تفسير سورة ص

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة ص من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ ص وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾. قرأه الجمهور : ص بالسكون منهم القراء السبعة، والتحقيق أن ص من الحروف المقطعة في أوائل السور كص في قوله تعالى ﴿ المص ﴾، [ الأعراف : ١ ] وقوله تعالى :﴿ كهيعص ﴾ [ مريم : ١ ].
وقد قدمنا الكلام مستوفًى على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة هود، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وبذلك التحقيق المذكور، تعلم أن قراءة من قرأ ص بكسر الدال غير منونة، ومن قرأها بكسر الدال منونة، ومن قرأها بفتح الدال، ومن قرأها بضمها غير منونة، كلها قراءات شاذة لا يعول عليها.
وكذلك تفاسير بعض العلماء المبنية على تلك القراءات، فإنها لا يعوّل عليها أيضاً.
كما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : إن صاد بكسر الدال فعل أمر من صادى يصادي مصاداة إذا عارض، ومنه الصدى. وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام، أي عارض بعملك القرآن وقابله به، يعني امتثل أوامره واجتنب نواهيه واعتقد عقائده واعتبر بأمثاله واتعظ بمواعظه.
وعن الحسن أيضاً : أن ص بمعنى حادث وهو قريب من الأول.
وقراءة ص بكسر الدال غير منونة : مروية عن أُبي بن كعب، والحسن وابن أبي إسحاق وأبي السمال وابن أبي عيلة ونصر بن عاصم.
والأظهر في هذه القراءة الشاذة، أن كسر الدال سببه التخفيف لالتقاء الساكنين وهو حرف هجاء لا فعل أمر من صادى.
وفي رواية عن ابن أبي إسحاق، أنه قرأ ﴿ ص ﴾ بكسر الدال مع التنوين على أنه مجرور بحرف قسم محذوف، وهو كما ترى، فسقوطه ظاهر.
وكذلك قراءة من قرأ ﴿ ص ﴾ بفتح الدال من غير تنوين، فهي قراءة شاذة والتفاسير المبنية إليها ساقطة.
كقول من قال : صاد محمد قلوب الناس واستمالهم حتى آمنوا به.
وقول من قال : هو منصوب على الإغراء.
أي ألزموا صاد، أي هذه السورة، وقول من قال معناه اتل، وقول من قال : إنه منصوب بنزع الخافض، الذي هو حرف القسم المحذوف.
وأقرب الأقوال على هذه القراءات الشاذة، أن الدال فتحت تخفيفاً لالتقاء الساكنين، واختير فيها الفتح إتباعاً للصاد، ولأن الفتح أخف الحركات، وهذه القراءة المذكورة قراءة عيسى بن عمر، وتروى عن محبوب عن أبي عمرو.
وكذلك قراءة من قرأ صاد بضم الدال من غير تنوين، على أنه علم للسورة، وأنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هذه صاد وأنه منع من الصرف للعلمية والتأنيث لأن السورة مؤنثة لفظاً.
وهذه القراءة مروية عن الحسن البصري وابن السميقع وهارون الأعور.
ومن قرأ صاد بفتح الدال قرأ : ق، ون كذلك، وكذلك من قرأها ﴿ ص ﴾ بضم الدال فإنه قرأ ﴿ ق ﴾ :[ ق : ١ ] و ﴿ ن ﴾ [ القلم : ١ ] بضم الفاء والنون.
والحاصل أن جميع هذه القراءات، وجميع هذه التفاسير المبنية عليها، كلها ساقطة، لا معوّل عليها.
وإنما ذكرناها لأجل التنبيه على ذلك.
ولا شك أن التحقيق هو ما قدمنا من أن ﴿ ص ﴾ من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن القراءة التي لا يجوز العدول عنها هي قراءة الجمهور التي ذكرناها.
وقد قال بعض العلماء : إن ص مفتاح بعض أسماء الله تعالى كالصبور والصمد.
وقال بعضهم معناه : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن الله، إلى غير ذلك من الأقوال.
وقد ذكرنا أنا قدمنا الكلام على ذلك مستوفًى في أول سورة هود.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾، قد قدمنا أن أصل القرآن مصدر، زيد فيه الألف والنون. كما زيدتا في الطغيان، والرجحان، والكفران، والخسران، وأن هذا المصدر أريد به الوصف.
وأكثر أهل العلم، يقولون : إن هذا الوصف المعبر عنه بالمصدر هو اسم المفعول.
وعليه فالقرآن بمعنى المقروء من قول العرب : قرأت الشيء إذا أظهرته وأبرزته، ومنه قرأت الناقة السلا والجنين إذا أظهرته وأبرزته من بطنها، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
تريك إذا دخلت على خلاء وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا
على إحدى الروايتين في البيت.
ومعنى القرآن على هذا المقروء الذي يظهره القارئ، ويبرزه من فيه، بعباراته الواضحة.
وقال بعض أهل العلم : إن الوصف المعبر عنه بالمصدر، هو اسم الفاعل. وعليه فالقرآن بمعنى القارئ، وهو اسم فاعل قرأت، بمعنى جمعت. ومنه قول العرب : قرأت الماء في الحوض أي جمعته فيه. وعلى هذا فالقرآن بمعنى القارئ أي الجامع لأن الله جمع فيه جميع ما في الكتب المنزلة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ ذي الذِّكْرِ ﴾ فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء :
أحدهما : أن الذكر بمعنى الشرف، والعرب تقول فلان مذكور يعنون له ذكر أي شرف. ومنه قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ أي شرف لكم على أحد القولين.
الوجه الثاني : أن الذكر اسم مصدر بمعنى التذكير، لأن القرآن العظيم فيه التذكير والمواعظ، وهذا قول الجمهور واختاره ابن جرير.
تنبيه
اعلم أن العلماء اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله عليه في قوله تعالى :﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾، فقال بعضهم : إن المقسم عليه مذكور، والذين قالوا إنه مذكور، اختلفوا في تعيينه وأقوالهم في ذلك كلها ظاهرة السقوط.
فمنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله تعالى ﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ﴾ [ ص : ٦٤ ].
ومنهم من قال هو قوله :﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾ [ ص : ٥٤ ].
ومنهم من قال هو قوله تعالى :﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ [ ص : ١٤ ] كقوله ﴿ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الشعراء : ٩٧ ]. وقوله :﴿ وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [ الطارق : ١-٤ ].
ومنهم من قال هو قوله :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم ﴾ [ الأنعام : ٦ ]، ومن قال هذا قال : إن الأصل لكم أهلكنا ولما طال الكلام، حذفت لام القسم، فقال : كم أهلكنا بدون لام.
قالوا : ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾ [ الشمس : ١ ] لما طال الكلام بين القسم والمقسم عليه، الذي هو قد أفلح من زكاها، حذفت منه لام القسم.
ومنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله : ص قالوا معنى ص صدق رسول الله والقرآن ذي الذكر. وعلى هذا فالمقسم عليه هو صدقه صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال المعنى : هذه ص أي السورة التي أعجزت العرب، ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سقوطها.
وقال بعض العلماء إن المقسم عليه محذوف، واختلفوا في تقديره، فقال الزمخشري في الكشاف، التقدير ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾. إنه لمعجز، وقدره ابن عطية وغيره فقال :﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾ ما الأَمر كما يقوله الكفار، إلى غير ذلك من الأقوال.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر صوابه بدليل استقراء القرآن : أن جواب القسم محذوف وأن تقديره ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾ ما الأمر كما يقوله الكفار، وأن قولهم المقسم على نفيه شامل لثلاثة أشياء متلازمة.
الأول : منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقاً وأن الأمر ليس كما يقال الكفار في قوله تعالى عنهم :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾ [ الرعد : ٤٣ ].
والثاني : أن الإله المعبود جل وعلا واحد، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هَذَا لشيء عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ].
والثالث : أن الله جل وعلا يبعث من يموت، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾ [ النحل : ٣٨ ] وقوله :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لن يُبْعَثُواْ ﴾ [ التغابن : ٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ ﴾ [ سبأ : ٣ ].
أما الدليل من القرآن على أن المقسم عليه محذوف فهو قوله تعالى :﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ في عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ [ ص : ٢ ]، لأن الإضراب بقوله بل، دليل واضح على المقسم عليه المحذوف. أي ما الأمر كما يقوله الذين كفروا، بل الذين كفروا في عزة، أي في حمية وأنفة واستكبار عن الحق، وشقاق، أي مخالفة ومعاندة.
