بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة الأنعام، حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من توجيهات سامية، وآداب عالية، وهدايات محكمة، ووصايا جليلة، وحجج باهرة تقذف حقها على باطل الملحدين فتدمغه فإذا هو زاهق، وتقيم الأدلة الساطعة على وحدانية الله وعلى صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحة البعث والحساب، والثواب والعقاب.
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة، أن أقدم بين يديها تعريفاً لها، أتحدث فيه عن زمان ومكان نزولها، وعن طبيعة الفترة التي نزلت فيها، وعن سبب تسميتها بهذا الاسم، وعن مناسبتها لما قبلها وعن المقاصد والأهداف التي اشتملت عليها، وعن فضائل هذه السورة الكريمة ومزاياها..
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، ونافعاً لعباده، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد سيد طنطاوي.
تمهيد بين يدي السورة
١- متى نزلت سورة الأنعام ؟
سورة الأنعام عدد آياتها خمس وستون ومائة آية وهي أول سورة مكية من طوال المفصل بالنسبة لترتيب المصحف، وتعتبر بالنسبة لهذا الترتيب السورة السادسة، فقد سبقتها سور : الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وهي سور مدنية باستثناء سورة الفاتحة.
أما ترتيبها في النزول فقد قال العلماء : إنها السورة السادسة والخمسون، وإن نزولها كان بعد نزول سورة " الحجر ".
ويغلب على الظن أن نزول سورة الأنعام كان في السنة الرابعة من البعثة النبوية الشريفة، وذلك لأن سورة الحجر التي نزلت قبلها فيها آية تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجهر بدعوته وهي قوله –تعالى- [ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ]( ١ ).
ومن المعروف تاريخيا أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث يدعو الناس سرا إلى عبادة الله زهاء ثلاث سنين، ثم بدأت مرحلة الجهر بالدعوة في السنة الرابعة من البعثة بعد أن أمره الله بأن يصدع بما يؤمر به، أي يجهر بما يكلف بتبليغه للناس، مأخوذ من صدع بالحجة إذا جهر بها.
قال ابن إسحاق عند حديثه عن مرحلة الجهر بالدعوة الإسلامية : " ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، ثم إن الله –تعالى- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله –تعالى- بإظهار دينه ثلاث سنين –فيما بلغني- من مبعثه، ثم قال الله –تعالى- له :[ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ] ( ٢ ).
٢- طبيعة الفترة التي نزلت فيها سورة الأنعام :
قلنا إن سورة الأنعام نزلت –غالبا في السنة الرابعة من البعثة النبوية، وهذه من تاريخ الدعوة الإسلامية كانت فترة نضال فكري عنيف بين الإسلام والشرك، ففيها بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بدعوته ويصارح قريشا برسالته، ويدعوهم بأعلى صوته إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبين لهم بجرأة ووضوح بطلان عقائدهم، وسخافة تفكيرهم واعوجاجهم عن الطريق المستقيم.
وأخذ المشركون يدافعون عن معتقداتهم بكل وسيلة بعد أن رأوا الدعوة الإسلامية يزداد نورها يوما بعد يوم، ورأوا أتباع النبي صلى الله عليه وسلم يزيدون ولا ينقصون، ويجهرون بتعاليم دينهم بعد أن كانوا يخفونها ويتحملون في سبيل نشرها الكثير من ألوان التعذيب والترهيب.
وقد صور بعض العلماء طبيعة هذه الفترة التي كانت تجتازها الدعوة الإسلامية عند نزول سورة الأنعام فقال :
" وهذه الفترة من فترات الدعوة الإسلامية كانت فترة عنيفة أشد العنف، مملوءة بالمقاومة من الجانبين كأعظم ما تكون المقاومة، فالمشركون مأخوذون بهذا النجاح الذي صارت إليه الدعوة حتى استطاعت أن تستعلن بعد الخفاء، وأن تتحدى في صوت عال، ونداء جهير، بعد ما كان المؤمنون بها يلجأون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدوا صلاتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم ماض فيما أمره به ربه من الصدع بدعوة الحق، يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من كتابه، وفيه إنذار لهم وتفنيد لمعتقداتهم، وتسفيه لآرائهم، وإنكار لآلهتهم، وتهكم بأوثانهم وتقاليدهم البالية.
يومئذ واجهت دعوة الحق أعداءها مسفرة واضحة متحدية، ووقف هؤلاء الأعداء مشدوهين مضطربين يشعرون في أعماق نفوسهم بصدقها وكذبهم، ويترقبون يوما قريبا لانتصارها وانهزامهم، ولا يجدون لهم حيلة إلا المكابرة والمعارضة المستميتة بما درجوا عليه من العقائد الباطلة، بادعائهم كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وبزعمهم أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل، وأن الله لو شاء إبلاغ عباده شيئا لأنزل إليهم ملائكة، وإنكارهم البعث والدار الآخرة، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم، ونسوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم عاش فيهم عمرا طويلا لم يقل فيه يوما قولة كاذبة، ولم يخن فيه يوما أمانة أؤتمن عليها، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.
لم يذكروا شيئا من ذلك ولم يفكروا فيه، ولكنهم فكروا فقط ف أن الدعوة الجديدة التي استعلنت بعد استخفاء، وتحدت بعدما ظنوه بها من الاستخذاء، يجب أن تموت في مهدها ويجب أن تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلاد والقبائل والشعوب.
ورحبت الدعوة الإسلامية بهذا النضال، وتحملت أعباءه وأثقاله، وكان ذلك أول النصر، لأن النور لا يظهر إلا بعد الاحتكاك.
وأخذت سور القرآن في هذه المرحلة تتلاحق، وأخذت آياتها تتعاون وتتآزر، وكانت أغراضها متشابهة إلى حد بعيد، وكان أولها وأحفلها بما نزلت له من أغراض بعد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة والصدع بها، هو سورة " الأنعام " ؛ فقد جمعت كل العقائد الصحيحة، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين، وتفنيد شبه الملحدين، وإبطال العقائد الفاسدة، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاصلة( ٣ ).
وبذلك يتبين لنا أن ما اشتملت عليه سورة الأنعام من مقاصد وأهداف وأحكام ومعتقدات يوافق كل الموافقة طبيعة المرحلة التي كانت تجتازها الدعوة الإسلامية في ذلك الوقت.
٣- أين نزلت سورة الأنعام :
يرى جمهور العلماء أن سورة الأنعام كلها مكية، ويرى فريق منهم أنها كلها نزلت بمكة ما عدا الآيات ٢٠، ٢٣، ٩١، ٩٣، ١٠٤، ١٤١، ١٥١، ١٥٢، ١٥٣.
ولعل الذي حمل أصحاب هذا الرأي على القول بأن هذه الآيات التسع مدنية ورود بعض الروايات بذلك، وأنها آيات نزلت في بيان أحكام تتعلق بالحلال والحرام من التكاليف العملية، وهي لهذا كانت أنسب بالمدينة.
والذي تطمئن إليه النفس وعليه المحققون من المفسرين أن سورة الأنعام قد نزلت كلها بمكة جملة واحدة، ويشهد لما ذهبنا إليه ما يأتي :
( أ ) كثرة الآثار التي صرحت بنزولها بمكة دفعة واحدة، ومن هذه الآثار ما ورد عن ابن عباس أنه قال : لقد نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح.
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد( ٤ ).
( ب ) المحققون من المفسرين عندما بدأوا في تفسير سورة الأنعام صرحوا بأنها جميعها مكية وأنها قد نزلت جملة واحدة، وتجاهلوا قول القائل إن فيها آيات مدنية.
فهذا –مثلا- الإمام ابن كثير ساق في مطلع تفسيره لهذه السورة الروايات التي تثبت أنها مكية، ولم يذكر رواية واحدة تثبت أن فيها آية أو آيات قد نزلت بالمدينة.
وابن كثير –كما نعرف- من الحفاظ النقاد الذين يعرفون كيف يتخيرون الروايات، وكيف يميزون بين صحيحها وضعيفها.
( ج ) الروايات التي اعتمد عليها القائلون بأن تلك الآيات التسع مدنية روايات فيها مقال، ولم يعتمدها المحققون من العلماء، فقد نقل السيوطي عن ابن الحصار قوله :
استثنى من سورة الأنعام تسع آيات –مدنية- ولا يصح به نقل، خصوصا وأنه قد ورد أنها نزلت جملة( ٥ ).
( د ) الذي يقرأ سورة الأنعام بتدبر يجد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية، فهي تتحدث باستفاضة عن وحدانية الله، وعن مظاهر قدرته، وعن صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وعن الأدلة الدامغة التي تؤيد صحة البعث والثواب والعقاب يوم القيامة، إلى غير ذلك من المقاصد التي كثر الحديث عنها في القرآن المكي.
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية، تقرر حقائقها، وتفند شبه المعارضين لها، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل –مع طولها وتنوع آياتها- جملة واحدة، وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور العلماء.
ومن ذلك يتبين أنه لا مجال للقول بأن بعضها من قبيل المدني، ولا بأن آية كذا نزلت في حادثة كذا، فكلها جملة واحدة نزلت بمكة لغاية واحدة، هو تركيز الدعوة بتقرير أصولها والدفاع عنها( ٦ ).
هذه بعض الأدلة التي تجعلنا نرجح أن سورة الأنعام كلها مكية، وأنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة.
٤- لماذا سميت بسورة الأنعام ؟
الأنعام لغة تطلق على ذوات الخف والحافر من الحيوان، وهي –الإبل والبقر والغنم- وقد سميت سورة الأنعام بهذا الاسم، لأنها فصلت الحديث عن هذه الأنواع بطريقة متعددة الجوانب، متنوعة الأهداف.
وقد تكرر لفظ الأنعام في تلك السورة ست مرات في أربع آيات.
أما الآية الأولى فقد حكى القرآن فيها ما كانوا يفعلونه من قسمتهم الحرث والأنعام إلى قسمين : قسم جعلوه لله يتقربون به إليه عن طريق إكرام الضيف ومساعدة المحتاج.
وقسم جعلوه لألهتهم فذبحوه على الأنصاب، وأنفقوا منها على سدنتها وخدمتها، ثم هم بعد ذلك العمل الباطل لا يعدلون في القسمة، يجورون أحيانا على القسم الذي جعلوه لله ؛ بينما يتحرزون عن الجور على القسم الذي جعلوه لشركائهم.
قال تعالى :[ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، فما كان لشركائنا فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ]( ٧ ).
وأما الآية الثانية فقد ورد فيها لفظ " الأنعام " ثلاث مرات، وقد كشف القرآن فيها عن بعض أعمال المشركين المنكرة، وهي أنهم جعلوا الأنعام ثلاثة أقسام :
قسما لا يأكل منه عند ذبحه إلا سدنة الأوثان والرجال دون النساء. وقسما يحرم ركوبه كالبحيرة والسائبة والحامي، وقسما لا يذكرون اسم الله عليه عند الذبح وإنما يذكرون أسماء آلهتهم.
قال تعالى :[ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه، سيجزيهم بما كانوا يفترون ]( ٨ ).
وفي الآية الثالثة تحدث القرآن عن لون من ألوان ظلمهم وجهلهم، فقد كانوا يجعلون بعض ما في بطون أنعامهم إذا نزل حياً كان خاصاً ب
٢ - السيرة النبوية لابن هشام، ج١ ص٢٧٤. طبعة المكتبة التجارية..
٣ - سورة الأنعام والأهداف الأولى للإسلام ص ١٦ لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد المدني –رحمه الله-..
٤ - تفسير ابن كثير ج٢ ص١٢٢..
٥ - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ج١ ص٢٨. طبعة مكتبة المشهد الحسيني سنة ١٣٨٧ هـ..
٦ - تفسير القرآن الكريم لفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت ص ٤٠١ طبعة دار القلم..
٧ - الآية ١٣٦..
٨ - الآية ١٣٨..
ﰡ
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)افتتحت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين، وهي أن المستحق للحمد المطلق، والثناء الكامل هو رب العالمين.
والحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.
وأل في الْحَمْدُ للاستغراق، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ولكافة ألوان الثناء هو الله تعالى، وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه- سبحانه- هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
وقد بين بعض المفسرين الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ كما بين الفرق بين المدح والحمد والشكر فقال: «اعلم أن المدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله، وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد، وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل
هذا وفي القرآن الكريم خمس سور مكية اشتركت في الافتتاح بتقرير أن الحمد لله وحده، ولكن كان لكل سورة منهج خاص في بيان أسباب ذلك الحمد.
أما السورة الأولى فهي سورة الفاتحة التي تقول في مطلعها الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
أى: أن الحمد لله وحده، الذي ربي هذا العالم تربية خلقية أساسها الإيجاد والتصوير، ورباه تربية عقلية أساسها منح قوى التفكير والإدراك، كما أنه رباه تربية تشريعية قوامها الأحكام التي أوحى بها إلى رسله فتربط استحقاق الحمد لله بربوبيته للعالمين، والربوبية المطلقة تنتظم التربية الخلقية جسمية وعقلية، عن طريق الإيجاد والتصوير، كما تنتظم التربية التشريعية التي أساسها الأحكام التي أوحاها الله إلى أنبيائه ورسله.
وتجيء بعد سورة الفاتحة في الترتيب المصحفى سورة الأنعام فأثبتت أيضا استحقاق الحمد لله وحده، لأنه «خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، فهي تهتم بالحديث عن نوع خاص من التربية، وهو التربية الخلقية التي أساسها الخلق والإيجاد والتسوية والتصوير الحقيقي.
ثم تجيء بعدهما سورة «الكهف» فتثبت أن الحمد لله، لأنه أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فتراها تهتم بإبراز التربية التشريعية التي تهذب الروح، وتهدى الفكر.
والسورة الرابعة التي افتتحت بإثبات أن الْحَمْدُ لِلَّهِ هي سورة سبأ، لأنه- سبحانه- لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، ثم تراها بعد ذلك
أما السورة الخامسة فهي سورة فاطر، فقد أثبتت في مطلعها أن الحمد لله، لأنه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا، أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر يراها تهتم بإبراز إثبات أن الحمد لله وحده عن طريق الجمع بين التربيتين الخلقية والتشريعية فهي تذكر خلق السموات والأرض والجبال وتصريف الليل والنهار والشمس والقمر. كما تذكر أنواع الناس في الانتفاع بوحي الله، وبهدى أنبيائه ورسله.
وهكذا نجد أن السور الخمس قد اشتركت في أنها افتتحت بجملة الْحَمْدُ لِلَّهِ وفي قصر الحمد والثناء عليه وحده. إلا أن كل واحدة منها قد سلكت منهجا خاصا في تقرير هذه الحقيقة، وفي إقامة الأدلة على صدقها.
وقد أحسن القرطبي عند ما قال: «فإن قيل: قد افتتح غيرها- أى سورة الأنعام- بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره فيقال: لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه، لا يؤدى عن غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة، وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون» «١».
ثم بين القرآن بعد ذلك الأسباب التي تحمل العقلاء على أن يجعلوا حمدهم كله لله- تعالى- فقال:
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.
والمعنى: الحمد كله لله الذي أنشأ بقدرته هذه العوالم العلوية والسفلية، وأوجد ما فيها من مخلوقات ناطقة وصامتة، وظاهرة وخافية، وأحدث ما يتعاقب عليها من تحولات وتقلبات ونور وظلمات. فالجملة الكريمة قد اشتملت على صفتين من صفات الله- تعالى- تثبتان وجوب استحقاق الحمد الكامل لله- عز وجل- وهما خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور.
وعبر- سبحانه- في جانب السموات والأرض بخلق، وفي جانب الظلمات والنور يجعل، لأن الخلق معناه هنا الإنشاء والإيجاد الابتدائى من العدم، أما الجعل فيتضمن معنى تكوين شيء من شيء أو من أشياء، فالظلمات تتولد من اختفاء الشمس عن الأرض، والنور يتكون من بزوغ الشمس على الأرض، وهذه التقلبات الكونية هي بتقدير الله العزيز العليم.
وقال الفخر الرازي: «وإنما حسن لفظ الجعل هنا، لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر» «٢».
وقال أبو السعود: «والجعل هنا هو الإنشاء والإبداع كالخلق، خلا أن ذلك- أى الخلق- مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية الكريمة والتشريعي أيضا كما في قوله- تعالى- ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ «٣».
وقد وردت نصوص تصرح بأن الأرض سبع طبقات كالسماوات. إلا أنها في كثير من المواضع القرآنية تفرد- أى الأرض- وتجمع السماء كما هنا، لعظم السماء. ولإحاطتها بالأرض، ولأنه لم يعرف أن الله- تعالى- قد عصى فيها، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض، بخلاف طبقات الأرض فإنها متصلة.
والمراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية، كما أن المراد بالنور النور الحسى لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولأنهما إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان، ولأن القرآن يستشهد عليهم بمقتضى ما يعلمونه من تفرده بالخلق وهم يعلمون تفرده- سبحانه- بخلق هذه الأشياء.
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالظلمات، ظلمات الشرك والكفر والنفاق، وأن المراد بالنور، نور الإيمان والإسلام واليقين، وعلى هذا الرأى يكون المراد بهما معنويا لا حسيا.
قال صاحب المنار: قال الواحدي: والأولى حمل اللفظين عليهما، واستشكله الرازي لأنه مبنى على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، والمختار عندنا جوازه، وجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا فإن الجعل يشمل الخلق والأمر- أى الشرع- كما تقدم، فيفسر جعل كل نور بما يليق به «٤».
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥.
(٣) تفسير أبو السعود ج ٢ ص ٧٧ طبعة صبيح.
(٤) تفسير المنار ج ٧ ص ٢٩٥ للشيخ رشيد رضا. طبعة دار المنار سنة ١٣٦٧ هجرية.
والنور واحد وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فالنور في هذا واحد «١».
ثم بين- سبحانه- الموقف الجحودى الذي وقفه المشركون من قضية الألوهية فقال ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
العدل: المراد به هنا التسوية، فقال: عدل الشيء بالشيء إذا سواه به والمعنى: أن الله- تعالى- هو الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي جعل الظلمات والنور، فهو لذلك من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده وأن يخصوه بالحمد والثناء، ولكن المشركين مع كل هذه الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته يساوون به غيره في العبادة، ويشركون معه آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر.
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ على معنى أن الله- تعالى- حقيق بالحمد على ما خلق من نعم، وأوجد من كائنات ثم الذين كفروا يجحدون كل ذلك فيشركون معه آلهة أخرى.
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة «خلق السموات والأرض» على معنى أن الله- تعالى- قد خلق الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه، ثم إن المشركين بعد ذلك يعدلون به جمادا لا يقدر على شيء أصلا.
وجاء العطف «بثم» لإفادة استبعاد واستقباح ما فعله الكافرون. فإنهم رغم البراهين الواضحة والدالة على وحدانية الله وقدرته، قد نزلوا بمداركهم إلى الحضيض فسووا في العبادة بين الخالق والمخلوق.
قال القرطبي: قال ابن عطية: فثم دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلق السموات والأرض قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني! ولو وقع
ثم ساق القرآن في الآية الثانية دليلا آخر على أن الله- تعالى- هو المستحق للعبادة والحمد، وعلى أن يوم القيامة حق، فتحدث عن أصل خلق الإنسان، بعد أن تحدث في الآية الأولى عن خلق السموات والأرض فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ قَضى أَجَلًا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ.
أى: هو الذي أنشأكم من طين، ثم تعهدكم برعايته في مراحل خلقكم بعد ذلك، كما قال- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ.
وفي ذكر خلق الإنسان من طين، دليل على قدرة الله وعظمته، لأنه- سبحانه- هو الذي حول هذا الطين إلى بشر سوى مفكر، يختار الخير فيهتدى ويختار الشر فيردى، كما أن فيه تذكيرا له بأصله حتى لا يستكبر أو يطغى، وحتى يوقن بأن من خلقه من هذا الأصل قادر على أن يعيده إليه.
قال تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى.
قال أبو السعود: (وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث، مع أن ما ذكر من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها. لما أن محل النزاع بعثهم، فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر، وهم بشئون أنفسهم أعرف، والتعامي عن الحجة البينة أقبح) «٢».
وقال الجمل: (وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم- عليه السلام- وهو المخلوق منه حقيقة. لتوضيح منهاج القياس، والمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس، مع ما فيه من تحقيق الحق، والتنبيه على حكمة خفية هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه- عليه السلام- منه. حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد البشر انطواء إجماليا، فكان خلقه- عليه السلام- من الطين خلقا لكل أحد من فروعه) «٣».
(٢) تفسير أبى السعود- ج ٢ ص ٧٨.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤. [.....]
وقيل: المراد من الأجل الأول آجال الماضين من الخلق، ومن الثاني آجال الباقين منهم.
وقيل المراد من الأول النوم ومن الثاني الموت. وقيل: المراد من الأول ما مضى من عمر الإنسان ومن الثاني ما بقي منه.
والذي نرجحه هو الرأى الأول لأسباب منها.
١- أن من تتبع ذكر الأجل المسمى في القرآن في سياق الكلام عن الناس يراه قد ورد في عمر الإنسان الذي ينتهى بالموت، ومن ذلك قوله تعالى وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «١».
وقوله- تعالى-: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «٢».
٢- أن الآية الكريمة مسوقة لإثبات وحدانية الله ولتقرير أن البعث حق، فالمناسب أن يكون المراد بالأجل الثاني هو انتهاء عمر الدنيا وبعث الناس من قبورهم.
ولذا قال أبو السعود في تضعيفه للآراء المخالفة للرأى الأول: «ومن هاهنا تبين أن ما قيل من أن الأجل الأول هو النوم والثاني هو الموت، أو أن الأول أجل الماضين والثاني أجل الباقين، أو أن الأول مقدار ما مضى من عمر كل أحد والثاني مقدار ما بقي منه مما لا وجه له أصلا، لما رأيت من أن مساق النظم الكريم استبعاد امترائهم في البعث الذي عبر عن وقته بالأجل المسمى. فحيث أريد به أحد ما ذكر من الأمور الثلاثة ففي أى شيء تمترون؟» «٣».
٣- أن الرأى الأول هو الرأى المأثور عن بعض الصحابة، وبه قال جمهور المفسرين، وقد عزاه ابن كثير في تفسيره إلى عشرة من التابعين «٤».
(٢) سورة نوح الآية ٤.
(٣) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٨٠.
(٤) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٣ طبعة عيسى الحلبي.
ووصف الأجل الثاني بأنه (مسمى عنده)، لأن وقت قيام الساعة من الأمور التي لا يعلمها إلا الله قال- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «١».
وجاء قوله تعالى وَأَجَلٌ مُسَمًّى مقدما على (عنده) لأنه مبتدأ، والذي سوغ الابتداء به مع كونه نكرة تخصصه بالوصف فقارب المعرفة لذلك، فهو كقوله- تعالى- وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ.
ومعنى (عنده) أى: في علمه الذي لا يعلمه أحد سواه، فهي عندية تشريف وخصوصية.
ثم ختمت الآية الكريمة بتوبيخ الشاكين في البعث والحساب فقال- تعالى-:
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. الامتراء: هو التردد الذي ينتهى إلى محاجة ومجادلة وقد ينتهى إلى شك ثم إلى إنكار. مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر ووجه المناسبة في استعماله في الشك، أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم.
والمعنى: ثم إنكم بعد كل هذه الأدلة الدالة على وحدانية الله، وعلى أن يوم القيامة حق، تشكون في ذلك، وتجادلون المؤمنين فيما تشكون فيه «بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير».
وجاء العطف بثم لبيان التفاوت الكبير بين الحقائق الثابتة الناصعة، وبين ما سولته لهم أنفسهم من المجادلة فيها.
قال الآلوسى: «والمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك، كان أوضح اقتدارا على إقامته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة» «٢».
وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة في الآيتين السابقتين على أنه هو المستحق للعبادة والحمد، وعلى أن يوم القيامة حق، جاءت الآية الثالثة لتصفه- سبحانه بأنه هو صاحب السلطان المطلق
(٢) تفسير روح المعاني للآلوسى ج ٧ ص ٨٨ طبعة منير الدمشقي.
أى: أنه- سبحانه- هو المعبود بحق في السموات والأرض، العليم بكل شيء في هذا الوجود، الخبير بكل ما يكسبه الإنسان من خير أو شر فيجازيه عليه بما يستحقه.
والضمير «هو» الذي صدرت به الآية يعود إلى الله- تعالى- الذي نعت ذاته في الآيتين السابقتين بأنه هو صاحب الحمد المطلق، وخالق السموات والأرض، وجاعل الظلمات والنور، ومنشئ الإنسان من طين، وأنه لذلك يكون مختصا بالعبادة والخضوع.
وقوله- تعالى-: وَهُوَ اللَّهُ جملة من مبتدأ وخبر، معطوفة على ما قبلها، سيقت لبيان شمول ألوهيته لجميع المخلوقات.
قال أبو السعود: وقوله فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ متعلق بالمعنى الوصفي الذي ينبئ عنه الاسم الجليل إما باعتبار أصل اشتقاقه وكونه علما للمعبود بالحق، كأنه قيل: وهو المعبود فيهما. وإما باعتبار أنه اسم اشتهر بما اشتهرت به الذات من صفات الكمال، فلو حظ معه منها ما يقتضيه المقام من المالكية حسبما تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة، فعلق به الظرف من تلك الحيثية فصار كأنه قيل: وهو المالك أو المتصرف المدبر فيهما، كما في قوله- تعالى-:
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ «١».
وجملة يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ تقرير لمعنى الجملة الأولى لأن الذي استوى في علمه السر والعلن هو الله وحده. ويجوز أن تكون كلاما مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم، أو خبرا ثانيا.
ثم صور- سبحانه- طبيعة الجاحدين الذين هم- لانطماس بصائرهم وإصرارهم على العناد- غدوا لا يجدي معهم دليل ولا تنفع معهم حجة، وساق لهم أخبار من سبقوهم.
فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤ الى ٦]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
فالآية الكريمة، كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله- تعالى- وإعراضهم عنها بالكلية بعد بيان كفرهم بالله- تعالى- وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد. وامترائهم في البعث، وإعراضهم عن أدلتة «١».
ومِنْ الأولى لاستغراق الجنس الذي يقع في حيز النفي، كقولك: ما أتانى من أحد والثانية للتبعيض، أى: ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي توجب النظر والتأمل والاعتبار، إلا أهملوه وأعرضوا عنه. لقسوة قلوبهم وعدم تدبرهم للعواقب.
وإضافة الآيات إلى اسم الرب- عز وجل- تدل على تفخيم شأنها، وعلى أن تكذيبهم لها إنما هو تكذيب لما عرفوا مصدره، كما يدل على شدة عنادهم وإيغالهم في الكفر والجحود.
والآية الكريمة بأسلوبها المتضمن الحصر، وباشتمالها على كان وخبرها المفيد للدوام، والاستمرار، تفيد أن الإعراض عن الحق دأبهم، وأنهم ليسوا على استعداد لتقبل الحق مهما اتضحت معالمه، وأسفرت حججه.
ثم بين- سبحانه- أنهم لم يكتفوا بالإعراض عن الحق، بل تجاوزوا ذلك إلى التهكم بدعاته، والتطاول عليهم، وأنهم نتيجة لذلك المسلك الأثيم ستكون عاقبتهم خسرا فقال- تعالى-: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
فالآية الكريمة كشفت بأسلوب مؤكد عن جانب من عتوهم وسفههم وسوء أدبهم، بعد أن كشفت سابقتها عن عنادهم ونأيهم عن الحق.
فالمرتبة الأولى: كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر والبينات.
والمرتبة الثانية: كونهم مكذبين بها، وهذه المرتبة أزيد مما قبلها، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذبا به، بل يكون غافلا عنه غير متعرض له، فإذا صار مكذبا به فقد زاد على الإعراض.
والمرتبة الثالثة: كونهم مستهزئين بها، لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه إلى حد الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار، فبين- سبحانه- أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب» «١».
والمراد بالحق الذي كذبوا به: قيل إنه القرآن، وقيل إنه المعجزات، وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه الوعد الذي يرغبهم به تارة، والوعيد الذي يحذرهم بسببه تارة أخرى.
والذي نراه أن تكذيبهم قد شمل كل ذلك، لأنهم بعدم دخولهم في الإسلام قد صاروا مكذبين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والتعبير بقوله لَمَّا جاءَهُمْ يفيد أن الحق قد وصل إليهم، وطرق قلوبهم وأسماعهم، ولكنهم عموا وصموا عنه.
والأنباء: جمع نبأ وهو ما يعظم وقعه من الأخبار، والمراد بها في قوله- تعالى-: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الإخبار عن العذاب الذي توعدهم الله به عند إصرارهم على كفرهم، ونظيره قوله- تعالى-: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.
قال صاحب الكشاف: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ الشيء الذي كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهو القرآن، أى أخباره وأحواله، بمعنى: سيعلمون بأى شيء استهزءوا، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو في يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته «٢».
ثم ساق القرآن لهم على سبيل النصيحة والإرشاد أخبار من سبقوهم في الكفر والبطر وبين لهم سوء عاقبتهم ليعتبروا ويتعظوا فقال- تعالى-:
(٢) الكشاف ج ٢ ص ٦ للزمخشري طبعة دار الكتاب العربي بيروت.
قال القرطبي: «القرن الأمة من الناس والجمع القرون. قال الشاعر:
إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم | وخلفت في قرن فأنت غريب |
والاستفهام الذي صدرت به الآية الكريمة لتوبيخ الكفار وتبكيتهم، وإنكار ما وقع منهم من إعراض واستهزاء، وهو داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه.
والتقدير: أعملوا عن الحق وأعرضوا عن دلائله، ولم يروا بتدبر وتفكر كم أهلكنا من قبلهم من أقوام كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا.
وجملة أَهْلَكْنا سدت مسد مفعول رأى إن كانت بصرية، وسدت مسد مفعوليها إن كانت علمية، وكَمْ مفعول مقدم لأهلكنا، ومِنْ قَبْلِهِمْ على حذف المضاف، أى: من قبل زمنهم ووجودهم.
قال صاحب المنار: وكان الظاهر أن يقال: مكناهم في الأرض- أى القرون- ما لم نمكنهم، أى الكفار المحكي عنهم المستفهم عن حالهم، فعدل عن ذلك بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب، لما في إيراد الفعلين بضميري الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما، وكون المثبت عين المنفي، فقيل ما لم نمكن لكم «٢».
وما في قوله ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي، وهي حينئذ صفة لمصدر محذوف. والتقدير: مكناهم في الأرض التمكين الذي لم نمكن لكم، والعائد محذوف:
أى الذي لم نمكنه لكم. ويحتمل أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها والعائد محذوف.
أى: مكناهم في الأرض شيئا لم نمكنه لكم «٣».
وفي تعدية الأول وهو مَكَّنَّاهُمْ بنفسه والثاني وهو نُمَكِّنْ لَكُمْ باللام إشارة إلى أن
(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٣٠٧ للشيخ رشيد رضا.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٧ بتصرف وتلخيص.
هذا، وقد وصف الله أولئك المهلكين بسبب اجتراحهم للسيئات بصفات ثلاث لم تتوفر للمشركين المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
وصفهم- أولا- بأنهم كانوا أوسع سلطانا، وأكثر عمرانا، وأعظم استقرارا، كما يفيده قوله تعالى مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ.
قال صاحب الكشاف: «والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا قوم عاد وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال، والاستظهار بأسباب الدنيا» «١».
ووصفهم- ثانيا- بأنهم كانوا أرغد عيشا، وأسعد حالا، وأهنأ بالا، يدل على ذلك قوله تعالى:
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً أى: أنزلنا عليهم المطر النافع بغزارة وكثرة، وعبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها.
ووصفهم- ثالثا- بأنهم كانوا منعمين بالمياه الكثيرة التي يسيرون مجاريها كما يشاءون، فيبنون مساكنهم على ضفافها. ويتمتعون بالنظر إلى مناظرها الجملية، كما يرشد إليه قوله- تعالى-: وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أى: صيرنا الأنهار تجرى من تحت مساكنهم.
ولكن ماذا كانت عاقبة هؤلاء المنعمين بتلك النعم الوفيرة التي لم تتيسر لأهل مكة كانت عاقبتهم- كما أخبر القرآن عنهم- فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ أى: فكفروا بنعمة الله وجحدوا فأهلكناهم بسبب ذلك، إذ الذنوب سبب الانتقام وزوال النعم.
والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران:
أحدهما: أن الذنوب ذاتها تهلك الأمم، إذ تشيع فيها الترف والغرور والفساد في الأرض، وبذلك تنحل وتضمحل وتذهب قوتها.
والمظهر الثاني: إهلاك الله- تعالى- لها عقابا عن أوزارها «٢».
وقوله- تعالى- في ختام الآية وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ يدل على كمال قدرة الله،
(٢) تفسير سورة الأنعام لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، مجلة لواء الإسلام السنة ٢٣ العدد الخامس ص ٢٤٢.
قال- تعالى- وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «١».
ثم بين القرآن توغلهم في الجحود والعناد، وانصرافهم عن الحق مهما قويت أدلته، وساق جانبا من أقوالهم الباطلة ثم رد عليهم بما يدحضها فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧ الى ١١]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
الكتاب في الأصل مصدر كالكتابة، ويستعمل غالبا بمعنى المكتوب، فيطلق على الصحيفة المكتوبة وعلى مجموعة الصحف.
والقرطاس- بكسر القاف وقد تفتح وتضم في بعض اللغات- ما يكتب فيه سواء كان من رق أو من ورق أو من غيرهما: ولا يطلق على ما يكتب فيه قرطاس إلا إذا كان مكتوبا.
والمعنى: إن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدقك يا محمد. ولكن الذي ينقصهم
فالآية الكريمة تصور مكابرتهم المتبجحة، وعنادهم الصفيق، وإدبارهم عن الحق مهما تكن قوة أدلته، ونصاعة حجته.
قال الإمام الرازي «بين الله- تعالى- في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به بل حملوه على أنه سحر. والمراد من قوله فِي قِرْطاسٍ أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر» ».
ولَوْ في الآية الكريمة حرف امتناع، أى: أنه- سبحانه- قد امتنع عن إجابة مقترحاتهم لأنه يعلم أن إجابتها لا ثمرة لها، ولا فائدة من ورائها، لأن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدق النبي ﷺ في دعوته، وإنما الذي ينقصهم هو الاستجابة للحق والاتجاه السليم لطلبه، والاستماع إليه بعناية وتفكير.
وعبر- سبحانه- بقوله: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. مع أن اللمس هو باليد غالبا- للتأكيد وزيادة التعيين، ودفع احتمال المجاز. فالجملة الكريمة المقصود بها تصوير فرط جحودهم ومكابرتهم، وإعراضهم عن الحق مهما تكن قوة الدليل وحسيته.
وفي قوله- تعالى- لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إشارة إلى أن الكافرين وحدهم هم الذين بسبب كفرهم- ينتحلون الأعذار لضلالهم، ويصفون الحق الواضح بأنه سحر مبين. أما المؤمنون فإنهم يقابلون الحق بالتصديق والإذعان.
وقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، فأكدوا حكمهم الباطل بطريق النفي والإثبات- أى: أنه مقصور على أنه سحر- وبالإشارة إليه، وبأنه بين واضح في كونه سحرا، وذلك يدل على أن تبجحهم قد بلغ النهاية، وأن مكابرتهم قد كذبت ما شهدت بصدقه حواسهم، وإن قوما بهذه الدرجة من العناد لا تجدى فيهم معجزة، ولا ينفع معهم دليل.
وفي معنى هذه الآية قد وردت آيات أخرى في القرآن الكريم منها قوله- تعالى-
ومنها قوله- تعالى- وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «٢».
ثم حكى القرآن بعض مقترحاتهم المتعنتة ورد عليها بما يدحضها فقال:
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ.
أى: قال الكافرون للنبي ﷺ هلا كان معك ملك يا محمد لكي يشهد بصدقك ونسمع كلامه، ونرى هيئته، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.
قال محمد بن إسحاق «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم- قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلده، وعبد بن يغوث وأبى بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويروى معك».
فهم لا يريدون ملكا لا يرونه، وإنما يريدون ملكا يمشى معه ويشاهدونه بأعينهم.
وأسند- سبحانه- القول إليهم مع أن القائل بعضهم، لأنهم جميعا متعنتون جاحدون، وما يصدر عن بعضهم إنما هو صادر في المعنى عن جميعهم لأن الباعث واحد، ولولا هنا للتحضيض فلا تحتاج إلى جواب.
أى: وقال الكافرون للنبي ﷺ هلا كان معك ملك يا محمد لكي يشهد بصدقك ونسمع كلامه، ونرى هيئته، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.
وقد رد الله تعالى- على قولهم هذا بردين حكيمين:
أما الرد الأول: فقال فيه: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ.
أى: لو أنزلنا ملكا كما اقترح هؤلاء الكافرون وهم على ما هم عليه من الكفر والجحود، لقضى الأمر بإهلاكهم، ثم لا ينظرون، أى: لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا، بل يأخذهم العذاب عاجلا، فقد مضت سنة الله فيمن قبلهم، أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأعطوها ولم
(٢) سورة الحجر الآيتان: ١٤، ١٥.
وأما الرد الثاني فقال فيه: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ.
أى: لو جعلنا الرسول من الملائكة- كما اقترحوا- لكانت الحكمة تقتضي أن نجعله في صورة بشر ليتمكنوا من رؤيته ومن سماع كلامه الذي يبلغه عن الله- تعالى- وفي هذه الحالة سيقولون لهذا الملك المرسل إليهم في صورة بشر-: لست ملكا، لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا.
ومعنى وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ لخلطنا عليهم مثل ما يخلطون على أنفسهم بسبب استبعادهم أن يكون الرسول بشرا مثلهم.
