد السوء، ومخالفات الشرع، أنهم لا يتوبون إلى الله، ولا يرجعون إلى الحق، يدل على هذا التأويل قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَحَرَامٌ﴾. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة والأعمش وأبو حنيفة وأبو عمرو في رواية ﴿وحِرْمُ﴾ بكسر الحاء وسكون الراء. وقرأ قتادة ومطر الورّاق ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الحاء وسكون الراء. وقرأ عكرمة ﴿وحَرِمٌ﴾ بكسر الراء والتنوين. وقرأ ابن عباس وعكرمة أيضًا وابن المسيب وقتادة أيضًا بكسر الراء وفتح الحاء والميم على المضي، بخلاف عنهما. وأبو العالية وزيد بن علي بضم الراء وفتح الحاء والميم على المضي. وقرأ ابن عباس أيضًا: بفتح الحاء والراء والميم على المضي. وقرأ اليمان ﴿وَحُرِّمَ﴾ بضم الحاء وكسر الراء مشدّدة وفتح الميم. وقرأ الجمهور ﴿أهلكناها﴾ بنون العظمة. وقرأ السلمي وقتادة بتاء المتكلم.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
٩٦ - و ﴿حَتَّى﴾ في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾ ليست بحرف جر، ولا حرف عطف، بل هي حرف يبتدأ بعدها الكلام، غاية لما يدل عليه ما قبلها، كأنه قيل: يستمرون على ما هم عليه من الهلاك، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا، ويقولون: ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ إلخ، أو لا يرجعون عن الكفر، حتى إذا قامت القيامة، يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع. و ﴿إِذَا﴾ شرطية جوابها قوله الآتي. ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ﴾. وقيل: جوابها محذوف تقديره: يرجعون إلينا ويقولون: يا ويلنا كما قدّرناه آنفًا. وقوله: ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ﴾ معطوف على الجواب المحذوف. ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس، يقال: الناس عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج ومأجوج. والمراد بفتحهما فتح سدهما، فهو على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وقد سبقت قصة يأجوج ومأجوج وبناء السد عليهم وفتحه في آخر الزمان في سورة الكهف. والتقدير: حتى إذا فتح سدّ يأجوج ومأجوج ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: والحال أن يأجوج ومأجوج ﴿مِنْ كُلِّ حَدَبٍ﴾ أي إلى كل مكان مرتفع من الأرض ﴿يَنْسِلُونَ﴾؛ أي: يسرعون المشي إليه لينزلوا فيه، ويظهروا فيه، ويتفرقون في الأرض، وينتشرون فيها. قال ابن عباس: من كل شرف يقبلون، أي: لكثرتهم ينسلون من كل ناحية. روى أنهم يسيرون في الأرض، ويقبلون على الناس من كل موضع مرتفع والحدب المكان المرتفع، والنسلان مقاربة الخطو من الإسراع. وقرأ ابن مسعود (١)، وابن عباس: ﴿من كل جدث﴾ بالجيم والثاء المثلثة، وهو القبر. وقرأ الجمهور: ﴿يَنْسِلُونَ﴾ بكسر السين. وابن
وذلك (١) بعد نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض، ثم يهلكون بدعائه عليهم، فتملأ رممهم وجيفهم الأرض، فيرسل الله عليهم طيرًا كأعناق البخت، فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرًا، فيغسل الأرض من آثارهم، ثم يقول الله للأرض: أنبتي ثمرك، فيكثر الرزق جدًّا، ويستقيم الحال لعيسى والمؤمنين، فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم ريحًا طيبة، تقبض روح كل مؤمن ومسلم، وتبقي شرار الناس يتهارجون كتهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة اهـ "خازن". وبين موت عيسى والنفخة الأولى مئة وعشرون سنة، لكن السنة بقدر شهر، كما أن الشهر بقدر جمعة، والجمعة بقدر يوم، واليوم بقدر ساعة، فيكون بين عيسى والنفخة الأولى قدر ثنتي عشرة سنة من السنين المعتادة، اهـ.
وقيل: الضمير في قوله: ﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ﴾ يعود على العالم بأسره، ولكن الأول أظهر. والمعنى على هذا؛ أي (٢): ويستمر هذا الإمتناع إلى قيام الساعة، ومن أماراتها فتح سد يأجوج ومأجوج، وإتيان الناس سراعًا من كل مرتفع من الأرض، والمقصود الرد على المشركين في إنكارهم البعث والجزاء.
والخلاصة: أنه لا تزال حياة من مات وهلك ممتنعةً، ولا يمكن رجوعهم إليها حتى تقوم الساعة، ويسرع الناس من كل حدب من الأرض. قال أبو حيان: والظاهر أن ضمير ﴿وهم﴾ عائد على يأجوج ومأجوج. وقيل: الضمير للعالم، ويدل عليه قراءة عبد الله وابن عباس ﴿من كل جدث﴾ بالجيم والثاء المثلثة، وهو القبر. وقرىء بالفاء. والثاء للحجاز، والفاء لتميم، وهي بدل من الثاء كما أبدلوا الثاء منها قالوا: المغثور، وأصله مغفور. ذكره في "البحر" كما مر بعضه.
٩٧ - وقوله: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾؛ أي: القيامة - عطف على ﴿فتحت﴾، والمراد: ما بعد النفخة الثانية، من البعث والحساب والجزاء ﴿فَإِذَا هِيَ﴾؛ أي: القصة ﴿شَاخِصَةٌ﴾؛ أي: مرتفعة ﴿أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من الدهشة والحيرة، حالة
(٢) المراغي.
وقال الفراء والكسائي (٢): الواو في قوله: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ﴾ زائدة مقحمة في جواب الشرط، والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق نظير قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤)﴾؛ أي: ناديناه. وعلى هذا القول، فالفاء في قوله: ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ﴾ تكون عاطفة على هذا الجواب. فإن قيل (٣): فتح السد واقتراب الوعد الحق يحصل في آخر أيام الدنيا، والجزاء وشخوص الأبصار إنما يحصل يوم القيامة، والشرط والجزاء لا بد وأن يكونا متقاربين؟
فالجواب: أن التفاوت القليل يجري مجرى العدم، وفي الآية دلالة على أن قيام الساعة. لا يتأخر عن خروج يأجوج ومأجوج، كما روي عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: لو أن رجلًا اقتنى، فلوّا بعد خروج يأجوج ومأجوج، لم يركبه حتى تقوم الساعة. والفلوّ المهر؛ أي: ولد الفرس.
والمعنى (٤): أن القيامة إذا قامت ارتفعت أبصار هؤلاء، من شدة الأهوال، فلا تكاد تطرف من شدة ما يخافونه قائلين: يا ويلنا؛ أي: هلاكنا تعال فهذا أوان حضورك ﴿قَدْ كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾ تامة ﴿مِنْ هَذَا﴾ الذي أصابنا ودهمنا من البعث والرجوع إليه للجزاء، ولم نعلم أنه حق، وقوله: ﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ إضراب (٥) عما قبله، من وصف أنفسهم بالغفلة؛ أي: لم نكن غافلين
(٢) القرطبي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراح.
(٥) روح البيان.
وعن بعض الحكماء، أنه نظر إلى أناس يترحمون على ميت، خلف جنازته، فقال: لو تترحمون على أنفسكم لكان خيرًا لكم، أما إنه قد مات ونجا من ثلاثة أهوال: أولها رؤية ملك الموت، والثاني مرارة الموت، والثالث خوف الخاتمة.
وصفوة القول (١): إن الناس لا يرجعون إلى الحياة، حتى تزلزل الأرض زلزالها، ويختل نظام هذا العالم، فتموج الأمم في بعض، بتفريق أجزائها، لا فرق بين يأجوج ومأجوج وغيرهما، فذكرهما رمز لاختلال الأرض وخرابها، فكأنه قيل: إنهم لا يرجعون إلى الحياة إلَّا إذا اختل نظام العالم، ورجّت الأرض رجًّا، وماجت الأمم بعضها في بعض، وخرج الكفار من قبورهم شاخصة أبصارهم، من الهول الذي هم فيه.
٩٨ - ثم بيّن سبحانه حال معبوداتهم فقال: ﴿إِنَّكُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: والأصنام التي تعبدونها، متجاوزين عبادة الله، وذلك (٢) بدلالة ما، فإنها لما لا يعقل، فخرج عزير وعيسى والملائكة ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾؛ أي: وقود جهنم، تحصبون فيها، وترمون فتكونون وقودها. وهو بفتح المهملتين، اسم لما يحصب؛ أي: يرمى في النار، فتهيج به، من حصبه إذا رماه بالحصباء، ولا يقال له: حصب إلّا وهو في النار، وأما قبل ذلك، فيقال له: حطب وشجر وخشب ونحو ذلك ﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ أي: واردون عليها، وداخلون فيها
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): إنكم أيها المشركون بالله، العابدون من دونه الأوثان والأصنام، وما تعبدون من دونه، من الآلهة وقود جهنم، وإنكم واردوها وداخلون فيها، ونحو الآية قوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.
والحكمة في أن الآلهة تقرب بهم، وتدخل معهم في النار:
١ - أنهم كلما رأوهم، ازدادوا غمَّا وحسرةً؛ لأنهم ما وقعوا في العذاب إلّا بسببهم، وقد قالوا: "النظر إلى وجه العدو باب من أبواب العذاب".
٢ - أنهم قد كانوا في الدنيا، يظنون أنهم يشفعون لهم في الآخرة، ويدفعون عنهم العذاب، فإذا استبان لهم أن الأمر على عكس ما كانوا يظنون، لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.
