بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدةهي مائة وثلاث وعشرون آية. قال القرطبي : هي مدنية بالإجماع وبه قال قتادة، وعن محمد ابن كعب قال إنها نزلت في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة، وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المائدة في آخر القرآن تنزيلا. فأحلوا حلالها وحرموا حرامها. ورد هذا الحديث من قول عائشة وليس هو بحديث عن رسول الله وقد ساقه ابن كثير ج ٦ ( ص٦ ).
وعن عمر بن شرحبيل قال : لم ينسخ من المائدة شيء. وقال : الشعبي إلا هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ﴾ قال ميسرة : إن الله أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها من سور القرآن وهي قوله :﴿ والمنخنقة ﴾ إلى قوله :﴿ إذا حضر أحدكم الموت ﴾.
ﰡ
وقد حكى النقاش أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً ثم استثنى بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا.
(أوفوا) يقال أوفى ووفى لغتان، والوفاء القيام بموجب العقد، وكذا الإيفاء (بالعقود) العهود وأصلها الرُّبوط واحدها عند، يقال عقدت الحبل والعهد فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام قوي التوثيق.
قيل المراد بالعقود هي التي عندها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام، وقيل هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات والأمانات
والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن خالفهما فهو رد لا يجب الوفاء به ولا يحل، قال ابن عباس: أوفوا بالعقود أي ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله، لا تغدروا ولا تنكثوا.
وعن قتادة قال: هي عقود الجاهلية الحلف، وعنه قال ذكر لنا أن نبي الله - ﷺ - كان يقول: أوفوا بعقد الجاهلية، ولا تحدثوا عقداً في الإسلام (١)، وقال ابن جريج الخطاب لأهل الكتاب: أي العقود التي عهدتها إليكم في شأن محمد - ﷺ - والإيمان به، وما أبعده.
وقيل هو خطاب للمؤمنين وهذا هو الظاهر، والعقود خمس: عقد اليمين وعند النكاح وعند العهد وعقد البيع وعقد الشركة، وزاد بعضهم وعقد الحلف، قال الطبري: وأولى الأقوال ما قاله ابن عباس، وقد تقدم لأن الله تعالى أتبعه بالبيان عما أحل لعباده وحرم عليهم فقال:
(أحلت لكم بهيمة الأنعام) الخطاب للذين آمنوا خاصة، والبهيمة اسم لكل ذي أربع من الحيوان لكن خص في التعارف بما عدا السباع والضواري من الوحوش، وإنما سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهيمة للشجاع الذي لا
_________
(١) صحيح الجامع/٢٥٥٠.
والأنعام اسم للإبل والبقر والغنم سميت بذلك لما في مشيها من اللين، وقيل بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية وغير ذلك قاله الكلبي، وحكاه ابن جرير والطبري عن قوم، وحكاه غيره عن السدي والربيع وقتادة والضحاك.
قال ابن عطية وهذا قول حسن: وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له أنعام مجموعة معها، وكأن المفترس كالأسد كل ذي ناب خارج عن حد الأنعام، ولا يدخل فيها ذوات الحوافر في قول جميع أهل اللغة، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع.
وقيل بهيمة الأنعام ما لم يكن صيداً لأن الصيد يسمى وحشياً لا بهيمة، وقيل بهيمة الأنعام الأجِنَّة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام فهي تؤكل من دون ذكاة قاله ابن عباس (١).
وعلى القول الأول أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم تكون الإضافة بيانية من إضافة الجنس إلى أخص منه، أو هي بمعنى (من) لأن البهيمة أعم فأضيف إلى أخص كثوب خز، قاله الكرخي، والأول أولى.
_________
(١) في الحديث عن النبي - ﷺ - قال: " ذكاة الجنين ذكاة أمه " رواه أبو داود: ٣/ ١٣٦، والترمذي ١/ ١٧٨، وابن ماجه: ٢/ ١٠٦٧ من حديث جابر وهو حديث صحيح. وفي " المغني " ١١/ ٥١: إذا خرج الجنين ميتاً من بطن أمه بعد ذبحها أو وجد ميّتاً في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح فهو حلال. روي هذا عن عمر وعلي وبه قال سعيد ابن المسيب، والنخعي، والشافعي، وإسحاق وابن المنذر.
(إلا ما يتلى عليكم) في القرآن تحريمه استثناء من قوله (أحلت لكم بهيمة الأنعام) أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال، والمتلوّ هو ما نص الله على تحريمه نحو قوله تعالى (حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) وذلك عشرة أشياء أولها الميتة وآخرها ما ذبح على النصب (١).
قال ابن عباس: هذا ما حرم الله من بهيمة الأنعام، ويلحق به ما صرحت السنة بتحريمه وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به إلا ما يتلى عليكم الآن، ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ويحتمل الأمرين جميعاً.
(غير محلّي الصيد) ذهب البصريون إلى أن قوله الأول استثناء من بهيمة الأنعام وقوله: (غير محلّي الصيد) استثناء آخر منه أيضاً، فالإستثناآن جميعاً من بهيمة الأنعام، والتقدير أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون.
وقيل الاستثناء الأول من بهيمة الأنعام، والثاني هو من الاستثناء الأول، ورد بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام لأنه مستثنى من المحظور
_________
(١) وفي " القرطبي " ٣/ ٣٥: قوله تعالى: (إلا ما يتلى عليكم) أي: يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة) وقوله عليه الصلاة والسلام: " وكل ذي ناب من السباع حرام ".
ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملاً واعتقاداً وهو شائع في الكتاب والسنة، ونصب غير على الحال من ضمير لكم، وعليه كلام الجمهور، وذهب إليه الزمخشري وتعقب وأجيب.
ومعنى هذا التقييد أي (وأنتم حرم) ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية التي يحل أكلها، كأنه قال: أحل لكم صيد البر إلا في حال الإحرام، وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى أحلت لكم بهيمة هي الأنعام حال تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام لكونكم محتاجين إلى ذلك، فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرم عليهم في تلك الحال.
والمراد بالحرم من هو محرم بالحج أو العمرة أو بهما، وسمي محرماً لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء، وهكذا وجه تسمية الحرم حرماً، والإحرام إحراماً (إن الله يحكم ما يريد) من الأحكام المخالفة لما كانت العرب تعتاده، فهو مالك الكل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا اعتراض عليه، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاتة المصالح، قاله أبو حيان (١).
_________
(١) البيت للمضرب بن كعب بن زهير بن أبي سُلمى، وهو في " مجاز القرآن " ١/ ١٤٥ و " السمط ": ٢/ ٧٩١، و " الاقتضاب ": ٤٧٥، و " شرح أدب الكاتب " للجواليقي: ٤١١ و " القرطبي ": ٦/ ٣٦. قال البطليوسي: سمي المضرب، لأنه شبب بامرأة، فغار أخوها لذلك، فضربه بالسيف ضربات عديدة، ويروى لشبل بن الصامت المري وبعده.
قصدت بعيني شادنٍ وتبسمت | بعجفاء عن غرٍ لهن غروب |
والمعنى على هذين القولين: لا تُحلّوا هذه الأمور بأن يقع منكم الإخلال بشيء منها أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها.
ذكر سبحانه النهي عن أن يُحلوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم.
وإشعار الهدي أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل دمه فيكون ذلك علامة هدي، وهو سنة في الإبل والبقر دون الغنم، ويدل عليه أحاديث صحيحة في كتب السنة المطهرة، وقيل المراد بالشعائر هنا فرائض الله ومنه (ومن يعظّم شعائر الله) وقيل هي حرمات الله، وقال ابن عباس: هي أن تصيد وأنت محرم، وقيل شرائع الله ومعالم دينه، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بما يدل عليه السياق.
وقيل المراد به هنا شهر الحج فقط وقيل ذو القعدة وقيل رجب، ذكرهما ابن جرير، والأول أولى.
(ولا الهدي) هو ما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة، الواحدة هدية، نهاهم سبحانه عن أن يحلّوا حرمة الهدي بأن يأخذوه على صاحبه أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدى إليه، وعطف الهدي على الشعائر مع دخوله تحتها لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته والتشديد في شأنه.
(ولا القلائد) جمع قلادة وهي ما تُقلَّد به الهدي من نعل أو نحوه، وما تشد في عنق البعير وغيره، وإحلالها بأن تؤخذ غصباً، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد النهي عن إحلال الهدي، وقيل المراد بالقلائد المقلّدات بها ويكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي، والأول أولى.
وقيل المراد بالقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، فهو على حذف مضاف أي ولا أصحاب القلائد، وقيل أراد بالقلائد نفس القلائد فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يتقلد به طلباً للأمر، قاله مجاهد وعطاء وغيرهما.
(ولا آمّين البيت الحرام) أي قاصديه، من قولهم أممت كذا أي قصدته، والمعنى لا تمنعوا من قصد البيت الحرام لحج أو عمرة أو ليسكن فيه، وقيل لا تحلوا قتال قوم أو أذى قوم آمّين.
وقال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا يحجون ويعتمرون ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، وينحرون في حجهم،
وقال قوم الآية محكمة وهي في المسلمين، قال الواحدي: وذهب جماعة إلى أنه لا منسوخ في هذه السورة، وأن هذه محكمة وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شيء سوى القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء شجر الحرم.
والظاهر ما عليه جمهور العلماء من نسخ هذه الآية لإجماع العلماء على أن الله تعالى قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها، وكذلك أجمعوا على منع من قصد البيت بحج أو عمرة من المشركين والله أعلم.
(يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً) قال جمهور المفسرين: معناه يبغون الفضل والرزق والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوان الله تعالى، وقيل كان منهم من يطلب التجارة ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله، ويكون هذا الابتغاء للرضوان بحسب اعتقادهم وفي ظنهم عند من جعل الآية في المشركين، وقيل المراد بالفضل هنا الثواب لا الأرباح في التجارة.
(وإذا حللتم فاصطادوا) هذا تصريح بما أفاده مفهوم (وأنتم حرم) أباح لهم الصيد بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرم لأجله وهو الإحرام، ومثله قوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) والأمر للإباحة لأن الله حرم الصيد على المحرم حالة الإحرام بقوله (غير محلي الصيد وأنتم حرم) وأباحه له إذا حل من إحرامه بقوله (وإذا حللتم فاصطادوا)
_________
(١) صحيح الجامع/٧٥٠٨.
(ولا يجرمنّكم) تأمّل هذا النهي، فإن الذين صدوا المسلمين عن دخول مكة كانوا كفاراً حربيين، فكيف ينهى عن التعرض لهم وعن مقاتلتهم، فلا يظهر إلا أن هذا النهي منسوخ، ولم أر من نبّه عليه، أو يقال أن النهي عن التعرض لهم من حيث عقد الصلح الذي وقع في الحديبية فبسببه صاروا مؤمنين، وحينئذ فلا يجوز التعرض لهم، ولم أر من نبّه على هذا أيضاً.
قال ابن فارس: جرم وأجرم ولا جرم بمعنى قولك لا بد ولا محالة وأصلها من جرم أي كسب، وقيل المعنى لا يحملنكم قاله الكسائي وثعلب وهو يتعدى إلى مفعولين، يقال جرمني كذا على بغضك أي حملني عليه، وقال أبو عبيدة والفراء: المعنى لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الجور، والجريمة والجارم بمعنى الكاسب.
والمعنى في الآية لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء عليهم أو لا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم الحق إلى الباطل، ويقال جرم يجرم جرماً إذا قطع، قال علي بن عيسى الرماني: وهو الأصل فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لإنقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه، قال الخليل: معنى لا جرم أن لهم النار لقد حق أن لهم النار.
وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي اكتسب، وقرأ ابن مسعود لا يجرمنكم بضم الياء، والمعنى لا يكسبنكم، ولا يعرف البصريون أجرم، وإنما يقولون جرم لا غير.
(شنآن قوم) مصدر مضاف لمفعوله لا إلى فاعله كما قيل، والشنآن
(أن صدوكم) بفتح الهمزة مفعول لأجله أي لأن صدوكم وهي قراءة واضحة، والمعنى على قراءة الشرطية بكسر الهمزة لا يحملنكم بغضهم إن وقع منهم الصد لكم.
(عن المسجد الحرام أن تعتدوا) أي على الإعتداء عليهم بالقتل وأخذ المال، وقال النحاس: وأما إن صدوكم بكسر (إن) فالعلماء الجلّة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء، منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية.
ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بالتعاون على البر والتقوى فقال (وتعاونوا على البر والتقوى) أي ليعن بعضكم بعضاً على ذلك، وهو يشمل كل أمر يصدق عليه أنه من البر والتقوى كائناً ما كان، قيل إن البر والتقوى لفظان لمعنى واحد وكرر للتأكيد، وقال ابن عطية: إن البر يتناول الواجب والمندوب، والتقوى يختص بالواجب، وقال الماوردي: إن في البر رضا الناس، وفي التقوى رضا الله، فمن جمع بينهما فقد تمت سعادته، قال ابن عباس: البر ما أمرت به والتقوى ما نهيت عنه.
(ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) أي لا يعن بعضكم بعضاً على ذلك والإثم كل فعل أو قول يوجب إثم فاعله أو قائده، والعدوان التعدي على
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه عن وابصة أن النبي - ﷺ -، قال له: البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك (١).
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي عن النواس بن سمعان قال سألت النبي - ﷺ - عن البر والإثم، فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس (٢).
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أُمامة أن رجلاً سأل النبي - ﷺ - عن الإثم فقال: ما حاك في نفسك فدعه، قال فما الإيمان، قال من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن (٣).
(واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب) أمر سبحانه عباده بالتقوى وتوعد من خالف ما أمر به فتركه أو خالف ما نهى عنه ففعله، ففيه تهديد عظيم ووعيد شديد.
_________
(١) صحيح الجامع ٢٩٧٨.
(٢) مسلم ٢٥٥٣.
(٣) مسند أحمد ٥/ ٣٨٢.
(الميتة) المراد البهيمة التي تموت حتف أنفها أي أكلها (والدم) وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحاً كما تقدم، حملاً للمطلق على المقيد، وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدّمان فالكبد والطحال (١) أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي إسناده مقال، ويقويه حديث وهو الطهور ماؤه والحل ميتته " (٢) وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقد أطال الشوكاني الكلام عليه في شرحه للمنتقى.
(ولحم الخنزير) قيل كله نجس، وإنما خص اللحم لأنه معظم المقصود
_________
(١) الدارقطني ٤/ ٢٧٢.
(٢) صحيح الجامع ٦٩٢٥.
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في الكلام على هذه الآية: إن ظاهرها أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن تجتمع في الذبيحة مانعات، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح اهـ.
وكلامه في هذا الباب واسع جداً.. وكذلك كلام غيره من أهل العلم، ولا حاجة بنا هنا إلى تكرير ما قد أسلفناه في سورة البقرة من أحكام هذه الأربعة ففيه ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
(والمنخنقة) هي التي تموت بالخنق، وهو حبس النفس سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل أو بين عودين أو بفعل آدمي أو غيره، وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها، والفرق بينهما أن الميتة تموت بلا سبب أحد والمنخنقة تموت بسبب الخنق.
(والموقوذة) هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية
وقال ابن عبد البر: واختلف العلماء قديماً وحديثاً في الصيد بالبندق والحجر والمعراض، ويعني بالبندق قوس البندقية، وبالمعراض السهم الذي لا ريش له أو العصا التي رأسها محدود، قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته على ما روى عن ابن عمر وهو قول مالك وأبى حنيفة أصحابه والثوري والشافعي، وخالفهم الشاميون في ذلك.
قال الأوزاعي: في المعراض كُلْه خزنى أو لم يخزق فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأساً، قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع، قال: والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة حديث عديّ بن حاتم وفيه ما أصاب بغرضه فلا تأكل فإنه وقيذ انتهى.
(قلت) والحديث في الصحيحين وغيرهما عن عدي قال: قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصاب بعرضة فإنما هو وقيذ فلا تأكله (١)، فقد اعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخزنى وعدمه، فالحق أنه لا يحل إلا ما خزق لا ما صدم، فلا بد من التذكية قبل الموت وإلا كان وقيذاً.
_________
(١) مسلم ١٩٢٩؛ والبخاري ١٤١.
والحاصل أن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص، فإن الرصاصة يحصل بها خزق زائد على خزق السهم والرمح والسيف، ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة، ويظهر لك ذلك بأنك لو وضعت ريشاً أو نحوه فوق رماد دقيق أو تراب دقيق وغرزت فيه شيئاً يسيراً من أصلها ثم ضربتها بالسيف المحدد أو نحو ذلك من الآلات لم يقطعها وهي على هذه الحالة، ولو رميتها بهذه البنادق لقطعتها.
فلا وجه لجعلها قاتلة بالصدم لا من عقل ولا من نقل من النهي عن أكل ما رمي بالبندقية، كما في رواية من حديث عدي بن حاتم عند أحمد بلفظ ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت، فالمراد بالبندقة هنا هي التي تتخذ من طين فيرمى بها بعد أن تيبس.
وفي صحيح البخاري قال ابن عمر في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة، وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن، وهكذا ما صيد بحصى الخذف فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن المغفل أن رسول الله - ﷺ - نهى عن الخذف وقال: إنها لا تصيد
(والمتردّية) هي التي تتردى من علو كالسطح والجبل ونحوهما إلى سفل فتموت من غير فرق بين أن تردى من جبل أو بئر أو مدفن أو غيرها، والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك، وسواء تردت بنفسها أو ردّاها غيرها.
(والنطيحة) هي فعيلة بمعنى مفعولة وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية، وقال قوم: إن فعيلة بمعنى فاعلة لأن الدابتين تتناطحان فتموتان وقال نطيحة ولم يقل نطيح مع أنه قياس فعيل لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب صفة لوصوف مذكور، فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية، وفي القاموس نطحه كمنعه وضربه أصابه بقرنه.
(وما أكل السبع) أي ما افترسه منه ذو ناب كالأسد والنمر والذئب والفهد والضبع ونحوها، والمراد هنا ما أكل بعضه السبع لأن ما أكله السبع كله قد فني فلا حكم له، وإنما الحكم لا بقي منه، والسبع اسم يقع على كل حيوان له ناب ويعدو على الناس والدواب فيفترس بنابه، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل السبع شاة ثم خلصوها منه أكلوها وإن ماتت ولم يذكوها.
(إلا ما ذكّيتم) استثناء متصل عند الجمهور وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقاً وفيه حياة، وقال المدنيون وهو الشهور من مذهب مالك وهو أحد قولي الشافعي أنه إذا بلغ السبع منها إلى ما لا حياة معه فإنها لا تؤكل.
_________
(١) مسلم ١٩٥٤؛ والبخاري ٢٠٤٦.
وأصل الذكاة في اللغة التمام أي تمام استكمال القوة، والذكاء حدة القلب وسرعة الفطنة، والذكاة ما تذكى منه النار، ومنه أذكيت الحرب والنار أوقدتهما، وذكاء اسم الشمس، والمراد هنا إلا ما أدركتم ذكاته على التمام، والتذكية في الشرع عبارة عن أنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور، والعقر في غير المقدور، مقرونًا بالقصد لله وذكر اسمه عليه.
وأما الآلة التي يقع بها الذكاة فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج فهو آلة للذكاة ما خلا السن والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة.
(و) حرم (ما ذبح على النصب) أي ما قصد بذبحه النصب، ولم يذكر اسمها عند ذبحه بل قصد تعظيمها بذبحه فـ (على) بمعنى اللام فليس هذا مكرراً مع ما سبق، إذ ذاك فيما ذكر عند ذبحه اسم الصنم، وهذا قصد بذبحه تعظيم الصنم من غير ذكره، وقال ابن فارس: النصب حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح، والنصاب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد، وقيل النصب جمع واحده نصاب كحمار وحمر، وقرأ الجحدري كالحبل والجمل والجمع أنصاب كالأحبال والأجمال.
قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها، وقيل كان حول الكعبة ثلثمائة وستون حجراً منصوبة قال ابن عباس: هن الأصنام المنصوبة، قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من
والمعنى والنية بذلك تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، ولهذا قيل: إن على بمعنى اللام أي لأجلها، قاله قطرب، وهو على هذا داخل فيما أُهلَّ به لغير الله وخص بالذكر لتأكيد تحريمه، ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذلك لتشريف البيت وتعظيمه.
(وأن تستقسموا بالأزلام) وهي قداح الميسر، واحدها زلم. والأزلام للعرب ثلاثة أنواع أحدها مكتوب فيه افعل والآخر مكتوب فيه لا تفعل والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج واحداً منها فإن خرج الأوّل فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين.
وإنما قيل لهذا الفعل استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله كما يقال استسقى أي استدعى السقيا، فالاستقسام طلب القسم والنصيب والحكم من القداح، وجملة قداح الميسر عشرة وكانوا يضربون بها في المقامرة.
وقيل إن الأزلام كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل هي النرد وقيل الشطرنج، وإنما حرم الله الاستقسام بالأزلام لأنه تعرض لدعوى علم الغيب وضرب من الكهانة، قال الزجاج: لا فرق بين هذا وبين قول المنجمين لا تخرج من أجل نجم كذا وأخرج لطلوع نجم كذا، وأنكر ذلك في شرح التأويلات بما لا يسمن ولا يغني من جوع.
(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) المراد باليوم الذي نزلت فيه الآية هو يوم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، وقيل سنة ثمان، وقيل إن ذلك هو يوم عرفة فنزلت هذه الآية والنبي صلى الله عليه وآله وسلم واقف بعرفة، وقيل المراد باليوم الحاضر وما يتصل به ولم يرد يوماً معيناً أي حصل لهم اليأس من إبطال أمر دينكم وأن يردوكم إلى دينهم كما كانوا يزعمون، واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع.
(فلا تخشوهم) أي لا تخافوا الكفار أن يغلبوكم أو يبطلوا دينكم فقد زال الخوف عنكم بإظهار دينكم (وآخشون) فأنا القادر على كل شيء إن نصرتكم فلا غالب لكم، وإن خذلتكم لم يستطع غيري أن ينصركم.
(اليوم) المراد يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، هكذا ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب، وقيل نزلت في يوم الحج الأكبر، وقال ابن عباس: نزلت في يوم عيدين، في يوم جمعة وعرفة أخرجه الترمذي وقال حسن غريب.
(أكملت لكم دينكم) أي جعلته كاملاً غير محتاج إلى إكمال لظهوره على الأديان كلها وغلبته لها، ولكمال أحكامه التي يحتاج المسلمون إليها من الحلال والحرام والمشتبه، والفرائض والسنن والحدود والأحكام وما تضمنه
قال الجمهور: المراد بالإكمال هنا نزول معظم الفرائض والتحليل والتحريم قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآية الربا وآية الكلالة ونحوهما، وقيل لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض، هذا معنى قول ابن عباس.
قال سعيد بن جبير وقتادة: معناه أي حيث لم يحج معكم مشرك وخلا الموسم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين، وقيل إكماله أنه لا يزول ولا ينسخ ويبقى إلى آخر الدهر، وقيل المعنى أنهم آمنوا بكل نبي وكل كتاب ولم يكن هذا لغير هذه الأمة، وقال ابن الأنباري: اليوم أكملت شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت.
وهذه أقوال ضعيفة ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع إما بالنص على كل فرد فرد أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة.
ومما يؤدي ذلك قوله تعالى ميه (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) وقوله (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها (١) وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين وبما يفيد هذا المعنى ويصحح دلالته ويؤيد برهانه.
ويكفي في دفع الرأي وأنه ليس من الدين قول الله تعالى هذا فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه لأنه إن كان من الدين في
_________
(١) الموطأ الحدود باب ١٠.
وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبداً، فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصكّ به وجوه أهل الرأي وترغم به آنافهم وتدحض به حجتهم فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه ولم يمت رسول الله - ﷺ - إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل، فمن جاء بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له إن الله أصدق منك، ومن أصدق من الله قيلاً، إذهب لا حاجة لنا في رأيك.
وليت المقلِدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويريحوا، وقد أخبرنا في محكم كتابه أن القرآن أحاط بكل شيء فقال ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال (تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة) ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) وقال نتحكم بين الناس بما أراك وقال (إن الحكم إلا لله يقصّ الحق وهو خير الفاصلين) وقال (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وفي آية هم الظالمون وفي أخرى هم الفاسقون.
وأمر عباده أيضاً في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وهذه أعم آية في القرآن وأبينها في الأخذ بالسنة المطهرة، وقال (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز وقال (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) وقال (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
إنّما أوردنا هذه الآيات الكريمة والبينات العظيمة تلييناً لقلب المقلّد الذي قد جمد وصار كالجلمد فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر القرآنية ربما امتثلها وأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله - ﷺ - طاعة لأوامره، فإن هذه الطاعة وإن كانت معلومه لكل مسلم لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع الفرقانية والزواجر المحمدية، فإذا ذُكّر بها ذكر، ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه فإنه يقع في قلبه أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه، وما كان مخالفاً له فليس من الإسلام في شيء، فإذا راجع نفسه رجع.
ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ثم سمع قبل أن يتمرن بالعلم ويعرف ما قاله الناس خلاف ذلك المألوف استنكره وأباه قلبه، ونفر عنه طبعه، وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر. ولكن إذا وازن العاقل بعقله بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسئلة من مسائله التي رواها عنه المقلد، ولا مستند لذلك العالم فيها بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل، وبين من تمسك في تلك المسئلة بخصوصها بالدليل الثابث في القرآن أو السنة أفاده العقل بأن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل لا جامع بينهما لأن من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة أولها وآخرها وحيّها وميتها.
والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره، والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة واسترواء النص، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسئلة، فيفيدونه النص إن
والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة وهو مبسوط في مواطنه، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ وبالله التوفيق.
وفي الآية دلالة على بطلان القياس، وعلى أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع إذ لو بقي بعضها غير مبيّن الحكم لم يكن الدين كاملاً، وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق النص كان عبثاً، وإن كان على خلافه كان باطلاً، وقد أجاب مثبتو القياس عن هذا بما لا يكفي في الجواب والله أعلم بالصواب.
(وأتممت عليكم نعمتي) بإكمال الدين المشتمل على الأحكام وبفتح مكة وقهر الكفار وإياسهم عن الظهور عليكم كما وعدتكم بقولي ولأتم نعمتي عليكم، وقال ابن عباس: حكم لهم بدخول الجنة.
(ورضيت لكم الإسلام ديناً) أي أخبرتكم برضائي به لكم، فالجملة مستأنفة لا معطوفة على (أكملت) وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرض لهم الإسلام ديناً قبل ذلك، وليس كذلك فإنه سبحانه لم يزل راضياً لأمة نبيه - ﷺ - بالإسلام، فلا يكون لاختصاص الرضا بهذا اليوم كثير فائدة إن حملناه على ظاهره.
ويحتمل أن يريد رضيت لكم الإسلام الذي أنتم عليه اليوم ديناً باقياً إلى
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر إنكم تقرؤن آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال وأي آية قالوا (اليوم أكملت لكم دينكم) قال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله - ﷺ - والساعة التي نزلت فيها نزلت على رسول الله - ﷺ - عشية عرفة في يوم الجمعة، أشار عمر إلى أن ذلك اليوم يوم عيد لنا.
قال ابن عباس: فمكث رسول الله - ﷺ - بعد نزول هذه الآية أحداً وثمانين يوماً ثم قبضه الله إليه، أخرجه البيهقي ومات - ﷺ - يوم الأثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، وقيل لاثنتي عشرة ليلة وهو الأصح سنة إحدى عشرة من الهجرة.
قال ابن عباس: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد يوم الجمعة ويوم عرفة وعيد لليهود وعيد للنصارى وعيد للمجوس، ولم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده.
(فمن اضطر في مخمصة) هذا متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض أي من دعته الضرورة في مخمصة أي مجاعة إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات، والخمص ضمور البطن، ورجل خميص وخمصان، وامرأة خميصة ومنه أخمص القدم لدقتها وهي صفحة محمودة في النساء، ويستعمل كثيراً في الجوع، ووقعت هذه الآية هنا وفي البقرة والأنعام والنحل ولم يذكر جواب الشرط إلا في البقرة فيقدر في غيرها وهو (فلا إثم عليه).
(فإن الله غفور) له (رحيم) به لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغياً على غيره أو متعدياً لما دعت إليه الضرورة حسبما تقدم.
وهذه الآية من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى ومتصلة بها، ومن قوله (ذلكم فسق) إلى هنا اعتراض وقع بين الكلامين، والغرض منه تأكيد ما تقدم ذكره في معنى التحريم لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل.
_________
(١) وفي " المسند " ٨/ ١٧٠ و " صحيح ابن حبان " عن ابن عمر مرفوعاً قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إن الله يحب أن تؤتي رخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته " لفظ ابن حبان. [قلت: وفي " المجمع " ٣/ ١٦٢ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، والبزار والطبراني في " الأوسط " وإسناده حسن] وفي لفظ لأحمد ٧/ ٢٣٨ " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة ". ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً، بحسب الأحوال.
وقد روى الإمام أحمد ٥/ ٢١٨ عن أبي واقد الليثي، أنهم قالوا: يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: " إذا لم تصطحبوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلاً، فشأنكم بها ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
(يسألونك ماذا أحلّ لهم) هذا شروع في بيان ما أحل الله لهم من الطعام بعد بيان ما حرمه الله عليهم، والمعنى أي شيء أحل لهم أو ما الذي أحل لهم من المطاعم إجمالاً ومن الصيد ومن طعام أهل الكتاب ومن نسائهم.
(قل أحل لكم الطيبات) وهي ما يستلذ أكله ويستطيبه أصحاب الطباع السليمة مما أحله الله لعباده أو مما لم يرد نص بتحريمه من كتاب أو سنة أو إجماع عند من يقول بحجيته ولا قياس كذلك، وقيل هي الحلال وقد سبق الكلام في هذا، وقيل الطيبات الذبائح أي ما ذبح على اسم الله عز وجل لأنها طابت بالتذكية وهو تخصيص للعام بغير مخصص، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك.
والعبرة في الاستطابة والاستلذاذ بأهل الروءة والأخلاق الجميلة من العرب فإن أهل البادية منهم يستطيبون أكل جميع الحيوانات فلا عبرة بهم لقوله تعالى (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فإن الخبيث غير مستطاب فصارت هذه الآية الكريمة نصاً فيما يحل ويحرم من الأطعمة.
(وما علّمتم من الجوارح) أي أحل لكم صيد ما علمتم، وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية علمتم بضم العين وكسر اللام أي علمتم من أمر الجوارح والصيد بها.
قال القرطبي: وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل
قال: أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم ولم يأكل من صيده الذي صاده وأثّر فيه بجرح أو تنييب وصاد به مسلم، وذكر اسم الله عند إرساله، أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف، فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف.
فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبه ذلك وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب، يقال جرح فلان واجترح إذا اكتسب، ومنه الجارحة لأنها يكتسب بها، ومنه اجتراح السيئات، ومنه قوله تعالى (ويعلم ما جرحتم بالنهار) وقوله (أم حسب الذين اجترحوا السيئات).
(مكلّبين) المكلب معلم الكلاب لكيفية الاصطياد ومؤدبها ومضريها بالصيد، وخص معلم الكلاب وإن كان معلم سائر الجوارح مثله لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب. ولم يكتف بقوله (وما علّمتم من الجوارح) مع أن التكليب هو في اللغة التعليم، لقصد التأكيد لما لا بد منه من التعليم، وفسره في الجلالين بالإرسال فليتأمل مستنده في هذا التفسير، والتفاسير فسرته بالتعليم.
وفائدة التقييد المبالغة في التعليم لما أن اسم المكلّب لا يقع إلا على التحرير في علمهم، وقيل إن السبع يسمى كلباً فيدخل فيه كل سبع يصاد به لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، قال في
(قلت) وليس لحكم الحاكم بالصحة حكم عند الحفاظ ما لم يحكم ناقد منهم بصحته فلينظر في سنده وقيل إن هذه الآية خاصة بالكلاب، وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فهو لك حلال وإلا فلا تطعمه.
قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي هل يحل صيده قال: لا إلا أن تدرك ذكاته، وقال الضحاك والسدي وما علمتم من الجوارح مكلبين هي الكلاب خاصة، فإن كان الكلب الأسود بهيماً فكرّه صيده الحسن وقتادة والنخعي، وقال أحمد: ما أعرف أحداً يرخص فيه إذا كان بهيماً، وبه قال ابن راهويه، فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم.
واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الكلب الأسود شيطان (٢)، أخرجه مسلم وغيره، والحق أنه يحل صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره، وبين الأسود وغيره، وبين الطير وغيره، ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عدي ابن أبي حاتم عن صيد البازي.
(تعلّمونهن) أي تعلمون الجوارح الاصطياد وتؤدبوهن، والجملة مستأنفة أو حالية ومنعه أبو البقاء أو اعتراضيه (مما) أي من آداب الصيد
_________
(١) المستدرك ٢/ ٥٣٩.
(٢) مسلم/٥١٠.
(فكلوا مما أمسكن عليكم) الفاء للتفريع والجملة متفرعة على ما تقدم من تحليل صيد ما علموه من الجوارح، ومن في (مما) للتبعيض لأن بعض الصيد لا يؤكل كالجلد والعظم والدم والفرث وما أكله الكلب ونحوه، وفيه دليل على أنه لا بد أن يمسكه على صاحبه فإن أكل منه فإنما أمسكه على نفسه، في الحديث كما الثابت في الصحيح.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحل أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال.
وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي وهو مروي عن سلمان الفارسي وسعد ابن أبي وقاص وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وروي عن علي وابن عباس والحسن البصري والزهري وربيعة بن مالك والشافعي في القديم أنه يؤكل صيده.
ويرد عليهم قوله تعالى (مما أمسكن عليكم) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعدي بن حاتم: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك (١)، وهو في الصحيحين وغيرهما، وفي لفظ لهما فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه.
وأما ما أخرجه أبو داود بإسناد جيد من حديث أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه (٢)، وقد أخرجه أيضاً بإسناد جيد من حديث عمرو بن
_________
(١) مسلم ١٩٢٩.
(٢) صحيح الجامع ٣١١.
وقال آخرون أنه إذا أكل الكلب منه حرم لحديث عدي بن حاتم، وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين وقيل يحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه، ثم عاد فأكل منه، وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح ولم يسلكوا طريق الجمع لما فيها من البعد، قالوا وحديث عدي بن حاتم أرجح لكونه في الصحيحين، وقد قرر الشوكاني هذا المسلك في شرحه للمنتقى بما يزيد الناظر فيه بصيرة.
(واذكروا اسم الله عليه) الضمير في عليه يعود إلى (ما علّمتم) أي سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن عليكم أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته، وقيل يعود على المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل كأنه قيل اذكروا اسم الله على الأكل وفيه بعد.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح واستدلوا بهذه الآية، ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ: إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله (٢).
وقال بعض أهل العلم أن المراد التسمية عند الأكل، قال القرطبي: وهو
_________
(١) البخاري/١٤١.
(٢) زاد المسير/٢٩٤.
وفي لفظ في الصحيحين من حديث عدي: إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل (١)، وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط، وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي، وهذا أقوى الأقوال وأرجحها (واتقوا الله) فيما أحل لكم وحرم عليكم واحذروا مخالفة أمره في هذا كله (إن الله سريع الحساب) أي حسابه سبحانه سريع إتيانه وكل آت قريب، وفيه تخويف لمن خالف أمره وفعل ما نهى عنه.
_________
(١) عن جابر قال: أمرنا رسول الله ﷺ بقتل الكلاب -حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله، ثم نهى رسول الله - ﷺ - عن قتلها وقال: " عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان " وروى أبو داود ٣/ ١٤٤، والدارمي ٢/ ٩٠ عن عبد الله بن مغفل عن النبي - ﷺ - قال: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم ".
هذا تحقيق المذهب وروى البخاري ٢١/ ٩٢ " بشرح العيني " ومسلم ٣/ ١٥٣١ عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي. قال: " إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ، فقتل، فكل، وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ". قلت: إني أرسل كلبي فأجد معه كلباً آخر، لا أدري أيهما أخذ؟ قال: " فلا تأكل فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره ".
(اليوم أحلّ لكم الطيّبات) هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله: (أحل لكم الطيبات) وقد تقدم بيان الطيبات، ويحتمل أن يراد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: (اليوم يئس، واليوم أكملت) وقيل ليس المراد باليوم يوماً معيناً.
وقال أبو السعود: المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد، وإنما كرر للتأكيد ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره، وقال القرطبي: أعاد ذكر اليوم تأكيداً، وقيل أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد، كما تقول هذه أيام فلان أي هذا أوان ظهوركم انتهى، وفيه بعد.
(وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم) بخلاف الذين تمسكوا بغير التوراة والإنجيل كصحف إبراهيم فلا تحل ذبائحهم، والحاصل أن حل الذبيحة تابع لحل المناكحة على التفصيل المقرر في الفروع، والطعام اسم لما يؤكل ومنه الذبائح وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح، ورجحه الخازن.
وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتاب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين وإن كانوا لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)
وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل، وهو قول طاوس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ويدل عليه أيضاً قوله: (وما أهلّ به لغير الله).
وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم، وسئل الشعبي وعطاء عنه فقالا يحل فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله، وأما مع عدم العلم فقد حكى الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية، ولما ورد في السنة من أكله صلى الله عليه وآله وسلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح، وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصحيح أيضاً وغير ذلك.
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود والنصارى، وقيل ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما من دخل بعده وهم متنصّرو العرب من بني تغلب فلا تحل ذبيحتهم، وبه قال علي وابن مسعود ومذهب الشافعي أن من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فإنه لا تحل ذبيحته.
وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس بها ثم قرأ (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وبه قال الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي
وأما المجوس فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم لأنهم ليسوا بأهل كتاب على المشهور عند أهل العلم، وكذا سائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له، وخالف ذلك أبو ثور وأنكر عليه الفقهاء ذلك حتى قال أحمد: أبو ثور كاسمه في هذه المسئلة.
وكأنه تمسك بما يروى عن النبي - ﷺ - مرسلاً أنه قال في المجوس " سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب " ولم يثبت بهذا اللفظ، وعلى فرض أن له أصلاً ففيه زيادة تدفع ما قاله وهي قوله " غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم " وقد رواه بهذه الزيادة جماعة ممن لا خبرة له بفن الحديث من المفسرين والفقهاء، ولم يثبت الأصل ولا الزيادة بل الذي ثبت في الصحيح أن النبي - ﷺ - أخذ الجزية من مجوس هجر.
وأما بنو تغلب فكان علي بن أبي طالب ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب، وكان يقول إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر، وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم، قال ابن كثير (١) وهو قول غير واحد من السلف والخلف.
وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أنهما كانا لا يريان بأساً بذبيحة نصارى بني تغلب، وقال القرطبي وقال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم وكذلك اليهود قال ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام يجوز أكله، وزعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً وإن ذكروا غير اسم الله
_________
(١) تفسير ابن كثير ٢/ ٢٠.
(وطعامكم حل لهم) أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب، وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمجازاة، وإخبار المسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعواض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية، وهذا يدل على أنهم مخاطبون بشريعتنا.
قال الزجاج: معناه ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم، فجعل الخطاب للمؤمنين على معنى أن التحليل يعود على إطعامنا إياهم لا إليهم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعالى أن نطعمهم من ذبائحنا، وقيل: إن الفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة من الجانبين، وإباحة الذبائح حاصلة فيهما، فذكر الله ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين.
ثم قال: (والمحصنات من المؤمنات) اختلف في تفسير المحصنات هنا فقيل العفائف قاله ابن عباس، وقيل الحرائر، قاله مجاهد، وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في البقرة والنساء، والمحصنات مبتدأ ومن المؤمنات وصف له والخبر محذوف أي حل لكم (١).
وذكرهن توطئة وتمهيداً لقوله (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من
_________
(١) في " الأم " للشافعي ٥/ ٦ " ولا يحل نكاح حرائر من دان من العرب دين اليهودية والنصرانية، لأن أصل دينهم كان الحنيفية، ثم ضلوا بعبادة الأوثان، وإنما انتقلوا إلى دين أهل الكتاب بعده، لا بأنهم كانوا الذين دانوا بالتوراة والإنجيل فضلوا عنها وأحدثوا فيها، إنما ضلوا عن الحنيفية ولم يكونوا كذلك، لا تحل ذبائحهم، وكذلك كل أعجمي كان أصل دين من مضى من آبائه عبادة الأوثان ولم يكن من أهل الكتابين المشهورين، التوراة والإنجيل، فدان دينهم، لم يحل نكاح نسائهم ".
وقال الحسن والشعبي والنخعي والضحاك يريد العفائف، قيل المراد بأهل الكتاب هنا الإسرائيليات وبه قال الشافعي وهو تخصيص بغير المخصص، وقال عبد الله بن عمر لا تحل النصرانية قال: ولا أعلم شركاً أكبر من أن تقول ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: (ولا تنكحوا الشركات حتى يؤمنَّ) الآية.
ويجاب عنه بأن هذه الآية للكتابيات من عموم الشركات فيبنى العام على الخاص.
وقد استدل من حرّم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية لأنه حملها على الحرائر، وبقوله تعالى: (فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم، وخالفهم من قال إن الآية تعم أو تخص العفائف كما تقدم.
والحاصل أنه يدخل تحت هذه الآية الحرة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال إلا على قول ابن عمر في النصرانية، ويدخل تحتها الحرة التي ليست بعفيفة، والأمة العفيفة على قول من يقول إنه يجوز استعمال المشترك في كلا معنييه.
وأما من لم يجوز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر لم يقل بجواز نكاح الأمة عفيفة كانت أو غير عفيفة إلا بدليل آخر، ويقول بجواز نكاح
(إذا آتيتموهن أجورهن) أي مهورهن وهو العوض الذي يبذله الزوج للمرأة، وجواب إذا محذوف أي فهن حلال أو هي ظرف لخبر المحصنات المقدر أي حل لكم، وهذا الشرط بيان للأكمل والأولى لا لصحة العقد إذ لا تتوقف على دفع المهر ولا على التزامه كما لا يخفى.
(محصنين) أي حال كونكم اعفّاء بالنكاح وكذا قوله (غير مسافحين) أي غير مجاهرين بالزنا (ولا متخذي أخدان) الخدان يقع على الذكر والأنثى وهو الصديق في السر، والجمع أخدان أي لم يتخذوا معشوقات، فقد شرط الله في الرجال العفة وعدم المجاهرة بالزنا وعدم اتخاذ أخدان كما شرط في النساء أن يكن محصنات.
(ومن يكفر بالإيمان) أي بشرائع الإسلام والباء بمعنى عن أي يرتد، والمراد بالكفر هنا الارتداد (فقد حبط عمله) أي بطل فلا يعتد به ولو عاد إلى الإسلام ولا يثاب عليه (وهو في الآخرة من الخاسرين) إذا مات عليه، يعني أن تزوُّج المسلمين إياهن ليس بالذي يخرجهن من الكفر.
(يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) أي إذا أردتم القيام تعبيراً بالسبّب عن السبب كما في قوله (وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) لأن القيام متسبب عن الإرادة والإرادة سببه، والمراد بالقيام الاشتغال بها والتلبس بها من قيام أو غيره.
وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة فقالت طائفة هو عام في كل قيام إليها سواء كان القائم متطهراً أو محدثاً فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وهو مروي عن علي وعكرمة، وهذا القول يقتضي وجوب الوضوء عند كل صلاة وهو ظاهر الآية، وإليه ذهب داود الظاهري، قال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤن لكل صلاة.
وقال طائفة أخرى: إن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ضعيف، فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم، وقالت طائفة: الأمر للندب طلباً للفضل، وقال آخرون إن الوضوء لكل صلاة كان فرضاً عليهم بهذه الآية ثم نسخ في فتح مكة.
وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ عند كل صلاة قال: قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث.
فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وبه قال جمهور أهل العلم وهو الحق، وقد جمع النبي ﷺ يوم الخندق أربع صلوات بوضوء واحد، وفي الباب أحاديث، والتقدير إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر، وهذا أحد اختصارات القرآن وهو كثير جداً.
وفروض الوضوء في هذه الآية أربعة: الأول قوله: (فاغسلوا وجوهكم) الوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض، فحدُّه في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللَّحيَين، وفي العرض من الأذن إلى الأذن، وقد ورد الدليل بتخليل اللحية، واختلف العلماء في غسل ما استرسل، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه.
_________
(١) مسلم/٢٧٧.
قال في شمس العلوم: غسل الشيء غسلاً إذا أجرى عليه الماء ودلكه انتهى.
وأما المضمضة والإستنشاق فإذا لم يكن لفظ الوجه يشمل باطن الفم والأنف فقد ثبت غسلهما بالسنة الصحيحة، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في مؤلفاته.
وقد استدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية وبقوله: إنما الأعمال بالنيات (١) لأن الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منويّاً، ويدل له قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) والإخلاص عبارة عن النية الصالحة.
واستدل أبو حنيفة بها لعدم وجوب النية فيه لأن الله أوجب غسل الأربعة في هذه الآية ولم يجب النية فيها فإيجابها زيادة على النص وهي نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس.
والجواب أن إيجابها بدلالة القرآن كما تقدم، والجواب عن الزيادة والنسخ قد ذكرناه في حصول المأمول فليرجع إليه.
والفرض الثاني قوله: (وأيديكم إلى المرافق) إلى للغاية وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف، وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما
_________
(١) البخاري ١١ مسلم/١٩٠٧.
وقيل إن ما بعدها لا يدخل فيما قبلها، قال سليمان الجمل وهو الأصح عند النحاة انتهى، وهذه الأقوال دلائلها في كتاب شرح التسهيل.
وقد ذهب الجمهور إلى أن المرافق تغسل واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - ﷺ - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه (١)، وفيه القاسم وهو متروك وجده عبد الله بن محمد وهو ضعيف، والمرفق بالكسر هو من الإنسان أعلى الذراع وأسفل العضد.
والفرض الثالث (وامسحوا برؤوسكم) قيل الباء زائدة والمعنى امسحوا رؤوسكم وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس، وقيل هي للتبعيض وذلك يقتضي أنه يجزئ مسح بعضه، واستدل القائلون بالتعميم بقوله تعالى في التيمم: (فامسحوا بوجوهكم) ولا يجزئ فيه مسح بعض الوجه اتفاقاً، وقيل إنها للإلصاق أي ألصقوا أيديكم برؤوسكم وهو مذهب سيبويه وبه قال الزمخشري لكن في شرح المهذب عن جماعة من أهل العربية أن الباء إذا دخلت على متعدد كما في الآية تكون للتبعيض، أو على غير متعدد كما في (وليطّوفوا بالبيت) تكون للإلصاق.
وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس كما أوضحناه في مؤلفاتنا، فكان هذا دليل على المطلوب، غير محتمل كاحتمال الآية على فرض أنها محتملة.
_________
(١) الدارقطني ١/ ٨٣.
ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها: إنه لا يكون ضارباً إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن والرجم وسائر الأفعال فاعرف هذا حتى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس.
فإن قلت يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين قلت ملتزم لولا البيان من السنة في الوجه والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين بخلاف الرأس فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض.
والفرض الرابع قوله (وأرجلكم) قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص بنصب الأرجل وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر، وقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين لأنها معطوفة على الوجه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم والأئمة الأربعة وأصحابهم، وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الرجلين لأنها معطوفة على الرأس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري وبه تعلق وهو مروي عن ابن عباس.
قال ابن العربي: واتفقت الأمة على وجوب غسلهما وما علمت من رد ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وقيل إنه منصوب في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة، وإنما خفض على الجوار، وهذا وإن كان
وأيضاً فإن الخفض على الجوار إنما ورد في النعت لا في العطف، وقد ورد في التوكيد قليلاً في ضرورة الشعر، وقيل إنها إنما جرت للتنبيه على عدم الإسراف في استعمال الماء فيها لأنها مظنة لصب الماء كبيراً فعطفت على الممسوح والمراد غسلها، وإليه ذهب الزمخشري.
وقيل إنها مجرورة بحرف جر، دل عليه المعنى ويتعلق هذا الحرف بفعل محذوف تقديره وافعلوا بأرجلكم غسلاً، قال أبو البقاء وحذف حرف الجر وإبقاء الجر جائز، وقيل إنه معطوف على رؤوسكم لفظاً ومعنى ثم نسخ ذلك وجوب الغسل وهو حكم باق، وبه قال جماعة أو يحمل مسح الأرجل على بعض الأحوال وهو لبس الخف، ويعزى للشافعي.
قال القرطبي: قد روي عن ابن عباس أنه. قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، قال: وكان عكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح، وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح، قال: وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين، قال: وذهب ابن جرير الطبري والحسن البصري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين كالروايتين، وقواه النحاس، وقال داود الظاهري يجب الجمع بينهما.
أقول الحق أن الدليل القرآني قد دل على جواز الغسل والمسح لثبوت قراءة النصب والجر ثبوتاً لا ينكر، وقد تعسف القائلون بالغسل فحملوا الجر على الجوار وأنه ليس للعطف على مدخول الباء في مسح الرأس بل هو معطوف على الوجوه، فلما جاور المجرور إنجر، وتعسف القائلون بالمسح فحملوا قراءة النصب على العطف على محل الجار والمجرور في قوله: (برؤوسكم) كما أن قراءة الجر عطف على لفظ المجرور.
وإذا تقرر لك هذا كان الدليل القرآني قاضياً بمشروعية كل واحد منهما على انفراده لا على مشروعية الجمع بينهما. وإن قال به قائل فهو من الضعف بمكان لأن الجمع بين الأمرين لم يثبت في شيء من الشريعة.
انظر الأعضاء المتقدمة على هذا العضو من أعضاء الوضوء فإن الله سبحانه شرع في الوجه الغسل فقط، وكذلك في اليدين، وشرع في الرأس المسح فقط، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد بين للأمة أن المفروض عليهم هو غسل الرجلين لا مسحهما فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه - ﷺ - وكلها مصرحة بالغسل ولم يأت في شيء منها المسح إلا في مسح الخفين.
فإن كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار احتمالها للغسل والمسح فالواجب الغسل بما وقع منه - ﷺ - من البيان المستمر جميع عمره.
وإن كان ذلك لا يوجب الإجماع فقد ورد في السنة الأمر بالغسل وروداً ظاهراً وثبت بالأحاديث الصحيحة من فعله - ﷺ - وقوله غسل الرجلين فقط وثبت عنه أنه قال: " ويل للأعقاب من النار وويل للعراقيب من النار " (١) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وأحمد وابن ماجة من حديث عائشة، وابن ماجة أيضاً من حديث جابر، والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث ابن عمر، وأحمد والبخاري ومسلم أيضاً من حديث أبي هريرة.
_________
(١) مسلم ٢٤٢ والبخاري ١٣٢.
وقد ثبت عنه أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " (١) أخرجه الطبراني من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده، والدارقطني من حديث ابن عمر وأبي هريرة وزيد بن ثابت وابن ماجة من حديث ابن عمرو وأُبَيّ بن كعب، وابن السكن من حديث أنس، وابن أبي حاتم من حديث عائشة، وفي جميع الطرق المذكورة مقال، لكنها يقوي بعضها بعضاً.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رجلاً توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر فأبصره النبي - ﷺ - فقال له: ارجع فأحسن وضوءك فخرج وتوضأ ثم صلى (٢).
ومن ذلك أيضاً أحاديث الأعرابي الذي أمره النبي - ﷺ - بإعادة الوضوء لما رأى عقبه جافاً يلوح، ومنها الأمر بتخليل الأصابع فإنه يستلزم الأمر بالغسل لأن المسح لا تخليل فيه.
وبهذا يتقرر أن الحق ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الغسل وعدم إجزاء المسح، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال اجتمع أصحاب رسول الله - ﷺ - على غسل القدمين وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة وهو بدل عن الغسل لا عن المسح.
_________
(١) الدارقطني ١/ ٨٠.
(٢) مسلم ٣٤٣.
وقال الكواشي: ثنّى الكعبين، وجمع المرافق لنفي توهم أن كل واحدة من الرجلين كعبين، وإنما في كل واحدة كعب واحد له طرفان من جانبي الرجل، بخلاف المرفق فهي أبعد عن الوهم انتهى.
وفي هذه الآية دليل قاطع على وجوب غسل الكعبين، والمعنى أغسلوا أرجلكم مع الكعبين والكعبان هما العظمان الناتئان في كل رجل عند مفصل الساق والقدم، وإليه ذهب جمهور العلماء من أهل اللغة والفقه، وهذان العظمان من الساق.
وبقي من فرائض الوضوء النية والتسمية ولم يذكرا في هذه الآية بل وردت بهما السنة، وقيل إن في هذه الآية ما يدل على النية لأنه لما قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم كان تقدير الكلام فاغسلوا وجوهكم لها، وذلك هو النية المعتبرة، وقد أشرنا إليه فيما تقدم.
والفصل بين الأيدي والأرجل المغسولة بالرأس الممسوح يفيد، وجوب الترتيب في طهارة هذه الأعضاء وعليه الشافعي، ويؤخذ من السنة وجوب النية فيه كغيره من العبادات، وقد ورد في صفة الوضوء وفضله من الأحاديث الصحيحة الكثير الطيب لا نطول بذكرها هنا.
(وإن كنتم جنباً فاطهروا) أي فاغسلوا بالماء، وقد ذهب عمر بن
وقد صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء. وقد تقدم تفسير الجنب في النساء، والمراد بالجنابة هي الحاصلة بدخول حشفة أو نزول مني، وهذا هو حقيقتها الشرعية، وانظر لِمَ لَمْ يجعلوها شاملة للحيض والنفاس مع أنه أفيد.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء يخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاثة غرفات بيديه ثم يفيض على سائر جسده، أخرجه الشيخان (١).
(وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه).
_________
(١) روى مسلم ١/ ٢٠٩، وأبو داود ١/ ٨٠، والنسائي ١/ ٩٢، والترمذي ١/ ٧٨، وابن ماجه ١/ ١٥٩ عن عقب: بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله - ﷺ - قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله: " ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة " فقلت: ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر، قال: إن قد رأيتك جئت آنفاً، قال: " ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله وروسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " وزاد الترمذي بعد قوله " ورسوله " " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " وسندها حسن. وروى مالك ١/ ٣٢، ومسلم ١/ ٢١٥، والترمذي ١/ ٦ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء.
(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) أي ما يريد بأمركم بالطهارة بالماء أو بالتراب التضييق عليكم في الدين ومنه قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) والجعل هنا بمعنى الإيجاد والخلق، ومن مزيدة فيه أو بمعنى التصيير.
ثم قال: (ولكن يريد ليطهركم) من الذنوب والخطايا لأن الوضوء تكفير لها وقيل من الحدث الأصغر والأكبر (وليتم نعمته عليكم) أي بالترخيص لكم والتيمم عند عدم الماء أو بما شرعه لكم من الشرائع التي عرضكم بها للثواب وما تحتاجون إليه من أمر دينكم، قال سعيد بن جبير: تمام النعمة دخول الجنة، لم يتم نعمته على عبد لم يدخل الجنة (لعلكم تشكرون) نعمته عليكم فتستحقون بالشكر ثواب الشاكرين.
وقد اشتملت هذه الآية على سبعة أمور كلها مثنى، طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وإن آلتيهما مائع جامد، وموجبهما حدث أصغر أو أكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليها تطهير الذنوب وإتمام النعمة قاله البيضاوي وذكره أبو السعود.
قال الخفاجي: الأصل الماء والبدل التراب والمستوعب الغسل وغيره الوضوء والمحدود بقوله: (إلى المرافق وإلى الكعبين) وغيره ما سواه وهذا ظاهر.
وذهب جمهور المفسرين من السلف فمن بعدهم إلى أنه العهد الذي أخذه النبي - ﷺ - ليلة العقب: عليهم وهو السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأضافه تعالى إلى نفسه لأنه عن أمره وإذنه كمال قال: إنما يبايعون الله.
(إذ قلتم) للنبي - ﷺ - حين بايعتموه (سمعنا وأطعنا) أي وقت قولكم هذا القول (واتقوا الله) فيما أخذه عليكم من الميثاق فلا تنقضوه (إن الله عليم بذات الصدور) وهي ما تخفيه الصدور لكونها مختصة بها لا يعلمها أحد ولهذا أطلق عليها ذات التي بمعنى الصاحب، وإذا كان سبحانه عالماً بها فكيف بما كان ظاهراً جلياً.
(ولا يجرمّنكم شنآن قوم) أي لا يحملنكم بغض قوم أو يكسبنكم وهما متقاربان، وقيل الخطاب مختص بقريش لأنها نزلت فيهم وعليها يجري القاضي كالكشاف وغيرهما على أن الخطاب عام وهو الحق لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال عبد الله بن كثير نزلت في يهود خيبر ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستعينهم في دية فهمّوا أن يقتلوه فذلك قوله: (ولا يجرمنكم شنآن قوم) الآية (١).
(على أن لا تعدلوا) أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم وكتم الشهادة، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى (اعدلوا) أمر بالعدل في كل أحد القريب والبعيد والصديق والعدو، وتصريح بوجوبه بعدما علم من النهي عن تركه التزاماً (هو) أي العدل المدلول عليه بقوله اعدلوا (أقرب للتقوى) التي أمرتم بها غير مرة أي أقرب لأن تتقوا الله أو لأن تتقوا النار (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
_________
(١) أخرجه ابن جرير ١٠/ ٩٦ عن عبد الله بن كثير.
(فكفّ أيديهم عنكم) أي صرفهم عنكم وحال بينكم وبين ما أرادوه
وأخرج الحاكم وصححه عنه بنحوه، وذكر أن اسم الرجل غورث بن الحرث، وأنه لما قال النبي - ﷺ - " الله " سقط السيف من يده فأخذه النبي - ﷺ - وقال من يمنعك مني، قال: كن خير آخذ، قال: فشهد أن لا إله إلا الله.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أن بني النضير همّوا أن يطرحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، فجاء جبريل فأخبره بما هموا فقام ومن معه فنزلت إذ همّ قوم، وقصة الأعرابي وهو غورث ثابتة في الصحيح.
(واتقوا الله) فيما أمركم به ونهاكم عنه (وعلى الله) لا على غيره (فليتوكل المؤمنون) فإنه هو الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها.
_________
(١) رواه أبو نعيم في " دلائل النبوة ": ١٥٢ عن طريق ابن إسحاق قال: حدثني عمرو بن عبيد عن جابر أن رجلاً... وقد سقط من إسناده الحسن، فقد رواه ابن هشام في " السيرة " ٢/ ٢٠٥ عن ابن إسحاق وحدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله، ورواه عبد الرزاق في " تفسيره " ص: ٦ من طريق معمر عن الزهري ذكره عن أبي سلمة عن جابر. وقصة هذا الأعرابي -هو غورث بن الحارث- ثابتة في " الصحيحين " بدون ذكر السبب، البخاري ٧/ ٣٣٠، ومسلم ١/ ٥٧٦.
(ولقد أخذ الله ميثاق بني اسرائيل) كلام مستأنف يتضمن ذكر بعض ما صدر من بني إسرائيل من الخيانة، وقد تقدم بيان الميثاق الذي أخذه الله عليهم وأن الميثاق هو العهد باليمين، وإسناد الأخذ إلى الله من حيث أنه أمر به موسى، وإلا فالآخذ هو موسى بأمر الله له بذلك.
(وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً) اختلف المفسرون في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع منهم على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقّب عنها وعن مصالحهم فيها، والنقاب الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة، ويقال نقيب القوم لشاهدهم وضمينهم، والنقيب الطريق في الجبل، هذا أصله وسمي به نقيب القوم لأنه طريق إلى معرفة أمورهم والنقيب أعلى مكاناً من العريف، وقيل مشتق من التنقيب وهو التفتيش، ومنه (فنقّبوا في البلاد).
فقيل المراد ببعث هؤلاء النقباء أنهم بعثوا على الإطلاع على الجبارين والنظر في قوتهم ومنعتهم، فساروا ليختبروا حال من بها ويخبروا بذلك، فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بها فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني اسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه السلام، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فأخبروا قراباتهم ففشا الخبر حتى بطل أمر الغزو، وقالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا.
وقيل لما توجه النقباء لتجسس أحوال الجبارين لقيهم عوج بن عنق وكان كذا وكذا، وهذه القصة ذكرها كثير من المفسرين، والمحققون من أهل الحديث على أنها لا أصل لها ولا عوج ولا عنق، وقال ابن عباس: النقيب الضمين، وقال قتادة: هو الشهيد على قومه، وقيل هو الأمين الكفيل، وقيل هو الباحث عن القوم وعن أحوالهم والمعاني متقاربة.
(وقال الله إني معكم) أي قال ذلك لبني إسرائيل وقيل للنقباء وهو الأولى والمعنى إني معكم بالنصر والعون (لئن) اللام هي الموطئة للقسم أي والله لئن (أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي) تأخير الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع كونهما من الفروع المترتّبة عليه لما أنهم كانوا معترفين بوجوبهما مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام.
(وعزّرتموهم) التعزير التعظيم والتوقير، ويطلق التعزير على الضرب دون الحد والرد، يقال عزرت فلاناً إذا أدبته ورددته عن القبيح، والمعنى عظمتموهم على الأول، أو: رددتم عنهم أعداءهم ومنعتموهم على الثاني، وقال ابن عباس: أي أعنتموهم، وقال مجاهد: نصرتموهم.
(وأقرضتم الله قرضاً حسناً) أي أنفقتم في وجوه الخير، والحسن قيل هو ما طابت به النفس، وقيل ما ابتغي به وجه الله، وقيل الحلال وقيل المراد بالزكاة الواجبة، وبالقرض الصدقة المندوبة وخصّها بالذكر تنبيهاً على شرفها (لأكفرنّ عنكم سيآتكم) إشارة إلى إزالة العذاب (ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار) إشارة إلى إيصال الثواب (فمن كفر بعد ذلك) الميثاق (منكم) أو بعد الشرط المذكور (فقد ضلّ سواء السبيل) فقد أخطأ وسط الطريق المستقيم.
(فبما نقضهم ميثاقهم) الباء للسببية وما زائدة أي بسبب نقضهم، قال ابن عباس: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوبة فنقضوه (لعنّاهم) أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية، وحقيقة اللعن في اللغة الطرد والإبعاد فاستعماله بالمعنيين الآخرين كما فعل البيضاوي وأبو السعود مجاز باستعماله في لازم معناه وهو الحقارة بما ذكر، لكنه لا قرينة في الكلام عليه.
(وجعلنا قلوبهم قاسية) أي صلبة لا تعي خيراً ولا تعقله وغليظة يابسة لا تلين ولا رحمة فيها لأن القسوة خلاف الرقة، وقيل: المعنى أن قلوبهم ليست خالصة الإيمان بل مشوبة بالكفر والنفاق.
(يحرّفون الكلم) الذي في التوراة من نعت محمد ﷺ وغيره (عن مواضعه) جملة مستأنفة لبيان حالهم أو حالية أي يبدلونه بغيره أو يتأولونه على غير تأويله، وقيل يزيلونه ويميلونه، قال ابن عباس: يعني حدود الله.
قال عبد الرحمن بن خلدون في كتاب العبر: وأما ما يقال من أن علماءهم بدلوا مواضع من التوراة بحسب أغراضهم في ديانتهم، فقد قال ابن عباس على ما نقل عنه البخاري في صحيحه أن ذلك بعيد، وقال: معاذ الله أن تعمد أمة من الأمم إلى كتابها المنزّل على نبيها فتبدله، أو ما في معناه.
قال: وإنما بدلوه وحرفوه بالتأويل، ويشهد لذلك قوله تعالى (وعندهم
والحاصل أنهم يقولون إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه وإن خالفكم فاحذروه.