قال الإمام القرطبي: قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا لأن كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله تعالى- الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له، ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله فلا تعم المصلحة، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك، وعادوا إلى مثل حالهم» «١».
وبهذين الجوابين الحكيمين يكون القرآن الكريم قد دحض شبهات أولئك الجاحدين، وبين أن الحكمة تقتضي أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم، قال تعالى: - وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى.
ثم أخذ القرآن في تسلية النبي ﷺ عما أصابه من قومه فقال:
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
والمعنى: لا تحزن يا محمد لما أصابك من قومك، فإن من شأن الدعاة إلى الحق المجاهدين في سبيله أن ينالهم الأذى من أعدائهم، ولقد أوذى من سبقك من الرسل الكرام، وسخر الساخرون منهم، فصبروا على ذلك، وجاءهم في النهاية نصرنا الذي وعدناهم به. أما أعداؤهم الذين استهزءوا بهم، فقد أخذناهم أخذ عزيز مقتدر فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «٢».
(٢) سورة العنكبوت الآية: ٤٠.
والاستهزاء بالشيء: الاستهانة به، والاستهزاء بالشخص احتقاره وعدم الاهتمام بأمره.
وتنكير الرسل للتكثير والتعظيم، والفاء في قوله فَحاقَ للسببية، أى: بسبب هذا الاستهزاء برسل الله الكرام، أحاط العذاب بأولئك المستهزئين فأهلكهم.
وقال- سبحانه- فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا ولم يقل بالساخرين، للإشارة إلى أن ما أصابهم من عذاب لم يكن تجنبا عليهم، وإنما كان بسبب سخريتهم برسل الله والاستخفاف بهم لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة هي علة الحكم.
وفي قوله- تعالى-: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مجاز علاقته السببية، لأن الذي حاق بهم هو العذاب المسبب عن الاستهزاء، ففيه إطلاق السبب وإرادة المسبب، وذلك يفيد أن العذاب ملازم لهذه السخرية لا ينفك عنها، فحيثما وجد التطاول على أولياء الله والدعاة إلى دينه، وجد معه عذاب الله وسخطه على المتطاولين والمستهزئين.
ثم أمر القرآن النبي ﷺ أن يذكرهم بحال من سبقوهم عن طريق التطلع إلى آثارهم، والتدبر فيما أصابهم. والاتعاظ بما حل بهم فقال- تعالى-:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
أى: قل- يا محمد- لأولئك المكذبين لك، المستهزئين بدعوتك، لا تغتروا بما أنتم فيه من قوة وجاه، فإن ذلك لا دوام له، وسيروا في فجاج الأرض متدبرين متأملين، فسترون بأعينكم آثار أقوام كانوا أشد منكم قوة وأكثر جمعا، ولكن ذلك لم يمنع وقوع العذاب بهم حين بدلوا نعمة الله كفرا، وحاربوا رسل الله والدعاة إلى دينه.
وقد ذكر القرآن الكريم في سور متعددة أن آثار أولئك الأقوام المهلكين، ما زال بعضها باقيا، وإنها لتدعو العقلاء إلى الاتعاظ والاعتبار فقال- تعالى-: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ «١».
وقال- تعالى- في شأن قوم لوط: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ
«٢».
(٢) سورة الصافات الآيتان ١٣٧، ١٣٨.
وليس المراد مجرد النظر في قوله ثُمَّ انْظُرُوا، بل المراد منه التفكر والتدبر والاعتبار الذي يهدى إلى الإيمان، ويعين على اتباع الصراط المستقيم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى فرق بين قوله فَانْظُروا وبين قوله ثُمَّ انْظُرُوا؟
قلت: جعل النظر مسببا عن السير في قوله فَانْظُروا فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح «١».
وقد علق الشيخ ابن المنير على عبارة صاحب الكشاف فقال: «وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحدا، ليكون ذلك سببا في النظر، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية، وحيث دخلت ثم فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير وأن السير وسيلة إليه لا غير وشتان بين المقصود والوسيلة».
والذي نرجحه أن التعبير بثم هنا المفيدة للتراخي للإشارة إلى أن السير الذي هو وسيلة للتفكر مطلوب في ذاته كما أن النظر الذي يصحبه التفكر والاعتبار مطلوب أيضا، وكأنه أمر بدهى نتيجة للسير، أما التعبير بالفاء في قوله «فانظروا» فلإبراز كون النظر مسببا عن السير، ومترتبا عليه، وكلا الأسلوبين مناسب للمقام الذي سيق من أجله، ومتناسق مع البلاغة القرآنية.
ثم ساق القرآن الكريم ألوانا من البراهين الدالة على وحدانية الله وقدرته وعلى أنه هو المهيمن على هذا الكون، فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢ الى ١٦]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
قال- تعالى- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم على عنادهم، وتنبيههم إلى ضلالهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم.
قال الإمام الرازي: وقوله: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ سؤال، وقوله قُلْ لِلَّهِ جواب. فقد أمره الله- تعالى- بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع، وهنا كذلك لأن القوم كانوا معترفين بأن العالم كله لله وتحت تصرفه وقهره وقدرته» «١».
ثم قال- تعالى- كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أى: أوجب- سبحانه- على نفسه رحمته التي وسعت كل شيء والتي من مظاهرها أنه منح خيره ونعمه في الدنيا للطائعين والعصاة، وأنه سيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
وفي الصحيحين عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبى».
وجملة، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، يرى بعض العلماء أنها جواب لقسم محذوف
ويرى الزجاج ومن شايعه أن جملة (ليجمعنكم) في محل نصب بدل من الرحمة، وفسر (ليجمعنكم) بمعنى أمهلكم وأمد لكم في العمر والرزق مع كفركم، فهو تفسير الرحمة، كما قال- تعالى- في السورة نفسها (كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم) «١».
والمقصود بهذه الجملة الكريمة (ليجمعنكم) بيان عدل الله بين عباده. فهو لم يجمعهم يوم القيامة لتعذيبهم جميعا، وإنما يجمعهم لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء.
ولما كان الكافرون ينكرون حصول البعث والحساب فقد أكد الله- تعالى- حصولهما باللام وبنون التوكيد الثقيلة، وبتعدية الفعل بإلى دون في للإشارة إلى أن هذا الجمع نهايته يوم القيامة- وبأنه يوم لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته.
ثم ختمت الآية الكريمة ببيان عاقبتهم السيئة فقال- تعالى- الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. أى: الذين خسروا أنفسهم بانطماس فطرتهم، وإصرارهم على العناد والجمود، لا يتسرب الإيمان إلى قلوبهم لأنها قست وأظلمت.
قال الآلوسى: (الفاء) في قوله (فهم لا يؤمنون) - للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان) «٢».
ثم ساق- سبحانه- ما يشهد بشمول علمه وقدرته فقال: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
قال القرطبي: (سكن معناه هدأ واستقر، والمراد ما سكن وما تحرك، فحذف لعلم السامع، وقيل: خص الساكن بالذكر لأن ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة، وقيل:
المعنى، ما خلق، فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها، فإنه يجرى عليه الليل والنهار، وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق وهذا أحسن ما قيل لأنه يجمع شتات الأقوال) «٣».
(٢) تفسير روح المعاني للألوسى ج ٧ ص ١٢٢.
(٣) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٩١. [.....]
ثم أمر- سبحانه- نبيه ﷺ أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد، وأن ينفى عن نفسه بشدة ما تردوا فيه من جهالة وضلالة فقال:
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ.
أى: قل لهم- يا محمد- موبخا وزاجرا، بأى عقل أبحتم لأنفسكم الإشراك بالله، واتخذتم من دونه معبودا سواه، مع أنه- سبحانه- باعترافكم هو الخالق لكم وللسموات والأرض ولكل شيء؟
وقد سلطت الهمزة على المفعول الأول لا على الفعل، للإيذان بأن المستنكر إنما هو اتخاذ غير الله وليا لا اتخاذ الولي مطلقا، ونظير هذه الآية قوله- تعالى- قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ.
ثم دلل- سبحانه- على أنه هو وحده المستحق للعبادة بأمرين.
أولهما: قوله- تعالى- فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
أى خالقهما ومنشئهما على غير مثال سبق، فالفطر- كما قال اللغويون- الإبداع والإيجاد من غير سبق مثال يحتذي.
وثانيهما: قوله- تعالى- وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ.
أى: أنه- سبحانه- هو الذي لا يحتاج إلى أحد وكل ما سواه محتاج إليه وهو الرزاق لغيره، والمنافع كلها من عنده.
وقرأ أبو عمرو (وهو يطعم ولا يطعم) بفتح الياء في الثاني. أى: وهو يرزق غيره ويطعمه أما هو- سبحانه- فلا يتناول طعاما ولا شرابا.
وهذه الجملة حالية مؤيدة لإنكار اتخاذ ولى سوى الله، وفيها تعريض بمن اتخذوا أولياء من دونه من البشر بأنهم محتاجون إلى الطعام، وأنه- سبحانه- هو الذي خلق لهم هذا الطعام فهم عاجزون عن البقاء بدونه.
ثم أمره- سبحانه- بأن يصرح أمامهم بأنه برىء من شركهم ومن أفعالهم القبيحة فقال- تعالى- قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أى: قل أيها الرسول الكريم بعد إيراد هذه الآيات والحج الدالة على وحدانية الله: إنى
وصح عطف الجملة الثانية الإنشائية على الأولى الخبرية لأن الأولى خبرية في اللفظ ولكنها إنشائية في المعنى فكانت في قوة الجملة الطلبية والتقدير: كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين، ويجوز عطفها على جملة قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ وهي إنشائية في اللفظ والمعنى.
ثم أمره- سبحانه- بأن يعلن أمامهم بأن خوفه من خالقه يحتم عليه أن يبتعد عن كل معصية فقال:
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
أى: قل لهم- يا محمد- على سبيل الإنذار والتحذير من الاستمرار في الكفر إنى أخاف إن عصيت خالقي عذاب يوم عظيم الأهوال تذهل فيه كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
وفي هذا التحذير أسمى ألوان التعبير والتصوير لأنه إذا كان النبي ﷺ وهو أحب الخلق إلى الله سينا له العذاب إن كان- على سبيل الفرض والتقدير- قد عصى ربه في الدنيا. فكيف بأولئك الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى؟ فمن الواجب عليهم أن يقتدوا بالنبي ﷺ في عبادته وإخلاصه لربه.
وكلمة عَذابَ مفعول لأخاف، وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن عصيت ربي استحققت العذاب العظيم.
ثم بين- سبحانه- أن النجاة من هول هذا اليوم غنيمة ليس بعدها غنيمة فقال: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ.
أى: من يصرف عنه عذاب هذا اليوم، فإنه يكون ممن شملتهم رحمة الله ورعايته، وذلك هو الفوز الذي ليس بعده فوز.
والضمير الذي يعتبر نائب فاعل ليصرف، يعود على العذاب العظيم الذي سيحل بالمجرمين يوم القيامة.
وفي قراءة لحمزة والكسائي وأبى بكر عن عاصم (من يصرف) بفتح الياء فيكون الضمير عائدا على الله- ويكون المفعول محذوفا. والتقدير من يصرف الله عنه هذا العذاب العظيم في ذلك اليوم فقد شملته رحمة الله، وعلى كلتا القراءتين فالضمير في قوله (فقد رحمه) يعود على الله- تعالى-:
ثم بين- سبحانه- أن نواصي العباد بيديه، وأنه هو المتصرف في خلقه بما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٧ الى ٢١]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)
المس: أعم من اللمس في الاستعمال. يقال: مسه السوء والكبر والعذاب والتعب. أى:
أصابه ذلك ونزل به.
«والضر: اسم للألم والحزن والخوف وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما كما أن النفع اسم للذة
والخير: اسم لكل ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبله.
والمعنى: إن الناس جميعا تحت سلطان الله وقدرته، فما يصيبهم من ضر كمرض وتعب وحزن اقتضته سنة الله في هذه الحياة، فلا كاشف له إلا هو، وما يصيبهم من خير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو- سبحانه- قادر على حفظه عليهم، وإبقائه لهم، لأنه على كل شيء قدير.
والخطاب في الآية يصح أن يكون موجها إلى النبي ﷺ لتقويته في دعوته، وتثبيته أمام كيد الأعداء وأذاهم، كما يصح أن يكون لكل من هو أهل للخطاب.
قال صاحب المنار: «ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة، تجرى الحقائق بأوجز العبارات، وأجمعها لمحاسن الكلام مع مخالفته بعضها في بادئ الرأى لما هو الأصل في التعبير، كالمقابلة هنا بين الضر والخير، وإنما مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر، فنكتة المقابلة أن الضر من الله ليس شرا في الحقيقة بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل للاستفادة أخلاقا وأدبا وعلما وخبرة. وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل مقابله، كما أن صرف العذاب في الآخرة مقدم على النعيم» «٢».
وقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ جوابه محذوف تقديره: فلا راد له غيره.
وقوله: فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل لكل من الجوابين المذكورين في الشرطية الأولى والمحذوف في الثانية.
وفي معنى هذه الآية جاءت آيات أخرى منها قوله- تعالى-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «٣».
وفي الحديث الشريف أن رسول الله ﷺ كان يقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد».
ثم بين- سبحانه- كمال قدرته، وعظيم سلطانه فقال: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
أى أنه- كما قال ابن كثير- «هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجباه. وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه الأشياء، وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه».
(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٣٣٥.
(٣) سورة فاطر: آية ٢.
روى بعض المفسرين أن أهل مكة قالوا: يا محمد، أرنا من يشهد أنك رسول الله، فإنا لا نرى أحدا نصدقه، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فأنزل الله- تعالى-: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يخاصمونك فيما تدعو إليه: أى شيء في هذا الوجود شهادته أكبر شهادة وأعظمها بحيث تقبلونها عن تسليم وإذعان؟ ثم أمره أن يجيبهم على هذا السؤال بالحقيقة التي لا يمارى فيها عاقل وهي أن شهادة الله هي أكبر شهادة وأقواها وأزكاها، لأنها شهادة من يستحيل عليه الكذب أو الخطأ، وقد شهد- سبحانه-: بصدقى فيما أبلغه عنه فلماذا تعرضون عن دعوتي، وتتنكبون الطريق المستقيم؟
وصدرت الآية الكريمة بقل وبصيغة الاستفهام تنبيها إلى جلال الشاهد، وإلى سلامة دعوى النبي ﷺ لكي يدركوا ما فيها من حق وما هم فيه من ضلال.
وأوثرت كلمة «شيء» في قوله- تعالى-: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً لأنها تفيد الشمول والإحاطة والاستقصاء.
قال صاحب الكشاف: ما ملخصه قوله- تعالى-: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أراد: أى شهيد أكبر شهادة، فوضع شيئا مقام شهيد ليبالغ في التعميم، ويحتمل أن يكون تمام الجواب عنه قوله: قُلِ اللَّهُ بمعنى: الله أكبر شهادة، ثم ابتدأ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أى: هو شهيد بيني وبينكم. وأن يكون اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ هو الجواب، لدلالته على أن الله- تعالى-: (إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة من هو شهيد له) «١».
والمراد بشهادة الله ما جاء في آياته القرآنية من أنه- سبحانه-: قد أرسل رسوله محمدا بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
ثم بين- سبحانه-: أن القرآن هو المعجزة الخالدة للنبي ﷺ فقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.
أى: أن الله- تعالى-: قد أنزل هذا القرآن عن طريق وحيه الصادق، لأنذركم به يا أهل
فهذه الجملة تدل على عموم بعثة النبي ﷺ كما تدل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله، وتعم- أيضا- الذين وجدوا بعد نزوله وبلغتهم دعوته. ولم يروا النبي ﷺ ففي الحديث الشريف: «بلغوا عن الله- تعالى- فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله» «١».
وعن محمد بن كعب قال: «من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي ﷺ وذلك لأن القرآن الكريم لما كان متواترا بلفظه ومعناه، كان من بلغه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: كأنما سمعه منه وإن كثرت الوسائط، لأنه هو الذي بلغه بلا زيادة ولا نقصان، أما من لم تبلغه دعوة القرآن فلا يصدق عليه أنه بلغته الدعوة، وحينئذ لا يكون مخاطبا بتعاليم هذا الدين، وإثمه يكون في أعناق الذين قصروا في تبليغ دعوة الإسلام إليه.
ثم أمره- سبحانه- أن يستنكر ما عليه المشركون من كفر وإلحاد، وأن يعلن براءته منهم ومن معبوداتهم فقال- تعالى-: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى، قُلْ: لا أَشْهَدُ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إذا كنتم قد ألغيتم عقولكم. وترديتم في مهاوي الشرك والضلال، وشهدتم بأن مع الله آلهة أخرى، فإنى برىء منكم ومن أعمالكم القبيحة، ومحال أن أشهد بما شهدتم به، وإنما الذي أشهد به وأعتقده، أن الله- تعالى- واحد لا شريك له، وإننى بعيد كل البعد عن ضلالكم وجحودكم.
والاستفهام في قوله أَإِنَّكُمْ إنكارى، جيء به لاستقباح ما وقع منهم من شرك، وأكد قوله لَتَشْهَدُونَ للإشارة إلى تغلغل الضلال في نفوسهم، واستيلاء الجحود على قلوبهم.
وعبر عن أوثانهم بأنها آلِهَةً أُخْرى مجاراة لهم في زعمهم الباطل ومبالغة في توبيخهم والتهكم بهم.
وفي أمره- سبحانه- لنبيه ﷺ بأن يصارحهم بأنه لا يشهد بشهادتهم «قل: لا أشهد» توبيخ لهم على جهالتهم، وتوجيه لأتباعه إلى الاقتداء به في شجاعته أمام الباطل، وفي ثباته على مبدئه.
وقد تضمن قوله- تعالى: قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ اعتراف كامل بوحدانية الله، وقصرها عليه- سبحانه-، وتصريح بالبراءة التامة من الأوثان وعابديها، وتنديد شديد بهذا العمل الباطل.
ثم ساق القرآن شهادة ثالثة بصدق النبي ﷺ وهي شهادة أهل الكتاب فقال الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ:
قال الجمل في حاشيته على الجلالين: «روى أن النبي ﷺ لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر: إن الله أنزل على نبيه بمكة: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا عمر، لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد منى با بنى!! فقال عمر: كيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حقّا ولا أدرى ما تصنع النساء» «١».
والمعنى: إن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى، يعرفون صدق ما جاء به محمد ﷺ معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم، فهي معرفة بلغت حد اليقين وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد ﷺ ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته.
والضمير في يَعْرِفُونَهُ يرى أكثر المفسرين أنه يعود على النبي ﷺ ويؤيد ذلك سبب نزول الآية، ويرى بعضهم أنه يعود على القرآن لتقدمه في قوله وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ أو على التوحيد لدلالة قوله قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ.
والأولى عودة الضمير على جميع ما ذكر، لأن معرفتهم بما في كتابهم يتناول كل ذلك.
ثم بين- سبحانه- علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته ﷺ فقال: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
قال صاحب الكشاف: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ به «٢» جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وقالوا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها وقالوا: «الملائكة بنات الله» ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٢.
ويؤكد كونها مكية- أيضا- سياق الآيات قبلها، فالآية التي قبلها وهي قوله- تعالى-:
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً. إلخ. فيها شهادة من الله لنبيه ﷺ بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه، والآية التي معنا فيها شهادة من أهل الكتاب بأنهم يعرفون صدق محمد ﷺ كما يعرفون أبناءهم، ومن المعروف أن أهل مكة كانوا يسألون أهل الكتاب عن النبي ﷺ وفضلا عن ذلك لم يرد نص صحيح يثبت أن هذه الآية الكريمة قد نزلت بالمدينة.
قال بعض العلماء: ويظهر أنهم- أى القائلون بأن الآية مدنية- لما وجدوا الحديث في هذه الآية عن أهل الكتاب، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به، وهي قوله- تعالى-: في سورة البقرة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الآية ١٤٦، ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة وفي المدينة دون مكة، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية، فالمسألة ليست إلا اجتهادا حسب رواية مسندة، وهو اجتهاد غير صحيح «١».
ولما كان هذا الخسران أكبر ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم فقد قال- تعالى- في شأنهم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
أى: لا أحد أشد ظلما من أولئك المشركين الذين كذبوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وإن هؤلاء الذين سقطوا في أقصى دركات الكذب لن يفوزوا ولن يفلحوا، والاستفهام في الآية الكريمة إنكارى للنفي، وفيه توبيخ للمشركين.
ثم بين- سبحانه- بعض أحوالهم عند ما يحشرون يوم القيامة، فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
والمعنى: واذكر لهم أيها الرسول الكريم- ليعتبروا ويتعظوا- حالهم يوم نجمعهم جميعا في الآخرة لنحاسبهم على أقوالهم وأفعالهم، ثم نسألهم سؤال إفضاح لا إيضاح- كما يقول القرطبي-: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء لكي يدافعوا عنكم في هذا اليوم العصيب.
ويَوْمَ منصوب على الظرفية بفعل مضمر بعده أى: ويوم نحشرهم كان كذا وكذا، وحذف هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل، وقيل إنه منصوب على أنه مفعول به بفعل محذوف قبله والتقدير، واذكر يوم نحشرهم، أى: اذكر هذا اليوم من حيث ما يقع فيه، والضمير في نَحْشُرُهُمْ للذين افتروا على الله كذبا، أو كذبوا بآياته.
وفائدة كلمة جَمِيعاً رفع احتمال التخصيص، أى: أن جميع المشركين ومعبوداتهم سيحشرون أمام الله للحساب.
وكان العطف بثم لتعدد الوقائع قبل هذا الخطاب الموجه للمشركين، إذ قبل ذلك سيكون قيامهم من قبورهم، ويكون هول الموقف، ويكون إحصاء الأعمال وقراءة كل امرئ لكتابه... إلخ، ثم يقول الله- تعالى- لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟
ووبخهم- سبحانه- بقوله: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ مع أنهم محشورون معهم، لأنهم لا نفع يرجى من وجودهم معهم، فلما كانوا كذلك نزلوا منزلة الغائب كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين فلان؟ فتجعله لعدم نفعه- وإن كان حاضرا- كالغائب «١».
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.
الفتنة مأخوذة من الفتن، وهو إدخال الذهب في النار لتعرف جودته من رداءته، ثم استعمل في معان أخرى كالاختبار، والعذاب، والبلاء، والكفر.
والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم حين اختبروا بهذا السؤال ورأوا الحقائق، وارتفعت الدعاوى إلا أن قالوا مؤكدين ما قالوا بالقسم الكاذب والله يا ربنا ما كنا مشركين. ظنا منهم أن تبرأهم من الشرك في الآخرة سينجيهم من عذاب الله كما نجا المؤمنين بفضله ورضوانه.
قال ابن عباس: يغفر الله- تعالى- لأهل الإخلاص ذنوبهم. ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك قالوا: إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك، فتعالوا نقول:
إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين. فقال الله- تعالى-: أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعندئذ يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا، فذلك قوله: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «١».
ثم قال- تعالى- انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
والمراد بالنظر هنا: التدبر والتفكير.
والمعنى: انظر- أيها العاقل- وتأمل كيف كذب هؤلاء المشركون على أنفسهم في قولهم والله ربنا ما كنا مشركين، وغاب عن عملهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من الأقوال الباطلة، وما كانوا يفعلونه من جعلهم لله شركاء.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور مع أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشا: ألا تراهم يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ وقد علموا أنه لا يقضى عليهم» «٢».
وبعد أن بين- سبحانه- أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس من إيمان بعضهم فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً.
قال ابن عباس: إن أبا سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وعتبة
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٣.
والأكنة: جمع كنان كغطاء وأغطية لفظا ومعنى والوقر- بالفتح- الثقل في السمع.
والمعنى: ومن هؤلاء المشركين يا محمد من يستمع إليك حين تقرأ القرآن وقد جعلنا- بسبب عنادهم وجحودهم- على قلوبهم أغطية تحول بينهم وبين فقهه، كما جعلنا في أسماعهم صمما يمنع من سماعه بتدبر وتعقل.
قال صاحب المنار: «وجعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان في الآية من تشبيه الحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية فإن القلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الكن أو الكنان وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شيء. والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو الصمم، لأن سمعها وعدمه سواء «٢».
وقال بعض العلماء: «وهنا يسأل سائل: إذا كان منع الهداية من الله- تعالى- بالغشاوة على قلوبهم والختم عليها وبالوقر في آذانهم فلا يسمعون سماع تبصر فماذا يكون عليهم من تبعة يحاسبون عليها حسابا عسيرا بالعذاب الأليم؟
والجواب عن ذلك أن الله- سبحانه- يسير الأمور وفق حكمته العلياء فمن يسلك سبيل الهداية يرشده وينير طريقه ويثيبه، ومن يقصد إلى الغواية ويسير في طريقها تجيئه النذر تباعا إنذارا بعد إنذار، فإن أيقظت النذر ضميره وتكشفت العماية عن قلبه فقد اهتدى وآمن بعد كفر. ومن لم تجد فيه النذر المتتابعة ولم توقظ له ضميرا ولم تبصره من عمى فقد وضع الله- تعالى- على قلبه غشاوة وفي آذانه وقرا» «٣».
ثم صور- سبحانه- عنادهم وإعراضهم عن الحق مهما وضحت براهينه فقال: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها.
أى: وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك فلن يؤمنوا بها لاستحواذ الغرور والعناد على قلوبهم.
(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٣٤٧.
(٣) مجلة لواء الإسلام لسنة ٢٣ العدد ٩ تفسير الآيات الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة. [.....]
وهذه الجملة الكريمة المقصود بها ذمهم لعدم انتفاعهم بحاسة البصر بعد ذمهم لعدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم.
وجيء بكلمة كُلَّ لعموم النفي، أى: أنهم لا يؤمنون بأية معجزة يرونها مهما وضحت براهينها، ومهما كانت دلالتها ظاهرة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم بين- سبحانه- ما كان يجرى منهم مع رسول الله ﷺ فقال:
حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
الأساطير جمع إسطارة أو أسطورة ومعناها الخرافات والترهات.
أى: حتى إذا ما صاروا إليك أيها الرسول ليخاصموك وينازعوك في دعوتك فإنهم يقولون لك بسبب كفرهم وجحودهم، ما هذا القرآن الذي نسمعه منك إلا أقاصيص الأولين المشتملة على خرافاتهم وأوهامهم.
وفي قوله- تعالى- حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ إشارة إلى أن مجيئهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق، وإنما كان من أجل المجادلة المتعنتة مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ثم بين- سبحانه- أنهم لا يكتفون بمحاربة الدعوة الإسلامية، بل هم لفجورهم- يحرضون غيرهم على محاربتها معهم فقال- تعالى-:
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ.
النهى: الزجر، والنأى: البعد، والضمير «هم» يعود على المشركين.
والمعنى: إن هؤلاء المشركين لا يكتفون بمحاربة الحق، بل يزجرون الناس عن اتباعه، ويبعدونهم عن الاستماع إليه. فهم قد جمعوا بين فعلين قبيحين: محاربتهم للحق وحمل غيرهم معهم على محاربته والبعد عنه.
وهم بهذا العمل الباطل القبيح ما يهلكون إلا أنفسهم ولكنهم لا يشعرون بذلك لانطماس بصيرتهم، وقسوة قلوبهم.
وعملهم هذا يدل على أنهم كانوا معترفين في قرارة أنفسهم بأن القرآن حق، لأنهم لو كانوا يعتقدون أنه أساطير الأولين- كما زعموا- لتركوا الناس يسمعونها ليتأكدوا من أنها خرافات وأوهام، ولكنهم لما كانوا مؤمنين ببلاغة القرآن وصدقه، فإنهم نهوا غيرهم عن سماعه حتى
والضمير في قوله- تعالى- عَنْهُ يرجع إلى النبي ﷺ وما جاء به من آيات.
ويرى بعض المفسرين أن الضمير «هم» يرجع إلى عشيرة النبي ﷺ فيكون المعنى: وهم- أى أعمام النبي ﷺ وعشيرته ينهون الناس عن إيذائه والتعرض له بسوء، ولكنهم في الوقت نفسه ينأون عنه أى يبتعدون عن دعوته فلا يؤمنون بها، ولعل أوضح مثل لذلك أبو طالب، فقد كان يدافع عن النبي ﷺ إلا أنه لم يدخل في الإسلام مع تصريحه بأنه هو الدين الحق.
ومما روى عنه في هذا المعنى قوله:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم | حتى أوسد في التراب دفينا |
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة | وابشر بذاك وقر منك عيونا |
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي | فلقد صدقت وكنت قبل أمينا |
وعرضت دينا قد عرفت بأنه | من خير أديان البرية دينا |
لولا الملامة أو حذار مسبة | لوجدتني سمحا بذاك يقينا |
ثم يصور- سبحانه- حالهم عند ما يعرضون على النار، وعند ما يقفون أمام ربهم، وحكى ما يقولونه في تلك المواقف الشديدة فقال تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٧ الى ٣٢]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
ووُقِفُوا بالبناء للمفعول بمعنى: وقفهم غيرهم. يقال: وقف على الأطلال أى: عندها مشرفا عليها، ويقال وقف على الشيء عرفه وتبينه.
والمعنى: إنك أيها النبي الكريم- أو أيها الإنسان العاقل- لو اطلعت على هؤلاء المشركين عند ما يقفون على النار ويشاهدون لهيبها وسعيرها. لرأيت شيئا مروعا مخيفا يجعلهم يتحسرون على ما فرط منهم، ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليصدقوا بآيات الله التي طالما كذبوها. وليكونوا من المؤمنين.
وعبر- سبحانه- بإذ التي تدل على الماضي- مع أن الحديث عما سيحصل لهم في الآخرة فكان يناسبه إذا- لإفادة تحقق الوقوع وتأكده، وليتصور المستقبل على أنه موجود لا على أنه سيوجد، وعطف بالفاء في قوله: فَقالُوا للدلالة على أن أول شيء يقع في قلوبهم حينئذ إنما هو الندم على ما سلف منهم، وتمنى الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا.
ثم يعقب- سبحانه- على قولتهم هذه فيما لو أجيبوا إلى طلبهم على سبيل الفرض والتقدير فيقول: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.
بل هنا للإضراب عما يدل عليه تمنيهم من إدراكهم لقبح الكفر وسوء مغبته، ولحقيقة الإيمان وحسن عاقبته.
فالآية الكريمة تصور ما طبع عليه هؤلاء الجاحدون من فجور وعناد وافتراء، لأنهم حتى لو أجيبوا إلى طلبهم- على سبيل الفرض والتقدير- لما تخلوا عن كفرهم ومحاربتهم للأنبياء وللمصلحين.
ثم بين- سبحانه- بعض مفترياتهم في الدنيا واغترارهم بها فقال- تعالى- وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
أى: أن هؤلاء الكافرين قد بلغ بهم الحب للدنيا والتعلق بها أنهم قالوا: ما الحياة التي تسمى حياة في نظرنا إلا هذه الدنيا التي نتمتع فيها بما نريد من شهوات وما نحن بمبعوثين ولا محاسبين بعد ذلك.
فالآية الكريمة تحكى عنهم أنهم ينكرون أى حياة سوى الحياة التي يعيشونها، وينفون وقوع البعث والحساب والثواب والعقاب نفيا مؤكدا بالباء وبالجملة الاسمية.
ويرى جمهور المفسرين أن هذه الآية الكريمة تتمة للآية السابقة لها من حيث المعنى، وأن قوله وَقالُوا معطوف على لَعادُوا والتقدير، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر وسيئ الأعمال وقالوا ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، ويكون قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ جملة اعتراضية مؤكدة لمعنى عودتهم إلى ما كانوا عليه إن عادوا إلى الدنيا، إذ هي تكذيب لادعائهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم.
ثم بين- سبحانه- حالهم عند ما يقفون ليستمعوا إلى ما يوجهه إليهم ربهم من توبيخ وتقريع بسبب كفرهم فقال:
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ.
أى: قال لهم- سبحانه- أليس هذا البعث الذي تشاهدونه بأعينكم ثابتا بالحق؟ وهنا يجيبون خالقهم مصدقين لأن الواقع يحتم عليهم ذلك فيقولون- كما حكى القرآن عنهم- بَلى وَرَبِّنا أى: قالوا: بلى يا ربنا إنه للحق الذي لا شك فيه، ولا باطل يحوم من حوله، وأكدوا اعترافهم بالقسم شاهدين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين في الدنيا.
إذا كان الأمر كما ذكرتم وشهدتم على أنفسكم، فانغمسوا في العذاب ذائقين لآلامه وأهواله بسبب كفركم بآيات الله، وإنكاركم لهذا اليوم العصيب.
والذوق هنا كناية عن الإحساس الشديد بالعذاب بعد أن وقعوا فيه.
ثم صور- سبحانه- عاقبتهم السيئة، وخسارتهم التي ليس بعدها خسارة فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ.
أى: أن أولئك الكفار الذين أنكروا البعث والحساب قد خسروا أعز شيء في هذه الحياة، ومن مظاهر ذلك أنهم خسروا الرضا الذي سيناله المؤمنون من ربهم، وخسروا العزاء الروحي الذي يغرس في قلب المؤمن الطمأنينة والصبر عند البلاء، لأن المؤمن يعتقد أن ما عند الله خير وأبقى، بخلاف الكافر فإن الدنيا منتهى آماله.
وإن هؤلاء الخاسرين سيستمرون في تكذيبهم بالحق وإعراضهم عنه حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها.
أى: حتى إذا جاءتهم الساعة مباغته مفاجئة وهم في طغيانهم يعمهون، اعتراهم الهم، وحل بهم البلاء وقالوا: بعد أن سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا يا حسرتنا أقبلى فهذا أوانك، فإننا لم نستعد لهذا اليوم، بل أهملناه ولم نلتفت إليه. وعلى ذلك يكون المراد بالساعة يوم القيامة وما فيه من حساب.
وقيل: المراد بالساعة وقت مقدمات الموت، فالكلام على حذف المضاف، أى: جاءتهم مقدمات الساعة وهي الموت وما فيه من الأهوال. فلما كان الموت من مبادئ الساعة سمى باسمها، ولذا قال ﷺ «من مات فقد قامت قيامته».
وسميت القيامة ساعة لسرعة الحساب فيها، ولأنها تحمل أشد الأهوال ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة: فانية وأخرى باقية.
وفي قوله- تعالى- حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً إشارة إلى أنها تفاجئهم بأهوالها من غير أن يكونوا مستعدين لها أو متوقعين لحدوثها، أما المؤمنين- فإنهم رغم عدم علمهم بمجيئها- فإنهم يكونون في حالة استعداد لها بالإيمان والعمل الصالح.
والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من غير إعداد له، وكلمة بَغْتَةً يصح أن تكون مصدرا في موضع الحال من فاعل جاءتهم أى: جاءتهم مباغتة، ويصح أن تكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف من لفظها أى: تبغتهم بغتة، والحسرة: شدة الغم والندم على ما فات وانقضى.
الأوزار جمع وزر وهو- بكسر الواو- الحمل الثقيل، ويطلق على الإثم والذنب لأنهما أثقل الأحمال النفسية التي تنوء بها القوة.
والجملة الكريمة من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث شبهت حالهم وما يحملونه يوم القيامة من ذنوب ثقيلة مضنية، بهيئة المثقل المجهد بحمل كبير يحمله على ظهره وينوء به. ثم حذفت الهيئة الدالة على المشبه به ورمز إليها بشيء من لوازمها.
وقيل إن الكلام على حقيقته وأنهم سيحملون ذنوبهم على ظهورهم فعلا، حيث إن الذنوب والأعمال ستتجسم يوم القيامة، وبهذا الرأى قال كثير من أهل السنة.
والمعنى: إن هؤلاء الكافرين يأتون يوم القيامة وهم يحملون ذنوبهم وآثامهم على ظهورهم، ألا ما أسوأ ما حملوا، وما أشد ما سيستقبلونه بعد ذلك من عذاب أليم.
ثم عقد- سبحانه- مقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة. بين فيها أن الحياة الآخرة هي الحياة العالية السامية الباقية، أما الحياة الدنيا فهي إلى زوال وانتهاء فقال- تعالى-:
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
اللعب: هو العمل الذي لا يقصد به مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة، واللهو: هو طلب ما يشغل عن معالى الأمور وعما يهم الإنسان ويعنيه.
والمعنى: إن هذه الحياة التي نعتها الكفار بأنها لا حياة سواها ما هي إلا لهو ولعب لمن يطلبها بأنانية وشره من غير استعداد لما يكون وراءها من حياة أخرى فيها الحساب والجزاء، وفيها النعيم الذي لا ينتهى، وفيها السعادة التي لا تحد، بالنسبة للذين اتقوا ربهم، ونهوا أنفسهم عن الهوى.
فالحياة الدنيا لعب ولهو لمن اتخذوها فرصة للتكاثر والتفاخر وجمع الأموال من حلال وحرام، ولم يقيموا وزنا للأعمال الصالحة التي كلفهم الله- تعالى- بها. أما بالنسبة للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا. فإن الحياة الدنيا تعتبر وسيلة إلى رضا الله الذي يظفرون به يوم القيامة، وإن ما يحصل عليه المؤمنون في هذا اليوم من ثواب جزيل ومن نعيم مقيم هو خير من الدنيا وما فيها من متعة زائلة ومن شهوات لا دوام لها.
والاستفهام في قوله- تعالى- أَفَلا تَعْقِلُونَ للحث على التدبر والتفكر والموازنة بين اللذات العاجلة الفانية التي تكون في الدنيا، وبين النعيم الدائم الباقي الذي يكون في الآخرة.