وأما دلالة استقراء القرآن على أن المنفي المحذوف شامل للأمور الثلاثة المذكورة، فلدلالة آيات كثيرة : أما صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون الإله المعبود واحداً لا شريك له فقد أشار لهما هنا.
أما كون الرسول مرسلاً حقاً ففي قوله تعالى هنا :﴿ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ يعني أي لا وجه للعجب المذكور. لأن يجيء المنذر الكائن منهم.
لا شك في أنه بإرسال من الله حقاً.
وقولهم ﴿ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [ ص : ٤ ] إنما ذكره تعالى إنكاراً عليهم وتكذيباً لهم. فعرف بذلك أن في ضمن المعنى والقرآن ذي الذكر إنك مرسل حقاً ولو عجبوا من مجيئك منذراً لهم، وزعموا أنك ساحر كذاب، أي فهم الذين عجبوا من الحق الذي لا شك فيه، وزعموا أن خاتم الرسل، وأكرمهم على الله، ساحر كذاب.
وأما كون الإله المعبود واحداً لا شريك له، ففي قوله هنا :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لشيء عُجَابٌ ﴾، لأن الهمزة في قوله : أجعل للإنكار المشتمل على معنى النفي، فهي تدل على نفي سبب تعجبهم من قوله صلى الله عليه وسلم : إن الإله المعبود واحد.
وهذان الأمران قد دلت آيات أخر من القرآن العظيم، على أن الله أقسم على تكذيبهم فيها وإثباتها بالقسم صريحاً كقوله تعالى مقسماً على أن الرسول مرسل حقاً ﴿ يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ يس : ١-٣ ] فهي توضح معنى ص والقرآن ذي الذكر إنك لمن المرسلين.
وقد جاء تأكيد صحة تلك الرسالة في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٢ ]، وأما كونه تعالى هو المعبود الحق لا شريك له، فقد أقسم تعالى عليه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفَّا * فَالزَاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ ﴾ ونحو ذلك من الآيات فدل ذلك على أن المعنى تضمن ما ذكر أي والقرآن ذي الذكر، إن إلهكم لواحد كما أشار إليه بقوله ﴿ أَجَعَلَ الآلهة ﴾ [ ص : ٥ ] الآية.
وأما كون البعث حقاً، فقد أقسم عليه إقساماً صحيحاً صريحاً، في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى :﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ﴾ [ التغابن : ٧ ]. وقوله تعالى :﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ [ سبأ : ٣ ] أي الساعة. وقوله :﴿ قُلْ إي وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ [ يونس : ٥٣ ].
وأقسم على اثنين من الثلاثة المذكورة وحذف المقسم عليه الذي هو الاثنان المذكوران، وهي كون الرسول مرسلاً، والبعث حقاً، وأشار إلى ذلك إشارة واضحة، وذلك في قوله تعالى { ق وَال
قوله تعالى :﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ في عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ :
قد قدمنا الكلام قريباً على الإضراب ببل في هذه الآية. وقوله تعالى هنا في عزة أي حمية واستكبار عند قبول الحق، وقد بين جل وعلا في سورة البقرة أن من أسباب أخذ العزة المذكورة بالإثم للكفار أمرهم بتقوى الله، وبين أن تلك العزة التي هي الحمية والاستكبار عن قبول الحق من أسباب دخولهم جهنم، وذلك في قوله عن بعض الكفار الذين يظهرون غير ما يبطنون ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [ البقرة : ٢٠٦ ].
والظاهر أن وجه إطلاق العزة على الحمية والاستكبار : أن من اتصف بذلك كأنه ينزل نفسه منزلة الغالب، القاهر، وإن كان الأمر ليس كذلك، لأن أصل العزة في لغة العرب الغلبة والقهر، ومنه قوله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، والعرب يقولون : من عز بز، يعنون من غلب استلب، ومنه قول الخنساء :
كأن لم يكونوا حمى يحتشى إذ الناس إذ ذاك من عز بزا
وقوله تعالى عن الخصم الذين تسوروا على داود : وعزني في الخطاب أي غلبني، وقهرني في الخصومة.
والدليل من القرآن على أن العزة التي أثبتها الله للكفار في قوله :﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ في عِزَّةٍ ﴾ [ ص : ٢ ] الآية. وقوله :﴿ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٦ ] الآية، ليست هي العزة التي يراد بها القهر والغلبة بالفعل، أن الله خص بهذه العزة المؤمنين دون الكافرين والمنافقين، وذلك في قوله تعالى :﴿ يَقُولُونَ لَئِن رجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ المنافقون : ٨ ].
ولذلك فسرها علماء التفسير، بأنها هي الحمية والاستكبار، عن قبول الحق.
والشقاق : هي المخالفة، والمعاندة كما قال تعالى :﴿ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ في شِقَاقٍ ﴾. قال بعض العلماء : وأصله من الشق الذي هو الجانب، لأن المخالف المعاند، يكون في الشق أي في الجانب الذي ليس فيه من هو مخالف له ومعاند.
وقال بعض أهل العلم : أصل الشقاق من المشقة لأن المخالف المعاند يجتهد في إيصال المشقة إلى من هو مخالف معاند.
وقال بعضهم : أصل الشقاق من شق العصا وهو الخلاف والتفرق.
قوله تعالى :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ : كم هنا هي الخبرية، ومعناها الإخبار عن عدد كثير، وهي في محل نصب، على أنها مفعول به لأهلكنا وصيغة الجمع في أهلكنا للتعظيم، ومن في قوله : من قرن، مميزة لكم، والقرن يطلق على الأمة وعلى بعض من الزمن، أشهر الأقوال فيه أنه مائة سنة، والمعنى أهلكنا كثيراً من الأمم السالفة من أجل الكفر، وتكذيب الرسل فعليكم أن تحذروا يا كفار مكة من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والكفر بما جاء به لئلا نهلككم بسبب ذلك كما أهلكنا به القرون الكثيرة الماضية.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :
الأولى : أنه أهلك كثيراً من القرون الماضية، يهدد كفار مكة بذلك. الثانية : أنهم نادوا أي عند معاينة أوائل الهلاك. الثالثة : أن ذلك الوقت الذي هو وقت معاينة العذاب ليس وقت نداء، أي فهو وقت لا ملجأ فيه، ولا مفر من الهلاك بعد معاينته.
وقد ذكر جل وعلا هذه المسائل الثلاث المذكورة هنا موضحة في آيات كثيرة من كتابه :
أما المسألة الأولى وهي كونه أهلك كثيراً من الأمم، فقد ذكرها في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ [ الإسراء : ١٧ ] وقوله تعالى :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ﴾ [ الحج : ٤٥ ]. وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [ إبراهيم : ٩ ]. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد ذكر جل وعلا في آيات كثيرة أن سبب إهلاك تلك الأمم الكفر بالله وتكذيب رسله كقوله في هذه الآية الأخيرة مبيناً سبب إهلاك تلك الأمم التي صرح بأنها ( لا يعلمها إلا الله ) ﴿ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ [ إبراهيم : ٩ ].
وقد قدمنا في الكلام على هذه الآية من سورة إبراهيم، أقوال أهل العلم في قوله تعالى :﴿ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ ﴾ وبينا دلالة القرآن على بعضها، وكقوله تعالى ﴿ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْرا ًفَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً ﴾ [ الطلاق : ٨ -٩ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً ﴾ إلى قوله :﴿ وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلك كَثِيراً وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ﴾ [ الفرقان : ٣٧ – ٣٨ – ٣٩ ] وقوله تعالى :﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ [ ص : ١٤ ]. وقوله تعالى ﴿ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ١٤ ] الآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد بين تعالى أن المراد بذكر إهلاك الأمم الماضية بسبب الكفر وتكذيب الرسل تهديد كفار مكة، وتخويفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك إن تمادوا على الكفر وتكذيبه صلى الله عليه وسلم.
ذكر تعالى ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ١٠ ] لأن قوله تعالى :﴿ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ تهديد عظيم بذلك.
وقوله تعالى :﴿ جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هي مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٢ – ٨٣ ] فقوله : وما هي من الظالمين ببعيد فيه تهديد عظيم لمن يعمل عمل قوم لوط من الكفر وتكذيب نبيهم، وفواحشهم المعروفة، وقد وبخ تعالى من لم يعتبر بهم، ولم يحذر أن ينزل به مثل ما نزل بهم، كقوله في قوم لوط :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِين وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٧-١٣٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً ﴾ [ الفرقان : ٤٠ ]. وقوله فيهم :﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٣٥ ]. وقوله فيهم :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٧٦ ]. وقوله فيهم وفي قوم شعيب ﴿ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الحجر : ٧٩ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وأما المسألة الثانية : وهي نداؤهم إذا أحسوا بأوائل العذاب فقد ذكر تعالى في آيات من كتابه نوعين من أنواع ذلك النداء.