(ونسوا حظاً مما ذكروا به) أي الكتاب وما أمروا به من الإيمان بمحمد - ﷺ - وبيان نعته وصفته.
(ولا تزال تطلع على خائنة منهم) الخطاب للنبي - ﷺ - والخائنة الخيانة، وقيل التقدير فرقة خائنة، وقد يقع للمبالغة نحو علامة ونسابة إذا أردت المبالغة في وصفه بالخيانة، وقيل خائنة معصية، قاله ابن عباس، قال مجاهد: هم يهود مثل الذي هموا به من النبي - ﷺ - يوم دخل عليهم حائطهم، وقال قتادة: خائنة كذب وفجور.
(إلا قليلاً منهم) يعني أنهم لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم عبد الله بن سلام وأصحابه ولم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله أن يعفو عنهم ويصفح فقال: (فاعف عنهم واصفح) ثم نسخ ذلك في براءة فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) الآية، وقيل هو خاص بالعاهدين وأنها غير منسوخة (إن الله يحب المحسنين) أي إذا عفوت عنهم فإنك تحسن وهو يحب أهل الإحسان.
(ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم) أي في التوحيد والإيمان والإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به، قال الكوفيون: الضمير في ميثاقهم راجع إلى بنى اسرائيل أي أخذنا من النصارى مثل ميثاق المذكورين قبلهم من بني إسرائيل، وقال: (من الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل من النصارى للإيذان بأنهم كاذبون في دعوى النصرانية وأنهم أنصار الله، ولأنهم الذين ابتدعوا هذا الاسم وسمّوا به أنفسهم لا أن الله سماهم به.
(فنسوا) من الميثاق المأخوذ عليهم (حظّاً) أي نصيباً وافراً عقب أخذه عليهم (مما ذكّروا به) من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (فأغرينا) أي ألصقنا ذلك بهم، مأخوذ من الغري وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه، يقال غرى بالشيء يغري غرياً وغراء أي أولع به حتى كأنه صار ملتصقاً به ومثل الإغراء التحريش، وأغريت الكلب أي أولعته بالصيد.
والمراد بقوله: (بينهم) اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم جميعاً، وقيل بين النصارى خاصة لأنهم أقرب مذكور، وذلك لأنهم افترقوا إلى اليعقوبية والنسطورية والملكانية، وكقول بعضهم بعضاً، وتظاهروا بالعداوة في ذات بينهم، قال النخعي: أغرى بعضهم بعض الخصومات والجدال في الدين.
قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى أغرينا بينهم (العداوة والبغضاء): أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها (إلى يوم القيامة) بالأهواء المختلفة (وسوف ينبّئهم الله بما كانوا يصنعون) أي سيلقون جزاء نقض الميثاق. وفيه تهديد لهم ووعيد.
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا) الألف واللام في الكتاب للجنس، والخطاب لليهود والنصارى (يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون) كآية الرجم (١) وقصة أصحاب السبت الممسوخين قردة (من الكتاب) أي التوراة والإنجيل.
(ويعفو عن كثير) مما تخفونه فيترك بيانه لعدم اشتماله على ما يجب بيانه عليه من الأحكام الشرعية، فإن ما لم يكن كذلك لا فائدة تتعلق ببيانه إلا مجرد اقتضاء حكم، وقيل المعنى يعفو عن كثير فيتجاوزه ولا يخبركم به، وقيل يعفو عن كثير منكم فلا يؤاخذكم بما يصدر منكم، قال قتادة يعفو عن كثير من الذنوب.
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) جملة مستأنفة مشتملة على بيان أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد تضمنت بعثته فوائد غير ما تقدم من مجرد البيان، قال الزجاج النور محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل الإسلام، والكتاب المبين القرآن فإنه المبين.
_________
(١) ابن جرير ١٠/ ١٤١ والحاكم في المستدرك ٤/ ٣٥٩ وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
والضمير في
(ويخرجهم من الظلمات) أي الكفر (إلى النور) أي إلى الإسلام (ويهديهم إلى صراط مستقيم) أي إلى طريق يتوصلون بها إلى الحق لا عوج فيها ولا مخافة، وهذه الهداية غير الهداية إلى سبل السلام وإنما عطفت عليها تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي.
(إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه) وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك فلا إله إلا الله ولا ربّ غيره ولا معبود بحق سواه، ولو كان المسيح إلهاً كما يزعم النصارى لكان له من الأمر شيء ولقدر أن يدفع عن نفسه أقل حال، ولم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها.
وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم (ومن في الأرض جميعاً) لكون الدفع منه عنها أولى وأحق من غيرها فهو إذا لم يقدر على الدفع عنها أعجز عن أن يدفع عن غيرها، وذكر من في الأرض للدلالة على شمول قدرته وأنه إذا أراد شيئاً كان لا معارض له في أمره، ولا مشارك له في قضائه.
(ولله ملك السموات والأرض وما بينهما) أي ما بين النوعين من المخلوقات فإنها ملكه وأهلها عبيده، وعيسى وأمه من جملة عبيده.
(يخلق ما يشاء) جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق بحسب مشيئته من غير اعتراض عليه فيما خلق، لأنه خلق آدم من غير أب وأم وخلق عيسى من أم بلا أب: وخلق سائر الخلق من أب وأم (والله على كل شيء قدير) لا يستصعب عليه شيء.
(وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزير حيث قالوا عزير ابن الله، وأثبتت النصارى لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا المسيح ابن الله، وقيل هو على حذف مضاف أي نحن أتباع أبناء الله، وقيل أبناء أنبياء الله، ونظيره (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) قاله الكرخي.
وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعاوى الباطلة والأماني العاطلة، فأمر الله سبحانه رسوله ﷺ أن يرد عليهم فقال: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) أي إن كنتم كما تزعمون فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل والمسخ، وبالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك بقولكم: (لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة) فإن الابن من جنس أبيه لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب، وأنتم تذنبون والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم تعذبون، فهذا يدل على أنكم كاذبون في هذه الدعوى، وهذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف.
وأخرج أحمد في مسنده عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، فسعت فأخذته فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا، والله لا يلقي حبيبه في النار، وإسناده في المسند هكذا: حدثنا ابن
ومعنى الآية يشير إلى معنى هذا الحديث، ولهذا قال بعض مشايخ الصوفية لبعض الفقهاء أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه، فلم يرد عليه فتلا الصوفي هذه الآية.
وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن النبي - ﷺ - قال: لا والله لا يعذب الله حبيبه ولكن الله قد يبتليه في الدنيا.
(بل أنتم بشر ممن خلق) عطف على مقدر يدل عليه الكلام أي فلستم حينئذ كذلك بل أنتم بشر من جنس من خلقه الله تعالى يحاسبهم على الخير والشر، ويجازي كل عامل بعمله.
(يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) قال السدي: أي يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه لا اعتراض عليه لأنه القادر الفعال بالإختيار.
(ولله ملك السموات والأرض وما بينهما) من الموجودات لا شريك له في ذلك فيعارضه، وفيه دليل على أنه تعالى لا ولد له، لأن من يملك السموات والأرض يستحيل أن يكون له شبيه من خلقه أو شريك في ملكه (وإليه المصير) أي تصيرون إليه وحده: عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة.
_________
(١) روى ابن ماجة نظيره في الزهد/٣٥. ورد ورواه الإمام أحمد بن حنبل في المسند ٣/ ١٠٤.
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبينّ لكم على فترة من الرسل) المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، والرسول محمد - ﷺ -، والمبيَّن هو ما شرعه الله لعباده، وحذف للعلم به لأن بعثة الرسل إنما هي بذلك، والفترة أصلها السكون، يقال فتر الشيء سكن، وقيل هي الانقطاع قاله أبو عليّ الفارسي وغيره، ومنه فتر الماء إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة، وفتر الرجل عن عمله إذا انقطع عما كان عليه من الجد فيه، وامرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر، والمعنى أنه انقطع الرسل قبل بعثته - ﷺ - مدة من الزمان (١).
واختلف في قدر مدة تلك الفترة، قال سلمان: فترة ما بين عيسى ومحمد - ﷺ - ستمائة سنة، أخرجه البخاري، قال قتادة: كانت الفترة بين عيسى ومحمد ستمائة سنة وما شاء الله من ذلك، وعنه قال: خمسمائة سنة وستون سنة، وعن الكلبي خمسمائة سنة وأربعون سنة، وقال ابن جريج كانت خمسمائة سنة، وقال الضحاك: وكانت أربعمائة سنة ونصفا وثلاثين سنة.
وعن ابن عباس قال: كان بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة،
_________
(١) أن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقب: بن وهب، قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته. فقال وهب بن يهوذا، ورافع: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله بعد موسى من كتاب، ولا أرسل رسولاً بشيراً ولا نذيراً [بعده]، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
في " الطبري "، و " السيرة "، و " الدر المنثور ": " يهودا " بالدال.
ابن هشام ١/ ٥٥٦٣ وابن جرير ١٠/ ١٥٥ وفي سنده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت وهو مجهول وزاد السيوطي نسبته في " الدر " ٢/ ٢٢٩ لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في " الدلائل ".
قال الرازي: والفائدة في بعثة محمد - ﷺ - عند فترة الرسل هي أن التحريف والتغيير قد كان تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول أزمانها، وسبب ذلك اختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق، فصار ذلك عذراً ظاهراً في إعراض الخلق عن العبادات لأن لهم أن يقولوا يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكننا ما عرفنا كيف نعبدك فبعث الله في هذا الوقت محمداً - ﷺ - لإزالة هذا العذر، فذلك: قوله تعالى:
(أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حين فترة أي كراهة أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم، ومن زائدة للمبالغة في نفي المجيء، والفاء في قوله: (فقد جاءكم) هي الفصيحة (بشير ونذير) وهو محمد - ﷺ - لإزالة هذا العذر (والله على كل شيء قدير) ومن جملة مقدوراته إرسال رسوله على فترة من الرسل.
(وإذ قال موسى لقومه) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق، وإذ نصب على أنه مفعول لفعل مقدر خوطب به النبي - ﷺ - بطريق تلوين الخطاب، وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات، أي واذكر لهم وقت قول موسى لقومه ناصحاً لهم ومستميلاً لهم بإضافتهم إليه.
(يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم) وقرأ ابن كثير يا قوم بضم الميم، وكذا قرأ فيما أشبهه، تقديره يا أيها القوم اذكروا نعمة الله عليكم وقت هذا الجعل، وإيقاع الذكر على الوقت مع كون المقصود ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة لأن الأمر بذكر الوقت أمر بذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني، ولأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلاً فإذا استحضر كان ما وقع فيه حاضراً بتفاصيله كأنه مشاهد عياناً.
(إذ جعل فيكم أنبياء) أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم في وقت جعله أو اذكروا نعمته كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء ذوي عدد كثير، وأولي شأن خطير، حيث لم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء.
(وجعلكم ملوكاً) أي فيكم ومنكم، وإنما حذف الظرف لظهور أن معنى الكلام على تقديره، وممكن أن يقال: إن منصب النبوة لما كان لعظم قدره وجلالة رتبته بحيث لا ينسب إلى غيره من هُولَهُ قال فيه: (إذ جعل فيكم أنبياء) ولما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قام به كما يقول قرابة
وقيل معناه أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن وقيل غير ذلك، قال قتادة: ملكهم الخدم، وكانوا أول من ملك الخدم، ولم يكن لمن قبلهم خدم، وقال ابن عباس: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمى ملكاً، وعنه قال: الزوجة والخادم والبيت، وعنه قال: المرأة والخادم (١).
وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية ومن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - ﷺ - قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً، وأخرج ابن جرير والزبير بن بكار عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله - ﷺ - من كان بيت له وخادم فهو ملك (٢).
وأخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في الآية قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم زوجة ومسكن وخادم، وعن ابن عمرو بن العاص أنه سأله رجل: ألسنا من فقراء الهاجرين؟ قال: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال:
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٣٦.
(٢) روى مسلم في " صحيحه " ١٨/ ١١٠ بشرح النووي، وابن جرير ١٠/ ١٦١ عن أبي عبد الرحمن الحُبُليِّ قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين، فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي اليها؟ فقال: نعم. قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك.
وقد ثبت في الحديث الصحيح " من أصبح منكم معافى في جسده آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " (٢) والظاهر أن المراد بالآية الملك الحقيقي، ولو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى.
فإن قلت: قد جعل غيرهم ملوكاً كما جعلهم، قلت قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء، فهذا وجه الامتنان.
(وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين) أي من المن والسلوى والحجر والغمام وكثرة الأنبياء وكثرة الملوك وفلق البحر وإهلاك عدوكم وغير ذلك، والمراد عالمي زمانهم أو الأمم الخالية إلى زمانهم.
وقيل: إن الخطاب ههنا لأمة محمد - ﷺ - وهو عدول عن الظاهر لغير موجب والصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أنه من كلام موسى لقومه، وخاطبهم بهذا الخطاب توطئة وتمهيداً لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدسة.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٣٦.
(٢) صحيح الجامع ٥٩١٨.
وقد اختلف في تعيينها فقال قتادة؛ هي الشام كلها، وقال مجاهد: الطور وما حوله، وقال معاذ بن جبل: هي ما بين العريش إلى الفرات، وقال السدي وابن عباس وغيرهما: هي أريحاء، وقال الزجاج: دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقول قتادة: يجمع هذه الأقوال المذكورة بعده.
(التي كتب الله) أي قسمها وقدرها (لكم) في سابق علمه وجعلها مسكناً لكم، وقال السدي: التي أمركم الله بها، وقال قتادة: أمر القوم بها كما أمروا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة، وقال الكرخي: أمركم بدخولها أو كتب في اللوح المحفوظ أنها لكم إن آمنتم وأطعتم، فلا ينافيه قوله: (فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة) لأن الوعد مشروط بقيد الطاعة، فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط.
(ولا ترتدّوا على أدباركم) أي لا ترجعوا عن أمري وتتركوا طاعتي وما أوجبته عليكم من قتال الجبارين جبناً وفشلاً (فتنقلبوا) بسبب ذلك (خاسرين) لخيري الدنيا والآخرة.
قال الفراء: لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين جبار من أجبر، ودرّاك من أدرك، والمراد هنا أنهم قوم عظام طوال متعاظمون قيل هم قوم من بقية قوم عاد، وقيل هم من ولد عيص بن اسحق، وقيل هم من الروم، ويقال إن منهم عوج بن عنق المشهور بالطول المفرط، وعنق بنت آدم، قيل كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع.
قال ابن كثير: وهذا شيء يستحي من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - ﷺ - قال: إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ثم لم يزل الخلق ينقص (١).
ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً، وأنه كان ولد زنية وأنه امتنع من ركوب السفينة وأن الطوفان لم يصل إلى ركبتيه، وهذا كذب وافتراء فإن الله ذكر أن نوحاً دعا أهل الأرض من الكافرين فقال (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) وقال تعالى (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين) وقال تعالى (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر ولد زنية، هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع، ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر والله أعلم اهـ كلامه.
قلت: لم يأت في أمر هذا الرجل ما يقتضى تطويل الكلام في شأنه وما هذه بأول كذبة اشتهرت في الناس، ولسنا بملزومين بدفع الأكاذيب التي
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٣٨.
(وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها (فإن يخرجوا منها) بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها (فإنا داخلون) حينئذ، هذا تصريح بما هو مفهوم من الجملة التي قبل هذه الجملة لبيان أن امتناعهم من الدخول ليس إلا لهذا السبب.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين فسار بمن معه حتى نزل قريباً من المدينة وهي أريحاء فبعث إليهم اثني عشر عيناً (٢) من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً من هيئتهم وجسمهم وعظمهم، فدخلوا حائطاً لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجني الثمار من حائطه فجعل يجني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعهم، فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمّه مع الفاكهة حتى التقط الاثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك قد رأيتم شأننا وأمرنا اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوه من أمرهم، فقال اكتموا عنا فجعل الرجل يخبر أباه وصديقه ويقول اكتم عني، فأشيع ذلك في عسكرهم ولم يكتم منهم إلا رجلان يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وهما اللذان أنزل الله فيهما (قال رجلان من الذين يخافون)، وقد روى نحو هذا مما يتضمن المبالغة في وصف هؤلاء وعظم أجسامهم ولا فائدة في بسط ذلك فغالبه من أكاذيب القصاص كما قدمنا.
_________
(١) راجت.
(٢) العين في الجيش وهو بمثابة رجل مخابرات.
(قال رجلان) هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا أو ابن فانيا وكان من الاثني عشر نقيباً كما مر بيان ذلك (من الذين يخافون) من الله عز وجل ويراقبونه، وقيل من الجبارين أي هذان الرجلان من جملة القوم الذين يخافون من الجبارين، وقيل من الذين يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم، وقيل إن الواو في يخافون لبني إسرائيل أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل وقرئ يخافون بضم الياء أي يخافهم غيرهم.
(أنعم الله عليهما) صفة ثانية لرجلان أي أنعم عليهما بالإيمان واليقين بحصول ما وعدوا به من النصر والظفر، وقيل أنعم عليهما بالعصمة فكتما ما اطلعا عليه من حالهم إلا عن موسى بخلاف بقية النقباء فأفشوه فجبنوا، وقيل إنها جملة معترضة وهو أيضاً ظاهر، وقيل حال من الضمير في يخافون أو من رجلان.
(ادخلوا عليهم الباب) أي باب بلد الجبارين وامنعوهم من الخروج إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالاً بخلاف ما إذا دخلتم عليهم القرية بغتة فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر (فإذا ادخلتموه فإنكم غالبون) قالا: هذه المقالة لبني إسرائيل، والظاهر أنهما قد علما بذلك من خبر موسى أو قالاه ثقة بوعد الله أو كانا قد عرفا أن الجبارين قد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً.
(وعلى الله فتوكلوا) أي ثقوا بالله بعد ترتيب الأسباب، ولا تعتمدوا عليها فإنها غير مؤثرة والله معكم وناصركم (إن كنتم مؤمنين) إذ الإيمان به يقتضي التوكل عليه وهو قطع العلائق، وترك التملق للخلائق.
فلما قالا ذلك أراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوا أمرهما، و
(فاذهب أنت وربك فقاتلا) قالوا: هذا جهلاً بالله عز وجل وبصفاته وكفراً بما يجب له أو استهانة بالله ورسوله، وقيل أرادوا بالذهاب الإرادة والقصد، وقيل أرادوا بالرب هرون وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه، والأول أولى (إنا ههنا قاعدون) أي لا نبرح ههنا لا نتقدم معك ولا نتأخر عن هذا الموضع، وقيل أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر.
(فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) أي افصل بيننا يعني نفسه وأخاه وبينهم، وميزنا عن جملتهم ولا تلحقنا بهم في العقوبة، وقيل المعنى فاقض بيننا وبينهم، وقيل إنما أراد في الآخرة.
(قال فإنها) أي الأرض المقدسة (محرمة عليهم) أي على هؤلاء العصاة بسبب امتناعهم من قتال الجبارين (أربعين سنة) ظرف للتحريم أي أنه محرم عليهم دخولها هذه المدة لا زيادة عليها فلا يخالف هذا التحريم، ما تقدم من قوله (التي كتب الله لكم) فإنها مكتوبه لمن بقي منهم بعد هذه المدة، وقيل إنه لم يدخلها أحد ممن قال إنا لن ندخلها فيكون توقيت التحريم بهذه المدة باعتبار ذراريهم.
وقيل إن أربعين سنة ظرف لقوله (يتيهون في الأرض) أي يتيهون هذا المقدار فيكون التحريم مطلقاً والمؤقت هو التيه، وهو في اللغة الحيرة يقال منه تاه يتيه تيهاً أو توها إذا تحيّر فالمعنى يتحيرون في الأرض، قيل إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ كانوا يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وكانوا سيارة مستمرين على ذلك لا قرار لهم.
وقيل ستة فراسخ في اثني عشر فرسخاً، وقيل تسع فراسخ في ثلاثين فرسخاً، وكان القوم ستمائة ألف مقاتل.
واختلف أهل العلم هل كان معهم موسى وهرون أم لا؟ فقيل لم يكونا معهم، لأن التيه عقوبة، وقيل كانا معهم لكن سهل الله عليهما ذلك كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
وقد قيل كيف تقع هذه الجماعة من العقلاء في مثل هذه الأرض اليسيرة في هذه المدة الطويلة؟ قال أبو علي يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا إلى المكان الذي ابتدأوا منه، وقد يكون بغير ذلك من الأسباب
قال الزجاج: ويجوز أن يكون خطاباً لحمد - ﷺ - أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل.
وأخرج ابن جرير وابن حاتم عن ابن عباس قال: تاهوا أربعين سنة فهلك موسى وهرون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها وهو الذي قيل له اليوم يوم جمعة فهمّوا بافتتاحها، فدنت الشمس للغروب فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا فنادى الشمس أني مأمور وأنت مأمورة فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط فقربوه إلى النار فلم تأت فقال فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط وهم اثنا عشر رجلاً فبايعهم فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال: الغلول عندك، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلتها.
وعنه قال خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن، وكان عمر موسى مائة سنة وعشرين سنة ومات بعد هارون بسنة عليهما الصلاة والسلام.
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعاً قصة ردّ الشمس لنبيٍ من الأنبياء ولم يسم يوشع، واختلف الناس في حبس الشمس فقيل ردت إلى ورائها، وقيل وقفت ولم ترد، وقيل بطء حركتها، ومات يوشع ودفن في جبل أفرأيتم وله مائة سنة وست وعشرون سنة، وقيل الذي فتح أريحاء هو موسى وكان يوشع على مقدمته، وهذا أصح واختاره الطبري والقرطبي.
قال ابن عطية: " هذا وهم، كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب "، ، قال الجمهور من الصحابة فمن بعدهم اسمهما قابيل وهابيل.
(بالحق) أي تلاوة متلبسة بالحق، واختاره الزمخشري أو نبأ متلبساً بالحق، (إذ قربا قرباناً) القربان اسم لما يتقرب به إلى الله عز وجل من صدقة أو ذبيحة أو نسك أو غير ذلك مما يتقرب به، قاله الزمخشري، وقيل مصدر أطلق على الشيء المتقرب به، قاله أبو علي الفارسي وكان قربان قابيل حزمة من سنبل لأنه كان صاحب زرع، واختارها من أردأ زرعه حتى إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها، وكان قربان هابيل كبشاً لأنه كان صاحب غنم أخذه من أجود غنمه.
(فتقبل) القربان (من أحدهما) وهو هابيل فرفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدى به الذبيح عليه السلام، وكذا قال جماعة من السلف،
(قال لأقتلنك) قيل سبب هذا القربان أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى إلا شيثاً عليه السلام فإنها ولدته منفرداً، وكان آدم عليه السلام يزوج الذكر من هذا البطن بالأنثى من الآخر، ولا تحل له أخته التي ولدت معه، فولدت مع قابيل أخت جميلة وإسمها إقليما، ومع هابيل أخت ليست كذلك وإسمها ليوذا، فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل أنا أحق بأختي فأمره آدم فلم يأتمر وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على القربان وأنه يتزوجها من تقبل قربانه، قاله ابن عباس، قال ابن كثير في تفسيره إسناده جيد، وكذا قال السيوطي في الدر المنثور.
(قال إنما يتقبل الله من المتقين) استئناف كالأول كأنه قيل فماذا قال الذي تقبل. قربانه فقال: قال الخ، وإنما للحصر أي إنما يتقبل القربان من المتقين لا من غيرهم، وكأنه يقول لأخيه إنما أتيت من قبل نفسك لا من قبلي، فإن عدم تقبل قربانك بسبب عدم تقواك وأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال، وعن ابن عباس قال: كان من شأن بني آدم أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قرباناً ثم ذكر ما قررناه.
وحديث أبي ذر المشار إليه هو عند مسلم وأهل السنن إلا النسائي وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: " يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك قال: فإن لم أترك؟ قال: فأت من أنت منهم فكن فيهم، قال: فآخذ سلاحي؟ قال إذن تشاركهم فيما فيه ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك " (١)، وفي معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة، وقيل معناه ما كنت بمبتديك بالقتل (٢).
(إني أخاف الله) في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك أن يعاقبني على ذلك (رب العالمين) قيل: كان المقتول أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرج عن قتل أخيه فاستسلم له خوفاً من الله، لأن الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت.
_________
(١) أحمد بن حنبل ٥/ ١٤٩.
(٢) جاء في " المسند " ٥/ ٢٢٦، والبخاري ٦/ ٢٦٢، ١٢/ ١٦٩، ١٣/ ٢٥٦، ومسلم ١٣٠٣، والترمذي ٢/ ٩٢، والنسائي ٧/ ٨٢، وابن ماجه ٢/ ٨٧٣ من حديث ابن مسعود مرفوعاً، ولفظه " لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل " وقوله: " كفل منها " الكفل، بكسر أوله وسكون الفاء: النصيب، وأكثر ما يطلق على الأجر، والضعف على الإثم. ومنه قوله تعالى: (كفلين من رحمته) [الحديث: ٢٨] ووقع على الإثم في قوله تعالى: (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) [النساء: ٨٥].
وهذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " يؤتى يوم القيامة بالظالم والظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه " (١)، ومثله قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) وقيل المعنى أني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) أي أن لا تميد بكم، وقوله: (يبين الله لكم أن تضلوا) أي أن لا تضلوا.
وقال أكثر العلماء: إن المعنى أني أريد أن تبوء بإثمي أي بإثم قتلك لي وإثمك الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي، قال الثعلبي هذا قول عامة المفسرين. وقيل المعنى أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك فحذف المضاف،
_________
(١) الباب العاشر من كتاب المظالم في صحيح البخاري- الباب الثاني من كتاب القيامة في صحيح الترمذي.
وسئل أبو الحسن بن كيسان كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار فقال: وقعت الإرادة بعدما بسط يده إليه بالقتل، وهذا بعيد جداً وكذلك الذي قبله، وقال الزمخشري: ليس ذلك بحقيقة الإرادة لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطّن نفسه على الاستسلام للقتل طلباً للثواب فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً، وإن لم يكن مريداً حقيقة إهـ وأصل باء رجع إلى المباءة وهي المنزل (وباؤا بغضب من الله) أي رجعوا (١).
(فتكون من أصحاب النار) أي الملازمين لها (وذلك جزاء الظالمين) أي جهنم جزاء من قتل أخاه ظلماً.
_________
(١) قال القرطبي ٦/ ١٣٦: قال علماؤنا: وذلك مما يجوز التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعاً، وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك، لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب " التذكرة " قلت: حديث أبي ذر في " المسند " ٥/ ١٤٩، وأبي داود ٤/ ١٢٤، وابن ماجه ٢/ ١٣٠٨ وفيه " أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أقعد في بيتك، وأغلق عليك بابك.
قال: فإن لم أترك؟ قال: فات من أنت منهم، قال: فآخذ سلاحي؟ قال: إذن تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك " وفي معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة، انظر " سنن أبي داود " كتاب الفتن.
أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في الآية قالوا: فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفنه.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ -: " لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل " (١).
واختلف في موضع قتله فقال ابن عباس: على جبل نود، وقيل على عقب: حراء وقيل بالبصرة عند مسجدها الأعظم، وكان عمر هابيل يوم قتل عشرين سنة.
(فأصبح من الخاسرين) قال ابن عباس: خسر دنياه وآخرته، أما دنياه فأسخط والديه وبقي بلا أخ وأما آخرته فأسخط ربه وصار إلى النار.
_________
(١) مسلم ١٦٧٧ - البخاري ١٥٧٥.
فلما رآه قابيل (قال يا ويلتا) كلمة تحسر وتحزن وتلهف وجزع، والألف بدل من ياء المتكلم كأنه دعا ويلته أن تحضر في ذلك الوقت وتلزمه، وقال الكرخي: أي يا هلاكي تعال، والويلة الهلكة وتستعمل عند وقوع الداهية العظيمة، وفيه اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب، وأصل النداء أن يكون لمن يعقل وقد ينادى ما لا يعقل مجازاً.
(أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) الذي وارى الغراب الآخر، والكلام خارج مخرج التعجب منه من عدم اهتدائه لمواراة أخيه كما اهتدى الغراب إلى ذلك (فأواري سوأة أخي) يعني فأستر جيفته وعورته عن الأعين (فأصبح من النادمين) قيل لم يكن ندمه ندم توبة بل ندم لفقده لا على قتله وقيل غير ذلك.
روي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض، فالسودان من ولده وكان آدم يومئذ بمكة فاشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه فقال آدم قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فوجد قابيل قد قتل هابيل، قال الزمخشري ويروى أنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا محول ملحون، وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر.
قال الرازي: ولقد صدق صاحب الكشاف فيما قال فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق إلا بالحمقاء من المتعلمين فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة.
وهذا مشكل لأنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل، وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل، قال بعضهم هو من تمام الكلام الذي قبله، والمعنى فأصبح من النادمين من أجل ذلك، يعني من أجل أنه قتل هابيل ولم يواره، ويروى عن نافع أنه كان يقف على قوله من أجل ذلك ويجعله من تمام الكلام الأول.
فعلى هذا يزول الإشكال ولكن جمهور المفسرين وأصحاب المعاني على أنه ابتداء كلام متعلق بكتبنا فلا يوقف عليه، وفي السيد على الكشاف وخص بني إسرائيل مع أن الحكم عام لكثرة القتل فيهم حتى إنهم تجرَّؤوا على قتل الأنبياء إهـ وقيل غير ذلك.
(أنه من قتل نفساً) واحدة من هذه النفوس ظلماً (بغير نفس) توجب القصاص فيخرج عن هذا من قتل نفساً بنفس قصاصاً، وقد تقرر أن كل
(أو فساد في الأرض) فيستحق به القتل، وقد اختلف في هذا الفساد المذكور في هذه الآية ماذا هو فقيل هو الشرك والكفر بعد الإيمان، وقيل قطع الطريق.
وظاهر النظم القرآني أنه ما يصدق عليه أنه فساد في الأرض، فالشرك فساد في الأرض وقطع الطريق فساد في الأرض، وسفك الدماء وهتك الحرم ونهب الأموال فساد في الأرض، والبغي على عباد الله بغير حق فساد في الأرض، وهدم البنيان وقطع الأشجار وتغوير الأنهار فساد في الأرض، فعرفت بهذا أنه يصدق على هذه الأنواع أنها فساد في الأرض، وهكذا الفساد الذي يأتي في قوله: (ويسعون في الأرض فساداً) يصدق على هذه الأنواع، وسيأتي تمام الكلام على معنى الفساد قريباً.
(فكأنما قتل الناس جميعاً) أي في الذنب قاله الحسن، واختلف المفسرون في تحقيق هذا التشبيه للقطع بأن عقاب من قتل الناس جميعاً أشد من عقاب من قتل واحداً منهم، فروي عن ابن عباس أنه قال: المعنى من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعاً.
(ومن أحياها) بأن شدّ عضده ونصره (فكأنما أحيا الناس جميعاً) أي في الأجر قاله الحسن، وروي عن مجاهد أنه قال: أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، فلو قتل الناس جميعاً لم يزد على هذا، قال ومن سلم من قتلها فلم يقتل أحداً فكأنما أحيا الناس جميعاً.
وقال ابن زيد المعنى: أن من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزمه من قتل الناس جميعاً ومن أحياها أي من عفا عمن وجب قتله فله من
وقيل: المعنى أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه لأنه قد وتر الجميع، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً أي وجب على الكل شكره، وقيل المعنى أن من استحل واحداً فقد استحل الجميع، لأنه أنكر الشرع، ومن تورع عن قتل مسلم فكأنما تورع عن قتل جميعهم فقد سلموا منه.
وعلى كل حال فالإحياء هنا عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة، فهو مجاز إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عز وجل، والمراد بهذا التشبيه في جانب القتل ْتهويل أمر القتل وتعظيم أمره في النفوس حتى ينزجر عنه أهل الجرآة والجسارة، وفي جانب الإحياء الترغيب في العفو عن الجناة واستنقاذ المتورطين في الهلكات، ولذلك صدر النظم الكريم بضمير الشأن المنبي عن كمال شهرته ونباهته وتبادره إلى الأذهان.