ثم أخذ القرآن الكريم في مخاطبة النبي ﷺ وفي تسليته عما أصابه من قومه فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)قَدْ هنا للتحقيق وتأكيد العلم وتكثيره، والتحقيق هنا جاء من موضوعها لا من ذاتها كما أن التكثير راجع إلى متعلقات العلم، لا إلى العلم نفسه، لأن صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها. والحزن ألم يعترى النفس عند فقد محبوب، أو امتناع مرغوب أو حدوث مكروه.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم. في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ أى: قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم وقوله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أى: هم لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثوري عن أبى إسحاق عن ناجية عن على قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك يا محمد ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وعن أبى يزيد المدني أن النبي ﷺ لقى أبا جهل فصافحه فقال
فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لتسلية النبي ﷺ عما كان يصيبه من المشركين ومما لا شك فيه أنه- عليه الصلاة والسلام- كان حريصا على إسلامهم، فإذا ما رآهم معرضين عن دعوته حزن وأسف، وفي معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة منها قوله- تعالى-:
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «٢».
ومنها قوله- تعالى- فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ «٣».
ومنها قوله- تعالى- فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ «٤».
قال الجمل: والفاء في قوله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ للتعليل، فإن قوله قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ بمعنى لا يحزنك، كما يقال في مقام المنع والزجر نعلم ما تفعل. ووجه التعليل: أن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور، فتخلق بأخلاقى. ويحتمل أن يكون المعنى: إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم «٥».
والمعنى: إن هؤلاء الكفار- يا محمد- لا ينسبونك إلى الكذب، فهم قد لقبوك بالصادق الأمين، ولكنهم يجحدون الآيات الدالة على صدقك بإنكارها بألسنتهم مع اعتقادهم صدقها.
والجحود هو الإنكار مع العلم، أى نفى ما في القلب ثبوته، أو إثبات ما في القلب نفيه، وفي التعبير بالجحود بعد نفى التكذيب إشارة إلى أن آيات الله واضحة بحيث يصدقها كل عاقل وأنه لا يصح إنكارها إلا عن طريق الجحود.
وقال- سبحانه- وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ ولم يقل وَلكِنَّهُمْ، لبيان سبب جحودهم وهو الظلم الذي استقر في نفوسهم، وفيه فوق ذلك تسجيل للظلم عليهم حتى يكونوا أهلا لما يصيبهم من عقاب.
ثم زاد القرآن في تعزية النبي ﷺ وتسليته عن طريق إخباره بما حدث للأنبياء من قبله فإن
(٢) سورة الكهف: الآية ٦.
(٣) سورة فاطر الآية ٨.
(٤) سورة يس الآية ٧٦.
(٥) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٣.
أى: أن الرسل من قبلك- يا محمد- قد كذبتهم أقوامهم وأنزلت بهم الأذى، فليس بدعا أن يصيبك من أعدائك ما أصاب الأنبياء من قبلك، ولقد صبر أولئك الأنبياء الكرام على التطاول والسفه فكانت نتيجة صبرهم أن آتاهم الله النصر والظفر، فعليك- وأنت خاتمهم وإمامهم- أن تصبر كما صبروا حتى تنال ما نالوا من النصر، فإن سنة الله لا تتخلف في أى زمان أو مكان.
وجاء قوله- تعالى- وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ مؤكدا بقد وباللام، للإشارة إلى تأكيد التسلية والتعزية، وإلى تأكيد التمسك بفضيلة الصبر التي سيعقبها النصر الذي وعد الله به الصابرين.
وما في قوله عَلى ما كُذِّبُوا مصدرية، وَأُوذُوا معطوف على قوله كُذِّبَتْ أى:
كذبت الرسل وأوذوا فصبروا على كل ذلك.
وقوله حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا غاية للصبر، أى: صبروا على التكذيب وما قارنه من الإيذاء إلى أن جاءهم نصرنا وفيه بشارة للنبي ﷺ مؤكدا للتسلية بأنه- سبحانه- سينصره على القوم الظالمين.
وقوله- تعالى- وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ معناه: لا مغير لكلمات الله وآياته التي وعد فيها عباده الصالحين بالنصر على أعدائه، ومن ذلك قوله- تعالى- كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ».
وقوله- تعالى- وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «٢». وقوله- تعالى- إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «٣». إلى غير ذلك من الآيات التي بشر فيها عباده المؤمنين بالفلاح وحسن العاقبة.
ويرى المحققون من العلماء أن المراد بكلمات الله: شرائعه، وصفاته، وأحكامه، وسننه في كونه، ويدخل فيها دخولا أولياء ما وعد الله به أنبياءه وأولياءه من النصر والظفر. وهذا الرأى أرجح من سابقه لأنه أعم وأشمل.
وإضافة الكلمات إليه- سبحانه- للإشعار باستحالة تبديلها أو تغييرها لأنه- سبحانه-
(٢) سورة الصافات الآيات ١٧١، ١٧٢، ١٧٣.
(٣) سورة غافر الآية ٥١.
وقوله- تعالى- وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ تأكيد وتقرير لما قبله أى: ولقد جاءك من أخبار المرسلين وأنبائهم- مما قصه عليك في كتابه- ما فيه العظات والعبر، فلقد صبر المرسلون على الأذى فكافأهم الله- تعالى- على ذلك بالظفر على أعدائهم.
ثم بين- سبحانه- أنه لا سبيل إلى إيمان هؤلاء الجاحدين إلا بمشيئة الله وإرادته فقال وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ.
كبر عليك: أى شق وعظم عليك. والنفق: السرب النافذ في الأرض الذي يخلص إلى مكان.
والمعنى: وإن كان- يا محمد- قد شق عليك إعراض قومك عن الإيمان وظننت أن إتيانهم بما اقترحوه من آيات يكون سببا في إيمانهم، فإن استطعت أن تطلب مسلكا عميقا في جوف الأرض، أو مرقاة ترتقى بها إلى السماء لتأتيهم بما اقترحوا من مطالب فافعل فإن ذلك لن يفيد شيئا لأن هؤلاء المشركين لا ينقصهم الدليل الدال على صدقك، ولكنهم يعرضون عن دعوتك عنادا وجحودا.
ثم قال- تعالى- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ.
أى: لو شاء الله جمعهم على ما جئت به من الهدى والرشاد لفعل، بأن يوفقهم إلى الإيمان فيؤمنوا، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنهم بسوء اختيارهم آثروا الحياة الدنيا، فلا تكونن من الجاهلين بحكمة الله في خلقه، وبسننه التي اقتضاها علمه.
ثم بين- سبحانه- من هم أهل للإيمان والاستجابة للحق فقال:
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أى: إنما يستجيب لك أيها الرسول الكريم أولئك الذين يسمعون توجيهك وأقوالك سماع تدبر وتفهم وتأثر، أما هؤلاء الذين يعاندونك فقد طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.
فالمراد بالاستجابة هنا، الإجابة المقرونة بالتفكر والتأمل، فهي إجابة محكمة دقيقة لأنها أنت بعد استقراء وتدبر وهذا ما تدل عليه السين.
ثم بين- سبحانه- حال الكفار فقال: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أى: وموتى
فالمراد بالموتى هنا الكفار لأنهم موتى القلوب فشبههم- سبحانه- بموتى الأجساد، وهذا من باب التهكم بهم والتحقير من شأنهم.
وقيل: إن لفظ الموتى على حقيقته وأن الله- تعالى- بقدرته النافذة سيبعث الجميع يوم القيامة ويرجعهم إليه فيجازى الذين أساؤا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم حكى- سبحانه- بعض الشبهات التي تذرع بها المشركون تعنتا، ورد عليها بما يخرس ألسنتهم، وبما يؤكد قدرته النافذة وعلمه المحيط فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
ولَوْلا هنا تحضيضية بمعنى هلا. والمعنى: وقال أولئك الكافرون: هلا نزل عليك يا محمد معجزة حسية كتفجير الأنهار، وفلق البحر، ونزول الملائكة معك.. إلخ.
فهذه الآيات الكريمة تحكى عنهم أنهم لم يكتفوا بالقرآن معجزة خالدة للنبي ﷺ وإنما يريدون معجزات حسية من جنس معجزات الأنبياء السابقين.
وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل على رسول الله ﷺ من الآيات، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه، حتى لكأنه لم ينزل عليه شيء عنادا وجحودا منهم.
وفي قولهم- كما حكى القرآن عنهم- لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ببناء الفعل للمجهول وذكر لفظ الرب، للإشارة إلى أنهم لا يوجهون الطلب إلى النبي ﷺ وإنما يوجهونه إلى الله تعالى، لأنه إذا كان رسولا من عنده، فليجب له هذا الطلب الذي نتمناه ونكون من بعده مؤمنين.
أى: قل لهم أيها الرسول الكريم على سبيل التوبيخ والتقريع إن الله- تعالى- قادر على تنزيل ما اقترحوا من آيات، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء، ولكنه- سبحانه- ينزل ما تقتضيه حكمته، إلا أنهم لجهلهم وعنادهم لا يعلمون شيئا من حكم الله في أفعاله، ولا من سننه في خلقه.
وقوله- تعالى-: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يفيد أنهم لا يؤمنون حتى ولو جاءتهم الآيات التي اقترحوها، لأن عدم إيمانهم ليس عن نقص في الدليل ولكنه عن تكبر وجحود.
ثم ذكر- سبحانه- بعض الآيات الكونية المبثوثة في الأرض والجو والمعروضة على البصائر والأبصار فقال- تعالى-:
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ.
الدابة: كل ما يدب على الأرض من حيوان. والطائر: كل ذي جناح يسبح في الهواء، والأمم: جمع أمة وهي جماعة يجمعهم أمر ما.
والمعنى: إنه لا يوجد نوع ما من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم في أن الله خلقهم وتكفل بأرزاقهم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما الغرض من ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة عن عظم قدرة الله. وسعة سلطانه، وتدبير تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها، وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان» «١» وذكر الجناحين في الطير لتوجيه الأنظار إلى بديع صنعه- سبحانه- وحسن خلقه.
قال- تعالى-: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ «٢».
ثم قال- تعالى-: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ.
التفريط في الأمر: التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت. والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ وقيل المراد به القرآن.
(٢) سورة الملك: الآية ١٩.
فالآية الكريمة مسوقة لبيان سعة علم الله- تعالى- وكمال قدرته، لتكون كالدليل على أنه- سبحانه- قادر على تنزيل الآية التي اقترحوها، وإنما لم ينزلها لأن حكمته تقتضي ذلك.
وجملة ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ معترضة لتقرير مضمون ما قبلها.
والتعبير بثم في قوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ للإشارة إلى أنهم أعداد لا يحصيها العد، وجمعهم ليس يسيرا في ذاته، وإن كان بالنسبة لقدرته- تعالى- أمرا هينا.
ويرى بعض العلماء أن المراد بحشر البهائم موتها. ويرى آخرون أن المراد بعثها يوم القيامة لقوله- تعالى-: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وفي الحديث الشريف عن أبى ذر الغفاري أن النبي ﷺ رأى شاتين تتناطحان فقال: يا أبا ذر هل تدرى فيم تتناطحان؟ قال: لا. قال:
ولكن الله يدرى وسيقضي بينهما.
ثم قال- تعالى-: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ.
أى: مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل الأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا يتكلم وهو مع ذلك في ظلمات لا يبصر، فكيف يهتدى مثل هذا إلى الطريق القويم أو يخرج مما هو فيه من ضلال.
ففي التعبير القرآنى استعارة تمثيلية إذ شبهت حال الجاحدين المعرضين عن كل دليل وبرهان بحال الصم البكم الذين يعيشون في الظلام من حيث لا نور يهديهم.
ثم قال- تعالى-: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أى: من يشأ الله له الضلالة أضله بأن يجعله يسير في طريق هواه بسبب إعراضه عن طريق الخير، وإيثاره العمى على الهدى، ومن يشأ الله له الهداية يهده، لأنه قد خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فالهداية والضلالة ليسا إجباريين لا اختيار للعبد فيهما، وإنما الحق أن للعبد اختيارا في الطريق الذي يسلكه، فإن كان خيرا خطا فيه إلى النهاية، وإن كان شرا سار فيه إلى الهاوية.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المشركين عند ما تحيط بهم المصائب والأهوال لا يتوجهون بالضراعة والدعاء إلا إلى الله، وأنهم مع ذلك لا يخصونه بالعبادة كما يخصونه بالدعاء لكشف الضر، فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
أَرَأَيْتَكُمْ المقصود به أخبرونى، وكلمة أرأيت في القرآن تستعمل للتنبيه والحث على الرؤية والتأمل، فهو استفهام للتنبيه مؤداه: أرأيت كذا فإن لم تكن رأيته فانظره وتأمله.
والمعنى: قل- يا محمد- لهؤلاء المشركين: أخبرونى عن حالكم عند ما يداهمكم عذاب الله الدنيوي كزلزال مدمر، أو ريح صرصر عاتية، أو تفاجئكم الساعة بأهوالها وشدائدها ألستم في هذه الأحوال تلتجئون إلى الله وحده وتنسون آلهتكم الباطلة، لأن الفطرة حينئذ هي التي تنطق على ألسنتكم بدون شعور منكم؟ وما دام الأمر كذلك فلماذا تشركون مع الله آلهة أخرى؟ إن أحوالكم هذه لتدعو إلى الدهشة والغرابة، لأنكم تلجأون إليه وحده عند الشدائد والكروب ومع ذلك تعبدن غيره ومن لا يملك ضرا ولا نفعا.
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ للتوبيخ والتقريع والتعجب من حالهم.
وجواب الشرط محذوف، والتقدير: إن كنتم صادقين في أن الأصنام تنفعكم فادعوها.
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ.
بل للإضراب الانتقالى عن تفكيرهم وأوهامهم، أى: بل تخصونه وحده بالدعاء دون الآلهة، فيكشف ما تلتمسون كشفه إن شاء ذلك، لأنه هو القادر على كل شيء وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ أى: تغيب عن ذاكرتكم عند الشدائد والأهوال تلك الأصنام الزائفة والمعبودات الباطلة.
وقدم- سبحانه- المفعول على الفعل في قوله: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ لإفادة الاختصاص، أى: لا تدعون إلا إياه، وذلك يدل على أن المشركين مهما بلغ ضلالهم فإنهم عند الشدائد يتجهون بتفكيرهم إلى القوة الخفية الخالقة لهذا الكون.
وفي قوله: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ استعارة حيث شبه حال إزالة الشر بحال كشف غطاء غامر مؤلم بجامع إزالة الضر في كل وإحلال السلامة محله.
والمقصود فيكشف الضر الذي تدعونه أن يكشفه: فالكلام على تقدير حذف مضاف.
وجواب الشرط لقوله: إِنْ شاءَ محذوف لفهم المعنى ودلالة ما قبله عليه، أى إن شاء أن يكشف الضر كشفه، لأنه- سبحانه- لا يسأل عما يفعل.
ثم أخذ القرآن في تسلية النبي ﷺ وفي بيان أحوال الأمم الماضية فقال- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ.
البأساء: تطلق على المشقة والفقر الشديد، وعلى ما يصيب الأمم من أزمات تجتاحها بسبب الحروب والنكبات. والضراء. تطلق على الأمراض والأسقام التي تصيب الأمم والأفراد.
والمعنى: ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلا إلى أقوامهم، فكان هؤلاء الأقوام أعتى من قومك في الشرك والجحود، فعاقبناهم بالفقر الشديد والبلاء المؤلم، لعلهم يخضعون ويرجعون عن كفرهم وشركهم.
فالآية الكريمة تصور لونا من ألوان العلاج النفسي الذي عالج الله به الأمم التي تكفر بأنعمه، وتكذب أنبياءه ورسله، إذ أن الآلام والشدائد علاج للنفوس المغرورة بزخارف الدنيا ومتعها إن كانت صالحة للعلاج.
ولقد بين- سبحانه- بعد ذلك. أن تلك الأمم لم تعتبر بما أصابها من شدائد فقال:
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
ولولا هنا للنفي، أى أنهم ما خشعوا ولا تضرعوا وقت أن جاءهم بأسنا.
وقد اختار صاحب الكشاف أنها للنفي فقال: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه:
نفى التضرع، كأنه قيل. فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم» «١».
ثم بين- سبحانه- أن أمرين حالا بينهم وبين التوبة والتضرع عند نزول الشدائد بهم.
أما الأمر الأول: فهو قسوة قلوبهم، وقد عبر- سبحانه- عن هذا الأمر الأول بقوله:
وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أى: غلظت وجمدت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة.
وأما الأمر الثاني: فهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة، بأن يوحى إليهم بأن ما هم عليه من كفر وشرك وعصيان هو عين الصواب، وأن ما أتاهم به أنبياؤهم ليس خيرا لأنه يتنافى مع ما كان عليه آباؤهم.
هذان هما الأمران اللذان حالا بينهم وبين التضرع إلى الله والتوبة إليه.
ثم بين- سبحانه- أنه قد ابتلاهم بالنعم بعد أن عالجهم بالشدائد فلم يرتدعوا فقال- تعالى-:
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ.
والمعنى: فلما أعرضوا عن النذر والعظات التي وجهها إليهم الرسل، فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الرزق وأسباب القوة والجاه. حتى إذا اغتروا وبطروا بما أوتوا من ذلك أخذناهم بغتة فإذا هم متحسرون يائسون من النجاة.
والفاء في قوله- تعالى- فَلَمَّا نَسُوا لتفصيل ما كان منهم. وبيان ما ترتب على كفرهم من عواقب قريبة وأخرى بعيدة.
والمراد بالنسيان هنا: الإعراض والترك. أى: تركوا الاهتداء بما جاء به الرسل حتى نسوه أو جعلوه كالمنسي في عدم الاعتبار والاتعاظ به لإصرارهم على كفرهم، وجمودهم على تقليد من قبلهم.
وعبر- سبحانه- عن إعطائهم النعمة بقوله: بِما أُوتُوا بالبناء للمجهول لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم، كما قال قارون من قبل إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي.
وأضاف- سبحانه- الأخذ إلى ذاته في قوله فَأَخَذْناهُمْ لأنهم كانوا لا ينكرون ذلك، بل كانوا ينسبون الخلق والإيجاد إلى الله- تعالى-.
وكان الأخذ بغتة ليكون أشد عليهم وأفظع هولا، أى أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم. أو حال كونهم مبغوتين، فقد فجأهم العذاب على غرة بدون إمهال.
وإذا في قوله فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فجائية، والمبلس: الباهت الحزين البائس من الخير، الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال.
روى الإمام أحمد بسنده عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ قال: «وإذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج»، ثم تلا قوله- تعالى- فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ. الآية.
ثم قال- تعالى-: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
الدابر: الآخر، والمعنى: فأهلك الله- تعالى- أولئك الأقوام عن آخرهم بسبب ظلمهم وفجورهم، والحمد لله رب العالمين الذي نصر رسله وأولياءه على أعدائهم، وفي ختام هذه الآية بقوله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تعليم لنا، إذ أن زوال الظالمين نعمة تستوجب الحمد والثناء على الله- تعالى-.
ثم ذكرهم- سبحانه- بنعمه عليهم في خلقهم وتكوينهم، وبين لهم إذا سلبهم شيئا من حواسهم فإنهم لا يتجهون إلا إليه فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
والاستفهام في قوله- تعالى- أَرَأَيْتُمْ للتنبيه أى: إن لم تكونوا قد رأيتم ذلك فتبينوه وتأملوا ما يدل عليه.
والضمير في بِهِ يعود إلى المأخوذ وهو السمع والبصر والفؤاد.
وفي قوله انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ تعجيب من عدم تأثرهم رغم كثرة الدلائل وتنوعها من أسلوب إلى أسلوب.
وجملة ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ معطوفة على جملة نصرف الآيات وداخلة في حكمها، وكان العطف بثم لإفادة الاستبعاد المعنوي، لأن تصريف الآيات والدلائل يدعو إلى الإقبال، فكان من المستبعد في العقول والأفهام أن يترتب عليه الإعراض والابتعاد.
قال القرطبي: يَصْدِفُونَ أى: يعرضون. يقال: صدف عن الشيء إذا أعرض صدفا وصدوفا فهو صادف. فهم مائلون معرضون عن الحجج والدلالات «١».
ثم وجه عقولهم إلى لون آخر من ألوان الإقناع فقال- تعالى-:
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً، هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. بغتة:
أى مفاجأة، وجهرة: أى جهارا عيانا.
والاستفهام في قوله هَلْ يُهْلَكُ بمعنى النفي، أى: ما يهلك به إلا القوم الظالمون، الذين أصروا على الشرك والجحود، فهلاكهم سببه السخط عليهم والعقوبة لهم، لأنهم عموا وصموا عن الهداية.
ثم بين- سبحانه- وظيفة الرسل فقال: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، أى: تلك سنتنا وطريقتنا في إهلاك المكذبين للرسل، والمعرضين عن دعوتهم، فإننا ما نرسل المرسلين إليهم إلا بوظيفة معينة محددة هي تقديم البشارة لمن آمن وعمل صالحا، وسوق الإنذار لمن كذب وعمل سيئا.
فالجملة الكريمة كلام مستأنف مسوق لبيان وظيفة الرسل- عليهم الصلاة والسلام- ولإظهار أن ما يقترحه المشركون عليهم من مقترحات باطلة ليس من وظائف المرسلين أصلا.
ثم بين- سبحانه- عاقبة من آمن وعاقبة من كفر فقال: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.
والمعنى: فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأصلح في عمله. فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذي ينزل بالجاحدين، ولا من عذاب الآخرة الذي يحل بالمكذبين، ولا هم يحزنون يوم لقاء الله على شيء فاتهم.
والمس اللمس باليد، ويطلق على ما يصيب المرء من ضر أو شر- في الغالب- وفي قوله يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ استعارة تبعية، فكأن العذاب كائن حي يفعل بهم ما يريد من الآلام والعذاب.
ثم لقن الله- تعالى- رسوله ﷺ الأجوبة الحاسمة التي تدمغ شبهات الكافرين، وتبين ضلال مقترحاتهم فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يقترحون عليك المقترحات الباطلة قل لهم:
ليس عندي خزائن الرزق فأعطيكم منها ما تريدون، وإنما ذلك لله- تعالى- فهو الذي له خزائن السموات والأرض، وقد كان المشركون يقولون للنبي ﷺ إن كنت رسولا من الله فاطلب منه أن يوسع عيشنا ويغنى فقرنا، وقل لهم كذلك إنى لا أعلم الغيب فأخبركم بما مضى وبما سيقع في المستقبل، وإنما علم ذلك عند الله، وقد كانوا يقولون له أخبرنا بما ينفعنا ويضرنا في المستقبل. حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار، وقل لهم: إنى لست ملكا فأطلع على ما لا يطلع عليه الناس وأقدر على مالا يقدرون عليه. وقد كانوا يقولون: ما لهذا الرسول يأكل طعاما ويمشى في الأسواق ثم يتزوج النساء.
ثم بين لهم وظيفته فقال: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أى إن وظيفتي اتباع ما يوحى إلى من ربي. فأنا عبده وممتثل لأمره، وحاشاى أن أدعى شيئا من تلك الأشياء التي اقترحتموها على.
فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لإظهار تبريه عما يقترحونه عليه.
ثم بين لهم- سبحانه- الفرق بين المهتدى والضال فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ.
أى: قل لهم: هل يستوي أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم الذي دعوتكم إليه، وذو البصيرة المنيرة التي اهتدت إلى الحق فآمنت به واتبعته؟
فالمراد بالأعمى الكافر الذي لم يستجب للحق، وبالبصير المؤمن الذي انقاد له.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه ﷺ أن يجتهد في إنذار قوم يتوقع منهم الصلاح والاستجابة للحق، بعد أن أمره قبل ذلك بتوجيه دعوته إلى الناس كافة فقال تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
والمعنى: عظ وخوف يا محمد بهذا القرآن أولئك الذين يخافون شدة الحساب والعقاب، وتعتريهم الرهبة عند ما يتذكرون أهوال يوم القيامة لأنهم يعلمون أنه يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، فهؤلاء هم الذين ترجى هدايتهم لرقة قلوبهم وتأثرهم بالعظات والعبر.
فالمراد بهم المؤمنون العصاة الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ولذا قال ابن كثير:
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ أى وأنذر بهذا القرآن يا محمد الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب أى: يوم القيامة، لَيْسَ لَهُمْ يومئذ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ أى: لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ويضاعف لهم الجزيل من ثوابه) «١».
ثم أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يقرب فقراء المسلمين من مجلسه لأنهم مع فقرهم أفضل عند الله من كثير من الأغنياء. فقال تعالى:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.
أى: لا تبعد أيها الرسول الكريم عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء، ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند الله من الأغنياء المتغطرسين والأقوياء الجاهلين.
وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما جاء عن ابن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا: يا محمد
لا.. اطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك. فنزلت هذه الآية «١» :
ففي الآية الكريمة نهى النبي ﷺ عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه. لأنه وإن كان ﷺ يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للإسلام لينال بقوتهم قوة، إلا أن الله تعالى بين له أن القوة في الإيمان والعمل الصالح، وأن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين قد وصفهم خالقهم بأنهم يتضرعون إليه في كل أوقاتهم ولا يقصدون بعبادتهم إلا وجه الله، فكيف يطردون من مجالس الخير؟.
ثم قال تعالى: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ.
أى: إن الله تعالى هو الذي سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شيء، كما أنه لا يعود عليهم من حسابك شيء، فهم مجزيون بأعمالهم، كما أنك أنت يا محمد مجزى بعملك، فإن طردتهم استجابة لرضى غيرهم كنت من الظالمين. إذ أنهم لم يصدر عنهم ما يستوجب ذلك، وحاشا للرسول ﷺ أن يطرد قوما تلك هي صفاتهم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أما كفى قوله ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى ضم إليه وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنى في قوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه.
وقيل: الضمير للمشركين. والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين) «٢».
وهنا تخريج آخر لقوله: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ بأن المعنى: ما عليك شيء من حساب رزقهم ان كانوا فقراء، وما من حسابك في الفقر والغنى عليهم من شيء، أى أنت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعا سواء منهم الفقير والغنى، فكيف تطرد فقيرا لفقره، وتقرب غنيا لغناه؟ إنك إن فعلت ذلك كنت من الظالمين، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك.
وقوله فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب للنهى عن الطرد، وقوله فَتَطْرُدَهُمْ جواب لنفى الحساب.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣.
والمعنى: ومثل ذلك الفتن. أى الابتلاء والاختبار، جعلنا بعض البشر فتنة لبعض، ليترتب على هذه الفتن أن يقول المفتونون الأقوياء في شأن الضعفاء: أهؤلاء الصعاليك خصهم الله بالإيمان من بيننا! وقد رد الله عليهم بقوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أى: أليس هو بأعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
والكاف في قوله وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير: ومثل ذلك الفتون المتقدم الذي فهم من سياق أخبار الأمم الماضية فتنا بعض هذه الأمم ببعض، ومن مظاهر ذلك أننا ابتلينا الغنى بالفقير، والفقير بالغنى، فكل واحد مبتلى بضده، فكان ابتلاء الأغنياء الشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى الإسلام وتقدموا عليهم، فامتنعوا عن الدخول في الإسلام لذلك، فكان ذلك فتنة وابتلاء لهم وأما فتنة الفقراء بالأغنياء فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم. فكان ذلك فتنة لهم «١».
واللام في قوله لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا تعليلية لأنها هي للباعث على الاختبار أى: ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منا وامتحانا.
والاستفهام في قوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ للتقرير على أكمل وجه لأنه سبحانه محيط بكل صغير وكبير ودقيق وجليل.
وكذلك تكون الآيات الكريمة قد قررت أن الفضل ليس بالغنى ولا بالجاه ولا بالقوة في الدنيا، ولكنه بمقدار شكر الله على ما أنعم، وأنه سبحانه هو العالم وحده بمن يستحق الفضل علما ليس فوقه علم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦)السلام والسلامة مصدران من الثلاثي. يقال سلم فلان من المرض أو من البلاء سلاما وسلامة ومعناهما البراءة والعافية. ويستعمل السلام في التحية، وهو بمعنى الدعاء بالسلامة من كل سوء، فهو آية المودة والأمان والصفاء.
والمعنى: وإذا حضر إلى مجالسك يا محمد أولئك الذين يؤمنون بآياتنا ويعتقدون صحتها فقل لهم: تحية لكم من خالقكم وبشارة لكم بمغفرته ورضوانه مادمتم متبعين لهديه، ومحافظين على فرائضه.
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أى أنه سبحانه أوجب على نفسه الرحمة لعباده تفضلا منه وكرما.
ثم بين سبحانه أصلا من أصول الدين في هذه الرحمة المكتوبة فقال أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أى أنه من عمل منكم عملا تسوء عاقبته متلبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء كغضب شديد ثم تاب من بعد تلك الجهالة وأصلح خطأه وندم على ما بدر منه، ورد المظالم إلى أهلها، فالله سبحانه شأنه في معاملته لهذا التائب النادم أنه غفور رحيم».
ثم قال تعالى وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ المنزلة في بيان الحقائق التي يهتدى بها أهل النظر الصحيح والفقه الدقيق.
وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ أى ولأجل أن يظهر بها طريق المجرمين فيمتازوا بها عن جماعة المسلمين.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يصارح أعداءه ببراءته من شركهم ومن اتباع باطلهم فقال- تعالى-: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك أن تركن إليهم: إن الله نهاني وصرفني بفضله، وبما منحني من عقل مفكر عن عبادة الآلهة التي تعبدونها من دون الله، وقل- أيضا- لهم بكل صراحة وقوة: إنى لست متبعا لما تمليه عليكم أهواؤكم وشهواتكم من انقياد للأباطيل، ولو أنى ركنت إليكم لضللت عن الحق وكنت خارجا عن طائفة المهتدين.
فالآية الكريمة قطعت بكل حسم ووضوح أطماعهم الفارغة في استمالة النبي ﷺ إلى أهوائهم، ووصمتهم بأنهم في الضلال غارقون، وعن الهدى مبتعدون.
وجاءت كلمة نُهِيتُ بالبناء للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهوره أى: نهاني الله- تعالى- عن ذلك. وأجرى على الأصنام اسم الموصول الموضوع للعقلاء لأنهم عاملوهم معاملة العقلاء فأتى لهم بما يحكى اعتقادهم.
قال أبو حيان: و «تدعون» معناه تعبدون: وقيل معناه تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيدا أى سميته بهذا الإسم. وقيل تدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله تدعون من دون الله استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة، ولفظة نهيت أبلغ من النفي بلا أعبد إذ ورد فيه ورود تكليف» «٢».
وجملة قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ مستأنفة، وعدل بها عن العطف إلى الاستئناف لتكون غرضا مستقلا، وأعيد الأمر بالقول زيادة في الاهتمام بالاستئناف واستقلاله ليكون هذا النفي شاملا للاتباع في عبادة الأصنام وفي غيرها من ألوان ضلالهم كطلبهم طرد المؤمنين من مجلسه، وعبر بقوله قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ دون لا أتبعكم. للإشارة إلى أنهم في عبادتهم لغير الله تابعون
(٢) البحر المحيط لأبى حيان ج ٤ ص ١٤٢.
وجملة قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً جواب لشرط مقدر. أى: إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت إذا وما اهتديت.
وجملة وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ معطوفة على جملة قَدْ ضَلَلْتُ ومؤكدة لمضمونها أى: إنه إن فعل ذلك- على سبيل الفرض والتقدير- خرج عن الحالة التي هو عليها الآن من كونه في عداد المهتدين إلى كونه في زمرة الضالين.
والتعبير بقوله وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أبلغ من قوله وما أنا مهتد، لأن التعريف في المهتدين تعريض للجنس، وإخبار المتكلم عن نفسه بأنه من المهتدين يفيد أنه واحد من الفئة التي تعرف عند الناس بفئة المهتدين، فيفيد أنه مهتد بطريقة تشبه طريقة الاستدلال، فهو من قبيل الكناية التي هي إثبات الشيء بإثبات ملزومه وهي أبلغ من التصريح. ولذا قال صاحب الكشاف:
قولك فلان من العلماء أبلغ من قولك فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم ومعرفة مساهمته معهم في العلم».
وبعد أن أمر الله- تعالى- نبيه بمصارحة المشركين بأنه لن يكون في يوم من الأيام متبعا لأهوائهم، أمره أن يخبرهم بأنه على الحق الواضح الذي لا يضل متبعه، وبأن الله وحده هو الذي سيقضي بينه وبينهم فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك اتباع أهوائهم كيف يتأتى لي ذلك وأنا على شريعة واضحة وملة صحيحة لا يعتريها شك، ولا يخالطها زيغ لأنها كائنة من ربي الذي لا يضل ولا ينسى.
والتنوين في كلمة بَيِّنَةٍ للتفخيم والتعظيم، وهي صفة لموصوف محذوف للعلم به في الكلام، أى: على حجة بينة واضحة محقة للحق ومبطلة للباطل فأنا لن أتزحزح عنها أبدا.
وفي ذلك تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم، وإنما هم قد اتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وجملة وَكَذَّبْتُمْ بِهِ في موضع الحال من بَيِّنَةٍ وهي تفيد التعجب منهم حيث كذبوا بما دلت عليه البينات، واتفقت على صحته العقول السليمة.
والضمير في قوله بِهِ يعود على الله- تعالى- أى: وكذبتم بالله مع أن دلائل توحيده ظاهرة واضحة.
وقيل: يعود على البينة والتذكير باعتبار أنها بمعنى البيان.
وقيل: يعود على القرآن أى والحال أنكم كذبتم بالقرآن الذي هو بينتي من ربي.
وقوله: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أى: ليس في مقدوري أن أنزل بكم ما تستعجلونه من العذاب، وإنما ذلك مرجعه إلى الله وحده.
وهذه الجملة الكريمة رد على المشركين الذين استعجلوا نزول العذاب عند ما أنذرهم النبي ﷺ بسوء المصير إذا ما استمروا في ضلالهم، فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ فكان رد النبي ﷺ عليهم بأن الذي يملك إنزال العذاب بهم إنما هو الله وحده، وتأخير العذاب عنهم إنما هو لحكمة يعلمها الله، فهو وحده الذي يقدر وقت نزوله.
وقوله إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أى: ما الحكم في تعجيل العذاب أو تأخيره وفي كل شأن من شئون الخلق إلا لله وحده فهو- سبحانه- الذي ينزل قضاءه حسب سنته الحكيمة، وموازينه الدقيقة.
وقرأ الكسائي وغيره «يقص الحق»، أى: يقص- سبحانه- القضاء الحق في كل شأن من شئونه.
قال ابن جرير: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أى: وهو من ميز بين المحق والمبطل وأعدلهم، لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حيف إلى أحد لوسيلة إليه ولا لقرابة ولا مناسبة، ولا في قضائه جور لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور، فهو أعدل الحكام وخير الفاصلين» «١».
ثم بين- سبحانه- حالهم فيما لو كان أمر إنزال العذاب عليهم بيد النبي عليه الصلاة والسلام فقال: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أى: قل لهم يا محمد لو أن في قدرتي وإمكانى العذاب الذي تتعجلونه، لقضى الأمر بيني وبينكم.
قال صاحب الكشاف أى: لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي. وامتعاضا من تكذيبكم به، ولتخلصت منكم سريعا» «٢».
وجملة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ تذييل، أى: والله أعلم منى ومن كل أحد بحكمة تأخير العذاب وبوقت نزوله، لأنه العليم. الخبير الذي عنده ما تستعجلون به.
والتعبير بِالظَّالِمِينَ إظهار في مقام ضمير الخطاب لإشعارهم بأنهم ظالمون في شركهم وظالمون في تكذيبهم لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: فإن قيل: فكيف الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
فقال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا بقرن الثعالب «٣» فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى فنظرت فيها فإذا جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال فناداني ملك الجبال وسلم على ثم قال يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك. وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرنى بأمرك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقلت له: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له».
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٠ طبعة بيروت.
(٣) قرن الثعالب أو قرن المنازل: اسم مكان على بعد يوم وليلة من مكة وهو ميقات أهل نجد.
ثم يمضى السياق القرآنى مع المكذبين المتعجلين للعذاب، فيسوق لهم صورة لعلم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ.
قال القرطبي: مَفاتِحُ جمع مفتح، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح، وهي قراءة ابن السميقع، والمفتح عبارة عن كل ما يخل غلقا محسوسا كان كالقفل على البيت، أو معقولا كالنظر، وروى ابن ماجة في سننه وأبى حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه»، وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتح إلى الغيب عن الإنسان. ولذلك قال بعضهم هو مأخوذ من قول الناس افتح على كذا، أى: أعطنى أو علمني ما أتوصل إليه به فالله- تعالى- عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو، فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه» «٢».
والغيب: ما غاب عن علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى معرفته، وهو يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة والجن، ويشمل الأعراض الخفية ومواقيت الأشياء وغير ذلك. وقدم الظرف لإفادة الاختصاص، أى: عنده لا عند غيره مفاتيح الغيب، وجملة «لا يعلمها إلا هو» في موضع الحال من مفاتح، وهي مؤكدة لمضمون ما قبلها.
ومعنى لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ أى: لا يعلم الغيوب علما تاما مستقلا إلا هو- سبحانه- فأما ما أطلع عليه بعض أصفيائه من الغيوب فهو إخبار منه لهم، فكان في الأصل راجعا إلى علمه هو. قال- تعالى- عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ.
ثم بين- سبحانه- أن علمه ليس مقصورا على المغيبات، وإنما هو يشملها كما يشمل المشاهدات فقال: وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
قال الراغب: أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير، وقيل إن أصله الماء الملح
(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ١ طبعة دار الكتاب العربي.
وهذه الجملة معطوفة على جملة، وعنده مفاتح الغيب، لإفادة تعميم علمه- سبحانه- بالأشياء الظاهرة المتفاوتة في الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر للناس.
وقدم ذكر البر على البحر على طريقة الترقي من الأقل إلى الأعظم، لأن قسم البحر من الأرض أكبر من قسم البر، وخفاياه أكثر وأعظم، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر.