أحدهما : نداؤهم باعترافهم أنهم كانوا ظالمين، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ﴾ إلى قوله ﴿ قَالُواْ يا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ ﴾ [ الأنبياءك ١١- ١٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاَ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٤ – ٥ ].
الثاني : من نوعي النداء المذكور نداؤهم بالإيمان بالله مستغيثين من ذلك العذاب الذي أحسوا أوائله، كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ التي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [ غافر : ٨٤ -٨٥ ] وهذا النوع الأخير هو الأنسب والأليق بالمقام، لدلالة قوله :﴿ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ الذي هو المسألة الثالثة، معناه : ليس الحين الذي نادوا فيه، وهو وقت معاينة العذاب، حين مناص، أي ليس حين فرار ولا ملجأ من ذلك العذاب الذي عاينوه.
فقوله : ولات هي لا النافية زيدت بعدها تاء التأنيث اللفظية كما زيدت في ثم، فقيل فيها ثمت، وفي رب، فقيل فيها ربت.
وأشهر أقوال النحويين فيها، أنها تعمل عمل ليس وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة، أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة، كالساعة والأوان، وأنها لابد أن يحذف اسمها أو خبرها والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب، وربما عكس، وهذا قول سيبويه وأشار إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله :
في النكرات أعملت كليس «لا » وقد تلى «لات » و«إن » ذا العملا
وما للات في سوى حين عمل وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل
والمناص مفعل من النوص، والعرب تقول : ناصه ينوصه إذا فاته وعجز عن إدراكه، ويطلق المناص على التأخر لأن من تأخر ومال إلى ملجأ ينقذه مما كان يخافه فقد وجد المناص.
والمناص والملجأ والمفر والموئل معناها واحد، والعرب تقول : استناص إذا طلب المناص، أي السلامة والمفر مما يخافه، ومنه قول حارثة بن بدر :
غمر الجراء إذا قصرت عنانه بيدي استناص ورام جري المسحل
والأظهر أن إطلاق النوص على الفوت والتقدم، وإطلاقه على التأخر والروغان كلاهما راجع إلى شيء واحد. لأن المناص مصدر ميمي معناه المنطبق على جزئياته، أن يكون صاحبه في كرب وضيق، فيعمل عملاً، يكون به خلاصه ونجاته من ذلك.
فتارة يكون ذلك العمل بالجري والإسراع أمام من يريده بالسوء، وتارة يكون بالتأخر والروغان حتى ينجو من ذلك.
والعرب تطلق النوص على التأخر. والبوص بالباء الموحدة التحتية على التقدم، ومنه قول امرئ القيس :
أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص فتقصر عنها خطوة وتبوص
وأصوب الأقوال في لات أن التاء منفصلة عن حين وأنها تعمل عمل ليس خلافاً لمن قال : إنها تعمل عمل إن، ولمن قال : إن التاء متصلة بحين وأنه رآها في الإمام، وهو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه متصلة بها.
وعلى قول الجمهور منهم القراء السبعة، أن التاء ليست موصولة بحين، فالوقف على لات بالتاء عند جميعهم، إلا الكسائي فإنه يقف عليها بالهاء.
أما قراءة كسر التاء وضمها فكلتاهما شاذة لا تجوز القراءة بها، وكذلك قراءة كسر النون من حين، فهي شاذة لا تجوز، مع أن تخريج المعنى عليها مشكل.
وتعسف له الزمخشري وجهاً لا يخفى سقوطه، ورده عليه أبو حيان في البحر المحيط، واختار أبو حيان أن تخريج قراءة الكسر أن حين مجرورة بمن محذوفة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَنَادَواْ ﴾ أصل النداء : رفع الصوت، والعرب تقول : فلان أندى صوتاً من فلان، أي أرفع، ومنه قوله :
فقلت ادعى وأدعو إن أندا لصوت أن ينادي داعيان
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الأمم الماضية المهلكة ينادون عند معاينة العذاب، وأن ذلك الوقت ليس وقت نداء إذ لا ملجأ فيه ولا مفر ولا مناص. ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِين َفَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٤ -٨٥ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ يا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين َفَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٢ -١٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين تعالى وقوع مثل ذلك في يوم القيامة في آيات من كتابه كقوله تعالى :﴿ اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يأتي يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ﴾ [ الشورى : ٤٧ ]. وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ ﴾ [ القيامة : ٧ -١١ ] والوزر : الملجأ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
والناس إلب علينا فيك ليس لنا إلا الرماح وأطراف القنا وزر
وكقوله تعالى :﴿ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ﴾ [ الكهف : ٥٨ ] والموئل اسم مكان من وأل يئل إذا وجد ملجأ يعتصم به، ومنه قول
قوله تعالى :﴿ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ : ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار قريش عجبوا من أجل أن جاءهم رسول منذر منهم، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من عجبهم المذكور، ذكره في غير هذا الموضع وأنكره عليهم وأوضح تعالى سببه ورده عليهم في آيات أخر، فقال في عجبهم المذكور ﴿ ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ ق : ١ – ٢ ].
وقال تعالى في إنكاره عليهم في أول سورة يونس ﴿ الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ﴾ [ يونس : ١ -٢ ] وذكر مثل عجبهم المذكور في سورة الأعراف عن قوم نوح وقوم هود، فقال عن نوح مخاطباً لقومه ﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٦٣ ].
وقال عن هود مخاطباً لعاد :﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ [ الأعراف : ٦٩ ] الآية، وبين أن سبب عجبهم من كون المنذر منهم أنه بشر مثلهم زاعمين أن الله لا يرسل إليهم أحداً من جنسهم. وأنه لو أراد أن يرسل إليهم أحداً لأرسل إليهم ملكاً لأنه ليس بشراً مثلهم وأنه لا يأكل ولا يشرب ولا يمشي في الأسواق.
والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ في الأرض مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤- ٩٥ ] وقوله تعالى :﴿ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٤٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة وَأَتْرَفْنَاهُمْ في الحياة الدُّنْيَا مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٣ – ٣٤ ]. وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى في الأسواق ﴾ [ الفرقان : ٧ ]. وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ [ التغابن : ٦ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ [ القمر : ٢٣ – ٢٤ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾. وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨ -٩ ] وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأنزل مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [ فصلت : ١٣ -١٤ ] وقوله تعالى :﴿ فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأنزل مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا في ءَابَآئِنَا الأولين ﴾ [ المؤمنون : ٢٤ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ يا أَيُّهَا الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين َمَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ﴾ [ الحجر : ٦ -٨ ]. وقوله تعالى :﴿ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢١- ٢٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الفرقان : ٢١- ٢٢ ] الآية. وقوله تعالى عن فرعون مع موسى :﴿ فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾ [ الزخرف : ٥٣ ].
وقد رد الله تعالى على الكفار عجبهم من إرسال الرسل من البشر في آيات من كتابه.
كقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الأسواق ﴾ [ القرقان : ٢٠ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [ الرعد : ٣٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٧ -٨ ] وقوله تعالى :﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ إبراهيم : ١١ ] أي بالرسالة والوحي ولو كان بشراً مثلكم إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى ءَالِهَتِكُمْ ﴾ : قد قدمنا الكلام عليه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا ﴾ [ الفرقان : ٤٢ ].
قوله تعالى :﴿ أَأنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ﴾ : ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار مكة، أنكروا أن الله خص نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليه وحده، ولم ينزله على أحد آخر منهم، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء في آيات أخر، مع الرد على الكفار في إنكارهم خصوصه صلى الله عليه وسلم بالوحي، كقوله تعالى عنهم :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] يعنون بالقريتين مكة والطائف، وبالرجلين من القريتين الوليد بن المغيرة في مكة، وعروة بن مسعود في الطائف زاعمين أنهما أحق بالنبوة منه.
وقد رد جل وعلا ذلك عليهم في قوله تعالى :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] لأن الهمزة في قوله : أهم يقسمون، للإنكار المشتمل على معنى النفي، وكقوله تعالى :﴿ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ].