سئل الحسن عن هذه الآية أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل، فقال: أي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.
(ولقد جاءتهم) أي بني إسرائيل (رسلنا بالبينات) الدلالات الواضحات، جملة مستقلة مؤكدة باللام الموطئة للقسم متضمنة للإخبار بأن الرسل عليهم الصلاة والسلام قد جاؤا العباد بما شرعه الله لهم من الأحكام التي من جملتها أمر القتل.
وثم في قوله: (ثم إن كثيراً منهم) للتراخي الرتبي والاستبعاد العقلي (بعد ذلك) أي ما ذكر مما كتبه الله على بني إسرائيل من تحريم القتل (في الأرض لمسرفون) في القتل لا ينتهون عنه، أو لمجاوزون الحق لا يبالون بعظمته.
(إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) قد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فذهب الجمهور إلى أنها نزلت في العرنيين (١) وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد قال ابن المنذر: قول مالك صحيح.
قال أبو ثور محتجاً لهذا القول إن قوله في هذه الآية: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) يدل على أنها نزلت في غير أهل الشرك لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام أهـ.
وهكذا يدل على هذا قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " الإسلام يهدم ما قبله " (٢)، أخرجه مسلم وغيره.
وحكى ابن جرير في تفسيره عن بعض أهل العلم أن هذه الآية أعني آية المحاربة نسخت فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العرنيين، ووقف الأمر على هذه الحدود.
وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: كان هذا قبل أن ينزل الحدود يعني
_________
(١) هم أناس جاءوا إلى النبي - ﷺ - وأظهروا الإسلام ثم مرضوا من جو المدينة، فبعثهم النبي - ﷺ - في إبل خارج المدينة ليتداووا بألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي وساقوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث وراءهم فأحضرهم وعاقبهم بما هو معلوم.
(٢) مسلم ١٢١.
والحق أن هذه الآية تعم المشرك وغيره ممن ارتكب ما تضمنته ولا اعتبار بخصوص السبب بل الاعتبار بعموم اللفظ.
قال القرطبي في تفسيره: ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مرتب على المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود انتهى.
ومعنى قوله مرتب أي ثابت، قيل المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية هي محاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحاربة المسلمين في عصره ومن بعد عصره بطريق العبارة دون الدلالة ودون القياس، لأن ورود النص ليس بطريق المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى دليل آخر.
وقيل إنها جعلت محاربة المسلمين محاربة لله ولرسوله إكباراً لحربهم وتعظيماً لأذيّتهم، لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب، والأولى أن تفسر محاربة الله سبحانه بمعاصيه ومخالفة شرائعه، ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي وحكم أمته حكمه وهم أُسوته.
(ويسمعون في الأرض فساداً) بحمل السلاح والخروج على الناس وقتل النفس وأخذ الأموال وقطع الطريق، والسعي فيها فساداً يطلق على أنواع من الشرك كما قدمنا قريباً، وانتصاب فساداً على الصدرية أو على أنه مفعول له أي للفساد أو على الحال بالتأويل أي مفسدين.
وقال ابن كثير في تفسيره: قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب أن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال تعالى: (وإذا
وإذا تقرر لك ما قررناه من عموم الآية ومن معنى المحاربة والسعي في الأرض فساداً فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك، سواء كان مسلماً أو كافراً، في مصر أو غير مصر، في قليل وكثير وجليل وحقير، وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض.
ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أي ذنب من الذنوب بل من كان ذنبه هو التعدي على دماء العباد وأقوالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم في كتاب الله أو سنة رسوله كالسرقة وما يجب فيه القصاص، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه ﷺ من تقع منه ذنوب ومعاص غير ذلك ولا يجري عليه - ﷺ - هذا الحكم المذكور في هذه الآية.
وبهذا يعرف ضعف ما روي عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية أنها الزنا والسرقة، ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وسنة رسوله - ﷺ - لهما حكم غير هذا الحكم.
وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية على مقتضى لغة العرب التي أمرنا أن نفسر كتاب الله وسنة رسوله بها، فإياك أن تغتر بشيء من التفاصيل المروية، والمذاهب المحكية إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم، أو تقييد هذا المعنى المفهوم، من لغة العرب فأنت وذاك، إعمل به وضعه في موضعه، وأما ما عداه:
فدع عنك نهباً صيح في حجراته | وهات حديثاً ما حديث الرواحل. |
اعلم أنه قد اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة، فقال ابن
قال ابن المنذر: اختلف على مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في مصر مرة ونفى ذلك أخرى، وروى عن ابن عباس غير ما تقدم فقال في قطّاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض.
وروي عن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء على اختلاف في الرواية عن بعضهم وحكاه ابن كثير عن الجمهور، وقال أيضاً وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة.
وقال أبو حنيفة: وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه، وقال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء، ونحوه قول الأوزاعي.
وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب، وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام.
وقال أحمد: إن قتل قتل وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي.
قال أنس: فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه.
وهذا مع ما فيه من النكارة الشديدة لا يدرى كيف صحته، قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لشيء من هذه التفاصيل التي ذكرناها ما لفظه: ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده ثم ذكره.
(أن يقتّلوا) التفعيل للتكثير وهو هنا باعتبار المتعلق أي ويقتلوا واحداً بعد واحد.
(أو يصلّبوا) ظاهره أنهم يصلبون أحياء حتى يموتوا لأنه أحد الأنواع التي خير الله بينها، وقال قوم الصلب إنما يكون بعد القتل ولا يجوز أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب ويجاب بأن هذه عقوبة شرعها الله سبحانه في كتابه لعباده.
(أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف) ظاهره قطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف سواء كانت المقطوعة من اليدين هي اليمنى أو اليسرى، وكذلك الرجلان، ولا يعتبر إلا أن يكون القطع من خلاف إما يمنى
(أو ينفوا من الأرض) اختلف المفسرون في معناه فقال السدي هو أن يطلب بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه الحد، أو يخرج من دار الإسلام هرباً، وهو محكي عن ابن عباس وأنس ومالك والحسن البصري والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري. حكاه الرماني في كتابه عنهم.
وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن مالك أنه ينفى من البلد الذي أحدث فيه إلى غيره ويحبس فيه كالزاني ورجحه ابن جرير والقرطبي، وقال الكوفيون نفيهم سجنهم، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها.
والظاهر من الآية أنه يطرد من الأرض التي وقع منه فيها ما وقع من غير سجن ولا غيره، والنفي قد يقع بمعنى الإهلاك وليس هو مراداً هنا قال مكحول أن عمر بن الخطاب أول من حبس في السجون يعني من هذه الأمة وقال: احبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه إلى بلد آخر فيؤذيهم، وقال الكرخي ينفوا من الأرض إلى مسافة قصر فما فوقها لأن المقصود من النفي الوحشة والبعد عن الأهل والوطن، فإذا عين الإمام جهة فليس للمنفي طلب غيرها ولا يتعين الحبس.
(ذلك) إشارة إلى ما سبق ذكره من الأحكام (لهم) أي للمحاربين (خزي في الدنيا) الخزي الذل والفضيحة (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) هذا الوعيد في حق الكفار الذين نزلت الآية فيهم، وأما المسلم فإنه إذا أقيم عليه الحد في الدنيا سقطت عنه عقوبة الآخرة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة والحق الأول، وأما التوبة بعد القدرة فلا يسقط بها العقوبة المذكورة في الآية كما يدل عليه ذكر قيد (قبل أن تقدروا عليهم).
قال القرطبي: وأجمع أهل العلم على أن السلطان وليُّ من حارب، فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء ولا يجوز عفو ولي الدم (فاعلموا أن الله غفور رحيم) بهم، عبر بذلك دون: فلا تحدوهم ليفيد أنه لا يسقط عنه بتوبته إلا حدود الله دون حقوق الآدميين، قال السيوطي: كذا ظهر لي ولم أر من تعرض له والله أعلم انتهى أي من حيث فهمه من الآية وإن كان في نفسه ظاهراً.
أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: نزلت في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه السبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد أو حارب الله ورسوله.
وعنه عند ابن جرير والطبراني في الكبير فإن جاء تائباً فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤخذ بما سلف.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن نفراً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم - ﷺ - أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلبهم كافة فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا فأنزل الله (إنما جزاء الذين يحاربون الله) الآية.
وفي مسلم عن أنس إنما سمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة.
وعن الشعبي قال: " كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب فكلم رجالاً من قريش أن يستأمنوا له علياً فأبوا، فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى علياً فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ثم قال: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر، قال: وإن كان حارثة بن بدر، قال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائباً فهو آمن، قال: نعم، قال: فجاء به إليه وقبل ذلك منه وكتب له أماناً ".
_________
(١) طائفة من الخوارج.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة " (٢)، وفي الباب أحاديث.
والعطف على (يا أيها الذين) يفيد أن الوسيلة غير التقوى، وقيل هي التقوى لأنها ملاك الأمر وكل الخير فتكون الجملة الثانية على هذا مفسرة للجملة الأولى، والظاهر أن الوسيلة التي هي القربة تصدق على التقوى وعلى غيرها من خصال الخير التي يتقرب بها العباد إلى ربهم، وقيل معنى الوسيلة المحبة أي تحببوا إلى الله والأول أولى.
(وجاهدوا في سبيله) من لم يقبل دينه وقبل أعداءه البارزة والكامنة (لعلكم تفلحون) أي لكي تسعدوا بالخلود في جنته لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه والفوز بكل محبوب.
_________
(١) الترمذي الباب ٤٢ من كتاب الصلاة- النسائي الباب ٢٨ من كتاب الأذان.
(٢) مسلم ٣٨٤.
(إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض) كلام مبتدأ مسوق لزجر الكفار وترغيب المسلمين في امتثال أوامر الله سبحانه أي لو أن لهم ما في الأرض من أصناف أموالها وذخائرها ومنافعها قاطبة، وقيل المراد لكل واحد منهم ليكون أشد تهويلاً وإن كان الظاهر من ضمير الجمع خلاف ذلك (جميعاً) تأكيد (ومثله معه) أي أن الكافر لو ملك الدنيا ودنيا أخرى مثلها معها.
(ليفتدوا به) أي ليجعلوا كلاًّ منهما فدية لأنفسهم من العذاب، وأفرد الضمير إما لكونه راجعاً إلى المذكور أو لكونه بمنزلة اسم الإشارة أي ليفتدوا بذلك (من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم) ذلك الفداء (ولهم عذاب أليم) أي لا من سبيل ولا لهم الخلاص منه بوجه من الوجوه.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أيسر من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة فأبيت إلا الشرك "، هذا لفظ مسلم (١).
وفي رواية البخاري: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: لقد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك أن لا تشرك بي (٢).
_________
(١) مسلم ٢٨٠٥.
(٢) البخاري ١٥٧٤.
(يريدون أن يخرجوا من النار) هذا استئناف بياني كأنه قيل كيف حالهم فيما هم فيه من هذا العذاب الأليم فقيل يقصدون الخروج من النار ويطلبونه أو يتمنون (وما هم بخارجين منها) أي لا يستطيعون ذلك ومحلها النصب على الحال وقيل إنها جملة اعتراضية (ولهم عذاب مقيم) أي دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبداً.
أخرج مسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى عليه وآله وسلم قال: " يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة " (١)، قال يزيد الفقير قلت لجابر: يقول الله يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها قال اتل أول الآية إن الذين كفروا الآية، ألا إنهم الذين كفروا.
وعن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: تزعم أن قوماً يخرجون من النار وقد قال الله تعالى وما هم بخارجين منها فقال ابن عباس: ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار، قال الزمخشري في الكشاف بعد ذكره: لهذا إنه مما لفّقته المجبّرة انتهى.
ويا لله العجب من رجل لا يفرق بين أصح الصحيح وبين أكذب الكذب على رسول الله - ﷺ -، يتعرض للكلام على ما لا يعرفه ولا يدري ما هو، وقد تواترت الأحاديث تواتراً لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلم الرواية أن عصاة الموحدين يخرجون من النار، فمن أنكر هذا فليس بأهل المناظرة لأنه أنكر ما هو من ضروريات الشريعة.
_________
(١) البخاري الباب ٥١ من كتاب الرقاق- الترمذي الباب التاسع والعاشر من كتاب جهنم.
وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة هل هو مقدر أم فاقطعوا، فذهب إلى الأول سيبويه وقال تقديره فيما فرض عليكم أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما، وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
والسرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق، والمصدر هو السرق من سرق يسرق سرقاً، قاله الجوهري: وهو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق السمع وسارقه النظر، والقطع معناه الإبانة والإزالة، وقدم السارق هنا والزانية في آية الزنا لأن الرجال إلى السرقة أميل، والنساء إلى الزنا أميل.
(أيديهما) أي يمين كل منهما من الكوع، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين التثنيتين، وقيل لأنه أراد يميناً من هذا ويميناً من هذه، فجمع فإنه ليس للإنسان إلا يمين واحدة وكل شيء موحّد من أعضاء الإنسان إذا ذكر مضافاً إلى اثنين فصاعداً جمع، والمراد باليد هنا اليمين قاله الحسن والشعبي والسدي، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود فاقطعوا أيمانهما، وقيل الجارحة وحدّها عند
وقد بينت السنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ، قال قوم يقطع من المرافق، وقال الخوارج من المنكب، والسرقة لا بد أن تكون ربع دينار فصاعداً ولا بد أن تكون من حرز كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة، وقد ذهب إلى اعتبار الحرز وربع الدينار الجمهور، وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم، وقال الحسن البصري: إذا جمع الثياب في البيت قطع.
وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه وشراح الحديث بما لا يأتي التطويل به هنا بكثير فائدة، وأوضحت البحث في ذلك في شرحي لكتاب بلوغ المرام.
(جزاء بما كسبا) أي ذلك القطع جزاء على فعلهم (نكالاً من الله) أي عقوبة منه، تقول نكلت به إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن ذلك الفعل، وعن قتادة قال: لا ترثوا لهم فيه فإنه أمر الله الذي أمر به، قال وذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اشتدوا على الفساق واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً.
(والله عزيز) غالب في انتقامه ممن عصاه لا يعارض في حكمه (حكيم) فيما أوجبه من قطع يد السارق.
وقد استدل بهذا عطاء وجماعة على أن القطع يسقط بالتوبة، وليس هذا
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال للسارق بعد قطعه " تب إلى الله " ثم قال: تاب الله عليك (١) أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة.
وأخرج أحمد وغيره أن هذه الآية نزلت في المرأة التي كانت تسرق المتاع لما قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد قطعها: هل لي توبة؟ وقد ورد في السنة المطهرة ما يدل على أن الحدود إذا رفعت إلى الأئمة وجبت وامتنع إسقاطها وإن عفا عنه قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع، وعليه الشافعي.
_________
(١) الدارقطني عن أبي هريرة.
وهذه الآية فاضحة للقدرية والمعتزلة في قولهم بوجوب الرحمة للمطيع والعذاب للعاصي، لأن الآية دالة على أن التعذيب والرحمة مفوضان إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك (والله على كل شيء قدير) لأن الخلق كلهم عبيده وفي ملكه.
(يا أيها الرسول) هذا خطاب تشريف وتكريم وتعظيم، وقد خاطبه الله عز وجل بيا أيها النبي في مواضع من كتابه، وبيا أيها الرسول في موضعين هذا أحدهما والآخر قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك).
(لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) أي لا تهتم ولا تبال بهم فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم، والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين وأحزنه غيره، قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرىء بهما.
وفي الآية النهي له صلى الله عليه وآله وسلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثراً بليغاً على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وقطع له من أصله، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم، والمسارعة إلى الشيء الوقوع فيه بسرعة، والمراد هنا وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة، وآثر لفظ (في) على لفظ إلى للدلالة على استقرارهم فيه، والمسارعون هم اليهود، قاله ابن عباس.
(من الذين قالوا) من بيانية والجملة مبيّنة للمسارعين في الكفر، وهؤلاء الذين قالوا (آمنا بأفواههم) بألسنتهم (ولم تؤمن قلوبهم) هم
(سمَاعون للكذب) وهذا راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين، واللام في قوله للكذب للتقوية أو لتضمين السماع معنى القول، وقيل معناه من الذين هادوا قوم قائلون الكذب من رؤسائهم المحرفين للتوراة (سماعون) أي لكلام رسول الله - ﷺ - لأجل الكذب عليه (لقوم آخرين) وجهوهم عيوناً وجواسيس لهم لأجل أن يبلّغوهم ما سمعوا من رسول الله - ﷺ -.
قال الفراء: ويجوز سماعين كما قال ملعونين أينما ثقفوا، والحاصل أن هؤلاء القوم من اليهود لهم صفتان سماع الكذب من أحبارهم ونقله إلى عوامهم، وسماع الحق منك ونقله إلى أحبارهم ليحرفوه.
(لم يأتوك) صفة لقوم أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله - ﷺ - تكبراً وتمرداً وقيل هم جماعة من المنافقين كانوا يتجنبون مجالس رسول الله - ﷺ -.
(ويحرّفون الكلم) الذي في التوراة كآية الرجم أي يزيلونه ويميلونه أو يتأولونه على غير تأويله والمحرفون هم اليهود، قال القسطلاني في إرشاد الساري: وقد صرح كثير بأن اليهود والنصارى بدلوا ألفاظاً كثيرة من التوراة والإنجيل وأتوا بغيرها من قبل أنفسهم، وحرفوا أيضاً كثيراً من المعاني بتأويلها على غير الوجه.
ومنهم من قال أنهم بدلوهما كليهما، ومن ثَمَّ (١) قيل بامتهانهما، وفيه نظر
_________
(١) ثم بفتح الثاء أي هنا.
وعند أحمد والبزار واللفظ له من حديث جابر قال: نسخ عمر كتاباً من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبي - ﷺ - فجعل يقرأ ووجه النبي - ﷺ - يتغير فقال له رجل من الأنصار: ويحك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله - ﷺ -، فقال رسول الله - ﷺ - لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي " (١)، وروي في ذلك أحاديث أخر كلها ضعيف لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلاً.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح، ومنه لخصت ما ذكرته: والذي يظهر أن كراهة ذلك للتنزيه لا للتحريم.
والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيه ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف، ويدل له نقل الأئمة قديماً وحديثاً من التوراة وإلزامهم التصديق بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يستخرجونه من كتابهم.
_________
(١) أحمد بن حنبل ٢/ ٢٢٨.
أقول وقد تقدم الكلام على هذه المسئلة في سورة النساء بأطول من ذلك، وقد قال جماعة من أهل المعرفة بالتحقيق بأن التحريف الواقع في التوراة معنوي لا لفظي وإليه ذهب حَبْر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس، والشيخ ولي الله المحدث الدهلوي في الفوز الكبير وغيرهما والله سبحانه أعلم.
(من بعد) كونه موضوعاً في (مواضعه) أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث لفظه أو من حيث معناه.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله - ﷺ - فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله - ﷺ -: ما تجدون في التوراة قالوا نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع فإذا آية الرجم، قالوا: صدق، فأمر بهما رسول الله - ﷺ - فرجما (١).
وقال الحسن في الآية: إنهم يغيرون ما يسمعون من النبي - ﷺ - بالكذب عليه، والأول أولى، وقال ابن جرير الطبري يحرفون حكم الكلم فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين به وفيه بعد.
(يقولون إن أوتيتم هذا) الإشارة إلى الكلام المحرف أي قال يهود فدك ليهود المدينة إن أوتيتم من جهة محمد بهذا الكلام الذي حرفناه أي الجلد (فخذوه) وأعملوا به (وإن لم تؤتوه) بل جاءكم بغيره وأفتاكم بخلافه (فاحذروا) من قبوله والعمل به.
_________
(١) البخاري الباب ٢٦ من كتاب المناقب والباب ٣٧ من كتاب الحدود.
(أولئك) الإشارة إلى ما تقدم ذكرهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد.
(الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم) أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق وخبث الضلالة كما طهر قلوب المؤمنين، والجملة استئناف مبين لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم وقبح صنيعهم الموجب لها لا واقعة منه تعالى ابتداء.
وفي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لم يرد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشكل والشرك ولو فعل ذلك لآمن، وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية.
(لهم في الدنيا خزي) بظهور نفاق المنافقين وبضرب الجزية على الكافرين وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) يعني الخلود في النار.
(فيسحتكم بعذاب) ويقال للحالق اسحت أي أستأصل وسمي الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويسأصلها، وقال الفراء أصله كلب الجوع، وقيل هو الرشوة والأول أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أولياً.
وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضى له حاجة أو حلوان الكاهن والتعميم أولى بالصواب. قال ابن عباس أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب، وعن ابن مسعود قال السحت الرشوة في الدين، وقال سفيان في الحكم وعن ابن عباس قال: رشوة الحكام حرام، وهي السحت الذي ذكر الله تعالى في كتابه.
وعن علي أنه سُئِلَ عن السحت فقال: الرشى، فقيل له في الحكم قال: ذلك الكفر، وعن عمر قال: بابان من السحت يأكلهما الناس الرشى في الحكم ومهر الزانية، وقد ثبت عن رسول الله - ﷺ - في تحريم الرشوة ما هو معروف، وعن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم " (١)، أخرجه الترمذي وأخرجه أبو داود عن ابن عمرو بن العاص.
(فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فيه تخيير لرسول الله - ﷺ - بين الحكم بينهم والإعراض عنهم، وقد استدل به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين، وقد أجمع العلماء على أنه محب على حكام المسلمين أن
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٤٩٦٩.
واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم فذهب قوم إلى التخيير، وبه قال الحسن والشعبي والنخعي والزهري، وبه قال أحمد، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا إن هذه الآية منسوخة بقوله: (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) وبه قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي وهو الصحيح من قولي الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء وليس في هذه السورة منسوخ إلا هذا وقوله: (ولا آمّين البيت) على ما سبق.
(و) معنى (إن تعرض عنهم) إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم (فلن يضروك شيئاً) أي إذا عادوك لإعراضك عنهم فإن الله يعصمك من الناس، ولا سبيل لهم عليك لأنه سبحانه حافظك وناصرك عليهم (وإن حكمت) أي اخترت الحكم بينهم (فاحكم بينهم بالقسط) أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك (إن الله يحب المقسطين) العادلين فيما ولوا وحكموا فيه.
وعند عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " أخرجه (١) مسلم.
_________
(١) مسلم ١٨٢٧.
(ثم يتولون من بعد ذلك) أي من بعد تحكيمهم لك وحكمك الموافق لما في كتابهم (وما أولئك بالمؤمنين) بك أو بكتابهم كما يدعون ويزعمون لإعراضهم عنه أولاً، وعما يوافقه ثانياً، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها.
(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) استئناف يتضمن تعظيم التوراة وتفخيم شأنها وأن فيها بيان الشرائع والتبشير بمحمد ﷺ وإيجاب اتباعه.
(ويحكم بها النبيون) هم أنبياء بني إسرائيل، وبه تمسك من ذهب إلى أن شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تنسخ والمراد بالنبيين الذين بعثوا بعد موسى، وذلك أن الله بعث فيهم ألوفاً من الأنبياء ليس معهم كتاب إنما بعثوا بإقامة التوراة وأحكامها وحمل الناس عليها والجملة إما مستانفة أو حالية.
(الذين أسلموا) صفة مادحة للنبيين، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وآله وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ الجمع تعظيماً.
قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين لله تعالى منقادين لأمره ونهيه والعمل بكتابه.
(للذين هادوا) متعلق بيحكم والمعنى أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا، قال الزجاج جائز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير على معنى فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا، واللام إما لبيان
(والربانيون) العلماء الحكماء من ولد هرون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود، وقال الحسن الفقهاء، وقال مجاهد هم فوق الأحبار، وقال الحسن الربانيون العباد والزهاد، وعن ابن عباس قال الربانيون هم المؤمنون، والأحبار هم القراء، وقد سبق تفسيره في آل عمران.
(والأحبار) العلماء مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبّرون العلم أي يحسنونه، قال الجوهري: الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح والكسر، والكسر أفصح، وقال الفراء إنما هو بالكسر وقال أبو عبيدة هو بالفتح.
(بما استحفظوا من كتاب الله) الباء للسببية ومن للبيان والمعنى أمروا بالحفظ أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل وإليه نحا الزمخشري أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ فهم خلفاء ونواب في ذلك.
(وكانوا عليه) أي على كتاب الله وأنه حق (شهداء) أي رقباء يحمونه عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة.
(فلا تخشوا الناس) يا رؤساء اليهود فتكتموا ما أنزلت من نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرجم وغيرهما (واخشون) في كتمان ذلك.
(ولا تشتروا) أي لا تستبدلوا (بآياتي ثمناً قليلاً) من الدنيا على أن تكتموا ما أنزلت، وقال ابن زيد لا تأكلوا السحت على كتابي يعني الرشوة وقد تقدم تحقيقه.
(ومن لم يحكم بما أنزل الله) لفظ " من " من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة بل لكل من ولي الحكم وهو الأولى وبه قال السدي،
وقال ابن مسعود والحسن والنخعي: هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة، فكل من ارتشى وحكم بغير حكم الله فقد كفر وظلم وفسق، وهو الأولى لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافاً أو استحلالاً أو جحداً قاله أبو السعود.
والإشارة بقوله (فأولئك) إلى (من) والجمع باعتبار معناها وكذلك ضمير الجماعة في قوله: (هم الكافرون) ذكر الكفر هنا مناسب لأنه جاء عقب قوله: (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً) وهذا كفر فناسب ذكر الكفر هنا قاله أبو حيان، قال ابن عباس: يقول مَنْ جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق.
وعنه قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل كفر دون كفر، وقال عطاء: هم الظالمون هم الفاسقون هم الكافرون، قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم وفسق دون فسق، وعن ابن عباس قال: نزلت في اليهود خاصة، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.
وعن حذيفة بسند صحيح أن هذه الآيات ذكرت عنده (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، والظالمون، والفاسقون) فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة، ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك، وعن ابن عباس نحوه.
فانظر يا مسكين ماذا صنعت بنفسك فإنك لم يكن جهلك مقصوراً عليك بل جهلت على عباد الله، فأرقت الدماء وأقمت الحدود وهتكت الحرم بما لا تدري، فقبح الله الجهل بما أنزله ولا سيما إذا جعله صاحبه شرعاً وديناً له وللمسلمين فإنه طاغوت عند التحقيق، وإن ستر من التلبيس بستر رقيق.
فيا أيها المقلد أخبرنا أي القضاة أنت من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار " (١) أخرجه أبو داود وابن ماجة عن بريدة.
فبالله عليك هل قضيت بالحق وأنت تعلم أنه الحق؟ إن قلت نعم، فأنت وسائر أهل العلم يشهدون بأنك كاذب لأنك معترف بأنك لا تعلم ما الحق، وكذلك سائر الناس يحكمون عليك بهذا من غير فرق بين مجتهد ومقلد، وإن قلت بل قضيت بما قاله إمامي، ولا تدري أحق هو أم باطل كما هو شأن كل مقلد على وجه الأرض، فأنت بإقرارك هذا أحد رجلين إما قضيت بالحق ولا تعلم أنه الحق أو قضيت بغير الحق لأن ذلك الحكم الذي
_________
(١) أبو داود الباب الثاني من كتاب الأقضية.
وهذا ما أظن يتردد فيه أحد من أهل الفهم لأمرين (أحدهما) أن النبي ﷺ قد جعل القضاة ثلاثة وبين صفة كل واحد منهم ببيان يفهمه المقصر والكامل، والعالم والجاهل (الثاني) أن المقلد لا يدعي أنه يعلم ما هو حق من كلام إمامه وما هو باطل، بل يقر على نفسه أنه يقبل قول الغير ولا يطالبه بحجة، وأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته، فأفاد هذا أنه حكم بشيء لا يدري ما هو، فإن وافق الحق فهو قضى بالحق ولا يدري أنه الحق، وإن لم يوافق الحق فهو قضى بغير الحق، وهذان هما القاضيان اللذان في النار، فالقاضي المقلد على كل حال يتقلب في نار جهنم كما قال قائل.
خذا بطن هرشي أوقفاها فإنما | كلا جانبي هرشي لهن طريق (١) |
فيا أيها القاضي المقلد، ما الذي أوقعك في هذه الورطة وألجأك إلى هذه العهدة التي صرت فيها على كل حال من أهل النار إذا دمت على قضائك ولم تتب فإن أهل المعاصي والبطالة على اختلاف أنواعهم، هم أرجى لله منك وأخوف له لأنهم على عزم التوبة والإقلاع، ويلومون أنفسهم على ما فرط منها بخلاف هذا القاضي المسكين فإنه ربما دعا الله في خلواته وبعد صلواته أن يديم عليه تلك العهدة ويحرسها عن الزوال حتى لا يتمكنوا من فصله ولا يقدروا على عزله، وقد يبذل في استمراره على ذلك نفائس الأموال ويدفع الرشا والبراطيل لمن كان له في أمره مدخل، فيجمع بهذا الافتعال بين خسران
_________
(١) هرشي ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها البحر ولها طريقان فكل من سلكها كان مصيباً إهـ تاج اللغات.
والآيات الكريمة في هذا المبنى والأحاديث الصحيحة في هذا المعنى كثيرة جداً، ولو لم تكن من الزواجر عن هذا إلا هذه الآية وهذا الحديث المتقدم لكفت، فالمقلد لا يصلح للقضاء وإنما يصح قضاء من كان مجتهداً متورعاً عن أموال الناس، عادلاً في القضية حاكماً بالسوية، ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك، ومن كان متأهلاً للقضاء فهو على خطر عظيم وله مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهداً في البحث.
ويحرم عليه الرشوة والهدية التي أهديت إليه لأجل كونه قاضياً، ولا يجوز له الحكم حال الغضب، وعليه التسوية بين الخصمين إلا إذا كان أحدهما كافراً، والسماع منهما قبل القضاء وتسهيل الحجاب بحسب الإمكان، ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة والشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح، وحكمه ينفذ ظاهراً فقط، فمن قضي له بشيء فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقاً للواقع، هذا ما ذكره الشوكاني في (القول المفيد) والمختصر المسمى (الدرر البهية).
فإن قلت إذا كان المقلد لا يصلح للقضاء ولا يحل له أن يتولى ذلك ولا لغيره أن يوليه، فما تقول في المفتي المقلد؟.
قال: إن كنت تسأل عن القيل والقال ومذاهب الرجال فالكلام في شروط المفتي وما يعتبر فيه مبسوط في كتب الأصول والفقه، وقد أوضحها الشوكاني في إرشاد الفحول ونيل الأوطار، والحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في أعلام الموقعين عن رب العالمين بما يشفي العليل، ويروي الغليل، فإن شئت الاطلاع والاستيفاء فارجع إلى هذه الكتب يتضح لك الحق من الباطل، والخطأ من الصواب ولا تكن من الممترين.
(وكتبنا عليهم فيها أن النفس) تقتل (بالنفس) إذا قتلتها (والعين) تفقأ (بالعين) (والأنف) يجدع (بالأنف) (والأذن) تقطع (بالأذن) (والسن) تقلع (بالسن) معطوف على أنزلنا التوراة.
بيَّن الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه على بني إسرائيل من القصاص في النفس والعين والأنف والأذن والسن والجروح، وقد استدل أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا: إنه يقتل المسلم بالذمي لأنه نفس، وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا، وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى: (كتب عليكم القصاص في القتل) ما فيه كفاية.
وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق، وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه.
قال ابن كثير في تفسيره: وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة انتهى، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في هذا في شرحه على المنتقى.
وفي هذه الآية توبيخ لليهود وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه، وقد كانوا
والظاهر من النظم القرآني أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيها مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها، والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها، والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها، وكذلك السن.
فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين أو ببعض الأنف أو ببعض الأذن أو ببعض السن فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته وكلامهم مدون في كتب الفروع.
