تفسير سورة سورة النمل من كتاب لطائف الإشارات
.
لمؤلفه
القشيري
.
المتوفي سنة 465 هـ
بسم الله اسم عزيز قصده العاصي لطلب التخفيف فصار وزره مغفورا، اسم كريم قصده العابد لطلب التضعيف فصار أجره موفورا، اسم جليل أمه الولي لطلب التشريف فصار سعيه مشكورا، اسم عزيز إن تعرض الفقير لوجوده محقته العزة، وطوحته السطوة، فصار كأن لم يكن شيئا مذكورا.
جلت الأحدية. . فأنى بالوصول. وتقدست الصمدية. . . فمن ذا الذي عليها يقف ؟
﴿ كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره ﴾ [ المدثر : ٥٤، ٥٥ ].
وكم باسطين إلى وصلنا | أكُفَّهمو. . لم ينالوا نصيبا |
ﰡ
قوله جل ذكره :﴿ طس تلك ءايات القرءان وكتاب مبين ﴾ [ النمل : ١ ].
بطهارةِ قُدّسِي وسناءٍ عِزِّي لا ُأخَيِّبُ أَمَلَ من أَمَّلَ لطفي.
بوجود بِرِّي تطيب قلوبُ أوليائي، وبشهود وجهي تغيب أسرار أصفيائي.
طَلَبُ القاصدين مُُقَابَلٌ بلطفي، وسَعْيُ العاملين مشكورٌ بعطفي.
﴿ تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ النحل : ١ ] : هذه دلالات كَرَمِنا، وأماراتُ فضلنا وشواهدُ بِرِّنا، نُبَيِّنُ لأوليائنا صِدْقَ وَعْدِنا، ونُحقِّقُ للأصفياء حِفْظَ عَهْدِنا.
هذه الآياتُ وهذا الكتابُ بيانٌ وشِفاءٌ، ونورٌ وضياءٌ، وبشرى ودليلٌ لِمَنْ حققنا لهم الإيمان، وأَكَّدْنا لهم الضمان، وكفلنا لهم الإحسان.
يديمون الصلوات، ويستقيمون في آداب المناجاة ويؤدون عن أموالهم وأحوالهم وحركاتِهم وسكناتِهم الزكاة، بما يقومون في حقوق المسلمين أحسنَ مقام، وينوبون عن ضعفائهم أحسنَ مناب.
أغشيناهم فَهُم لا يُبْصِرُون، وعَمَّيْنَا عليهم المسالكَ فهم عن الطريقة المُثْلَى يَعْدِلون، أولئك الذين في ضلالتهم يعمهون، وفي حيرتهم يَتَرَدُّون.
﴿ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ أن يجد الآلام ولا يجد التسلِّي بمعرفة المُسَلِّي، ويحمل البلاَءَ ولا يحمل عنه ثقلَه وعذابَه شهودُ المُبْلِي. . وذلك للكفار، فأمّا المؤمنون فيُخَفِّفُ عنهم العذابَ في الآخرةِ حُسْنُ رجائِهم في الله، ثم تضرُّعُهم إلى الله، ثم فَضْلُ الله معهم بالتخفيف في حال البلاء ثم ما وقع عليهم من الغشي والإفاقة - كما في الخبر - إلى وقت إخراجهم من النار.
أي أن الذي أكرمكَ بإنزال القرآن عليك هو الذي يحفظك عن الأسواء والأعداء وصنوف البلاء.
سار موسى بأهله من مدين شعيب متوجهاً إلى مصر، ودَجَا عليه الليلُ، وأخذ امرأتَه الطَّلْقُ وهَبَّت الرياحُ الباردة، ولم يورِ الزَّنْد، وضاق على موسى الأمرُ، واستبهم الوقتُ، وتشتتت به الهمة، واستولى على قلبه الشغل. ثم رأى ناراً من بعيد، فقال لأهله : امكثوا إنِّي أبصرتُ ناراً. وفي القصة : إنه تشتت أغنامُه، وكانت له بقور وثيران تحمل متاعَه فشردت، فقالت امرأتُه :
كيف تتركنا وتمضي والوادي مسبع ؟ !.
فقال : امكثوا. . فإني لأجلكم أمضي وأتعرف أمرَ هذه النار، لَعَلِّي آتيكم منها إِمَّا بِقَبَسٍ أو شعلةٍ، أو بخبرٍ عن قوم نُزُولٍ عليها تكون لنا بهم استعانة، ومن جهتهم انتفاع. وبَدَتْ لعينه تلك النارُ قريبةً، فكان يمشي نحوها، وهي تتباعد حتى قَرُب منها، فرأى شجرةً رطبةً خضراءَ تشتعل كلُّها من أولها إلى آخرها، وهي مضيئة، فَجَمَعَ خُشَيْبَاتٍ وأراد أن يقتبس منها، فعند ذلك سمع النداءَ من الله لا من الشجرة كما تَوَهَّم المخالِفون من أهل البدع. وحصل الإجماعُ أَنَّ موسى سمع تلك الليلة كلامَ الله، ولو كان النداء في الشجرة لكان المتكلم به الشجرة، ولأجل الإجماع قلنا : لم يكن النداء في الشجرة وإلا فنحن نجوّز أن يخلق الله نداءً في الشجرة ويكون تعريفاً، ولكن حينئذٍ يكون المتكلم بذلك الشجرة.
ولا يُنْكر في الجواز أن يكون الله أسمع موسى كلامه بإسماع خلقه له، وخَلَقَ كلاماً في الشجرة أيضاً، فموسى سمع كلامَه القديم وسمع كلاماً مخلوقاً في الشجرة. . . وهذا من طريق العقل جائز.
أي بورِكَ مَنْ هو في طلب النار ومَنْ هو حول النار.
ومعنى بورِكَ لَحِقَتْه البركةُ أو أصابته البَرَكةُ. . . والبركةُ الزيادةُ والنَّماءُ في الخير.
والدعاء مِنَ القديم - سبحانه - بهذا يكون تحقيقاً له وتيسيراً به.
الذي يُخَاطِبُكَ أنا اللَّهُ ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ في استحقاق جلالي، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ في جميع أفعالي.
في آية أخرى بَيَّنَ أنه سأله، وقال له على وجه التقرير :﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾
[ طه : ١٧ ] وأجابه بقوله :﴿ هِىَ عَصَاىَ ﴾ [ طه : ١٧ ] وذَكَرَ بعضَ مَا لَه فيها من المآرب والمنافع، فقال الله :﴿ وََألْقِ عَصَاكَ ﴾، وذلك لأنه أراد أَنْ يُرِيَه فيها من عظيم البرهان ما يجعل له كمالَ اليقين.
وألقاها موسى فَقَلَبَهَا اللَّهُ ثعباناً، أولاً حيةً صغيرةً ثم صارت حيةً كبيرةً، فأوجس في نفسه موسى خيفةً وولَّى مُدْبِراً هارباً، وكان خوفه من أن يُسَلِّطَهَا عليه لمَّا كان عارفاً بأن الله يعذِّب مَنْ يشاء بما يشاء، فقال له الحقُّ :﴿ يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾.