وقد رد الله تعالى ذلك عليهم في قوله :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ] وأشار إلى رد ذلك عليهم في آية ص هذه في قوله :﴿ بْل هُمْ في شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِا أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا ﴾ [ ص : ٨-٩ -١٠ ] الآية. لأنه لا يجعل الرسالة حيث يشاء، ويخص بها من يشاء، إلا من عنده خزائن الرحمة. وله ملك السماوات والأرض.
وقوله تعالى :﴿ أَأنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ﴾ : قد بين في موضع آخر أن ثمود قالوا مثله لنبي الله صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى عنهم :﴿ أَألْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴾ [ القمر : ٢٥ ] وقد رد الله تعالى عليهم ذلك في قوله :﴿ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاٌّشِرُ ﴾ [ القمر : ٢٦ ].
قوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا ﴾ : قد قدمنا بعض الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ [ الحجر : ١٧ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:قوله تعالى :﴿ ص وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾. قرأه الجمهور : ص بالسكون منهم القراء السبعة، والتحقيق أن ص من الحروف المقطعة في أوائل السور كص في قوله تعالى ﴿ المص ﴾، [ الأعراف : ١ ] وقوله تعالى :﴿ كهيعص ﴾ [ مريم : ١ ].
وقد قدمنا الكلام مستوفًى على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة هود، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وبذلك التحقيق المذكور، تعلم أن قراءة من قرأ ص بكسر الدال غير منونة، ومن قرأها بكسر الدال منونة، ومن قرأها بفتح الدال، ومن قرأها بضمها غير منونة، كلها قراءات شاذة لا يعول عليها.
وكذلك تفاسير بعض العلماء المبنية على تلك القراءات، فإنها لا يعوّل عليها أيضاً.
كما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : إن صاد بكسر الدال فعل أمر من صادى يصادي مصاداة إذا عارض، ومنه الصدى. وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام، أي عارض بعملك القرآن وقابله به، يعني امتثل أوامره واجتنب نواهيه واعتقد عقائده واعتبر بأمثاله واتعظ بمواعظه.
وعن الحسن أيضاً : أن ص بمعنى حادث وهو قريب من الأول.
وقراءة ص بكسر الدال غير منونة : مروية عن أُبي بن كعب، والحسن وابن أبي إسحاق وأبي السمال وابن أبي عيلة ونصر بن عاصم.
والأظهر في هذه القراءة الشاذة، أن كسر الدال سببه التخفيف لالتقاء الساكنين وهو حرف هجاء لا فعل أمر من صادى.
وفي رواية عن ابن أبي إسحاق، أنه قرأ ﴿ ص ﴾ بكسر الدال مع التنوين على أنه مجرور بحرف قسم محذوف، وهو كما ترى، فسقوطه ظاهر.
وكذلك قراءة من قرأ ﴿ ص ﴾ بفتح الدال من غير تنوين، فهي قراءة شاذة والتفاسير المبنية إليها ساقطة.
كقول من قال : صاد محمد قلوب الناس واستمالهم حتى آمنوا به.
وقول من قال : هو منصوب على الإغراء.
أي ألزموا صاد، أي هذه السورة، وقول من قال معناه اتل، وقول من قال : إنه منصوب بنزع الخافض، الذي هو حرف القسم المحذوف.
وأقرب الأقوال على هذه القراءات الشاذة، أن الدال فتحت تخفيفاً لالتقاء الساكنين، واختير فيها الفتح إتباعاً للصاد، ولأن الفتح أخف الحركات، وهذه القراءة المذكورة قراءة عيسى بن عمر، وتروى عن محبوب عن أبي عمرو.
وكذلك قراءة من قرأ صاد بضم الدال من غير تنوين، على أنه علم للسورة، وأنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هذه صاد وأنه منع من الصرف للعلمية والتأنيث لأن السورة مؤنثة لفظاً.
وهذه القراءة مروية عن الحسن البصري وابن السميقع وهارون الأعور.
ومن قرأ صاد بفتح الدال قرأ : ق، ون كذلك، وكذلك من قرأها ﴿ ص ﴾ بضم الدال فإنه قرأ ﴿ ق ﴾ :[ ق : ١ ] و ﴿ ن ﴾ [ القلم : ١ ] بضم الفاء والنون.
والحاصل أن جميع هذه القراءات، وجميع هذه التفاسير المبنية عليها، كلها ساقطة، لا معوّل عليها.
وإنما ذكرناها لأجل التنبيه على ذلك.
ولا شك أن التحقيق هو ما قدمنا من أن ﴿ ص ﴾ من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن القراءة التي لا يجوز العدول عنها هي قراءة الجمهور التي ذكرناها.
وقد قال بعض العلماء : إن ص مفتاح بعض أسماء الله تعالى كالصبور والصمد.
وقال بعضهم معناه : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن الله، إلى غير ذلك من الأقوال.
وقد ذكرنا أنا قدمنا الكلام على ذلك مستوفًى في أول سورة هود.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾، قد قدمنا أن أصل القرآن مصدر، زيد فيه الألف والنون. كما زيدتا في الطغيان، والرجحان، والكفران، والخسران، وأن هذا المصدر أريد به الوصف.
وأكثر أهل العلم، يقولون : إن هذا الوصف المعبر عنه بالمصدر هو اسم المفعول.
وعليه فالقرآن بمعنى المقروء من قول العرب : قرأت الشيء إذا أظهرته وأبرزته، ومنه قرأت الناقة السلا والجنين إذا أظهرته وأبرزته من بطنها، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
تريك إذا دخلت على خلاء وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا
على إحدى الروايتين في البيت.
ومعنى القرآن على هذا المقروء الذي يظهره القارئ، ويبرزه من فيه، بعباراته الواضحة.
وقال بعض أهل العلم : إن الوصف المعبر عنه بالمصدر، هو اسم الفاعل. وعليه فالقرآن بمعنى القارئ، وهو اسم فاعل قرأت، بمعنى جمعت. ومنه قول العرب : قرأت الماء في الحوض أي جمعته فيه. وعلى هذا فالقرآن بمعنى القارئ أي الجامع لأن الله جمع فيه جميع ما في الكتب المنزلة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ ذي الذِّكْرِ ﴾ فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء :
أحدهما : أن الذكر بمعنى الشرف، والعرب تقول فلان مذكور يعنون له ذكر أي شرف. ومنه قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ أي شرف لكم على أحد القولين.
الوجه الثاني : أن الذكر اسم مصدر بمعنى التذكير، لأن القرآن العظيم فيه التذكير والمواعظ، وهذا قول الجمهور واختاره ابن جرير.
تنبيه
اعلم أن العلماء اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله عليه في قوله تعالى :﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾، فقال بعضهم : إن المقسم عليه مذكور، والذين قالوا إنه مذكور، اختلفوا في تعيينه وأقوالهم في ذلك كلها ظاهرة السقوط.
فمنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله تعالى ﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ﴾ [ ص : ٦٤ ].
ومنهم من قال هو قوله :﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾ [ ص : ٥٤ ].
ومنهم من قال هو قوله تعالى :﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ [ ص : ١٤ ] كقوله ﴿ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الشعراء : ٩٧ ]. وقوله :﴿ وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [ الطارق : ١-٤ ].
ومنهم من قال هو قوله :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم ﴾ [ الأنعام : ٦ ]، ومن قال هذا قال : إن الأصل لكم أهلكنا ولما طال الكلام، حذفت لام القسم، فقال : كم أهلكنا بدون لام.
قالوا : ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾ [ الشمس : ١ ] لما طال الكلام بين القسم والمقسم عليه، الذي هو قد أفلح من زكاها، حذفت منه لام القسم.
ومنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله : ص قالوا معنى ص صدق رسول الله والقرآن ذي الذكر. وعلى هذا فالمقسم عليه هو صدقه صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال المعنى : هذه ص أي السورة التي أعجزت العرب، ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سقوطها.
وقال بعض العلماء إن المقسم عليه محذوف، واختلفوا في تقديره، فقال الزمخشري في الكشاف، التقدير ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾. إنه لمعجز، وقدره ابن عطية وغيره فقال :﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾ ما الأَمر كما يقوله الكفار، إلى غير ذلك من الأقوال.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر صوابه بدليل استقراء القرآن : أن جواب القسم محذوف وأن تقديره ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾ ما الأمر كما يقوله الكفار، وأن قولهم المقسم على نفيه شامل لثلاثة أشياء متلازمة.
الأول : منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقاً وأن الأمر ليس كما يقال الكفار في قوله تعالى عنهم :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾ [ الرعد : ٤٣ ].
والثاني : أن الإله المعبود جل وعلا واحد، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هَذَا لشيء عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ].
