ﰡ
وقيل : لكثرة أسبابها( ١ )، بخلاف النّور.
و " جَعَلَ " تأتي لخمسة معانٍ :
فتأتي : بمعنى " خَلَقَ " كما هنا، وكما في قوله تعالى :﴿ وجعل فيها رواسي من فوقها ﴾ [ فصلت : ١٠ ].
وبمعنى : " بَعَثَ " كما في قوله تعالى :﴿ وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً ﴾ [ الفرقان : ٣٥ ].
وبمعنى : " قال " كما في قوله تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا ﴾ [ الزخرف : ١٩ ].
وبمعنى : " بَيَّنَ " كما في قوله تعالى :﴿ إنا جعلناه قرآنا عربيّا ﴾ [ الزخرف : ٣ ] أي بيّناه بحلاله وحرامه.
وبمعنى : " صَيَّرَ " كما في قوله تعالى :﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنّة ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ وجعل بين البحرين حاجزا ﴾ [ النمل : ٦١ ].
فائدة : ذكر الجهر بعد السرّ، مع أنه مفهوم منه بالأولى، المقابلةُ و " التأكيد " كما في قوله تعالى :﴿ فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ].
وإن اعتُبرت فيه المشاهدة أُتي بالواو والفاء، لتدلّ الهمزة على الإنكار، والواو أو الفاء على عطف ما بعدها، على مقدّر قبلها يناسبه في المعنى، المناسب لمعنى ما قبل الهمزة، لكن الفاء أشدّ اتصالا بما قبلها من الواو، والتقدير في الشعراء :«أكذّبوا الرسل ولم يروا » ؟.
وفي سبأ :«أكفروا فلم يروا » ؟
٢ - في قوله تعالى: ﴿أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم﴾..
٣ - في قوله تعالى: ﴿أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض﴾..
قاله هنا ب " ثُمَّ " الدّالة على التراخي، وفي غير هذه السورة بالفاء، الدّالة على التعقيب، مع اشتراكهما في الأمر بالسير، لأن ما في هذه السورة، وقعد بعد ذكر القرون، في قوله :﴿ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾ [ الأنعام : ٦ ] وقوله :﴿ وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ﴾ [ الأنعام : ٦ ] فتعدّدت القرون في أزمنة متطاولة، فخُصّت الآية هنا ب " ثُمَّ "، بخلاف ما في غير هذه السورة، إذ لم يتقدّمه شيء من ذلك، فخُصَّت بالفاء( ١ ).
أو لأن كل متحرك يصير إلى السّكون، من غير عكس.
أو لأن السّكون هو الأصل، والحركة حادثة عليه.
إن قلتَ : كيف اكتُفي من النبي صلى الله عيله وسلم في الجواب بقوله :«الله شهيد بيني وبينكم » مع أن ذلك لا يكفي من غيره ؟
قلتُ : لأنه قادر على إقامة الحجة، على أنه شهيد له، وقد أقامها بقوله :﴿ وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] بخلاف غيره لا يقدر على ذلك.
وبدأها في يونس( ١ ) بالفاء، وختمها بقوله :﴿ إنه لا يفلح المجرمون ﴾ [ يونس : ١٧ ].
لأن ما قبلها ثَمَّ سبب لها، ومعطوف بالفاء، ومذكور فيه المجرمون، فناسب فيها ما ذكر، بخلاف ما هنا، فإن المتقدم فيه معطوف بالواو، ولم يُذكر فيه المجرمون.
فإن قلتَ : كيف الجمع بين هذا وبين قوله :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ [ النساء : ٤٢ ] ؟
قلتُ : في القيامة مواقف مختلفة، ففي بعضها لا يكتمون، وفي بعضها يكتمون، بل يكذبون ويحلفون، كما في قوله تعالى :﴿ فوربّك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون ﴾ [ الحجر : ٩٢، ٩٣ ] مع قوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ].