والظاهر من قوله: (والسن بالسن) أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب، والأضراس والرباعيات وأنه يؤخذ بعضها ببعض، ولا فضل لبعضها على بعض وإليه ذهب أكثر أهل العلم كما قال ابن المنذر، وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه كلامهم مدون في مواطنه، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه، فإذا كانت ذاهبة فما يليها.
(والجروح) يشمل الأطراف (قصاص) أي ذوات قصاص فيما يمكن أن يقتص منه وإلا فحكومة عدل، وهذا تعميم بعد التخصيص، وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقاً أو طولاً أو عرضاً.
_________
(١) أي إذا وقع اعتداء على بني النضير من بني قريظة -وكلاهما يهود- أخذوا القود -الدية- من بني قريظة، أما أذا وقع الاعتداء من بني النضير على بني قريظة فلا قود ولا دية.
واختار الأول ابن الحاجب وهو الحق، وذهب الأشاعرة والمعتزلة إلى المنع من ذلك وهو اختيار الآمدي وقد أوضحنا هذا في كتابنا حصول الأمول.
(فمن تصدق) من المستحقين للقصاص (به) أي بالقصاص بأن عفا عن الجاني ولم يقتص منه (فهو كفارة له) أي للمتصدق يكفر الله عنه بها ذنوبه، وهذا قول ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن.
ويدل له ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة " (١) وعن أنس: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو وأخرجه أبو داود والنسائي.
وقيل: إن المعنى فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة، وبه قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه، والأول أرجح لأن الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور.
قال الحافظ ابن القيم: والتحقيق أن القاتل يتعلق به ثلاثة حقوق، حق لله تعالى، وحق للمقتول، وحق للولي، فإذا أسلم القاتل نفسه طوعاً واختياراً
_________
(١) الترمذي الباب الخامس من كتاب الديات.
وأما لو سلّم القاتل نفسه اختياراً من غير ندم ولا توبة أو قتل كرهاً فيسقط حق الوارث فقط ويبقى حق الله تعالى لأنه لا يسقطه إلا التوبة كما علمت، ويبقى حق المقتول أيضاً لأنه لم يصل له شيء من القاتل ويطالبه به في الآخرة، ولا يقال يعوضه الله عنه مثل ما تقدم لأنه لم يسلم نفسه تائباً، تأمل قاله سليمان الجمل، وعبارة الرملي على المنهاج: وبالقود أو العفو أو أخذ الدية لا تبقى مطالبة أخروية.
(ومن لم يحكم بما أنزل الله) قيل نزلت هذه الآية حين اصطلحوا على أن لا يقتل الشريف بالوضيع ولا الرجل بالمرأة (فأولئك هم الظالمون) ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية، وذكر الظلم هنا مناسب لأنه جاء عقب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجرح فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية فيه.
وهذه الآية من الأدلة على اشتراط الاجتهاد فإنه لا يحكم بما أنزل الله إلا من عرف التنزيل والتأويل.
ومما يدل على ذلك حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه إلى اليمن يعني قاضياً قال " أي امتحاناً له ": كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله قال: فبسنة رسول الله - ﷺ -، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله - ﷺ -، قال: أجتهد رأيي ولا آلو -أي لا أقصر في الاجتهاد والتحري للصواب- قال أي الراوي.
فضرب رسول الله - ﷺ - على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله
ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتاباً " ولا سنة " ولا رأي له بل لا يدري بأن الحكم موجود في الكتاب والسنة فيقضي، أو ليس بموجود فيجتهد رأيه، فإذا ادعى المقلد أنه يحكم برأيه فهو يعلم أنه يكذب على نفسه لاعترافه بأنه لا يعرف كتاباً ولا سنة، فإذا زعم أنه حكم برأيه فقد أقر على نفسه بأنه حكم بالطاغوت.
وقد سئل القاضي الشوكاني هل الراجح جواز قضاء المقلد أم لا فأجاب بما لفظه:
" الأوامر القرآنية ليس فيها إلا أمر الحاكم بأن يحكم بالعدل والحق وما أنزل الله وما أراه الله، ومن المعلوم لكل عارف أنه لا يعرف هذه الأمور إلا من كان مجتهداً إذ المقلد إنما هو قابل قول الغير دون حجة، وليس الطريق إلى العلم بكون الشيء حقاً أو عدلاً إلا الحجة، والمقلد لا يعقل الحجة إذا جاءته فكيف يهتدي للاحتجاج بها، وهكذا لا علم عنده بما أنزل الله إنما عنده علم بقول من قلده، فلو فرض أنه يعلم بما أنزل الله وما جاء عن رسول الله - ﷺ - علماً صحيحاً لم يكن مقلداً بل هو مجتهد ".
وهكذا لا نظر للمقلد فإن حكم بشيء فهو لم يحكم بما أراه الله بل بما أراه إمامه ولا يدري أذلك القول الذي قاله إمامه موافق للحق أم مخالف له.
وبالجملة فالقاضي هو من يقضي بين المسلمين بما جاء عن الشارع كما جاء في حديث معاذ المتقدم، وهذا الحديث وإن كان فيه مقال فقد جمع طرقه
_________
(١) أبو داود الباب ١١ من كتاب الأقضية- أحمد بن حنبل ٥/ ٢٢٠ - ٢٢٦.
وقد دل هذا الحديث على أنه يجب على القاضي أن يقدم القضاء بكتاب الله تعالى، ثم إذا لم يجد فيه قضى بسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إذا لم يجد فيها اجتهد رأيه.
والمقلد لا يتمكن من القضاء بما في كتاب الله سبحانه لأنه لا يعرف الاستدلال ولا كيفيته، ولا يمكنه القضاء بما في سنة رسول الله - ﷺ - لذلك، ولأنه لا يميز بين الصحيح والموضوع والضعيف المعلل بأي علّة، ولا يعرف الأسباب ولا يدري بالمتقدم والمتأخر، والعام والخاص والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ، بل لا يعرف مفاهيم هذه الألفاظ ولا يتعقل معانيها فضلاً عن أن يتمكن من أن يعرف اتصاف الدليل بشيء منها.
وبالجملة فالمقلد إذا قال: صح عندي فلا عند له، وإن قال: صح شرعاً فهو لا يدري ما هو الشرع، وغاية ما يمكنه أن يقول صح هذا من قول فلان وهو لا يدري هل هو صحيح في نفس الأمر أم لا، فهو لا ريب أحد قضاة النار لأنه إما أن يصادف حكمه الحق فهو حكم بالحق ولا يعلم أنه الحق، أو يحكم بالباطل وهو لا يعلم أنه باطل وكلا الرجلين في النار كما ورد بذلك النص من المختار.
وأما قاضي الجنة فهو الذي يحكم بالحق ويعلم أنه الحق ولا شك أن من يعلم بالحق فهو مجتهد لا مقلد، هذا يعرفه كل عارف.
فإن قال المقلد: إنه يعلم أن ما حكم به من قول إمامه حق لأن كل
وإذا كان ذلك من الصواب لا من الإصابة فلا يستفاد من المسألة ما تزعمه من كونه مذهب إمامك حقاً فإنه لا ينافي الخطأ، ولهذا صح عنه - ﷺ - أنه قال: " إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر واحد " (١)، أخرجه الشيخان عن أبي هريرة وابن عمرو.
وهذا لا يخفى إلا على أعمى، وإذا لم تتعقل الفرق بين الصواب والإصابة فاستر نفسك بالسكوت ودع عنك الكلام في المباحث العلمية، وتعلم ممن يعلم حتى تذوق حلاوة العلم، فهذا حاصل ما لدي في هذه المسألة وإن كانت طويلة الذيل والخلاف فيها مدون في الأصول والفروع، ولكن السائل لم يسأل عن أقوال الرجال إنما سأل عن تحقيق الحق انتهى بكلامه في إرشاد السائل إلى دليل السائل ".
وقد حققنا ذلك المقام في كتابنا (الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة) وكشفنا القناع عن وجه التقليد والإتباع فارجع إليه، وعوّل في معرفة الحق عليه، وبالله التوفيق وهو المستعان.
_________
(١) مسلم ١٧١٦.
(برسلنا) يقال قفيته مثل عقبته إذا اتبعته، ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به فيتعدى إلى الثاني بالباء؛ والمفعول الأول محذوف استغناء عنه بالظرف وهو على آثارهم؛ لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه.
(مصدقاً لما بين يديه من التوراة) وهي حال مؤكد قاله ابن عطية (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور) أي أن الإنجيل أوتيه عيسى حال كونه مشتملاً على الهدى من الجهالة والنور من عمى البصيرة.
(ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة) أي مصدقاً وهادياً وواعظاً (للمتقين) وهذا ليس بتكرار للأول لأن في الأول إخباراً بأن عيسى مصدق لما بين يديه من التوراة، وفي الثاني إخبار بأن الإنجيل مصدق للتوراة فظهر الفرق بينهما، وإنما خص المتقين بالذكر لأنهم الذين ينتفعون بالمواعظ.
قرىء بنصب الفعل من (ليحكم) على أن اللام لام كي، ويجزمه على أن اللام للأمر، فعلى الأول تكون اللام متعلقة بقوله وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وعلى الثانية هو كلام مستأنف، قال مكي: والاختيار الجزم لأن الجماعة عليه، ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل، وقال النحاس: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان لأن الله تعالى لم ينزل كتاباً إلا ليُعمل بما فيه.
(ومن لم يحكم بما أنزل الله) أي بما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا) ولقوله - ﷺ - " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " (١)، رواه أبو داود والدارمي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب (فأولئك هم الفاسقون) الخارجون عن الطاعة، وذكر الفسق هنا مناسب لأنه خروج عن أمر الله إذ تقدمه قوله: (وليحكم أهل الإنجيل) وهو أمر، قاله أبو حيان.
وفي هذه الآية والآيتين المتقدمتين من الوعيد والتهديد ما لا يقادر قدره، وقد تقدم أن هذه الآيات وإن نزلت في أهل الكتاب فليست مختصة بهم بل هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويدخل فيه السبب دخولاً أولياً، وفيها دلالة على اشتراط الاجتهاد في القضية وإشارة إلى ترك الحكم بالتقليد.
فإن قلت إذا كان التخاصم ببلدة لا يوجد فيها مجتهد هل يجوز للخصمين الترافع إلى من بها من القضاة المقلدين؟.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٢٦٤٠.
في الحقيقة هو محكّم لا حاكم، وقد ثبت التحكيم في هذه الشريعة المطهرة كما جاء ذلك في القرآن الكريم في شأن الزوجين، وأنه يوكل الأمر إلى حكم من أهل الزوج وحكم من أهل المرأة وكما في قوله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) وكما وقع في زمن النبوة والصحابة في غير قضية ومن لم يجد ماء تيمم بالتراب، والعور خير من العمى.
ولا يغتر العاقل بما يزخرفه المقلدون ويموهون به على العامة من تعظيم شأن من يقلدونه ونشر فضائله ومناقبه، والموازنة بينه وبين من يبلغ رتبة الاجتهاد في عصر هؤلاء المقلدين، فإن هذا خروج عن محل النزاع ومغالطة قبيحة، وما أسرع نفاقها (١) عند العامة لأن أفهامهم قاصرة عن إدراك الحقائق والحق عندهم يعرف بالرجال، وللأموات في صدورهم جلالة وفخامة، وطباع المقلدين قريبة من طبائعهم، فهم إلى قبول أقوالهم أقرب منهم إلى قبول أقوال العلماء المجتهدين، لأن المجتهدين قد باينوا العامة وارتفعوا إلى رتبة تضيق أذهان العامة عن تصورها.
فإذا قال المقلد مثلاً: أنا أحكم بمذهب الشافعي وهو أعلم من هذا المجتهد المعاصر لي وأعرف بالحق منه، كان العامة إلى تصديق هذه المقالة
_________
(١) رواجها.
فإذا قال المجتهد مجيباً على ذلك المقلد: إن محل النزاع هو الموازنة بيني وبينك لا بيني وبين الشافعي، فإني أعرف العدل والحق وما أنزل الله وأجتهد رأيي إذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله نصاً، وأنت لا تعرف شيئاً من ذلك ولا تقدر على أن تجتهد رأيك إذ لا رأي لك ولا اجتهاد لأن اجتهاد الرأي هو إرجاع الحكم إلى الكتاب والسنة بالمقايسة أو بعلاقة يسوغها الاجتهاد، وأنت لا تعرف كتاباً ولا سنة فضلاً أن تعرف كيفية الإرجاع إليهما بوجوه مقبولة، كان هذا الجواب الذي أجابه المجتهد مع كونه حقاً بحتاً، بعيداً عن أن يفهمه العامة أو تذعن لصاحبه.
ولهذا ترى في هذه الأزمان الغريبة الشأن ما ينقله المقلد عن إمامه أوقع في النفوس مما ينقله المجتهد من كتاب الله وسنة رسوله - ﷺ - وإن جاء من ذلك بالكثير الطيب.
وقد رأينا وسمعنا ما لا يشك فيه أن من علامات القيامة على أن كثيراً من المقلدين قد ينقل في حكمه أو فتواه عن مقلد مثله قد صار تحت أطباق الثرى وإمامه منه براء فيجول ويصول وينسب ذلك إلى مذهب الإمام، وينسب من يأتي بما يخالفه من كتاب أو سنة إلا الابتداع ومخالفة المذهب ومباينة أهل العلم، وهو لو ارتفعت رتبته عن هذا الحضيض قليلاً لعلم أنه المخالف لإمامه لا الموافق له.
ومن كان بهذه المنزلة فهو صاحب الجهل المركب الذي لا يستحق أنه يخاطب، بل على كل صاحب علم أن يرفع نفسه عن مجادلته ويصون شأنه عن مقاولته إلا أن يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، وبالله التوفيق.
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب) خطاب لمحمد - ﷺ -، والكتاب القرآن والتعريف للعهد والتعريف في الكتاب الثاني للجنس أي أنزلنا إليك يا محمد القرآن حال كونه متلبساً بالحق، وحال كونه مصدقا لما بين يديه من كتب الله المنزّلة لكونه مشتملاً على الدعوة إلى الله والأمر بالخير والنهي عن الشر، كما اشتملت عليه.
وأما ما يتراءى من مخالفته في بعض جزئيات الأحكام المتغيرة بسبب تغير الأعصار، فليس بمخالفة في الحقيقة، بل هي موافقة لها من حيث أن كلاًّ من تلك الأحكام حق بالإضافة إلى عصره، متضمن للحكمة التي يدور عليها أمر الشريعة، وليس في المتقدم دلالة على أبدية أحكامه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخر، وإنما يدل على مشروعيتها مطلقاً من غير تعرض لبقائها وزوالها بل نقول هو ناطق بزوالها لما أن النطق بصحة ما ينسخها نطق بنسخها وزوالها.
(ومهيمناً علي) الضمير عائد إلى الكتاب الذي صدقه القرآن وهيمن عليه، والمهيمن الرقيب، وقيل الغالب المرتفع، وقيل الشاهد، وقيل الحافظ، وقيل المؤتمن.
قال المبرد: أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء كما قيل في أرقت الماء هرقت وبه قال الزجاج وأبو علي الفارسي، ، قال الجوهري: هو من آمن غيره
وقرأ مجاهد وابن محيصن مهيمناً بفتح الميم أي هيمن عليه الله سبحانه، والمعنى على قراءة الجمهور أن القرآن صار شاهداً بصحة الكتب المنزلة ومقرراً لا فيها مما لم ينسخ، وناسخاً لا خالفه منها، ورقيباً عليها وحافظاً لا فيها من أصول الشرائع، وغالباً لها لكونه المرجع في الحكم منها والمنسوخ، ومؤتمناً عليها لكونه مشتملاً على ما هو معمول به منها وما هو متروك.
(فاحكم بينهم) أي بين أهل الكتاب عند تحاكمهم إليك، وتقديم بينهم للاعتناء ببيان تعميم الحكم لهم (بما أنزل الله) أي بما أنزله إليك في القرآن لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لتربية الهابة والإشعار بعلة الحكم.
(ولا تتبع أهواءهم) أي أهواء أهل الملل السابقة، وقال ابن عباس: لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن (عما جاءك من الحق) أي لا تعدل أو لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً لأهوائهم أو لا تتبع أهواءهم عادلاً أو منحرفاً عن الحق.
وفيه النهي له صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا عليه سلفهم وإن كان باطلاً منسوخاً أو محرفاً عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء كما وقع في الرجم وغيره مما حرفوه من كتب الله، والخطاب وإن كان للنبي ﷺ لكن المراد به غيره لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتبع أهواءهم.
(لكل جعلنا منكم) الخطاب للأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليهم أجمعين، أو للناس كافة لكن للموجودين خاصة بل للماضين أيضاً بطريق التغليب على وجه التلوين والالتفات.
ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن، وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به - ﷺ - قال ابن عباس في الآية: سنة وسبيلاً، وقال قتادة سبيلاً وسنة، وقد وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء وعلى حصول التباين بينهم، والجمع بينها أن الأولى في أصول الدين، والثانية في فروعه وما يتعلق بظاهر العبادات والله أعلم.
(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) بشريعة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل (ولكن ليبلوكم) أي ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد بل شاء الابتلاء لكم باختلاف الشرائع فيكون ليبلوكم متعلقاً بمحذوف دل عليه سياق الكلام.
(فيما آتاكم) أي فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والرسل هل تعملون بذلك وتذعنون له أو تتركوه وتخالفون ما اقتضته مشيئة الله وحكمته، وتميلون إلى الهوى، وتشترون الضلالة بالهدى وفيه دليل على اختلاف الشرائع هو لهذه العلة، أعني الابتلاء والامتحان لا لكون مصالح العباد مختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص.
(فاستبقوا الخيرات) أي إذا كانت المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع فاستبقوا إلى فعل ما أمركم بفعله وترك ما أمركم بتركه أي فابتدروها انتهازاً للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم، والاستباق المسارعة.
(إلى الله) لا إلى غيره (مرجعكم جميعاً) وهذه الجملة كالعلّة لما قبلها.
(فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) من أمر الدين والدنيا فيفصل بين المحق والمبطل والطائع والعاصي بالثواب والعقاب.
(ولا تتّبع أهواءهم) أي فيما أمروك به، وليس في هذه الآية تكرار لما تقدم وإنما أنزلت في حكمين مختلفين، أما الآية الأولى فنزلت في شأن رجم المحصن، وأن اليهود طلبوا منه أن يجلده، وهذه الآية نزلت في شأن الدماء والديات حين تحاكموا إليه في أمر قتيل كان بينهم.
(واحذرهم أن يفتنوك) أي يضلوك ويصرفوك بسبب أهوائهم التي يريدون منك أن تعمل عليها وتؤثرها (عن بعض ما أنزل الله إليك) ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق (فإن تولوا) أي إن أعرضوا عن قبول حكمك بما أنزل الله عليك وأرادوا غيره.
(فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم) بالعقوبة في الدنيا (ببعض ذنوبهم) وهو ذنب التولي عنك والإعراض عما جئت به، وإنما عبر بذلك إيذاناً بأن لهم ذنوباً كثيرة، هذا مع كمال عظمة واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي (وإن كثيراً من الناس لفاسقون) متمردون عن قبول الحق خارجون عن الإنصاف.
والاستفهام في (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) للإنكار أيضاً أي لا يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله أو مساوٍ له عند أهل اليقين لا عند أهل الجهل والاهواء، وان كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها.
ويؤيد هذا قوله: (فترى الذين في قلوبهم مرض) والاعتبار بعموم اللفظ قال ابن عباس أسلم عبد الله بن أبي بن سلول ثم قال: إن بيني وبين قريظة حلفاً وإني أخاف الدوائر فارتد كافراً، وقال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله فنزلت، وبهذا يتضح المراد، والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادقة والمعاشرة والمناصرة.
(بعضهم أولياء بعض) المعنى أن بعض اليهود أولياء للبعض الآخر منهم وبعض النصارى أولياء للبعض الآخر منهم، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى، والبعض الآخر الطائفة الأخرى، للقطع بأنهم في غاية من والعداوة والشقاق، وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت
وقيل المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعداوة ما جاء به وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين.
ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال:
(ومن يتولهم منكم) أي ومن يتولى اليهود والنصارى دون المؤمنين (فإنه منهم) أي فإنه من جملتهم وفي عدادهم لأنه لا يوالي أحد أحداً إلا وهو عنه راض، فإذا رضي عنه رضي دينه فصار من أهل ملته، وهو وعيد شديد، فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية.
قال أبو السعود: وفيه زجر شديد للمؤمنين عن إظهار صورة الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة انتهى، وهذا تعليم من الله تعالى وتشديد عظيم في مجانبة اليهود والنصارى وكل من خالف دين الإسلام وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(إن الله لا يهدي القوم الظالين) تعليل للجملة التي قبلها أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين، قال حذيفة: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر وتلا هذه الآية.
وعن أبي موسى قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن لي كاتباً نصرانياً فقال: مالك وله قاتلك الله، ألا اتخذت حنيفاً يعني مسلماً، أما سمعت قول الله وتلا هذه الآية، قلت: له دينه ولي كتابته، فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله، قلت: إنه لا يتم أمر البصرة إلا به فقال: مات النصراني والسلام، يعني هب أنه مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن، واستغن عنه بغيره من المسلمين.
وقرئ فيرى بالتحتية، واختلف في فاعله ما هو فقيل هو الله عز وجل وقيل هو كل من يصلح منه الرؤية وقيل هو الموصول أي فيرى القوم الذين (يسارعون فيهم) أي في مودة اليهود والنصارى وموالاتهم ومناصحتهم، لأنهم كانوا أهل ثروة ويسار يخالطونهم ويغشونهم لأجل ذلك نزلت في ابن أُبَيّ المنافق وأصحابه، وجعل المسارعة في موالاتهم مسارعة فيهم للمبالغة في بيان رغبتهم في ذلك حتى كأنهم مستقرون فيهم داخلون في عدادهم.
(يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) جملة مشتملة على تعليل المسارعة في الموالاة أي أن هذه الخشية هي الحاملة لهم على المسارعة، والدائرة ما يدور من مكابرة الدهر ودوائره كالدولة التي تزول، أي يقول المنافقون إنما نخالط اليهود لأنا نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه وهو الهزيمة في الحرب والقحط والجدب والحوادث المخوفة.
قال ابن عباس: نخشى أن لا يتم أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيدور علينا الأمر كما كان قبل محمد، يعني نخشى أن يظفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فتكون الدولة لهم وتبطل دولته فيصيبنا منهم مكروه، وفرّق الراغب بين الدائرة والدولة بأن الدائرة هي الخط المحيط ثم عبر بها عن
(فعسى الله أن يأتي بالفتح) رد عليهم ودفع لما وقع لهم من الخشية، وعسى في كلام الله سبحانه وعد صادق لا يتخلف، والفتح ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكافرين، ومنه ما وقع من قتل مقاتلة بني قريظة وسبى ذراريهم وإجلاء بني النضير، وقيل هو فتح بلاد المشركين على المسلمين وقيل فتح مكة.
(أو أمر من عنده) هو كل ما تندفع به صولة اليهود ومن معهم وتنكسر به شوكتهم وقيل هو إظهار أمر المنافقين وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أسروا في أنفسهم، وأمره بقتلهم، وقيل هو الجزية التي جعلها الله عليهم وقيل الخصب والسعة للمسلمين.
(فيصبحوا) أي المنافقون (على ما أسرّوا في أنفسهم) من النفاق الحامل لهم على الموالاة (نادمين) على ذلك لبطلان الأسباب التي تخيلوها وانكشاف خلافها.
(حبطت أعمالهم) أي بطلت، وهو من تمام قول المؤمنين، واستظهره أبو حيان وبه قال الزمخشري أو جملة مستأنفة والقائل هو الله سبحانه والأعمال هي التي عملوها في الموالاة أو كل عمل يعملونه، وعليه جمهور المفسرين (فأصبحوا خاسرين) في الدنيا بافتضاحهم، وفي الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم.
وارتد سبع فرق في خلافة أبي بكر الصديق وهم فزارة قوم عيينه بن حصن الفزاري، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاة ابن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن بريدة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر، وكندة قوم الأشعث بن قيس الكندي، وبنو بكر بن وائل قوم الخطمي ابن يزيد، فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق، وفرقة واحدة ارتدت في زمن خلافة عمر بن الخطاب وهم غسّان قوم جبلة بن الأيْهَم، فكفى الله أمرهم على يد عمر رضي الله عنه.
(فسوف يأتي الله بقوم) المراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردة، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين في جميع الزمن، قال بعض الصحابة ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة.
ولما هَمَّ أبو بكر بقتالهم كره ذلك بعض الصحابة وقال بعضهم هم أهل
وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: تليت عند النبي - ﷺ - هذه الآية فقال النبي - ﷺ - قومك يا أبا موسى أهل اليمن، وفي الباب روايات (١).
وأخرج البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله - ﷺ - عن قول (فسوف يأتي الله بقوم) الآية فقال: هؤلاء قوم من أهل اليمن ثم كندة ثم السكون ثم تجيب (٢).
وعن ابن عباس هم أهل القادسية، وقال السدي نزلت في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعانوه على إظهار الدين، والأول أولى.
ثم وصف الله سبحانه هؤلاء القوم بالأوصاف العظيمة المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء فقال: (يحبهم ويحبونه) من كونهم (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) وهذه من صفات الذين اصطفاهم الله يعني أنهم أرقاء رحماء لأهل دينهم، أشداء أقوياء غلظاء على أعدائهم، قاله علي، قال ابن عباس: تراهم كالولد لوالده وكالعبد لسيده، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته.
قال ابن الأنباري: أثنى الله عليهم بأنهم يتواضعون للمؤمنين إذا لقوهم، ويعنفون الكافرين إذا لقوهم، ولم يرد ذل الهوان بل الشفقة والرحمة، وإنما أتى بلفظة (على) ليدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم، والأذلة جمع
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٧٠.
(٢) ابن كثير ٢/ ٧٠.
(يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) عذل عاذل في نصرهم الدين أي يجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين وقلب محاسنهم مساوئ ومناقبهم مثالب حسداً وبغضاً وكراهة للحق وأهله.
والإشارة بقوله: (ذلك) إلى ما تقدم من الصفات التي اختصهم الله بها (فضل الله) أي لطفه وإحسانه (يؤتيه من يشاء والله واسع) الفضل وكثير الفضائل (عليم) بمن هو أهلها.
قلت: لما فرغ سبحانه من بيان من لا تحل موالاته بيَّن من هو الولي الذي تجب موالاته، والمراد بالركوع الخشوع والخضوع أي وهم خاشعون خاضعون لا يتكبرون، وقيل يضعون الزكاة في مواضعها غير متكبرين على الفقراء ولا مترفعين عليهم، وقيل المراد بالركوع على المعنى الثاني ركوع الصلاة، ويدفعه عدم جواز إخراج الزكاة في تلك الحال.
وعد الله سبحانه من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا بأنهم الغالبون لعدوهم، والحزب الصنف من الناس من قولهم حزبه كذا أي نابه، فكأن المتحزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة التي تنوب، وحزب الرجل أصحابه، والحزب الورد، وفي الحديث " فمن فاته حزبه من الليل " وتحزبوا اجتمعوا، والأحزاب الطوائف.
وقد وقع ولله الحمد ما وعد الله به أولياءه وأولياء رسله وأولياء عباده المؤمنين من الغلب لعدوهم فإنهم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية حتى صاروا لعنهم الله أذل الطوائف الكفرية وأقلها شوكة، وما زالوا تحت كلكل المؤمنين يطحنونهم كيف شاؤوا يمتهنونهم كما يريدون من بعد البعثة الشريفة المحمدية إلى هذه الغاية.
والبيان بقوله: (من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة التي هي الباعثة على النهي (والكفار) المشركين أو المنافقين (أولياء) أي أنصاراً لكم في الدين والدنيا (واتقوا الله) بترك موالاتهم وترك ما نهاكم عنه من هذا وغيره (إن كنتم مؤمنين) فإن الإيمان يقتضي ذلك.
(اتخذوها هزواً ولعباً) أي اتخذوا صلاتكم وقيل الضمير للمناداة المدلول عليها بناديتم.
قيل: وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذا الموضع، وأما قوله تعالى في سورة الجمعة إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فهو خاص بنداء الجمعة، وقد اختلف أهل العلم في كون الأذان واجباً أو غير واجب، وفي ألفاظه هو مبسوط في مواطنه (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) الباء للسببية لأن الهزو واللعب شأن أهل السفه والخفة والطيش.
في الصحاح ما نقمت منه إلا الإحسان، وقال الكسائي: نقمت بالكسر لغة، ونقمت الأمر أيضاً ونقمته إذا كرهته، وانتقم الله منه أي عاقبه، والاسم منه النقمة والجمع نقمات ونقم مثل كلمة وكلمات وكلم، وإن شئت سكّنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت نقمة والجمع نقم مثل نعمة ونعم، وقيل المعنى تسخطون وقيل تنكرون أي هل تعيبون أو تسخطون أو تنكرون أو تكرهون منا.
(إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل) أي إلا ايماننا بالله وبكتبه المنزّلة وقد علمتم بأنّا على الحق، وهذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب، والاستثناء مفرغ أي ليس هذا مما ينكر أو ينقم به.
(وإن أكثركم فاسقون) بترككم للإيمان، والخروج عن امتثال أوامر الله أي ما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان.
وفيه أن المؤمنين لم يجمعوا بين الأمرين المذكورين، فإن الإيمان من جهتهم، والتمرد والخروج من الناقمين، وقيل هو على تقدير محذوف أي واعتقادنا أن أكثركم فاسقون وقيل غير ذلك.
تم الجزء الثالث بفضل الله ونعمته ويليه الجزء الرابع وأوله تفسير آيه ٦٠ من سورة المائدة وتبدأ بقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٦٠)
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الرابع
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدأ من قوله تعالى سورة المائدة آية ٦٠.إلى قوله تعالى:
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) سورة الأعراف: ١٤١
(مثوبة عند الله) أي جزاء ثابتاً وهي مختصة بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر، ووضعت هنا موضع العقوبة على طريقة (فبشرهم بعذاب أليم) وهي منصوبة على التمييز من بشر (من لعنه الله) أي هو لعن من لعنه الله أو هو دين من لعنه الله (وغضب عليه) أي: انتقم منه لأن الغضب إرادة الإنتقام من العصاة.
(وجعل منهم القردة والخنازير) أي مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير وهم اليهود فإن الله مسخ أصحاب السبت قردة، وكفار مائدة عيسى منهم خنازير (١)، وقال ابن عباس إن الممسوخين كلاهما أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير (وعبد الطاغوت) أي: جعل منهم عبد الطاغوت بإضافة عبد إلى الطاغوت، والمعنى وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت، لأن فعل من صيغ البالغة كحذر وفطن للتبليغ في الحذر والفطنة، وقرئ على أن عبد فعل ماض معطوف على غضب ولعن كأنه
_________
(١) رواه مسلم ٤/ ٢٠٥١ وأحمد ٥/ ٢٦٠.
(والعدوان) هو الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في الذنوب (وأكلهم السّحت) هو الحرام، فعلى قول من فسر الإثم بالحرام يكون تكريره للمبالغة (لبئس ما كانوا يعملون) من المسارعة إلى الإثم والعدوان وأكل السحت وهو الرشا وما كانوا يأكلونه من غير وجهه.
وهذا فيه زيادة على قوله (لبئس ما كانوا يعملون) لأن العمل لا يبلغ درجة الصنع حتى يتدرب فيه صاحبه، ولهذا تقول العرب سيف صنيع إذا جوّد عامله عمله فالصنع هو العمل الجيد لا مطلق العمل، فوبخ سبحانه الخاصة وهم العلماء التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعلي المعاصي.
وقرأ ابن مسعود عبدوا الطاغوت حملاً على معناها، وقرأ ابن عباس عبد كأنه جمع عبد كما يقال سقف وسقف، ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف أو جمع عابد كبازل وبزل، وقرئ عبّاد جمع عابد للمبالغة كعامل وعمال، وقرئ عُبِد على البناء للمفعول، والتقدير: وعبد الطاغوت فيهم، وقرئ عابد الطاغوت على التوحيد، وقريء عبدة وأعبد الطاغوت مثل كلب وأكلب، وقرئ وعبد عطفاً على الموصول، وهي قراءة ضعيفة جداً.