والثالث : أن الله جل وعلا يبعث من يموت، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾ [ النحل : ٣٨ ] وقوله :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لن يُبْعَثُواْ ﴾ [ التغابن : ٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ ﴾ [ سبأ : ٣ ].
أما الدليل من القرآن على أن المقسم عليه محذوف فهو قوله تعالى :﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ في عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ [ ص : ٢ ]، لأن الإضراب بقوله بل، دليل واضح على المقسم عليه المحذوف. أي ما الأمر كما يقوله الذين كفروا، بل الذين كفروا في عزة، أي في حمية وأنفة واستكبار عن الحق، وشقاق، أي مخالفة ومعاندة.
وأما دلالة استقراء القرآن على أن المنفي المحذوف شامل للأمور الثلاثة المذكورة، فلدلالة آيات كثيرة : أما صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون الإله المعبود واحداً لا شريك له فقد أشار لهما هنا.
أما كون الرسول مرسلاً حقاً ففي قوله تعالى هنا :﴿ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ يعني أي لا وجه للعجب المذكور. لأن يجيء المنذر الكائن منهم.
لا شك في أنه بإرسال من الله حقاً.
وقولهم ﴿ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [ ص : ٤ ] إنما ذكره تعالى إنكاراً عليهم وتكذيباً لهم. فعرف بذلك أن في ضمن المعنى والقرآن ذي الذكر إنك مرسل حقاً ولو عجبوا من مجيئك منذراً لهم، وزعموا أنك ساحر كذاب، أي فهم الذين عجبوا من الحق الذي لا شك فيه، وزعموا أن خاتم الرسل، وأكرمهم على الله، ساحر كذاب.
وأما كون الإله المعبود واحداً لا شريك له، ففي قوله هنا :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لشيء عُجَابٌ ﴾، لأن الهمزة في قوله : أجعل للإنكار المشتمل على معنى النفي، فهي تدل على نفي سبب تعجبهم من قوله صلى الله عليه وسلم : إن الإله المعبود واحد.
وهذان الأمران قد دلت آيات أخر من القرآن العظيم، على أن الله أقسم على تكذيبهم فيها وإثباتها بالقسم صريحاً كقوله تعالى مقسماً على أن الرسول مرسل حقاً ﴿ يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ يس : ١-٣ ] فهي توضح معنى ص والقرآن ذي الذكر إنك لمن المرسلين.
وقد جاء تأكيد صحة تلك الرسالة في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٢ ]، وأما كونه تعالى هو المعبود الحق لا شريك له، فقد أقسم تعالى عليه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفَّا * فَالزَاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ ﴾ ونحو ذلك من الآيات فدل ذلك على أن المعنى تضمن ما ذكر أي والقرآن ذي الذكر، إن إلهكم لواحد كما أشار إليه بقوله ﴿ أَجَعَلَ الآلهة ﴾ [ ص : ٥ ] الآية.
وأما كون البعث حقاً، فقد أقسم عليه إقساماً صحيحاً صريحاً، في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى :﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ﴾ [ التغابن : ٧ ]. وقوله تعالى :﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ [ سبأ : ٣ ] أي الساعة. وقوله :﴿ قُلْ إي وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ [ يونس : ٥٣ ].
وأقسم على اثنين من الثلاثة المذكورة وحذف المقسم عليه الذي هو الاثنان المذكوران، وهي كون الرسول مرسلاً، والبعث حقاً، وأشار إلى ذلك إشارة واضحة، وذلك في قوله تعالى { ق وَال

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:قوله تعالى :﴿ ص وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾. قرأه الجمهور : ص بالسكون منهم القراء السبعة، والتحقيق أن ص من الحروف المقطعة في أوائل السور كص في قوله تعالى ﴿ المص ﴾، [ الأعراف : ١ ] وقوله تعالى :﴿ كهيعص ﴾ [ مريم : ١ ].
وقد قدمنا الكلام مستوفًى على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة هود، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وبذلك التحقيق المذكور، تعلم أن قراءة من قرأ ص بكسر الدال غير منونة، ومن قرأها بكسر الدال منونة، ومن قرأها بفتح الدال، ومن قرأها بضمها غير منونة، كلها قراءات شاذة لا يعول عليها.
وكذلك تفاسير بعض العلماء المبنية على تلك القراءات، فإنها لا يعوّل عليها أيضاً.
كما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : إن صاد بكسر الدال فعل أمر من صادى يصادي مصاداة إذا عارض، ومنه الصدى. وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام، أي عارض بعملك القرآن وقابله به، يعني امتثل أوامره واجتنب نواهيه واعتقد عقائده واعتبر بأمثاله واتعظ بمواعظه.
وعن الحسن أيضاً : أن ص بمعنى حادث وهو قريب من الأول.
وقراءة ص بكسر الدال غير منونة : مروية عن أُبي بن كعب، والحسن وابن أبي إسحاق وأبي السمال وابن أبي عيلة ونصر بن عاصم.
والأظهر في هذه القراءة الشاذة، أن كسر الدال سببه التخفيف لالتقاء الساكنين وهو حرف هجاء لا فعل أمر من صادى.
وفي رواية عن ابن أبي إسحاق، أنه قرأ ﴿ ص ﴾ بكسر الدال مع التنوين على أنه مجرور بحرف قسم محذوف، وهو كما ترى، فسقوطه ظاهر.
وكذلك قراءة من قرأ ﴿ ص ﴾ بفتح الدال من غير تنوين، فهي قراءة شاذة والتفاسير المبنية إليها ساقطة.
كقول من قال : صاد محمد قلوب الناس واستمالهم حتى آمنوا به.
وقول من قال : هو منصوب على الإغراء.
أي ألزموا صاد، أي هذه السورة، وقول من قال معناه اتل، وقول من قال : إنه منصوب بنزع الخافض، الذي هو حرف القسم المحذوف.
وأقرب الأقوال على هذه القراءات الشاذة، أن الدال فتحت تخفيفاً لالتقاء الساكنين، واختير فيها الفتح إتباعاً للصاد، ولأن الفتح أخف الحركات، وهذه القراءة المذكورة قراءة عيسى بن عمر، وتروى عن محبوب عن أبي عمرو.
وكذلك قراءة من قرأ صاد بضم الدال من غير تنوين، على أنه علم للسورة، وأنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هذه صاد وأنه منع من الصرف للعلمية والتأنيث لأن السورة مؤنثة لفظاً.
وهذه القراءة مروية عن الحسن البصري وابن السميقع وهارون الأعور.
ومن قرأ صاد بفتح الدال قرأ : ق، ون كذلك، وكذلك من قرأها ﴿ ص ﴾ بضم الدال فإنه قرأ ﴿ ق ﴾ :[ ق : ١ ] و ﴿ ن ﴾ [ القلم : ١ ] بضم الفاء والنون.
والحاصل أن جميع هذه القراءات، وجميع هذه التفاسير المبنية عليها، كلها ساقطة، لا معوّل عليها.
وإنما ذكرناها لأجل التنبيه على ذلك.
ولا شك أن التحقيق هو ما قدمنا من أن ﴿ ص ﴾ من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن القراءة التي لا يجوز العدول عنها هي قراءة الجمهور التي ذكرناها.
وقد قال بعض العلماء : إن ص مفتاح بعض أسماء الله تعالى كالصبور والصمد.
وقال بعضهم معناه : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن الله، إلى غير ذلك من الأقوال.
وقد ذكرنا أنا قدمنا الكلام على ذلك مستوفًى في أول سورة هود.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾، قد قدمنا أن أصل القرآن مصدر، زيد فيه الألف والنون. كما زيدتا في الطغيان، والرجحان، والكفران، والخسران، وأن هذا المصدر أريد به الوصف.
وأكثر أهل العلم، يقولون : إن هذا الوصف المعبر عنه بالمصدر هو اسم المفعول.
وعليه فالقرآن بمعنى المقروء من قول العرب : قرأت الشيء إذا أظهرته وأبرزته، ومنه قرأت الناقة السلا والجنين إذا أظهرته وأبرزته من بطنها، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
تريك إذا دخلت على خلاء وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا
على إحدى الروايتين في البيت.
ومعنى القرآن على هذا المقروء الذي يظهره القارئ، ويبرزه من فيه، بعباراته الواضحة.