٣ - أن إلقاءهم في النار استهزاء بهم وبعبادتهم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿حَصَبُ﴾ بالحاء والصاد المهملتين، وهو ما يحصب به؛ أي: يرمى به في نار جهنم. وقرأ ابن السميقع وابن أبي عبلة ومحبوب وأبو حاتم عن ابن كثير: بإسكان الصاد، ورويت عن ابن عباس، وهو مصدر، يراد به المفعول؛ أي: المحصوب. وقرأ ابن عباس: بالضاد المعجمة المفتوحة. وعنه إسكانها. وبذلك قرأ كثير عزة. والحصب ما يرمى به في النار. وقرأ أبيّ وعليّ وعائشة وابن الزبير وزيد بن علي ﴿حطب﴾ بالطاء.
٩٩ - ثم بيّن لهم بالدليل خطأ ما يعتقدون فقال: ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ﴾؛ أي: لو كانت هذه الأصنام ﴿آلِهَةً﴾ على الحقيقة، كما تزعمون أيها العابدون ﴿مَا وَرَدُوهَا﴾؛ أي: ما وردت تلك الآلهة النار، ولا دخلوها، لكنه قد اتضح لكم
(٢) البحر المحيط.
١٠٠ - ثم بيّن أحوالهم فيها، فقال: ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء الذين وردوا النار ﴿فِيهَا﴾ أي: في النار ﴿زَفِيرٌ﴾ أي: أنين وتنفس شديد، متقطع، من شدة ما ينالهم من العذاب. والزفير: ترديد النفس حتى تنفخ الضلوع منه، وهو مع كونه، من أفعال العبدة، أضيف إلى الكل للتغليب ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: الذين دخلوا النار ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في النار ﴿لَا يَسْمَعُونَ﴾؛ أي: لا يسمع بعضهم، زفير بعض لعظم الهول، وفظاعة العذاب. وقيل (١): لا يسمعون شيئًا؛ لأنهم يحشرون صمَّا كما قال سبحانه، ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾، وإنما سلبوا السماع؛ لأن فيه بعض تروّح وتأنّس. وقيل: لا يسمعون ما يسرّهم، بل يسمعون ما يسوؤهم.
١٠١ - ثم لمّا بيّن سبحانه هؤلاء الأشقياء، شرع في بيان حال السعداء، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا﴾؛ أي: من جهتنا، وفي علمنا الخصلة ﴿الْحُسْنَى﴾ التي هي أحسن الخصال، وهي السعادة. وقيل: التوفيق، أو التبشير بالجنة، أو نفس الجنة. وهم كافة المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحة، أو سبقت لهم كلمتنا بالبشرى بالثواب على الطاعة ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالصفة المذكورة ﴿عَنْهَا﴾؛ أي: عن نار جهنم ﴿مُبْعَدُونَ﴾؛ لأنهم قد صاروا في الجنة،
وقال بعضهم (١): ﴿أن﴾ هنا بمعنى إلّا؛ أي: إلّا الذين سبقت لهم منا الحسنى، يعني: السعادة والعدة الجميلة بالجنة. والمعنى: إن الذين سبق لهم التوفيق للطاعة، وأخبتوا لله، وأخلصوا له العمل لا يدخلون النار، ولا يقربونها ألبتة.
١٠٢ - ثم ذكر أوصافهم حينئذٍ فقال: ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾؛ أي: لا يسمعون صوت حركة النار، الذي يسمع من شدة تحركها واضطرابها وتوهّجها. والحسيس (٢) صوت يحس به؛ أي: لا يسمعون صوتها سمعًا ضعيفًا، كما هو المعهود، عند كون المصوت بعيدًا وإن كان صوته في غاية الشدة، لا أنهم لا يسمعون صوتها الخفي في نفسه فقط، قال جعفر الصادق: كيف يسمعون حسيسها والنار تخمد لمطالعتهم، وتتلاشى برؤيتهم. وهذه الجملة (٣) بدل من ﴿مُبْعَدُونَ﴾، أو حال من ضميره، أو خبر ثان، وهي مذكورة للمبالغة في انقاذهم منها.
﴿وَهُمْ﴾؛ أي: هؤلاء الموصفون بالصفات المذكورة ﴿فِي مَا اشْتَهَتْ﴾ وتمنّت والتذّت ﴿أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾؛ أي: دائمون في غاية التنعم والاشتهاء، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس، وتلذ به الأعين، كما قال سبحانه: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾، والشهوة (٤): طلب النفس اللذة. وتقديم الظرف للقصر والاهتمام، وهو بيان لفوزهم بالمطالب، إثر بيان خلاصهم من المهالك. والمعنى: أنهم في حبور دائم، ونعيم لا ينقطع
١٠٣ - ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ﴾؛ أي: لا يخيفهم ﴿الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾؛ أي: هول النفخة الأخيرة في الصور، حين قيامهم من قبورهم للحساب، كما قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾، أو (٥) حين تغلق النار على أهلها، وييأسون من
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
(٤) روح البيان.
(٥) المراح.
وهذا (١): بيان لنجاتهم من الأفزاع بالكلية، بعد بيان نجاتهم من النار، لأنهم إذا لم يحزنهم أكبر الأفزاع، لا يحزنهم ما عداه بالضرورة. والفزع: انقباض ونفور، يعترى الإنسان من الشيء المخيف، وهو من جنس الفزع. ولا يقال: فزعت من الله، كما يقال: خفت منه. وقال بعضهم: الفزع الأكبر ذبح الموت بمرأى من الفريقين، وإطباق جهنم على أهلها؛ أي: وضع الطبق عليها بعدما أخرج منها من أخرج، فيفزع أهلها حينئذٍ فزعًا شديدًا، لم يفزعوا فزعًا أشد منه. وقال الراغب: الفزع الأكبر هو الفزع من دخول النار، اهـ.
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن (٢): ﴿لا يُحزنهم﴾ بضم الياء وكسر الزاي من أحزن الرباعي لغة تميم. وقرأ الباقون ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ﴾ بفتح الياء وضم الزاي؛ قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾؛ أي: وتستقبلهم الملائكة الحفظة، الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم على أبواب الجنة، بالبشرى، بالنجاة من العذاب، أو ملائكة الرحمة مهنّئين لهم، قائلين: ﴿هَذَا﴾ اليوم، وهذا الوقت هو ﴿يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ في الدنيا بمجيئه، وتبشرون بما لكم فيه من الثواب، كفاء إيمانكم بالله وطاعتكم له، وتزكية أنفسكم بصالح الأعمال باتباعكم أوامر ربكم، واجتنابكم نواهيه. وقصارى ذلك أنهم خلصوا من كل ما يكرهون، وفازوا بكل ما يحبون.
١٠٤ - والظرف في قوله: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ﴾ منصوب بـ ﴿اذْكُرْ﴾ محذوفًا، وهو أولى وأوضح. والطي ضد النشر، وهو الجمع والدرج. والمراد، بالسماء: الجنس. والكاف في قوله: ﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ صفة لمصدر محذوف. والسجل: القرطاس والصحيفة، فالطي حينئذٍ، مصدر مضاد لمفعوله، والفاعل
(٢) الشوكاني.
وقيل: الظرف متعلق بقوله: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ والمعنى عليه: لا يحزنهم (١) الفزع الأكبر حين تطوي السماء وتزال، وتأتي سماء أخرى جديدة، وكواكب أخرى، كما يطوي الطومار والقرطاس على ما يكتب فيه لحفظه من الضياع والمحو. واللام على هذا بمعنى على.
والخلاصة: أنه لا يلحقهم الفزع حين تمحى رسوم السماء، وتذهب آثارها، وتخلق أرض جديدة وكواكب جديدة.
وقيل: الظرف متعلق بـ"نعيده" الآتي؛ أي: نعيده يوم نطوي السماء. وقيل: متعلق بقوله: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ﴾.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿نَطْوِي﴾ بنون العظمة. وقرأ أبو جعفر وأبو العالية وابن أبي عبلة وفرقة ﴿تُطَوى﴾ بتاء مضمومة وواو مفتوحة ﴿السَّمَاءَ﴾ رفعًا وذلك بمحو رسومها، وتكدير نجومها، وتكوير شمسها. وقرأت (٣) فرقة: منهم مجاهد وشيبة بن نصّاح ﴿يَطوي﴾ بياء الغيبة، مبنيًا للفاعل على معنى: يطوي الله السماء.
(٢) البحر المحيط وزاد المسير.
(٣) البحر المحيط وزاد المسير.
وقرأ الجمهور ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ﴿للكتاب﴾ بالإفراد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿لِلْكُتُبِ﴾ بالجمع. وسكّن التاء الأعمش.
والكاف في قوله: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ جارّة، وما مصدرية، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف. والمعنى: نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا له؛ أي: كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود، وهذا لا ينافي الإعادة من عجيب الذنب. وخلق مصدر بمعنى الخلائق. فلذلك أفرده اهـ "سمين". ففي الآية تشبيه الإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء. قال الزمخشري: فإن قلت: ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟
قلت: أوله إيجاده من العدم. فكما أوجده أولًا من عدم، يعيده ثانيًا من عدم.
تنبيه (١): اختلفوا في كيفية الإعادة، فقيل: إن الله تعالى يفرّق أجزاء الأجسام، ولا يعدمها، ثم إنه يعيد تأليفها، فذلك هو الإعادة. وقيل: إنه تعالى يعدمها بالكلية، ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى، وهذه الآية دالة على هذا الوجه؛ لأنه تعالى شبّه الإعادة بالابتداء، والابتداء، ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة، بل عن الوجود بعد العدم. فوجب أن تكون الإعادة كذلك.