أي لا ينبغي لهم أن يخافوا.
وهذا يدلُّ على جواز الذَّنْبِ على الأنبياء عليهم السلام فيما لا يتعلق بتبليغ الرسالة بشرط تَرْكِ الإصرار. فأمَّا مَنْ لا يُجِيزُ عليهم الذنوبَ فيحمل هذا على ما قبل النبوة.
فلمَّا رأى موسى انقلابَ العصا عَلِمَ أَنَّ الحقَّ هو الذي يكاشفه بذلك.
ويقال : كيف عَلِمَ موسى - عليه السلام - أَنَّ الذي سمعه كلامُ اللَّهِ ؟
والجواب أنه بتعريفٍ منه إياه - ويجوز أن يكون ذلك العلم ضرورياً فيه، ويجوز أن يكون كَسْبياً، ويكون الدليل له الذي به عَلِمَ صِدْقَه في قوله :﴿ إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ ﴾ هو ما ظهر على يَدِهِ - في الوقت - من المعجزة، من قَلْبِ العصا، وإخراج يده بيضاء.
من غير سوءٍ أي بَرَصٍ. وفي القصة أن موسى عليه السلام ذَكَرَ اشتغال قلبه بحديث امرأته، وما أصابه تلك الليلة من الأحوال التي أَوْجَبَتْ انزعاجَه، وقَصْدَه في طلب النار، فقال الله تعالى :" إنا قد كفيناكَ ذلك الأمرَ، ووكلنا بامرأتِكَ وأسبابك، فجمعنا أغنامَك وثيرانَك، وسَلِمْتَ لَكَ المرأةُ ".
لم يُظْهِرْ اللَّهُ - سبحانه - آيةً على رسولٍ من أنبيائه - عليهم السلام - إلاّ كانت في الوضوح بحيث لو وَضَعوا النظرَ فيها موضعَه لتَوَصَّلُوا إلى حصول العلم وثلج الصدور، ولكنهم قَصَّروا في بعضها بالإعراض عن النظر فيها، وفي بعضها الآخر عرفوها وقابلوها بالجَحْدِ. قال تعالى وقولُه صِدْقٌ :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾.
وكما يَحْصُلُ من الكافِر الجَحْدُ تحصل للعاصي عند الإلمام ببعض الذنوب حالةٌ يعلم فيها - بالقطع - أن ما يفعله غير جائز، وتتوالى على قلبه الخواطرُ الزاجرةُ الداعيةُ له عن فِعْلِها من غير أَنْ يكونَ متغافلاً عنها أو ناسياً لها، ثم يُقْدِمُ على ذلك غيرَ مُحْتَفِلٍ بها مُوَافَقَةً لشهوتِه. وهذا الجنسُ من المعاصي أكثرُها شؤماً، وأشدُّها في العقوبة، وأبْعَدُها عن الغفران.
يقتضي حكمُ هذا الخطاب أنه أفْرَدهُما بجنسٍ من العلم لم يشارِكُهُما فيه أحدٌ ؛ لأنه ذَكَرَه على وجه تخصيصهما به، ولا شكّ أنه كان من العلوم الدينية ؛ ويحتمل أنه كان بزيادة بيانٍ لهما أغناهما عن إقامة البرهان عليه وتصحيحه بالاستدلال الذي هو مُعَرَّضٌ للشك فيه.
ويحتمل أن يكون علمهما بأحوال أمتهما على وجه الإشراف على ما كانوا يستسرون به، فيكون إخبارُهما عن ذلك معجزةً لهما.
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴾.
ويحتمل أن يكون علمهما بالله على وجه زيادةٍ لهما في البيان.
وفي الآية دليل على أن التفضيل الذي يحصل بالعلم لا يحصل بغيره من الصفات، فأخبر بأنهما شَكَرَا الله على عظيم ما أنعم به عليهما.
ورث أباه في النبوة، وورثه في أن أقامه مقامه.
قوله :
﴿ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴾ : وكان ذلك معجزةً له، أظهرها لقومه ليعلموا بها صِدْقَ إخباره عن نبوته. ومَنْ كان صاحبَ بصيرةٍ وحضور قلب بالله يشهد الأشياءَ كلّها بالله ومن الله. ويكون مُكَاشَفاً بها من حيث التفهيم، فكأنه يسمع من كل شيءٍ تعريفاتٍ الحقِّ - سبحانه - للعبد مما لا نهاية له، وذلك موجودٌ فيهم مَحْكِيٌّ عنهم. وكما أنَّ ضربَ الطّبْلِ مثلاً دليلٌ يُعْرَفُ - بالمواضعة - عند سماعه وقتُ الرحيلِ والنزولِ فالحقُّ - سبحانه - يخصُّ أهلَ الحضورِ بفنون التعريفاتِ، من سماعِ الأصواتِ وشهودِ أحوال المرئيات في اختلافها، كما قيل :
إذا المرءُ كانت له فِكرةٌ | ففي كل شيءٍ له عِبْرَةً |
سخَّر اللَّهُ لسليمان - عليه السلام - الجنَّ والطيرَ، فكان الجنُّ مكلَّفين، والطيرُ كانت مُسَخَّرَةً إلا أنه كان عليها شَرْعٌ، وكذلك الحيوانات التي كانت في وقته، حتى النمل كان سليمان يعرف خطابَهم ينفذ عليهم حُكْمه.
قيل إن سليمان استحضر أميرَ النمل الذي قال لقومه :﴿ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ﴾ وقال له : أمَا عَلِمْتَ أَنِّي معصومٌ، وأَنَّي لن أُمَكِّنْ عسكري مِنْ أَنْ يطؤوكم ؟ فأخبره أميرُ النمل أنّه لا يعلم ذلك ؛ لأنه ليس بواجبٍ أن يكون النملُ عالماً بعصمة سليمان. ولو قال : لعلكم أبيح لكم ذلك. . لكان هذا أيضاً جائزاً.
وقيل إن ذلك النمل قال لسليمان : إني أَحْمِلُ قومي على الزهد في الدنيا، وخَشِيتُ إِنْ يَرَوْكُم في مُلْكِكم أَنْ يرغبوا فيها، فأَمَرْتُهم بدخول مساكنهم لئلا يتشوَّشَ عليهم زُهْدُهُم. ولَئِنْ صَحَّ هذا ففيه دليلٌ على وجوب سياسة الكبار لِمَنْ هو في رعيتهم. وفي الآية دليلٌ على حسْنِ الاحتراز مِمّا يُخْشَى وقوعُه، وأَنَّ ذلك مما تقتضيه عادةُ النّفْسِ وما فُطِرُوا عليه من التمييز.
ويقال إن ذلك النمل قال لسليمان : ما الذي أعطاك اللَّهُ من الكرامة ؟
فقال : سَخّرَ لي الريحَ.