وقال بعض أهل العلم : إن الوصف المعبر عنه بالمصدر، هو اسم الفاعل. وعليه فالقرآن بمعنى القارئ، وهو اسم فاعل قرأت، بمعنى جمعت. ومنه قول العرب : قرأت الماء في الحوض أي جمعته فيه. وعلى هذا فالقرآن بمعنى القارئ أي الجامع لأن الله جمع فيه جميع ما في الكتب المنزلة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ ذي الذِّكْرِ ﴾ فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء :
أحدهما : أن الذكر بمعنى الشرف، والعرب تقول فلان مذكور يعنون له ذكر أي شرف. ومنه قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ أي شرف لكم على أحد القولين.
الوجه الثاني : أن الذكر اسم مصدر بمعنى التذكير، لأن القرآن العظيم فيه التذكير والمواعظ، وهذا قول الجمهور واختاره ابن جرير.
تنبيه
اعلم أن العلماء اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله عليه في قوله تعالى :﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾، فقال بعضهم : إن المقسم عليه مذكور، والذين قالوا إنه مذكور، اختلفوا في تعيينه وأقوالهم في ذلك كلها ظاهرة السقوط.
فمنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله تعالى ﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ﴾ [ ص : ٦٤ ].
ومنهم من قال هو قوله :﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾ [ ص : ٥٤ ].
ومنهم من قال هو قوله تعالى :﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ [ ص : ١٤ ] كقوله ﴿ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الشعراء : ٩٧ ]. وقوله :﴿ وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [ الطارق : ١-٤ ].
ومنهم من قال هو قوله :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم ﴾ [ الأنعام : ٦ ]، ومن قال هذا قال : إن الأصل لكم أهلكنا ولما طال الكلام، حذفت لام القسم، فقال : كم أهلكنا بدون لام.
قالوا : ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾ [ الشمس : ١ ] لما طال الكلام بين القسم والمقسم عليه، الذي هو قد أفلح من زكاها، حذفت منه لام القسم.
ومنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله : ص قالوا معنى ص صدق رسول الله والقرآن ذي الذكر. وعلى هذا فالمقسم عليه هو صدقه صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال المعنى : هذه ص أي السورة التي أعجزت العرب، ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سقوطها.
وقال بعض العلماء إن المقسم عليه محذوف، واختلفوا في تقديره، فقال الزمخشري في الكشاف، التقدير ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾. إنه لمعجز، وقدره ابن عطية وغيره فقال :﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾ ما الأَمر كما يقوله الكفار، إلى غير ذلك من الأقوال.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر صوابه بدليل استقراء القرآن : أن جواب القسم محذوف وأن تقديره ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذي الذِّكْرِ ﴾ ما الأمر كما يقوله الكفار، وأن قولهم المقسم على نفيه شامل لثلاثة أشياء متلازمة.
الأول : منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقاً وأن الأمر ليس كما يقال الكفار في قوله تعالى عنهم :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾ [ الرعد : ٤٣ ].
والثاني : أن الإله المعبود جل وعلا واحد، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هَذَا لشيء عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ].
والثالث : أن الله جل وعلا يبعث من يموت، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾ [ النحل : ٣٨ ] وقوله :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لن يُبْعَثُواْ ﴾ [ التغابن : ٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ ﴾ [ سبأ : ٣ ].
أما الدليل من القرآن على أن المقسم عليه محذوف فهو قوله تعالى :﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ في عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ [ ص : ٢ ]، لأن الإضراب بقوله بل، دليل واضح على المقسم عليه المحذوف. أي ما الأمر كما يقوله الذين كفروا، بل الذين كفروا في عزة، أي في حمية وأنفة واستكبار عن الحق، وشقاق، أي مخالفة ومعاندة.
وأما دلالة استقراء القرآن على أن المنفي المحذوف شامل للأمور الثلاثة المذكورة، فلدلالة آيات كثيرة : أما صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون الإله المعبود واحداً لا شريك له فقد أشار لهما هنا.
أما كون الرسول مرسلاً حقاً ففي قوله تعالى هنا :﴿ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ يعني أي لا وجه للعجب المذكور. لأن يجيء المنذر الكائن منهم.
لا شك في أنه بإرسال من الله حقاً.
وقولهم ﴿ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [ ص : ٤ ] إنما ذكره تعالى إنكاراً عليهم وتكذيباً لهم. فعرف بذلك أن في ضمن المعنى والقرآن ذي الذكر إنك مرسل حقاً ولو عجبوا من مجيئك منذراً لهم، وزعموا أنك ساحر كذاب، أي فهم الذين عجبوا من الحق الذي لا شك فيه، وزعموا أن خاتم الرسل، وأكرمهم على الله، ساحر كذاب.
وأما كون الإله المعبود واحداً لا شريك له، ففي قوله هنا :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لشيء عُجَابٌ ﴾، لأن الهمزة في قوله : أجعل للإنكار المشتمل على معنى النفي، فهي تدل على نفي سبب تعجبهم من قوله صلى الله عليه وسلم : إن الإله المعبود واحد.
وهذان الأمران قد دلت آيات أخر من القرآن العظيم، على أن الله أقسم على تكذيبهم فيها وإثباتها بالقسم صريحاً كقوله تعالى مقسماً على أن الرسول مرسل حقاً ﴿ يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ يس : ١-٣ ] فهي توضح معنى ص والقرآن ذي الذكر إنك لمن المرسلين.
وقد جاء تأكيد صحة تلك الرسالة في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٢ ]، وأما كونه تعالى هو المعبود الحق لا شريك له، فقد أقسم تعالى عليه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفَّا * فَالزَاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ ﴾ ونحو ذلك من الآيات فدل ذلك على أن المعنى تضمن ما ذكر أي والقرآن ذي الذكر، إن إلهكم لواحد كما أشار إليه بقوله ﴿ أَجَعَلَ الآلهة ﴾ [ ص : ٥ ] الآية.
وأما كون البعث حقاً، فقد أقسم عليه إقساماً صحيحاً صريحاً، في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى :﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ﴾ [ التغابن : ٧ ]. وقوله تعالى :﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ [ سبأ : ٣ ] أي الساعة. وقوله :﴿ قُلْ إي وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ [ يونس : ٥٣ ].
وأقسم على اثنين من الثلاثة المذكورة وحذف المقسم عليه الذي هو الاثنان المذكوران، وهي كون الرسول مرسلاً، والبعث حقاً، وأشار إلى ذلك إشارة واضحة، وذلك في قوله تعالى { ق وَال

قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ : وقد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَا عندي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ [ الأنعام : ٥٧ ]. وفي سورة يونس في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنْتُمْ بِهِ ﴾ [ يونس : ٥١ ] الآية وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ﴾ [ الرعد : ٦ ]. وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ [ الحج : ٤٧ ] الآية.
وقد قدمنا أن القط، النصيب من الشيء، أي عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به.
وأن أصل القط كتاب الجائزة لأن الملك يكتب فيه النصيب الذي يعطيه لذلك الإنسان، وجمعه قطوط، ومنه قول الأعشى :
ولا الملك النعمان حين لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق
وقوله : ويأفق أي يفضل بعضهم على بعض في العطاء المكتوب في القطوط.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ ﴾ إلى قوله ﴿ أَوَّابٌ ﴾ : وقد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة الأنبياء، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ﴾ [ الأنبياء : ٧٩ ] الآية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨:قوله تعالى :﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ ﴾ إلى قوله ﴿ أَوَّابٌ ﴾ : وقد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة الأنبياء، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ﴾ [ الأنبياء : ٧٩ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك ﴾ الآية.
قد قدمنا الكلام على مثل هذه الآية، من الآيات القرآنية التي يفهم منها صدور بعض الشيء، من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وبينا كلام أهل الأصول في ذلك في سورة طه، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [ طه : ١٢١ ].
واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة، مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معوّل عليه، وما جاء منه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء.
قوله تعالى :﴿ يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأرض ﴾، قد بينا الحكم الذي دل عليه، في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [ البقرة : ٣٠ ] الآية. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ قد أمر نبيه داود فيه، بالحكم بين الناس بالحق ونهاه فيه عن اتباع الهوى، وأن اتباع الهوى، علة للضلال عن سبيل الله، لأن الفاء في قوله فيضلك عن سبيل الله تدل على العلية.
وقد تقرر في الأصول، في مسلك الإيماء والتنبيه، أن الفاء من حروف التعليل كقوله : سهى فسجد، وسرق فقطعت يده، أو لعلة السهو في الأول، ولعلة السرقة في الثاني، وأتبع ذلك بالتهديد لمن اتبع الهوى، فأضله ربنا عن سبيل الله، في قوله تعالى بعده يليه :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾.