واحتج الأولون بقوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾، فدل هذا على أن السموات، حال كونها مطوية تكون موجودة، وبقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
والمعنى على الوجهين: أي (١) نعيد ما خلقناه أولًا إعادة مثل بدئنا إياه، في كونه إيجادًا بعد عدم، أو جمعًا للأجزاء المتبدّدة، فهو تشبيه للإعادة بالابتداء في تناول قدرة الله تعالى لهما، على السواء. وقيل (٢): معناه: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم. حفاة عراة غرلًا، كذلك نعيدهم يوم القيامة. روي عن ابن عباس عن رسول الله - ﷺ -، أنه قال: "يحشر الناس يوم القيامة عراة. حفاة، غرلًا كما خلقوا"، ثم قرأ: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ متفق عليه. وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد.
وقوله: ﴿وَعْدًا عَلَيْنَا﴾ منصوب بـ ﴿وعدنا﴾ مقدرًا، وهو مؤكد لمضمون ما قبله؛ أي: وعدنا بالإعادة وعدًا حقًا علينا إنجازه، والوفاء به بسبب الإخبار عن ذلك، وتعلق العلم بوقوعه، وأن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ﴿إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ ما وعدنا لا محالة. قال العمادي: أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له. وقال الزجاج: معنى ﴿إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾: إنا كنا قادرين على ما نشاء، وهو البعث والإعادة، وهذه الجملة، ذكرت تأكيدًا لتحتم الخبر.
١٠٥ - ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ﴾، أي: وعزتي وجلالي لقد كتبنا وأثبتنا في الكتب المنزلة من السماء، التوراة، والإنجيل والزبور والفرقان ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ ما كتبناه في ﴿الذِّكْرِ﴾ وأثبتناه في اللوح المحفوظ ﴿أَنَّ الْأَرْضَ﴾؛ أي: أن أرض الجنة ﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات في الدنيا، من بعد بعثهم وإعادتهم في الآخرة، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ وعلى هذا المعنى: فالمراد بالزبور جميع الكتب المنزلة من السماء التوراة والإنجيل والزبور والقرآن؛ لأن الزبور والكتاب بمعنى واحد، يقال: زبرت وكتبت، قاله
(٢) زاد المسير.
وقيل: المراد بالزبور كتاب داود، وبالذكر توراة موسى. وقيل: المراد بالزبور القرآن، وبالذكر التوراة والإنجيل. وقيل: المراد بالأرض: أرض الأمم الكافرة يرثها نبينا محمد - ﷺ - وأمته بفتحها. وقيل: المراد بها الأرض المقدسة. يرثها بنو إسرائيل بدليل قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾. والظاهر (١): أن هذا تبشير لأمة محمد - ﷺ -، بوراثة أرض الكافرين، وإعزاز المسلمين، وإظهار الدين. وعليه أكثر المفسرين. وقرأ حمزة ﴿عبادي﴾ بتسكين الياء، وقرأ الباقون: بتحريكها.
وقيل معنى الآية: أي (٢) ولقد كتب الله عنده، وأثبت في قديم علمه الأزلي، الذي لا ينسى، ثم أثبت في الكتب السماوية من بعد ذلك، أن الأرض لا يعمرها من عباده إلّا من يصلح لعمارتها، من أي دين كان، وأي مذهب انتحل.
وصلاح الأمة، يقوم على أربعة أركان:
١ - أن يكون قادتها علماء مفكرين، وساستها حكماء عادلين، بعيدين عن الجور والظلم والمحاباة، يأخذون بيد المظلوم، وينصفونه من الظالم، ويعملون لخير الأمة وسعادتها، ويواصلون ليلهم بنهارهم في كل ما يرفع من شأنها، ويسمو بها على الأمم.
٢ - أن يكون لها جيش منظم، يحمي حريمها، ويدافع عنها، إذا جدّ الجدّ، وأدلهم الخطب، ولن يكون كذلك، إلّا إذا كان فيه المهندسون والمخترعون والقادة البارعون، ولديه من السلاح، وعداد الحرب، ما يكشف عنه العلم، من وسائل الدفاع من طائرات، وغوّاصات وسفن حربية، وآلات للهدم والتدمير، وجند حذقوا فنون الحرب، وبلوا أساليبها المختلفة.
(٢) المراغي.
٤ - أن تنظم هذه الطوائف أعمالها، بحيث تتوزع هذه المهن بين الأفراد، بحسب حاجة الأمة إليها، حتى لا تمد يدها إلى غيرها لمعونتا، ويكون في كل طائفة جماعة، مبرزون يفكرون فيما يرقى بشؤون الطائفة، بحيث تنافس أمثالها في الأمم الأخرى، أو تفوقها بما أوتيت، من حسن التدبير والتصرف.
وهذا (١): حكم أيّدته التجارب في سائر العصور، لدى جميع الدول، فما من أمة تهاونت في هذه الأمور، أو في شيء منها إلّا حكم عليها بالفناء والزوال، وتواريخ الفرس والروم والأمم الإسلامية والدولة التركية تدل على صدق ما نقول.
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾.
١٠٦ - ﴿إِنَّ فِي هَذَا﴾ المذكور في هذه السورة (٢)، من البراهين الدالة على التوحيد، وصحة النبوة والوعد والوعيد والمواعظ البالغة ﴿لَبَلَاغًا﴾ أي: لكفاية ﴿لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾؛ أي عاملين بعلومهم، مشغولين بعبادة الله، مهتمّين بها، لا يعبدون أحدًا من دون الله تعالى. وقيل: المعنى إن في هذا المقرآن المنزل عليك لبلاغًا؛ أي: لوصولا إلى البغية، يعني من اتبع القرآن، وعمل بما فيه وصل إلى ما يرجو من الثواب، وهم أمة محمد - ﷺ -، أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان والحج. والمعنى: أن من اتبع القرآن، وعمل به كان القرآن بلاغه إلى الجنة. وقيل: المعنى ﴿إِنَّ فِي هَذَا﴾؛ أي (٣): إن فيما ذكر في هذه السورة، من أنظمة
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
١٠٧ - ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ﴾ يا محمد (١) بهذا القرآن وأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك، من الأمور التي هي مناط السعادة في الدارين، في حال من الأحوال ﴿إِلَّا﴾ حال كونك ﴿رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ قاطبةً في الدين والدنيا، فإن ما بعث به سبب لسعادة الدارين، ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين، ومن أعرض عنه واستكبر، فإنما وقع في المحنة من قبل نفسه فلا يُرحَم. فإن (٢) الناس كانوا في ضلالة وحيرة، فبعث الله تعالى سيدنا محمدًا - ﷺ -، فبيَّن لهم سبيل الثواب، وأظهر الأحكام، وميَّز الحلال من الحرام، وإن كل نبي قبل نبينا، إذا كذَّبه قومه أهلكهم الله تعالى بالخسف والمسخ والغرق فالله تعالى أخّر عذاب من كذّبه إلى الموت، ورفع عذاب الاستئصال عنهم به - ﷺ - فجاء رحمةً في حق الكفار بسبب تأخير عقوبتهم. وقيل: المراد بالعالمين المؤمنون خاصة، والأول أولى بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾.
وفي "التأويلات النجمية": في سورة مريم بين قوله في حق عيسى - عليه السلام -: ﴿وَرَحْمَةً مِنَّا﴾ وبين قوله، في حق نبينا - ﷺ -: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾ فرق عظيم، وهو أنه في حق عيسى ذكر الرحمة مقيدة بحرف ﴿مِن﴾، و ﴿مِن﴾ للتبعض، فلهذا كان عيسى رحمة لمن آمن به، واتبع ما جاء به،
(٢) المراح.
١٠٨ - ثم بين سبحانه، أن أصل تلك الرحمة، هو التوحيد والبراءة من الشرك فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لمشركي قومك ﴿إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ﴾؛ أي: ما يوحى إليّ في هذا القرآن شيء إلّا ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي: إلّا كون إلهكم إلهًا منفردًا، لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله.
وقال الشهاب: في هذه الآية قصران:
الأول: قصر الصفة على الموصوف.
والثاني: بالعكس، فالثاني قصر فيه الله على الوحدانية، والأول قصر فيه الوحي على الوحدانية، والمعنى: لا يوحي إليّ إلّا اختصاص الإله بالوحدانية. وأورد عليه أنه كيف يقصر الوحي على الوحدانية، وقد أوحي إليه أمور كثيرة غيرها؟
وأجيب: بأنه معنى قصره عليها، أنها الأصل الأصيل، والأساس المقصود من البعثة، فإن ما عداها متفرع عليها، غير منظور إليه في جنبها، فهو قصر ادعائي، ليس حقيقياً، إذا المقصود نفي ما يصفه المشركون ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ يا أهل مكة؛ أي: منقادون لما يوحى إليّ من إخلاص الإلهية والتوحيد لله. والمراد بهذا الاستفهام الأمر، أي: أسلموا وأخلصوا عبادتكم لله تعالى.