فقال : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإشارة فيه أنه ليس بيدك مما أُعْطِيتَ إلا الريح ؟
وهكذا بيَّنَه الكبيرُ على لسان الصغير !.
التبسُّمُ من الملوكِ يندر لمراعاتهم حُكْمَ السياسة، وذلك يدلُّ على رضاهم واستحسانهم لما منه يحصل التبسُّم، فلقد استحسن سليمان من كبير النمل حُسْنَ سياسته لرعيته.
وفي القصة أنه استعرض جُنْدَه ليراهم كم هم، فَعَرَضَهم عليه، وكانوا يأتون فوجاً فوجاً، حتى مضى شَهْرٌ وسليمان واقفٌ ينظر إليهم مُعْتَبِراً فلم ينتهوا، ومَرَّ سليمانُ عليه السلام.
وفي القصة : أن عظيم النمل كان مثل البغل في عِظَمِ الجثة، وله خرطوم. والله أعلم.
قوله جلّ ذكره :﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضاهُ ﴾.
في ذلك دليلٌ على أن نَظَرَه إليهم كان نَظَرَ اعتبارٍ، وأنه رأى تعريفَ الله إِياه ذلك، وتنبيهُه عليه من جملة نِعَمِه التي يجب عليها الشكرُ.
وفي قوله :﴿ وَعَلَى والدي ﴾ دليلٌ على أَنَّ شُكْرَ الشاكر لله لا يختص بما أَنْعَمَ به عليه على الخصوص، بل يجب على العبد أن يشكر الله على ما خَصَّ وَعَمَّ من نِعَمِه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وأدخلني بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾.
سأل حُسْنَ العاقبة. لأنَّ الصالحَ من عباده مَنْ هو مختوم له بالسعادة.
تَطَلّبَه فَلَمَّا لم يَرَه تَعَرَّف ما سبب تأخره وغيبته.
ودلَّ ذلك على تيقظ سليمان في مملكته، وحسن قيامه وتكفله بأمور أمته ورعيته، حيث لم تَخْفَ عليه غيبةُ طيرٍ هو من أصغر الطيور لم يحضر ساعةً واحدةً. وهذا أحسن ما قيل.
ثم تَهَدَّدَه إن لم يكن له عُذْرٌ بعذاب شديدٍ، وذلك يدلُّ على كمال سياسته وعَدْلِه في مملكته.
وقال قومٌ إنما عَرَفَ أن الهدهد يعرف أعماقَ الماء بإلهام خُصَّ به، وأنَّ سليمان كان قد نزل منزلاً ليس به ماء، فطلبَ الهدهد ليهديَهم إلى مواضع الماء، وهذا ممكن ؛ لأن في الهدهد كَثْرَةً. وغيبةُ واحدةٍ منها لا يحصل منها خَلَلٌ - اللهم إلاّ إِنْ كان ذلك الواحد مخصوصاً بمعرفة مواضع وأعماق الماء. . . والله أعلم.
وروي أن ابن عباس سُئِلَ عن ذلك، وأنه قيل له : إنْ كان الهدهدُ يرى الماءَ تحت الترابِ ويعرفه فكيف لا يرى الفَخَّ مخفيّاً تحت التراب ؟
فقال : إذا جاء القضاء عَمِيَ البصر.
ويقال : إن الطير كانت تقف فوق رأس سليمان مُصْطَفّةً، وكانت تستر انبساط الشمس وشعاعها بأجنحتها، فوقع شعاعُ الشمسِ على الأرض، فنظر سليمانُ فرأى موضع الهدهد خالياً منه، فَعَرَفَ بذلك غَيْبَته. . وهذا أيضاً ممكن، ويدل على كمال تَفَقُّدِه، وكمال تَيَقُّظِه - كما ذكرنا.
في هذه الآية دليل على مقدار الجُرْمِ، وأنه لا عِبْرَةَ بصغر الجثة وعِظَمِها. وفيه دليل على أن الطير في زمانه كانت في جملة التكليف، ولا يبعد الآن أن يكون عليها شَرْعٌ، وأَنَّ لهم من الله إلهاماً وإعلاماً ؛ وإِن كان لا يُعْرَفُ ذلك على وجه القَطْع.
وتعيين ذلك العذاب الشديدِ غيرُ ممكنٍ قطعاً، إلا تجويزاً واحتمالاً.
وعلى هذه الطريقة يَحْتَمِلُ كلَّ ما قيل فيه.
ويمكن أن يقال فإن وُجِدَ في شيءٍ نَقْلٌ فهو مُتَّبَعٌ.
وقد قيل هو نَتْفُ ريشُه وإلقاؤه في الشمس.
وقيل يفرِّق بينه وبين أليفه.
وقيل يشتِّت عليه وقتَه.
وقيل يُلْزِمُه خدمة أقرانه.
والأَولى في هذا أن يقال من العذاب الشديد كيت وكيت، وألا يُقْطَعَ بشيءٍ دون غيره على وجه القطع.
فَمِنَ العذاب الشديد أن يُمْنَعَ حلاوة الخدمة فيجد أَلَمَ المشقة. ومن ذلك أن يقطع عنه حُسْنُ التولي لشأْنه ويوكَلَ إلى حَوْلِهِ ونَفْسِه، ومن ذلك أن يُمْتَحَنَ بالحِرْصِ في الطلب ثم يحال بينه وبين مقصوده ومطلوبه. ومن العذاب الشديد الطمع في اسم العذر ثم لا يرتفع ومن ذلك سَلْبُ القناعة. ومنه عَدَمُ الرضا بما يجري. ومن ذلك توهم الحدثان وحسبان شيءٍ من الخَلْق.
ومن ذلك الحاجة إلى الأَخٍسَّةِ من الناس. ومن ذلك ذُلُّ السؤال مع الغفلة عن شهود التقدير. ومن ذلك صحبة الأضداد والابتلاء بمعاشرتهم. ومن ذلك ضعف اليقين وقلة الصبر. ومن ذلك التباس طريق الرُّشد. ومنه حسبان الباطل بصفة الحق. والتباس الحقِّ في صورة الباطل. ومنه أن يطالب بما لا تتسع له ذات يده. ومنه الفقر في الغُرْبة.
فلم يلبث الهدهدُ أن جاء، وعََلِمَ أن سليمانَ قد تَهدَّدَه، فقال : أَحَطْتُ علماً بما هو عليك خافٍ، ﴿ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾.
ثم ذكر حديث بلقيس، وأنها ملكتهم، وأن لها من المالِ والمُلْكِ والسرير العظيم ما عَدَّه، فلم يتغير سليمانُ - عليه السلام - لذلك، ولم يستفزّه الطمع فيما سَمِعَ عن هذا كما يحدث من عادة الملوك في الطمع في مُلِكِ غيرهم.