وإنما لم يُجمع ثَمَّ في قوله تعالى :﴿ ومنهم من ينظر إليك ﴾ [ يونس : ٤٣ ] لأن الناظرين إلى المعجزات، أقلّ من المستمعين للقرآن.
قوله تعالى :﴿ ولو ترى إذ وُقفوا على النار ﴾. وفي أخرى بعدها ﴿ ولو ترى إذ وُقفوا على ربّهم ﴾ [ الأنعام : ٣٠ ] لأنهم أنكروا وجود النار في القيامة، وجزاء ربّهم ونَكَاله فيها، فقال في الأولى " على النار " وفي الثانية ﴿ إذ وُقفوا على ربّهم ﴾ أي على جزاء ربّهم، ونكاله في النار.
٢ - في قوله تعالى: ﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر﴾ الجاثية: ٢٤..
قوله تعالى :﴿ وللدّار الآخرة خير للذين يتّقون أفلا تعقلون ﴾ [ الأنعام : ٣٢ ] ؟.
خصّ المتّقين بالذّكر، مع أن غيرهم كذلك، لأنهم الأصل وغيرهم تبع لهم، وقرئ هنا " وللدار الآخرة " بلامين ثانيهما مدغمة في الدار، ورفع الآخرة بجعلها صفة للدار، وبإضافة الدار إليها بلام واحدة، تبعا لاختلاف المصاحف في ذلك. وفي " يوسف " ( ٣ ) بالوجه الثاني فقط تبعا للمصاحف( ٤ ).
٢ - في قوله تعالى: ﴿وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ العنكبوت: ٦٤..
٣ - في قوله تعالى: ﴿ولدار الآخرة خير للذين اتّقوا أفلا تعقلون﴾ يوسف: ١٠٩..
٤ - يريد الشيخ رحمه الله أن في سورة الأنعام وردت القراءتان: ﴿ولدار الآخرة خير﴾ و﴿الدار الآخرة خير﴾ بخلاف ما جاء في سورة يوسف فهي بالإضافة فقط..
إن قلتَ : كيف قال لمحمد ذلك( ١ )، وهو أغلظ خطابا من قوله لنوح ﴿ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ [ هود : ٤٦ ] مع أن محمدا صلى الله عليه وسلم أعظم رتبة ؟
قلتُ : لأن نوحا كان معذورا بجهله بمطلوبه، لأنه تمسّك بوعد الله تعالى، في إنجاء أهله، وظن أن ابنه من أهله.
بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن معذوراً، لأنه كَبُر عليه كفرُهم، مع علمه أن كفرهم وإيمانهم بمشيئة الله تعالى، وأنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ﴾ [ الأنعام : ٣٦ ].
إن قلتَ : ما فائدة ذكره، مع أنه مفهوم من قوله قبله :﴿ والموتى يبعثهم الله ﴾ لأنهم إذا بعثوا من قبورهم، فقد رجعوا إليه بالحياة بعد الموت ؟
قلتُ : ليس مفهوما منه، لأن المراد به، وقوفهم بين يديه للحساب والجزاء، وهو غير البعث الذي هو إحياء بعد الموت( ٢ ).
٢ - قوله: ﴿والموتى يبعثهم الله﴾ لا يراد بالموتى هنا الذين فارقوا الدنيا، إنم يراد بهم الكفار موتى القلوب، الذين لا يفقهون ولا يؤمنون، شبّههم بالأموات لعدم انتفاعهم بآيات الذكر الحكيم..
فإن قلتَ : لو صحّ جوابا له، لصحّ من كل من ادّعى النبوّة، وطولب بآية أن يجيب بذلك ؟ !
قلتُ : يلتزم ذلك إن تثبت نبوّته بمعجزة، كما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم بها، وإلا فلا يصحّ الجواب بذلك.
وإنما ختم الأولى بقوله :﴿ ثم هم يصدفون ﴾ والثانية بقوله :﴿ لعلهم يفقهون ﴾ لأن الإعراض عن الشيء، أقبح من عدم فهمه، فوُصفوا بالأول في الآية الأولى ؛ تبعا لما وُصفوا به قبلها من قسوة قلوبهم، ونسيانهم ما ذكّروا به وغيرهما، وذلك مفقود في الثانية.