والمعنى: أي قل يا محمد لمشركي قومك، ولمن بلغته الدعوة من غيرهم ما أوحى إليّ ربي، إلّا أنه لا إله إلّا هو، فلا تصلح العبادة لسواه، فانقادوا لأمره، وأذعنوا لطاعته، وابتعدوا عن عبادة الأوثان والأصنام، وتبرَّؤوا منها حتى تسلكوا سبيل النجاة، وتفوزوا بالسعادة
١٠٩ - ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: فإن أعرضوا عن اتباع ما أوحي إليك، ولم يسلموا ﴿فَقُلْ﴾ لهم ها أنا إذًا ﴿آذَنْتُكُمْ﴾ وأعلمتكم، بأني حرب لكم، كما أنكم حرب لى، فأنا بريءٌ منكم، كما أنكم برآء منى، وأنتم كائنون ﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾ في هذا الإعلام، لا أخص أحدًا منكم دون أحد، وما
وعبارة "البيضاوي" هنا (١): فقل: آذنتكم وأعلمتكم ما أمرت به، أو حربي لكم على سواءٍ؛ أي: مستوين في الإعلام به، أو مستوين أنا وأنتم في العلم، بما أعلمتكم به، أو في المعاداة، أو إيذانًا على سواء، وقيل: أعلمتم أني على سواء؛ أي: عدل واستقامة رأي بالبرهان النير انتهت.
﴿وَإِنْ أَدْرِي﴾ أي: ما أدري، وما أعلم ﴿أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾؛ أي: ما أعلم جواب أقريب ما توعدون به، من غلبة المسلمين وظهور الدين، أو الحشر مع كونه آتيًا لا محالة، أم بعيد هو، ولا جرم أن العذاب والذلة يلحقكم لا محالة، ولكن لا علم لى بقربه، ولا بعده؛ لأن الله لم يطلعني على ذلك.
و ﴿إِنْ﴾: نافية. و ﴿أَدْرِي﴾ معلّقة، والجمة الاستفهامية في موضع نصب بـ ﴿أَدْرِي﴾، وتأخر المستفهم عنه، لكونه فاصلة، إذ لو كان التركيب: أقريب ما توعدون أم بعيد، لم تكن فاصلة، وكثيرًا ما يرجح الحكم في الشيء، لكونه فاصلة آخر آية ذكره في "البحر".
ومعنى الآية: أي (٢) فإن أعرضوا عن توحيد المعبود، فقل لهم، يا محمد: إني أعلمتكم بأني محارب لكم، على إعلان، ولكن لا أدري متى يأذن لي ربي في محاربتكم، فتبين بهذا، أن السورة مكية، فإن الأمر بالجهاد كان بعد الهجرة.
وعن ابن عامر في رواية (٣) ﴿وَإِنْ أَدْرِي﴾ بفتح الياء في الآيتين تشبيهًا بياء الإضافة لفظًا، وإن كانت لام الفعل لا تفتح إلّا بعامل. وأنكر ابن مجاهد هذه الياء، والمعنى: أنه تعالى لم يُعْلِمْني علمه، ولم يطلعني عليه، والله هو العالم، الذي لا يخفى عليه شيء.
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
قال في "التأويلات النجمية": ﴿يعلم ما تجهرون﴾ من دعاوي الإسلام والإيمان والزهد والصلاح والمعارف ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾ من الصدق والإخلاص والرياء والسمعة والنفاق
١١١ - ﴿وَإِنْ أَدْرِي﴾؛ أي: وما أدري ﴿لَعَلَّهُ﴾؛ أي: لعل تأخير العذاب الموعود عنكم ﴿فِتْنَةٌ﴾؛ أي: اختبار ﴿لَكُمْ﴾ ليرى كيف صنيعكم، وهو أعلم بكلم ﴿وَمَتَاعٌ﴾ أي: تمتيع لكم ﴿إِلَى حِينٍ﴾ أي: إلى حين انقضاء آجالكم تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة، ليكون ذلك حجة عليكم، وليقع الجزاء في وقت هو فيه حكمة.
و ﴿لعل﴾ (٢) معلّقة هنا أيضًا، ولكن لا أعلم أحدًا ذهب إلى أن ﴿لعل﴾ من أدوات التعليق، وإن كان ظاهرًا فيها كقوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ والمعنى: أي (٣): وما أدري سبب تأخير جزائكم، ولعل ذلك زيادة في افتتانكم وامتحانكم لينظر كيف تعملون، وإنه ليؤخركم إلى حين كي تتمتعوا بلذات الدنيا، مع إعراضكم عن الإيمان، فيكون في ذلك زيادة عذابكم؛ لأن المعرض عن الإيمان مع توالي الآيات، وتتابع البينات والنذر يكون عقابه
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
١١٢ - ﴿قَالَ﴾ الرسول الكريم، - ﷺ -، فهو حكاية لدعائه، - ﷺ - ﴿رَبِّ احْكُمْ﴾ بيني وبين هؤلاء المكذبين ﴿بِالْحَقِّ﴾، أي: بما هو الحق عندك، ففوض الأمر إليه سبحانه؛ أي: احكم بيننا وبين أهل مكة بالعدل المستلزم لتعجيل العذاب، وقد استجيب دعاؤه - ﷺ -، حيث عذبوا في بدر وأُحد والخندق وحنين ﴿وَرَبُّنَا﴾ مبتدأ، خبره قوله: ﴿الرَّحْمَنُ﴾؛ أي: كثير الرحمة لعباده، وهي وإن كانت بمعنى الأنعام فمن صفات الفعل، وإن أريد بها إرادة إيصال الخير، فمن صفات الذات ﴿الْمُسْتَعَانُ﴾ خبر آخر؛ أي: المطلوب منه المعونة ﴿عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾؛ أي: على ما تقولون من أن الشوكة، تكون لهم، وإن راية الإسلام تخفق أياماً، ثم تركد وتسكن، فكذّب الله ظنونهم، وخذلهم ونصر رسوله - ﷺ -، والمؤمنين. ومعنى الآية؛ أي (٢): قال الرسول - ﷺ -: رب افصل بيني وبين من كذبني من مشركي قومي، وكفر بك وعبد غيرك بإحلال عذابك، ونقمتك به بالعدل، الذي يقتضي تعجيل العذاب به وتشديده عليه.
وخلاصة ذلك: رب عجّل بعذابهم، وقد أجاب الله دعاءه، وأنزل بهم العذاب الأليم يوم بدر. قال قتادة: كان الأنبياء يقولون: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ فأمر رسوله أن يقول ذلك، ﴿وربنا المستعان على ما تصفون﴾، من الشرك والكفر والكذب والأباطيل من قولكم: ﴿اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾، وقولكم: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾. ومن قولكم: ﴿إن الشوكة تكون لكم﴾ وقولكم: ﴿بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾.
وخلاصة ذلك: أنه طلب من ربه، أن يحكم بما يظهر الحق للجميع، وأمره ربه أن يتوعد الكفار بقوله: ﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾. وقد كثر استعمال "الوصف" في الكتاب الكريم بمعنى الكذب كقوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا
(٢) المراغي.
وقرأ الجمهور (١): ﴿قُل رَّبِّ﴾ بصيغة الأمر، وبكسر الباء. وقرأ حفص ﴿قَالَ﴾ بصيغة الماضي. وقرأ أبو جعفر ﴿رَبِّ﴾ بضم الباء، وهو من اللغات الجائزة في "يا غلامي"، وهي أن تبنيه على الضم، وأنت تنوي الإضافة، لما قطعته عن الإضافة، وأنت تريدها بنيته، فمعنى ﴿رَبِّ﴾ يا ربي. وقرأ الجمهور: ﴿احْكُمْ﴾ على الأمر من حكم. وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن: ﴿ربي﴾ بإسكان الياء ﴿احكم﴾ جعله أفعل التفضيل، ﴿فربي احكم﴾ مبتدأ وخبر. وروي زيد عن يعقوب ﴿ربي﴾ بفتح الياء. وقرأت فرقة: ﴿أحكم﴾ فعلًا ماضيًا. وقرأ الجمهور: ﴿تَصِفُونَ﴾ بتاء الخطاب. وروي أن النبي - ﷺ - قرأ على أبيّ ﴿على ما يصفون﴾ بياء الغيبة، ورويت عن ابن عامر وعاصم.
وفي الآية: إشارة إلى أنه، لا يطلب من الله تعالى، ولا يطمع في حق المطيع والعاصي، إلّا ما هو مستحقه، وقد جرى حكم الله فيهما في الأزل، وإن رحمته غير متناهية، وإن كانت أنواعها مئة، على ما قال النبي - ﷺ -: "إن لله مئة رحمة"، فعلى العاقل أن لا يغتر بطول العمر وكثرة الأموال والأولاد، فإن الاغترار بذلك من صفات الكفرة، ومن كلمات أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - قال: "مَنْ وسَّع الله عليه دنياه، فلم يعلم أنه قد يمكر به فهو مخدوع عن عقله".
الإعراب
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)﴾.
﴿وَأَيُّوبَ﴾: الواو: عاطفة. ﴿أيوب﴾: مفعول به لفعل محذوف تقديره: واذكر أيوب، ولكنه على حذف مضاف تقديره: واذكر خبر أيوب، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿وإبراهيم﴾. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤)﴾.
﴿فَاسْتَجَبْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿استجبنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿نَادَى﴾. ﴿لَهُ﴾ متعلق به. ﴿فَكَشَفْنَا﴾ الفاء: عاطفة. ﴿كشفنا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿استجبنا﴾. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿كشفنا﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿مِنْ ضُرٍّ﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على ﴿كشفنا﴾. ﴿أَهْلَهُ﴾ مفعول ثان لـ ﴿آتينا﴾؛ لأنه بمعنى أعطينا. ﴿وَمِثْلَهُمْ﴾ معطوف على ﴿أَهْلَهُ﴾، أو مفعول معه. ﴿مَعَهُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من ﴿مثلهم﴾؛ لأنه تخصص بالإضافة وإن لم يعرف؛ أي: كائنين معهم. ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول من أجله، منصوب بـ ﴿آتينا﴾. ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾ جار ومجرور مضاف إليه، صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾، ويجوز أن يكون مصدرًا لفعل محذوف تقديره: رحمناه رحمة. ﴿وَذِكْرَى﴾ معطوف على ﴿رَحْمَةً﴾. ﴿لِلْعَابِدِينَ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿ذكرى﴾؛ أي: تذكرة لهم. فيصبروا ويثابوا كما صبر أيوب وأثيب.