وجملة القراآت في هذه الآية أربع وعشرون منها اثنتان سبعيتان والباقية شاذة ذكرها السمين، والطاغوت: الشيطان أو الكهنة أو العجل أو الأحبار أو غيرها مما تقدم مستوفى، وجملته: أن كل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده وهو الطاغوت.
(أولئك) أي الموصوفون بالصفات المتقدمة و (شر) هنا على بابه من التفضيل، والمفضل عليه فيه احتمالان (أحدهما) أنهم المؤمنون (والثاني) أنهم طائفة من الكفار.
و (مكاناً) تمييز لأن مأواهم النار وجعلت الشّرارة للمكان وهي لأهله للمبالغة، ويجوز أن يكون الإسناد مجازياً (وأضل عن سواء السبيل) أي: هم أضل من غيرهم عن الطريق المستقيم، قيل: التفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً أو لكونهم أشر وأضل ممن يشاركهم في أصل الشرارة والضلال.
(وإذا جاءوكم) أي منافقو اليهود (قالوا آمنا) أي: أظهروا الإسلام (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) جملتان حاليتان أي: جاءوكم حال كونهم قد دخلوا عندك متلبسين بالكفر وخرجوا من عندك متلبسين به، لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك بل خرجوا كما دخلوا.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم وأعنّا على ذلك وقوّنا عليه، ويسره لنا وانصرنا على من تعدى حدودك وظلم عبادك أنه لا ناصر لنا سواك ولا مستعان غيرك يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، وقد وردت أحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا حاجة لنا في بسطها هنا.
ففي الآية أيضاً ذم لعلماء المسلمين على توانيهم في النهي عن المنكرات، ولذلك قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية، وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، وفيه دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأن الله تعالى ذم الفريقين في هذه الآية.
(وقالت اليهود يد الله مغلولة) أي مقبوضة عن إدرار الرزق علينا، كنوا به عن البخل، تعالى الله عن ذلك، واليد عند العرب تطلق على الجارحة ومنه قوله تعالى: (وخذ بيدك ضغثاً) وعلى النعمة يقولون: كم يد لي عند فلان، وعلى القدرة ومنه قوله تعالى: (قل إن الفضل بيد الله) وعلى التأييد ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " يد الله مع القاضي حين يقضي " وعلى الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه، ومنه قوله تعالى: (الذي بيده عقدة النكاح) أي يملك ذلك.
أما الجارحة فمنتفية في صفته عز وجل، وأما سائر المعاني التي فسرت اليد بها عند جمهور المتكلمين وأهل التأويل ففيه إشكال لأنها إذا فسرت بمعنى القدرة فقدرته واحدة، والقرآن ناطق بإثبات اليدين، وأجيب عنه بأن هذه الآية على طريق التمثيل على وفق كلامهم كقوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) والعرب تطلق غل اليد على البخل وبسطها على الجود مجازاً ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكف، فمراد اليهود هنا عليهم لعائن الله أن الله بخيل، قال ابن عباس: مغلولة أي بخيلة.
وإن فسرت بالنعمة فنص القرآن ينطق باليدين، ونعمه غير محصورة، وأجيب عنه بأن هذا بحسب الجنس، ويدخل تحته أنواع كثيرة لا نهاية لها وما أبعده.
والجواب عن الجواب الثاني أن الاسم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجمع ولا يؤدي عن الجنس، فثبت أن اليد صفة لله تعالى تليق بجلاله وأنها ليست بجارحة كما قالت المجسمة واليهود، ولا بنعمة وقدرة كما قالت المعتزلة.
ولما قالت اليهود ذلك أجاب سبحانه عليهم بقوله: (غلت أيديهم) هذا دعاء عليهم بالبخل، فيكون الجواب عليهم مطابقاً لما أرادوه بقولهم يد الله مغلولة، ويجوز أن يراد غل أيديهم حقيقة بالأسر في الدنيا أو العذاب في الآخرة.
ويقوي المعنى الأول أن البخل قد لزم اليهود لزوم الظل للشمس فلا ترى يهودياً وإن كان ماله غاية الكثرة إلا وهو من أبخل خلق الله، وقيل المجاز أوفق بالمقام لمطابقة ما قبله.
عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس أن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله هذه الآية، وعنه أنها نزلت في فنحاص اليهودي، وعن عكرمة نحوه، والمعنى: أمسكت أيديهم عن كل خير، قال الزجاج: رد الله عليهم فقال أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي الممسكة.
ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله: (بل يداه مبسوطتان) أي: بل هو في غاية ما يكون من الجود، وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الرد عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة لإفادة الكثرة إذ غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيديه.
وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدرة يقتضيها المقام أي كلا ليس الأمر كذلك بل يداه مبسوطتان يعني: هو جواد كريم على سبيل الكمال، وحكى الأخفش عن ابن مسعود أنه قرأ بل يداه بسيطتان أي: منطلقتان.
ويد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه فيجب علينا الإيمان بها والتسليم وإثباتها له تعالى وإمرارها كما جاءت في الكتاب والسنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تعطيل، قال تعالى: (لما خلقت بيدي) وقال النبي ﷺ عن يمين الرحمن: " وكلتا يديه يمين " فالجارحة منتفية في صفته عز وجل، والجهمية أنكروها وتأولوا بالنعمة والقدرة وهم المعطلة، وهذا الإنتفاء إنما هو عند المؤمنين، وأما اليهود فإنهم مجسمة فيصح حمل اليد عندهم على الجارحة بحسب اعتقادهم الفاسد.
(ينفق كيف يشاء) جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده سبحانه أي: إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته وحكمته، فإن شاء وسع وإن شاء قتر، لا اعتراض عليه، فهو القابض الباسط فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة لا شيء آخر، فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى، قال تعالى: (ولو
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما بيده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يرفع ويخفض " (١) أخرجه البخاري ومسلم، وفي الباب أحاديث.
(وليزيدن) اللام هي لام القسم أي والله ليزيدن (كثيراً منهم) من علماء اليهود والنصارى ورؤسائهم (ما أنزل إليك) من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة (من ربك طغياناً) إلى طغيانهم (وكفراً) إلى كفرهم، عن قتادة قال حملهم حسد محمد - ﷺ - والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه، وهم يجدونه مكتوباً عندهم.
(وألقينا بينهم) أي بين طوائف اليهود (العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية وبعضهم مرجئة وبعضهم مشبهة أو بين اليهود والنصارى فهم فرق كالملكانية والنسطورية واليعقوبية والماروانية.
لا يقال أن هذا المعنى حاصل بين السلمين أيضاً فكيف يكون عيباً عليهم لا على المسلمين لأنا نقول: إن هذه البدع والافتراق لم يكن شيء منها حاصلا بينهم في الصدر الأول، وإنما حدثت بعد عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحسن جعل ذلك عيباً عليهم في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله - ﷺ -، قال أبو حيان: العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو، قاله الكرخي.
(كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله) أي: كلما جمعوا للحرب جمعاً
_________
(١) البخاري كتاب التفسير سورة ١١ - مسلم الباب ٣٧ من كتاب الزكاة.
قال مجاهد: كلما مكروا مكراً في حرب محمد - ﷺ - أطفأه الله تعالى، وعن السّدي قال: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله وقذف في قلوبهم الرعب، والآية مشتملة على استعارة بليغة وأسلوب بديع، وقيل: المراد بالنار هنا الغضب أي: كلما أثاروا في أنفسهم غضباً أطفاه الله بما جعله من الرعب في صدورهم والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم قال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها وهم أبغض خلق الله إليه.
(ويسمعون في الأرض فساداً) أي يجتهدون في فعل ما فيه فساد ومن أعظمه ما يريدون من إبطال الإسلام وكيد أهله (والله لا يحب المفسدين) إن كانت اللام للجنس فهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً، وإن كانت للعهد فوضع الظاهر موضع المضمر لبيان شدة فسادهم وكونهم لا ينفكون عنه.
(لكفرنا عنهم سيئاتهم) التي اقترفوها وإن كانت كثيرة متنوعة لأن الإسلام يجبُّ ما قبله، وقيل المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم (ولأدخلناهم) تكرير اللام لتأكيد الوعد (جنات النعيم) مع المسلمين يوم القيامة.
عن ابن عباس قال: لأكلوا من فوقهم يعني لأرسل عليهم السماء مدراراً، ومن تحت أرجلهم قال يخرج الأرض من بركتها، وعن قتادة نحوه.
(منهم أمة مقتصدة) جواب سؤال مقدر كأنه قيل هل جميعهم متصفون
(وكثير منهم ساء ما يعملون) وهم المصرون على الكفر المتمردون عن إجابة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان بما جاء به مثل كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود.
أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله - ﷺ - فذكر حديثاً قال ثم حدثهم النبي - ﷺ - وقال: " تفرقت أمة موسى على اثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، وتعلو أمتي على الفريقين جميعاً بملة واحدة في الجنة واثنتان وسبعون منها في النار قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعات الجماعات " (١).
وقال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث عن رسول الله - ﷺ - ّ بهذا الحديث تلا فيه قرآناً قال: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا) الآية، وتلا أيضاً (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لهذا الحديث ما لفظه: وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة قد ذكرناها في موضع آخر اهـ.
_________
(١) المستدرك كتاب العلم ١/ ١٢٨.
قلت: أما زيادة كونها في النار إلا واحدة فقد ضعفها جماعة من المحدثين بل قال ابن حزم إنها موضوعة.
(يا أيّها الرَّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك) العموم الكائن في: ما أنزل يفيد أنه يجب عليه - ﷺ - أن يبلغ جميع ما أنزله الله عليه لا يكتم منه شيئاً، وفيه دليل على أنه لم يسر إلى أحد مما يتعلق بما أنزله الله شيئاً، ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " من زعم أن محمداً - ﷺ - كتم شيئاً من الوحي فقد كذب ".
وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السّوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن فقال: " لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل (١) وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر ".
(وإن لم تفعل) ما أمرت به من تبليغ الجميع بل كتمت ولو بعضاً من ذلك خوفاً من أن تنال بمكروه (فما بلغت) قرأ أهل الكوفة (رسالته) بالتوحيد، وقرأ أهل المدينة وأهل الشام (رسالاته) على الجمع، قال النحاس: والجمع أبين لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئاً فشيئاً ثم يبينه اهـ.
وفيه نظر فإن نفي التبليغ عن الرسالة الواحدة أبلغ من نفيه عن
_________
(١) أي الدية يعني بيان مقادير الديات.
عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية يوم غدير خُمّ في علي بن أبي طالب، وعن ابن مسعود قال كنا نقرأ على عهد رسول الله ﷺ (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن عليّاً مولى المؤمنين (١) وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني فأنزلت يا أيها الرسول الآية.
(والله يعصمك من الناس) إن الله سبحانه وعده بالعصمة من الناس دفعاً لما يظن أنه حامل على كتم البيان، وهو خوف لحوق الضرر من الناس وقد كان ذلك بحمد الله فإنه بين لعباد الله ما نزل إليهم على وجه التمام، ثم حمل من أَبَى من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعاً أو كرهاً، وقتل صناديد الشرك وفرق جموعهم وبدد شملهم، وكانت كلمة الله هي العليا، وأسلم كل من نازعه ممن لم يسبق فيه السيف العذل حتى قال يوم الفتح لصناديد قريش وأكابرهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس إن قام ببيان حجج الله وإيضاح براهينه، وصرخ بين ظهراني من ضاد الله وعانده ومن لم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة وقد رأينا من هذا في أنفسنا
_________
(١) هذا والذي قبله من دسائس الشيعة ليت المؤلف أراحنا منه.
فإن كلّ محنة في الظاهر هي منحة في الحقيقة، لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) وقصة غورث بن الحرث ثابتة في الصحيح وهي معروفة مشهورة كما تقدم (١).
فإن قلت أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد وقد أوذي بضروب من الأذى، فكيف يجمع بين ذلك وبين هذه الآية.
قلت المراد أنه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد ويدل له حديث جابر في الصحيحين وفيه فقال: إن هذا اخترط على سيفي، إلى قوله، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت الله، ثلاثاً، وقيل: إن هذه الآية نزلت بعد ما شج رأسه في يوم أحد، لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً، وكان رسول الله - ﷺ - يحرس حتى نزلت فقال: انصرفوا فقد عصمني الله، رواه الحاكم بطوله.
(إن الله لا يهدي القوم الكافرين) جملة متضمنة لتعليل ما سبق من العصمة أي: إن الله لا يجعل لهم سبيلاً إلى الأضرار لك فلا تخف وبلغ ما أمرت بتبليغه، وقال ابن عباس: لا يرشد من كذبك وأعرض عنك، وقال ابن جرير الطبري: المعنى أن الله لا يرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئت به من عند الله ولم ينته فيما فرض عليه وأوجبه.
_________
(١) راجع ص ٤٦٣ ج٢.
(وما أنزل إليكم من ربكم) قيل هو القرآن فإن إقامة الكتابين لا تصح بغير إقامته، ويجوز أن يكون المراد ما أنزل إليهم على لسان الأنبياء من غير الكتابين.
(وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً) أي كفراً إلى كفرهم وطغياناً إلى طغيانهم والمراد بالكثير منهم من لم يسلم واستمر على المعاندة، وقيل المراد به العلماء منهم وتصدير هذه الجملة بالقسم لتأكيد
_________
(١) قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء) سبب نزولها: أن اليهود قالوا للنبي - ﷺ -: ألست تؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها حق؟ قال: بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، فأنا بريء من إحداثكم. فقالوا: نحن على الهدى، ونأخذ بما في أيدينا، ولا نؤمن بك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. فأما أهل الكتاب، فالمراد بهم اليهود والنصارى. وقوله: (لستم على شيء) أي: لستم على شيء من الدين الحق حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وإقامتهما: العمل بما فيهما، ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(فلا تأس على القوم الكافرين) أي دع عنك التأسف على هؤلاء فإن ضرر ذلك راجع إليهم ونازل بهم.
وفي المقام وجوه تسعة أخرى ذكرها السمين، والذي مشينا عليه أوضح وأظهر من الكل، وظاهر الإعراب يقتضي أن يقال (والصابئين) وكذا قرأ أبي وابن مسعود وابن كثير، وقرأ الجمهور بالرفع وقد تقدم الكلام على الصابئين والنصارى في سورة البقرة وهو من صبا يصبو لأنهم صبؤا إلى اتباع الهوى ويبدل من المبتدأ الذي هو الفرق الثلاثة بدل بعض قوله: (من آمن بالله) إيماناً خالصاً على الوجه المطلوب (واليوم الآخر) منهم، وحذف لكونه معلوماً عند السامعين (وعمل) عملاً (صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أي فهو الذي لا خوف عليه ولا حزن.
هذا على كون المراد بالذين آمنوا المنافقين، وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا جميع أهل الإسلام المخلص والمنافق فالمراد بمن آمن من اتصف بالإيمان الخالص واستمر عليه ومن أحدث إيماناً خالصاً بعد نفاقه.
(فريقاً كذبوا) جملة مستأنفة أيضاً جواب عن سؤال ناشئ عن الجواب الأول كأنه قيل: كيف فعلوا بهم؟ فقيل فريقاً كذبوا منهم ولم يتعرضوا لهم بضرر (وفريقاً) آخر منهم (يقتلون) أي: قتلوهم ولم يكتفوا بتكذيبهم، وإنما قال: وفريقاً يقتلون لمراعاة رؤوس الأي فممن كذبوه عيسى وأمثاله من الأنبياء، وممن قتلوه زكريا ويحيى، وإنما فعلوا ذلك نقضاً للميثاق وجرأة على الله ومخالفة لأمره.
وقيل إنما أقدموا على ذلك لاعتقادهم أن آباءهم وأسلافهم يدفعون عنهم العذاب في الآخرة (فعموا) عن إبصار الهدى (وصموا) عن استماع الحق، وهذا إشارة إلى ما وقع من بني إسرائيل في الإبتداء من مخالفة أحكام التوراة وقتل شعيا وقيل سببه عبادتهم العجل في زمن موسى عليه السلام ولا يصح فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى، ولا تعلق لها مما حكى عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءوا إليهم بعد موسى عليه السلام.
(ثم تاب الله عليهم) حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهراً طويلا تحت قهر بختنصر أسارى في غاية الذل والمهانة فكشف عنهم الذلة والقحط.
(ثم عموا وصموا) وهذه إشارة إلى ما وقع منهم بعد التوبة من قتل يحيى بن زكريا وقصدهم لقتل عيسى، وقيل: بسبب الكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
و (كثير منهم) بدل من الضمير قال الكرخي: هذا الإبدال في غاية البلاغة (والله بصير بما يعملون) من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل فيجازيهم بحسب أعمالهم، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ولرعاية الفواصل.
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم) هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض فضائح أهل الكتاب والقائلون بهذه المقالة هم فرقة منهم يقال لهم اليعقوبية وقيل هم الملكانية قالوا: إن الله عز وجل حل في ذات عيسى، وأن مريم ولدت إلها فرد الله عليهم بقوله: (وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) أي والحال أن قد قال المسيح هذه المقالة فكيف يدعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم، ودلائل الحدوث ظاهرة عليه (١).
(إنه) الشأن (من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) كلام مبتدأ يتضمن بيان أن الشرك يوجب تحريم دخول الجنة إذا مات صاحبه على شركه، وقيل هو من قول عيسى (ومأواه النار) أي مصيره إليها في الآخرة.
(وما للظالمين) أي: المشركين، فيه مراعاة معنى (من) بعد مراعاة لفظها، وفيه الإظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بوصف الظلم (من أنصار) ينصرونهم فيدخلونهم الجنة أو يخلصونهم من النار ويمنعونهم من عذاب الله، وصيغة الجمع هنا للإشعار بأن نصرة الواحد أمر غير محتاج إلى التعرض لنفيه لشدة ظهوره وإنما ينبغي التعرض لنفي نصرة الجمع.
_________
(١) روى الإمام ابن الجوزي قال محمد بن كعب: لما رفع عيسى اجتمع مئة من علماء بني إسرائيل، وانتخبوا منهم أربعة، فقال أحدهم: عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له، ثم صعد إلى السماء، لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله. وقال الثاني: ليس كذلك، لأنا قد عرفنا عيسى، وعرفنا أمه، ولكنه ابن الله. وقال الثالث: لا أقول كما قلتما، ولكن جاءت به أُمه من عمل غير صالح. فقال الرابع: لقد قلتم قبيحاً، ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته، فخرجوا، فاتبع كل رجل منهم عنق من الناس.
وهذا هو المراد بقولهم ثلاثة أقنانيم إقنيم الأب وإقنيم الابن وإقنيم روح القدس، وقد تقدم في سورة النساء كلام في هذا، وهو كلام معلوم البطلان، ولا ترى في الدنيا مقالة أشد فساداً ولا أظهر بطلاناً من مقالة النصارى.
قال الواحدي: ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة ولم يرد به أنه ثالث ثلاثة آلهة لأنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم، ويدل عليه قوله تعالى في سورة المجادلة (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
ثم رد الله سبحانه عليهم هذه الدعوى الباطلة فقال (وما من إله إلا إله واحد) أي ليس في الوجود إله لا ثاني له ولا شريك له ولا ولد له ولا صاحبة
(وإن لم ينتهوا عما يقولون) من الكفر وهذه المقالة الخبيثة (ليمسنّ الذين كفروا منهم) من بيانية أو تبعيضية (عذاب أليم) أي: نوع شديد الألم من العذاب وجيع في الآخرة.
(وأمه) عطف على المسيح أي: وما أمه إلا (صديقة) أي: صادقة فيما تقوله أو مصدّقة لا جاء به ولدها من الرسالة وذلك لا يستلزم الإلهية، لها بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به، فما رتبتهما إلا رتبة بشرين أحدهما نبي
(كانا يأكلان الطعام) استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس برب بل عبد مربوب ولدته النساء، فمتى يصلح لأن يكون رباً وأما قولكم: إنه كان يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته فهو كلام باطل يستلزم اختلاط الإله بغير الإله، ولو جاز اختلاط القديم بالحادث لجاز أن يكون القديم حادثاً ولو صحّ هذا في حق عيسى لصح في حق غيره من العباد.
(انظر كيف نبين لهم الآيات) أي: الدلالات الواضحات على وحدانيتنا وفيه تعجب من حال هؤلاء الذين يجعلون تلك الأوصاف مستلزمة للإلهية ويغفلون عن كونها موجودة فيمن لا يقولون بأنه إله.
(ثم انظر أنى يؤفكون) أي: يصرفون عن الحق بعد هذا البيان يقال: أفكه إذا صرفه، وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، وجاء بثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت، وقيل: الأول أمر بالنظر في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآيات وبيانها، والثاني بالنظر في كونهم صرفوا عن تدبرها والإيمان بها.
(قل أتعبدون) أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم هذا القول إلزاماً لهم وقطعاً لشبهتهم بعد تعجبه من أحوالهم أي أتعبدون (من دون الله) متجاوزين إياه (ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً) بل هو عبد مأمور، وما جرى على يده من النفع أو وقع من الضرر فهو بإقدار الله له وتمكينه منه، وأما هو، فهو يعجز عن أن يملك لنفسه شيئاً من ذلك فضلاً عن أن يملكه لغيره، ومن كان لا ينفع ولا يضر فكيف تتخذونه إلهاً وتعبدونه وأي سبب يقتضي ذلك؟ والمراد هنا المسيح عليه السلام.
وإيثار (ما) على (من) لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزل عن الألوهية رأساً ببيان انتظامه عليه السلام في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلاً، وقدم سبحانه الضر على النفع لأن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح، وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية والإلهية حيث لا يستطيع ضراً ولا نفعاً، وصفة الرب والإله أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته، وهذا في حق عيسى النبي، فما ظنك بولي من الأولياء؟ فإنه أولى بذلك.
(و) الحال أن (الله هو السميع العليم) ومن كان كذلك فهو القادر على الضر والنفع لإحاطته بكل مسموع ومعلوم، ومن جملة ذلك مضاركم ومنافعكم، وقيل: إن الله هو المستحق للعبادة لأنه يسمع كل شيء ويعلمه وإليه ينحو كلام الزمخشري.
و (غير) منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أي غلواً غير غلو (الحق) وأما الغلو في الحق بإبلاغ كلية الجهد في البحث عنه واستخراج حقائقه فليس بمذموم، وقيل: إن النصب على الاستثناء المتصل وقيل على المنقطع قال قتادة: لا تغلوا أي لا تبتدعوا، عن ابن زيد قال: كان مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولداً.
(ولا تتبعوا أهواء قوم) جمع هوى وهو ما تدعو شهوة النفس إليه، قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى الهوى في القرآن إلا وذمه، وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر، لأنه لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال فلان يحب الخير ويريده، والخطاب لليهود والنصارى الذين كانوا في زمن رسول الله - ﷺ - نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم وهو المراد بقوله (قد ضلوا من قبل) أي قبل البعثة المحمدية على صاحبها الصلاة والتحية،
(وأضلوا كثيراً) من الناس إذ ذاك (وضلوا) من بعد البعثة إما بأنفسهم أو جعل ضلال من أضلوه ضلالاً لهم لكونهم سنوا لهم ذلك ونهجوه لهم، وقيل المراد بالأول كفرهم بما يقتضيه العقل وبالثاني كفرهم بما يقتضيه الشرع وقيل الأول ضلالهم عن الإنجيل، والثاني ضلالهم عن القرآن (عن سواء السبيل) أي عن طريق الحق.
(ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) جملة مستأنفة، والمعنى ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر، ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله.
ثم إن الله سبحانه قال مقبحاً لعدم التناهي عن المنكر: (لبئسما كانوا يفعلون) من تركهم الإنكار ما يجب عليهم إنكاره، واللام لام القسم.
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ - إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: (لعن الذين كفروا إلى قوله فاسقون) ثم قال: " كلا والله لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتَأطرنّهُ على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً زاد في رواية أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم " أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وغيرهم وقد روي عن طرق كثيرة (١)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً فلا نطول بذكرها.
وعن أبي عبيدة بن الجراح يرفعه قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عبادهم فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار، فهم الذين كفروا من بني إسرائيل الآيات.
_________
(١) أبو داود الباب ١٧ من كتاب الملاحم- الترمذي كتاب التفسير سورة ٥، ٧.
(لبئسما قدمت) أي سولت وزينت (لهم أنفسهم) أو ما قدموه لأنفسهم ليردوا عليه يوم القيامة والمخصوص بالذم هو.
(أن سخط الله عليهم) أي موجب سخط الله عليهم على حذف مضاف أو سخط الله على حذف المبتدأ أي بما فعلوا من موالاة الكفار (وفي العذاب هم خالدون) يعني في الآخرة.
(ولكن كثيراً منهم فاسقون) أي خارجون عن ولاية الله وعن الإيمان به وبرسوله وبكتابه قال مجاهد هم المنافقون.
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) هذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تعداد مساوئ اليهود وهناتهم، ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيداً وتقريراً، وقال ابن عطية: اللام للابتداء وليس بشيء، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز، والمعنى أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشد جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك.
(ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) أي أن النصارى أقرب الناس مودة للمؤمنين وصفهم بلين العريكة وسهولة قبولهم الحق، قيل مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان مثل القتل ونهب المال أو بأنواع المكر والكيد والحيل، ومذهب النصارى خلاف اليهود فإن الإيذاء في مذهبهم حرام، فحصل الفرق بينهما.
وقيل: إن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا وطلب الرياسة، ومن كان كذلك كان شديد العداوة للغير، وفي النصارى من هو معرض عن الدنيا ولذاتها وترك طلب الرياسة، ومن كان كذلك فإنه لا يحسد أحداً ولا يعاديه بل يكون لين العريكة في طلب الحق والأول أولى.
وقال مجاهد: هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله وفي لفظ إلا حدث نفسه بقتله " رواه أبو الشيخ قال ابن كثير وهو غريب جداً.
(ذلك) أي كونهم أقرب مودة (بأن) الباء للسببية (منهم قسيسين) جمع قس وقسيس قاله قطرب، والقسيس العالم وأصله من قس إذا تتبع الشيء وطلبه وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها، والقس النميمة والقس أيضاً رئيس النصارى في الدين والعلم وجمعه قسوس أيضاً، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير، ويقال في جمع قسيس تكسيراً قساوسة، والأصل قساسة فالمراد بالقسيسين في الآية المتبعون للعلماء والعباد وهو إما عجمي خلطته العرب بكلامها أو عربي.
(ورهباناً) جمع راهب كركبان وراكب، والفعل رهب الله يرهبه أي خافه والرهبانية والترهب التعبد في الصوامع، قال أبو عبيد: وقد يكون رهبان للواحد والجمع قال الفراء ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهابين كقربان وقرابين، ثم وصفهم الله بعدم الاستكبار عن قول الحق فقال: (وأنهم لا يستكبرون) بل هم متواضعون بخلاف اليهود فإنهم على ضد ذلك.
وقيل: ولم يرد به كل النصارى فإن معظم النصارى في عداوة المسلمين كاليهود بل الآية فيمن آمن منهم مثل النجاشي وأصحابه، والعموم أولى، ولا وجه لتخصيص قوم دون قوم.
والآية الكريمة ساكتة على قيد الإيمان وإنما هو مدح في مقابلة ذم اليهود، وليس بمدح على الإطلاق، وقد تقدم الفرق بين وصف اليهود بشدة الشكيمة والنصارى بلين العريكة.
وفي الآية دليل على أن العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير، وإن كان علم القسيسين، وكذا علم الآخرة وإن كان في راهب، وكذا البراءة من الكبر وإن كانت في نصراني.
(ما أنزل إلى الرسول) أي القرآن (ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) أي تمتلئ فتفيض لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء جعل الأعين تفيض والفائض إنما هو الدمع قصداً للمبالغة كقولهم دمعت عينه، ووضع الفيض الذي ينشأ من الامتلاء موضع الامتلاء من إقامة المسبب مقام السبب ومن الأولى لابتداء الغاية والثانية بيانية أي كان ابتداء الفيض ناشئاً من معرفة الحق وكان من أجله وبسببه، ويجوز أن تكون الثانية تبعيضية، وقد أوضح أبو القاسم هذا غاية الإيضاح.
والمعنى أنهم عرفوا بعض الحق فاشتد بكاؤهم منه فكيف إذا عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة.
عن ابن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه، وعن ابن عباس نحوه، والروايات في هذا الباب كثيرة، وهذا المقدار يكفي فليس المراد إلا بيان سبب نزول الآية، وصفهم سبحانه بسيل الدمع عند البكاء ورقة القلب عند سماع القرآن.
(يقولون) مستأنفة لا محل لها كأنه قيل فما حالهم عند سماع القرآن
(ربنا آمنا) بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد - ﷺ - وبمن أنزلته عليه (فاكتبنا مع الشاهدين) على الناس يوم القيامة من أمة محمد أو مع الشاهدين بأنه حق أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس.
(ونطمع) عطف على نؤمن لا على لا نؤمن كما وقع للزمخشري إذ العطف عليه يقتضي إنكار عدم الإيمان وإنكار الطمع وليس مراداً بل المراد إنكار عدم الطمع أيضاً وجوز أبو حيان أن يكون معطوفاً على نؤمن على أنه منفي كنفي نؤمن والتقدير وما لنا لا نؤمن ولا نطمع فيكون في ذلك الإنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين انتهى، ذكر ذلك أبو البقاء باختصار ولم يطلع عليه أبو حيان فبحثه وقال لم يذكروه، قاله الكرخي.
(أن يدخلنا ربنا) الجنة (مع القوم الصالحين) أي ما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع في صحبة الصالحين يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيل مع الأنبياء والمؤمنين.
قال ابن جرير: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله
فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء، قال فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأً، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر على الجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته انتهى.
(ولا تعتدوا) على الله بتحريم طيبات ما أحل لكم أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله عليكم أي تترخصوا فتحلوا حراماً كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرم على نفسه شيئاً مما أحله الله له فلا يحرم عليه ولا تلزمه كفارة.
وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما: أن من حرم شيئاً صار محرماً عليه وإذا تناوله لزمته الكفارة وهو خلاف ما في هذه الآية وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله تعالى، وظاهرة تحريم كل اعتداء أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور.
أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي - ﷺ - فقال
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال: نزلت في رهط من الصحابة قالوا نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي - ﷺ - فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم فقال النبي - ﷺ - ّ: " لكني أصوم وأفطر وأقومُ وأنام وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " (١).
وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية، وفي الباب روايات كثيرة بهذا المعنى وكثير منها مصرح بأن ذلك سبب نزول الآية (إن الله لا يحب المعتدين) أي المجاوزين الحلال إلى الحرام.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٨٥ - ٨٦.
ثم وصاهم الله تعالى بالتقوى فقال: (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) هذا تأكيد للوصية، وفي الآية دليل على أن الله عز وجل قد تكفل برزق كل أحد من عباده.
قيل (في) بمعنى (من) قاله القرطبي، والإيمان جمع يمين، وفي الآية دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها ولا تجب فيها الكفارة، وقد ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل لا والله وبلى والله، في كلامه غير معتقد لليمين، وبه فسر الصحابة الآية، وهم أعرف بمعاني القرآن، قال الشافعي وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.
(ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) أي بما تعمدتم وقصدتم به اليمين، قاله مجاهد، وقرئ عقدتم مخففاً ومشدداً، والتشديد إما للتكثير لأن المخاطب به جماعة أو بمعنى المجرد أو لتوكيد اليمين نحو والله الذي لا إله إلا هو، وقرئ عاقدتم وهو بمعنى المجرد أو على بابه، وهذا كله مبني على أن (ما) موصول اسمي وقيل مصدرية على القراءات الثلاث، وعليه جرى أبو السعود.