فلما قال :﴿ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ﴾
فعند ذلك غَاظَ هذا سليمانَ، وغَضِبَ في الله، و :
﴿ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾
وفي هذا دلالة على أن خَبَرَ الواحدِ لا يوجِب العلمَ فيجب التوقفُ فيه على حدِّ التجويز، وفيه دلالة على أنه لا يُطْرَح بل يجب أن يُتَعَرَّفَ : هل هو صدق أم كذب ؟
ولمَّا عَرَفَ سليمان هذا العُذْرَ تَرَكَ عقوبتَه وما تَوَعَّدَه به. . . وكذلك سبيلُ الوالي ؛ فإنَّ عَدْلَه يمنعه من الحيفِ على رعيته، ويَقْبَلُ عُذْرَ مَنْ وَجَدَهُ في صورة المجرمين إذا صَدَقَ في اعتذاره.
في الآية إشارة إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يذكر بين يدي الملوك كلَّ كلمة، فإنه يَجُرُّ العناءَ بذلك إلى نَفْسه ؛ وقد كان لسليمان من الخَدَمِ والحَشَم ومَنْ يأتمر بأمره الكثير، ولكنه لم يستعمل واحداً في هذا التكليف إلا الهدهد لأنه هو الذي قال ما قال، فلزمه الخروج من عهدة ما قال.
ويقال لمَّا صَدَقَ فيما أخبر لِمَلِكهِ عُوِّضَ عليه فَأُهِّلَ للسفارة والرسالة - على ضعف صورته.
فمضى الهدهد، وألقى الكتاب إليها كما أُمِرَ، وانتحى إلى جانبٍ ينتظر ماذا يفعلون وبماذا يُجَاب.
﴿ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ الكَرَمُ نَفْيُ الدناءة، وقيل لأنه كان مختوماً، وقيل لأنَّ الرسولُ كان طيراً ؛ فَعَلِمَتْ أَنَّ مَنْ تكون الطيرُ مُسَخَّرة لَهُ لا بُدّ أنه عظيمُ الشأنِ. وقيل لأنه كان مُصَدَّراً ببسم الله الرحمن الرحيم. وقيل لأنه كتب فيه اسم نَفْسِه أولاً ولم يَقُلْ : إنه من سليمان إلى فلانة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويقال أَخَذَ الكتابُ بمجامع قلبها، وقَهَرَها ؛ فلم يكن لها جواب، فقالت، ﴿ إِنِّى أُلْقِىَ إِلّىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ فلمَّا عَرَفَتْ قَدْرَ الكتابِ وصلت باحترامها إلى بقاء مُلكِها، ورُزِقَتْ الإسلامَ وصُحْبَةً سليمان.
ويقال إذا كان الكتابُ كريماً لما فيه من آية التسمية فالكريمُ من الصلاة ما لا يتجرَّدُ عن التسمية. وإذا تجرَّدت كان الأمرُ فيها بالعكس.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:﴿ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ الكَرَمُ نَفْيُ الدناءة، وقيل لأنه كان مختوماً، وقيل لأنَّ الرسولُ كان طيراً ؛ فَعَلِمَتْ أَنَّ مَنْ تكون الطيرُ مُسَخَّرة لَهُ لا بُدّ أنه عظيمُ الشأنِ. وقيل لأنه كان مُصَدَّراً ببسم الله الرحمن الرحيم. وقيل لأنه كتب فيه اسم نَفْسِه أولاً ولم يَقُلْ : إنه من سليمان إلى فلانة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويقال أَخَذَ الكتابُ بمجامع قلبها، وقَهَرَها ؛ فلم يكن لها جواب، فقالت، ﴿ إِنِّى أُلْقِىَ إِلّىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ فلمَّا عَرَفَتْ قَدْرَ الكتابِ وصلت باحترامها إلى بقاء مُلكِها، ورُزِقَتْ الإسلامَ وصُحْبَةً سليمان.
ويقال إذا كان الكتابُ كريماً لما فيه من آية التسمية فالكريمُ من الصلاة ما لا يتجرَّدُ عن التسمية. وإذا تجرَّدت كان الأمرُ فيها بالعكس.
ويقال لم يكن في الكتاب ذكر الطمع في المُلْكِ بل كان دُعَاءً إلى الله :﴿ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويقال أَخَذَ الكتابُ بمجامع قلبها، وقَهَرَها ؛ فلم يكن لها جواب، فقالت، ﴿ إِنِّى أُلْقِىَ إِلّىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾ فلمَّا عَرَفَتْ قَدْرَ الكتابِ وصلت باحترامها إلى بقاء مُلكِها، ورُزِقَتْ الإسلامَ وصُحْبَةً سليمان.
ويقال إذا كان الكتابُ كريماً لما فيه من آية التسمية فالكريمُ من الصلاة ما لا يتجرَّدُ عن التسمية. وإذا تجرَّدت كان الأمرُ فيها بالعكس.
أَخَذَتْ في المشاورة كما تقتضيه الحال في الأمور العظام ؛ فإن المَلِكَ لا ينبغي أن يكون مستبداً برأيه، ويجب أن يكون له قومٌ من أهل الرأي والبصيرة.
أجابوا على شرط الأدب، وقالوا : ليس منا إِلاّ بَذْلُ الوسع، وليس لنا إِلاّ إظهارُ النُّصح وما علينا إلا متابعةُ الأمر - وتمشيةُ الأمرِ وإمضاؤه. . . إليكِ.
ويقال إِنَّ :﴿ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ مِنْ قوْلِها.
ويقال : تغييرُ الملوك إذا دخلوا قريةً - عن صفتها - معلومٌ، ثم يُنْظَر. . . فإن كان الداخِلُ عادلاً أزال سُنَّةَ الجَوْرِ، وأثبت سُنَّةَ العَدْلِ، وإِنْ كان الداخلُ جائراً أزال الحَسَنَ وأثبت الباطلَ. هذا معلوم ؛ فإنَّ خرابَ البلادِ بولاةِ السُّوءِ، حيث يستولي أسافلُ الناس وأَسقاطُهم على الأعزة منهم، وكما قيل :
يا دولة ليس فيها *** من المعالي شظيهْ
زولي فما أنتِ إِلاّ *** عل الكرام بليهْ
وعمارة الدنيا بولاة الرُّشْدِ، يكسرون رقابَ الغاغة، ويُخَلِّصُون الكرامَ من أَسْرِ السِّفْلة، ( ويأخذ القوس باريها )، وتطلع شمسُ العدل من برج شرفها. . . كذلك المعرفةُ والخصالُ المحمودة إذا باشَرَتْ قلبَ عبدٍ أخرجت عنه الشهواتِ والمُنى، وسفاسفَ الأخلاقِ من الحقد والحسد والشُّحِّ وصِغَرِ الهمة. . . وغير ذلك من الأوصاف الذميمة وتُثْبِتُ بَدَلَها من الأحوال العَلِيَّةِ والأوصاف المَرْضِيَّةِ ما به نظامُ العبد وتمامُ سعادته. ومتى استولت على قلبٍ غاغةُ النَّفسِ والخصالُ المذمومة أزالت عنه عمارته، وأَبْطَلَتْ نضارتَه، فتخرب أوطانُ الحقائق، وتتداعى مساكنُ الأوصاف الحميدة للأفوال، وعند ذلك، يَعْظُم البلاءُ وتتراكم المِحَنُ.