ثم صرح- سبحانه- بشمول علمه لكل كلى وجزئى، ولكل صغير وكبير، ولكل دقيق وجليل، فقال- تعالى- وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها. وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
أى: وما تسقط ورقة ما من شجرة من الأشجار ولا حبة في باطن الأرض وأجوافها، ولا رطب ولا يابس من الثمار أو غيرها إلا ويعلمه الله علما تاما شاملا، لأن كل ذلك مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهى الثابت.
وجملة وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها معطوفة على جملة، ويعلم ما في البر والبحر، لقصد زيادة التعميم في الجزئيات الدقيقة.
والمراد بظلمات الأرض بطونها، وكنّى بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك ما فيه كما لا يدرك ما في الظلمة.
وقوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ تأكيد لقوله «لا يعلمها» لأن المراد بالكتاب المبين علم الله- تعالى- الذي وسع كل شيء، أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته- عز وجل-.
قال الإمام الرازي: قال الزجاج: يجوز أن الله- تعالى-: أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال- تعالى-: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها.
ثم قال الإمام الرازي: وفائدة هذا الكتاب أمور:
أحدها: أنه- تعالى-: إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء، فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقا له.
وثالثها: أنه- تعالى-: علم أحوال جميع الموجودات، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع- أيضا- تغييرها، وإلا لزم الكذب، فتصير كتابة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا.
تاما، وسببا كاملا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال ﷺ «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» «١».
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أمور من أهمها:
أن علم الله- تعالى-: محيط بالكليات والجزئيات، وبكل شيء في هذا الكون، وبذلك يتبين بطلان رأى بعض الفلاسفة الذين قالوا بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات.
أن علم الغيب مرده إلى الله وحده، قال الحاكم: دل قوله تعالى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ على بطلان قول الإمامية: إن الإمام يعلم شيئا من الغيب».
وقال القاسمى: قال صاحب «فتح البيان» : في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين وغيرهم من مدعى الكشف والإلهام ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم. ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم سوى خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق ﷺ «من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد» قال ابن مسعود «أوتى نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب».
وروى البخاري بسنده عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله. لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله.
ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت، ولا يدرى أحد متى يجيء المطر» «٢».
وقال القرطبي: قال علماؤنا: أضاف- سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من
(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٣٤٣.
وبعد أن بين- سبحانه-: شمول علمه لكل شيء، أتبع ذلك بالحديث عن كمال قدرته، ونفاذ إرادته فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٠ الى ٦٤]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)
(٢) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣. [.....]
فهذه الآية صريحة في أن التوفي أعم من الموت، فقد صرحت بأن الأنفس التي تتوفى في منامها غير ميتة، فهناك وفاتان: وفاة كبرى وتكون بالموت، ووفاة صغرى وتكون بالنوم.
والمعنى: وهو- سبحانه- الذي يتوفى أنفسكم في حالة نومكم بالليل، دون غيره لأن غيره لا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا.
وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أى: ما كسبتم وعملتم فيه من أعمال. وأصل الجرح تمزيق جلد الحي بشيء محدد مثل السكين والسيف والظفر والناب وأطلق هنا على ما يكتسبه الإنسان بجوارحه من يد أو رجل أو لسان.
وتخصيص الليل بالنوم، والنهار بالكسب جريا على المعتاد، لأن الغالب أن يكون النوم ليلا، وأن يكون الكسب والعمل نهارا، قال- تعالى-:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أى: ثم إنه بعد توفيكم بالنوم يوقظكم منه في النهار، لأجل أن يقضى كل فرد أجله المسمى في علم الله- تعالى-، والمقدر له في هذه الدنيا، فقد جعل- سبحانه- لأعماركم آجالا محددة لا بد من قضائها وإتمامها.
وجملة ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ معطوفة على يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فتكون ثم للمهلة الحقيقية وهو الأظهر.
ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أى: ثم إليه وحده يكون رجوعكم بعد انقضاء حياتكم في هذه الدنيا، فيحاسبكم على أعمالكم التي اكتسبتموها فيها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
فالآية الكريمة تسوق للناس مظهرا من مظاهر قدرة الله وتبرهن لهم على صحة البعث
هذا، ويرى جمهور المفسرين أن ظاهر الخطاب في الآية للمؤمنين والكافرين، ولكن الزمخشري خالف في ذلك فجعلها خطابا للكافرين فقال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ الخطاب للكفرة، أى: أنتم منسدحون الليل كله كالجيف- أى مسطحون على القفا- وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ما كسبتم من الآثام فيه ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم «١».
والذي نراه أن رأى الجمهور أرجح لأنه لم يرد نص يدل على تخصيص الخطاب في الآية للكافرين.
ثم قال- تعالى-: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ أى: وهو الغالب المتصرف في شئون خلقه يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وإثابة وعقابا إلى غير ذلك، والمراد بالفوقية فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة.
قال الإمام الرازي: وتقرير هذا القهر من وجوه:
الأول: أنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد.
والثاني: أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد، فإنه- تعالى- هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة، ومن الوجود إلى العدم تارة أخرى، فلا وجود إلا بإيجاده، ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات.
والثالث: أنه قهار لكل ضد بضده، فيقهر النور بالظلمة، والظلمة بالنور، والنهار بالليل، والليل بالنهار، وتمام تقريره في قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «٢».
وقوله وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً أى: ويرسل عليكم ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها وتسجل ما تعملونه من خير أو شر. قال: - تعالى-: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ وقال- تعالى-: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥٨.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت إن الله- تعالى- غنى بعلمه عن كتابة الملائكة فما فائدتها؟ قلت: فيها لطف للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم، والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رءوس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء) «١».
وجملة وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يجوز أن تكون معطوفة على اسم الفاعل الواقع صلة ل (أل)، لأنه في معنى يقهر والتقدير وهو الذي يقهر عباده ويرسل، فعطف الفعل على الإسم لأنه في تأويله.
وقوله حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ أى: حتى إذا احتضر أحدكم وحان أجله قبضت روحه ملائكتنا الموكلون بذلك حالة كونهم لا يتوانون ولا يتأخرون في أداء مهمتهم.
قال الآلوسى: وحتى في قوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها، كأنه قيل: ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم، حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاءت أسباب الموت ومباديه توفته رسلنا الآخرون المفوض إليهم ذلك، وانتهى هناك حفظ الحفظة. والمراد بالرسل- على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس- أعوان ملك الموت «٢».
وقال الجمل: فإن قلت: إن هناك آية تقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وثانية تقول: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ والتي معنا تقول تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فكيف الجمع بين هذه الآيات؟.
فالجواب على ذلك أن المتوفى في الحقيقة هو الله، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة فيأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه، وقيل المراد من قوله تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له «٣».
(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٧٦.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤٠.
فالضمير في رُدُّوا يعود على الخلائق الذين توفتهم الملائكة والمدلول عليهم بأحد. والسر في الإفراد أولا والجمع ثانيا وقوع التوفي على الأفراد والرد على الاجتماع. أى: ردوا بعد البعث فيحكم فيهم بعدله. قال- تعالى- قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
وقيل إن الضمير في رُدُّوا يعود على الملائكة. أى: ثم ردوا أولئك الرسل بعد إتمام مهمتهم بإماتة جميع الناس فيموتون هم أيضا. وجملة أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ.
تذييل ولذلك ابتدئ بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر.
أى: ألا له الحكم النافذ لا لغيره وهو- سبحانه- أسرع الحاسبين لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلائق من تفكر واشتغال بحساب عن حساب.
وبذلك تكون هذه الآيات الثلاث قد أقامت أقوى البراهين وأصحها على كمال قدرة الله، ونفاذ إرادته، ومحاسبته لعباده يوم القيامة على ما قدموا وأخروا.
ثم ساق القرآن لونا آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله وسابغ رحمته وفضله وإحسانه فقال- تعالى-: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
قال صاحب الكشاف: ظلمات البر والبحر مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما.
يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب، أى اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل» «١».
وقيل: حمله على الحقيقة أولى فظلمة البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل ومن ظلمة السحاب فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب، وظلمة البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضا الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك.
والتضرع: المبالغة في الضراعة مع الذل والخضوع. والخفية- بالضم والكسر- الخفاء والاستتار. وللكرب الغم الشديد مأخوذ من كرب الأرض وهو إثارتها وقلبها بالحفر. فالغم يثير النفس كما يثير الأرض كاربها.
قال الإمام الرازي: «والمقصود من ذلك أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله، وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله، وينقطع رجاؤه عن كل ما سواه، وهو المراد من قوله تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فبين- سبحانه- أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأن لا ملجأ إلا إلى الله ولا تعويل إلا على فضله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص في كل الأحوال، لكن الإنسان ليس كذلك فإنه بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية ويقدم على الشرك.
ولفظ الآية يدل على أنه عند حصول الشدائد يأتى الإنسان بأمور:
أحدها: الدعاء.
وثانيها: التضرع.
وثالثها: الإخلاص بالقلب وهو المراد من قوله خُفْيَةً.
ورابعها: التزام الاشتغال بالشكر. ونظير هذه الآية قوله- تعالى- وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وقوله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وبالجملة فعادة أكثر الناس أنهم إذا شاهدوا الأمر الهائل أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به» «١».
ثم بين- سبحانه- قدرته على تعذيبهم تهديدا لهم حتى يخشوا بأسه أثر بيان قدرته على تنجيتهم فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين، إن الله- تعالى- وحده هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا عظيما من فوقكم أى: من جهة العلو كما أرسل على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة، أو من تحت أرجلكم أى من السفل كما حدث بالنسبة لفرعون وجنده من الغرق، وبالنسبة لقارون حيث خسف به الأرض.
وقيل: من فوقكم أى من قبل سلاطينكم وأكابركم، ومن تحت أرجلكم أى: من قبل سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات.
وتصوير العذاب بأنه آت من أعلى أو من أسفل أشد وقعا في النفس من تصويره بأنه آت من جهة اليمين أو من جهة الشمال، لأن الآتي من هاتين الجهتين قد يتوهم دفعه، أما الآتي من أعلى أو من أسفل فهو عذاب قاهر مزلزل لا مقاومة له ولا ثبات معه.
وقوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أى: يخلطكم فرقا مختلفة الأهواء، متباينة المشارب، مضطربة الشئون، كل فرقة تتبع إماما لها تقاتل معه غيرها، فيزول الأمن ويعم الفساد.
وشِيَعاً جمع شيعة وهم الأتباع والأنصار، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، وقوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ معطوف على ما قبله، أى: يسلط بعضكم على بعض بالعذاب
ثم تختم الآية بهذا التعبير الحكيم انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.
أى: انظر وتدبر- أيها الرسول الكريم- أو أيها العاقل كيف ننوع الآيات والعبر والعظات بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى لعلهم يفقهون الحق ويدركون حقيقة الأمر، فينصرفوا عن الجحود والمكابرة، ويكفوا عن كفرهم وعنادهم.
هذا، وقد ساق ابن كثير عقب تفسير هذه الآية جملة «١» من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم عن سعد بن أبى وقاص أنه أقبل مع النبي ﷺ ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بنى معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه. ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثا فأعطانى ثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي أن لا يهلك أمتى بالسّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
بعد هذا التهديد الشديد للمعاندين اتجه القرآن إلى الرسول ﷺ فأمره أن يصارح قومه بسوء مصيرهم إذا ما استمروا في ضلالهم فقال:
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ أى: وكذب جمهور قومك بهذا العذاب الذي حدثناك عنه فظنوا أن الله لن يعذبهم بسبب إعراضهم عن دعوتك، أو كذبوا بهذا القرآن الذي هو معجزتك الكبرى.
والتعبير عنهم بقومك تسجيل عليهم بسوء المعاملة لمن هو من أنفسهم وجملة وَهُوَ الْحَقُّ مستأنفة لقصد تحقيق القدرة على بعث العذاب عليهم، أو حال من الهاء في به، أى: كذبوا حال كونه حقا، وهو أعظم في القبح قل لهم- يا محمد- لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أى: لم يفوض إلى أمركم فأمنعكم من التكذيب وأجبركم على التصديق، فأنا لست بقيم عليكم وإنما أنا منذر وقد بلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكنكم لا تحبون الناصحين.
ثم ختم هذا التهديد بقوله- تعالى- لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
قال الراغب: «النبأ: خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حق يتضمن هذه الأشياء الثلاثة».
أى: لكل خبر عظيم وقت استقرار وحصول لا بد منه، وسوف تعلمونه في المستقبل عند حلوله بكم متى شاء الله ذلك، قال- تعالى- وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من قدرة الله، وهددت المعاندين في كل زمان ومكان بسوء المصير.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله وأتباعه بأن يهجروا المجالس التي لا توقر فيه آيات الله وشرائعه، فقال- تعالى-:
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.
قال الراغب: الخوض هو الشروع في الماء والورود فيه، ثم استعير للأخذ في الحديث فقيل: تخاوضوا في الحديث، أى: أخذوا فيه على غير هدى، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه نحو قوله- تعالى- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ «١».
والمعنى: وإذا رأيت أيها النبي الكريم، أو أيها المؤمن العاقل، الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والطعن والاستهزاء فأعرض عنهم. وانصرف عن مجالسهم، وأرهم من نفسك الاحتقار لتصرفاتهم، ولا تعد إلى مجالسهم حتى يخوضوا في حديث آخر، لأن آياتنا المنسوبة إلينا من حقها أن تعظم وأن تحترم لا أن تكون محل تهكم واستهزاء.
قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي ﷺ يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت هذه الآية فجعل ﷺ إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا: لا تستهزءوا فيقوم.
وإنما عبر عن انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض، لأنهم لا يتحدثون إلا فيما لا جدوى فيه ولا منفعة من ورائه غالبا.
وقوله وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أى: وإما ينسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مجالسة الخائضين على سبيل الفرض والتقدير فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها، وقد جاء الشرط الأول بإذا لأن خوضهم في الآيات محقق، وجاء الشرط الثاني بإن لأن إنساء الشيطان له قد يقع وقد لا يقع.
فإن قيل: النسيان فعل الله فلم أضيف إلى الشيطان؟ أجيب بأن السبب من الشيطان وهو الوسوسة والإعراض عن الذكر فأضيف إليه لذلك، كما أن من ألقى غيره في النار فمات يقال:
إنه القاتل وإن كان الإحراق فعل الله.
١- وجوب الإعراض عن مجالسة المستهزئين بآيات الله أو برسله، وأن لا يقعد لأن في القعود إظهار عدم الكراهة، وذلك لأن التكليف عام لنا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجرته، مؤمنا كان أو كافرا، وقد منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم وبيعهم، وكذلك منعوا مجالسة الكفار وأهل البدع. فقد قال بعض أهل البدع لأبى عمران النخعي: اسمع منى كلمة فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة.
وروى الحاكم عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ «من وقر صاحب بدعة فقد أعانه على هدم الإسلام» «١».
وقال صاحب المنار: وسبب هذا النهى أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم وإغراء لهم بالتمادى فيه وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مراء أو كافر مجاهر قال- تعالى- وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً».
٢- جواز مجالسة الكفار مع عدم الخوض. لأنه إنما أمرنا بالإعراض في حالة الخوض، وأيضا فقد قال- تعالى- حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.
قال بعض العلماء: «وحتى غاية الإعراض، لأنه إعراض فيه توقيف دعوتهم زمانا أو جبته رعاية المصلحة، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هدايتهم وإرشادهم إلى أصلها لأنها تمحضت للمصلحة» «٣».
٣- استدل بهذه الآية على أن الناسي غير مكلف، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف فيعفى عما ارتكبه حال نسيانه ففي الحديث الشريف «إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». رواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا وإسناده صحيح.
٤- قال القرطبي: قال بعضهم إن الخطاب في الآية للنبي ﷺ والمقصود أمته، ذهبوا إلى
(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٥٠٦.
(٣) تفسير التحرير والتنوير ج ٧ ص ٢٨٨ للشيخ الفاضل بن عاشور.
قال الآلوسى: «وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول الله صلى الله عليه وسلم» «٢».
ثم بين- سبحانه- أنه لا تبعة على المؤمنين ما داموا قد أعرضوا عن مجلس الخائضين فقال- تعالى- وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
أى: وما على الذين يتقون الله شيء من حساب الخائضين على ما ارتكبوا من جرائم وآثام ما داموا قد أعرضوا عنهم، ولكن عليهم أن يعرضوا عنهم ويذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير لعل أولئك الخائضين يجتنبون ذلك، ويتقون الله في أقوالهم وأفعالهم.
وعليه يكون الضمير في قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعود على الخائضين.
وقيل يجوز أن يكون الضمير في قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ للذين اتقوا أى: عليهم أى يذكروا أولئك الخائضين، لأن هذا التذكير يجعل المتقين يزدادون إيمانا على إيمانهم، ويثبتون على تقواهم.
روى البغوي عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.. إلخ قال المسلمون: كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا؟ فأنزل الله- تعالى- وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعنى إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعة ما يقولون، وما عليكم نصيب من إثم ذلك الخوض.
قال الجمل: قوله (ولكن ذكرى) فيه أربعة أوجه:
(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ١٨٣. [.....]
والثاني: أنه مبتدأ خبره محذوف: أى: ولكن عليكم ذكرى، أى: تذكيرهم.
والثالث: أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: هو ذكرى أى: النهى عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى.
والرابع: أنه عطف على موضع شيء المجرور بمن أى: ما على المتقين من حسابهم شيء ولكن عليهم ذكرى فيكون من عطف المفردات وأما على الأوجه السابقة فهو من عطف الجمل» «١».
ثم أمر الله- تعالى- نبيه ﷺ بأن ينطلق في تبليغ دعوته دون أن يشغل نفسه بسفاهة السفهاء، وأن يذكر المعاندين بسوء مصيرهم فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٠ الى ٧٣]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
ولم يقل- سبحانه- اتخذوا اللعب واللهو دينا لأنهم لم يجعلوا كل ما هو من اللعب واللهو دينا لهم، وإنما هم عمدوا إلى أن ينتحلوا دينا فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسموها دينا.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: ومعنى ذَرْهُمْ: أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزنا، وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه قال له بعده وَذَكِّرْ بِهِ وإنما المراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم.. ومعنى اتخاذ دينهم لعبا ولهوا، أنهم اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها دينا لهم، أو أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهى والتمني مثل تحريم السوائب والبحائر، ولم يكونوا يحتاطون في أمر الدين، بل كانوا يكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله عنهم لذلك بأنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا. وأنهم اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا قال ابن عباس: جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله، ثم إن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا أما المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله... » «١».
والضمير في قوله وَذَكِّرْ بِهِ يعود إلى القرآن: وقد جاء مصرحا به في قوله- تعالى- فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.
وقوله أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أى: وذكر بهذا القرآن أو بهذا الدين الناس مخافة أن تسلم نفس إلى الهلاك، أو تحبس أو ترتهن أو تفتضح، أو تحرم الثواب بسبب كفرها واغترارها بالحياة الدنيا، واتخاذها الدين لعبا ولهوا.
ثم بين- سبحانه- أن هذه النفس المعرضة للحرمان ليس لها ما يدفع عنها السوء فقال:
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أى: ليس لهذه النفس من غير الله ناصر ينصرها ولا شفيع يدفع عنها، ومهما قدمت من فداء فلن يقبل منها، فالمراد بالعدل هنا الفداء فهو كقوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ.
قال الإمام الرازي: والمقصود من هذه الآية بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة فلا ولى يتولى دفع ذلك المحذور عنها، ولا شفيع يشفع فيها، ولا فدية تقبل منها ليحصل الخلاص بسبب قبولها، حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع. فإذا كانت وجوه الخلاص هي الثلاثة في الدنيا وثبت أنها لا تفيد في الآخرة البتة وظهر أنه ليس هناك إلا الإبسال الذي هو الارتهان والاستسلام فليس لها البتة دافع من عذاب الله، وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصى الله» «١».
ثم بين- سبحانه- عاقبة أولئك الغافلين فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
أى: أولئك الذين أسلموا للهلاك بسبب ما اكتسبوه في الدنيا من أعمال قبيحة لهم شراب من حميم أى من ماء قد بلغ النهاية في الحرارة يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم، ولهم فوق ذلك عذاب مؤلم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ثم ساق القرآن صورة منفرة للشرك والمشركين تدعو المؤمنين إلى أن يزدادوا إيمانا على إيمانهم فقال- تعالى-: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا.
قال ابن كثير: قال السدى: قال المشركون للمؤمنين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد ﷺ فأنزل الله- عز وجل- قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا «٢».
والمعنى: قل يا محمد أو أيها العاقل لهؤلاء المشركين الذين يحاولون رد المسلمين عن الإسلام، قل لهم: أنعبد من دون الله مالا يقدر على نفعنا إن دعوناه ولا على ضرنا إن تركناه
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٤٥.
والاستفهام في الآية الكريمة للإنكار والنفي، وجيء بنون المتكلم ومعه غيره، لأن الكلام مع الرسول ﷺ عن نفسه وعن المسلمين كلهم.
والمراد بما لا ينفع ولا يضر: تلك الأصنام فإنها مشاهد عدم نفعها وعجزها عن الضر، ولو كانت تستطيع الضر لأضرت بالمسلمين لأنهم خلعوا عبادتها، وسفهوا أتباعها، وأعلنوا حقارتها.
وجملة وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا معطوفة على نَدْعُوا و «على» داخلة في حيز الإنكار والنفي.
والتعبير عن الشرك بالرد على الأعقاب لزيادة تقبيحه بتصويره ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى أن الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر، ومن المستحيل أن يرجع إليها من ذاق حلاوة الإيمان.
وحرف عَلى في قوله وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا للاستعلاء، أى رجع على طريق هي جهة عقبه أى مؤخر قدمه كما يقال: رجع وراءه ثم استعمل هذا التعبير في التمثيل للتلبس بحالة ذميمة كان قد فارقها صاحبها ثم عاد إليها وتلبس بها.
وفي الحديث الشريف «اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم».
ثم ساق القرآن صورة مؤثرة دقيقة للضلالة والحيرة التي تناسب من يشرك بعد التوحيد فقال: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا.
اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ أى استغوته وزينت هواه ودعته إليه، والعرب تقول: استهوته الشياطين، لمن اختطف الجن عقله فسيرته كما تريد دون أن يعرف له وجهة في الأرض.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أتريدون منا أن نعود إلى الكفر بعد أن نجانا الله منه فيكون مثلنا كمثل الذي ذهبت به مردة الشياطين فألقته في صحراء مقفرة وتركته تائها ضالا عن الطريق القويم ولا يدرى ماذا يصنع وله أصحاب يدعونه إلى الطريق المستقيم قائلين له: ائتنا لكي تنجو من الهلاك ولكنه لحيرته وضلاله لا يجيبهم ولا يأتيهم.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «إن مثل من يكفر بالله بعد إيمانه كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق فجعلوا يدعونه إليهم ويقولون: ائتنا فإنا على الطريق فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من
ثم أمر الله نبيه ﷺ أن يرد على الكفار بما يخرس ألسنتهم فقال:
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن هدى الله الذي أرسلت به رسله هو الهدى وحده وما وراءه ضلال وخذلان، وأمرنا لنسلم وجوهنا لله رب العالمين.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فما محل الكاف في قوله «كالذي استهوته» قلت:
النصب على الحال من الضمير في نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أى: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت ما معنى اسْتَهْوَتْهُ؟ قلت هو استفعال من هوى في الأرض أى ذهب فيها، كأن معناه: طلبت هويه وحرصت عليه، فإن قلت: فما محل أمرنا؟ قلت: النصب عطفا على محل قوله: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى على أنهما مقولان كأنه قيل: قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم «٢».
وقوله وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ معطوف على محل لِنُسْلِمَ كأنه قيل أمرنا لنسلم وأمرنا أيضا بإقامة الصلاة والاتقاء.
وفي تخصيص الصلاة بالذكر من بين أنواع الشرائع وعطفها على الأمر بالإسلام، وقرنها بالأمر بالتقوى دليل على تفخيم أمرها وعظمة شأنها.
وقوله وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جملة مستأنفة موجبة لامتثال ما أمر من الأمور الثلاثة، أى: هو الذي تعودون إليه يوم القيامة للحساب لا إلى غيره.
وقوله وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ معطوف على قوله وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
قال الآلوسى: «ولعله أريد بخلقهما خلق ما فيهما- أيضا- وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العلويات والسفليات.
وقوله «بالحق» متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل «خلق» أى: قائما بالحق، وجوز أن يكون صفة لمصدر الفعل المؤكد أى: خلقا متلبسا بالحق».
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٧.
وقوله وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ أى: وقضاؤه المعروف بالحقيقة كائن، حين يقول- سبحانه- لشيء من الأشياء «كن فيكون» ذلك الشيء ويحدث.
ويَوْمَ خبر مقدم، وقَوْلُهُ مبتدأ مؤخر، والْحَقُّ صفته.
والجملة الكريمة بيان لقدرته- تعالى- على حشر المخلوقات بكون مراده لا يتخلف عن أمره، وإن قوله هو النافذ وأمره هو الواقع قال- تعالى- إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وفي قوله قَوْلُهُ الْحَقُّ صيغة قصر للمبالغة أى: هو الحق الكامل، لأن أقوال غيره وإن كان فيها كثير من الحق فهي معرضة للخطأ وما كان فيها غير معرض للخطأ فهو من وحى الله أو من نعمته بالعقل والإصابة للحق.
وقوله وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أى: أن الملك لله تعالى وحده في ذلك اليوم فلا ملك لأحد سواه.
قال أبو السعود: «وتقييد اختصاص الملك له- تعالى- بذلك اليوم مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات لغاية ظهور ذلك بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا المصححة للملكية المجازية في الجملة، فهو كقوله- تعالى- لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ.
المراد «بالصور» القرن الذي ينفخ فيه الملك نفخة الصعق والموت، ونفخة البعث والنشور والله أعلم بحقيقته.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: إن أعرابيا سأل النبي ﷺ عن الصور فقال:
«قرن ينفخ فيه» رواه أبو داود والترمذي والحاكم عنه أيضا.
وقيل المراد بالصور هنا جمع صورة والمراد بها الأبدان أى: يوم ينفخ في صور الموجودات فتعود إلى الحياة.
ثم ختمت الآية بما يدل على سعة علم الله- تعالى- وعظم إتقانه في صنعه فقال- تعالى-: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
الغيب. ما غاب عن الناس فلم يدركوه. الشهادة: ضد الغيب وهي الأمور التي يشاهدها الناس ويتوصلون إلى علمها.
وصفة الْخَبِيرُ تجمع العلم بالمعلومات ظاهرها وخفيها.
أى: فهو- سبحانه- وحده العالم بأحوال جميع الموجودات ما غاب منها وما هو مشاهد، وهو ذو الحكمة في جميع أفعاله والعالم بالأمور الجلية والخفية.
وبعد أن ساق القرآن ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وسعة علمه وقدرته أخذ في التدليل على بطلان الشرك وإثبات التوحيد عن طريق القصة، فحكى لنا جانبا مما قاله إبراهيم لأبيه وقومه فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٩]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
والمعنى: واذكر يا محمد وذكر قومك ليعتبروا ويتعظوا وقت أن قال إبراهيم لأبيه آزر منكرا عليه عبادة الأصنام أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً تعبدها من دون الله الذي خلقك فسواك فعدلك إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ الذين يتبعونك في عبادتها في ضلال مبين، أى في انحراف ظاهر بين عن الطريق المستقيم.
والاستفهام في قوله أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً للإنكار. والتعبير بقوله أَتَتَّخِذُ الذي هو افتعال من الأخذ، فيه إشارة بأن عبادته هو وقومه لها شيء مصطنع، والأصنام ليست أهلا للألوهية، وفي ذلك ما فيه من التعريض بسخافة عقولهم، وسوء تفكيرهم.
والرؤية يجوز أن تكون بصرية قصد منها في كلام إبراهيم أن ضلال أبيه وقومه صار كالشىء المشاهد لوضوحه، وعليه فقوله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في موضع المفعول.
ويجوز أن تكون الرؤية علمية وعليه فقوله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في موضع المفعول الثاني.
ووصف الضلال بأنه مبين يدل على شدة فساد عقولهم حيث لم يتفطنوا لضلالهم مع أنه كالمشاهد المرئي.
قال الشيخ القاسمى: قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين لا سيما للأقارب، فإن من كان أقرب فهو أهم، ولهذا قال- تعالى- وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وقال- تعالى-: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وقال ﷺ «أبدأ بنفسك ثم بمن تعول» ولهذا بدأ النبي ﷺ بعلى وخديجة وزيد وكانوا معه في الدار فآمنوا وسبقوا، ثم بسائر قريش، ثم بالعرب، ثم بالموالي، وبدأ إبراهيم بأبيه ثم بقومه، وتدل هذه الآية- أيضا- على أن النصيحة في الدين، والذم والتوبيخ لأجله ليس من العقوق، وقد ثبت في الصحيح عن أبى هريرة عن النبي ﷺ قال: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة «وعلى وجه آزر قترة وغبرة» فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم:
يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأى خزي أخزى من أبى الأبعد؟ فيقول الله- تعالى- «إنى حرمت الجنة على الكافرين».
ثم قال الشيخ القاسمى: والآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا، وأن آزر عم إبراهيم لا أبوه، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة ومثله لا يجزم به من غير نقل» «٢».
(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٣٣٦٨.
أى: وكما أرينا إبراهيم الحق في خلاف ما عليه أبوه وقومه من الشرك، نريه- أيضا- مظاهر ربوبيتنا، ومالكيتنا للسموات والأرض، ونطلعه على حقائقها. ليزداد إيمانا على إيمانه وليكون من العالمين علما كاملا لا يقبل الشك بأنه على الحق وأن مخالفيه على الباطل.
والرؤية هنا المقصود بها الانكشاف والمعرفة. فتشمل المبصرات والمعقولات التي يستدل بها على الحق.
وإنما قال نُرِي إِبْراهِيمَ بصيغة المضارع، مع أن الظاهر أن يقول «أريناه» لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته- تعالى- في ذلك الملكوت العظيم.
والملكوت: مصدر كالرغبوت والرحموت والجبروت، وزيدت فيه الواو والتاء للمبالغة في الصفة، والمراد به الملك العظيم وهو مختص بملكه- تعالى- كما قال الراغب في مفرداته.
ثم بين- سبحانه- ثمار تلك الإراءة التي أكرم بها نبيه إبراهيم فقال: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي.
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ: أى ستره بظلامه وتغشاه بظلمته، وأصل الجن: الستر عن الحاسة.
يقال: جنه الليل وجن عليه يجن جنا وجنونا، ومنه الجن والجنة- بالكسر- والجنة- بالفتح- وهي البستان الذي يستر بأشجاره الأرض.
والمعنى: فلما ستر الليل بظلامه إبراهيم رأى كوكبا قال هذا ربي، قال ذلك على سبيل الفرض وإرخاء العنان، مجاراة مع عباد الأصنام والكواكب ليكر عليه بالإبطال، ويثبت أن الرب لا يجوز عليه التغيير والانتقال.
قال صاحب الكشاف: «كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال. ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها. لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعا صنعها، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.
وقول إبراهيم هذا رَبِّي قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما روى غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة «١».
وقوله فَلَمَّا أَفَلَ أى: غاب وغرب: يقال أفل الشيء يأفل أفلا وأفولا أى: غاب.
وقوله قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أى: لا أحب عبادة الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان ومن حال إلى حال، لأن الأفول غياب وابتعاد، وشأن الإله الحق أن يكون دائم المراقبة لتدبير أمر عباده.
وجاء بالآفلين بصيغة جمع المذكر المختص بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أن الكواكب عاقلة متصرفة في الأكوان.
ثم بين- سبحانه- حالة ثانية من الحالات التي برهن بها إبراهيم على وحدانية الله فقال- تعالى-: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي أى: فلما رأى إبراهيم القمر مبتدئا في الطلوع، منتشرا ضوؤه من وراء الأفق قال هذا ربي.
وبازغا: مأخوذ من البزوع وهو الطلوع والظهور. يقال: بزغ الناب بزوغا إذا طلع.
فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ.
أى: فلما أفل القمر كما أفل الكوكب من قبله قال مسمعا من حوله من قومه: لئن لم يهدني ربي إلى جناب الحق وإلى الطريق القويم الذي يرتضيه لأكونن من القوم الضالين عن الصراط المستقيم، لأن هذا القمر الذي يعتوره الأفول- أيضا- لا يصلح أن يكون إلها.
وفي قول إبراهيم لقومه هذا القول تنبيه لهم لمعرفة الرب الحق وأنه واحد وأن الكواكب والقمر كليهما لا يستحقان الألوهية. وفي هذا تهيئة لنفوس قومه لما عزم عليه من التصريح بأن له ربا غير الكواكب. ثم عرض بقومه بأنهم ضالون، لأن قوله «لأكونن من القوم الضالين» يدخل على نفوسهم الشك في معتقدهم أنه لون من الضلال.
وإنما استدل على بطلان كون القمر إلها بعد أفوله، ولم يستدل على بطلان ذلك بمجرد ظهوره مع أن أفوله محقق، لأنه أراد أن يقيم استدلاله على المشاهدة لأنها أقوى وأقطع لحجة الخصم.
ثم حكى القرآن الحالة الثالثة والأخيرة التي استدل بها إبراهيم على بطلان الشرك فقال- تعالى- فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ أى: فلما رأى إبراهيم الشمس مبتدئة في الطلوع وقد عم نورها الآفاق، قال مشيرا إليها هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ أى: أكبر الكواكب جرما وأعظمها قوة، فهو أولى بالألوهية ان كان المدار فيها على التفاضل والخصوصية.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما وجه التذكير في قوله هذا رَبِّي والإشارة للشمس؟
قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد، كقولهم: ما جاءت حاجتك ومن كانت أمك، وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله علام ولم يقولوا علامة وإن كان العلامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث «١».
وقوله فَلَمَّا أَفَلَتْ قال: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أى فلما غابت الشمس واحتجب ضوؤها، جاهر إبراهيم قومه بالنتيجة التي يريد الوصول إليها فقال: يا قوم إنى برىء من عبادة الأجرام المتغيرة التي يغشاها الأفول، وبرىء من إشراككم مع الله آلهة أخرى.
قال الآلوسى: وإنما احتج- عليه السلام- بالأفول دون البزوغ مع أنه انتقال، لأن الأفول متعدد الدلالة أيضا إذ هو انتقال مع احتجاب ولا كذلك البزوغ، ولأن دلالة الأفول على المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول «٢».
هذا والمتأمل في هذه الحالات الثلاث يرى أن إبراهيم- عليه السلام- قد سلك مع قومه أحكم الطرق في الاستدلال على وحدانية الله، فقد ترقى معهم وهو يأخذ بيدهم إلى النتيجة التي يريدها بأسلوب يقنع العقول السليمة، ورحم الله صاحب الانتصاف فقد بين ذلك بقوله: «والتعريض بضلالهم ثانيا أى في قوله لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ أصرح وأقوى من قوله أولا لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وإنما ترقى إلى ذلك، لأن الخصوم قد أقام عليهم بالاستدلال الأول حجة، فأنسوا بالقدح في معتقدهم، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض- صلوات الله عليه- بأنهم في ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم إلى آخره. والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتقريع بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة، وتبلج الحق، وبلغ من الظهور غاية المقصود «٣».
ثم ختم إبراهيم هذا الترقي في الاستدلال على وحدانية الله بقوله- كما حكى القرآن
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ٢٢.
(٣) الإنصاف على الكشاف لأحمد بن المنير ج ٢ ص ٤٠.
ومعنى حَنِيفاً مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائفة كلها إلى الدين الحق، وهو- أى حنيفا- حال من ضمير المتكلم في وَجَّهْتُ.
وقوله وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أى: وما أنا من الذين يشركون مع الله آلهة أخرى لا في أقوالهم ولا في أفعالهم. وقد أفادت هذه الجملة التأكيد لجملة إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ.. إلخ.
وبذلك يكون إبراهيم- عليه السلام- قد أقام الأدلة الحكيمة والبراهين الساطعة على وحدانية الله- تعالى- وسفه المعبودات الباطلة وعابديها.
ثم بين- سبحانه- بعض ما دار بين إبراهيم وبين قومه من مجادلات ومخاصمات فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)
المحاجة: المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة، والحجة الدلالة المبينة للمحجة أى: المقصد المستقيم- كما قال الراغب- وتطلق الحجة على كل ما يدلى به أحد الخصمين في إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه.
فمعنى وَحاجَّهُ قَوْمُهُ أى: جادلوه وخاصموه أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة
وقد رد عليهم إبراهيم ردا قويا جريئا فقال لهم: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ أى أتجادلونني في شأنه- تعالى- وفي أدلة وحدانيته، والحال أنه- سبحانه- قد هداني إلى الدين الحق وإلى إقامة الدليل عليكم بأنه هو المستحق للعبادة.
والاستفهام للإنكار والتوبيخ وتيئيسهم من رجوعه إلى معتقداتهم.
وجملة وَقَدْ هَدانِ حال مؤكدة للإنكار أى لا جدوى من محاجتكم إياى بعد أن هداني الله إلى الطريق المستقيم، وجعلني من المبغضين للأصنام المحتقرين لها.
ثم صارحهم بأنه لا يخشى أصنامهم ولا يقيم لها وزنا فقال: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أى لا أخاف معبوداتكم لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرب ولا تشفع. ويبدو أن قومه كانوا قد خوفوه بطش أصنامهم وقالوا له كما قالت قبيلة عاد لنبيها هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ فرد عليهم إبراهيم هذا الرد القوى الصريح.
وقوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً استثناء مما قبله أى: لا أخاف معبوداتكم في جميع الأوقات إلا وقت مشيئة ربي شيئا من المكروه يصيبني من جهتها بأن يسقط على صنم يشجنى، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئة لا بقدرة أصنامكم أو مشيئتها، وعلى هذا التفسير الذي ذهب إليه صاحب الكشاف يكون الاستثناء متصلا.
ويرى ابن عطية وغيره أن الاستثناء منقطع على معنى: لا أخاف معبوداتكم ولكن أخاف أن يشاء ربي خوفي مما أشركتم به.
وهذه الجملة الكريمة تدل على سمو أدب إبراهيم- عليه السلام- مع ربه، وعلى نهاية استسلامه لمشيئته، فمع أنه مؤمن بخالقه كل الإيمان وكافر بتلك الآلهة كل الكفران، إلا أنه ترك الأمر كله لمشيئة الله، وعلق مستقبله على ما يريد الله فيه.
وقوله وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أى: أن علم ربي وسع كل شيء وأحاط به، فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال ما يخفيني من جهة تلك المعبودات الباطلة لسبب من الأسباب.
وهذه الجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا فكأن قومه قد قالوا: كيف يشاء ربك شيئا تخافه فكان جوابه عليهم: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فأنا وإن كنت عبده وناصره إلا أنه أعلم بإلحاق الضر أو النفع بمن يشاء من عباده.
وعِلْماً منصوب على التمييز المحول عن الفاعل، إذ الأصل في هذا التعبير «أن يقال:
وقوله أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أى تعرضون أيها الغافلون عن التأمل والتذكير بعد أن أوضحت لكم بما لا يقبل مجالا للشك أن الله وحده هو المستحق للعبادة وأن هذه المعبودات التي سواه لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
فالاستفهام للإنكار والتوبيخ لعدم تذكرهم مع وضوح الدلائل.
وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول ولا يتوقف إلا على التذكير.
ثم حكى القرآن عن إبراهيم- عليه السلام- أنه بعد أن صارح قومه بأنه لا يخشى آلهتهم، أخذ في التهكم بهم والتعجب من شأنهم لأنهم يخوفونه مما لا يخيف فقال: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً.
أى: كيف ساغ لكم أن تظنوا أنى أخاف معبوداتكم الباطلة وهي مأمونة الخوف لأنها لا تضر ولا تنفع، وأنتم لا تخافون إشراككم بالله خالقكم دون أن يكون معكم على هذا الإشراك حجة أو برهان من العقل أو النقل.
فالاستفهام للإنكار التعجبي من إنكارهم عليه الأمن في موضع الأمن، وعدم إنكارهم على أنفسهم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهوالها وهو إشراكهم بالله.
قال بعض العلماء: وجملة وَكَيْفَ أَخافُ.. إلخ. معطوفة على جملة وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ليبين لهم أن عدم خوفه من آلهتهم أقل عجبا من عدم خوفهم من الله، وهذا يؤذن بأن قومه كانوا يعرفون الله وأنهم أشركوا معه في الإلهية غيره فلذلك احتج عليهم بأنهم أشركوا بربهم المعترف به دون أن ينزل عليهم سلطانا بذلك «١».
وقال الآلوسى: وقوله وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ استئناف- كما قال شيخ الإسلام- مسوق لنفى الخوف عنه- عليه السلام- بحسب زعم الكفر بالطريق الإلزامى بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر، وفي توجيه الإنكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال: أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية، فإذا انتفت جميع كيفياته فقد انتفى من جميع الجهات بالطريق البرهاني» «٢».
(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢٠٦. [.....]
أى: فأى الفريقين فريق الموحدين أم فريق المشركين أحق وأولى بالأمن من لحوق الضرر به، إن كنتم تعلمون ذلك فأخبرونى به وأظهروه بالدلائل والحجج. فجواب الشرط محذوف تقديره أخبرونى بذلك.
وهذا لون من إلجائهم إلى الاعتراف بالحق إن كانوا ممن يعقل أو يسمع، وحث لهم على الإجابة.
قال صاحب المنار: «ونكتة عدوله عن قوله «فأينا أحق بالأمن» إلى قوله «فأى الفريقين» هي بيان أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك من حيث إن أحد الفريقين موحد والآخر مشرك، لا خاصة به وبهم، فهي متضمنة لعلة الأمن. وقيل إن نكتته الاحتراز عن تزكية النفس، واسم التفضيل على غير بابه، فالمراد أينا حقيق بالأمن، ولكنه عبر باسم التفضيل ناطقا في استنزالهم عن منتهى الباطل وهو ادعاؤهم أنهم هم الحقيقون بالأمن وأنه الحقيق بالخوف إلى الوسط النظري بين الأمرين وهو أى الفريقين أحق، واحترازا عن تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله كله» «١».
ثم بين- سبحانه- من هو الفريق الأحق بالأمن فقال- تعالى-:
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ أى: الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بأى لون من ألوان الشرك كما يفعله فريق المشركين حيث إنهم عبدوا الأصنام وزعموا أنهم ما عبدوها إلا ليتقربوا بها إلى الله زلفى، أولئك المؤمنون الصادقون لهم الأمن دون غيرهم لأنهم مهتدون إلى الحق وغيرهم في ضلال مبين.
هذا وقد وردت أحاديث صحيحة فسرت الظلم في هذه الآية بالشرك، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عبد اللَّه بن مسعود قال: لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قال الصحابة: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شق ذلك على الناس فقالوا يا رسول الله: فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون. ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إنما هو الشرك».
وقد فسر الزمخشري في كشافه الظلم بالمعصية فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أى لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس «٢». أى: لأن لبس الإيمان بالشرك أى خلطه به مما لا يتصور لأنهما ضدان لا يجتمعان في رأى الزمخشري.
قال الشيخ القاسمى: وفهم الزمخشري هذا مدفوع بأنه يلابسه، لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق. وكذا إن أريد تصديق القلب لجواز أن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته لما في قوله- تعالى-: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.
ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر، فلا يلزم من لبس الإيمان بالكفر الجمع بينهما، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك، بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوبا مضمحلا، أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر، ثم الإيمان ثم الكفر مرارا» «٣».
وقال صاحب الانتصاف: «وإنما يروم الزمخشري بذلك تنزيل الآية على معتقده في وجوب وعيد العصاة وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار. ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين: الإيمان والبراءة من المعاصي. ونحن نسلم ذلك ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة هو الخوف اللاحق للكفار، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت وهم آمنون من الخلود، وأما الكفار فغير آمنين بوجه ما» «٤».
والذي نراه أنه مادام قد ورد عن الصادق المصدوق ﷺ في الحديث الصحيح أنه قد فسر الظلم في الآية بالشرك فيجب أن نسلم به وأن نعض عليه بالنواجذ، واجتهاد الزمخشري هنا- لتأييد مذهبه- مجانب للصواب، لأنه لا اجتهاد مع النص. لا سيما وأن حديث عبد الله بن مسعود المتقدم قد خرجه الشيخان وغيرهما من أعلام السنة.
ثم بين- سبحانه- مظاهر فضله على نبيه إبراهيم- فقال- تعالى:
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٢.
(٣) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٢٠٩.
(٤) الانتصاف على الكشاف لابن المنير ج ٢ ص ٤٢.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٣ الى ٩٠]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧)ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما حكى عن إبراهيم- عليه السلام- أنه أظهر حجة الله في التوحيد ونصرها، وذب عنها، عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه.
فأولها: قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها، وأوقفنا عقله على حقيقتها.
وثالثها: أنه جعله عزيزا في الدنيا وذلك لأنه- تعالى- جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة، لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك «١».
والإشارة في قوله- تعالى- وَتِلْكَ حُجَّتُنا إلى جميع ما تكلم به إبراهيم في مجادلة قومه في شأن وحدانية الله وبطلان الشرك.
وأضاف- سبحانه- الحجة إليه مع ذكر اللفظ الدال على العظمة وهو «نا» تنويها بشأنها وتفخيما لأمرها، والمراد بالحجة جنسها لا فرد من أفرادها.
أى: وتلك الحجة التي لا يمكن نقضها أو مغالبتها في إثبات الحق وتزييف الباطل أعطيناها إبراهيم ليكون مستعليا بها على قومه، قاطعا لألسنتهم عن المجادلة والمخاصمة.
وجملة آتَيْناها في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة.
وقوله عَلى قَوْمِهِ متعلق «بحجتنا» إن جعل خبرا لتلك، وبمحذوف إن جعل بدله. أى:
آتيناها حجة ودليلا على قومه الكثيرين لتكون الغلبة عليهم.
وقوله نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ أى نرفع من شئنا من عبادنا درجات عالية من العلم والحكمة.
والدرجات في الأصل تطلق على مراقى السلم. والمراد بها هنا المراتب المعنوية في الخير على سبيل التمثيل، فقد شبهت حالة المفضل على غيره بحال المرتقى في سلم إذا ارتفع من درجة إلى درجة.
والجملة مستأنفة على سبيل التقرير لما قبلها، وقيل هي حال من فاعل آتينا أى حال كوننا رافعين.
ومفعول المشيئة محذوف. أى: من نشاء رفعه على حسب ما تقتضيه حكمتنا. وقد دل قوله مَنْ نَشاءُ على أن هذا التكريم لا يكون لكل أحد لأنه لو كان حاصلا لكل الناس لم يحصل الرفع ولا التفضيل.
وقوله- تعالى- إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله، أى: إن ربك الذي
قال الإمام الرازي: واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية لا في الصفات الجسمانية، والدليل على ذلك أن الله- تعالى- قال وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ثم قال بعده نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة وهذا يقتضى أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة واطلاعها على إشراقها اقتضى ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعالى العالم الروحاني، وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات» «١».
وقوله: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا أى: ووهبنا لإبراهيم فضلا منا وكرما وعوضا عن قومه لما اعتزلهم إسحاق وهو ولده من زوجه سارة، ويعقوب وهو ابن إسحاق لتقر عينه ببقاء عقبه إذ في رؤية أبناء الأبناء سرور للنفس، وراحة للفؤاد.
وقوله كُلًّا هَدَيْنا أى: كلا من إسحاق ويعقوب هديناه الهداية الكبرى بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة.
ولفظ كُلًّا مفعول لما بعده وقدم لإفادة اختصاص كل منهما بالهداية على سبيل الاستقلال والتنويه بشأنهما.
وقوله: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ أى: وهدينا نوحا من قبل إبراهيم إلى مثل ما هدينا إليه إبراهيم وذريته من النبوة والحكمة.
وهذا لون آخر من تشريف إبراهيم حيث أنه من نسل نوح الذي وصفه الله بالهداية، ولا شك أن شرف الآباء يسرى على الأبناء.
وقال ابن كثير، «وكل منهما له خصوصية عظيمة. أما نوح فإن الله لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به وهم الذين صحبوه في السفينة، جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم فلم يبعث الله بعده نبيا إلا من ذريته كما قال- تعالى- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ «٢».
ثم قال- تعالى- وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٠٤.
ويرى جمهور المفسرين أنه يعود على إبراهيم لأن الكلام في شأنه وفي شأن النعم التي منحها الله إياه.
وقد ذكر الله في هذه الآيات أربعة عشر نبيا وهم:
١- داود بن يسى من سبط يهوذا من بنى إسرائيل وكانت ولادته في بيت لحم سنة ١٠٨٥ ق. م تقريبا وهو الذي قتل جالوت كما جاء في القرآن الكريم وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وكانت وفاته سنة ١٠٠٠ ق م تقريبا.
٢- سليمان بن داود- عليهما السلام- ولد بأورشليم حوالى سنة ١٠٤٣ ق. م. وتوفى سنة ٩٧٥ ق. م. وقد جاء ذكر داود وسليمان في كثير من آيات القرآن الكريم، ومن ذلك قوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
٣- أيوب، قال ابن جرير: هو ابن موصى بن روم بن عيص بن إسحاق، وروى الطبراني أن مدة عمره كانت ثلاثا وتسعين سنة.
٤- يوسف وهو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليه السلام- وكانت ولادته قبل ميلاد عيسى- عليه السلام- بألفى سنة تقريبا.
٥- موسى وهو ابن عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوى بن يعقوب وكانت ولادته حوالى القرن الرابع عشر ق. م.
٦- هارون وهو أخو موسى لأمه وقيل لأبيه وأمه، وقيل مات قبيل موسى بزمن يسير.
٧- زكريا وهو ابن أزن بن بركيا ويتصل نسبه بسليمان- عليه السلام- وكان قريب العهد بعيسى حيث تولى كفالة أمه مريم كما جاء في القرآن الكريم وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا.
٨- يحيى وهو ابن زكريا.
٩- عيسى وهو ابن مريم. قال ابن كثير. وفي ذكر عيسى في ذرية إبراهيم أو نوح دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل، لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم.
١٠- الياس وهو ابن فنحاص بن العيزار بن هارون أخى موسى وهو المعروف في كتب الإسرائيليين باسم «إيليا» وقد أرسله الله إلى بنى إسرائيل حين عبدوا الأوثان قال- تعالى- وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ.
١١- إسماعيل وهو الابن الأكبر لإبراهيم- عليهما السلام- وجد محمد صلى الله عليه وسلم.
١٢- اليسع وهو ابن شافاط وكانت وفاته حوالى سنة ٨٤٠ ق م ودفن بالسامرة.
١٣- يونس وهو ابن متى أرسله الله إلى أهل نينوى من بلاد آشور في حوالى القرن الثامن ق م.
١٤- لوط وهو ابن هاران بن تارح فهو ابن أخى إبراهيم وكانت رسالته إلى أهل سدوم من شرق الأردن.
وقوله وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ أى: وكل واحد من هؤلاء الأنبياء المذكورين لا بعضهم دون بعض فضلناه بالنبوة على العالمين من أهل عصره.
قال الجمل: اعلم أن الله- تعالى- ذكر هنا ثمانية عشر نبيا من غير ترتيب لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل لأن الواو لا تقتضي الترتيب، ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب وهي أن الله- تعالى- خص كل طائفة من الأنبياء بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولا نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء وإليهم يرجع حسبهم جميعا. ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان وقد أعطى الله من ذلك داود وسليمان حظا وافرا. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد وقد خص الله بهذه أيوب. ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما وهو يوسف فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء كثرة المعجزات وقوة البراهين وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر، ومن المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، ثم ذكر الله بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة كان هذا الترتيب حسنا والله أعلم بمراده وأسرار كتابه «١» ».
ومن المعروف أن الأنبياء الذين يجب الإيمان بهم على التفصيل خمسة وعشرون نبيا. وهم هؤلاء الثماني عشرة الذين ذكروا في هذه الآيات، يضاف إليهم سبعة نظمهم الناظم في قوله:
حتم على كل ذي التكليف معرفة | بأنبياء على التفصيل قد علموا |
في تلك حجتنا منهم ثمانية | من بعد عشر ويبقى سبعة وهم |
إدريس، هود، شعيب، صالح وكذا | ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا |
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ أى: ومن آباء هؤلاء الأنبياء وذرياتهم وإخوانهم من هديناه إلى الطريق المستقيم فمن هنا للتبعيض.
والجملة معطوفة على كلًّا أى: كلا من هؤلاء الأنبياء فضلنا، وفضلنا بعض آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وهديناه.
وجملة وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ معطوفة على فَضَّلْنا أى: فضلنا هؤلاء الأنبياء واخترناهم وهديناهم إلى الطريق الواضح. قال الراغب: «والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال- تعالى- فَاجْتَباهُ رَبُّهُ واجتباء العبد تخصيصه إياه بفيض إلهى يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى من العبد وذلك للأنبياء وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء» «١».
وقوله: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أى: ذلك الهدى إلى صراط مستقيم الذي اهتدى إليه أولئك الأخيار هو هدى الله الذي يهدى به من يشاء هدايته من عباده وهم المستعدون لذلك.
وفي قوله: مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ من الإبهام ما يبعث النفوس على طلب هدى الله- تعالى- والتعرض لنفحاته.
وقوله وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى، ولو فرض أن أشرك بالله أولئك المهديون المختارون لبطل وسقط عنهم ثواب ما كانوا يعملونه من أعمال صالحة فكيف بغيرهم.
قال ابن كثير: في هذه الآية تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كقوله- تعالى- وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ والشرط لا يقتضى جواز الوقوع، فهو كقوله، قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ وكقوله: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ «٢».
وقوله أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ اسم الإشارة فيه يعود إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشرة والمعطوفين عليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٥٥.
والمراد بإيتائه: التفهيم التام لما اشتمل عليه من حقائق وأحكام، وذلك أعم من أن يكون بالإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين.
والحكم أى: الحكمة وهي علم الكتاب ومعرفة ما فيه من الأحكام. أو الإصابة في القول والعمل. أو القضاء بين الناس بالحق.
والنُّبُوَّةَ أى: الرسالة.
وقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ أى: فإن يكفر بهذه الثلاث التي اجتمعت فيك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة، فلن يضرك كفرهم لأنا قد وفقنا للإيمان بها قوما كراما ليسوا بها بكافرين في وقت من الأوقات وإنما هم مستمرون على الإيمان بك والتصديق برسالتك وفي ذلك ما فيه من التسلية لرسول الله ﷺ عن إعراض بعض قومه عن دعوته.
والمراد بالقوم الذين وكلوا بالقيام بحق هذه الرسالة ووفقوا للإيمان بها أصحاب النبي ﷺ من المهاجرين والأنصار مطلقا، لأنهم هم الذين دافعوا عن دعوة الإسلام وبذلوا في سبيل إعلانهم نفوسهم وأموالهم، ويدخل معهم كل من سار على نهجهم في كل زمان ومكان.
وقيل: المراد بهم أهل المدينة من الأنصار. وقيل: المراد بهم الأنبياء المذكورون وأتباعهم، وقيل غير ذلك.
والذي نراه أن الرأى الأول أرجح لأن أصحاب النبي ﷺ هم المقابلون لكفار قريش الذين كفروا بها.
وفي التكنية عن توفيقهم للإيمان بها بالتوكيل الذي أصله الحفظ للشيء ومراعاته، وإيذان بفخامة وعلو قدرها.
قال الإمام الرازي: «دلت هذه الآية على أن الله- تعالى- سينصر نبيه، ويقوى دينه، ويجعله مستعليا على كل من عاداه، قاهرا لكل من نازعه، وقد وقع هذا الذي أخبر الله عنه في هذا الموضع، فكان جاريا مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزا» «١».
ثم قال- تعالى- أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أى: أولئك الأنبياء الذين
فبطريقتهم في الإيمان بالله وفي تمسكهم بمكارم الأخلاق كن مقتديا ومتأسيا.
والمقصود إنما هو التأسى بهم في أصول الدين، أما الفروع القابلة للنسخ فإنهم يختلفون فيها ويجوز عدم الاقتداء بهم بالنسبة لها قال- تعالى- لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً.
وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه، ولما يقتضيه للتكرير من الاهتمام بالخبر. وفي قوله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ تعريض بالمشركين إذ أن النبي ﷺ ما جاء إلا على سنة الرسل كلهم وأنه ما كان بدعا منهم، أما هم فقد اختلقوا لأنفسهم عبادات ما أنزل الله بها من سلطان.
ثم ختم الله- تعالى- هذا السياق بقوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أى: قل أيها الرسول الكريم لمن بعثت إليهم لا أطلب منكم على ما أدعوكم إليه من خير وما أبلغكم إياه من قرآن أجرا قليلا أو كثيرا.
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ أى: ما هذا القرآن إلا تذكيرا وموعظة للناس أجمعين في كل زمان ومكان.
قال بعضهم: وفي الآية دليل على أنه ﷺ كان مبعوثا إلى الجن والإنس وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق.
وبعد أن بين- سبحانه- ما دار بين إبراهيم وقومه من مجالات تتعلق بإثبات وحدانية الله، وإبطال الشرك، وحكى جانبا من النعم التي أنعم بها على خليله وعلى كل من سار على نهجه، وأخبر بأن هذا القرآن ما هو إلا تذكير للعالمين وأن المذكر به- لا يريد منهم أجرا على تبليغه، بعد كل ذلك أخذ القرآن في الرد على منكري نزول الكتب السماوية وفي بيان عاقبتهم الوخيمة بسبب هذا الجحود فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩١ الى ٩٤]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
قدر الشيء يقدره إذا سبره وحزره ليعرف مقداره، ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه.
والمعنى: ما عظموا الله حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته في اللطف بعباده وفي الرحمة بهم، بل أخلوا بحقوقه إخلالا عظيما، وضلوا ضلالا كبيرا، إذ أنكروا بعثة الرسل وإنزال الكتب، وقالوا تلك المقالة الشنعاء ما أنزل الله على بشر شيئا من الأشياء، قاصدين بهذا القول الطعن في نبوة النبي ﷺ وفي أن القرآن من عند الله.
ولفظ حَقَّ منصوب على المصدرية، وهو في الأصل صفة للمصدر، أى: قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله ﷺ أن يلزمهم بما يخرس ألسنتهم، وأن يرد على سلبهم العام
وكلمة نُوراً حال من الضمير في به أو من الكتاب.
ثم بين- سبحانه- ما فعله الجاحدون بكتبه من تحريف وتغيير فقال: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً.
القراطيس: جمع قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق ونحوه.
أى: تجعلون هذا الكتاب الذي أنزله الله نورا وهداية للناس أوراقا مكتوبة مفرقة لتتمكنوا من إظهار ما تريدون إظهاره منها، ومن إخفاء الكثير منها على حسب ما تمليه عليكم نفوسكم السقيمة وشهواتكم الأثيمة.
فالمراد من هذه الجملة الكريمة ذم المحرفين لكتب الله، وتوبيخهم على هذا الفعل الشنيع، الذي قصدوا من ورائه الطعن في نبوة النبي ﷺ والتوصل إلى ما يبغونه من مطامع وأهواء.
وقوله وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ أى: وعلمتم على لسان محمد ﷺ ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من المعارف التي لا يرتاب عاقل في أنها تنزيل رباني.
وقوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ.
أى: قل أيها الرسول لهؤلاء الجاحدين: الله- تعالى- هو الذي أنزل الكتاب على موسى، ثم بعد هذا القول الفصل ذرهم في باطلهم الذي يخوضون فيه يلعبون، وفي غيهم يعمهون حتى يأتيهم من الله اليقين.
وفي أمره ﷺ بأن يجيب عنهم، إشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيهه على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب.
وكان العطف بثم في قوله ثُمَّ ذَرْهُمْ للدلالة على الترتيب الرتبى أى: أنهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلة فتركهم وخوضهم بعد التبليغ هو الأولى، وإنما كان الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.
هذا، وللمفسرين لهذه الآية قولان:
الأول: أنها مكية النزول تبعا للسورة، وأن الذين قالوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ
قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: عنى بذلك وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم. فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر. وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى..) «١».
وقد تابع ابن كثير رأى ابن جرير وقال: وهذا الرأى هو الأصح، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي ﷺ لأنه من البشر كما قال- تعالى- أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وكذا قالوا هنا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ «٢».
الثاني: أن هذه الآية مدنية النزول، وكون سورة الأنعام مكية لا يمنع من وجود بعض آيات منها مدنية كما نص عليه كثير من العلماء.
ومما يؤيد كون هذه الآية مدنية ما ورد من آثار في أسباب نزولها، ومن هذه الآثار ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن أبى طلحة عن ابن عباس قال: قالت اليهود: والله ما أنزل الله من السماء كتابا) فنزل قوله- تعالى- وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. إلخ وأخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير- مرسلا- قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي ﷺ فقال له النبي: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» - وكان حبرا سمينا- فغضب وقال: (هل أنزل الله على بشر من شيء) فقال له أصحابه: ويحك ولا على موسى فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية».
والذي نراه أن الآية الكريمة تصلح للرد على الفريقين: فريق المشركين وفريق اليهود إلا أن سياقها يجعلنا نرجح أن الخطاب فيها موجه بالأصالة إلى اليهود وإلى غيرهم بالتبع، لأنهم هم الذين جعلوا التوراة قراطيس أى أوراقا مفرقة ليظهروا منها ما يناسب أهواءهم وليخفوا منها ما فيه شهادة بصدق النبي ﷺ ولأن هناك آثارا متعددة تثبت أنها نزلت في شأنهم.
وتوجيه الخطاب إلى اليهود لا يتنافى مع كونها مكية، لأنه ليس بلازم أن يكون كل قرآن مكي خطابا لغير اليهود.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٥٦. [.....]
(٣) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي هامش الجلالين ص ٢٢٢.
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
والمعنى: وهذا القرآن كتاب أنزلناه على قلبك يا محمد وهذا الكتاب من صفاته أنه مبارك أى: كثير الفوائد لاشتماله على منافع الدين والدنيا.
والمبارك اسم مفعول من باركه وبارك فيه، إذا جعل له البركة، ومعناها كثرة الخير ونماؤه.
وقدم هنا وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله «وهذا ذكر مبارك أنزلناه» لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال، إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شيء بخلافه هناك.
ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية لأن الإنزال يتجدد وقتا فوقتا، والثانية اسمية لأن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار وهو مقصود هنا أى: أن بركته ثابتة مستقرة.
قال الإمام الرازي: العلوم إما نظرية وإما عملية، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، ولا ترى في هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح، وإما أعمال القلب، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس، ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب، ثم قد جرت سنة الله بأن الباحث فيه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة» «١».
وقوله مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أى أن هذا القرآن موافق ومؤيد للكتب التي قبله في إثبات التوحيد ونفى الشرك، وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.
وقوله: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أى: ولتنذر بهذا الكتاب أم القرى أى مكة، ومن حولها من أطراف الأرض شرقا وغربا لعموم بعثته ﷺ قال- تعالى- وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقال- تعالى- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، وسميت مكة بأم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل، وفي ذكرها بهذا الاسم المنبئ عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة.
قال الآلوسى: ويمكن أن يقال خصهم بالذكر لأنهم الأحق بإنذاره ﷺ فهو كقوله- تعالى-:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه» «١».
وقال صاحب المنار «وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا، واستدلوا به على أن بعثة النبي ﷺ خاصة بقومه العرب.
والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور، فإن إرساله إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم، وقد ثبت عموم بعثته ﷺ من آيات أخرى كقوله- تعالى- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً «٢».
وقوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
أى: والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يؤمنون بهذا الكتاب الذي أنزله الله هداية ورحمة لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة، وحرص على العمل الصالح الذي ينفعه.
ثم ختمت الآية بهذا الثناء الجميل عليهم فقالت وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أى يؤدونها في أوقاتها مقيمين لأركانها وآدابها في خشوع واطمئنان، وخصت الصلاة بالذكر لكونها أشرف العبادات وأعظمها خطرا بعد الإيمان.
قال الإمام الرازي: «ويكفيها شرفا أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا عليها كما في قوله- تعالى- وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أى صلاتكم، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة، ففي الحديث الشريف «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام» «٣».
وبعد أن بين- سبحانه- مزايا هذا القرآن أتبع ذلك ببيان عاقبة الذين يفترون الكذب على الله- تعالى-، وصور أحوالهم عند النزع الأخير وعند ما يقفون أمام ربهم للحساب بصورة ترتجف لها الأفئدة فقال- تعالى-:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ.
(٢) تفسير المنار ج ٧ ص ٦٢٠.
(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٩٣.
والاستفهام إنكارى فهو في معنى النفي. ومَنْ اسم موصول والمراد به الجنس. أى:
كل من افترى على الله كذبا، وليس المراد فردا معينا.
أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ أى: قال بأن الله أوحى إلى بالرسالة أو النبوة مع أنه كاذب في دعواه، فإن الله ما أوحى إليه شيئا، وهذا يصدق على ما ادعاه مسيلمة الكذاب والأسود العنسي من أنهما نبيان يوحى إليهما. ويصدق- أيضا- على كل مدع للوحى والنبوة في كل زمان ومكان.
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على صلة مَنْ من عطف الخاص على العام، لأن هذا القول هو نوع من أنواع افتراء الكذب.
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أى: ولا أحد أظلم- أيضا- ممن قال بأنى قادر على أن أنزل قرآنا مثل الذي أنزله الله كالذين حكى القرآن عنهم قوله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد توعدت بأشد ألوان الوعيد كل مفتر على الله الكذب، وكل مدع أنه يوحى إليه شيء وكل من زعم أنه في قدرته أن يأتى بقرآن مثل هذا القرآن كما حدث من النضر بن الحارث وعبد الله بن سعد بن أبى سرح.
ثم بين- سبحانه- مصير كل ظالم أثيم فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ أى: ولو ترى أيها الرسول الكريم أو أيها العاقل حالة أولئك الظالمين وهم في غمرات الموت أى: في شدائده وكرباته وسكراته لرأيت شيئا فظيعا هائلا ترتعد منه الأبدان، فجواب الشرط محذوف.
والغمرات: جمع غمرة وهي الشدة. وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، يقال غمره الماء إذا علاه وستره ثم استعمل في الشدائد والمكاره.
وتقييد الرؤية بهذا الوقت لإفادة أنه ليس المراد مجرد الرؤية، بل المراد رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر.
وقوله وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أى والملائكة الموكلون بقبض أرواحهم باسطوا أيديهم إليهم بالإماتة والعذاب قائلين لهم على سبيل التوبيخ والزجر: أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم.
قال الآلوسى: وذهب بعضهم إلى أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له: أخرج مالي عليك الساعة ولا أبرح مكاني حتى انتزعه منك «١». وفي الكشاف: أنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها».
ولعل مما يؤيد قول ابن المنير في تعليقه على ما قال صاحب الكشاف ما جاء في آية أخرى وهي قوله- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ «٢».
وقوله: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ هذا القول من تتمة ما تقوله الملائكة لأولئك الظالمين.
أى: تقول لهم أخرجوا أنفسكم، اليوم تلقون عذاب الذل والهوان لا بظلم من الرحمن، وإنما بسبب أنكم كنتم في دنياكم تفترون على الله الكذب، وبسبب أنكم كنتم معرضين عن آياته، مستكبرين عنها ولا تتأملون فيها، ولا تعتبرون بها.
والمراد باليوم مطلق الزمن لا اليوم المتعارف عليه، وهو إما حين الموت أو ما يشمله وما بعده.
والهون معناه: الهوان والذل، وفسره صاحب الكشاف، بالهوان الشديد وقال: «وإضافة العذاب إليه كقولك، رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه» «٣».
ثم صور- سبحانه- حالهم عند ما يعرضون للحساب فقال: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أى: ولقد جئتمونا للحساب والجزاء منعزلين ومنفردين عن الأموال والأولاد وعن كل ما جمعتموه في الدنيا من متاع، أو منفردين عن الأصنام والأوثان التي زعمتهم أنها شفعاؤكم عند الله.
(٢) سورة الأنفال الآية ٥٠.
(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٧.
وهذه الجملة الكريمة مستأنفة جاءت لبيان ما سيقوله الله لهؤلاء الظالمين يوم القيامة، بعد بيان ما تقوله ملائكة العذاب عند موتهم.
وقوله: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأى العين.
أى: جئتمونا منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به في الحياة الدنيا، مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم أول مرة حفاة عراة. فالكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف.
روى الشيخان عن ابن عباس قال: قام رسول الله ﷺ بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ «١».
ورويا- أيضا- عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ «تحشرون حفاه عراة غرلا. قالت:
يا رسول الله، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» «٢».
وروى الطبراني بسنده عن عائشة أنها قالت قرأت قول الله- تعالى- وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقالت: يا رسول الله وا سوأتاه! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله ﷺ لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض.
قوله: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ أى: تركتم ما أعطيناكم وملكناكم في الدنيا من أموال وأولاد وغيرهما وراء ظهوركم ولم تحملوا منه معكم نقيرا عند ما جئتمونا للحساب.
الخول: ما أعطاه الله لعباده من النعم: يقال: خوله الشيء تخويلا، ملكه إياه ومكنه منه.
ومنه التخول بمعنى التعهد.
والجملة الكريمة تتضمن توبيخهم، لأنهم لم يقدموا منه شيئا في دنياهم ليكون نافعا لهم في أخراهم، بل جمعوه وتركوه لغيرهم دون أن ينتفعوا به في معادهم.
(٢) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق. باب كيف الحشر.
وقوله: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ تقريع وتوبيخ لهم على شركهم.
أى: ما نرى وما نبصر معكم من زعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله من الأصنام والأوثان التي توهمتم أنهم شركاء لله تعالى في ربوبيتكم واستحقاقه عبادتكم.
وقوله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أى: لقد تقطع الاتصال الذي كان بينكم في الدنيا واضمحل.
ففاعل تَقَطَّعَ ضمير يعود على الاتصال المدلول عليه بلفظ شُرَكاءُ وبَيْنَكُمْ منصوب على الظرفية.
وقرئ بالرفع أى: لقد تقطع شملكم فإن البين مصدر يستعمل في الوصل وفي الفراق بالاشتراك والأصل لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به أى: تقطع ما بينكم من الأسباب والصلات.
وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أى: وغلب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء، ورجاء الأنداد والأصنام. كما قال- تعالى- إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ «٢».
وهكذا يسوق القرآن مشهد هؤلاء الظالمين بتلك الصورة التي تهز النفوس، وتحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح.
وبعد أن ساق- سبحانه- ألوانا من الدلائل على وحدانيته، وعلى صدق نبيه ﷺ فيما يبلغه عن ربه، شرع- سبحانه- في سرد مظاهر قدرته، وكمال علمه وحكمته عن طريق التأمل في هذا الكون العجيب، وفي بدائع مخلوقاته فقال- تعالى-:
(٢) سورة البقرة الآيتان: ١٦٦، ١٦٧.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٥ الى ٩٩]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)قوله: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى.
فالق: أى شاق، والفلق هو الشق وقيل، فالق بمعنى خالق وأنكر ابن جرير الطبري ذلك وقال: لا يعرف في كلام العرب فلق الشيء بمعنى خلق.
والحب. ما ليس له نوى كالحنطة والشعير.
والنوى: جمع نواة وهو الموجود في داخل الثمرة، مثل نوى التمر وغيره.
والمعنى: إن الله وحده هو الذي يشق الحبة اليابسة كالحنطة فيخرج منها النبات الأخضر النامي، ويشق النواة الصلبة فيخرج منها النخلة والشجرة النامية، وفي ذلك أكبر دلالة على قدرة الله التي لا تحد وعلى أنه هو المستحق للعبادة لا غيره.
«إذا عرفت هذا فنقول: إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله- تعالى- في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخر، فالأول يخرج منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء، والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض ثم إن ها هنا عجائب.
فإحداها: أن طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهوى في عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض؟ فلما تولد منها الشجرتان مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى- علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين.
وثانيهما: أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلة القوية فيه ولا يغوص السكين الحاد القوى فيه، ثم إنا نشاهد طراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة وبحيث لو دلكها الإنسان بإصبعه بأدنى قوة لصارت كالماء، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة. فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لا بد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم.
ثم قال- رحمه الله- بعد كلام طويل: فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة، واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية، فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقه تلك الورقة من الحبة والنواة» «١».
وقوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أى: يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو كالنطفة والحبة.
والجملة الكريمة مستأنفة مبينة لما قبلها ولذلك ترك العطف، وقيل خبر ثان ولم يعطف لاستقلاله في الدلالة على عظمة الله- تعالى-.
قال صاحب المنار: فإن قيل إن علماء المواليد يزعمون أن في كل أصول الأحياء حياة فكل ما ينبت من ذلك ذو حياة كامنة إذا عقم بالصناعة لا ينبت، قلنا: إن هذا اصطلاح لهم يسمون القوة أو الخاصية التي يكون بها الحب قابلا للإنبات حياة، ولكن هذا لا يصح في اللغة إلا بضرب من التجوز وإنما حقيقة الحياة في اللغة ما يكون به الجسم متغذيا ناميا بالفعل، وهذا أدنى مراتب الحياة عند العرب، ولها مراتب أخرى كالإحساس والقدرة والإرادة والعلم والعقل والحكمة والنظام، وهذا أعلى مراتب الحياة في المخلوق» «١».
ونقل بعض المفسرين عن ابن عباس أن معنى الجملتين: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ومثله إخراج البار من الفاجر والصالح من الطالح والعالم من الجاهل وعكسه، وذلك بحمله الحياة والموت على المعنوي منها كما في قوله- تعالى- أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.
ويبدو لنا أن حمل الحياة والموت هنا على المعنى المعنوي لا يناسبه سياق الآيات التي معنا، لأنها تتحدث عن آثار قدرة الله المحسوسة ليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ويتأمل كل ذي عقل في مظاهر قدرة الله في كونه يهتدى إلى طريق الحق والصواب.
وقوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ معطوف على ما قبله وهو قوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لأنه إخبار بضد مضمونه وهو وضع آخر عجيب دال على كمال القدرة.
وجيء بجملة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فعليه لإرادة تصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع. وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائهما الفعل المضارع دون اسم الفاعل والماضي.
ويرى صاحب الكشاف أن قوله: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ معطوف على فالِقُ لا على يُخْرِجُ لأنه بيان لفالق الحب والنوى.
قال- رحمه الله: فإن قلت: كيف قال وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بلفظ اسم الفاعل بعد قوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ؟ قلت: عطفه على فالق الحب والنوى لا على الفعل، ويخرج الحي من الميت: موقعه موقع الجملة المبينة لقوله فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لأن فالق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت، لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله- تعالى- وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها «٢».
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٨.
والإشارة بذلكم لزيادة التمييز، وللتعريض بغباوة المخاطبين والمشركين لغفلتهم عن هذه الدلالة على أنه هو المستحق للعبادة.
والمعنى: ذلكم المتصف بما ذكر من مقتضى الحكمة البالغة والقدرة النافذة هو الله خالق كل شيء فكيف تصرفون عن عبادة من يخلق إلى عبادة من لا يخلق، وتشركون معه من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؟.