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا
﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾: منصوب بـ ﴿اذكر﴾ محذوفًا، والجملة معطوفة على جملة واذكر إبراهيم، ويجوز أن يعطف نسقًا على من تقدم من الأنبياء. ﴿وَإِدْرِيسَ﴾ معطوف على ﴿إسماعيل﴾. ﴿وَذَا الْكِفْلِ﴾ معطوف عليه أيضًا، منصوب بالألف ﴿كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾: مبتدأ وخبر، وسوّغ الابتداء بالنكرة الإضافة المقدّرة، أو العموم، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿فِي رَحْمَتِنَا﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أدخلنا﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: فأعطيناهم ثواب الصابرين وأدخلناهم. ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ جار ومجرور خبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)﴾.
﴿وَذَا النُّونِ﴾: منصوب بـ ﴿اذكر﴾: محذوفًا، ولكنه على تقدير مضاف، أي: واذكر خبر ذي النون، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة: واذكر إبراهيم. ﴿إِذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان. ﴿ذَّهَبَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ذي النون. ﴿مُغَاضِبًا﴾ حال من فاعل ذهب، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إِذ﴾، والظرف بدل من المضاف المقدر؛ أي: واذكر خبر ذي النون حين ذهب مغاضباً. ﴿فَظَنَّ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿ظن﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ذي النون، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ذهب. ﴿أَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ﴿لَنْ﴾ حرف نفي ونصب. ﴿نَقْدِرَ﴾ منصوب بـ ﴿لَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿نَقْدِرَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر ﴿أَن﴾ المخففة، وجملة ﴿أَن﴾ المخففة في تأويل مصدر، سادّ مسدّ مفعولي ﴿ظن﴾، تقديره: فظن عدم قدرتنا عليه. ﴿فَنَادَى﴾ الفاء: عاطفة ﴿نادى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ذي النون. ﴿فِي الظُّلُمَاتِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل نادى، والجملة الفعلية
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)﴾.
﴿فَاسْتَجَبْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿استجبنا﴾ فعل وفاعل. ﴿لَهُ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿نادى﴾. ﴿وَنَجَّيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنَ الْغَمِّ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿استجبنا﴾. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ الواو استئنافية. ﴿كذلك﴾ جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير مستتر، يعود على الله والتقدير: وننجي المؤمنين قاطبة من كربهم، إنجاء مثل إنجائنا يونس من غمه، والجملة الفعلية مستأنفة.
﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠)﴾
﴿وَزَكَرِيَّا﴾: منصوب بفعل محذوف تقديره: واذكر زكريا، ولكنه على
﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٩١) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (٩٣)﴾.
﴿وَالَّتِي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿التي﴾ اسم موصول في محل النصب. بفعل محذوف تقديره: واذكر قصة مريم التي أحصنت، والجملة المحذوفة معطوفة على الجمل المذكورة قبلها. ﴿أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿فَنَفَخْنَا﴾ الفاء: عاطفة. ﴿نفخنا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة أحصنت. ﴿مِنْ رُوحِنَا﴾: متعلق بـ ﴿نفخنا﴾: أيضًا، ولك أن تعرب التي مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: فيما يتلى عليهم. ﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿وَابْنَهَا﴾ معطوف على الهاء، أو مفعول معه. ﴿آيَةً﴾ مفعول ثان، وإنما لم يطابق المفعول الأول فَيُثَنّى؛ لأن كلًّا من مريم وابنها آية بانضمامه للآخر، فصارا آية واحدة، أو يقال: إنه حذف من أحدهما لدلالة الثاني عليه؛ أي: وجعلنا مريم آية، وابنها آية، أو بالعكس. ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ جار ومجرور صفة لآية. ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ﴾ ناصب واسمه وخبره. ﴿أُمَّةً﴾ حال لازمة من ﴿أُمَّتُكُمْ﴾: وقيل: بدل من ﴿هَذِهِ﴾، وقد فصل بين البدل والمبدل منه بالخبر، نحو: إن زيدًا قائم أخاك. و ﴿وَاحِدَةً﴾ صفة لازمة ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾. ﴿فَاعْبُدُونِ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنا ربكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول: ﴿اعبدون﴾ ﴿اعبدوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها، بكسرة نون الوقاية، في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَتَقَطَّعُوا﴾ الواو: عاطفة على محذوف تقديره: فأعرضوا عن العبادة، وتقطعوا أمرهم. ﴿تقطعوا﴾: فعل ماض وفاعل.
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (٩٤)﴾.
﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. ﴿يَعْمَلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بلم على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من. ﴿مِنَ﴾ زائدة. ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ مفعول به، أو من تبعيضية بمعنى بعض في محل النصب مفعول به، أو الجار والمجرور صفة لمفعول به محذوف تقديره: عملا كائنًا من الصالحات. ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يَعْمَلْ﴾. ﴿فَلَا كُفْرَانَ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية. ﴿لا﴾ نافية تعمل عمل ﴿إن﴾. ﴿كُفْرَانَ﴾ في محل النصب اسمها. ﴿لِسَعْيِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كُفْرَانَ﴾، والخبر محذوف تقديره: فلا كفران لسعيه موجود، أو هو خبر لا، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿مِنَ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة من الشرطية مستأنفة. ﴿وَإِنَّا﴾ الواو: استئنافية، أو حالية. ﴿إنا﴾ ناصب واسمها. ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿كَاتِبُونَ﴾. و ﴿كَاتِبُونَ﴾ خبر ﴿إن﴾، والجملة مستأنفة، أو حال عامله محذوف دل عليه السياق، تقديره: فلا نكفر لسعيه حالة كوننا كاتبين له.
﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥)﴾.
﴿وَحَرَامٌ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، أو عاطفة. ﴿حرام﴾: خبر مقدم. ﴿عَلَى قَرْيَةٍ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿قَرْيَةٍ﴾. ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَا﴾ نافية، وجملة ﴿يَرْجِعُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أنّ﴾ المفتوحة في تأويل مصدر، مرفوع على كونه مبتدأ مؤخرًا، والتقدير: وعدم رجوع قرية أهلكناها إلينا
﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (٩٧)﴾.
﴿حَتَّى﴾: حرف ابتداء وغاية لمحذوف تقديره: ويستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا فتحت. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿فُتِحَتْ يَأْجُوجُ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿وَمَأْجُوجُ﴾ معطوف على ﴿يَأْجُوجُ﴾، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ. ﴿مِنْ كُلِّ حَدَبٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَنْسِلُونَ﴾، وجملة ﴿يَنْسِلُونَ﴾: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ﴿يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾. ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿فُتِحَتْ﴾. ﴿الْحَقُّ﴾ صفة لـ ﴿الْوَعْدُ﴾. ﴿فَإِذَا﴾ الفاء: رابطة لجواب إذا وجوبًا. ﴿إذا﴾ فجائية مؤكدة للفاء الرابطة. ﴿هِيَ﴾: مبتدأ. ﴿شَاخِصَةٌ﴾ خبره، ﴿أَبْصَارُ﴾ فاعل ﴿شَاخِصَةٌ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿أَبْصَارُ﴾. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول، والجملة الاسمية جواب إذا، لا محل لا من الإعراب، وجملة إذا مستأنفة، وقعت غاية لمحذوف، كما قدّرنا سابقًا. ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء مقول لقول محذوف، تقديره: قائلين: يا ويلنا. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كان﴾. ﴿مِنْ هَذَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿غَفْلَةٍ﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل النصب مقول للقول المحذوف، على كونها جواب النداء. ﴿بَلْ﴾ حرف اضراب. ﴿كُنَّا ظَالِمِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل النصب، مقول لذلك القول المحذوف.
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨)﴾.
﴿لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠)﴾.
﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿وَرَدُوهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَكُلٌّ﴾: مبتدأ. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾. و ﴿خَالِدُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿وَرَدُوهَا﴾. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾ جار ومجرور حال من ضمير لهم. ﴿زَفِيرٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والتقدير: زفير كائن لهم، حالة كونهم مستقرين فيها، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿يَسْمَعُونَ﴾. ﴿لَا يَسْمَعُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من ضمير لهم، أو معطوفة على جملة لهم فيها زفير.
﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (١٠٢)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿سَبَقَتْ﴾ فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به. ﴿مِنَّا﴾ جار ومجرور حال من الحسنى. ﴿الْحُسْنَى﴾. فاعل، والجملة صلة
﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)﴾.
﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ﴾: فعل ومفعول وفاعل ﴿الْأَكْبَرُ﴾: صفة لـ ﴿فزع﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان لـ ﴿أن﴾، أو في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿مُبْعَدُونَ﴾. ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ﴾. ﴿هَذَا يَوْمُكُمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لقول محذوف. وقع حالًا من الملائكة، والتقدير؛ وتتلقاهم الملائكة حالة كون الملائكة قائلين: هذا يومكم ﴿الَّذِي﴾: صفة ليومكم ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تُوعَدُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: توعدونه.