٢ - التكرار واضح في هذه الآية: ﴿قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك﴾ الأنعام: ٥٠..
٣ - في قوله تعالى: ﴿ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك... ﴾ هود: ٣١..
ومثل ذلك يأتي في قوله :﴿ وله الملك يوم ينفخ في الصور ﴾ [ الأنعام : ٧٣ ] وأما ملك غيره في الدنيا، فهو إنما يكون خلافة عنه، وهبة منه وإنعاما، بدليل قوله تعالى في حقّ " داود " عليه السلام :﴿ وآتاه الله الملك والحكمة ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ].
إن قلتَ : كيف ذكر في معرض الامتنان من أولاده " إسحاق " ولم يذكر معه " إسماعيل " بل أخّره عنه بدرجات، مع أنه أكبر منه ؟
قلتُ : لأن إسحاق وُهب له من حُرّة، وكانت عجوزا عقيما... وإسماعيل من أمة( ١ )، فكانت المِنّة في هبة إسحاق أظهر.
وقيل : لأن القصد هنا ذكر أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاقن وإسماعيل لم يخرج من صلبه نبيّ إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
إن قلتَ : كيف قال في وصف القرآن ذلك، مع أن كثيرا ممن يؤمن بالآخرة، من اليهود، والنصارى وغيرهم، لا يؤمن به ؟ !
قلتُ : معناه والذين يؤمنون بالآخرة إيمانا نافعا مقبولا، هم الذين يؤمنون به.
إن قلتَ : كيف أفرده بالذّكر، مع دخوله في قوله قبلُ :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... ﴾ ؟ [ سبأ : ٨ ].
قلتُ : إنما أفرده بالذّكر، لأنه لما اختصّ بمزيد قبح، من بين أنواع الافتراء، خُصّ بالذكر، تنبيها على مزيد العقاب فيه والإثم.
لأن ما هنا وقع بعد اسم فاعل وهو " فالق "... وقبل اسمي فاعل وهما : فالق، وجاعل( ١ )، فناسب ذكر " مُخْرج " لكونه اسم فاعل، وخُصّ بالاسم لتكرّر الاسمين بعده... وخصّ " يخرج الحيّ " قبله بالفعل، إذ لم يتقدّمه إلا اسم واحد.
وما في بقية السّور، لم يقع قبله وبعده إلا أفعال، فناسب ذكره بالفعل.
فائدة ذكر قوله :﴿ خالق كلّ شيء فاعبدوه ﴾ [ الأنعام : ١٠٢ ] فيها بعد قوله :﴿ وخلق كل شيء ﴾ جعله توطئة لقوله تعالى :﴿ فاعبدوه ﴾ [ الأنعام : ١٠٢ ] وأما قوله :﴿ وخلق كل شيء ﴾ فإنما ذُكر استدلالا على نفي الولد.
إن قلتَ : كيف خصّ الأبصار في الثاني بالذكر، مع أنه تعالى يدرك كل شيء ؟ !
قلتُ : خصّه بالذكر لرعاية المقابلة اللفظية، لأنها نوع من البلاغة( ١ ).
قاله هنا بلفظ الرب، وبعده بلفظ الله، لأنه هنا وقع بين آيات فيها ذكر الربّ مرات، وما بعدُ وقع بعد آيات فيها ذكر الله مرات، ولهذا ذكر لفظ " الله " قبلُ، في قوله تعالى :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ] وبعدُ، في قوله تعالى :﴿ لو شاء الله ما أشركنا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ].
إن قلتَ : كيف قال : " إليكم " ولم يقل " إليّ " مع أنه تعالى إنما قال :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب ﴾ ؟ [ المائدة : ٤٨ ].
قلتُ : لما كان إنزاله لأجل تبليغهم، كان كأنه أُنزل إليهم.