قال الإمام الرازي: والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان، فحصول المثل عن المثل يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية. أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية بل لا بد أن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم» «١».
ثم بين- سبحانه- ألوانا أخرى من مظاهر قدرته وحكمته فقال: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً.
الإصباح: مصدر سمى به الصبح، أى: شاق ظلمة الصبح- وهي الغبش في آخر الليل الذي يلي الفجر المستطيل الكاذب- عن بياض النهار فيضيء الوجود، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده، ويجيء النهار بضيائه.
وجملة «فالق الإصباح» خبر لمبتدأ محذوف أى: هو فالق، أو خبر آخر لإنّ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً أى وجعل الليل محلا لسكون الخلق فيه، وراحة لهم بعد معاشهم بالنهار وسعيهم للحصول على رزقهم.
قال صاحب الكشاف: السكن: ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه، من زوج أو حبيب. ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها، ألا تراهم سموها المؤنسة، والليل يطمئن إليه المتعب بالنهار لاستراحته فيه، ويجوز أن يراد: وجعل الليل مسكونا فيه من قوله: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «٢».
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً الحسبان في الأصل مصدر حسب- بفتح السين- كالغفران والشكران تقول حسبت المال حسبانا: أى أحصيته عددا. والمعنى: وجعل الشمس والقمر يجريان في الفلك بحساب مقدر معلوم لا يتغير ولا يضطرب حتى ينتهى إلى أقصى منازلهما بحيث
(٢) تفسير الكشاف: ج ٢ ص ٤٩.
وقوله ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أى: ذلك الجعل والتسيير البديع الشأن تقدير العزيز، أى: الغالب القاهر الذي لا يتعاصاه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
قال الإمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ما ملخصه:
«اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته فالنوع المتقدم- أى قوله إِنَّ اللَّهَ فالِقُ... إلخ- كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان، والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية، وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية».
وبعد أن ساق- رحمه الله- الأدلة على ذلك قال: والعزيز إشارة إلى كمال قدرته، والعليم إشارة إلى كمال علمه، ومعناه: أن تقدير الأفلاك بصفاتها المخصوصة، وهيآتها المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة، لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار والله أعلم» «٢».
ثم ساق- سبحانه- نوعا ثالثا من الدلائل على كمال قدرته ورحمته وحكمته فقال- تعالى- وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أى: وهو- سبحانه- وحده الذي أنشأ لكم هذه الكواكب النيرة لتهتدوا بها إلى الطرق والمسالك خلال سيركم في ظلمات الليل بالبر والبحر حيث لا ترون شمسا ولا قمرا.
وجملة لِتَهْتَدُوا بِها بدل اشتمال من ضمير لَكُمُ بإعادة العامل، فكأنه قيل: جعل النجوم لاهتدائكم.
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أى: قد وضحنا وبينا الآيات الدالة على قدرته- تعالى-
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٩٩.
فالجملة الكريمة مستأنفة للتسجيل والتبليغ وقطع معذرة من لم يؤمنوا.
والتعريف في الآيات للاستغراق فيشمل آية خلق النجوم وغيرها.
ثم ساق- سبحانه- لونا رابعا من دلائل كمال قدرته ورحمته. فقال- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ.
أى: وهو- سبحانه- الذي أوجدكم من نفس واحدة هي نفس أبيكم آدم- عليه السلام- قال- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
وفي هذه الجملة الكريمة تذكير بنعمة أخرى من نعم الله على خلقه، لأن رجوع الناس إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتراحم والتعاطف، وفيها- أيضا- دليل على عظيم قدرته- عز وجل-. والفاء في قوله- تعالى- فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ للتفريع عن أنشأكم.
أى: أنشأكم من نفس واحدة فلكم موضع الاستقرار في الأرحام أو في الأرض وموضع استيداع في الأصلاب أو في القبور.
وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس، وقد زكاه الإمام الرازي فقال: ومما يدل على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا فالمستقر أقرب إلى الثبات من المستودع» «١».
وقيل المستقر حالة الإنسان بعد الموت لأنه إن كان سعيدا فقد استقرت تلك السعادة، وكذلك إن كان شقيا، والمستودع حالة قبل الموت لأن الكافر قد ينقلب مؤمنا.
وقيل: المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها، والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق.
والذي نراه أن الرأى الأول هو الصحيح لأنه رأى جمهور المفسرين، ولأن شواهد القرآن تؤيده كما في قوله- تعالى- وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ وكما في قوله- تعالى- وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.
وقرئ فَمُسْتَقَرٌّ- بكسر القاف- أى: فمنكم مستقر في الأرحام ومنكم مستودع.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قيل «يعلمون» مع ذكر النجوم ويَفْقَهُونَ مع ذكر إنشاء بنى آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنته وتدقيق نظره مطابقا له «١».
وقد علق صاحب الانتصاف على كلام الزمخشري بما ملخصه: «جواب الزمخشري صناعى، والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ، لما في ذلك من التكرار فعدل إلى فاصلة مخالفة تحسينا للنظم واتساقا في البلاغة، ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا يعتبر بمخلوقاته وكانت الآية الأولى خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها، إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة، وتقلباتهم في أطوار مختلفة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها، فإذا تمهد ذلك فجهل الإنسان بنفسه وبأحواله أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفى من أشبع القبيلين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم، ونفى الأدنى أبشع من نفى الأعلى درجة فخص به أسوأ الفريقين حالا.. وإذا قيل: فلان «لا يفقه شيئا» كان أذم في العرف من قولك: فلان لا يعلم شيئا وكأن معنى قولك لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم، وأما قولك «لا يعلم شيئا» فغايته نفى حصول العلم له، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم» «٢».
ثم ساق- سبحانه- حجة خامسة تدل دلالة واضحة على كمال قدرته وعلمه ورحمته وإحسانه إلى خلقه فقال- تعالى-:
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ.
أى: وهو- سبحانه- الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب ذلك كل صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة في الكم والكيف والطعوم والألوان، قال- تعالى-
(٢) حاشية الانتصاف على تفسير الكشاف ج ٢ ص ٥ لابن المنير.
وسمى السحاب سماء لأن العرب تسمى كل ما علا سماء، ونزول الماء من السحاب قد جاء صريحا في مثل قوله- تعالى- أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ.
ومِنَ في قوله مِنَ السَّماءِ ابتدائية، لأن ماء المطر يتكون في طبقات الجو العليا الباردة عند تصاعد البخار الأرضى إليها فيصير البخار كثيفا وهو السحاب ثم يتحول إلى ماء، والباء في بِهِ للسببية. حيث جعل الله- تعالى- الماء سببا في خروج النبات، والفاء في قوله فَأَخْرَجْنا بِهِ للتفريع وفَأَخْرَجْنا عطف على أَنْزَلَ والالتفات إلى التكلم إظهار لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله.
ثم شرع- سبحانه- في تفصيل ما أجمل من الإخراج فقال: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً أى:
فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له نباتا غضا أخضر، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة، وخضر بمعنى أخضر اسم فاعل. يقال: خضر الزرع- من باب فرح- وأخضر، فهو خضر وأخضر.
وقوله نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً. أى: نخرج من هذا النبات الخضر حَبًّا مُتَراكِباً أى:
متراكما بعضه فوق بعض كما في الحنطة والشعير وسائر الحبوب، يقال: ركبه- كسمعه- ركوبا ومراكبا. أى: علاه.
وجملة نُخْرِجُ مِنْهُ صفة لقوله «خضرا». وعبر عنها بصيغة المضارع لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة لأن إخراج الحب المتراكب من هذا الخضر الغض يدعو إلى التأمل والإعجاب بمظاهر قدرة الله.
وبعد أن ذكر- سبحانه- ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى فقال: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ.
الطلع: أول ما يبدو ويخرج من تمر النخل كالكيزان. وقشره يسمى الكفرى وما في داخله يسمى الإغريق لبياضه.
والقنوان. جمع قنو وهو العرجون بما فيه الشماريخ، وهو ومثناه سواه لا يفرق بينهما إلا في الإعراب. أى: ونخرج بقدرتنا من طلع النخل قنوان دانية القطوف، سهلة التناول أو بعضها دان قريب من بعض لكثرة حملها.
قال صاحب الكشاف: وقِنْوانٌ رفع بالابتداء، ومِنَ النَّخْلِ خبره ومِنْ طَلْعِها
وقوله: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ معطوف على نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أى: فأخرجنا بهذا الماء نبات كل شيء وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب. وجعله: بعضهم عطفا على خَضِراً.
وقيل هو معطوف على حَبًّا.
وقوله: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ منصوب على الاختصاص أى: وأخص من نبات كل شيء الزيتون والرمان، وقيل معطوف على نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ.
قال الآلوسى: وقوله: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ إما حال من الزيتون لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه وهو الرمان والتقدير: والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك، وإما حال من الرمان لقربه ويقدر مثله في الأول.
وأياما كان ففي الكلام مضاف مقدر وهو بعض. أى بعض ذلك مشتبها وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها، وحكمة منشئها ومبدعها كما قال- تعالى- يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «٢».
ثم أمر الله عباده أن يتأملوا في بديع صنعه فقال: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ أى:
انظروا نظر تأمل واعتبار إلى ثمار كل واحد مما ذكرنا حال ابتدائه حين يكون ضئيلا ضعيفا لا يكاد ينتفع به، وحال ينعه أى: نضجه كيف يصير كبيرا أو جامعا لألوان من المنافع والملاذ.
يقال: أينعت الثمرة إذا نضجت.
وقوله إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أى: إن في ذلكم الذي ذكرناه من أنواع النبات والثمار، وذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم لقوم يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار لهو المستحق للعبادة دون ما سواه أو هو القادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم.
قال الشيخ القاسمى: قال بعضهم: القوم كانوا ينكرون البعث فاحتج عليهم بتعريف ما خلق ونقله من حال إلى حال وهو ما يعلمونه قطعا ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها،
(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢٤٠.
هذا وقد أفاض الإمام الرازي- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية في بيان مظاهر قدرة الله وكمال رحمته وحكمته فقال ما ملخصه:
«اعلم أنه- تعالى- ذكره هنا أربعة أنواع من الأشجار: النخل والعنب والزيتون والرمان.
وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجرى مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب.
وإنما ذكر العنب عقيب النخيل، لأن العنب أشرف أنواع الفواكه، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال. وأما الزيتون فهو- أيضا- كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو وينفصل- أيضا- عنه دهن كثير عظيم النفع. وأما الرمان فحاله عجيب جدا. واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر- سبحانه- هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفى بذكرها تنبيها على البواقي.
ثم قال: وقد أمر- سبحانه- بالنظر في حال ابتداء الثمر ونضجه لأن هذا هو موضوع الاستدلال، والحجة التي هي تمام المقصود من هذه الآية وذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد في أول حدوثها عن صفات مخصوصة وعند تمامها لا تبقى على حالاتها الأولى بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة، وربما كانت في أول الأمر باردة بحسب الطبيعة فتصير في آخر أمرها حارة بحسب الطبيعة- أيضا- فحصول هذه المبتدلات والمتغيرات لا بد له من سبب، وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك، لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة، والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسبابا لحدوث الحوادث المختلفة. ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسناده إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة، والمصلحة الحكيمة» «٢».
(٢) راجع الفخر الرازي ج ٤ ص ١٠٧ طبع المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ هـ.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٣]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
قوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ أى: وجعل هؤلاء المشركون لله- سبحانه- شركاء في الألوهية والربوبية من الجن.
وفي المراد بالجن هنا أقوال:
أحدها: أنهم الملائكة حيث عبدوهم وقالوا إنهم بنات الله وتسميتهم جنا مجازا لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن.
والثاني: أن المراد بالجن هنا الشياطين. ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم في أمور الشرك والمعاصي كما يطاع الله- تعالى-.
والثالث: أن المراد بالجن إبليس فقد عبده قوم وسموه ربا ومنهم من سماه إله الشر والظلمة وخص الباري بألوهية الخير والنور. وقد نقل هذا الرأى عن ابن عباس، وقد قال الرازي عن هذا الرأى أنه أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية.
أما ابن كثير فقد رجح الرأى الثاني وقال: فإن قيل كيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟.
سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ «١».
وقال- سبحانه- وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ ولم يقل: وجعلوا الجن شركاء لله. لإفادة أن محل الغرابة والنكارة أن يكون لله شركاء. ولو قال وجعلوا الجن شركاء لله لأوهم أن موضع الإنكار أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا. وليس الأمر كذلك، بل المنكر أن يكون لله شريك من أى جنس كان.
وجملة: وَخَلَقَهُمْ حال من فاعل جَعَلُوا مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان.
أى: وجعلوا لله شركاء الجن والحال أنهم قد علموا أن الله وحده هو الذي خلقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق، وعليه فالضمير في خلقهم يعود على المشركين الذين جعلوا لله شركاء.
وقيل الضمير للشركاء أى: والحال أنهم قد علموا أن الله هو الذي خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له؟.
وقوله وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ أى: واختلقوا وافتروا له بجهلهم وانطماس بصيرتهم بنين وبنات من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية. أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره، وفيه ذم لهم بأنهم يقولون ما يقولون بمجرد الرأى والهوى وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه- تعالى- إلا ما قام الدليل على صحته.
قال الراغب: «أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر، قال- تعالى- أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها، وهو ضد الخلق لأن الخلق هو فعل الشيء بتقدير ورفق» «٢».
ثم ختمت الآية الكريمة بتنزيه الله- تعالى- عما نسبوه إليه فقال- تعالى-: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ أى: تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه به هؤلاء الضالون من الأجداد والأولاد والنظراء والشركاء.
(٢) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص ١٤٦. [.....]
أى: هو مبدعهما ومنشئهما وخالقهما على غير مثال سبق، ومنه سميت البدعة بدعة لأنه لا نظير لها فيما سلف.
وقوله: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ أى: من أين وكيف يكون له ولد- كما زعموا- والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها، ويستحيل ضرورة وجود الولد بلا والدة وإن أمكن وجوده بلا والد، وأيضا الولد لا يحصل إلا بين متجانسين ولا مجانس له- سبحانه-.
وجملة أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مستأنفة لتقرير تنزهه عن ذلك، وجملة وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ حال مؤكدة لاستحالة ما نسبوه إليه من الولد.
وقوله وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ جملة أخرى مستأنفة لتحقيق ما ذكر من الاستحالة، أو حال ثانيه مقررة لها.
أى: كيف يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا له- تعالى- فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه؟
قال صاحب الكشاف: «وفي هذه الآية الكريمة إبطال لأن يكون لله ولد من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن مبتدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة.
لأن الولادة من صفات الأجسام، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا.
والثاني: أن الولادة لا تكون إلا لمن له صاحبة والله- تعالى- لا صاحبة له فلم تصح الولادة.
والثالث: أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به، ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج «١».
وجملة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان أن يكون له ولد.
وبعد أن أبطل- سبحانه- الشرك ونعى على معتنقيه سوء تفكيرهم، دعا المكلفين إلى إخلاص العبودية لله وحده فقال- تعالى-:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ.
أى ذلكم الموصوف بما سمعتم من جلائل الصفات هو الله ربكم لا من زعمتم من الشركاء، فأخلصوا له العبادة فهو- سبحانه- الخالق لكل شيء وما عداه فهو مخلوق يجب أن يعبد خالقه.
وقوله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أى وهو مع تلك الصفات الجليلة رقيب على عباده حفيظ عليهم، يدبر أمرهم، ويتولى جميع شئونهم.
وقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ جملة مستأنفة إما مؤكدة لقوله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فيجب أن يخاف ويحذر، وأما مؤكدة أعظم تأكيد لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليمه عما وصفه به المشركون، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعبودة وهي أبصار أهل الدنيا لجلاله وكبريائه وعظمته. فكيف يكون له ولد؟.
والإدراك: اللحاق والوصل إلى الشيء والإحاطة به. والأبصار جمع بصر يطلق- كما قال الراغب- على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها.
والمعنى: لا تحيط بعظمته وجلاله على ما هو عليه- سبحانه- أبصار الخلائق، أو لا تدركه الأبصار إدراك إحاطة بكنهه وحقيقته فإن ذلك محال والإدراك بهذا المعنى أخص من الرؤية التي هي مجرد المعاينة، فنفيه لا يقتضى نفى الرؤية، لأن نفى الأخص لا يقتضى نفى الأعم فأنت ترى الشمس والقمر ولكنك لا تدرك كنههما وحقيقتهما.
هذا، وهناك خلاف مشهور بين أهل السنة والمعتزلة في مسألة رؤية الله- تعالى- في الآخرة.
أما أهل السنة فيجيزون ذلك ويستشهدون بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله- تعالى- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ومن السنة ما رواه الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسا عند النبي ﷺ إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ.
أما المعتزلة فيمنعون رؤية المؤمنين لله- تعالى في الآخرة، واستدلوا فيما استدلوا بهذه الآية، وقالوا: إن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين ما أدركته ببصرى ورأيته إلا في اللفظ.
والذي نراه أن رأى أهل السنة أقوى لأن ظواهر النصوص تؤيدهم ولا مجال هنا لبسط حجج كل فريق، فقد تكفلت بذلك كتب علم الكلام «٢».
وقوله وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أى: وهو يدرك القوة التي تدرك بها المبصرات. ويحيط بها علما، إذ هو خالق القوى والحواس.
وقوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أى: هو الذي يعامل عباده باللطف والرأفة وهو العليم بدقائق الأمور وجلياتها.
ثم أخذ القرآن في تثبيت النبي ﷺ وفي تسليته. وفي مدح ما جاء به من هدايات فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٤ الى ١١٠]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
(٢) راجع تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٤٤٦ وما بعدها.
والمراد بها آيات القرآن ودلائله التي يفرق بها بين الهدى والضلالة. أى: قد جاءكم أيها الناس من ربكم وخالقكم هذا القرآن بآياته وحججه وهداياته لكي تميزوا بين الحق والباطل، وتتبعوا الصراط المستقيم.
وإطلاق البصائر على هذه الآيات من إطلاق اسم المسبب على السبب.
وقوله: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها أى: فمن أبصر الحق وعلمه بواسطة تلك البصائر وآمن به فلنفسه أبصر وإياها نفع، ولسعادتها ما قدم من ألوان الخير، ومن عمى عن الحق وجهله بإعراضه عن هذه البصائر فعلى نفسه وحدها جنى وإياها ضرب العمى وهذا كقوله- تعالى-: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها وقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها.
واختتمت الآية بقوله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أى: وما أنا عليكم برقيب أحصى عليكم أعمالكم، وأحفظكم من الضلال، وإنما أنا علىّ البلاغ والله وحده هو الذي يحصى عليكم أعمالكم ويجازيكم عليها بما تستحقون.
وقوله: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أى: وكما فصلنا الآيات الدالة على التوحيد في هذه السورة تفصيلا بديعا محكما نفصل الآيات ونبينها وننوعها في كل موطن لتقوم على الجاحدين الحجة، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
والمعنى: وليقول المشركون في الرد عليك: إنك يا محمد قد قرأت الكتب على أهل الكتاب وتعلمت منهم، وحفظت عن طريق الدراسة أخبار من مضى، ثم جئتنا بعد كل ذلك تزعم أن ما جئت به من عند الله، وما هو من عند الله.
وقد حكى القرآن في مواضع كثيرة التهم الباطلة التي وجهها المشركون إلى النبي ﷺ ومن ذلك قوله- تعالى-:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «١».
قال ابن عباس: وَلِيَقُولُوا يعنى: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن دَرَسْتَ يعنى:
تعلمت من يسار وخير- وكانا عبدين من سبى الروم- ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله.
وقال الفراء: معناه، تعلمت من اليهود لأنهم كانوا معروفين عند أهل مكة بالعلم والمعرفة.
وقرئ (دارست) - بالألف وفتح التاء- أى: دارست غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية كأهل الكتاب، من المدارسة بين الإثنين، أى: قرأت عليهم وقرءوا عليك.
قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.
وقرئ- أيضا- (درست) - بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء- أى: وليقولوا مضت وقدمت وتكررت على الأسماع، وقد حكى القرآن أنهم قالوا أساطير الأولين قال- تعالى- حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وهذه القراءات الثلاث متواترة وهناك قراءات أخرى شاذة لا مجال لذكرها هنا.
وقوله: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أى: ولنبين ونوضح هذا القرآن لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه، فهم المنتفعون به دون سواهم.
فالضمير في وَلِنُبَيِّنَهُ يعود إلى القرآن لكونه معلوما وإن لم يجر له ذكر، وقيل: يعود إلى الآيات لأنها في معنى القرآن.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى فرق بين اللامين في وَلِيَقُولُوا ولِنُبَيِّنَهُ؟
ثم أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يستمر في دعوته دون أن يعول على تعنت المشركين فقال- تعالى- اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
أى عليك يا محمد أن تداوم على تبليغ رسالتك، متبعا في ذلك ما أوحاه إليك ربك الذي لا إله إلا هو من آيات وهدايات، معرضا عن المشركين الذين يفترون على الله الكذب وهم يعلمون.
وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ معترضة لتأكيد إيجاب الاتباع، أو حال مؤكدة لقوله «من ربك» بمعنى: منفردا في الألوهية.
ثم هون عليه أمر إعراضهم فقال- تعالى- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا. أى: ولو شاء الله عدم إشراكهم لما أشركوا، ولكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك لأنه جرت سنته برعاية الاستعدادات.
قال الآلوسى: وهذا دليل أهل السنة على أنه تعالى- لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه يمنعه عنه مع توجهه إليه، ولكن بمعنى أنه- تعالى- لا يريده منه لسوء اختياره الناشئ من سوء استعداده» «٢».
وقوله وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أى: وما جعلناك عليهم حفيظا يحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم وتجازيهم عليها وما أنت عليهم بوكيل تدبر عليهم أمورهم وتتصرف فيها، وإنما أنت وظيفتك التبليغ قال- تعالى- فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ وقال- تعالى- فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ.
ثم أرشد الله المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، فنهاهم عن سب آلهة المشركين حتى لا يقابلهم المشركون بالمثل فقال- تعالى-: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
السب: الشتم الوضيع وذكر مساوئ الغير لمجرد التحقير والإهانة.
وعدوا: مصدر بمعنى العدوان والظلم والتجاوز من الحق إلى الباطل وهو مفعول مطلق
(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢٥٠.
والمعنى: ولا تسبوا ايها المؤمنون آلهة المشركين الباطلة فيترتب على ذلك أن يسب المشركون معبودكم الحق جهلا منهم وضلالا.
قال الآلوسى: ومعنى سبهم لله- تعالى- إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له ﷺ ولمن يأمره وقد فسر بِغَيْرِ عِلْمٍ بذلك أى: فيسبوا الله- تعالى- بغير علم أنهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله- تعالى- وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده- سبحانه- فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له- عز وجل- صراحة ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك، ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر! ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام رأى بعض الرافضة يسب الشيخين- أبا بكر وعمر- فغاظه ذلك جدا فسب عليا- كرم الله وجهه- فسئل عن ذلك فقال: ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئا يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم» «١».
وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه معمر عن قتادة قال. كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيسب الكفار الله عدوا بغير علم فنزلت» «٢».
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: سب الآلهة الباطلة حق وطاعة فكيف صح النهى عنه وإنما يصح النهى عن المعاصي؟ قلت رب طاعة علم أنها تؤدى إلى مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة فيجب النهى عنها لأنها معصية لا لأنها طاعة. كالنهى عن المنكر هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدى إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية ووجب النهى عن ذلك كما يجب النهى عن المنكر» «٣».
وقال الشيخ القاسمى: قال ابن الفارس في الآية: إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم أن يسبوا الله أو رسوله أو القرآن لم يجز أن يسبوا آلهتهم ولا دينهم، وهذا أصل في سد الذرائع».
وقال السيوطي: «وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى وكذا كل مفعول مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه».
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٤.
(٣) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٦.
أحدهما: أنها جماد لا ذنب لها.
والثاني: أن ذلك يؤدى إلى المعصية بسب الله- تعالى-. والذي يجب علينا إنما هو بيان بغضها وأنه لا تجوز عبادتها، وأنها لا تضر ولا تنفع، وأنها لا تستحق العبادة، وهذا ليس بسب. ولهذا قال أمير المؤمنين على- يوم صفين- «لا تسبوهم ولكن اذكروا قبيح أفعالهم» «١».
وقال بعض العلماء: ووجه النهى عن سب أصنامهم هو أن السب لا تترتب عليه مصلحة دينية، لأن المقصود من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله- تعالى- فذلك الذي يتميز به المحق من المبطل، فأما السب فإنه مقدور للمحق وللمبطل فيظهر بمظهر التساوي بينهما، وربما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحق، فيلوح للناس أنه تغلب على المحق. على أن سب آلهتهم لما كان يحمى غيظهم ويزيد تصلبهم صار منافيا لمراد الله من الدعوة فقد قال لرسول الله ﷺ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وأصبح هذا السب متمحضا للمفسدة وليس مشوبا بمصلحة، وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة، لأن تغيير المنكر مصلحة بالذات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعرض. وذلك مجال تتردد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوة وضعفا وتحققا واحتمالا، وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلها «٢».
وهذه الآية الكريمة ليست منسوخة بآية السيف- كما قيل- وإنما هي محكمة ولذا قال القرطبي: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي ﷺ أو الله- تعالى- فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدى إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية» «٣».
وقوله كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ.
التزيين تفعيل من الزين وهو الحسن.
والمعنى: مثل ذلك التزيين الذي حمل المشركين على الدفاع عن عقائدهم الباطلة جهلا منهم وعدوانا، زينا لكل أمة من الأمم عملهم، من الخير والشر والإيمان والكفر، فقد مضت سننا في أخلاق البشر أن يستحسنوا ما تعودوه، وأن يتعلقوا بما ألفوه.
(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ٧ ص ٤٣٠ للشيخ محمد بن عاشور.
(٣) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٦٠.
والمشبه به تزيين سب الله- تعالى- لهم.
أى: كما زينا لهؤلاء المشركين سوء أعمالهم زينا لكل أمة من الأمم الماضية على الضلال عملهم السيئ.
قال الآلوسى: «وقد استدل بالآية على أنه- تعالى- هو الذي زين للكافر كفره كما زين للمؤمن إيمانه. وأنكر ذلك المعتزلة فتأولوا الآية بما لا يخفى ضعفه».
وقال صاحب المنار: فظهر بهذا التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه وليس المراد به أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر، وفي قلوب بعضها الآخر تزيينا للإيمان والخير خلقا ابتدائيا من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك، إذ لو كان الأمر كما ذكر لكان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائب الخلقية التي تعد الدعوة إليها والترغيب فيها وما يقابلهما من النهى والترهيب عنها من العبث الذي يتنزه الله عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله. وقد غفلت المعتزلة عن هذا التحقيق فأول بعضهم الآية بأنها خاصة بالمؤمنين الذين زين الله في قلوبهم الإيمان، وبعضهم بغير ذلك» «١».
ثم ختم الله- تعالى- الآية بقوله: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أى:
ثم إلى ربهم أمورهم ورجوعهم ومصيرهم بعد البعث، فيخبرهم من غير تسويف أو تأخير بما كانوا يعملونه في الدنيا، ويجازيهم على ذلك بما يستحقونه. وفي هذه الجملة الكريمة تهديد وتوبيخ لأولئك المشركين الذين تجاسروا على مقام الله، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا.
ثم حكى القرآن بعض المقترحات المتعنتة التي كان يقترحها المشركون على رسول الله ﷺ فقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.
الجهد: الوسع والطاقة من جهد نفسه يجهدها في الأمر إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها فيه.
وهو مصدر في موضع الحال.
أى: وأقسم أولئك المشركون بالله مجتهدين في أيمانهم، مؤكدين إياها بأقصى ألوان التأكيد، معلنين أنهم لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها عليك يا محمد ليؤمنن بها أنها من عند الله وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك.
وقد لقن الله- تعالى- رسوله ﷺ الرد المفحم لهم فقال: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ.
أى: قل لهم يا محمد إن هذه الآيات التي اقترحتموها تعنتا وعنادا مردها إلى الله، فهو وحده
أخرج ابن جرير- بسنده- عن محمد بن كعب القرظي قال: كلم نفر من قريش رسول الله ﷺ فقالوا له، يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصا ضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيى الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من هذه الآيات حتى نصدقك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أى شيء تحبون أن آتيكم به» ؟ قالوا، تجعل لنا الصفا ذهبا، فقال لهم «فإن فعلت تصدقوني» ؟ قالوا نعم. والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله ﷺ يدعو فجاءه جبريل فقال، إن شئت أصبح الصفا ذهبا على أن يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال ﷺ «بل أتركهم حتى يتوب تائبهم»، فأنزل الله- تعالى- قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ. إلى قوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ «١».
وقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ.
أى: وما يدريكم أيها المؤمنون الراغبون في إنزال هذه الآيات طمعا في إسلام هؤلاء المشركين أنها إذا جاءت لا يؤمنون أى: إذا جاءت هذه الآيات فأنا أعلم أنهم لا يؤمنون وأنتم لا تعلمون ذلك ولذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول الآيات.
فالخطاب هنا للمؤمنين، والاستفهام في معنى النفي، وهو إخبار عنهم بعدم العلم وليس للإنكار عليهم.
أى: إنكم أيها المؤمنون ليس عندكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبى الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءتهم الآيات التي يقترحونها على رسول الله ﷺ تعنتا وجهلا.
قال صاحب الكشاف: وَما يُشْعِرُكُمْ وما يدريكم أَنَّها أى الآية التي تقترحونها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك، وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها، فقال- عز وجل- وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، وقيل: إنها بمعنى «لعل» من قول العرب: ائت السوق أنك تشترى حمارا.
عوجا على الطلل المحيل لأننا | نبكي الديار كما بكى ابن خذام |
وقرئ بكسر «إنها» على أن الكلام قد تم قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم؟ ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة» «١».
وقوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ معطوف على لا يُؤْمِنُونَ وداخل معه في حكم وَما يُشْعِرُكُمْ مقيد بما قيد به.
أى: وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه، كشأنهم في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من آيات. وهدايات على لسان رسول الله ﷺ قبل أن يقترحوا عليه تلك المقترحات الباطلة.
إنكم أيها المؤمنون لا تدرون ذلك ولا تشعرون به لأن علمه عند الله وحده.
قال الآلوسى: وهذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له، بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية، ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم في الكفر، وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه- تعالى- مشاعرهم بطريق الإجبار» «٢».
وقوله وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ معطوف على لا يُؤْمِنُونَ.
والعمه: التردد في الأمر مع الحيرة فيه، يقال: عمه- كفرح ومنع- عمها إذا تردد وتحير.
أى: ونتركهم في تجاوزهم الحد في العصيان يترددون متحيرين، لا يعرفون لهم طريقا، ولا يهتدون إلى سبيل.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون في أيمانهم الفاجرة، فقال- تعالى-:
(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٢٥٥.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١١ الى ١١٣]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)والمعنى: ولو أننا يا محمد لم نقتصر على إيتاء ما اقترحه هؤلاء المشركون من آيات كونية، بل أضفنا إلى ذلك أننا نزلنا عليهم الملائكة يشهدون بصدقك وأحيينا لهم الموتى فشهدوا بحقيقة الإيمان، وزدنا على ذلك فجمعنا لهم جميع الخلائق مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم بأنك على الحق، لو أننا فعلنا كل ذلك ما استقام لهم الإيمان لسوء استعدادهم وفساد فطرهم، وانطماس بصيرتهم، فإن قوما يمرون على تلك الآيات الكونية التي زخر بها هذا الكون والتي استعرضتها هذه السورة فلا تتفتح لها بصائرهم، ولا تتحرك لها مشاعرهم، ليسوا على استعداد لأن يخالط الإيمان شغاف قلوبهم، والذي ينقصهم إنما هو القلب الحي الذي يتلقى ويتأثر ويستجيب وليس الآيات التي يقترحونها فإن أمامهم الكثير منها، واقترحاتهم إنما هي نوع من العبث السخيف، والتعنت المرذول الذي لا يستحق أن يهتم به.
وقُبُلًا- بضم القاف والباء- حال من «كل شيء» وفيه أوجه:
الأول: أنه جمع قبيل بمعنى كفيل مثل قليب وقلب، أى: وحشرنا عليهم كل شيء من المخلوقات ليكونوا كفلاء بصدقك.
والثاني: أنه مفرد كقبل الإنسان ودبره فيكون معناه المواجهة والمعاينة ومنه آتيك قبلا لا دبرا أى آتيك من قبل وجهك والمعنى. وحشرنا عليهم كل شيء مواجهة وعيانا ليشهدوا بأنك على الحق.
والثالث: أن يكون قبلا جمع قبيل لكن بمعنى جماعة جماعة أو صنفا صنفا والمعنى: وحشرنا
وجملة ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ جواب لو.
أى: لو فعلنا لهم كل ذلك ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال بسبب غلوهم في التمرد والعصيان، إلا في حال مشيئة الله إيمانهم فيؤمنوا، لأنه- سبحانه- هو القادر على كل شيء.
وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.
أى: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا فهم لذلك يحلفون الأيمان المغلظة بأنهم لو جاءتهم آية ليؤمنن بها. أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات.
وقيل الضمير يعود على المؤمنين فيكون المعنى. ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمان أولئك المشركين عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئة الله- تعالى- لإيمانهم، فيتمنون مجيء الآيات طمعا في إيمانهم.
قال الشيخ القاسمى: في قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله- تعالى- حتى الإيمان والكفر. وقد اتفق سلف هذه الأمة وحملة شريعتها على أنه «ما شاء الله كان وما لم يشأ لهم يكن». والمعتزلة يقولون «إلا أن يشاء الله مشيئة قسر وإكراه» «١».
ثم سلى الله- تعالى- نبيه عن تعنت المشركين وتماديهم في الباطل ببيان أن كل نبي كان له أعداء يسيئون إليه ويقفون عقبة في طريق دعوته فقال:
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
والمعنى: ومثل ما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعاندونك جعلنا لكل نبي من قبلك- أيضا- أعداء، فلا يحزنك ذلك، قال- تعالى- ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ
«٢».
وقال- تعالى- وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً «٣».
والمراد بشياطين الإنس والجن، والمردة من النوعين. والشيطان: كل عات متمرد من الإنس والجن.
(٢) سورة فصلت الآية ٤٣.
(٣) سورة الفرقان الآية: ٣١.
وجعل ينصب مفعولين أولهما عَدُوًّا وثانيهما لِكُلِّ نَبِيٍّ وشَياطِينَ بدل من المفعول الأول، وبعضهم أعرب شَياطِينَ مفعولا أولا وعَدُوًّا مفعولا ثانيا، ولِكُلِّ نَبِيٍّ حالا من عَدُوًّا.
وقوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً.
الوحى: الإعلام بالأشياء من طريق خفى دقيق سريع. زخرف القول: باطله الذي زين وموه بالكذب. وأصل الزخرف. الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب: زخرف، ولكل شيء حسن مموه: زخرف.
والغرور: الخداع والأخذ على غرة وغفلة.
والمعنى: يلقى بعضهم إلى بعض بطرق خفية دقيقة القول المزين المموه الذي حسن ظاهره وقبح باطنه لكي يخدعوا به الضعفاء ويصرفونهم عن الحق إلى الباطل.
والجملة مستأنفة لبيان إحكام عداوتهم، أو حال من الشياطين وقد ورد أن النبي ﷺ أمر أتباعه أن يستعيذوا بالله من شياطين الإنس والجن، فعن أبى ذر قال: أتيت رسول الله ﷺ في مجلس. قد أطال فيه الجلوس فقال: «يا أبا ذر هل صليت؟ قلت: لا يا رسول الله. قال: قم فاركع ركعتين قال: ثم جئت فجلست إليه فقال: يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ قال: قلت لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، هم شر من شياطين الجن».
وقد ساق الإمام ابن كثير عدة روايات عن أبى ذر في هذا المعنى، ثم قال في نهايتها: فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته» «١».
وقوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ.
أى: ولو شاء ربك ألا يفعل هؤلاء الشياطين ما فعلوه من معاداة الأنبياء ومن الإيحاء بالقول الباطل لتم له ذلك، لأنه- سبحانه- هو صاحب المشيئة النافذة، والإرادة التامة ولكنه- سبحانه- لم يشأ أن يجبرهم على خلاف ما زينته لهم أهواؤهم باختيارهم، لكي يميز الله
وقوله: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. معطوف على غُرُوراً فيكون علة أخرى للإيحاء، والضمير في إِلَيْهِ يعود إلى زخرف القول.
وأصل الصغو: الميل. يقال: صغا يصغو ويصغى صغوا، وصغى يصغى صغا أى: مال، وأصغى إليه مال إليه يسمعه، وأصغى الإناء: أماله. ويقال: صغت الشمس والنجوم صغوا: مالت إلى الغروب.
والمعنى: يوحى بعضهم إلى بعضهم زخرف القول ليغروا به الضعفاء، ولتميل إلى هذا الزخرف الباطل من القول قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لموافقته لأهوائهم وشهواتهم.
وخص عدم إيمانهم بالآخرة بالذكر- مع أنهم لا يؤمنون بأمور أخرى يجب الإيمان بها- لأن من لم يؤمن بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يمشى دائما وراء شهواته وأهوائه ولا يتبع إلا زخرف القول وباطله.
ثم بين- سبحانه- تدرجهم السيئ في هذا العمل الأثيم فقال: وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ.
أى: وليرضوا هذا الفعل الخبيث لأنفسهم بعد أن مالت إليه قلوبهم، وليقترفوا ما هم مقترفون أى: وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الأعمال السيئة فإن الله- تعالى- سيجازيهم عليها بما يستحقونه.