جاء في القصة أنها بعثت إلى سليمانَ بهدايا، ومن جملتها لَبِنَةٌ مصنوعةٌ من الفضة وأخرى من الذهب. وأن اللَّهَ أخبر سليمانَ بذلك، وأوحى إليه في معناه. وأمَرَ سليمانُ الشياطينَ حتى بَنَوْا بساحة منزله ميداناً، وأمرهم أن يفرشوا الميدان بهيئة اللَّبنِ المصنوعِ من الذهب والفضة من أوله إلى آخره. وأَمَرَ بأن توقف الدوابُّ على ذلك وألا تُنَظَّفَ آثارُها من رَوْثٍ وغيره، وأن يُتْرَكَ موضعان لِلَبِنَتَيْنِ خالِيَيْن في ممرِّ الدخول. وأقبل رُسُلُها، وكانت معهم اللبنتان ملفوفتين، فلمَّا رَأَوْا الأمر، ووقعت أبصارُهم على طريقهم، صَغُرَ في أعينهم ما كان معهم، وخَجِلوا من تقديم ذلك إلى سليمان ووقعوا في الفكرة. . . كيف يتخلصون مما معهم ؟. فلمَّا رأوا موضع اللَّبنَتَيْن فارغا ظنُّوا أن ذلك سُرِق من بينها، فقالوا لو أظهرنا نُسِبْنا إلى أنَّا سرقناهما من هذا الموضع، فطرحاهما في الموضع الخالي، ودَخَلاَ على سليمان :
أتهدونني مالاً ؟ وهل مثلي يُسْتَمالُ بمثل هذه الأفعال ؟ إنكم وأمثالكم تعامِلُون بمثل ما عوملتم !
ارجع إليهم :-
﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾.
فلمَّا رجعوا إلى بلقيس، وأخبروها بما شاهدوا وسمعوا علمت أنه لا وَجْه لها سوى الاستسلام والطاعة، فَعَزَمَتْ على المسير إلى خدمته، وأوحى الله إلى سليمان بذلك، وأنها خرجت مستسلمةً، فقال :﴿ أَيُّكُمْ يأتيني بِعَرْشِهَا ؟ ﴾.
بسط اللَّهُ - سبحانه - مُلْكَ سليمان، وكان في مُلْكِه الجِنُّ والإِنسُ والشياطين ؛ الجن على جهة التسخير، والإنس على حكم الطوع، والشياطين وكانوا على أقسام.
ولمَّا قال :﴿ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا ؟ ﴾
قال عفريت من الجن - وكان أقواهم - ﴿ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌ أَمِينٌ ﴾، فلم يرغب سليمانُ في قوله لأنه بَنَى القولَ فيه على دعوى قُوَّتِه.
﴿ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ ﴾ ( قيل هو آصف ) وكان صاحب كرامة. وكراماتُ الأولياءِ مُلْتَحِقَةٌ بمعجزات الأنبياء، إذ لو لم يكن النبيُّ صادقاً في نبوته لم تكن الكرامة تظهر على من يُصَدِّقه ويكون من جملة أمته.
ومعلومٌ أنه لا يكون في وُسْعِ البَشَرِ الإتيانُ بالعرش بهذه السرعة، وأن ذلك لا يحصل إلا بخصائص قدرة الله تعالى. وقَطْعُ المسافة البعيدة في لحظةٍ لا يصح تقديره في الجواز إلا بأحد وجهين : إمَّا بأن يُقَدِّم اللَّهُ المسافةَ بين العرش وبين منزل سليمان، وإمَّا بأن يعدم العرش ثم يعيده في الوقت الثاني بحضرة سليمان. وأيُّ واحدٍ من القسمين كان - لم يكن إلاّ من قِبَل الله، فالذي كان عنده علم من الكتاب دعا الله - سبحانه - واستجاب له في ذلك، وأحضر العرش، وأمر سليمان حتى غَيَّرَ صورته فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وأثبته على تركيبٍ آخر غير ما كان عليه.
ولمّا رأى سليمان ذلك أخذ في الشكر لله - سبحانه - والاعتراف بِعِظمِ نِعَمِه، والاستيحاء، والتواضع له، وقال :﴿ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّى ﴾ : لا باستحقاقٍ مني، ولا باستطاعةٍ من غيري، بل أحمد النعمةَ لربِّي حيث جعل في قومي ومِنْ أمتي مَنْ له الجاهُ عنده فاستجاب دعاءَه.
وحقيقةُ الشكرِ - على لسان العلماء - الاعترافُ بنعمة المُنْعِم على جهة الخضوع. والأحسنُ أن يقال الشكرُ هو الثناءُ على المُحْسِنِ بِذِكْرِ إحسانه، فيدخل في هذا شكرُ اللَّهِ للعبد لأنه ثناءٌ منه على العبد بذكر إحسان العبد، وشكرُ العبد ثناءٌ على الله بذكر إحسانه. . . إلاّ أَنَّ إحسان الحقِّ هو إنعامُه، وإحسانُ العبد طاعتُه وخدمتُه لله، وما هو الحميد من أفعاله.
فأمَّا على طريقِ أهل المعاملة وبيان الإشارة : فالشكرُ صَرْفُ النعمة في وجه الخدمة.
ويقال الشكر أَلاَّ تستعينَ بنعمته على معاصيه.
ويقال الشكر شهودُ المنعِم من غير مساكنةٍ إلى النعمة.
ويقال الشكر رؤية العجز عن الشكر.
ويقال أعظمُ الشكرِ الشكرُ على توفيق الشكر.
ويقال الشكر على قسمين : شكر العوام على شهود المزيد، قال تعالى :
﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٧ ]، وشكر الخواص يكون مجرداً عن طلب المزيد، غيرَ متعرض لمنال العِوَض.
ويقال حقيقةُ الشكرِ قيد النعم وارتباطها ؛ لأَنَّ بالشكر بقاءَها ودوامَها
أراد سليمانُ أن يمتحنَها وأن يختبرَ عقلَها، فأمر بتغيير عرْشِها،
فلمَّا رأته :- ﴿ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾.
فاستدلَّ بذلك على كمالِ عقلها، وكان ذلك أمراً ناقضاً للعادة، فصار لها آية وعلامةً على صحة نبوة سليمان - عليه السلام- وأسلَمَتْ.
كان ذلك امتحاناً آخرَ لها. فقد أَمَرَ سليمانُ الشياطينَ أن يصنعوا من الزجاج شِبْهَ طبقٍ كبيرٍ صافٍ مضيءٍ، ووَضَعَه فوق بِرْكَةٍ بها ماء كثير عميق، يُرَى الماءُ من أسفل الزجاج ولا يُمَيَّزُ بين الزجاج والماء، وأُمِرَتْ أن تخوضَ تلك البركة، فكَشَفَتْ عن ساقيها ؛ لأنها وُصِفَتْ لسليمان بأنها جِنِّيةُ النَّسَبِ. وأن رجليها كحوافر الدواب، فَتَقَوَّلوا عليها، ولمَّا تَوَهَّمَتْ أنها تخوض الماءَ كَشَفَتْ عن ساقيها، فرأى سليمان رِجْلَيْها صحيحين. وقيل لها :﴿ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِن قَوَارِيرَ ﴾ : فصار ذلك أيضاً سبباً وموجباً ليقينها. وآمنَتْ وتزوج بها سليمان عليه السلام.