وقال : في " النحل " ( ١ ) و " النجم " ( ٢ ) و " ن " ( ٣ ) : " بمن ضل " بزيادة الباء وبالماضي، عملا بزيادة الباء في مفعول " أعلم " تقوية له لضعفه، كما في قوله تعالى :﴿ وهم أعلم بالمهتدين ﴾ وقوله :﴿ وهو أعلم بمن اهتدى ﴾ [ النجم : ٣٠ ] وعملا في الماضي بكثرة الاستعمال في قولهم : أعلم بمن دبَّ ودَرَجَ، وأحسن من قام وقعد، وأفضل من حجّ واعتمر.
وحيث حُذفت الباء، أُضمر فعل من مادة " عَلِمَ " يعمل في المفعول، لضعف " أَعْلَمُ " عن العمل بلا تقوية، وتقديره في الآية : يعلم من يَضِلّ.
٢ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى﴾ آية (٣٠)..
٣ - في سورة (ن): ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾..
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، والرسل إنما كانت من الإنس خاصة ؟ !
قلتُ : بل ومن الجن أيضا على قول الضحاك ومقاتل، أنه أُرسل إليهم رسل، وأما على قول غيرهما بمنع ذلك، فالمراد برسل الجن "، الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ولّوا إلى قومهم منذرين، كما قال تعالى :﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجنّ يستمعون القرآن... ﴾ الآية [ الأحقاف : ٢٩ ].
قوله تعالى :﴿ قالوا شهدنا على أنفسنا وغرّتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ] كرّر شهادتهم على أنفسهم، لاختلافها باختلاف المشهود به، لأن الأولى شهادتُهم بتبليغ الرسل إليهم، والثانية شهادتهم بكفرهم.
فإن قلتَ : شهادتهم بكفرهم تضمّنت إقرارهم به، وهو مناف لجحدهم في قوله حكاية عنهم ﴿ والله ربّنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] ؟ !
قلتُ : مواقف القيامة مختلفة، ففي مواقف أقرّوا، وفي آخر جحدوا.
أو المراد بشهادتهم : شهادة أعضائهم عليهم، حين يُختم على أفواههم، كما قال تعالى :﴿ اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ﴾ [ يس : ٦٥ ]. وبجحدهم : جحدُهم بأفواههم قبل أن يُختم عليها.
قاله هنا وفي مواضع بالفاء، لأنه وقع جوابا بالأمر قبله.
وقال في أواخر " هود " بدون فاء( ١ )، لأنه لم يتقدّمه أمر، فصار استئنافا، أو صفة ل، " عامل " أي إني عامل سوف تعلمون.
إن قلتَ : ما فائدته بعد قوله : " سفها " مع أن السّفه لا يكون إلا بغير علم ؟ !
قلتُ : معنى قوله تعالى :﴿ بغير علم ﴾ بغير حجّة.
قوله تعالى :﴿ قد ضلّوا وما كانوا مهتدين ﴾ [ الأنعام : ١٤٠ ].
فائدته بعد قوله :﴿ قد ضلّوا ﴾ أنهم بعد ما ضلّوا، لم يهتدوا مرّة أخرى.
إن قلتَ : ما فائدة ذكره بعد قوله :﴿ كلوا من ثمره ﴾ مع أنه معلوم أنه إنما يؤكل من ثمره إذا أثمر ؟
قلتُ : فائدته نفي توهّم توقّف إباحة أكله، على بدوّ صلاحه.
فإن قلتَ : كيف قال في الجواب ذلك، مع أنّ المحلّ محلّ عقوبة، فكان الأنسب أن يقال : فقل ربّكم ذو عقوبة شديدة ؟ !
قلتُ : إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمته، في الاجتراء على معصيته، وذلك أبلغ في التهديد، معناه : لا تغترّوا بسعة رحمته( ١ )، فإنه مع ذلك لا يردّ عذابه عنكم.
قال ذلك هنا، وقال في النحل :﴿ لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء... ﴾ [ النحل : ٣٥ ].
بزيادة :﴿ من دونه ﴾ مرتين، وزيادة " نحن ".
