تفسير سورة الرّوم

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الروم من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

هذا دليل قياس. احتج الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده، وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم.
ومن أبلغ الحجاج. أن يأخذ الإنسان من نفسه، ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها، معلوم لها. فقال :«هل لكم مما ملكت أيمانكم » من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل ؟ أي : هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء ؟ تخافون أن يقاسموكم أموالكم، ويشاطروكم إياها، ويستكثرون ببعضها عليكم، كما يخاف الشريك شريكه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا. والمعنى : هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله، حتى يساويه في التصرف في ذلك ؟ فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه، كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار ؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم، فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي ؟ فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعقولكم، مع أنه جائز عليكم، ممكن في حقكم، إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة، وإنما هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، وأنتم وهم عبيد لي، فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي، مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي ؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول.
قال مجاهد : إذا ولي الظالم سعى بالظلم والفساد، فيحبس بذلك القطر، فيهلك الحرث والنسل. والله لا يحب الفساد. . . ثم قرأ ﴿ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ﴾ ثم قال : أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر.
وقال عكرمة : ظهر الفساد في البر والبحر، أما إني لا أقول لكم : بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء.
وقال قتادة : أما البر : فأهل العمور، وأما البحر : فأهل القرى والريف.
قلت : وقد سمي الله تعالى الماء العذب بحرا، فقال :﴿ وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ﴾ [ الفرقان : ٥٣ ] وليس في العالم بحر حلو واقفا، وإنما هي الأنهار الجارية والبحر المالح والساكن. فتسمى القرى التي على المياه الجارية باسم تلك المياه.
وقال ابن زيد :﴿ ظهر الفساد في البر والبحر ﴾، قال : الذنوب.
قلت : أراد أن الذنب سبب الفساد الذي ظهر، وإن أراد أن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها، فيكون اللام في قوله :﴿ ليذيقهم بعض الذي عملوا ﴾ لام العاقبة والتعليل.
وعلى الأول : فالمراد بالفساد : النقص والشر والآلام التي يحدثها الله في الأرض بمعاصي العباد فكل ما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة. كما قال بعض السلف : كل ما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة.
والظاهر - والله أعلم - أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها.
ويدل عليه قوله تعالى :﴿ ليذيقهم بعض الذي عملوا ﴾ فهذا حالنا دائما، وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا، فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة.
Icon