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (١٠٤)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يوم نطوي السماء، أو متعلق بقوله: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ﴾، أو بقوله: ﴿تتلقاهم﴾. ﴿نَطْوِي السَّمَاءَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿كَتَبْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿فِي الزَّبُورِ﴾ متعلق به. ﴿مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، حال من ﴿الزَّبُورِ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿أَنَّ الْأَرْضَ﴾ ناصب واسمه. ﴿يَرِثُهَا﴾ فعل ومفعول. ﴿عِبَادِيَ﴾ فاعل ومضاف إليه. ﴿الصَّالِحُونَ﴾ صفة لـ ﴿عِبَادِيَ﴾، وجملة ﴿يَرِثُهَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر، منصوب على المفعولية لـ ﴿كَتَبْنَا﴾، والتقدير: ولقد كتبنا في الزبور وراثة الصالحين الأرض.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي هَذَا﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إنَّ﴾. ﴿لَبَلَاغًا﴾ اللام: حرف ابتداء. ﴿بلاغا﴾ اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر. ﴿لِقَوْمٍ﴾ جار ومجرور صفة ﴿لَبَلَاغًا﴾. ﴿عَابِدِينَ﴾ صفة ﴿قوم﴾، والتقدير: إن بلاغًا لقوم عابدين، لكائن في هذا، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة. ﴿ما﴾ نافية ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول لأجله، أو حال مبالغةً في أن جعله نفس الرحمة، أو على حذف مضاف؛ أي: ذا رحمة ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾، أو يتعلق بنفس الرحمة.
﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر ﴿يُوحَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿إِلَيَّ﴾ متعلقان به ﴿أَنَّمَا﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب وتوكيد ومصدر، ولكن بطل عملها، لدخول ما الكافة عليها. ﴿ما﴾: كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. ﴿إِلَهُكُمْ﴾ مبتدأ ومضاف إليه. ﴿إِلَهٌ﴾: خبر. ﴿وَاحِدٌ﴾ صفة لـ ﴿إِلَهٌ﴾. وجملة ﴿أن﴾ وما في حيّزها. من المبتدأ والخبر، في تأويل مصدر مرفوع، على كونه نائب فاعل لـ ﴿يُوحَى﴾، والتقدير: قل لهم يا محمد، ما يوحى إليّ إلّا كون إلهكم إلهًا واحدًا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قل. ﴿فَهَلْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم من التوحيد، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم، فأقول لكم هل أنتم مسلمون؛ أي: أسلموا. ﴿هل﴾: حرف استفهام بمعنى الأمر. ﴿أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩)﴾.
﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠)﴾.
﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَعْلَمُ الْجَهْرَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾: جار ومجرور. حال من الجهر، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قل﴾. ﴿وَيَعْلَمُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿مَا﴾: موصولة في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿يعلم﴾ في محل الرفع معطوفة على ﴿يعلم﴾ الأولى، وجملة ﴿تَكْتُمُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: تكتمونه.
﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (١١١)﴾.
﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١١٢)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، أو ﴿قل﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، اجتزاء عنها بالكسرة، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿احْكُمْ﴾ فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب. ﴿بِالْحَقِّ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول ﴿قل﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَرَبُّنَا﴾ الواو استئنافية. ﴿ربنا﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿الرَّحْمَنُ﴾: خبر أول. ﴿الْمُسْتَعَانُ﴾ خبر ثان، ويجوز أن يكون الرحمن صفة لـ ﴿ربنا﴾، والمستعان خبر المبتدأ؛ لأنه المحدّث به، والجملة الاسمية مستأنفة على كونها مقول القول. ﴿عَلَى مَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿الْمُسْتَعَانُ﴾، وجملة ﴿تَصِفُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تصفونه مما هو مخالف للواقع.
﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ والفرق بين الضر، بفتح الضاد، والضر بضمها، أن الضر بالفتح هو: الضرر بكل شيء، والضر بالضم: هو الضرر في النفس من هزال ومرض، وفرّق بين البناءين لافتراق المعنيين، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما، كما أورد معاني أخرى لهما، حيث قال:
وَضِدُّ نَفْعٍ قِيْلَ فِيْهِ ضَرُّ | وُجُوْدُ ضَرَّةِ لِعُرْسٍ ضَرُّ |
وَسُوْءُ حَالِ الْمَرْءِ ذَاكَ ضُرُّ | كَذَا هُزَالُ مَرَضٍ أَوْ كِبَرُ |
﴿وَذَا النُّونِ﴾ وفي "المختار": النون الحوت، وجمعه أنوان ونينان، وذو النون: لقب يونس بن متّى - على وزن شتّى - اسم والده على ما ذكر في "القاموس"، أو اسم لأمه، على ما قاله ابن الأثير في "النهاية" وغيره، اهـ كرخي. وكان متّى رجلًا صالحًا، وتوفي متى ويونس في بطن أمه، وله أربعة أشهر، اهـ زكريا. وعبارة "الشهاب" ومتى اسم أبيه على الصحيح، وقال ابن الأثير وغيره: أنه اسم أمه، ولم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه، غير يونس وعيسى، عليهما السلام، اهـ.
﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ أي: غضبان، فالمفاعلة ليست على بابها، فلا مشاركة، كعاقبت اللص، وسافرت. ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ أي؛ غاضب قومه وغاضبوه، حيث لم يؤمنوا في أول الأمر، اهـ كرخي.
﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾: أي: لن نقضي عليه بما قضينا من حبسه في بطن الحوت، أو نضيق عليه بذلك، فهي من القدر، لا من القدرة، كما في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾. وفي "المصباح": أن قدر بكل من المعنيين المذكورين، يأتي من بابي ضرب ونصر، اهـ. وذهب جمهور من
﴿وَزَكَرِيَّا﴾ بالمد، علم نبي، وألفه للتأنيث، فلذلك منع من الصرف، وهو أيضًا، غير مصروف للعجمة والتعريف. وقيل: هو عربي مشتق من زكر؛ أي: امتلأ، أو تزكر.
﴿رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ يقال: رغب الشيء اتسع، فإذا قيل: رغب فيه وإليه يقتضي الحرص عليه، فإذا قيل: رغب عنه اقتضى صرف الرغبة عنه والزهد فيه. والرغبة العطاء الكثير لكونه مرغوباً فيه، فيكون مشتقًا من الأصل، فإن أصل الرغبة السعة في الشيء، ومنه ليلة الرغائب؛ أي: العطايا الجزيلة. يقال: يعطي الرغائب من يشاء ويمنع. والرهبة مخافة مع تحرك واضطراب، اهـ "روح البيان" وفي "المختار": رغب ورهب كل منهما من باب طرب، اهـ.
﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ﴾ والحصن في الأصل: كل موضع حصين؛ أي: محكم لا يوصل إلى جوفه. وأحصنه، جعله في حصن وحرز، ثم تجوّز في كل تحرز، وامرأة حصان - كسحاب - عفيفة أو متزوجة؛ أي: ومريم التي منعت نفسها من قربان الرجال.
﴿فَرْجَهَا﴾ والفرج والفرجة: الشق بين الشيئين كفرجة الحائط. والفرج ما بين الرجلين. وكنى به عن السوءة، وكثر حتى صار كالصريح فيه. والفرج انكشاف الغم. وقال السهيلي - رحمه الله -: يريد فرج القميص؛ أي: لم يعلق بثوبها ريبة؛ أي: أنها طاهرة الأثواب. وفروج القميص أربعة: الكمّان، والأعلى، والأسفل، فلا يذهب وهمك إلى غير هذا، فإنه من لطيف الكناية، انتهى.
﴿رُوحِنَا﴾ والروح هو المعنى المعروف، ونفخ الروح هو الإحياء.
﴿آيَةً﴾؛ أي: برهانًا ودليلًا على قدرة الله تعالى.
﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعًا. والقطع فصل الشيء مدركًا بالبصر كالأجسام، أو بالبصيرة كالأشياء المعقولة والتفعّل هنا للتعدية، نحو: علمته الفقه فتعلم الفقه اهـ من "الروح".
﴿فَلَا كُفْرَانَ﴾ الكفران: مصدر بمعنى الكفر، كالشكران بمعنى الشكر، فهو كناية عن حرمان ثواب عمله.
﴿لِسَعْيِهِ﴾ والسعي، في الأصل: المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر، خيرًا كان أو شرًا، وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة.
﴿عَلَى قَرْيَةٍ﴾ والقرية: اسم للمصر الجامع كما في "القاموس"، واسم للموضع، الذي يجتمع فيه الناس، كما في "المفردات".
﴿مِنْ كُلِّ حَدَبٍ﴾ والحدب: النشز من الأرض؛ أي: المرتفع، وكل كدية أو أكمةٍ فهي حدبة، وبها سمي القبر، لظهوره على وجه الأرض. قال الراغب: يجوز أن يكون الأصل في الحدب حدث الظهر، وهو خروجه، ودخول الصدر والبطن، ثم شبه به ما ارتفع من الأرض، فسمي حدبًا، ومنه محدب الفلك.
﴿يَنْسِلُونَ﴾؛ أي: يسرعون، والنسلان: مقاربة الخطا مع الإسراع، يقال: نسل ينسل - بالفتح في الماضي، والكسر والضم في المضارع، اهـ "سمين". وفي "المصباح": نسل في مشيه نسلانًا أسرع، وهو من باب ضرب، اهـ. وفي "بحر العلوم": من نسل الذئب إذا أسرع في مشيه.
﴿قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ﴾ والغفلة: سهو يعترى من قلة التحفظ والتيقظ.
﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ الحصب المحصوب به؛ أي: يحصب بهم في النار. والحصب الرمي. وفي "المختار": والحصب - بفتحتين - ما تحصب به النار؛ أي: ترمى، وكل ما ألقيته في النار لاشتعالها فقد حصبتها به. من حصبه يحصبه من باب ضرب إذا رماه بالحصباء.
﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾ والزفير: صوت نفس المغموم، يخرج من أقصى الجوف.
﴿الْحُسْنَى﴾؛ أي: الكلمة الحسنى التي تتضمن البشارة بثوابهم حين الجزاء على أعمالهم.
﴿حَسِيسَهَا﴾ والحسيس: الصوت الذي يحيى من حركتها.
﴿فِي مَا اشْتَهَتْ﴾ والشهوة: طلب النفس اللذة.
﴿الْفَزَعُ﴾ انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف، وهو من جنس الجزع كما مر.
وفي "المصباح": حزن من باب قتل.
﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ﴾ والطي: ضد النشر. وقال ابن عباس: السجل الصحيفة، والمعنى: كطي الصحيفة على مكتوبها.
﴿الزَّبُورِ﴾: الكتب التي أنزلت على الأنبياء. قال الراغب: زبرت الكتاب، كتبته كتابة غليظة، وكل كتابٍ غليظ الكتابة يقال له الزبور. قال في "القاموس": الزبور الكتاب بمعنى المزبور، والجمع زبر، وكتاب داود، عليه السلام، انتهى.
و ﴿الذِّكْرِ﴾: اللوح المحفوظ. ﴿والبلاغ﴾: الكفاية.
﴿والعابد﴾ من عمل بما يعلم، من أحكام الشريعة وآدابها.
﴿مَا تُوعَدُونَ﴾: من غلبة المسلمين عليكم.
﴿فِتْنَةٌ﴾: أي: اختبار.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التلطف في طلب الرحمة في قوله: ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ ولم يقل: ارحمني، لطفاً في السؤال، وحفظًا للأدب في الخطاب، فإن أكثر أسئلة الأنبياء في كشف البلاء، إنما هي على سبيل التعريض.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
ومنها: إدخال أل الجنسية على الضر، لتشمل أنواعه المتقدمة.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿الصابرين﴾ و ﴿الصالحين﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿رَغَبًا وَرَهَبًا﴾، وبين ﴿قريب﴾ أم ﴿بعيد﴾.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ أضاف الروح إليه تعالى، على جهة التشريف كقوله: ﴿نَاقَةُ اللَّهِ﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ مثل اختلافهم في الدين وتفرقهم فيه إلى شيع وأحزاب بالجماعة، تتوزَّع الشيء، لهذا نصيب ولهذا نصيب، وهذا من لطيف الاستعارة.
ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ تشنيعًا
ومنها: المجاز في قوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ﴾؛ لأن الأمة حقيقة في الأمة المجتعة، ثم تجوّز فيها، فأطلقت على ما اجتمعوا عليه من الدين، قال تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ أي: دين وملة، اهـ زاده. قال الشهاب: وظاهر كلام الراغب، أنه حقيقة في هذا المعنى.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ شبه ردّ العمل، ومنع الثواب بالكفران، الذي هو ستر النعمة وإنكارها بجامع المنع في كل، فاستعار له لفظ الكفران.
ومنها: نفي الجنس في قوله: ﴿فَلَا كُفْرَانَ﴾ قصدا للمبالغة؛ لأن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿لِسَعْيِهِ﴾؛ لأن السعي في الأصل المشي السريع، وهو دون العدو، فاستعاره للعمل المحمود، بجامع الجدّ في كل.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿وَحَرَامٌ﴾ حيث استعار الحرام للممتنع الوجود، بجامع أن كلا منهما غير مرجو الحصول، اهـ "شهاب".
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿عَلَى قَرْيَةٍ﴾؛ أي: على أهلها، حيث أطلق المحل، وأراد الحال.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ﴾؛ لأنَّ الحديث حقيقة في حدب الظهر، وهو خروجه ودخول الصدر والبطن، ثم استعاره لما ارتفع من الأرض، بجامع مع الظهور في كل.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿يَا وَيْلَنَا﴾؛ أي: ويقولون: يا ويلنا، ومثله قوله: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾، أي: تقول لهم الملائكة: هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾ وذلك لأن، لقائل أن يقول: إذا نزل أهل الجنة منازلهم فيها، فأي بشارة لهم. في أنهم لا يسمعون حسيسها؟ فالجواب: أنه تأكيد للمبالغة في البعد عنها، وأنها لن تقرب منهم أبدًا.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾؛ لأنه كناية عن نجاتهم من جميع الأفزاع بالكلية؛ لأنهم إذا لم يحزنهم أكبر الأفزاع، لا يحزنهم ما عداه بالضرورة.
ومنها: تقديم الظرف على عامله في قوله: ﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ لغرض القصر والاهتمام بهم، وهو بيان لفوزهم بالمطالب، إثر بيان خلاصهم من المهالك كما مر.
ومنها: التشبيه المرسل المفصل في قوله: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾؛ أي: طيًّا مثل طي الصحيفة، على ما كتب فيها.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾؛ لأن فيه تشبيهًا للإعادة بالابتداء، في تناول القدرة لهما على السواء.
ومنها: القصر في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾؛ لأن في هذه الآية قصرين:
الأول: قصر الصفة على الموصوف، وذلك في قصر الوحي على الوحدانية، والمعنى: لا يوحى إليّ إلّا اختصاص الإله بالوحدانية، لا أنه، لم يودع إليه بشيء غيرها، ولكنها الأصل الرئيسي في كل عبادة وعمل، وهي المطلوبة أولًا وقبل كل شيء، حتى كان ما عداها غير منظور إليه، أو غير جدير
والثاني: قصر الموصوف على الصفة، وذلك في قصر الله على الوحدانية، وهو ظاهر.
ومنها: الإيجاز في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾؛ لأن في هذه الآية إيجاز قصر؛ لأنه تحدث بثلاث كلمات، وهي: ﴿آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ عن كلام طويل؛ أي: إن تولوا بعد هذه الآيات والشواهد، وأعرضوا وطووا كشحاً فقل لهم: لقد أعلمناكم علي بيان أنّا وإياكم في حرب لا مهادنة فيها، ولا صلح بيننا، ولكنني لا أدري متى يأذن الله لي في محاربتكم.
ومنها: الاستفهام الذي يراد به الأمر في قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾؛ أي: أسلموا.
ومنها: تكرير العلم في قوله: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠)﴾ لتكرير الوعيد وتوكيده.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ﴾؛ أي: استدراج من إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأنه لما كان الاستدراج سببًا للفتنة والعذاب، أطلق عليه لفظ الفتنة مجازًا مرسلًا، أو امتحان لكم؛ كيف تعملون؛ أي: معاملة تشبيهية بالامتحان على طريق الاستعارة التمثيلية، ذكره في "روح البيان".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - الإنذار بقرب الساعة مع غفلتهم.
٢ - إنكار المشركين بنبوة محمد - ﷺ -؛ لأنه بشر مثلهم، وأما جاء به أضغاث أحلام، وأنه قد افتراه، ولو كان نبيًا حقًا، لأتى بآية، كآيات موسى وعيسى، عليهما السلام.
٣ - الرد على هذه الشبهة بأن الأنبياء جميعًا كانوا بشرًا، وأهل العلم من اليهود والنصارى، يعلمون ذلك حق العلم.
٤ - الإخبار بأن الله، أهلك كثيرًا من الأمم، المكذبة لرسلها، وأنشأ بعدهم أقواماً آخرين.
٥ - بيان أن السموات والأرض لم تخلقا عبثًا، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، ولا يملون.
٦ - إقامة الدليل على وحدانية الله تعالى، والنعي على من يتخذ آلهة من دونه، بلا دليل على صدق ما يقولون، مع أن الأنبياء جميعًا أوحي إليهم أنه لا إله إلّا هو.
٧ - النعي على من ادعى أن الملائكة بنات الله.
٨ - وصف النشأة الأولى ببيان أن السموات والأرض كانتا رتقًا فانفصلتا، وأن الجبال جعلت على الأرض أوتادًا حتى لا تميد بأهلها، وأن كلا من الشمس والقمر يسبح في فلكه.
٩ - استعجال الكافرين للعذاب، مع أنهم لو علموا كنهه ما طلبوه.
١٠ - بيان أن الساعة تأتيهم بغتة، وهم لا يشعرون.
١١ - قصص بعض الأنبياء، موسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذي الكفل ويونس وزكريا وقصص مريم.
١٣ - حادث يأجوج ومأجوج، من أشراط الساعة، واقتراب يوم القيامة.
١٤ - بيان أن الأصنام وعابديها، يكونون يوم القيامة حطب جهنم، وأنهم لو كانوا آلهة حقًّا، ما دخلوها.
١٥ - وصف ما يلاقيه الكفار، من الأهوال في النار، يوم القيامة.
١٦ - وصف النعيم الذي يستمتع به أهل الجنة إذ ذاك.
١٧ - بيان أن الأرض ستبدل غير الأرض، وأن السماء تطوي طي السجل للكتاب.
١٨ - إن سنة الله في الكون، أن يرث الأرض من يصلح لعمارتها، من أي دين كان، وأي مذهب اعتنق.
١٩ - الوحي إنما جاء بالتوحيد، وأن لا إله إلا واحد، وأن الواجب الاستسلام له، والانقياد لأمره.
٢٠ - ما ختمت به السورة من طلب الرسول - ﷺ -، أن يحكم الله بينه وبين أعدائه المشركين، وأن الله هو المستعان على ما يصفونه به، من أنه مفترٍ، وأنه مجنون، وأنه شاعر، يتربصون به ريب المنون.