لأن الإشراك يدلّ على إثبات شريك لا يجوز إثباته، وعلى تحريم أشياء من دون الله، فلم يحتج إلى " من دونه " فحُذف، وتبعه في الحذف " نحن " طرداً للتخفيف.
بخلاف العبادة فإنها غير مستنكرة، وإنما المستنكر عبادة شيء مع الله، ولا يدلّ لفظُها على تحريم شيء، كما دلّ عليه " أشرك " فلم يكن بدّ من تقييده بقوله :﴿ من دونه ﴾ وناسب استيفاء الكلام فيه زيادة " نحن " وظاهر أن زيادة ذكر التحريم في آية ﴿ لو شاء الله ما أشركنا ﴾ تصريح بما أفاده لفظ " أشركنا ".
قدّم هنا المخاطبين على الغائبين، وعكس ثَمّ، لأن ظاهر قوله هنا : " من إملاق " أي فقر، أن الإملاق حاصل للوالدين المخاطبين، لا توقُّعُه فبدئ بهم، وظاهر قوله ثَمّ ﴿ خشية إملاق ﴾ أن الإملاق متوقّع بهم وهم موسرون، فبُدئ بالأولاد، فما هنا يفيد النهي للآباء عن قتل الأولاد وإن تلبّسوا بالفقر، وما هناك يفيده وإن تلبّسوا باليُسر.
قوله تعالى :﴿ ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ].
ختم : الآية الأولى بقوله : " تعقلون "، والثانية بقوله : " تذكرون "، والثالثة بقوله : " تتقون ".
لأن الأولى : اشتملت على خمسة أشياء عظام، والوصيّة فيها أبلغ منها في غيرها، فختمها بما في الإنسان من أعظم السجايا وهو " العقل " الذي امتاز به على سائر الحيوان.
والثانية : اشتملت على خمسة أشياء يقبُح ارتكابُها، والوصيّة فيها تجري مجرى الزجر والوعظ، فختمها بقوله : " تذكّرون " أي تتعظون.
والثالثة : اشتملت على ذكر الصّراط المستقيم، والتحريض على اتباعه، واجتناب مُنافيه، فختمها بالتقوى التي هي ملاك العمل، وخير الزّاد.
إن قلتَ : لم خصّ العدل بالقول، مع أن الفعل إلى العدل أحوج، فإن الضّرر الناشئ من الجور الفعلي، أقوى من الضّرر الناشئ من الجور القولي ؟
قلتُ : إنما خصّه بالقول، ليُعلم وجوب العدل في الفعل بالأولى، كما في قوله تعالى :﴿ فلا تقل لهما أفّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ].
إن قلتَ : هو مناف لنحو قوله تعالى :﴿ وليحملنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] ولخبر :( من عمل ( ١ ) سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ؟
قلتُ : لا منافاة إذ الوزر في الآية الأولى، محمول على من لم يتسبّب في الفعل بوجه، وفيما عداها على من تسبّب فيه بوجه كالأمر به، والدلالة عليه، فعليه وزر مباشرته له، ووزر تسبّبه فيه.
قوله تعالى :﴿ إن ربّك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ] وقال في الأعراف ﴿ إن ربّك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ [ الأعراف : ١٦٧ ] باللام في الجملتين، لأن ما هنا وقع بعد قوله :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ] وقوله :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ﴾ فأتى باللام المؤكدة في الجملة الثانية فقط، ترجيحا للغُفران على سرعة العقاب.
وما هناك وقع بعد قوله :﴿ وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ﴾ [ الأعراف : ١٦٥ ] وقوله :﴿ فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ [ البقرة : ٦٥ ] فأتى باللام في الجملة الأولى، لمناسبة ما قبلها، وفي الثانية تبعا للام في الأولى.
فإن قلتَ : كيف قال :﴿ سريع العقاب ﴾ مع أنه حليم، والحليم لا يُعجِّل بالعقوبة على من عصاه ؟ !
قلتُ : معنى " سريع " شديد، أو المعنى سريع العقاب إذا جاء وقته.