ذكر قصةَ ثمود، وقصة نبيِّهم صالح عليه السلام، وما جرى بينه وبينهم من التكذيب، وطلبهم منه معجزةً، وحديث الناقة وعقرها، وتبرمهم بالناقة بعد أن رأوا فيها من الفعل الذي كانت لهم فيه أعظم آية. . . إلى قوله :
﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾.
ومَكْرُهُم ما أظهروا في الظاهر من موافقة صالح، وعقرهم الناقة خفيةٌ، وتوريك الذَّنبِ على غير جارمه، والتبرِّي من اختيارهم ذلك.
وأمَّا مَكْرُ اللَّهِ جزاؤهم على مَكِرْهم بإخفاء ما أراد بهم من العقوبة عنهم، ثم إحلالهم بهم بغتةً. فالمَكْرُ من الله تخليتُه إياهم مع مَكْرِهم بحيث لا يعصمهم، وتزيينُ ذلك في أعينهم، وتجيبُ ذلك إليهم. . . ولو شاء لَعَصَمَهُم. ومن أليم مَكْرِهِ انتشارُ الصيت بالصلاح، والعمر في السّرِّ بخلاف ما يتوهم بهم من الصلاح، وفي الآخرة لا يَجُوزُ في سُوقِها هذا النَّقْدُ !.
أهلكهم ولم يغادر منهم أحداً.
وفي الخبر :" لو كان الظلمُ بيتاً في الجنة لَسَلَّطَ اللَّهُ عليه الخرابَ " ؛ فالنفوسُ إذا ظَلَمت بِزَلاَّتها خربت بلحوقها شؤم الذّلة حتى يتعود صاحبُها الكسلَ، ويستوطن مركبَ الفشل، ويُحْرَم التوفيق، ويتوالى عليه الخذلانُ وقسوةُ القلب وجحودُ العين وانتفاءُ تعظيمِ الشريعة من القلب. وأصحابُ القلوبِ إذا ظلموها بالغفلة ولم يحاولوا طَرْدَها عن قلوبهم. . . خربت قلوبُهم حتى تقسوا بعد الرأفة، وتجف بعد الصفوة.
فخرابُ النفوس باستيلاء الشهوة والهفوة، وخرابُ القلوب باستيلاء الغفلة والقسوة، وخراب الأرواح باستيلاء الحجبة والوقفة، وخراب الأسرار باستيلاء الغيبة والوحشة.
ذَكَرَ قصة لوطٍ وأمته، وما أصَرُّوا عليه من الفاحشةِ، وما أَحَلَّ اللَّهُ بهم من العقوبة، وإحلالَ العقوبة بامرأته التي كانت تطابق القومَ، وتخليص الحقُّ لوطاً من بينهم، وما كان من أمر الملائكة الذين بُعِثُوا لإهلاكهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:ذَكَرَ قصة لوطٍ وأمته، وما أصَرُّوا عليه من الفاحشةِ، وما أَحَلَّ اللَّهُ بهم من العقوبة، وإحلالَ العقوبة بامرأته التي كانت تطابق القومَ، وتخليص الحقُّ لوطاً من بينهم، وما كان من أمر الملائكة الذين بُعِثُوا لإهلاكهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:ذَكَرَ قصة لوطٍ وأمته، وما أصَرُّوا عليه من الفاحشةِ، وما أَحَلَّ اللَّهُ بهم من العقوبة، وإحلالَ العقوبة بامرأته التي كانت تطابق القومَ، وتخليص الحقُّ لوطاً من بينهم، وما كان من أمر الملائكة الذين بُعِثُوا لإهلاكهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:ذَكَرَ قصة لوطٍ وأمته، وما أصَرُّوا عليه من الفاحشةِ، وما أَحَلَّ اللَّهُ بهم من العقوبة، وإحلالَ العقوبة بامرأته التي كانت تطابق القومَ، وتخليص الحقُّ لوطاً من بينهم، وما كان من أمر الملائكة الذين بُعِثُوا لإهلاكهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:ذَكَرَ قصة لوطٍ وأمته، وما أصَرُّوا عليه من الفاحشةِ، وما أَحَلَّ اللَّهُ بهم من العقوبة، وإحلالَ العقوبة بامرأته التي كانت تطابق القومَ، وتخليص الحقُّ لوطاً من بينهم، وما كان من أمر الملائكة الذين بُعِثُوا لإهلاكهم.
هم الذين سَلَّم عليهم في آزاله وهم في كتم العَدَمِ، وفي متناول علمه ومتعلق قدرته، ولم يكونوا أعياناً في العَدَم ولا أفادوا، فلمَّا أظهرهم في الوجود سَلَّم عليهم بذلك السلام، ويُسْمِعُهم في الآخرة ذلك السلام. والذين سَلَّم عليهم هم الذين سَلِمُوا اليومَ من الشكوك والشُّبَهِ، ومن فنون البِدَعِ، ومن وجوه الألم، ثم من فنون الزَّلَلِ وصنوفِ الخَلَلِ، ثم من الغيبة والحجبة وما ينافي دوام القربة.
ويقال اصطفاهم، ثم هداهم، ثم آواهم، وسَلَّم عليهم قبل أَنْ خَلَقَهم وأبداهم، وبعد أن سَلَّم عليهم بودِّه لَقَّاهم.
ويقال : اصطفاهم بنورِ اليقين وحُلَّةِ الوَصْلِ وكمالِ العَيْش.
فثمراتُ الظاهرِ غذاءُ النفوس، وثمراتُ الباطِن والأسرار ضياءُ القلوبِ، وكما لا تبقى في وقت الربيع من وحشة الشتاءِ بقيةٌ فلا يبقى في قلوبهم وأوقاتهم من الغيبةِ والحجبةِ والنفرةِ والتهمةِ شَظِيَّة.
نفوسُ العابدين قرارُ طاعتهم، وقلوبُ العارفين قرار معرفتهم، وأرواح الواجدين قرار محبتهم، وأسرار الموحِّدين قراب مشاهدتهم، في أسرارهم أنوار الوصلة وعيون القربة، وبها يسكن ظمأُ اشتياقهم وهيجانُ قَلَقِهم واحتراقِهم.
﴿ وَجَعَلَ لَهَا رواسي ﴾ من الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة.
ويقال ﴿ وَجَعَلَ لَهَا رواسي ﴾ اليقين والتوكل.
ويقال الرواسي في الأرض الأبدالُ والأولياء والأوتاد ؛ بهم يديم إمساكَ الأرض، وببركاتهم يَدْفَعُ عن أهلها البلاء.