والعقد على ضربين حسي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع واليمين
وقال الشافعي: هي يمين معقودة لأنها مكتسبة بالقلب معقودة بخير مقرونة باسم الله، والراجح الأول، وجميع الأحاديث الواردة في تكفير اليمين متوجهة إلى المعقودة، ولا يدل شيء منها على الغموس بل ما ورد في الغموس إلا الوعيد والترهيب، وأنها من الكبائر بل من أكبر الكبائر، وفيها نزل قوله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً) الآية.
(فكفارته) هي مأخوذة من التكفير وهو التستير وكذلك الكفر هو الستر، والكافر هو الساتر سميت بها لأنها تستر الذنب وتغطيه، والضمير في كفارته راجع إلى الحنث الدال عليه سياق الكلام، وقيل إلى العقد لتقدم الفعل الدال عليه، وقيل إلى اليمين وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى الحلف، قالهما أبو البقاء وليسا بظاهرين، وقيل إن (ما) إن جعلناها موصولة اسمية، فالعبارة على حذف مضاف أي فكفارة نكثه كذا قدره الزمخشري.
(إطعام عشرة مساكين) هو أن يغديهم ويعشيهم أو يعطيهم بطريق التمليك وقيل لكل مسكين مد، ولا يتعين كونه من فقراء بلد الحالف (من أوسط ما تطعمون) المراد الوسط هنا المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير، وليس المراد به الأعلى كما في غير هذا الموضع أي أطعموهم من المتوسط مما تعتادون إطعام (أهليكم) ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه ولا يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه بل من غالب قوت بلد الحالف أي: محل الحنث، قال ابن عباس يعني من عسركم ويسركم، وظاهره أنه يجزى إطعام عشرة حتى يشبعوا.
وقد أخرج ابن ماجة وابن مردويه عن ابن عباس قال: كَفَّرَ رسول الله - ﷺ - بصاع من تمر، وكفر الناس به ومن لم يجد فنصف صاع من بر، وفي إسناده عمر الثقفي وهو مجمع على ضعفه وقال الدارقطني متروك.
(أو كسوتهم) قرئ بضم الكاف وكسرها وهما لغتان مثل أسوة وإسوة، والكسوة في الرجال تصدق على ما يكسو البدن ولو كان ثوباً واحداً، وهكذا في كسوة النساء وقيل الكسوة للنساء درع وخمار وقيل المراد بالكسوة ما تجزئ به الصلاة.
أخرج الطبراني عن عائشة عن النبي - ﷺ - في قوله: أو كسوتهم قال عباءة لكل مسكين، قال ابن كثير حديث غريب، وعن حذيفة قال: قلت يا رسول الله أو كسوتهم ما هو قال: عباءة عباءة أخرجه ابن مردويه (١)، وعن ابن عمر قال الكسوة ثوب أو إزار، وقيل قميص وعمامة.
(أو تحرير رقبة) أي إعتاق مملوك، والتحرير الإخراج من الرق،
_________
(١) مسلم ١٤٠١ - البخاري ٢٠٩٩.
(فمن لم يجد) شيئاً من الأمور المذكورة (فصيام) أي فكفارته صيام (ثلاثة أيام) وقرئ متتابعات، حكي ذلك عن ابن مسعود وأُبَيّ فتكون هذه القراءة مقيدة لمطلق الصوم، وبه قال أبو حنيفة والثوري وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك والشافعي في قوله الآخر يجزئ التفريق، وظاهره أنه لا يشترط التتابع (١).
(ذلك) المذكور (كفارة أيمانكم إذا حلفتم) وحنثتم (واحفظوا أيمانكم) أمرهم بحفظ الأيمان وعدم المسارعة إليها أو إلى الحنث بها، وفيه النهي عن كثرة الحلف والنكث ما لم يكن على فعل بر وإصلاح بين الناس كما في سورة البقرة.
وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير " أخرجه الشيخان (٢).
(كذلك) أي مثل ذلك البيان (يبين الله لكم آياته) أي جميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز (لعلكم تشكرون) ما أنعم الله به عليكم من بيان شرائعه وإيضاح أحكامه.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٩٠.
(٢) مسلم ١٦٤٩ - البخاري ١٤٧٦.
وفردق ابن دريد بين الرجس والرجز والركس فجعل الرجس الشر، والرجز العذاب، والركس العذرة والنتن، وهو خبر للخمر، وخبر المعطوف عليه محذوف.
(من عمل الشيطان) صفة لرجس أي كائن من عمله بسبب تحسينه لذلك وتزيينه له ودعائه إياكم إليها، وليس المراد أنها من عمل يديه، وقيل هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه فاقتدى به بنو آدم.
والضمير في (فاجتنبوه) راجع إلى الرجس أو إلى المذكور أي كونوا جانباً منه (لعلكم تفلحون) أي لكي تدركوا الفلاح إذا اجتنبتم هذه المحرمات التي هي رجس.
قال في الكشاف: أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " شارب الخمر كعابد الوثن "، ومنها أنه جعلها رجساً كما قال:
وفي هذه الآية دليل على تحريم الخمر لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب وتحريم الصد، ولما تقرر في الشريعة من تحريم قربان الرجس فضلاً عن جعله لشراباً يشرب.
قال أهل العلم من المفسرين وغيرهم: كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة لأنهم كانوا قد ألفوا شربها وحببها الشيطان إلى قلوبهم، فأول ما نزل في أمرها (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) فترك عند ذلك بعض من المسلمين شربها ولم يتركه آخرون.
ثم نزل قوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فتركها البعض أيضاً وقالوا لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها البعض في غير أوقات الصلاة حتى نزلت هذه الآية (إنما الخمر والميسر) فصارت حراماً عليهم حتى كان يقول بعضهم ما حرم الله شيئاً أشد من الخمر، وذلك لما فهموه من التشديد فيما تضمنته هذه الآية من الزواجر، وفيما جاءت به الأحاديث الصحيحة من الوعيد لشاربها وأنها من كبائر الذنوب.
وقد أجمع على ذلك المسلمون جميعاً لا شك فيه ولا شبهة، وأجمعوا أيضاً على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمراً.
وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر دلت أيضاً على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام، قال قتادة: الميسر هو القمار، وقال ابن عباس: كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، وعن علي بن أبي طالب قال: النرد والشطرنج من الميسر، وعنه قال: الشطرنج ميسر الأعاجم، وقال
وعن ابن الزبير قال: يا أهل مكة بلغني عن رجال يلعبون بلعبة يقال لها نردشير، والله يقول في كتابه: (إنما الخمر والميسر) الآية إلى قوله: (فهل أنتم منتهون) وإني أحلف بالله لا أوتي بأحد يلعب بها إلا عاقبته في شعره وبشره وأعطيت سلبه من أتاني به.
عن أنس بن مالك قال: الشطرنج من النرد، وبلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فاحرقها، وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال: هي شر من النرد، وسئل أبو جعفر عنه فقال: تلك المجوسية فلا تلعبوا بها.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من لعب النردشير فقد عصى الله ورسوله " وأخرج ابن أبي الدنيا عن يحيى بن كثير قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوم يلعبون بالنرد فقال: قلوب لاهية وأيد عليلة وألسنة لاغية، وقال ابن سيرين ما كان من لعب فيه قمار أو صياح أو شر فهو من الميسر، وفي الباب روايات كثيرة مشتملة على الوعيد الشديد لا نطول بذكرها.
وقد أشار سبحانه إلى ما في الخمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله:
وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الخمر وشاربها والوعيد الشديد عليه، وأن كل مسكر حرام وهي مدونة في كتب الحديث، ورويت في سبب النزول روايات كثيرة فلا نطول المقام بذكرها فلسنا بصدد ذلك، بل نحن بصدد ما هو متعلق بالتفسير.
ثم أكد الله سبحانه هذا التحريم بقوله:
وقيل التكرير باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الله، وقيل باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى، وقيل باعتبار ما يتقيه الإنسان فإنه ينبغي له أن يترك المحرمات توقياً من العقاب، والشبهات توقياً من الوقوع في الحرام، وبعض
وقيل التكرير لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى: (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) ونظائره (١).
وهذه الوجوه كلها مع قطع النظر عن سبب نزول الآية. أما مع النظر إلى سبب نزولها وهو أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر فنزلت، فقد قيل إن المعنى: اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله ثم اتقوا الكبائر وآمنوا أي ازدادوا إيماناً (ثم اتقوا) الصغائر، قال أبو السعود: ولا ريب في أنه لا تعلق لهذه العبارات بالمقام فأحسن التأمل انتهى.
(وأحسنوا) أي تنقلوا قال ابن جرير الطبري: الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق، والاتقاء الثالث بالإحسان والتقرب بالنوافل.
قلت: والحق أنه ليس تخصيص هذه المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرير بالغاً ما بلغ (والله يحب المحسنين) أي المتقربين إليه بالإيمان والأعمال الصالحة والتقوى والإحسان، وهذا ثناء ومدح لهم على الإيمان والتقوى والإحسان، لأن هذه المقامات من أشرف الدرجات وأعلاها.
_________
(١) زاد المسير/٤١٩.
وقد اختلف العلماء في المخاطبين بهذه الآية هل هم المحلون أو المحرمون، فذهب إلى الأول مالك، وإلى الثانى ابن عباس " والراجح أن الخطاب للجميع ولا وجه لقصره على البعض دون البعض " و (من) في (من الصيد) للتبعيض وهو صيد البر قاله ابن جرير الطبري وغيره، وقيل: إن من بيانية أي شيء حقير من الصيد وتنكير شيء للتحقير، والصيد بمعنى المصيد لا بمعنى المصدر لأنه حدث.
(تناله أيديكم ورماحكم) هذه الجملة تقتضي تعميم الصيد، وأنه لا فرق بين ما يؤخذ باليد وهو ما لا يطيق الفرار من صغار الصيد كالبيض والفرخ، وبين ما تناله الرماح وهو ما يطيق الفرار من كبار الصيد مثل حمر الوحش ونحوها.
وخص الأيدي بالذكر لأنها أكثر ما يتصرف به الصايد في أخذ الصيد، وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم الآلات للصيد عند العرب، وكان ذلك الابتلاء بالحديبية سنة ست وهم محرمون بالعمرة، فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم.
(فمن اعتدى بعد ذلك) البيان أو النهي الذي امتحنكم الله به فاصطاده لأن الاعتداء بعد العلم بالتحريم معاندة لله سبحانه وتجرؤ عليه (فله عذاب أليم) يعني في الدنيا، قال ابن عباس: هو أن يوشع ظهره وبطنه جلداً وتسلب ثيابه، وهذا قول أكثر المفسرين في معنى هذه الآية لأنه قد سمى الجلد عذاباً وهو قوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وقيل المراد عذاب الدارين.
وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم، لأنه يقال رجل حرام وامرأة حرام والجمع حرم، وأحرم الرجل دخل في الحرم وحرام هو المحرم وإن كان في الحل، وفي حكمه من في الحرم وإن كان حلالاً كردح جمع رداح، قيل هما مرادان بالآية، وسيأتي في النهي عن قتل الصيد فلا يجوز قتل الصيد للمحرم ولا في الحرم، والمراد بالصيد كل حيوان متوحش مأكول اللحم قاله الشافعي.
وقال أبو حنيفة: سواء كان مأكولاً أو لم يكن، فيجب عنده الضمان على من قتل سبعاً أو نمراً أو نحو ذلك، واستثنى الشارع خمس فواسق فأجاز قتلهن (١).
_________
(١) في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ".
وقيل: إنها تلزم الكفارة المخطئ والناسي كما تلزم المتعمد، وجعلوا قيد التعمد خارجاً مخرج الغالب، وهو مروي عن عمر والحسن والنخعي والزهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. وأصحابهم، وروي عن ابن عباس، وقيل: إنه يجب التكفير على العامد الناسي لإحرامه وبه قال مجاهد، قال: فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها.
(فجزاء) أي فعليه جزاء (مثل ما قتل من المنعم) بيان للجزاء المماثل قيل المراد المماثلة في القيمة وقيل في الخلقة، وقد ذهب إلى الأول أبو حنيفة، وذهب إلى الثاني مالك والشافعي وأحمد والجمهور من الصحابة ومن بعدهم وهو الحق. لأن البيان للماثل بالمنعم يفيد ذلك وكذلك يفيده هدياً بالغ الكعبة.
وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج القيمة ولو وجد المثل، وأن المحرم مخير. وللسلف في تقدير الجزاء المماثل وتقدير القيمة أقوال مبسوطة في مواطنها، وفي قراءة بإضافة جزاء، قال الواحدي: ولا ينبغي إضافة الجزاء إلى المثل لأن عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، فإنه لا جزاء عليه لما لم يقتله، وقد أجاب الناس عنها بأجوبة سديدة، ذكرها السمين.
(يحكم به) أي بالجزاء وبمثل ما قتل (ذوا عدل منكم) أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به، وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي في النعامة ببدنةٍ، وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش
أقول ههنا أمران أحدهما اعتبار المماثلة والثاني حكم العدلين، والظاهر أن العدلين إذا حكما بغير المماثل لم يلزم حكمهما لأنه قال يحكم به أي بالمماثل، وحق العدالة أن لا يقع من صاحبها الحكم بغير المماثل إلا لغلط أو طروء شبهة بأن المعتبر في المماثلة هو هذا الوصف دون هذا الوصف والواقع بخلافه.
ثم الظاهر أن العدلين إذا حكما بحكم في السلف لا يكون ذلك الحكم لازماً للخلف بل تحكيم العدلين ثابت عند كل حادثة تحدث في قتل الصيد.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن جعل الظبي مشبهاً للشاة دون التيس مخالف للمشاهد المحسوس، فإن الظبي يشبه التيس في غالب ذاته وصفاته، ولا مشابهة بينه وبين الشاة في غالب ذاته وصفاته، وكذلك الحمامة فإنها لا تشبه الشاة في شيء من الأوصاف، وإذا صح من بعض السلف أنه حكم في شيء منها بشاة فذلك غير لازم لنا لما عرفت من أن حكم العدلين لا بد أن يكون بالمثل كما صرح به القرآن الكريم، وما أقرب ما حكم به ابن عباس وابن عمر في القطاة، فكان الأولى أن يكون الحكم في الحمامة وما يشابهها من الطيور كهذا الحكم في القطاة ويزاد قليلاً من الطعام لما هو أكبر، وينقص قليلاً لما هو أصغر، وكما قاله عمر تمرة خير من جرادة، وأقول أنا وصاع خير من حمامة.
(هدياً) منصوب على الحال أو البدل من مثل (بالغ الكعبة) صفة لهدي لأن الإضافة غير حقيقية، والمعنى أنهما إذا حكما بالجزاء فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة والنحر هنالك والإشعار والتقليد، ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها وإنما أراد جميع الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه، ولا يجوز أن يذبح حيث كان ولا خلاف في هذا.
(أو كفارة) معطوف على محل من النعم وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ
وروي عنه أنه لا يجزئ المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي، والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المثل قاله الكسائي، وقال الفراء: عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه وبمثل قول الكسائي قال البصريون.
وأوجبنا ذلك عليه (ليذوق وبال أمره) فهذا علة لإيجاب الجزاء، والذوق مستعار لإدراك المشقة، ومثله (ذق إنك أنت العزيز الكريم) والوبال سوء العاقبة والمرعى الوبيل الذي يتأذى به بعد أكله، وطعام وبيل إذا كان ثقيلاً، وإنما سمى الله ذلك وبالاً لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس لما فيه من تنقيص المال، وثقل الصوم من حيث إن فيه إنهاك البدن.
(عفا الله عما سلف) يعني في جاهليتكم من قتلكم للصيد فلم يؤاخذكم به، وقيل عما سلف قبل التحريم ونزول الكفارة (ومن عاد) إلى ما نهيتم عنه من قتل الصيد مرة ثانية بعد هذا البيان (فينتقم الله منه) في الآخرة فيعذبه بذنبه وقيل ينتقم منه بالكفارة، قال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه بل يقال له اذهب ينتقم الله منك أي ذنبك أعظم من أن يكفر، والإنتقام المبالغة في العقوبة.
ولكن هذا الوعيد لا يمنع إيجاب الجزاء في المرة الثانية والثالثة، فإذا تكرر من المحرم قتل الصيد تكرر عليه الجزاء، وهذا قول الجمهور، وقد روي عن ابن عباس والنخعي وداود الظاهري أنه إذا قتل الصيد مرة ثالثة فلا جزاء عليه لأنه وعده بالإنتقام منه (والله عزيز) غالب على أمره (ذو انتقام) ممن عصاه وجاوز حدود الإسلام.
(أحل لكم) الخطاب لكل مسلم أو للمحرمين خاصة (صيد البحر) هو ما يصاد فيه، والمراد بالبحر هنا كل ما يوجد فيه صيد بحري وإن كان نهراً أو غديراً فالمراد بالبحر جميع المياه العذبة والمالحة (وطعامه) هو اسم لكل ما يطعم وقد تقدم.
وقد اختلف في المراد منه هنا فقيل هو ما قذف به البحر إلى الساحل ميتاً وطفا عليه، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين منهم أبو بكر وعمر وابن عمر وأبو أيوب وقتادة، وقيل طعامه ما ملح منه وبقي وبه قال جماعة، وروي هذا عن ابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والسدي، وقيل طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره وبه قال قوم، وقيل المراد به ما يطعم من الصيد أي ما يحل أكله وهو السمك فقط وبه قالت الحنفية.
والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم المأكول منه وهو السمك فيكون كالتخصيص بعد التعميم وهو تكلف ولا وجه له.
وجملة حيوان الماء على نوعين سمك وغير سمك، فالسمك جميعه حلال على اختلاف أجناسه قال رسول الله - ﷺ - في البحر: " هو الطهور ماؤه والحل ميتته " (١) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، لا فرق بين أن يموت بسبب أو غير سبب فيحل أكله، وبه قال الشافعي وأهل الحديث.
وما عدا السمك قسمان قسم يعيش في البر والبحر كالضفدع والسرطان فلا يحل أكلهما، وقال سفيان أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس واختلفوا في
_________
(١) أبو داود الباب ٤١ من كتاب الطهارة - الترمذي الباب ٥٢ من كتاب الطهارة.
قال أحمد يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح، وقال ابن أبي ليلى ومالك يباح كل ما في البحر، وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " طعامه ما لفظه ميتاً فهو طعامه "، وعن أبي بكر الصديق قال: صيد البحر ما تصطاده أيدينا وطعامه ما لاثه البحر، وفي لفظ طعامه كل ما فيه، وفي لفظ طعامه ميتته.
ويؤيد هذا ما في الصحيحين من حديث العنبرة التي ألقاها البحر فأكل الصحابة منها وأقرهم رسول الله - ﷺ - على ذلك، وحديث هو الطهور ماؤه والحل ميتته، وحديث أحل لكم ميتتان ودمان.
(متاعاً لكم) أي متعتم به متاعاً، وقيل مختص بالطعام أي أحل لكم طعام البحر متاعاً وهو تكلف جاء به من قال بالقول الأخير، بل إذا كان مفعولاً له كان من الجميع أي لمن كان مقيماً منكم يأكله طرياً (وللسيارة) أي المسافرين منكم يتزودونه ويجعلونه قديداً، وقيل السيارة هم الذين يركبونه خاصة.
(وحرم عليكم صيد البر) أي ما يصاد فيه وهو ما لا يعيش إلا فيه من الوحش المأكول أن تصيدوه (ما دمتم حرماً) أي محرمين، وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان الصائد حلالاً، وإليه ذهب الجمهور إن كان الحلال صاده للمحرم لا إذا لم يصده لأجله، وهو القول الراجح وبه يجمع بين الأحاديث.
وقيل إنه يحل له مطلقاً، وذهب إليه جماعة، وقيل يحرم عليه مطلقاً، وإليه ذهب آخرون، وقد بسط الشوكاني هذا في شرحه نيل الأوطار.
وقد ذكر الله تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة (أحدها) في أولها وهو قوله: (غير محلى الصيد وأنتم حرم) الثاني قوله: (لا
تقتلوا الصيد وأنتم حرم) الثالث هذه الآية، وكل ذلك لتأكيد تحريم الصيد على المحرم.
(واتقوا الله) فيما نهاكم عنه فلا تستحلوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم أو في جميع الجائزات والمحرمات، ثم حذرهم بقوله: (الذي إليه) لا إلى غيره (تحشرون) وفيه تشديد ومبالغة في التحذير.
(البيت الحرام) عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح، قاله الزمخشري وقيل مفعول ثان لجعل، ولا وجه له، وقيل بدل وسمي بيتاً لأن له سقوفاً وجدراً، وهي حقيقة البيت وإن لم يكن به ساكن، وسمي حراماً لتحريم الله سبحانه إياه.
ومعنى كونه (قياماً للناس) أنه مدار لمعاشهم ودينهم أي يقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم يأمن فيه خائفهم وينصر فيه ضعيفهم، وتربح فيه تجارتهم ويتعبد فيه متعبدهم، وقال ابن عباس: قياماً لدينهم ومعالم لحجهم،
(والشهر الحرام) عطف على الكعبة، وهو ذو الحجة وخصه من بين الأشهر الحرم لكونه زمان تأدية الحج، وقيل هو اسم جنس المراد به الأشهر الحرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فإنهم كانوا لا يطلبون فيها دماً ولا يقاتلون بها عدواً، ولا يهتكون فيها حرمة، فكانت من هذه الحيثية قياماً للناس (و) جعل الله (الهدي والقلائد) قياماً لمصالحهم، والمراد بالقلائد ذوات القلائد من الهدي وهي البدن، خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر، فهو من عطف الخاص على العام، قاله أبو السعود، ولا مانع من أن تراد القلائد أنفسها أي التي كانوا يقلدون بها أنفسهم يأخذونها من لحاء شجر الحرم إذا رجعوا من مكة ليأمنوا على أنفسهم من العدو.
(ذلك) الجعل المذكور، وقيل شرع الله ذلك وهو أقوى الوجوه (لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض) أي تفاصيل أمرهما ويعلم مصالحكم الدينية والدنيوية فإنها من جملة ما فيهما، فكل ما شرعه لكم فهو جلب لمصالحكم ودفع لما يضركم (وأن الله بكل شيء عليم) هذا تعميم بعد التخصيص والمعنى لا تخفى عليه خافية.
ثم أخبرهم أن
(ولو أعجبك كثرة الخبيث) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيل لكل مخاطب يصلح لخطابه بهذا أو المراد نفي الاستواء في كل حال ولو في حال كون الخبيث معجباً للرائي للكثرة التي فيه، فإن هذه الكثرة مع الخبث في حكم العدم، لأن خبث الشيء يبطل فائدته ويمحق بركته، ويذهب بمنفعته.
والواو إما للحال أو للعطف على مقدر أي لا يستوي الخبيث والطيب لو لم يعجبك كثرة الخبيث ولو أعجبك كقولك أحسن إلى فلان وإن أساء إليك
(فاتقوا الله) فيما أمركم به ونهاكم عنه وآثروا الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر (يا أولي الألباب) أي العقول السليمة الخالصة (لعلكم تفلحون) تفوزون وتنجون.
(أحدها) أنه اسم جمع من لفظ شيء فهو مفرد لفظاً جمع معنى، وهو رأي الخليل وسيبويه.
(الثاني) وبه قال الفراء أنها جمع شيء كهين.
(الثالث) وبه قال الأخفش أنهما جمع شيء بِزِنَة فلس.
(الرابع) وهو قول الكسائي وأبى حاتم أنه جمع شيء كبيت، واعترض الناس عليه.
(الخامس) أن وزنه أفعلاء أيضاً جمع لشيء بزنة ظريف.
(إن تبد) أي إذا بدت وظهرت (لكم) وكلفتم بها (تسؤكم) أي ساءتكم لما فيها من المشقة، نهاهم الله تعالى عن كثرة مسائلهم لرسول الله - ﷺ - فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سبباً لإيجابه على السائل وعلى غيره.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: خطب النبي ﷺ خطبة ما سمعت مثلها قط فقال رجل: من أبي! فقال: فلان فنزلت هذه الآية لا تسألوا عن أشياء، وأخرج البخاري وغيره نحوه عن ابن عباس.
وأخرج ابن حبان عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - خطب فقال: " يا أيها الناس إن الله قد افترض عليكم الحج، فقام رجل فقال أكل عام يا رسول الله - ﷺ - فسكت عنه فأعادها ثلاث مرات فقال لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " (١) وذلك أن هذه الآية أعني لا تسألوا عن أشياء نزلت في ذلك، وأخرجه أيضاً جماعة من أهل الحديث، وكل هؤلاء صرحوا في أحاديثهم أن الآية نزلت في ذلك.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: كانوا يسألون عن الشيء وهو لهم حلال فما زالوا يسألون حتى يحرم عليهم وإذا حرم عليهم وقعوا فيه.
وأخرج ابن المنذر وهو في مسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته " (٢).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها. وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها " (٣)، وعن ابن عباس قال: لا تسألوا عن أشياء قال البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
_________
(١) الترمذي كتاب التفسير سورة ٥ - ١٥ - النسائي كتاب المناسك الجزء١.
(٢) البخاري كتاب الاعتصام الباب ٢ - مسلم كتاب الفضائل ١٣٢ - ١٣٣.
(٣) المستدرك كتاب الأطعمة ٤/ ١١٥.
وقد ظن بعض أهل التفسير أن الشرطية الثانية فيها إباحة السؤال مع وجود رسول الله - ﷺ - ونزول الوحي عليه فقال: إن الشرطية الأولى أفادت عدم جوازه فقال إن المعنى وإن تسألوا عن غيرها مما مست إليه الحاجة تبدو لكم بجواب رسول الله - ﷺ - عنها وجعل الضمير في عنها راجعاً إلى أشياء غير الأشياء المذكورة، وجعل ذلك كقوله: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) وهو آدم ثم قال: (ثم جعلناه نطفة) أي ابن آدم، وقد أطال سليمان الجمل الكلام على هذه الآية بذكر أقوال الكرخي والخازن والقرطبي والجرجاني لا نطول بذكرها.
(عفا الله عنها) أي عن ما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى ذلك، وقيل المعنى أن تلك الأشياء التي سألتم عنها هي مما عفا عنه ولم يوجبه عليكم فكيف تتسببون بالسؤال لإيجاب ما هو عفو من الله غير لازم، وضمير عنها عائد إلى المسألة على الأول وإلى أشياء على الثاني، على أن تكون جملة عفا الله عنها صفة ثالثة لأشياء والأول أولى، لأن الثاني يستلزم أن يكون ذلك المسؤول عنه قد شرعه الله ثم عفا عنه.
وممكن أن يقال: إن العفو بمعنى الترك أي تركها الله ولم يذكرها بشيء فلا تبحثوا عنها، وهذا معنى صحيح لا يستلزم ذلك اللازم الباطل (والله غفور حليم) جاء سبحانه بصيغة المبالغة ليدل ذلك على أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة لكثرة مغفرته وسعة حلمه.
(قوم من قبلكم) كما سأل قوم صالح الناقة وسأل قوم عيسى المائدة وسأل قوم موسى رؤية الله جهرة (ثم) لم يعملوا بها بل (أصبحوا بها كافرين) أي ساترين لها تاركين للعمل بها فإن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.
ولا بد من تقييد النهي في هذه بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين والدنيا قد أذن الله بالسؤال عنه فقال فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال صلى الله عليه وسلم: " قاتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العي السؤال " (١).
_________
(١) أبو داود كتاب الطهارة الباب ١٢٥ - أحمد بن حنبل ١/ ٢٨٠.
ومنع الشيخ هذه التقولات كلها بأن جعل لم يعد اللغويون من معانيها شرع وخرج الآية على التصيير ويكون المفعول الثاني محذوفاً أي ما صير الله بحيرة مشروعة، وقال أبو السعود: معنى ما جعل ما شرع وما وضع ولذلك عدي إلى مفعول واحد هو بحيرة وما عطف عليها، ومن مزيدة لتأكيد النفي فإن الجعل التكويني كما يجيء تارة متعدياً إلى مفعولين وأخرى إلى واحد كذلك الجعل التشريعي يجيء مرة متعدياً إلى مفعولين كما في قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس) وأخرى إلى واحد كما في الآية الكريمة انتهى.
وبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة مأخوذة من البحر وهو شق الأذن، ، قال ابن سيد الناس: البحيرة هي التي خليت بلا راع قيل هي التي يجعل درها للطّواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس وجعل شق أذنها علامة لذلك، قاله سعيد بن المسيب.
قال الشافعي: كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت، وبه قال أبو عبيدة زاد: فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن مرعى ولا ماء، وإذا لقيها الضعيف لم يركبها، وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكراً بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها.
وقيل إذا نتجت خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرموا ركوبها ودرها وقيل غير ذلك، ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن العرب كانت تختلف أفعالها في البحيرة.
(ولا) أي وما جعل من (سائبة) أى مسيبة مخلاة وهي الناقة تسيب
(ولا) أي وما جعل من (وصيلة) قيل هي ناقة ولدت أنثى بعد أنثى، وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وقيل كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها وكان لحمها حراماً على النساء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء.
وقيل: هي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثنى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون قد وصلت أنثى بأنثى.
(ولا) جعل من (حام) هو الفحل الحامي ظهره عن أن يركب وينتفع به، وكانوا إذا ركب ولد ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب، وقيل هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء، وقيل هو الفحل ينتج من بين أولاده عشر إناث رواه ابن عطية وقيل هو الفحل يولد من صلبه عشرة أبطن، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وإليه مال أبو عبيدة والزجاج.
وقال الشافعي: إنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقال ابن دريد: هو الفحل ينتج له سبع إناث متواليات فيحمي ظهره فيفعل به ما تقدم.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثنى بعد بالأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً ورأيت عمراً يعني عمرو بن لحي يجر قصبه أي أمعاءه وهو أول من سيب السوائب " أخرجه الشيخان (١).
(ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذباً لا لشرع شرعه الله لهم، ولا لعقل دلهم الله عليه، وسبحان الله العظيم ما أرك عقول هؤلاء وأضعفها يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة ونفس الحمق، وهذا شأن علمائهم ورؤسائهم وكبرائهم.
(وأكثرهم) أي أراذلهم وعوامهم الذين يتبعونهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يشهد به سياق النظم (لا يعقلون) إن هذا كذب باطل وافتراء من الرؤساء على الله سبحانه حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فاستمروا في أشد التقليد، وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم.
_________
(١) مسلم ٩٠١ - البخاري ٥٨٤.
(وإذا قيل لهم) أي لعوامهم المعبر عنهم بالأكثر (تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول) أي إلى كتاب الله وسنة رسوله وحكمهما (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) وهذه أفعال آبائهم وسننهم التي سنوها لهم، وصدق الله سبحانه حيث يقول (أو) الواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام للإنكار والتعجيب، وقيل للعطف على جملة مقدرة وهو الأظهر أي أحسبهم ذلك و (لو كان آباؤهم) جهلة ضالين (لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في البقرة، وقال هنا: (ما وجدنا) وهناك ما ألفينا، ولا يعلمون هنا ولا يعقلون هناك للتفنن وأساليب من التعبير، وهذا مما
استحسنه أبو حيان والسمين.
والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى الذي يبنى قوله على الحجة والبرهان والدليل وأن آباءهم ما كانوا كذلك فكيف يصح الاقتداء بهم.
وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكؤون عليها إن دعاهم داعي الحق وصرخ بهم صارخ الكتاب والسنة، فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله مع مخالفة قوله لكتاب الله أو لسنة رسوله هو كقول هؤلاء، وليس الفرق إلا في مجرد العبارة اللفظية لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والاستفادة، اللهم غفراً.
وكثيراً ما نسمع من أسراء التقليد الذين يعرفون الحق بالرجال لا بالاستدلال إذا قال لهم القائل الحق في هذه المسألة كذا أو الراجح قول فلان قالوا لست أعلم من فلان يعنون القائل من العلماء بخلاف الراجح في تلك
فيقال لهم: له من الأشباه والأنظار في علماء السلف والخلف آلاف مؤلفة بل فيهم أعداد متعددة يفضلونه ولهم في المسألة الواحدة الأقوال المتقابلة فربما كانت العين الواحدة عند بعضهم حلالاً وعند الآخر حراماً فهل تكون العين حلالاً وحراماً لكون كل واحد منهم لا يفوته الحق كما زعمتم، فإن قلتم نعم فهذا باطل ومن قال بتصويب المجتهدين إنما يجعل قول كل واحد منهم صواباً لا إصابة، وفرق بين المعنيين.