والله أعلم
* * *
اختلف أهل العلم، هل هي مكية أو مدنية؟ وقال البيضاوي والخازن: سورة الحج مكية (١) كلها، إلّا ست آيات، من قوله عز وجل: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾. وفي "تنوير المقياس": "سورة الحج كلها مكية (٢) إلّا خمس آيات ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ إلى آخر الآيتين، وقوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ إلى آخر الآيتين، والسجدة الأخيرة، فهؤلاء الآيات مدنيات، وكل شيء في القرآن ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ﴾ فهو مدني، وكل شيء في القرآن ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فهو مكي أو مدني، ولا نجد ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مكية" انتهى. وحكى القرطبي عن ابن عباس: أنها مكية سوى ثلاث آيات، وقيل أربع آيات إلى قوله: ﴿عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾، وحكي عن النقّاش: أنه نزل بالمدينة منها عشر آيات، وفي "المراغي": هي مدنية كلها، إلّا أربع آيات، (٥٢، ٥٣، ٥٤، ٥٥)، فبين مكة والمدينة. قال القرطبي: وقال الجمهور: إن السورة مختلطة، منها مكي، ومنها مدني، قال وهذا هو الصحيح. قال العزيزي: هي من أعاجيب السور، نزلت ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا، مكيًّا ومدنيًا، سلميًا وحربيًا، ناسخًا ومنسوخًا، محكمًا ومتشابهًا.
وآياتها ثمان وسبعون آية، وكلماتها ألف ومئتان وإحدى وتسعون كلمة، وحروفها خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفًا.
فضلها: وقد ورد في فضلها (٣):
ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في
(٢) تنوير المقياس.
(٣) الشوكاني.
وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي عن خالد بن معدان: أن رسول الله - ﷺ - قال: "فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين".
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والإسماعيلي وابن مردويه والبيقهي، عن عمر، أنه كان يسجد سجدتين في الحج، وقال: إن هذه السورة فضلت على سائر القرآن بسجدتين. وقد روي عن كثير من الصحابة أنَّ فيها سجدتين، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال بعضهم: إن فيها سجدة واحدة، وهو قول سفيان الثوري. وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس وإبراهيم النخعي.
التسمية: سمّيت سورة الحج، تخليدًا لدعوى الخليل إبراهيم، عليه السلام، حين انتهى من بناء البيت العتيق، ونادى الناس لحج البيت الحرام، فتواضعت الجبال، حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع نداؤه من في الأصلاب والأرحام، وأجابوا النداء بقولهم: "لبيك اللهم لبيك".
وهي بحسب موضوعاتها أقسام ثلاثة (١):
١ - البعث، والدليل عليه وما يتبع ذلك.
٢ - الحج والمسجد الحرام.
٣ - أمور عامة، كالقتال وهلاك الظالمين، والاستدلال بنظام الدنيا على وجود الخالق، وضرب المثل بعجز الأصنام، وعدم استطاعتها خلق الذباب.
المناسبة: ومناسبتها للسورة التي قبلها من وجوه:
١ - أن آخر السورة قبلها كان في أمر القيامة كقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ
٢ - أنه قد أقيمت في السورة السالفة الحجج الطبيعية على الوحدانية، وفي هذه جعل العلم الطبيعي من براهين البعث.
٣ - في السورة السالفة وما قبلها قصص الأنبياء وبراهينهم لقومهم، وفي هذه السورة خطاب من الله للأمم الحاضرة، وهو خطاب يسترعى السمع، ويوجب علينا ولو إجمالًا أن نعرف صنع الله في أرضه وسمائه، وتدبيره خلق الأجنة والنبات والحيوان.
قال أبو حيان (١): ومناسبة أول هذه السورة لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى ذكر فيما قبلها حال الأشقياء والسعداء، وذكر الفزع الأكبر، وهو ما يكون يوم القيامة، وكان مشركو مكة قد أنكروا المعاد، وكذبوه بسبب تأخر العذاب عنهم، فنزلت هذه السورة تحذيرًا لهم، وتخويفاً لما انطوت عليه من ذكر زلزلة الساعة، وشدة هولها، وذكر ما أعد لمنكريها، وتنبيههم على البعث بتطويرهم في خلقهم، وبهمود الأرض واهتزازها بعد بالنبات.
الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله (٢) محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الحج مكية وهي من أعاجيب القرآن؛ لأن فيها مكيًّا ومدنيًّا، حضريًا وسفريًا، وفيها حربيًا وفيها سلميًا، وفيها ليليًا، وفيها نهاريًا. فأما المكي. فمن رأس الثلاثين آية إلى آخرها. وأما المدني منها فمن رأس خمس عشرة إلى رأس الثلاثين. وأما الليلي منها فمن أولها إلى رأس خمس آيات. وأما النهاري منها فمن رأس الخمس إلى رأس اثنتيّ عشرة. وأما الحضريّ فإلى رأس العشرين. ونسب إلى المدينة لقربه منها. وفيها ناسخ ومنسوخ، فمن ذلك المنسوخ آيتان:
(٢) الناسخ والمنسوخ.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ الآية (٥٦) نسختها آية السيف.
والله أعلم
* * *
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٨) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٩) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (١٤) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (١٥) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨)﴾قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه (١) لما أنجز الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها.. بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها، حثًا على التقوى، التي هي أنفع زاد، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا أخبر (٢) فيما سلف بأهوال يوم القيامة وشدتها، ودعا الناس إلى تقوى الله تعالى.. بيّن مع هذا التحذير الشديد أن كثيرًا من الناس ينكرون هذا البعث، ويجادلون في أمور الغيب بغير علم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما حكى عن المشركين الجدال بغير علم في البعث والحشر، وذمهم على ذلك.. قفّى على هذا بإثباته من وجهين:
١ - الاستدلال بخلق الحيوان، وهو ما أشار إليه في الآية الأخرى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وقوله: ﴿قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.
٢ - الاستدلال بحال خلق النبات في قوله: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً...﴾ إلخ.
وعبارة أبي حيان هنا (٣): ولما ذكر تعالى من يجادل في قدرة الله بغير علم. وكان جدالهم في الحشر والمعاد، ذكر دليلين واضحين على ذلك:
أحدهما: في نفس الإنسان وابتداء خلقه وتطوره في مراتب سبع، وهي التراب والنطفة والعلقة والمضغة والإخراج طفلًا وبلوغ الأشد والتوفي أو الرد إلى الهرم.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى﴾ الآيات مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر في الآية قبلها حال الضُّلَّال المقلدين، الذين يتبعون أهل الكفر والمعاصي.. أردف ذلك، بذكر حال الدعاة إلى الضلال، من رؤوس الكفرة والمبتدعين.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر حال الضّالين المقلدين، الذين يجادلون في توحيد الله، بلا بينة ولا دليل، وحال المضلين الذين يجادلون بلا سلطان من عقل، ولا برهان صحيح من نقل، ثم بيَّن سوء مآلهما في الدنيا والآخرة، وأن لهما في الدنيا خزيا، وفي الآخرة عذابًا في النار، تحترق منه أجسامهما.. أعقب ذلك بذكر قوم مضطربي الإيمان، مذبذبين في دينهم، لا ثبات لهم في عقيدتهم، ولا استقرار لهم في آرائهم، إن أصابوا خيرًا فرحوا به، وركنوا إليه، وإن نالهم بلاء وشدة في أنفسهم، أو أهليهم أو أموالهم ارتدوا كفارًا، فلحقهم الخسار والدمار في دينهم ودنياهم، وذلك هو الخسران الذي لا خسران بعده، وهم في ذلك الحين يعبدون الأصنام والأوثان لتكشف عنهم ضرهم، وتدفع عنهم ما نزل بهم من البلاء، وقد ضلوا في ذلك ضلالًا بعيدًا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر في الآية السالفة حال المنافقين وحال معبوديهم.. عطف على ذلك بذكر حال المؤمنين، الذين آمنوا بقلوبهم، وصدَّقوا إيمانهم بأفعالهم، وعملوا الصالحات، وتركوا المنكرات.
قوله: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر (١) حال المجادل بالباطل
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه، لما ذكر أنه يهدى من يريد.. أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه لما أبان فيما سلف، أنه يقضي بين أرباب الفرق السالفة يوم القيامة، وهو شهيد على أقوالهم وأفعالهم.. أردف هذا ببيان أنه ما كان ينبغي لهم أن يختلفوا، ألا يرون أن جميع العوالم العلوية والسفلية كبيرها وصغيرها، شمسها وقمرها ونجومها وجبالها وحيوانها ونباتها، خاضعة لجبروته، مسخرة لقدرته، وقد كان في هذا مفتاح لهم لو أرادوا، ولكن من يهنه الله، ويكتب عليه الشقاء فلا يستطيع أحد أن يسعده، فالله وحده هو القدير على الإشقاء والإسعاد.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ...﴾ الآيتين، عن عمران بن حصين وغيره (١): أن هاتين الآيتين، نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلًا، فنادى رسول الله - ﷺ -: "فحثوا المطي" حتى كانوا حول رسول الله - ﷺ -، فقرأ عليهم، فلم ير باكياً أكثر من تلك الليلة، فلمّا أصبحو!، لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام، ولم يطبخوا، والناس بين باك، وجالس حزين متفكر، فقال رسول الله - ﷺ -: "أيُّ يوم ذلك"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذلك يوم، يقول الله لآدم: قم، فابعث من ذريتك بعث النار". أخرجه (٢) سعيد بن منصور، وأحمد، وعبد بن حميد والترمذي، وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم،
(٢) الشوكاني.