ويقال الرواسي هم الأئمة الذين يَهْدُون المسترشدين إلى الله.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً ﴾ بين القلب والنفس لئلا يغلب أحدُهما صاحبَه. ويقال بين العبودية وأحكامها، والحقيقة وأحكامها، فلو غَلَبَتْ العبوديةُ كان جَحْداً للحقيقة، ولو غلبت الحقيقةُ العبوديةَ كانت طَيّاً للشريعة.
ويقال : ألْسِنَةُ المريدين مَقَرُّ ذكره، وأسماعُهم مَحلُّ الإدراك الموصِّل إلى الفهم، والعيون مقر الاعتبار.
فَصَلَ بين الإجابة وبين كَشْفِ السوء ؛ فالإجابةُ بالقَولِ والكشفُ بالطَّوْلِ، الإجابة بالكلام والكشفُ بالإنعام. ودعاءُ المضطر لا حجابَ له، وكذلك دعاء المظلوم ولكن
﴿ لِكُلِّ أَجِلٍ كِتَابٌ ﴾ [ الرعد : ٣٨ ].
ويقال للجناية : سراية ؛ فَمَنْ كان في الجناية مختاراً فليس تسلم له دعوى الاضطرار عند سراية جُرْمِه الذي سَلَفَ منه وهو مختارٌ فيه، فأكثر الناس يتوهمون أنهم مضطرون، وذلك الاضطرار سراية ما بَدَرَ منهم في حال اختيارهم.
وما دام العبدُ يتوهم من نفسه شيئاً من الحَوْلَ والحيلة، ويرى لنفسه شيئاً من الأسباب يعتمد عليه أو يستند إليه - فليس بمضطرٍ، فالمضطرُّ يرى نَفْسَه كالغريق في البحر، أو الضَّالِّ في المتاهة، وهو يرى عِنَانَه بيد سَيِّدِه، وزِمَامه في قبضته، فهو كالميت بين يدي غاسِله، وهولا يرى لنفسه استحقاقاً للنجاة ؛ لاعتقاده في نفسه أنه من أهل السخط، ولا يقرأ اسمه إلا من ديوان الشقاوة.
ولا ينبغي للمضطر أن يستعين بأحدٍ في أن يدعوَ له، لأنَّ اللَّهَ وَعَدَ الإجابة له. . . لا لمن يدعو له.
ثم كما وَعَدَ المضطرَّ الإجابةَ وكَشْفَ السوء وَعَدَه بقوله :-
﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خلَفَآءَ الأَرْضِ أَءِلَه مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾.
فإنَّ مع العسر يسراً، ولم يقل : العسر إزالة، ولكن قال : مع العسرِ يُسْرٌ ؛ فنهارُ اليُسْرِ حاصلٌ بعد ظلام العُسْرِ.
ثم قال :
﴿ أَءِلَه مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ لأنَّ العبدَ إذا زَالَ عُسْرهُ، وكُشِفَ عنه ضُرُّه نَسِيَ ما كان فيه، وكما قال القائل :
كأنَّ الفتى لم يَعْرَ يوماً إذا اكتسى | ولم يَكُ صعلوكاً إذا ما تَمَوَّلاَ |
إذا أظلم الوقتُ على صاحبه في متعارض الخواطر عند استبهام وجه الصواب، وضاق الأمرُ بسبب وحشة التدبير وظلمات أحوال التجويز، والتحيُّر عند طلب ترجيح بعض الخواطر على بعضٍ بشواهد العقل. . فَمَنْ الذي يرشدكم لوجه الصواب بِتَركِ التدبير، وللاستسلام لحكم التقدير، وللخروج من ظلمات مجوَّزات العقول إلى قضايا شهود التقدير، وتفويض الأمر إلى اختيار الحق، والاستسلام لما جَرَتْ به الأقسامُ، وسبَقَت به الأقدار ؟.
قوله جلّ ذكره :﴿ وََمَن يُرْسِلُ الرِّّيَاحَ بُشْرَا بَيْنَ يدي رَحْمَتِهِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
مَنْ الذي يُرْسِلُ رياحَ فَضْلِه بين يدي أنوار اختياره فيمحوَ آثارَ اختيارِ نَفْسِك، ويعجِّلَ بحُسنْ الكفاية لك ؟
ويقال : يرسل رياحَ التوكل فيُطَهِّرُ القلوبَ من آثار الاختيار وأوضار التدبير، ثم يُطْلِعُ شموسَ الرضا فيحصلُ بَردُ الكفاية فوق المأمول في حال سكينة القلب. . ﴿ أَءِلَةٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ ؟ ﴿ تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ : من إحالة المقادير على الأسباب.
يُظِهرُ ما يُظْهِرُ بقدرته على مقتضى سابق حُكْمِه، ويخصص ما تعلقت به مشيئته وحقَّ فيه قولُه، وسَبَقَ به قضاؤه وقَدَرُه فإذا زال وانتفى وانعدم بعضُ ما يظهر ويخصص. . فَمَنْ الذي يعيده مثلما بدأه ؟ ومن الذي يضيَّق الرزقَ ويُوَسِّعُه ؟ ومن الذي يقبض في بعض الأوقات على بعض الأشخاص ؟ وفي وقت آخر مَنْ الذي يبسط على قوم آخرين ؟
هل في قدرة أحدٍ غيرِ اللَّهِ ذلك ؟
إِنْ توهمتم شيئاً منذ لك فأَوْضِحُوا عنه حُجَّتَكم. . وإذ قد عجزتم. . فهلاَّ صَدَّقْتُم ؟ وبالتوحيد أقررتم ؟.
﴿ الْغَيْبَ ﴾ : ما لا يطلع عليه أحد، وليس عليه للخلْق دليل، وهو الذي يستأثر بعلمه الحقُّ، وعلومُ الخَلْق عنه متقاصرة، ثم يريد اللَّهُ أن يخصَّ قوماً بعلمه أفردهم به.
﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ : فإنه أخفى علَم الساعة عن كل أحدٍ.
فهم في الجملة يَشُكُّون فيه ؛ فلا ينفونه ولا بالقطع يجحدونه. . وهكذا حُكْمُ كلِّ مريضٍ القلب، فلا حياةَ له في الحقيقة، ولا راحةَ له من يأسه، إذ هو من البعث في شكٍّ،
ومن الحياة الثانية في استبعاد :﴿ وقال الذين كفروا أءذا كنا ترابا وءاباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وءاباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾.
وُعِدَ آباؤنا بذلك من قبل، ثم لم يكن لهم تحقيق، وما نحن إلا مِثْلُهم، وكانوا يسألون متى الساعة ؟
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:ومن الحياة الثانية في استبعاد :﴿ وقال الذين كفروا أءذا كنا ترابا وءاباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وءاباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾.
وُعِدَ آباؤنا بذلك من قبل، ثم لم يكن لهم تحقيق، وما نحن إلا مِثْلُهم، وكانوا يسألون متى الساعة ؟
فقال الحقُّ : إنه عن قريبٍ سيحل بهم ميقاته :﴿ قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون ﴾.