ومعلوم أن نبي الله داود، لا يحكم بغير الحق، ولا يتبع الهوى، فيضله عن سبيل الله، ولكن الله تعالى، يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، وينهاهم، ليشرع لأممهم.
ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر به داود، ونهاه أيضاً عن مثل ذلك، في آيات من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ﴾ [ المائدة : ٤٢ ]. وقوله تعالى :﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [ المائدة : ٤٩ ] وكقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ [ الأحزاب : ١ و٤٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ] وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ [ الكهف : ٢٨ ] الآية.
وقد قدمنا الكلام على هذا، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى :﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إلها ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ﴾ [ الإسراء : ٢٢ ].
وبينا أن من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب، والمراد بذلك الخطاب غيره يقيناً قوله تعالى :﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] الآية، ومن المعلوم أن أباه صلى الله عليه وسلم توفي قبل ولادته، وأن أمه ماتت وهو صغير، ومع ذلك فإن الله يخاطبه بقوله تعالى :﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] ومعلوم أنه لا يبلغ عنده الكبر أحدهما، ولا كلاهما لأنهما قد ماتا قبل ذلك بزمان.
فتبين أن أمره تعالى لنبيه ونهيه له في قوله ﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ -٢٤ ] الآية : إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته، ولا يراد به هو نفسه صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب. إياك أعني واسمعي يا جارة، وذكرنا في ذلك رجز سهل بن مالك الفزاري الذي خاطب به امرأة، وهو يقصد أخرى وهي أخت حارثة بن لأم الطائي وهو قوله :
يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره إياك أعني واسمعي يا جاره
وذكرنا هناك الرجز الذي أجابته به المرأة، وقول بعض أهل العلم إن الخطاب في قوله :﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] الآية، هو الخطاب بصيغة المفرد، الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه. كقول طرفة بن العبد في معلقته :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أي ستبدي لك ويأتيك أيها الإنسان الذي يصح خطابك، وعلى هذا فلا دليل في الآية، غير صحيح، وفي سياق الآيات قرينة قرآنية واضحة دالة على أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وعليه. فالاستدلال بالآية، استدلال قرآني صحيح، والقرينة القرآنية المذكورة، هي أنه تعالى قال في تلك الأوامر والنواهي التي خاطب بها رسوله صلى الله عليه وسلم، التي أولها ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ ﴾ [ الإسراء : ٣٩ ]. ما هو صريح، في أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، لا عموم كل من يصح منه الخطاب، وذلك في قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلها ءَاخَرَ فَتُلْقَى في جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ﴾ [ الإسراء : ٣٩ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ﴾ : قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ [ الحجر : ٨٥ ] وفي آخر سورة قد أفلح المؤمنون. في الكلام على قوله :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ] و قوله تعالى :﴿ ذلك ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾.
الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي، ذلك أي خلقنا السماوات والأرض باطلاً هو ظن الذين كفروا بنا، والنفي في قوله ما خلقنا، منصب على الحال لا على عاملها الذي هو خلقنا، لأن المنفي بأداة النفي التي هي ما : ليس خلقه للسماوات والأرض، بل هو ثابت، وإنما المنفي بها، هو كونه باطلاً، فهي حال شبه العمدة وليست فضلة صريحة، لأن النفي منصب عليها هي خاصة، والكلام لا يصح دونها. والكلام في هذا معلوم في محله، ونفي كون خلقه تعالى للسماوات والأرض باطلاً نزه عنه نفسه ونزهه عنه عباده الصالحون، لأنه لا يليق بكماله وجلاله تعالى.
أما تنزيهه نفسه عنه ففي قوله تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ]. ثم نزه نفسه، عن كونه خلقهم عبثاً، بقوله تعالى :﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [ المؤمنون : ١١٦ ] أي تعالى وتقدس وتنزه عن كونه خلقهم عبثاً.
وأما تنزيه عباده الصالحين له عن ذلك، ففي قوله تعالى :﴿ إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ الليل وَالنَّهَارِ لآيات لأولى الألباب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٠- ١٩١ ]، فقوله تعالى عنهم سبحانك أي تنزيهاً لك، عن أن تكون خلقت السماوات والأرض باطلاً. فقولهم سبحانك تنزيه له، كما نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى :﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾ [ المؤمنون : ١١٦ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾ يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به جل وعلا، فله النار.
وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أراده وجعله من الخاسرين، وجعل النار مثواه. وذلك في قوله تعالى :﴿ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُون وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِين َفَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴾ [ فصلت : ٢٢-٢٣-٢٤ ] الآية.
وقولنا في أول هذا المبحث الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي قد قدمنا إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ]، وبينا هناك أن الفعل نوعان، أحدهما الفعل الحقيقي، والثاني الفعل الصناعي، أما الفعل الحقيقي، فهو الحدث المتجدد المعروف عند النحويين بالمصدر.
وأما الفعل الصناعي، فهو المعروف في صناعة علم النحو بالفعل الماضي، والفعل المضارع، وفعل الأمر على القول بأنه مستقل عن المضارع. ومعلوم أن الفعل الصناعي ينحل عند النحويين، عن مصدر وزمن، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن
وعند جماعات من البلاغيين، أنه ينحل عن مصدر، وزمن ونسبة، وهو الأقرب، كما حرره بعض علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية، وبذلك تعلم أنه لا خلاف بينهم في أن المصدر، والزمن كامنان في الفعل الصناعي فيصح رجوع الإشارة والضمير إلى كل من المصدر والزمن الكامنين في الفعل الصناعي.
فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن في الفعل، قوله هنا ﴿ ذلك ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، فإن المصدر الذي هو الخلق، كامن في الفعل الصناعي، الذي هو الفعل الماضي في قوله :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلك ﴾ أي خلق السماوات المذكور الكامن في مفهوم خلقنا ظن الذين كفروا.
ومثال رجوع الإشارة إلى الزمن الكامن في مفهوم الفعل الصناعي، قوله تعالى :﴿ وَنُفِخَ في الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ ﴾ [ ق : ٢٠ ] أي ذلك الزمن الكامن في الفعل هو يوم الوعيد.
ومثال رجوع الضمير للمصدر الكامن في مفهوم الفعل قوله تعالى :﴿ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [ المائدة : ٨ ] فقوله : هو، أي العدل الكامن في مفهوم اعدلوا، كما تقدم إيضاحه.
قوله تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الأرض أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ : أم في قوله : أم نجعل الذين، وقوله، أم نجعل المتقين، كلتاهما، منقطعة وأم المنقطعة، فيها لعلماء العربية ثلاثة مذاهب : الأول : أنها بمعنى همزة استفهام الإنكار. الثاني : أنها بمعنى بل الإضرابية. والثالث : أنها تشمل معنى الإنكار والإضراب معاً، وهو الذي اختاره بعض المحققين.
وعليه فالإضراب بها هنا انتقالي لا إبطالي ووجه الإنكار بها عليهم واضح، لأن من ظن بالله الحكيم الخبير، أنه يساوي بين الصالح المصلح، والمفسد الفاجر، فقد ظن ظناً قبيحاً جديراً بالإنكار.
وقد بين جل وعلا هذا المعنى، في غير هذا الموضع، وذم حكم من يحكم به، وذلك في قوله تعالى الجاثية :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢١ ].
قوله تعالى :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاٌّلْبَابِ ﴾.
قوله تعالى : كتاب خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب، وقد ذكر جل وعلا، في هذه الآية الكريمة، أنه أنزل هذا الكتاب، معظماً نفسه جل وعلا، بصيغة الجمع، وأنه كتاب مبارك وأن من حكم إنزاله، أن يتدبر الناس آياته، أي يتفهموها ويتعقلوها ويمعنوا النظر فيها، حتى يفهموا ما فيها من أنواع الهدى، وأن يتذكر أولوا الألباب، أي يتعظ أصحاب العقول السليمة، من شوائب الاختلال.
وكل ما ذكره في هذه الآية الكريمة جاء واضحاً في آيات أخر.
أما كونه جل وعلا، هو الذي أنزل هذا القرآن، فقد ذكره في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [ القدر : ١ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [ الدخان : ٣ ] وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [ آل عمران : ٧ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما كون هذا الكتاب مباركاً، فقد ذكره في آيات من كتابه كقوله تعالى :﴿ وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٩٢ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٥ ]. والمبارك كثير البركات، من خير الدنيا والآخرة.