أو يقول القائل في جواب مقالتهم: فلان أعرف منك بالحق لكونه أعلم إذا كان الأسعد بالحق الأعلم، فما أحد إلا وغيره أعلم منه ففلان الذي يعنون غيره أعلم منه فهو أسعد منه بالحق فلم يكن الحق حينئذ بيده ولا بيد أتباعه.
وهذه المحاورات إنما يحتاج إليها من ابتلى بمحاورة المقصرين الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون أسرار الأدلة، ولا يفهمون الحقائق، فيحتاج من ابتلي بهم وبما يرد عليه من قبلهم إلى هذه المناظرات التي لا يحتاج إلى مثلها من له أدنى تمسك بأذيال العلم، فإن كل عارف يعرف أن وظيفة المجتهد ليست قبول قول العالم المختص بمرتبة من العلم فوق مرتبته، إنما وظيفته قبول حجته فإذا لم تبرز الحجة لم يحل للمجتهد الأخذ بذلك القول الخالي عن الحجة في علمه وإن كان في الواقع وربما له حجة لم يطلع عليها العالم الآخر إلا أن مجرد هذا التجويز يجوز التمسك به في إحسان الظن بالعالم الأول وحمله على السلامة لا أنه يجوز التمسك به في أن المقالة حق يجوز التمسك بها كما يجوز التمسك بالدليل، فهو لا يقوله إلا من لا حظ له من العلم ولا نصيب له من العقل.
(يا أيها الذين آمنوا عليكم) أي الزموا (أنفسكم) واحفظوها من ملابسة الذنوب والإصرار على المعاصي وقوموا بصلاحها، يقال عليك زيداً أي الزم زيداً فالنصب على الإغراء، واختلف النحاة في الضمير المتصل بها وبأخواتها نحو إليك ولديك ومكانك، والصحيح أنه في موضع جر، كما كان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء، وهذا مذهب سيبويه.
وذهب الكسائي إلى أنه منصوب المحل وفيه بعد لنصب ما بعده، وذهب الفراء إلى أنه مرفوع، وقد حققت هذه المسائل بدلائلها مبسوطة في شرح التسهيل.
(لا يضركم) ضلال (من ضل) من الناس أي أهل الكتاب وغيرهم (إذا اهتديتم) للحق أنتم في أنفسكم، وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد، وقد قال سبحانه: (إذا اهتديتم).
وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً مضيقاً متحتماً، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر والنهي أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره وضرراً يسوغ له معه الترك.
أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير والبغوي وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية قال أية آية؟ قلت قوله: (يا أيها الذين آمنوا) الخ قال أما والله لقد سألت
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى فاحتبس على رسول الله ﷺ ثم أتاه فقال له: " ما حبسك؟ قال يا رسول الله قرأت هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) الآية، قال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين ذهبتم، إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم ".
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والدارقطني وأحمد وغيرهم عن قيس ابن أبي حازم قال: قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب، وفي لفظ لابن جرير عنه والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله منه بعقاب " (٢).
وعن ابن مسعود وسأله رجل عن قوله عليكم أنفسكم قال: إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم، وعن ابن عمر أنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم، وعن أبي بن كعب إنما
_________
(١) الترمذي كتاب التفسير سورة ٥ - ١٨ - ابن ماجه كتاب الفتن الباب ٢١.
(٢) أحمد بن حنبل ١/ ٥ - ٧.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال ذكرت هذه الآية عند رسول الله - ﷺ - فقال: " لم يجئ تأويلها لا يجىء تأويلها، حتى يهبط عيسى بن مريم عليه السلام ".
قال الطبري: وأولى هذه الأقوال وأوضح التأويلات عندنا في هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق وهو العمل بطاعة الله وأداء ما لزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم والله ما نزل آية أشد منها.
وعن ابن المبارك هذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الله تعالى قال عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضاً ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والمكروهات.
وقال مجاهد وابن جبير: هي في اليهود والنصارى خذوا منهم الجزية واتركوهم.
وقال أبو السعود: ولا يتوهم أن في هذه الآية رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع استطاعتهما، كيف لا ومن جملة الاهتداء أن ينكر على المنكر حسبما تفي به الطاقة انتهى.
والأقوال والروايات في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية، ففيه ما يرشد إلى ما قدمنا من الجمع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(إلى الله مرجعكم جميعاً) أي إليه في الآخرة رجوع الطائع والعاصي والضال والمهتدي، ففي الآية اكتفاء (فينبئكم بما كنتم تعملون) أي فيخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها، وفي هذا وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بعمل غيره.
(يا أيها الذين آمنوا) استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم أثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم (شهادة بينكم) قال مكي في كتابه المسمى بالكشف: هذه الآيات الثلاث يعني هذه واللتان بعدها عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً وتفسيراً ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفون عنها. قال ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد.
قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى يعني من كتاب مكي، قال القرطبي: ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً، قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً انتهى.
قال السخاوي: لم أر أحداً من العلماء تخلص كلامه من أولها إلا آخرها قلت وأنا أستعين الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراآتها ومعرفة تأليفها، وأما بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبها إلا آخر ما في عبارة السمين، فارجع إليه إن شئت.
وأضاف الشهادة إلا البين توسعاً لأنها جارية بينهم، وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت (ما) وأضيفت إلا الظرف كقوله تعالى: (بل مكر الليل والنهار) ومنه قوله تعالى: (هذا فراق بيني وبينك) واختلف في هذه الشهادة فقيل هي هنا بمعنى الوصية، وقيل بمعنى الحضور للوصية.
(إذا حضر أحدكم الموت) المراد بحضور الموت حضور علاماته لأن من مات لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للإهتمام ولإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها فإنه أدخل في تهوين أمر الموت.
(حين الوصية) بدل منه لا ظرف للموت كما توهم ولا لحضوره كما قيل، فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها.
(اثنان ذوا عدل منكم) أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له وأقرب إلى تحري ما هو أصلح له (أو آخران) كائنان (من غيركم) أي من الأجانب وقيل إن الضمير في (منكم) للمسلمين والمراد بقوله (غيركم) الكفار وهو الأنسب بسياق الآية وبه قال أبو موسى الأشعري وابن عباس وغيرهما: فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني، ويشهد له السبب للنزول وسيأتي.
فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا، وإن ما شهدا به حق فيحكم حينئذ بشهادتهما فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها.
هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى ابن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وابن
وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ، وأما قوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) وقوله: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فهما علمان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين، ولا تعارض بين خاص وعام.
(إن أنتم ضربتم في الأرض) الضرب في الأرض هو السفر أي إن سافرتم فيها، قال السمين قوله: إن أنتم قيد في قوله: (أو آخران) وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ إذا حضر أحدكم الموت لكان التركيب هكذا إن هو ضرب في الأرض فأصابته.
(فأصابتكم مصيبة الموت) أي فنزل بكم أسباب الموت وقاربكم الأجل وأردتم الوصية حينئذ ولم تجدوا شهوداً عليها من المسلمين فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليها ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أنكم (تحسبونهما) وتوقفونهما، ويجوز أن يكون استئنافاً كأنهم قالوا فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة فقال تحبسونهما.
(من بعد الصلاة) إن ارتبتم في شهادتهما وهي صلاة العصر، قاله الأكثر، لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجراً كما في الحديث الصحيح، وعدم تعيينها في الآية لتعينها عندهم للتحليف بعدها قيل وجميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويجتنبون فيه الحلف الكاذب، وقيل لكونه وقت اجتماع الناس وقعود الحكام للحكومة، وقيل لأنه وقت تصادم ملائكة
والمراد بالحبس توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما.
(فيقسمان) أي الشاهدان على الوصية أو الوصيان (بالله) وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقاً إذا حصلت الريبة في شهادتهما وفيه نظر، لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو بوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها.
قال الشافعي: الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم، فيحلف بعد صلاة العصر إن كان بمكة بين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان في بيت المقدس فعند الصخرة، وفي سائر البلاد في أشرف المساجد وأعظمها بها.
(إن ارتبتم) أي شككتم أيها الورثة في قول الشاهدين وصدقهما فحلفوهما وهذا إذا كانا كافرين أما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع.
(لا تشتري به ثمناً) الضمير راجع إلى الله تعالى، والمعنى لا نبيع حظنا من الله تعالى وعهده بهذا العرض النذر من الدنيا فنحلف به كاذبين لأجل مال ادعيتموه علينا وعوض نأخذه أو حق نجحده، وقيل يعود إلى القسم أي لا نستبدل لصحة القسم بالله عرضاً من أعراض الدنيا وقيل يعود إلى تحريف الشهادة قاله أبو علي.
وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول أي لا نستبدل بشهادتنا ثمناً، وهذا أقوى من حيث المعنى، قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن وهذا مبني على أن
(ولو كان ذا قربى) أي ولو كان المشهود له أو المقسم له ذا قرابة منا، وإنما خص القربى بالذكر لأن الميل إليهم أكثر من غيرهم، والمعنى لا نؤثر العرض الدنيوى ولا القرابة، وجواب لو محذوف لدلالة ما قبلها عليه أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمناً.
(ولا نكتم شهادة الله) معطوف على (لا نشتري) داخل معه في حكم القسم، وأصاف الشهادة إلى الله سبحانه لكونه الآمر بإقامتها والناهي عن كتمها، قال ابن زيد: لا نأخذ به رشوة (إنا إذاً) إن كتمنا الشهادة (لمن الآثمين).
أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدا فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله - ﷺ - بالله ما كتمتماها ولا اطلعتما ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي. وقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآية، وفي إسناده محمد بن أبي القاسم الكوفي قال الترمذي: قيل إنه صالح الحديث، وقد روى ذلك أبو داود من طريقه.
وقد روى جماعة من التابعين أن هذه القصة هي السبب في نزول الآية، وذكرها المفسرون مختصرة ومطولة في تفاسيرهم، وقال القرطبي: إنه أجمع أهل التفسير على أن هذه القصة هي سبب نزول الآية.
والمعنى أنه إذا اطلع وظهر بعد التحليف (على أنهما) أي الشاهدين أو الوصيين على الخلاف في أن الاثنين وصيان أو شاهدان على الوصية (استحقا) أي استوجبا (إثماً) إما بكذب في الشهادة أو اليمين أو بظهور خيانة بأن وجد عندهما مثلاً ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو وصى لهما به.
قال أبو علي الفارسي: الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأثم بأخذه فسمي إثماً كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة، وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.
(فآخران) أي فشاهدان آخران أو فحالفان آخران من أولياء الميت (يقومان مقامهما) أي مقام الذين عثر على أنهما استحقا اثماً فيشهدان أو يحلفان على ما هو الحق وليس المراد أنهما يقومان مقامهما في أداء الشهادة التي شهدها المستحقان للإثم (من الذين استحق) قريء على البناء للمفعول وعلى الفاعل (عليهم) الوصية وهم الورثة ويبدل من آخران (الأوليان) هو على الأولى مرتفع كأنه قيل من هما فقيل هما الأوليان.
والمعنى على الأولى من الذين استحق عليهم الإثم أي جنى عليهم وهم
والمعنى على الثانية من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين لكونهما الأقربين إلى الميت، فالأوليان فاعل استحق ومفعوله أن يجردوهما للقيام بالشهادة، وقيل المفعول محذوف والتقدير من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها.
(فيقسمان بالله) أي فيحلفان على خيانة الشاهدين (لشهادتنا) أي يميننا فالمراد بالشهادة هنا اليمين كما في قوله تعالى: (فشهادة أحدهم أربع شهادات) بالله أي ليحلفان لشهادتنا على أنهما كاذبان خائنان (أحق من شهادتهما) أي أحق بالقبول من يمينهماعلى أنهما صادقان أمينان (وما اعتدينا) أي ما تجاوزنا الحق في يميننا وقولنا أن شهادتنا أحق من شهادة هذين الوصيين الخائنين (إنا إذاً لمن الظالمين) إن كنا حلفنا على باطل.
(أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) أي ترد على الورثة المدعين فيحلفون على خلاف ما شهد به شهود الوصية فتفتضح حينئذ شهود الوصية
وقال أبو السعود: معطوف على مقدر ينبيء عنه المقام كأنه قيل ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاح برد اليمين، فأي الخوفين وقع حصل المقصود الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها (واتقوا الله) في مخالفة أحكامه وأن تحلفوا أيماناً كاذبة أو تخونوا أمانة (واسمعوا) سمع قبول واجابة أو المواعظ والزواجر (والله لا يهدي القوم الفاسقين) الخارجين عن طاعته بأي ذنب ومنه الكذب في اليمين أو في الشهادة، وهذا تهديد وتخويف لمن خالف حكم الله وخان أمانته أو حلف يميناً كاذبة.
قال الخازن: وهذه الآية الكريمة من أصعب ما في القرآن من الآيات نظماً وإعراباً وحكماً انتهى وقد سهلنا هذا الصعب بتيسيره سبحانه وتعالى.
وحاصل ما تضمنه هذا القام من الكتاب العزيز إن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين، فإن لم يجد شهوداً مسلمين وكان في سفر ووجد كفاراً جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفا بالله على أنهما شهدا بالحق وما كتما من الشهادة شيئاً ولا خانا مما ترك الميت شيئاً، فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه في خلل في الشهادة أو ظهور شيء من تركة الميت وزعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه حلف رجلان من الورثة وعمل بذلك.
(يوم يجمع الله الرسل) أي اسمعوا أو اذكروا أو احذروا قال الزجاج: هي متصلة بما قبلها أي اتقوا الله يوم يجمع وهو يوم القيامة، وقيل يوم يجمع الله الرسل يكون من الأحوال كذا وكذا، وهذا شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين الرسل على وجه الإجمال.
فيقول لهم: (ماذا أجبتم) أي أيّ إجابة إجابتكم بها الأمم الذين بعثكم الله إليهم أو أي جواب أجابوكم به وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي، وتوجيه السؤال إلى الرسل لقصد توبيخ قومهم وأممهم.
(قالوا) ذكر صيغة الماضي للدلالة على التحقيق والمعنى أجابوا بقولهم: (لا علم لنا) مع أنهم عالمون بما أجابوا به عليهم وهذا تفويض منهم وإظهار للعجز وعدم القدرة ورد للأمر إلى علمه ولا سيما مع علمهم بأن السؤال سؤال توبيخ فإن تفويض الجواب إلى الله أبلغ في حصول ذلك.
قال الرازي: إن الرسل لما علموا أن الله عالم لا يجهل وحليم لا يسفه وعادل لا يظلم، علموا أن قولهم لا يفيد خيراً ولا يدفع شراً، فرأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إليه وإلى عدله، فقالوا لا علم لنا انتهى، وقيل لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، وقيل لا علم لنا بما اشتملت عليه بواطنهم، وقيل لا علم لنا كعلمك فيهم، وقيل لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا.
وقيل لا حقيقة لعلمنا بعاقبة أمرهم، وقيل المعنى لا علم لنا إلا علم ما
وعن ابن عباس قال: قالوا لا علم لنا فرقاً تذهل عقولهم، ثم يرد الله إليهم عقولهم فيكونوا هم الذين يسئلون لقول الله فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين.
(إنك أنت علام الغيوب) يعني أنك تعلم ما غاب عنا من باطن الأمور، ونحن نعلم ما نشاهد ولا نعلم ما في البواطن ليس تخفى عليك خافية، وبناء فعال للتكثير، وفيه جواز إطلاق العلام على الله تعالى.
_________
(١) قال القرطبي: هذا في أكثر مواطن القيامة، ففي الخبر " إن جهنم إذا جِيءَ بها زفرت زفرة فلا يبقى نبيّ ولا صدّيق إلا جثا لركبتيه " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر؟ فقال لي يا محمد لتشهدنّ من هَوْل ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة ".
(إذ قال الله يا عيسى بن مريم) إذ بدل من يوم يجمع وهو تخصيص بعد التعميم، وتخصيص عيسى عليه السلام من بين الرسل لاختلاف طائفتي اليهود والنصارى فيه إفراطاً وتفريطاً هذه تجعله إلهاً، وهذه تجعله كاذباً، والماضي هنا بمعنى المضارع لأن هذا القول يقع يوم القيامة مقدمة لقوله: (أأنت قلت) قاله السمين والكرخي، وقال البيضاوي: الماضي بمعنى الآتي على حد قوله: (ونادى أصحاب الجنة).
(اذكر نعمتي عليك) بالنبوة وغيرها (وعلى والدتك) حيث أنبتها نباتاً حسناً وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، ذكره سبحانه نعمته عليه وعلى أمه مع كونه ذاكراً لها عالماً بتفضل الله سبحانه بها لقصد تعريف الأمم بما خصهما به الله من الكرامة وميزهما به من علو المقام، أو لتأكيد الحجة وتبكيت الجاحد بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة، وتوبيخ من اتخذهما الهين ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله سبحانه، وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه ليس لهما من الأمر شيء.
(إذ أيدتك) أي قويتك من الأيد وهو القوة (بروح القدس) فيه وجهان أحدهما أنه الروح الطاهرة المقدسة التي خصه الله بها وقيل أنه جبريل عليه السلام وكان يسير معه حيث سار يعينه على الحوادث التي تقع ويلهمه
وجملة (تكلم الناس) مبينة لمعنى التأييد أي تكلمهم (في المهد) حال كونك صبياً (وكهلا) لا يتفاوت كلامك في الحالين بل يكون على نسق واحد بديع صادر عن كمال العقل والتدبير مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتاً بيناً، وهذه معجزة عظيمة وخاصة شريفة ليست لأحد قبله.
قال ابن عباس: أرسل الله عيسى وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه إليه ثم ينزله إلى الأرض وهو في سن الكهولة.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا كان يوم القيامة يدعى بالأنبياء وأممها ثم يدعى بعيسى فيذكره نعمته عليه فيقر بها فيقول يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك الآية ثم يقول أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فينكر أن يكون قال ذلك فيؤتى بالنصارى فيسئلون فيقولون نعم هو أمرنا بذلك فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله مقدار ألف عام حتى يوقع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار ".
(وإذ علمتك الكتاب) أي اذكر نعمتي عليك وقت تعليمي لك الكتاب أي جنس الكتاب أو المراد بالكتاب الخط (والحكمة) أي الفهم والإطلال على أسرار العلوم، وقيل جنس الحكمة وقيل هي الكلام المحكم (والتوراة والإنجيل) فعلى الأول يكون هذا من عطف الخاص على العام وتخصيصهما بالذكر لمزيد اختصاصه بهما أما التوراة فقد كان يحتج بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال كما هو مصرح بذلك في الإنجيل، وأما الإنجيل فلكونه نازلاً عليه من عند الله سبحانه.
(وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير) أي تصور تصويراً مثل صورة الطير
(وتبريء الأكمه) أي تشفي الأعمى المطموس البصر (والأبرص) هو معروف ظاهر (بإذني) لك وتسهيله عليك وتيسيره لك، وقد تقدم تفسير هذا مطولاً في آل عمران فلا نعيده (وإذ تخرج الموتى) من قبورهم أحياء فيكون ذلك آية لك عظيمة، قيل أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية، وتكرير (بإذني) هنا في المواضع الأربعة بعد أربع جمل للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله ليس لعيسى عليه السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله سبحانه، وقال في آل عمران (بإذن الله) مرتين لأن هناك أخبار فناسب الإيجاز، وهنا مقام تذكير بالمنعمة والامتنان فناسب الإسهاب.
(وإذ كففت) معناه دفعت وصرفت ومنعت (بني إسرائيل) أي اليهود (عنك) حين هموا بقتلك (إذ جئتهم بالبينات) أي المعجزات الواضحات والدلالات الباهرات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام والخبر بكثير من الغيوب، ولا أتى عيسى بهذه الدلالات البينات قصد اليهود بقتله فخلصه الله منهم ورفعه إلى السماء.
(فقال الذين كفروا منهم) أي من اليهود (إن هذا إلا سحر مبين) أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر بين، ولا عظم ذلك في صدورهم وابتهروا منه لم يقدروا على جحده بالكلية بل نسبوه إلى السحر.
(قالوا آمنا) جملة مستأنفة كأنه قيل ماذا قالوا فقال: قالوا آمنا (واشهد) يا رب أو يا عيسى (بأننا مسلمون) أي مخلصون للإيمان، وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام لأن الإيمان من أعمال القلوب، والإسلام هو الإنقياد والخضوع في الظاهر، والمعنى أنهم آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم.
واستشكلت على الثانية بأنه قد وصف سبحانه الحواريين بأنهم قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون والسؤال عن استطاعته لذلك ينافي ما حكوه عن أنفسهم، وأجيب بأن هذا كان في أول معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله ولهذا قال عيسى في الجواب عن هذا الاستفهام الصادر منهم اتقوا الله أي لا
وبهذا يظهر أن قول الزمخشري: إنهم ليسوا مؤمنين ليس بجيد، وكأنه خرق للإجماع قال ابن عطية: ولا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين، وقيل إن ذلك صدر ممن كان معهم وقيل، إنهم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه فإنهم كانوا مؤمنين عارفين بذلك، وإنما هو كقول الرجل هل يستطيع فلان أن يأتي مع علمه بأنه يستطيع ذلك ويقدر عليه، فالمعنى هل يفعل ذلك وهل يجيب إليه، وقيل: إنهم طلبوا الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيي الموتى الآية، ويدل على هذا قولهم من بعد وتطمئن قلوبنا.
وأما على القراءة الأولى فالمعنى هل تستطيع أن تسأل ربك قال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله، فهو من باب واسأل القرية.
عن عائشة قالت: كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك فإنما قالوا هل تستطيع أنت ربك أن تدعوه، ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: أقرأني رسول الله ﷺ هل تستطيع ربك بالتاء يعني بالفوقية وعن ابن عباس أنه قرأها كذلك وبه قرأ علي وسعيد بن جبير ومجاهد.
(أن ينزل علينا مائدة من السماء) المائدة الخوان إذا كان عليه الطعام فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة هذا هو المشهور إلا أن الراغب قال المائدة الطبق الذي عليه الطعام وتقال أيضاً للطعام إلا أن هذا مخالف لما عليه المعظم، وهذه المسألة لها نظائر في اللغة، لا يقال للخوان مائدة إلا وعليه الطعام وإلا فهو خوان، ولا يقال كاس إلا وفيها خمر وإلا فهي قدح، ولا
واختلف اللغويون في اشتقاقها فقال الزجاج: هي من ماد يميد إذا تحرك، وقال أبو عبيدة هي من ماده إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليها، وبه قال قطرب وغيره وقيل فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية قاله أبو عبيدة وقيل غير ذلك، وأطال الكلام في تحقيقه سليمان الجمل فراجعه إن شئت.
(قال) عيسى مجيباً للحواريين (اتقوا الله) من هذا السؤال وأمثاله (إن كنتم مؤمنين) أي صادقين في إيمانكم فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة وقيل: إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه.
(وتطمئن قلوبنا) بكمال قدرة الله أو بأنك مرسل إلينا من عنده أو بأن الله قد أجابنا إلى ما سألناه وإن كنا مؤمنين به من قبل، فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلالي مما يوجب ازدياد الطمأنينة وقوة اليقين.
(ونعلم) علماً يقينياً (أن قد صدقتنا) في نبوتك (ونكون عليها من الشاهدين) عند من لم يحضرها من بني إسرائيل أو من سائر الناس أو من الشاهدين لله بالوحدانية أو من الحاضرين دون السامعين.
ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة (قال عيسى ابن مريم) قيل: إنه اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وبكى ثم دعا فقال (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة) كائنة أو نازلة (من السماء تكون لنا عيداً) أي عائدة من الله علينا أو يكون يوم نزولها لنا عيداً، وقد كان نزولها يوم الأحد وهو يوم عيد لهم، والعيد يوم السرور، وهو واحد الأعياد.
وقيل أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود فقيل ليوم الفطر والأضحى عيدان لأنهما يعودان في كل سنة قاله ثعلب، وقال الخليل: العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه، قال ابن الأنباري: النحويون يقولون لأنه يعود بالفرح والسرور، وعيد العرب لأنه يعود بالفرح والحزن وكل ما عاد إليك في وقت فهو عيد، وقال الراغب: العيد حالة تعاود الإنسان والعائدة كل نفع يرجع إلى الإنسان بشيء.
ومعنى (لأولنا وآخرنا) لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم، قال ابن عباس: معناه يأكل منها أولى الناس كما يأكل آخرهم (وآية منك) أي دلالة وحجة واضحة على كمال قدرتك وصحة إرسالك من أرسلته (وارزقنا) أي أعطنا هذه المائدة المطلوبة بينة، أو ارزقنا رزقاً نستعين به على عبادتك (وأنت خير الرازقين) بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطي سواك.
فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليه السلام
وقال الحسن: وعدهم بالإجابة فلما قال: (فمن يكفر بعد) أي بعد نزولها (منكم فإني أعذبه عذاباً) أي تعذيباً قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا العذاب معجلاً في الدنيا أو مؤخراً إلى الآخرة (لا أعذبه) أي لا أعذب مثل ذلك التعذيب (أحداً من العالمين) قيل المراد عالمي زمانهم، وقيل جميع العالمين، وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره.
قيل لما سمعوا هذا الوعيد الشديد خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا، وقالوا لا نريدها فلم تنزل وبه قال مجاهد والحسن، والصحيح الذي عليه جماهير الأمة ومشاهير الأئمة أنها قد نزلت.
عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى بن مريم أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير قلت لنا أن
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير " (١)، وقد روي موقوفاً على عمار قال الترمذي: والوقف أصح.
وعن ابن عباس قال: المائدة سمكة وأرغفة، وعنه قال: نزلت على عيسى والحواريين خوان عليه سمك وخبز يأكلون منه أينما تولوا إذا شاءوا، عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون.
_________
(١) الترمذي، كتاب التفسير، سورة ٥ - ٢١.
وقيل إذ هنا بمعنى إذا كقوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا) تعبيراً عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، وقد قيل في توجيه هذا الاستفهام منه تعالى إنه لقصد التوبيخ كما سبق وقيل لقصد تعريف المسيح بأن قومه غيروا بعده وادعوا عليه ما لم يقله.
(قال سبحانك) تنزيهاً له سبحانه أي أنزهك تنزيهاً أشار به إلى أن
(ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) أي ما ينبغي لي أن أدعي لنفسي ما ليس من حقها وقيل التقدير ما ليس يثبت لي بسبب حق، وقيل ما ليس مستحقاً لي، وعلى هذا الباء زائدة.
ورد ذلك إلى علمه سبحانه فقال: (إن كنت قلته فقد علمته) وهذا هو غاية الأدب وإظهار المسكنة لعظمة الله تعالى وتفويض الأمر إلى علمه، وقد علم أنه لم يقله فثبت بذلك عدم القول به، وقيل التقدير أن تصح دعواي لما ذكر، وقدره الفارسي بقوله: إن أكن الآن قلته فيما مضى فقد تبين وظهر علمك به.
(تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) هذه الجملة في حكم التعليل لما قبلها أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وقال ابن عباس: المعنى تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه، وقيل تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد، وقيل تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة وقيل تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل.
وهذا الكلام من باب المشاكلة والمقابلة والإزدواج كما هو معروف عند علماء المعاني والبيان، وعليه حام الزمخشري، والنفس عبارة عن ذات الشيء يقال نفس الشيء وذاته بمعنى واحد، وقال الزجاج: النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته يقول تعلم جميع حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك، والأول أولى، وفيه دلالة على إطلاق لفظ النفس عليه سبحانه (إنك أنت علام الغيوب) تعلم ما كان وما سيكون وهذا تأكيد لما قبله.
(ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) هذه الجملة مقررة لمضمون ما تقدم أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني والاستثناء مفرغ (أن اعبدوا الله ربي وربكم) هذا تفسير لمعنى ما قلت لهم أي ما أمرتهم إلا أن وحدوا الله ولا تشركوا به شيئاً (وكنت عليهم شهيداً) أي حفيظاً ورقيباً أرعى أحوالهم وأمنعهم عن مخالفة أمرك (ما دمت) أي مدة دوامي (فيهم).
(فلما توفيتني) قيل هذا يدل على أن الله سبحانه توفاه قبل أن يرفعه، وليس بشيء لأن الأخبار قد تضافرت بأنه لم يمت، وأنه باق في السماء على الحياة التي كان عليها في الدنيا حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان، وإنما المعنى فلما رفعتني إلى السماء وأخذتني وافياً بالرفع.
قيل الوفاة في كتاب الله سبحانه قد جاءت على ثلاثة أوجه بمعنى الموت ومنه قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) وبمعنى النوم ومنه قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) أي ينيمكم، وبمعنى الرفع ومنه (فلما توفيتني) وإذ قال الله يا عيسى إني متوفيك والتوفي يستعمل في أخذ الشيء وافياً أي كاملاً.
(كنت أنت الرقيب) أصل المراقبة المراعاة أي كنت الحافظ لهم والعالم بهم والشاهد (عليهم وأنت على كل شيء شهيد) أي شاهد لما كان وما يكون أو أنت العالم بكل شيء فلا يعزب عن عملك شيء ومنه قولي لهم وقولهم بعدي.
وقيل: قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم، قال ابن عباس: يقول عبيدك قد استوجبوا العذاب بمقالتهم وإن تغفر لهم أي من تركت منهم ومد في عمره حتى أهبط من السماء إلى الأرض لقتل الدجال فزالوا عن مقالتهم ووحدوك فإنك أنت العزيز الحكيم.
_________
(١) وقد روى أبو ذر قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيام ليلةٍ بآيةٍ يرددها: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).
رواه أحمد في " المسند " ٥/ ١٤٩ ولفظه عن أبي ذر قال: صلى رسول الله ﷺ ليلة، فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فلما أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها.
قال: " سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله عز وجل شيئاً " ورجاله ثقات، خلا جسرة بنت دجاجة العامرية، فإنه لم يوثقها سوى العجلي وابن حبان، وقال البخاري. عند جسرة عجائب. انظر " تهذيب التهذيب " ١٢/ ٤٠٦.
(لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً) قد تقدم تفسيره وهذا إشارة إلى ما يحصل لهم من الثواب الدائم الذي لا انقطاع له ولا انتهاء (رضي الله عنهم) بما عملوه من الطاعات الخالصة له (ورضوا عنه) بما
(ذلك) أي ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبداً ورضوان الله عنهم (الفوز العظيم) أي: إنهم فازوا بالجنة ونجوا من النار، والفوز الظفر بالمطلوب على أتم الأحوال.
وقيل: المعنى أن له ملك السموات والأرض وما فيها من العقلاء وغيرهم يتصرف فيها كيف يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياء وإماتة أمراً ونهياً من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخل في ذلك، وهو الذي يعطي الجنات للمطيعين جعلنا الله تعالى منهم آمين (وهو على كل شيء) من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء (قدير) أي قادر، نسأله أن يوفقنا لمرضاته، ويجعلنا من الفائزين بجناته.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعاموهي مائة وخمس أو ست وستون آيه قال الثعلبي: هي مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي (وما قدروا الله حق قدره) إلي آخر ثلاث آيات وقل تعالوا آتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية وهي الآيات المحكمات أي في هذة السورة وقال القرطبي: هي مكية إلا آيتين هما (وما قدروا الله حق قدره) نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين. وقوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) نزلت في ثابت ابن قيس.
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتقديس، والأرض ترتج ورسول الله - ﷺ - يقول سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم (١).
وعن ابن عباس وعلي أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلاً. وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة قال القرطبي: قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور. وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة نها في معنى واحد من الحجة وأن تصرف ذلك بوجوه كثيرة. وعليها بنى المتكلمون أصول الدين.
_________
(١) ابن كثير ١/ ١٢٢.
بسم الله الرحمن الرحيم