لأنهم لا يُمَيِّزُون بين مِحَنِهم ومِنَحهم. وعزيزٌ مَنْ يَعْرِفُ الفَرْقَ بين ما هو نعمةٌ من الله له وبين ما هو محنة ؛ فإذاً تقاصَرَ عِلْمُ العبدِ عمَّا فيه صلاحه، فعسى أن يحب شيئاً ويظنَّه خيراً وبلاؤه فيه، ورُبَّ شيءٍ يظنُّه العبدُ نعمةً فيشكر عليها ويستديمها، وهي محنةٌ له يجب الصبر عليها والتضرع إلى الله في صَرْفِها ! وبعكس هذا كم من شيءٍ يظنه الإنسان بخلاف ما هو به !.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٢:لأنهم لا يُمَيِّزُون بين مِحَنِهم ومِنَحهم. وعزيزٌ مَنْ يَعْرِفُ الفَرْقَ بين ما هو نعمةٌ من الله له وبين ما هو محنة ؛ فإذاً تقاصَرَ عِلْمُ العبدِ عمَّا فيه صلاحه، فعسى أن يحب شيئاً ويظنَّه خيراً وبلاؤه فيه، ورُبَّ شيءٍ يظنُّه العبدُ نعمةً فيشكر عليها ويستديمها، وهي محنةٌ له يجب الصبر عليها والتضرع إلى الله في صَرْفِها ! وبعكس هذا كم من شيءٍ يظنه الإنسان بخلاف ما هو به !.
لا تَلْتَبِسُ على الله أحوالُهم ؛ فصادِقٌ يستوي ظاهِرُه وباطنُه يعلمه، ومنافقٌ يخالف باطنُه ظاهرَه يُلَبِّسُ على الناس حالَه. . وهو - سبحانه - يعلمه، وكافِرٌ يستوي في الجَحْدِ سِرُّه وعَلَنُه يعلمه، وهو يجازي كلاً على ما عَلِمَه. . كيف لا. . وهو قَدَّره، وعلى ما عليه قضاه وقَسَمَه ؟ !.
ما من شيء إلاَّ مُثْبَتٌ في اللوح المحفوظ حُكْمُه، ماضيةٌ فيه مشيئته، متعلِّقٌ به عِلْمُه.
وهم يُخْفُون بعضاً، وبعضاً يُظْهِرُون، ومع ما يَهْوَوْن يدورون.
وفي هِذه الآية تخصيص لهذه الأمة بأن حفظ الله كتابَهم، وعَصَمَ مِنَ التغيير والتبديل ما به يدينون. وهذه نعمةٌ عظيمةٌ قليلٌ منهم مَنْ عليها يشكرون.
فالقرآن هدًى ورحمة للمؤمنين، وليس ككتابهم الذي أخبر الصادقُ أنهم له مُحَرِّفون مُبَدِّلُون.
هو ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ المُعِزُّ للمؤمنين، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بما يستحقه كلُّ أحدٍ من الثواب العظيم والعذاب الأليم.
أي اجتهد في أداء فَرْضِه، وثِقْ بصدق وعده في نصره ورزقه، وكفايته وعَوْنِه. ولا يهولنَّكَ ما يجري على ظواهرهم من أذًى يتصل منهم بك، فإنما ذلك كلُّه بتسليطنا إن كان محذوراً، وبتقييضنا وتسهيلنا إن كان محبوباً. وإنك لَعَلَى حقٍّ وضياءٍ صِدْقٍ، وهم على شكٍ وظلمةِ شِركٍ.
الذين أمات اللَّهُ قلوبَهم بالشِّرْكِ، وأَصَمَّهم عن سماع الحق - فليس في قُدْرَتِكَ أَنْ تَهْدِيَهم للرُّشْدِ أو تنقذهم من أُسْرِ الشكِّ.
أنت تهديهم من حيث الدعاء والدلالة، ولكنك لا تهدي أحداً من حيث إزالة الباطل من القلب وإمالته إلى العرفان، إذ ليست بقُدْرَتِكَ الإزالة أو الإمالة.
أنت لا تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يؤمِن بآياتنا، فلا يَسْمَعُ منك إِلاّ مَنْ أسعدناه من حيث التوفيق والإرشاد إِلى الطريق.
إذا حقَّ الوعدُ بإقامةِ القيامةِ أوضحنا أشراطَها في كلامِ الدَّابةِ المُخْرِجَةِ من الأرضِ وغير ذلك من الآيات.
وعند ذلك لا ينفع الإيمانُ ولا يُقْبَلُ العُذْرُ.
ثم كَرَّرَ ذكر الليل والنهار واختلافهما.
أي ليكونَ الليلُ وقتَ سكونِهم، والنهارُ وقتَ طلبِ معاشِهم.
أخبر أن اليومَ الذي يُنْفَخُ فيه في الصور هو يومُ إزهاق الأَرواح، وإخراجها عن الأجساد ؛ فَمِنْ روحٍ ترقى إلى عِلِّيين، ومِنْ روحٍ تذهب إلى سجِّين. . أولئك في حواصل طيرٍ تسرح في الجنة تأوي بالليلِ إلى قناديلَ معلقةٍ من تحت العرش صفتها التسبيح والرّوْح والراحة، ولبعضها الشهود والرؤية. . . على مقادير استحقاقهم لِمَا كانوا عليه في دنياهم.
وأمَّا أرواحُ الكفار ففي النار تُعّذَّب على مقادير أجرامهم.
وكثيرٌ من الناس اليومَ من أصحاب التمكين، هم ساكنون بنفوسهم سائحون في الملكوت بأسرارهم. . قيل : إن الإشارة اليومَ إليهم. كما قالوا : العارف كائنٌ بائِنٌ ؛ كائنٌ مع الناس بظاهره، بائنٌ عن جميع الخَلْق بسرائره.
يحتمل أن يكون ﴿ خير ﴾ ها هنا للمبالغة ؛ لأن الذي له في الآخرةِ من الثوابِ خيرٌ مِمَّا منه من القُرَب : ويحتمل فله نصيب خيرٌ أو عاقبة خيرٌ أو ثواب خيرٌ منها. وهم آمنون مِنْ فَزَعِ القيامة.
ومن جاء بالسيئة : فكما أن حالَهم اليوم من المطيعين بالعكس فَحُكْمُهم غَداً في الآخرة بالضدِّ.
أخبر أنه أمره بالدين الحنيفيِّ، والتبرِّي من الشِّركِ ؛ الجليِّ منه والخفيِّ، وبملازمةِ الطريق السَّويِّ. وأخبر أَنَّ مَنْ اتبعه وصَدَّقَه أوجب الحقُّ ذمامه وحقَّه.
سيريكم - عن قريبٍ - آياته، فطوبى لِمَنْ رجع قبل وفاته، والويلُ على مَنْ رجع بعد ذهاب الوقت وفواته !.