ونرجو الله القريب المجيب، إذ وفقنا لخدمة هذا الكتاب المبارك، أن يجعلنا مباركين أينما كنا، وأن يبارك لنا وعلينا، وأن يشملنا ببركاته العظيمة في الدنيا والآخرة، وأن يعم جميع إخواننا المسلمين، الذين يأتمرون بأوامره بالبركات والخيرات، في الدنيا والآخرة، إنه قريب مجيب.
وأما كون تدبر آياته، من حكم إنزاله : فقد أشار إليه في بعض الآيات، بالتحضيض على تدبره، وتوبيخ من لم يتدبره، كقوله تعالى ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ٢٤ ]. وقوله تعالى :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾ وقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الأولين ﴾ [ المؤمنون : ٦٨ ].
وأما كون تذكر أولي الألباب، من حكم إنزاله، فقد ذكره في غير هذا الموضع، مقترناً ببعض الحكم الأخرى، التي لم تذكر في آية ص هذه كقوله تعالى في سورة إبراهيم ﴿ هذا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ [ إبراهيم : ٥٢ ] فقد بين في هذه الآية الكريمة، أن تذكر أولي الألباب، من حكم إنزاله مبيناً منها حكمتين أخريين، من حكم إنزاله، وهما إنذار الناس به، وتحقيق معنى لا إله إلا الله، وكون إنذار الناس وتذكر أولي الألباب، من حكم إنزاله، ذكره في قوله تعالى :﴿ المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : ١ -٢ ] لأن اللام في قوله لتنذر، متعلقة بقوله : أنزل، والذكرى اسم مصدر بمعنى التذكير، والمؤمنون في الآية لا يخفى أنهم هم أولوا الألباب.
وذكر حكمة الإنذار في آيات كثيرة كقوله :﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ].
وقوله تعالى :﴿ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هذا الْقُرْءَانُ لأنذركم بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]. وقوله تعالى :﴿ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ ﴾ [ يس : ٥-٦ ]. وقوله تعالى :﴿ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً ﴾ [ يس : ٧٠ ].
وذكر في آيات أخر، أن من حكم إنزاله، الإنذار والتبشير معاً، كقوله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ [ مريم : ٩٧ ]. وقوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ﴾ [ الكهف : ١ – ٢ ] الآية.
وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله أن يبين صلى الله عليه وسلم للناس ما أنزل إليهم ولأجل أن يتفكروا، وذلك قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ النحل : ٤٤ ].
وقد قدمنا مراراً كون لعل من حروف التعليل، وذكر حكمة التبيين المذكورة مع حكمة الهدى والرحمة، في قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ النحل : ٦٤ ].
وبين أن من حكم إنزاله، تثبيت المؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين في قوله تعالى :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [ النحل : ١٠٢ ].
وبين أن من حكم إنزاله، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يحكم بين الناس بما أراه الله، وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ [ النساء : ١٠٥ ] الآية.
والظاهر أن معنى قوله :﴿ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ أي بما علمك من العلوم في هذا القرآن العظيم، بدليل قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ]. وقوله تعالى :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [ يوسف : ٣ ].
وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله إخراج الناس من الظلمات إلى النور وذلك في قوله تعالى :﴿ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ [ إبراهيم : ١ ] الآية.
وبين أن من حِكَم إنزاله التذكرة لمن يخشى في قوله تعالى :﴿ طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾ [ طه : ١ -٣ ] أي ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى.
وهذا القصر على التذكرة إضافي، وكذلك القصر في قوله تعالى الذي ذكرناه قبل هذا ﴿ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ [ النحل : ٦٤ ] الآية، بدليل الحِكَم الأخرى التي ذكرناها.
وبين أن من حكم إنزاله قرآناً عربياً وتصريف الله فيه من أنواع الوعيد أن يتقي الناس الله، أو يحدث لهم هذا الكتاب ذكراً، أي موعظة وتذكراً، يهديهم إلى الحق، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ﴾ [ طه : ١١٣ ] والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ﴾ الآية.
ذكر في هذه الآية الكريمة، أنه وهب سليمان لداود، وقد بين في سورة النمل أن الموهوب ورث الموهوب له، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾ [ النمل : ١٦ ].
وقد بينا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى عن زكريا ﴿ فَهَبْ لي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّا ًيَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ ﴾ [ مريم : ٥ -٦ ] الآية أنها وراثة علم ودين لا وراثة مال.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ﴾ الآية.
قد قدمنا الكلام على هذه الآية، وعلى ما يذكره المفسرون فيها، من الروايات التي لا يخفى سقوطها، وأنها لا تليق بمنصب النبوة، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْولَنَّ لشيء إني فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الكهف : ٢٣-٢٤ ]. وما روي عنه من السلف من جملة تلك الروايات، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان، وجلس على كرسيه وطرد سليمان إلى آخره يوضح بطلانه، قوله تعالى :﴿ إِنَّ عبادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٢ ] واعتراف الشيطان بذلك في قوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٠ ].
قوله تعالى :﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه موضحاً بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ] الآية.
وفسرنا هناك قوله هنا حيث أصاب وذكرنا هناك أوجه الجمع، بين قوله هنا :﴿ رُخَآءً ﴾، وقوله هناك :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً ﴾ ووجه الجمع أيضاً بين عموم الجهات المفهوم من قوله هنا ﴿ حَيْثُ أَصَابَ ﴾ أي حيث أراد وبين خصوص الأرض المباركة المذكورة هناك في قوله ﴿ تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ].
قوله تعالى :﴿ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ ﴾ الآية.
قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٨٢ ].
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ إلى قوله ﴿ لأولي الألباب ﴾.
قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع التعرض لإزالة ما فيه من الإشكال في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ﴾ إلى قوله :﴿ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ إلى قوله ﴿ لأولي الألباب ﴾.
قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع التعرض لإزالة ما فيه من الإشكال في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ﴾ إلى قوله :﴿ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ إلى قوله ﴿ لأولي الألباب ﴾.
قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع التعرض لإزالة ما فيه من الإشكال في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ﴾ إلى قوله :﴿ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾.

قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾ الآية : أمر الله جل وعلا، نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، أن يذكر عبده إبراهيم ولم يقيد ذلك الذكر بكونه في الكتاب، مع أنه قيده بذلك في سورة مريم، في قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً ﴾ [ مريم : ٤١ ].
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ ﴾ الآية : أطلق هنا أيضاً الأمر بذكر إسماعيل وقيده في سورة مريم بكونه في الكتاب في قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ﴾، وفي ذلك إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم مأمور أيضاً بذكر جميع المذكورين في الكتاب. ولذلك جاء ذكرهم كلهم في القرآن العظيم كما لا يخفى.
قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴾ : قد قدمنا الكلام عليه، في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴾.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾ : ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن نعيم الجنة، لا نفاد له، أي لا انقطاع له ولا زوال، ذكره جل وعلا في آيات أخر كقوله تعالى فيه :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ]. وقوله تعالى :﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [ النحل : ٩٦ ].
قوله تعالى :﴿ إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ﴾ : قد قدمنا ما يوضحه، من الآيات القرآنية في مواضع متعددة، من هذا الكتاب المبارك، ذكرنا بعضها في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾، وذكرنا بعضه في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] وغير ذلك من المواضع.
قوله تعالى :﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ : قد تقدم إيضاحه، مع بعض المباحث في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٣٤ ].
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ : قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة هود، وذكرنا الأحكام المتعلقة بالآيات، في الكلام على قوله تعالى عن نبيه نوح ﴿ وَيا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ هود : ٢٩ ].
قوله تعالى :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ﴾.
الحين المذكور هنا، قال بعض العلماء : المراد به بعد الموت، ويدل له ما قدمنا في سورة الحجر، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [ الحجر : ٩٩ ].
وقال بعض العلماء : الحين المذكور هنا، هو يوم القيامة ولا منافاة بين القولين، لأن الإنسان بعد الموت تتبين له حقائق الهدى والضلال.
واللام في لتعلمن موطئه للقسم، وقد أكد في هذه الآية الكريمة أنهم سيعلمون نبأ القرآن أي صدقه، وصحة جميع ما فيه بعد حين بالقسم، ونون التوكيد.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بأنهم سيعلمون نبأه بعد حين، قد أشار إليه تعالى، في سورة الأنعام، في قوله تعالى :﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأنعام : ٦٦-٦٧ ].
قال غير واحد من العلماء : لكل نبإ مستقر، أي لكل خبر حقيقة ووقوع، فإن كان حقاً تبين صدقه ولو بعد حين، وإن كان كذباً تبين كذبه، وستعلمون صدق هذا القرآن ولو بعد حين.
Icon