وأصل القرف والاقتراف. قشر اللحاء عن الشجر، والجلدة عن الجرح. واستعير الاقتراف للاكتساب مطلقا ولكنه في الإساءة أكثر. فيقال: قرفته بكذا إذا عبته واتهمته.
قال أبو حيان: وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة، لأنه أولا يكون الخداع، فيكون الميل، فيكون الرضا، فيكون الاقتراف، فكل واحد مسبب عما قبله «١».
ثم أمر الله- تعالى- رسوله ﷺ أن يصارح المشركين بأن الله وحده هو الحكم الحق، وإن كتابه هو الآية الكبرى الدالة على صدقه فيما يبلغه عنه فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٤ الى ١١٧]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)روى أن مشركي مكة قالوا لرسول الله ﷺ اجعل بيننا حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزل قوله- تعالى- أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً الآية «١».
وقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً كلام مستأنف على إرادة القول، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
والحكم- بفتحتين- هو من يتحاكم إليه الناس ويرضون بحكمه، وقالوا: إنه أبلغ من الحاكم «وأدل على الرسوخ، كما أنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين، أأميل إلى زخارف الشياطين، فأطلب معبودا سوى الله- تعالى- ليحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق منها من المبطل.
وأسند ﷺ الابتغاء لنفسه لا إلى المشركين، لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم: اجعل بيننا وبينك حكما.
ثم ساق- سبحانه- دليلا آخر على أن القرآن حق فقال: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ.
أى: والذين آتيناهم الكتاب أى التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى يعلمون علم اليقين أن هذا القرآن منزل عليك من ربك بالحق. لأنهم يجدون في كتبهم البشارات التي تبشر بك، ولأن هذا القرآن الذي أنزله الله عليك مصدق لكتبهم ومهيمن عليها.
فهذه الجملة الكريمة تقرير لكون القرآن منزلا من عند الله، لأن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بحقيقته وأنه منزل من عند الله.
وقوله: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أى: فلا تكونن من الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق، لأن عدم اعتراف بعضهم بذلك مرده إلى الحسد والجحود، وهذا النهى إنما هو زيادة في التوكيد، وتثبيت لليقين، كي لا يجول في خاطره طائف من التردد في هذا اليقين.
قال ابن كثير: وهذا كقوله- تعالى- فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ قال: وهذا شرط، والشرط لا يقتضى وقوعه، ولهذا جاء عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لا أشك ولا أسأل» «١».
وقيل: الخطاب لكل من يتأتى له الخطاب على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه فلا ينبغي أن يشك في ذلك أحد.
وقيل: الخطاب للنبي ﷺ والمقصود أمته، لأنه ﷺ حاشاه من الشك.
ثم بين- سبحانه- أن هذا الكتاب كامل من حيث ذاته بعد أن بين كماله من حيث إضافته إليه- تعالى- بكونه منزلا منه بالحق فقال- تعالى-: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا وقرئ (كلمات ربك).
أى: كمل كلامه- تعالى- وهو القرآن، وبلغ الغاية في صدق أخباره ومواعيده، وفي عدل أحكامه وقضاياه.
وصدقا وعدلا مصدران منصوبان على الحال من رَبِّكَ أو من كَلِمَةُ وقيل: هما منصوبان على التمييز.
وجملة لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ مستأنفة لبيان فضل هذه الكلمات على غيرها أثر بيان فضلها في ذاتها. أى: لا مغير لها بخلف في الأخبار، أو نقض في الأحكام، أو تحريف أو تبديل كما حدث في التوراة والإنجيل، وهذا ضمان من الله- تعالى- لكتابه بالحفظ والصيانة، قال- تعالى- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
ثم ختمت الآية بقوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أى: هو- سبحانه- السميع لكل ما من شأنه أن يسمع، العليم بكل ما يسرون وما يعلنون.
وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة على وحدانيته وصدق نبيه ﷺ أتبع ذلك بنهيه ﷺ عن الالتفات إلى جهالات أعدائه فقال- تعالى-: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
أى: وإن تطع أكثر من في الأرض من الناس الذين استحبوا العمى على الهدى يضلوك عن الطريق المستقيم، وعن الدين القويم الذي شرعه الله لعباده، لأن هؤلاء المجادلين ما يتبعون في جدالهم وعقائدهم وأعمالهم إلا الظن الذي تزينه لهم أهواؤهم، وما هم إلا يخرصون أى:
يكذبون.
وأصل الخرص: القول بالظن. يقال: خرصت النخل خرصا- من باب قتل- حزرت ثمره وقدرته بالظن والتخمين. واستعمل في الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة، فيقال:
خرص في قوله- كنصر- أى: كذب.
قال صاحب المنار: «وهذا الحكم القطعي بضلال أكثر أهل الأرض ظاهر بما بيّنه به من اتباع الظن والخرص ولا سيما في ذلك العصر- تؤيده تواريخ الأمم كلها، فقد اتفقت على أن أهل الكتاب كانوا قد تركوا هداية أنبيائهم وضلوا ضلالا بعيدا، وكذلك أمم الوثنية التي كانت أبعد عهدا عن هداية رسلهم وهذا من أعلام نبوته ﷺ وهو أمى لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا شيئا يسيرا من شئون المجاورين لبلاد العرب خاصة» «١».
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد قررت أن الله وحده هو الحكم العدل، وأن كتابه هو المهيمن على الكتب السابقة، وأن أهل الكتاب يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم، وأنه- سبحانه- قد تكفل بحفظ كتابه من التغيير والتبديل، وأن الطبيعة الغالبة في البشر هي اتباع الظنون والأهواء، لأن طلب الحق متعب، والكثيرون لا يصبرون على مشقة البحث والتمحيص، والقليلون هم الذين يتبعون اليقين في أحكامهم، والله وحده هو الذي يعلم الضالين والمهتدين من عباده.
وبعد أن أقام- سبحانه- الأدلة على وحدانيته وكمال قدرته. وسعة علمه ورد على الشبهات التي أثارها المشركون حول الدعوة الإسلامية بما يخرس ألسنتهم. وأثبت- سبحانه- أنه هو الحكم الحق، وأن كتابه هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه، وأن أكثر أهل الأرض يتبعون الظن في أحكامهم. بعد كل ذلك انتقل القرآن إلى الكلام في مسألة كثر فيها الجدل بين المسلمين والمشركين، وهي مسألة الذبائح ما ذكر عليه اسم الله منها وما لم يذكر فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٨ الى ١٢٢]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)
وذكر الواحدي أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها فقال الله قتلها. قالوا. فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر أو الكلاب حلال وما قتله الله حرام فأنزل الله- تعالى- قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الآية: «٢».
والخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين الذين ضايقهم جدال المشركين لهم في شأن الذبائح.
والمعنى كلوا أيها المؤمنون مما ذكر اسم الله عليه عند ذبحه واتركوا ما ذكر عليه اسم غيره كالأوثان أو ما ذبح على النصب، أو ما ذكر اسم مع اسمه- تعالى- أو ما مات حتف أنفه، ولا تضرنكم مخالفتكم للمشركين في ذلك فإنهم ما يتبعون في عقائدهم ومآكلهم وأعمالهم إلا تقاليد الجاهلية وأوهامها التي لا ترتكز على شيء من الحق.
والفاء في قوله: فَكُلُوا يرى الزمخشري أنها جواب لشرط مقدر والتقدير: إن كنتم محقين في الإيمان فكلوا، ويرى غيره أنها معطوفة على محذوف والتقدير «كونوا على الهدى فكلوا».
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ أى: إن كنتم بآياته التي من جملتها الآيات الواردة في هذا الشأن مؤمنين، فإن الإيمان بها يقتضى استباحة ما أحله سبحانه واجتناب ما حرمه.
ثم أنكر- سبحانه- عليهم ترددهم في أكل ما أحله الله من طعام لأنهم لم يتعودوه قبل ذلك فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٢.
وقوله وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ جملة حالية مؤكدة للإنكار السابق أى والحال أن الله- تعالى- قد فصل لكم على لسان رسولكم ﷺ ما حرمه عليكم من المطعومات، وبين لكم ذلك في كتابه كما في قوله- تعالى- قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
إذا فمن الواجب عليكم أيها المسلمون أن تأكلوا وأنتم مطمئنون من جميع المطاعم التي أحلها الله لكم وذكر اسمه عليها ولو خالفتم في ذلك المشركين وأن تتجنبوا أكل ما حرمه الله عليكم ولو كان مما يستبيحه المشركون.
وقوله إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ استثناء مما حرم الله عليهم أكله.
أى: إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات بسبب شدة الجوع ففي هذه الحالة يباح لكم أن تأكلوا من هذه المحرمات ما يحفظ عليكم حياتكم. هذا هو حكم الله الذي يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فعليكم أن تتبعوه، وألا تلقوا بالا إلى أوهام المتخرصين وأصحاب الظنون الباطلة.
ثم نعى على المشركين جهالاتهم فقال وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
قرأ الجمهور «ليضلون» بضم الياء، والمعنى عليه: وإن كثيرا من الكفار ليضلون غيرهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام بسبب أهوائهم الزائفة وشهواتهم الباطلة، دون أن يكون عندهم أى علم مقتبس من وحى الله ومستنبط من عقل سليم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ليضلون» بفتح الياء، والمعنى عليه: وإن كثيرا من الكفار لينحرفون عن الحق ويقعون في الضلال بسبب اتباعهم لأهوائهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وقراءة الجمهور أبلغ في الذم لأنها تتضمن قبح فعلهم حيث ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم.
وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بمحذوف وقع حالا أى: يضلون مصاحبين للجهل.
ففي الجملة الكريمة التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الرازي: وقد دلت هذا الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام «١».
ثم أمر الله عباده أن يتركوا ما ظهر من الآثام وما استتر فقال:
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ أى اتركوا جميع المعاصي ما كان منها سرا وما كان منها علانية، أو ما كان منها بالجوارح وما كان منها بالقلوب، لأن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء.
ثم بين- سبحانه- عاقبة المرتكبين للآثام فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أى: إن الذين يعملون المعاصي ويرتكبون القبائح الظاهرة والباطنة لن ينجو من المحاسبة والمؤاخذة بل سيجزون بما يستحقونه من عقوبات بسبب اجتراحهم للسيئات.
وبعد أن أمر الله المؤمنين بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، نهاهم صراحة عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لشدة العناية بهذا الأمر فقال- تعالى-:
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أى: لا تأكلوا أيها المسلمون من أى حيوان لم يذكر عليه اسم الله عند ذبحه، بأن ذكر عليه اسم غيره، أو ذكر اسم مع اسمه- تعالى-، أو غير ذلك مما سبق بيانه من المحرمات.
وقوله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ جملة حالية والضمير يعود على الأكل من الذي لم يذكر اسم الله عليه، أى: وإن الأكل من ذلك الحيوان المذبوح الذي لم يذكر اسم الله عليه لخروج عن طاعة الله- تعالى- وابتعاد عن الفعل الحسن إلى الفعل القبيح، وفي ذلك ما فيه من تنفيرهم من أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.
ثم كشف للمسلمين عن المصدر الذي يمد المشركين بمادة الجدل حول هذه المسألة فقال:
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ.
أى: وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم الذين اتبعوهم من المشركين ليجادلوكم في تحليل الميتة وفي غير ذلك من الشبهات الباطلة وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال ما حرمه الله عليكم إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
قال ابن كثير: أى: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره
هذا، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلما، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال.
فمنهم من قال لا تحل الذبيحة التي يترك ذكر اسم الله عليها سواء كان الترك عمدا أو سهوا، وإلى هذا الرأى ذهب ابن عمر ونافع وعامر والشعبي ومحمد بن سيرين، وداود الظاهري وفي رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل.
واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية التي وصفت ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه بأنه فسق، كما احتجوا بقوله- تعالى- فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وبالأحاديث التي وردت في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديث عدى بن حاتم وفيه «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» «٢».
وحديث رافع بن خديج وفيه «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» «٣» أما القول الثاني فيرى أصحابه أن التسمية ليست شرطا بل هي مستحبة، وتركها عن عمد أو نسيان لا يضر، وقد حكى هذا المذهب عن ابن عباس وأبى هريرة وعطاء وهو مذهب الشافعى وأصحابه وفي رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل.
وحجتهم أن هذه الآية وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ | واردة فيما ذبح لغير الله بأن يذكر على الذبيحة اسم الصنم كما كان يفعل المشركون عند ذبائحهم. |
أما القول الثالث فيرى أصحابه أن ترك التسمية نسيانا لا يضر، أما عمدا فلا تحل الذبيحة، وإلى هذا المذهب ذهب على وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري وهو المشهور من مذهب أحمد بن حنبل وعليه أبو حنيفة وأصحابه.
(٢) أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد، حديث رقم ١٤١ طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.
(٣) أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد».
(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٩.
ولعل هذا المذهب أقرب المذاهب إلى الصواب، لأن المتعمد هو الذي يؤاخذ على عمله أما الناسي فليس مؤاخذا.
وقد تولت بعض كتب التفسير بسط الأقوال في هذه المسألة فليرجع إليها من شاء «٢».
ثم ضرب الله مثلا لحال المؤمن والكافر فقال:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.
الهمزة للاستفهام الإنكارى، وهي داخلة على جملة محذوفة للعلم بها من الكلام السابق.
والتقدير: أأنتم أيها المؤمنون مثل أولئك المشركين الذين يجادلونكم بغير علم وهل يعقل أن من كان ميتا فأعطيناه الحياة وجعلنا له نورا عظيما يمشى به فيما بين الناس آمنا كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.
فالآية الكريمة تمثيل بليغ للمؤمن والكافر لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين بعد أن نهاهم صراحة عن طاعتهم قبل ذلك في قوله وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
فمثل المؤمن المهتدى إلى الحق كمن كان ميتا هالكا فأحياه الله وأعطاه نورا يستضيء به في مصالحه، ويهتدى به إلى طرقه. ومثل الكافر الضال كمن هو منغمس في الظلمات لا خلاص له منها فهو على الدوام متحير لا يهتدى فكيف يستويان؟.
والمراد بالنور: القرآن أو الإسلام، والمراد بالظلمات: الكفر والجهالة وعمى البصيرة. فهو كقوله- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.
وقوله: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى: مثل ذلك التزيين الذي تضمنته الآية- وهو تزيين نور الهدى للمؤمنين وظلمات الشرك للضالين قد زين للكافرين ما كانوا يعملونه من الآثام كعداوة النبي ﷺ وذبح القرابين لغير الله- تعالى- وتحليل الحرام، وتحريم الحلال وغير ذلك من المنكرات.
وجمهور المفسرين يرون أن المثل في الآية عام لكل مؤمن وكل كافر وقيل إن المراد بمن أحياه الله وهداه عمر بن الخطاب، والمراد بمن بقي في الظلمات ليس بخارج منها عمرو بن هشام،
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٦٨ وما بعدها وتفسير الآلوسى ج ٨ ص ١٤ وما بعدها.
والذي نراه أن الآية عامة في كل من هداه الله إلى الإيمان بعد أن كان كافرا، وفي كل من بقي على ضلاله مؤثرا الكفر على الإيمان ويدخل في ذلك هؤلاء المذكورون دخولا أوليا.
ثم سلى الله- تعالى- نبيه ﷺ ببيان أن المترفين في كل زمان ومكان هم أعداء الإصلاح، وأن ما لقيه ﷺ من أكابر مكة ليس بدعا بل هو شيء رآه الأنبياء قبله على أيدى أمثال هؤلاء المترفين فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٦]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
أكابر: جمع أكبر، وهم الرؤساء والعظماء في الأمم. والمجرمون: جمع مجرم، من أجرم إذا اكتسب أمرا قبيحا، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإثم.
والمعنى: وكما جعلنا في قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا في كل قرية
قال الجمل: وقوله: أَكابِرَ مفعول أول لجعل، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه، وفِي كُلِّ قَرْيَةٍ المفعول الثاني لجعل، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه، فهو على حد قوله:
كذا إذا عاد عليه مضمر... مما به عنه مبينا يخبر
هذا أحسن الأعاريب «١» وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال.
وخص الأكابر بالمكر، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال، وهم الذين يتبعهم الضعفاء في كفرهم وفجورهم.
قال ابن كثير: والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله- تعالى- إخبارا عن قوم نوح وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وكقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً... الآية «٢». وقوله- سبحانه- وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ.
أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين في كل وقت إلا بأنفسهم، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم في الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره، بل يتوهمون أنهم سينجون في مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين.
فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله في خلقه، وهي أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وفي ذلك تسلية للنبي ﷺ عما يصيبه منهم، وبشارة له، ولأصحابه بالنصر عليهم، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير.
وجملة وَما يَشْعُرُونَ حال من ضمير يمكرون، وهي تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٣.
أى: وإذا جاءت أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم «لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها» حجة قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك، قالوا حسدا لك، لن نؤمن لك يا محمد حتى نعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله، وأضافوا الإيتاء إلى رسل الله، لأنهم لا يعترفون بما أوتيه ﷺ من الوحى والرسالة.
روى أن الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك سنا وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية».
وقال مقاتل: نزلت في أبى جهل وذلك أنه قال: زاحمنا بنو عبد المطلب في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه، فأنزل الله هذه الآية» «١».
وقد رد الله- تعالى- على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أى: الله- سبحانه- أعلم منهم ومن كل أحد بالموضع الصالح للرسالة فيضعها فيه فهو- سبحانه- يختار لها بحكمته وعلمه من يستحقها وينهض بها. ويهب نفسه لها، وينسى في سبيلها ذاته.
قال الإمام الرازي: وقوله- تعالى- اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أى: أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه، فمن كان مخصوصا موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله- تعالى- ثم قال: وفي هذه الجملة الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد، وقوله لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ عين المكر والغدر والغل والحسد، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات» ».
وهذه الجملة حجة لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده، ولا ينالها أحد بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه.
ولذا قال الإمام الآلوسى: وجملة اللَّهُ أَعْلَمُ... إلخ. استئناف بيانى، والمعنى: أن
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ١٤٢.
هذا. وقد وردت أحاديث كثيرة تحدث النبي ﷺ فيها عن اصطفاء الله له وفضله عليه، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن وائلة ابن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله- عز وجل- اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بنى إسماعيل بنى كنانة، واصطفى من بنى كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفى من بنى هاشم محمدا صلى الله عليه وسلم» «٢».
وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبى وداعة عن العباس عن رسول الله ﷺ قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا» «٣».
ثم بين- سبحانه- عاقبة أولئك الماكرين الحاسدين للنبي ﷺ على ما آتاه الله من فضله فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ.
قال القرطبي ما ملخصه: الصغار: الضيم والذل والهوان. والمصدر الصغر بالتحريك- وأصله من الصغر دون الكبر فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل: أصله من الصغر وهو الرضا بالذل. والصاغر: الراضي بالذل. وأرض مصغرة: نبتها صغير لم يطل. ويقال: صغر- بالكسر- يصغر صغرا وصغارا فهو صاغر إذا ذل وهان» «٤».
والمعنى: سيصيب الذين أجرموا بعد تكبرهم وغرورهم وتطاولهم ذل عظيم وهوان شديد ثابت لهم عند الله في الدنيا والآخرة، وبسبب مكرهم المستمر، وعدائهم الدائم لرسل الله وأوليائه.
والجملة الكريمة استئناف آخر ناع على أولئك الماكرين ما سيلقونه من ألوان العقوبات بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أنكره من إيتائهم مثل ما أوتى رسل الله، والسين للتأكيد.
والعندية في قوله «عند الله» مجاز عن حشرهم يوم القيامة، أو عن حكمه سبحانه- وقضائه
(٢) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل.
(٣) المسند للإمام أحمد ج ١ ص ٢١٠ طبعة الحلبي.
(٤) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٨٠.
قال ابن كثير: ولما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا، وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا. وجاء في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال:
هذه غدرة فلان بن فلان» والحكمة في ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل» «١».
ثم بين- سبحانه- حال المستعد لهداية الإسلام، وحال المستعد للضلال فقال:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ.
أى: فمن يرد الله أن يهديه للإسلام، ويوفقه له، يوسع صدره لقبوله، ويسهله له بفضله وإحسانه.
وشرح الصدر: توسعته، يقال: شرح الله صدره فانشرح، أى: وسعه فاتسع، وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها. مصفاة عما يمنعه وينافيه.
روى عبد الرازق أن النبي ﷺ سئل عن هذه الآية: كيف يشرح صدره؟ فقال: «نور يقذف فينشرح له وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» «٢».
وقوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره، وإيثاره الضلالة على الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإسلام.
والحرج: مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج، أى: ضاق ضيقا شديدا. وصف به الضيق للمبالغة، كأنه نفس الضيق، وأصل الحرج مجتمع الشيء ويقال: للحديقة الملتفة الأشجار التي يصعب دخولها حرجة.
وقرئ حرجا- بكسر الراء- صفة لقوله ضَيِّقاً.
روى أن جماعة من الصحابة قرءوا أمام عمر- رضى الله عنه- «ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا» بكسر الراء فقال عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير» «٣».
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٤.
(٣) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٢.
أى: كأنما إذا دعى إلى الإسلام قد كلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيعه بحال. ويصعد أى: يتصعد، بمعنى يتكلف الصعود فلا يقدر عليه.
وفيه إشارة إلى أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود.
وقوله: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أى: مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام، يجعل الله الرجس. أى: العذاب، أو الخذلان، أو اللعنة في الدنيا على الذين لا يؤمنون بالإسلام.
ثم بين- سبحانه- أن طريق الإسلام هو الطريق الحق المستقيم فقال:
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً أى: وهذا البيان الذي جاء به القرآن، أو سبيل التوحيد، وإسلام الوجه إلى الله، هو طريق ربك الواضح المستقيم الذي ارتضاه لعباده، والذي لا ميل فيه إلى إفراط أو تفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال.
ومُسْتَقِيماً حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل: هذا أبوك عطوفا، وقيل حال مؤسسة والعامل فيها معنى الإشارة أو (ها) التي للتنبيه.
وقوله: فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أى: جعلناها بينة واضحة مفصلة لقوم يتذكرون ما فيها من هدايات وإرشادات فيعملون بها لينالوا السعادة في الدنيا والآخرة.
ثم بين- سبحانه- ما أعده للمتذكرين فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٧ الى ١٣٠]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)
قال الجمل: وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ في المراد بهذه العندية وجوه:
أحدها: أنها معدة عنده كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة كقوله جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وثانيها: أن هذه العندية تشعر بأن هذا الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله بالشرف والرتبة لا بالمكان والجهة لتنزهه- تعالى- عنهما.
وثالثها: هي كقوله- تعالى- في صفة الملائكة وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ.
وقوله: أنا عند المنكسر قلوبهم وأنا عند ظن عبدى بي» «١».
ثم بين- سبحانه- جانبا من أحوال الظالمين يوم القيامة عند ما يقفون أمام ربهم للحساب فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ.
ففي هذه الآيات عرض مؤثر زاخر بالحوار والاعتراف والمناقشة والحكم تحكيه السورة الكريمة وهي تصور مشاهد المجرمين يوم القيامة.
وقوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ.
والمعنى: واذكر يا محمد- أو أيها العاقل- يوم نحشر الضالين والمضلين جميعا من الإنس والجن، فنقول للمضلين من الجن: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أى: قد أكثرتم من إغوائكم الإنس وإضلالكم إياهم، أو قد أكثرتم منهم بأن جعلتموهم أتباعكم، وأهل طاعتكم، ووسوستكم لهم بالمعاصي حتى غررتموهم وأوردتموهم هذا المصير الأليم.
و «يوم» منصوب على الظرفية والعامل فيه مقدر، أى: اذكر يوم نحشرهم جميعا. والضمير المنصوب في «نحشرهم» لمن يحشر من الثقلين. وقيل للكفار الذين تتحدث عنهم هذه الآيات.
ووجه الخطاب إلى معشر الجن، لأنهم هم الأصل في إضلال أتباعهم من الإنس، وهم السبب في صدهم عن السبيل القويم.
والمقصود من هذا القول لهم توبيخهم وتقريعهم على ما كان يصدر منهم من إغواء الغافلين من الإنس.
وهنا يحكى القرآن رد الضالين من الإنس على هذا التوبيخ فيقول: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا.
أى: وقال الذين أطاعوهم وانقادوا لهم من الإنس يا ربنا، لقد استمتع بعضنا ببعض.
أى: انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على المفاسد وما يوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس، حيث أطاعوهم واستجابوا لوسوستهم، وخالفوا أمر ربهم.
وقال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس. أى:
فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة على اللذات الغائبة.
وقيل: استمتاع الإنس بالجن معناه أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فنزل بأرض قفر خاف على نفسه من الجن فيقول. أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوارهم. وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أنهم قالوا. سدنا الإنس حتى عاذوا بنا، فيزدادون بذلك شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم.
وقيل: استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة، واستمتاع الجن بالإنس هو طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من المعاصي فصاروا كالرؤساء لهم.
والذي نراه. أن استمتاع الجن بالإنس والإنس بالجن يتناول كل ذلك، حيث انتفع كل
وقولهم هذا، هو تحسر منهم على حالهم، إذ قالوه اعترافا بما فعلوه من طاعة للشياطين واتباع الهوى، وتكذيب أمر البعث.
وإنما قال الأتباع من الإنس هذا القول مع أن الخطاب موجه إلى المتبوعين من شياطين الجن، للإيذان بأن شياطين الجن قد أفحموا. ولم يستطيعوا أن ينطقوا أو يجيبوا. ثم أتبعوا تحسرهم هذا بتحسر آخر وهو قولهم: «وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا».
أى: ها نحن يا ربنا قد استمتع بعضنا ببعض في الدنيا عن طريق الشهوات المحرمة.
واللذات الفانية القبيحة، وها نحن قد وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا، وهو يوم القيامة والجزاء. ونحن في أقبح صورة وأسوأ عيش.
وهنا يأتيهم الرد الحاسم. والحكم النافذ من الله العلى الكبير. حيث يقول- سبحانه- قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ.
مثواكم: الثواء مع الإقامة مع الاستقرار. يقال: ثوى يثوى ثواء أى: استقر، والثوية مأوى الغنم.
والمعنى: قال الله- تعالى- لهؤلاء الظالمين المعترفين على أنفسهم بارتكاب الموبقات: النار منزلكم ومحل إقامتكم الدائمة. فأنتم خالدون فيها في كل وقت إلا في وقت مشيئة الله بخلاف ذلك، لأن الأمور كلها متروكة إليه، وخاضعة لمشيئته.
والأرجح أن المراد بهذا الاستثناء وبنظائره في آيات أخر، المبالغة في الخلود.
أى: أنه لا ينتفى في وقت ما إلا وقت مشيئته- تعالى- وهو سبحانه لا يشاء ذلك. فقد أخبر في آيات متعددة من كتابه أن هؤلاء الكفار لا يخرجون من النار أبدا.
وفي إيراد هذا المعنى بتلك الصورة، بلاغ للناس بأن مرد الأمور كلها إلى مشيئة الله، وأن خلود المشركين في نار جهنم إنما هو بمحض مشيئته، ولو شاء غير ذلك ما خلدوا، وفيه إلى جانب ذلك تنكيل آخر بهؤلاء الأشقياء لأنهم قد صاروا في حيرة دائمة من أمرهم. تجعلهم مشتتين بين الطمع في الخروج مما هم فيه، واليأس منه.
وهذا التفسير للجملة الكريمة هو الذي نختاره ونرجحه، وهناك وجوه أخرى في تفسيرها منها ما ذهب إليه الزمخشري حيث قال:
وقوله: خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أى: يخلدون في عذاب النار الأبد كله إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من
ومنها: ما نقل عن ابن عباس أنه- تعالى- استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يدخلون في الإسلام، وهو مبنى على أن الاستثناء. ليس من المحكي وأن «ما» بمعنى «من».
ومنها: أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم. فهم فيها إلا الوقت الذي يخرجون منها متجهين إلى الجنة حيث تقفل في وجوههم ليكون ذلك أعظم في حسرتهم.
ومنها: أن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار. أى: إلا وقت مشيئة الله فناءها وزوال عذابها. وهي مسألة خلافية بين العلماء.
وهناك أقوال أخرى لا مجال لذكرها. والقول الذي نرجحه ونعتمده هو الذي سقناه أولا كما أشرنا إلى ذلك من قبل لأنه قول المحققين من العلماء ولأنه يتناسب مع ما يليق بذات الله من كمال قدرته. ونفاذ إرادته.
وجملة «إن ربك حكيم عليم» تسلية لبيان ما تقتضيه حكمته وإرادته. أى: إن ربك حكيم في التعذيب والإثابة وفي كل أفعاله. عليم بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من جزاء.
ثم يعقب القرآن على هذا الاستمتاع المتبادل بين الضالين والمضلين من الجن والإنس فيقول: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
ونولي: من الولاية بمعنى القرابة، والنصرة، والمحالفة وما إلى ذلك من أنواع الاتصال.
أى: ومثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم لما بينهم من التناسب والمشاكلة، نولي بعض الظالمين من الإنس بعضا آخر منهم بأن نجعلهم يزينون لهم السيئات، ويؤثرون فيهم بالإغواء. بسبب ما كانوا مستمرين على اكتسابه من الكفر والمعاصي.
قال الإمام الرازي: «لأن الجنسية علة الضم» فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث. وكذا القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية. ثم قال: والآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله- تعالى- يسلط عليهم
وقال ابن كثير: معنى الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم» «٢».
وقال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم. فقف وانظر فيه متعجبا.
فالآية الكريمة تصور لنا مشهدا واقعا في حياة الأمم، وهو أن الظالمين من الناس يوالى بعضهم بعضا، ويناصر بعضهم بعضا، بسبب ما بينهم من صلات في المشارب والأهداف والطباع وأن الأمة التي لا تتمسك بمبدأ العدالة بل تسودها روح الظلم والاعتداء يكون حكامها عادة على شاكلتها لأن الحاكم الظالم لا يستطيع البقاء عادة في مجتمع أفراده تسودهم العدالة والشجاعة في الحق.
والآية في الوقت ذاته تهدد الظالمين، وتتوعدهم بسوء المصير إذا لم يقلعوا عن ظلمهم، ويثوبوا إلى رشدهم، ويقيدوا أنفسهم بمبدأ العدالة ورعاية الحق ثم بعد هذا التعقيب بتلك الآية التي بينت طبيعة الأشرار يعود القرآن إلى سؤال الإنس والجن فيقول: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
؟.
قال الإمام ابن جرير: وهذا خبر من الله- جل ثناؤه- عما هو قائل يوم القيامة، لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن، يخبر أنه- تعالى- يقول لهم: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
يقول: يخبرونكم بما أوحى إليهم من تنبيهى إياكم على مواضع حججي، وتعريفى لكم أدلتى على توحيدي وتصديقى أنبيائى والعمل بأمرى والانتهاء إلى حدودي، يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يقول: يحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وعقابي على معصيتكم إياى فتنتهوا عن معاصى، وهذا من الله- تعالى- تقريع لهم وتوبيخ على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي ومعناه، قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيد الله، فلم تقبلوا ولم تتذكروا» «٣».
وقوله سُلٌ مِنْكُمْ
استدل به من قال إن الله قد أرسل رسلا من الجن إلى أبناء جنسهم إلا أن جمهور العلماء يخالفون ذلك ويرون أن الرسل جميعا من الإنس، وإنما قيل: رسل منكم
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٧.
(٣) تفسير ابن جرير ج ٨ ص ٢٧.
قال أبو السعود: والمعنى: ألم يأتكم رسل من جملتكم: لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا بل من الإنس خاصة، وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم، والإيذان بتقاربهما ذاتا، واتحادهما تكليفا وخطابا. كأنهما من جنس واحد، ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر، وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، وقد ثبت أن الجن استمعوا إلى النبي ﷺ وأنذروا بما سمعوه. أقوامهم، إذ حكى القرآن عنهم أنهم وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ وأنهم قالوا لهم: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً «١».
وقال صاحب المنار، وجملة القول في الخلاف أنه ليس في المسألة نص قطعى، والظواهر التي استدل بها الجمهور يحتمل أن تكون خاصة برسل الإنس، لأن الكلام معهم، وليست أقوى من ظاهر ما استدل به من قال إن الرسل من الفريقين. والجن عالم غيبي لا نعرف عنه ألا ما ورد به النص. وقد دل القرآن وكذا السنة على رسالة نبينا محمد ﷺ إليهم، فنحن نؤمن بما ورد ونفوض الأمر فيما عدا ذلك إلى الله- تعالى-» «٢».
ثم يحكى القرآن أنهم قد شهدوا على أنفسهم بالكفر فقال: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
أن الرسل قد بشرونا وأنذرونا، ولم يقصروا في تبليغنا وإرشادنا.
وقوله- سبحانه- غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
أى غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه وحب الرياسة، فاستحبوا العمى على الهدى، وباعوا آخرتهم بدنياهم. شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
أى: شهدوا على أنفسهم عند ما وقفوا بين يدي الله للحساب في الآخرة أنهم كانوا كافرين في الدنيا بما جاءتهم به الرسل.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما لهم مقرين في هذه الآية- على أنفسهم بالكفر- جاحدين في قوله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ قلت. يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة فتارة يقرون واخرى يجحدون، وذلك يدل على شدة خوفهم واضطراب أحوالهم، فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه. أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قلت: لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت:
الأولى: حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون.
(٢) تفسير المنار ج ٨ ص ١٠٧.
هذا، وإنك لتقرأ هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات التي تصور مشهدا من مشاهد يوم القيامة فيخيل إليك أنك أمام مشهد حاضر أمام عينيك ترى فيه الظالمين وحسراتهم، والضالين والمضلين وهم يتبادلون التهم وذلك من إعجاز القرآن الكريم وأنه من عند الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
ثم يحدثنا القرآن بعد ذلك عن عدالة الله في أحكامه، وعن سعة غناه ورحمته، وعن حسن عاقبة المؤمنين، وسوء مصير الكافرين فيقول:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣١ الى ١٣٥]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
قال الآلوسى: «ذلك» إشارة إلى إتيان الرسل، أو السؤال المفهوم من لَمْ يَأْتِكُمْ
، أو ما قص من أمرهم، أعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أى: الأمر ذلك، أو مبتدأ خبره مقدر، أو خبره قوله- سبحانه- أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى
وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ ذلك، أو فعلنا ذلك.
وفي قوله بِظُلْمٍ متعلق بمهلك أى: بسبب ظلم. أو بمحذوف وقع حالا من القرى أى:
ملتبسة بظلم... » «١».
والمعنى: ذلك الذي ذكرناه لك يا محمد من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله، سببه أن ربك لم يكن من شأنه ولا من سننه في تربية خلقه أن يهلك القرى من أجل أى ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه، وينهوا عنه بواسطة الأنبياء والمرسلين، فربك لا يظلم، ولا يعذب أحدا وهو غافل لم ينذر قال- تعالى- وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وقال- تعالى- وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ.
فالآية الكريمة صريحة في أن- سبحانه- قد أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتبيين الآيات، وإلزام الحجة رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
ثم بين- سبحانه- أن الدرجات إنما هي على حسب الأعمال فقال- تعالى- وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أى: ولكل من المكلفين جنا كانوا أو إنسا درجات أى منازل ومراتب مِمَّا عَمِلُوا أى: من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم إذ الجزاء من جنس العمل والعمل متروك للناس يتسابقون فيه، والجزاء ينتظرهم عادلا لا ظلم فيه.
وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بل هو عالم بأعمالهم ومحصيها عليهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ثم صرح- سبحانه- بغناه عن كل عمل وعن كل عامل، وبأنه هو صاحب الرحمة الواسعة، والقدرة النافذة فقال: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.
أى: وربك يا محمد هو الغنى عن جميع خلقه من كل الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، وهو وحده صاحب الرحمة الواسعة العامة التي شملت جميع خلقه.
والجملة الكريمة تفيد الحصر. وقوله: وربك مبتدأ، والغنى خبره، وقوله ذُو الرَّحْمَةِ خبر بعد خبر. وجوز أن يكون هو الخبر و «الغنى» صفة لربك.
وفي هذه الجملة تنبيه إلى أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل وغيره، ليس لنفعه- سبحانه-،
والكاف في قوله: كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ في موضع نصب والمعنى: إن الله- تعالى- قادر على أن يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافه مثل ما أنشأكم من ذرية قوم آخرين. ونظيره قوله- تعالى- إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً وقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ.
ثم بين- سبحانه- أن أمر البعث والحساب كائن لا ريب فيه فقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.
أى: «إن ما توعدون من أمر القيامة والحساب، والعقاب والثواب لواقع لا شك فيه، وما أنتم بمعجزين، أى: بجاعليه عاجزا عنكم، غير قادر على إدراككم. من أعجزه بمعنى جعله عاجزا. أو:
بفائتين العذاب، من أعجزه الأمر. إذا فاته. أى لا مهرب لكم من عذابنا بل هو مدرككم لا محالة.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه ﷺ أن ينفض يده من هؤلاء المشركين، وإن يتركهم لأنفسهم. وأن ينذرهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم فقال- تعالى- قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المصرين على كفرهم اعملوا على غاية تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم. مصدر مكن- ككرم- مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن وأقواه، أو المعنى اعملوا على جهتكم واثبتوا على كفركم وحالتكم التي أنتم عليها من قولهم. مكان ومكانة كمقام ومقامة.
قال الزمخشري: يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة: مكانك يا فلان أى: أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.
والأمر للتهديد والوعيد، وإظهار ما هو عليه ﷺ في غاية التصلب في الدين، ونهاية الوثوق بأمره، وعدم المبالاة بأعدائه أصلا.
وقوله إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أى: إنى عامل على مكانتى، ثابت على الإسلام لا أتزحزح عن الدعوة إليه، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدنيا.
وقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ بجانب إفادته للإنذار، فيه إنصاف في المقال، وحسن أدب في
قال الجمل- وسوف لتأكيد مضمون الجملة، وهذه الجملة. تعليل لما قبلها والعلم عرفان، ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء وخبرها جملة تكون، وهي مع خبرها في محل نصب لسدها مسد مفعول تعلمون. أى: فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها، ويجوز أن تكون موصولة فيكون محلها النصب على أنها مفعول لتعلمون. أى: فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار» «١».
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى- إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أى: لن يظفروا بمطلوبهم بسبب ظلمهم، وقيل المراد بالظلم هنا الكفر، ووضع الظلم موضع الكفر، إيذانا بأن امتناع الفلاح يترتب على أى فرد كان من أفراد الظلم، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده.
قال ابن كثير، وقد أنجز الله موعوده لرسوله ﷺ فمكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب. ، وكل ذلك في حياته، ثم فتحت الأقاليم والأمصار بعد وفاته. قال- تعالى- إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «٢».
ثم تبدأ السورة بعد ذلك حديثا مستفيضا عن أوهام المشركين وجهالاتهم التي تتعلق بمآكلهم، ومشاربهم، ونذورهم، وذبائحهم، وعاداتهم البالية، وتقاليدهم الموروثة، فتناقشهم في كل ذلك مناقشة منطقية حكيمة، وترد عليهم فيما أحلوه وحرموه بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير، وترشدهم إلى الطريق السليم الذي من الواجب عليهم أن يسلكوه. استمع إلى سورة الأنعام وهي تحكى كل ذلك في بضع عشرة آية بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٧٩.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٦ الى ١٤٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)لقد حكت هذه الآيات الكريمة بعض الرذائل التي كانت متفشية في المجتمع الجاهلى، أما الرذيلة الأولى فملخصها أنهم كانوا يجعلون من زروعهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيبا لله ونصيبا لأوثانهم، فيشركونها في أموالهم فما كان لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين، وما كان للأوثان أنفقوه عليها وعلى سدنتها فإذا رأوا ما جعلوه لله أزكى بدلوه بما للأوثان، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان أزكى تركوه لها.
«ذرأ» بمعنى خلق يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا أى: خلقهم وأوجدهم وقيل: الذرأ الخلق على وجه الاختراع.
أى: وجعل هؤلاء المشركون مما خلقه الله- تعالى- من الزروع والأنعام نصيبا لله يعطونه للمساكين وللضيوف وغيرهم، وجعلوا لأصنامهم نصيبا آخر يقدمونه لسدنتها، وإنما لم يذكر النصيب الذي جعلوه لأصنامهم اكتفاء بدلالة ما بعده وهو قوله: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا.
أى: فقالوا في القسم الأول: هذا لله نتقرب به إليه.
وقالوا في الثاني: وهذا لشركائنا نتوسل به إليها.
وقوله- تعالى- في القسم الأول هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أى: بتقولهم ووضعهم الذي لا علم لهم به ولا هدى.
قال الجمل: ومن المعلوم أن الزعم هو الكذب، وإنما نسبوا للكذب في هذه المقالة مع أن كل شيء لله، لأن هذا الجعل لم يأمرهم به الله وإنما هو مجرد اختراع منهم «١».
وقال أبو السعود: وإنما قيد الأول بالزعم للتنبيه على أنه في الحقيقة جعل لله- تعالى- غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله- لا لما قيل من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه، فإن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني، ويجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على معنى أن قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه- تعالى- به «٢».
ثم فصل- سبحانه- ما كانوا يعملونه بالنسبة للقسمة فقال: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ.
أى: فما كان من هذه الزروع والأنعام من القسم الذي يتقرب به إلى شركائهم، فإنهم يحرمون الضيفان والمساكين منه ولا يصل إلى الله منه شيء، وما كان منها من القسم الذي يتقرب به إلى الله عن طريق إكرام الضيف والصدقة، فإنهم يجورون عليه ويأخذون منه ما يعطونه لسدنة الأصنام وخدامها.
(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ١٩٣.
وقد عقب القرآن على هذه القسمة الجائرة بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ أى: ساء وقبح حكمهم وقسمتهم حيث آثروا مخلوقا عاجزا عن كل شيء، على خالق قادر على كل شيء، فهم بجانب عملهم الفاسد من أساسه لم يعدلوا في القسمة.
هذه هي الرذيلة الأولى من رذائلهم، أما الرذيلة الثانية فهي أن كثيرا منهم كانوا يقتلون أولادهم، ويئدون بناتهم لأسباب لا تمت إلى العقل السليم بصلة وقد حكى القرآن ذلك في قوله.
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ.
أى: ومثل ذلك التزيين في قسمة الزروع والأنعام بين الله والأوثان، زين للمشركين شركاؤهم من الشياطين أو السدنة قتل بناتهم خشية العار أو الفقر فأطاعوهم فيما أمروهم به من المعاصي والآثام.
والتزيين: التحسين، فمعنى تزيينهم لهم أنهم حسنوا لهم هذه الأفعال القبيحة، وحضوهم على فعلها.
سموا شركاء لأنهم أطاعوهم فيما امروهم به من قتل الأولاد، فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم، أو سموا شركاء لأنهم كانوا يشاركون الكفار في أموالهم التي منها الحرث والأنعام.
وشُرَكاؤُهُمْ فاعل زَيَّنَ وأخر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدم واهتماما به، لأنه موضع التعجب.
وقوله: لِيُرْدُوهُمْ أى ليهلكوهم من الردى وهو الهلاك. يقال ردى- كرضى- أى:
هلك.
وقوله: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ معطوف على ليردوهم، أى: ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل- عليه السلام- حتى زالوا عنه إلى الشرك.
ويلبسوا مأخوذ من اللبس بمعنى الخلط بين الأشياء التي يشبه بعضها بعضا وأصله الستر بالثوب، ومنه اللباس، ويستعمل في المعاني فيقال: لبس الحق بالباطل يلبسه ستره به. ولبست عليه الأمر. خلطته عليه وجعلته مشتبها حتى لا يعرف جهته، فأنت ترى أن شركاءهم قد حسنوا لهم القبيح من أجل أمرين: إهلاكهم وإدخال الشبهة عليهم في دينهم عن طريق
أى: ولو شاء الله ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بسبب ما يفعلونه، بل دعهم وما يفترونه من الكذب، فإنهم لسوء استعدادهم آثروا الضلالة على الهداية.
والفاء في قوله فَذَرْهُمْ فصيحة أى: إذا كان ما قصصناه عليك بمشيئة الله، فدعهم وافتراءهم ولا تبال بهم، فإن فيما يشاؤه الله حكما بالغة.
ثم حكى القرآن رذيلة ثالثة من رذائلهم المتعددة، وهي أن أوهام الجاهلية وضلالاتها ساقتهم إلى عزل قسم من أموالهم لتكون حكرا على آلهتهم بحيث لا ينتفع بها أحد سوى سدنتها، ثم عمدوا إلى قسم من الأنعام فحرموا ركوبها وعمدوا إلى قسم آخر فحرموا أن يذكر اسم الله عليها عند ذبحها أو ركوبها إلى آخر تلك الأوهام المفتراة.
استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك فيقول: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ.
حجر: بمعنى المحجور أى: الممنوع من التصرف فيه، ومنه قيل للعقل حجر لكون الإنسان في منع منه مما تدعوه إليه نفسه من اثام.
أى: ومن بين أوهام المشركين وضلالاتهم أنهم يقتطعون بعض أنعامهم وأقواتهم من الحبوب وغيرها ويقولون: هذه الأنعام وتلك الزروع محجورة علينا أى: محرمة ممنوعة، لا يأكل منها إلا من نشاء، يعنون: خدم الأوثان والرجال دون النساء أى: لا يأكل منها إلا خدم الأوثان والرجال فقط.
وقوله: بِزَعْمِهِمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل قالوا. أى: قالوا ذلك متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة.
وقوله: وَقالُوا هذِهِ الإشارة إلى ما جعلوه لآلهتم، والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله:
أَنْعامٌ وَحَرْثٌ وقوله حِجْرٌ صفة لأنعام وحرث، وقوله لا يَطْعَمُها صفة ثانية لأنعام وحرث.
هذا هو النوع الأول الذي ذكرته الآية من أنواع ضلالاتهم.
أما النوع الثاني فهو قوله- تعالى- وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها أى: وقالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم: هذه أنعام حرمت ظهورها فلا تركب ولا يحمل عليها، يعنون بها
فقوله وَأَنْعامٌ خبر لمبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله هذِهِ أَنْعامٌ.
وأما النوع الثالث من أنواع اختراعاتهم الذي ذكرته الآية فهو قوله: وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا.
أى: وقالوا أيضا هذه أنعام لا يذكر اسم الله عليها عند الذبح، وإنما يذكر عليها أسماء الأصنام لأنها ذبحت من أجلها.
وقد عقب- سبحانه- على تلك الأقسام الثلاثة الباطلة بقوله: افْتِراءً عَلَيْهِ أى فعلوا ما فعلوا من هذه الأباطيل وقالوا ما قالوا من تلك المزاعم من أجل الافتراء على الله وعلى دينه، فإنه- سبحانه- لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم.
ثم ختمت الآية بهذا التهديد الشديد حيث قال: - سبحانه- سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أى: سيجزيهم الجزاء الشديد الأليم بسبب هذا الافتراء القبيح.
ثم يحكى القرآن الرذيلة الرابعة من رذائلهم وملخصها: أنهم زعموا أن الأجنة التي في بطون هذه الأنعام المحرمة، ما ولد منها حيا فهو حلال للرجال ومحرم على النساء، وما ولد ميتا اشترك في أكله الرجال والنساء.
استمع إلى القرآن وهو يفضح زعمهم هذا فيقول: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ومرادهم بما في بطون هذه الأنعام أجنة البحائر والسوائب.
أى: ومن فنون كفرهم أنهم قالوا ما في بطون هذه الأنعام المحرمة إذا نزل منها حيا فأكله حلال للرجال دون والنساء، وإذا نزل ميتا فأكله حلال للرجال والنساء على السواء.
وفي رواية العوفى عن ابن عباس أن المراد بما في بطونها اللبن، فقد كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء.
قال بعضهم: «ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله «خالصة» فيه وجوه:
والوصيلة: اسم للناقة التي تلد أول ما تلد أنثى ثم تثنى بأنثى كانوا يتركونها للأصنام والحام: اسم للفحل إذا لقح ولد ولده قالوا حمى ظهره فلا يركب ويترك حتى يموت.
وثانيا: أن المبتدأ وهو ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ مذكر اللفظ مؤنث المعنى، لأن المراد به الأجنة فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى.
وثالثها: أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم: عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخصة نعمة.
ورابعها: أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن في الظرف وخبر المبتدأ لِذُكُورِنا «١».
وقوله: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تهديد لهم أى: سيجزيهم بما هم أهله من العذاب المهين جزاء وصفهم أو بسبب وصفهم الكذب على الله في أمر التحليل والتحريم على سبيل التحكم والتهجم بالباطل على شرعه. إنه- سبحانه- حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه، عليم بأعمال عباده من خير أو شر وسيجازيهم عليها.
قال الآلوسى: ونصب وَصْفَهُمْ- على ما ذهب إليه الزجاج- لوقوعه موقع مصدر سَيَجْزِيهِمْ فالكلام على تقدير مضاف. أى: جزاء وصفهم. وقيل: التقدير. سيجزيهم العقاب بوصفهم أى: بسببه فلما سقطت الباء نصب وصفهم.
ثم قال: وهذا كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه، فإنهم يقولون، كلامه يصف الكذب إذا كذب، وعينه تصف السحر، أى ساحرة، وقد يصف الرشاقة، بمعنى رشيق. مبالغة، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له» «٢».
وإلى هنا تكون الآيات الأربعة التي بدأت بقوله- تعالى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً.. إلخ. قد قصت علينا أربع رذائل من أفعال المشركين وأقوالهم.
وإن العاقل ليعجب وهو يستعرض هذه الضلالات- التي حكتها الآيات. يعجب لما تحملوه في سبيل ضلالاتهم من أعباء مادية وخسائر وتضحيات، يعجب للعقيدة الفاسدة وكيف تكلف أصحابها الكثير ومع ذلك فهم مصرون على اعتناقها، وعلى التقيد بأغلالها، وأوهامها، وتبعاتها.
لكأن القرآن وهو يحكى تلك الرذائل وما تحمله أصحابها في سبيلها يقول لأتباعه- من بين ما يقول- إذا كان أصحاب العقائد الفاسدة قد ضحوا حتى بفلذات أكبادهم إرضاء
(٢) تفسير الآلوسى ج ٨ ص ٢٦.
هذا وقد عقب القرآن بعد إيراده لتلك الرذائل بقوله.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ.
قال الإمام ابن كثير: قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم، وضيقوا على أنفسهم في أموالهم، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم. وأما في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم» «١».
والتعبير بخسر بدون ذكر مفعول معين يقع عليه الفعل للإشارة إلى أن خسارتهم خسارة مطلقة من أى تحديد، فهي خسارة دينية وخسارة دنيوية- كما قال ابن كثير.
وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد. أى: فعلوا ذلك كثيرا، إذ التضعيف يفيد التكثير.
وسَفَهاً منصوب على أنه علة لقتلوا أى: لخفة عقولهم وجهلهم قتلوا أولادهم. أو منصوب على أنه حال من الفاعل في قتلوا وهو ضمير الجماعة.
والسفه: خفة في النفس لنقصان العقل في أمور الدنيا أو الدين.
وقوله وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ أى من البحائر والسوائب ونحوهما، وهو معطوف على قَتَلُوا.
ثم بين- سبحانه- نتيجة ذلك القتل والتحريم فقال: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أى: قد ضلوا عن الصراط المستقيم بأقوالهم وأفعالهم القبيحة وما كانوا مهتدين إلى الحق والصواب.
قال الشهاب، وفي قوله وَما كانُوا مُهْتَدِينَ بعد قوله قَدْ ضَلُّوا مبالغة في نفى الهداية عنهم، لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال بعد أن لم يكن. فلذا أردف بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال، وإنما ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض» «٢».
روى البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ «٣».
(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٢٥٢٤.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨١.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤١ الى ١٤٤]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
أنشأ: أى أوجد وخلق. والجنات: البساتين والكروم الملتفة الأشجار.
ومعروشات: أصل العرش في اللغة شيء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش، يقال عرشت الكرم أعرشه عرشا من بابى- ضرب ونصر-، وعرشته تعريشا إذا جعلته كهيئة السقف. فالمادة تدل على الرفع ومنها عرش الملك. قال ابن عباس: المعروشات. ما انبسط على الأرض وانبسط من الزروع مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه، كالكرم والبطيخ والقرع ونحو ذلك. وغير المعروشات ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل والشجر.
وقيل المعروشات وغير المعروشات كلاهما في الكرم خاصة، لأن منه ما يعرش ومنه ما لا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطا.
وقيل المعروشات ما غرسه الناس في البساتين واهتموا به فعرشوه من كرم أو غيره، وغير المعروشات. هو ما أنبته الله في البراري والجبال من كرم وشجر.
أى: وهو- سبحانه- الذي أوجد لكم هذه البساتين المختلفة التي منها المرفوعات عن الأرض، ومنها غير المرفوعات عنها، فخصوه وحده بالعبادة والخضوع.
وقوله: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ عطف على جنات، أى: أنشأ جنات، وأنشأ النخل والزرع، والمراد بالزرع جميع الحبوب التي يقتات بها.
وإنما أفردهما مع أنهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات.
ومُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أى، ثمره وحبه في اللون والطعم والحجم والرائحة.
والضمير في أكله راجع إلى كل واحد منهما، أى: النخل والزرع والمراد بالأكل المأكول أى، مختلف المأكول في كل منهما في الهيئة والطعم.
قال الجمل: وجملة. مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ حال مقدرة، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا، فهو مثل قولهم: مررت برجل معه صقر صائدا له غدا».
وقوله: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أى: وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه في الطعم أو متشابها بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة «وغير متشابه في بعضها.
قال القرطبي: وفيه أدلة ثلاثة.
أحدها: ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير.
الثالث: على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها، وثمر خارج من صفته: الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجنى الجديد، والطعم اللذيذ، فأين الطبائع وأجناسها وأين الفلاسفة وأسسها، هل هي في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب. كلا، لا يتم ذلك في العقول إلا لحى قادر عالم مريد، فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية.
ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب. وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم» «١».
ثم ذكر- سبحانه- المقصود من خلق هذه الأشياء فقال: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ أى:
كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التي أنشأناها لكم، شاكرين الله على ذلك. والأمر للإباحة. وفائدة التقييد بقوله إِذا أَثْمَرَ إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك.
وقيل فائدته: الترخيص للمالك في الأكل من قبل أداء حق الله- تعالى- لأنه لما أوجب الحق فيه ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شيء منه لمكان شركة المساكين له فيه، فأباح الله له هذا الأكل.
ثم أمرهم- سبحانه- بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ أى: كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم، وأدوا حق الله فيه للفقراء والمحتاجين يوم حصاده.
ويرى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير.
وأصحاب هذا الرأى فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة.
وهم يرون أن هذا الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند حصاده.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح، لأنه لا دليل على أن هذه الآية مدنية ولأن فرضية الزكاة لا تمنع إعطاء الصدقات، وفي الأمر بإيتاء هذا الحق يوم الحصاد، مبالغة في العزم على المبادرة إليه.
والمعنى: اعزموا على إيتاء هذا الحق واقصدوه، واهتموا به يوم الحصاد حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.
وقيل: إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفا على أصحاب الزروع حتى لا يحسب عليهم ما أكل قبله.
ثم ختمت الآية بالنهى عن الإسراف فقالت: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. أى لا تسرفوا في أكلكم قبل الحصاد ولا في صدقاتكم ولا في أى شأن من شئونكم، لأنه- سبحانه- لا يحب المسرفين.
وقال ابن جريج، نزلت في ثابت بن قيس، قطع نخلا له فقال. لا يأتينى اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فنزلت هذه الآية.
وقال عطاء، نهوا عن السرف في كل شيء.
وقال إياس بن معاوية، ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.
ثم بين- سبحانه- حال الأنعام. وأبطل ما تقولوه عليه في شأنها بالتحريم والتحليل فقال.
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً.
الحمولة، هي الأنعام الكبار الصالحة للحمل. والفرش هي صغارها الدانية من الأرض، مثل الفرش المفروش عليها.
وقيل الحمولة كل ما حمل عليه من إبل وبقر وبغل وحمار. والفرش ما اتخذ من صوفه ووبره وشعره ما يفرش.
أى: وأنشأ لكم- سبحانه- من الأنعام حمولة وهي ما تحملون عليه أثقالكم، كما أنشأ لكم منها فرشا وهي صغارها التي تفرش للذبائح من الضأن والمعز والإبل والبقر.
والجملة معطوفة على جنات. والجهة الجامعة بينهما إباحة الانتفاع بهما.
وقوله كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
أى: كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار والزروع والأنعام وغيرها، وانتفعوا منها بسائر أنواع
ثم بين القرآن بعد ذلك بعض ما كان عليه الجاهليون من جهالات، وناقشهم فيما أحلوه وحرموه مناقشة منطقية حكيمة فقال:
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.
وقوله- سبحانه- ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حَمُولَةً وَفَرْشاً بناء على كونهما قسمين لجميع الأنعام على الراجح، وقيل أن لفظ ثمانية منصوب بفعل مضمر أى: وأنشأ لكم ثمانية أزواج، أو هو مفعول به لفعل كُلُوا وقوله وَلا تَتَّبِعُوا... إلخ» معترض بينهما.
والزوج يطلق على المفرد إذا كان معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل، وكذا يطلق على الاثنين فهو مشترك والمراد هنا الإطلاق الأول.
والمعنى: ثمانية أصناف خلقها الله لكم، لتنتفعوا بها أكلا وركوبا وحملا وحلبا وغير ذلك.
ثم فصل الله- تعالى- هذه الأزواج الثمانية فقال: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ أى. من الضأن زوجين اثنين هما الكبش والنعجة، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ أى. ومن المعز زوجين اثنين هما التيس والعنز.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه ﷺ أن يبكتهم على جهلهم فقال قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ.
أى: قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ وإلزامهم الحجة. أحرم الله الذكرين وحدهما من الضأن والمعز أم الأنثيين وحدهما، أم الأجنة التي اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء أكانت تلك الأجنة ذكورا أم إناثا؟
وقوله: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أى: أخبرونى بأمر معلوم من جهته- تعالى- جاءت به الأنبياء، يدل على أنه- سبحانه- قد حرم شيئا مما حرمتموه إن كنتم صادقين في دعوى التحريم.
والأمر هنا للتعجيز لأنهم لا دليل عندهم من العقل أو النقل على صحة تحريمهم لبعض الأنعام دون بعض.
وقوله- تعالى- وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ عطف على قوله مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ أى: وأنشأ لكم
قُلْ إفحاما في أمر هذين النوعين أيضا آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ الله- تعالى- منهما، أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من ذينك النوعين؟
قال الآلوسى: والمعنى- كما قال كثير من أجلة العلماء: إنكار ان الله- تعالى- حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة. وأولادها كيفما كانت تارة أخرى، مسندين ذلك كله إلى الله- سبحانه-.
ثم قال: وإنما لم يل المنكر- وهو التحريم- الهمزة، والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ.
وبيانه- على ما قاله السكاكي- أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة، فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني. كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد تم، وطالبه ببيان محله كي يتبين كذبه، ويفتضح عند الحاجة.
وإنما لم يورد- سبحانه- الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة، بأن يقال: قل ءآلذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث، لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت» «١».
وقوله- تعالى- أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا تكرير للإفحام والتبكيت.
أى: أكنتم حاضرين حين وصاكم الله وأمركم بهذا التحريم؟ لا، ما كنتم حاضرين فمن أين لكم هذه الأحكام الفاسدة؟.
فالجملة الكريمة تبكتهم غاية التبكيت على جهالاتهم وافترائهم الكذب على الله، والاستفهام في قوله- تعالى- فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ للنفي والإنكار.
أى: لا أحد أشد ظلما من هؤلاء المشركين الذين يفترون على الله الكذب بنسبتهم إليه- سبحانه- تحريم ما لم يحرمه لكي يضلوا الناس عن الطريق القويم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفترى عالم بعدم الصدور، إيذانا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات، لأنه إذا كان المفترى بغير علم يعد ظالما فكيف بمن يفترى الكذب وهو عالم بذلك.
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أى لا يهديهم إلى طريق الحق بسبب ظلمهم، وإيثارهم طريق الغي على طريق الرشد.
هذا، والمتأمل في هاتين الآيتين الكريمتين يراهما قد ردتا على المشركين بأسلوب له- مع سهولته وتأثيره- الطابع المنطقي الذي يزيد المؤمنين إيمانا بصحة هذا الدين، وصدق هذا القرآن، ويقطع على المعارضين والملحدين كل حجة وطريق.
وتقرير ذلك- كما قال بعض العلماء- أن تطبق قاعدة (السير والتقسيم) فيقال، إن الله- تعالى- خلق من كل صنف من المذكورات نوعين: ذكرا وأنثى، وأنتم أيها المشركون حرمتم بعض هذه الأنعام، فلا يخلو الأمر في هذا التحريم من:
١- أن يكون تحريما معللا بعلة.
٢- أو أن يكون تحريما تعبديا ملقى من الله- تعالى-.
ولا جائز أن يكون تحريما معللا، لأن العلة إن كانت هي (الذكورة) فأنتم أبحتم بعض الذكور وحرمتم بعضا، فلم تجعلوا الأمر في الذكورة مطردا وإن كانت العلة هي (الأنوثة) فكذلك الأمر: حيث حرمتم بعض الإناث وحللتم بعضا، فلم تطرد العلة، ومثل هذا يقال إذا جعلت العلة هي اشتمال الرحم من الأنثى على النوعين، لأنها حينئذ تقتضي أن يكون الكل حراما فلماذا أحلوا بعضه.
وهذا كله يؤخذ من قوله- تعالى- قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ.
فبطل إذن أن يكون التحريم معللا.
ولا جائز أن يكون التحريم تعبديا لا يدرى له علة، أى: مأخوذ عن الله، لأن الأخذ عن الله إما بشهادة توصيته بذلك وسماع حكمه به، وقد أنكر هذا عليهم بقوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا وإما أن يكون برسول أبلغهم ذلك، وهم لم يأتهم رسول بذلك، وفي هذا يقول- جل شأنه متحديا لهم نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله ﷺ بعد إلزام المشركين وتبكيتهم، وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء محض- بعد كل ذلك أمره بأن يبين لهم ما حرمه الله عليهم فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
أى: قُلْ يا محمد لهؤلاء المفترين على الله الكذب في أمر التحليل والتحريم وغيرهما لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ.
أى: لا أجد فيما أوحاه الله إلى من القرآن طعاما محرما على آكل يريد أن يأكله من ذكر أو أنثى ردا على قولهم مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا.
والجملة الكريمة تفيد أن طريق التحريم والتحليل إنما هو الوحى وليس مجرد الهوى والتشهى، وأن الأصل في الأشياء الحل إلا أن يرد نص بالتحريم.
وقوله يَطْعَمُهُ في موضع الصفة لطاعم جيء به قطعا للمجاز كما في قوله وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ.
ثم بين- سبحانه- ما حرمه فقال: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً، أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً، أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.
أى: لا أجد فيما أوحاه الله إلى الآن شيئا محرما من المطاعم إلا أن يكون هذا الشيء أو ذلك الطعام مَيْتَةً أى: بهيمة ماتت حتف أنفها.
أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أى: دما مصبوبا سائلا كالدم الذي يخرج من المذبوح عند ذبحه، لا الدم الجامد كالكبد والطحال، والسفح: الصب والسيلان.
أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ أى اللحم لأنه المحدث عنه، أو الخنزير لأنه الأقرب أو جميع ما ذكر من الميتة والدم ولحم الخنزير.
رِجْسٌ أى: قذر خبيث تعافه الطباع السليمة وضار بالأبدان أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أى: خروجا عن الدين، لكونه عند ذبحه قد ذكر عليه غير اسمه- تعالى- من صنم أو وثن أو طاغوت أو نحو ذلك.
والإهلال: رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقا، ومنه إهلال الصبى، والإهلال بالحج، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها- كاللات والعزى- ورفعوا بها أصواتهم، وسمى ذلك إهلالا.
وإنما سمى ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فسقا، لتوغله في باب الفسق، والخروج عن الشريعة الصحيحة، ومنه قوله- تعالى- وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ.
ثم بين- سبحانه- حكم المضطر فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ:
أى: فمن أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر، بأن ألجئ بإكراه أو جوع مهلك- مع فقد الحلال- إلى أكل شيء من هذه المحرمات التي كانوا في الجاهلية يستحلونها، فلا إثم عليه في أكلها.
واضطر: مأخوذ من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء، يقال: اضطره إليه، أى أحوجه والجأه فاضطر.
ثم قيد- سبحانه- حالة الاضطرار بقوله: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ.
أو حالة كونه- أيضا- غير عاد فيما يأكل، أى: غير متجاوز سد الجوعة فلا إثم عليه في هذه الأحوال.
وباغ: مأخوذ من البغاء وهو الطلب تقول: بغيته بغاء وبغى بغية وبغية أى: طلبته.
وعاد: اسم فاعل بمعنى متعد، تقول: فلان عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غيره فهو عاد، ومنه قوله- تعالى- بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ.
وقوله فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى: فإن ربك واسع المغفرة والرحمة لا يؤاخذ المضطرين، ولا يكلف الناس بما فوق طاقتهم، وإنما هو رءوف رحيم بهم يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر.
والجملة الكريمة جواب الشرط باعتبار لازم المعنى وهو عدم المؤاخذة. وقيل جواب الشرط محذوف: أى فمن اضطر، فلا مؤاخذة عليه وهذه الجملة تعليل له.
هذا، والآية الكريمة ليس المقصود منها حصر المحرمات في هذه الأربعة وإنما المقصود منها الرد على مزاعم المشركين فيما حرموه بغير علم من البحائر والسوائب وغيرها.
قال ابن كثير: الغرض من سياق هذه الآية الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك. فأمر- تعالى- رسوله أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم، وأن الذي حرمه هو الميتة وما ذكر معها وما عدا ذلك فلم يحرم، وإنما هو عفو مسكوت عنه. فكيف تزعمون أنه حرام؟! ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله- تعالى-؟! وعلى هذا فلا ينفى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا. كما جاء النهى عن الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير» «١».
وقال القرطبي: والآية مكية، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وغير ذلك، وحرم رسول الله ﷺ بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية وتأويلها على أقوال:
الأول: ما أشرنا إليه من أن هذه الآية مكية وكل محرم حرمه رسول الله أو جاء في الكتاب
والخلاصة: أن الآية الكريمة ليس المقصود منها حصر المحرمات في هذه الأربعة وإنما المقصود منها الرد على مزاعم المشركين، وذلك أن الكفار. كما قال الإمام الشافعى- لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرمه الله وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال- سبحانه- لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه، نازلا منزلة من يقول:
لا تأكل اليوم حلاوة. فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض المضادة لا للنفي والإثبات على الحقيقة.
فهو- تعالى- لم يقصد حل ما وراء الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل.
قال امام الحرمين: وهذا في غاية الحسن، ولولا سبق الشافعى إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك- رضى الله عنه- في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية» «٢».
وفي حكم هذه الآية وتأويلها أقوال أخرى بسطها العلماء فارجع إليها إذا شئت «٣».
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما حرمه الله على اليهود بسبب ظلمهم وبغيهم فقال- تعالى- وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ.
فقوله- تعالى- وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا بيان لما حرمه الله- تعالى- على بنى إسرائيل جزاء ظلمهم، وفي هذا البيان رد على اليهود، وتكذيب لهم، إذ زعموا أن الله لم يحرم عليهم شيئا، وإنما هم حرموا على أنفسهم ما حرمه إسرائيل على نفسه، فجاءت هذه الآية الكريمة لتبين بعض ما حرمه الله عليهم من الطيبات- التي كانت حلالا لهم- بسبب فسقهم وطغيانهم.
والمراد بقوله تعالى كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ما ليس بمنفرج الأصابع من البهائم والطير، كالإبل والنعام والأوز والبط، كما روى عن ابن عباس وسعيد ابن جبير وقتادة.
قال الإمام الرازي: قوله- تعالى-: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين:
(٢) الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٨٤ للسيوطي.
(٣) راجع تفسير القرطبي ج ٧ ص ١١٥ وما بعدها وتفسير المنار ج ٨ ص ٢٤٩ وما بعدها. [.....]
لتقدم المعمول على عامله.
الثاني: أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا فائدة «١».
ثم بين- سبحانه- ما حرم عليهم من غير ذوى الظفر فقال- تعالى-: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما، أَوِ الْحَوايا، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ.
والشحم: هو المادة الدهنية التي تكون في الحيوان وبها يكون لحمه سمينا والعرب تسمى سنام البعير، وبياض البطن شحما، وغلب إطلاق الشحم على ما يكون فوق أمعاء الحيوان.
والحوايا: - كما قال ابن جرير- جمع حاوياء وحاوية، وحوية وهي ما تحوى من البطن فاجتمع واستدار، وفسرت بالمباعر، والمرابض التي هي مجتمع الأمعاء في البطن «٢».
والمعنى: كما حرمنا على اليهود كل ذي ظفر، فقد حرمنا عليهم كذلك من البقر والغنم شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة، إلا ما استثنيناه من هذه الشحوم وهو ما حملت ظهورهما أو ما حملت حواياهما، أو اختلط من هذه الشحوم بعظمهما. فقد أحللناه لهم.
ثم بين- سبحانه- أن هذا التحريم كان نتيجة لطغيانهم فقال تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ أى. هذا الذي حرمناه على الذين هادوا من الأنعام والطير ومن البقر والغنم، وهذا التضييق الذي حكمنا به عليهم، إنما ألزمناهم به، بسبب بغيهم وظلمهم، وتعديهم حدود الله تعالى.
قال قتادة: إنما حرم الله عليهم ما ليس بخبيث عقوبة لهم وتشديدا عليهم.
ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود، من الأنباء التي لم يكن النبي ﷺ وقومه يعلمون عنها شيئا لأميتهم، وكان تكذيب اليهود له بأن الله لم يحرم ذلك عليهم عقوبة لهم، لما كان الأمر كذلك، أكد الله هذا النبأ بقوله: وَإِنَّا لَصادِقُونَ. أى: وإنا لصادقون- يا محمد- فيما أخبرناك به، ومن بينه ما أعلمناك عنه مما حرمناه على اليهود من الطيبات وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرمه إسرائيل على نفسه، وأنهم إنما حرموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.
ومع أن الشحوم جميعا باستثناء ما أحله لهم منها محرمة عليهم، فإنهم تحايلوا على شرع الله،
(٢) تفسير ابن جرير ج ٨ ص ٧٥.
من ذلك ما روى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رسول الله ﷺ كان قاعدا خلف المقام، فرفع بصره إلى السماء وقال: «لعن الله اليهود- ثلاثا- إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلا حرم عليهم ثمنه» «١».
وعن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله ﷺ يقول عام الفتح «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود، وتطلى بها السفن ويستصبح بها الناس، فقال: (لا. هو حرام) ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك (قاتل الله اليهود)، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها. أى: أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها» «٢».
ثم حذرهم الله من الكفر والطغيان، فقال- تعالى-: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أى: فإن كذبك- يا محمد- هؤلاء اليهود وأمثالهم من المشركين، فيما أخبرناك عنه من أنا حرمنا على هؤلاء اليهود بعض الطيبات عقوبة لهم، فقل لهم. إن الله- تعالى- ذو رحمة واسعة حقا ورحمته وسعت كل شيء، ومن مظاهر رحمته أنه لا يعاجل من كفر به بالعقوبة، ولا من عصاه بالنقمة، ولكن ذلك لا يقتضى أن يرد بأسه، أو يمنع عقابه عن القوم المصرين على إجرامهم المستمرين على اقتراف المنكرات، وارتكاب السيئات.
فالآية الكريمة قد جاءت لتزجرهم عن البغي والكفران، حتى يعودوا إلى طريق الحق. إن كانوا ممن ينتفع بالذكرى، ويعتبر بالموعظة.
ثم حكى القرآن بعد ذلك شبهة من الشبهات الباطلة التي تمسك بها المشركون في شركهم وجهالاتهم ورد عليها بما يبطلها ويخرس ألسنة قائليها أو المتذرعين بها فقال:
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٨٥.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٠]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)إن هذه الآيات الكريمة تعرض لشبهة قديمة جديدة: قديمة لأن كثيرا من مجادلى الرسل موهوا بها، وحديثة لأنها دائما تراود كثيرا من المتمسكين بالأوهام في سبيل إرضاء نزواتهم من المتع الباطلة والشهوات المحرمة.
إنهم يقولون عند ما يرتكبون القبائح والمنكرات: هذا أمر الله، وهذا قضاؤه، وتلك مشيئته وإرادته، ولو شاء الله عدم فعلنا لهذه الأشياء لما فعلناها وإذا كان الله قد قضى علينا بها فما ذنبنا؟ ولماذا يعاقبنا عليها؟ إلى غير ذلك من اللغو الباطل، والكلام العابث الذي يريدون من ورائه التحلل من أوامر الله ونواهيه.
ولنتدبر سويا أيها القارئ الكريم- هذه الآيات، وهي تحكى تلك الشبهات الباطلة، ثم تقذفها بالحق الواضح، والبرهان القاطع، فإذا هي زاهقة.
يقول- سبحانه- سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ.
أى: سيقول هؤلاء المشركون لو شاء الله- تعالى- ألا نشرك به وألا يشرك به آباؤنا من قبلنا، لنفذت مشيئته، ولما أشركنا نحن ولا آباؤنا.
ولو شاء كذلك ألا نحرم شيئا مما حرمناه من الحرث والأنعام وغيرها لتمت مشيئته ولما حرمنا شيئا مما حرمنا.
ولكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك، بل شاء لنا أن نشرك معه في العبادة هذه الأصنام، وأن نحرم ما نحرم من الحرث والأنعام وقد رضى لنا ذلك فلماذا تطالبنا يا محمد بتغيير مشيئة الله، وتدعونا إلى الدخول في دينك الذي لم يشأ الله دخولنا فيه؟.
إن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله وإرادته، وكل ما تعلقت به مشيئة الله وإرادته فهو مشروع ومرضى عنده. فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضى عند الله» «١».
وقد حكى القرآن في كثير من آياته ما يشبه قولهم هذا، ومن ذلك قوله- تعالى- وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «٢».
وقوله- تعالى- وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ «٣». وقد رد القرآن على قولهم بما يبطله فقال: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا.
أى: مثل هذا التكذيب من مشركي مكة للرسول ﷺ فيما جاء به من إبطال الشرك، قد كذب الذين من قبلهم لرسلهم، واستمروا في تكذيبهم لهم حتى أنزلنا على هؤلاء المكذبين عذابنا ونقمتنا.
ومن مظاهر تكذيب هؤلاء المشركين لرسلهم، أنهم عند ما قال لهم الرسل عليهم السلام- اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. كذبوهم واحتجوا عليهم بأن ما هم عليه من شرك واقع بمشيئة الله، وزعموا أنه ما دام كذلك فهو مرضى عنده- سبحانه- فكان الرد عليهم بأنه لو كان هذا الشرك وغيره من قبائحهم مرضيا عنده- سبحانه-: لما أذاق أسلافهم المكذبين- الذين قالوا لرسلهم مثل قولهم- عذابه ونقمته. ولما أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قال الآلوسى ما ملخصه: وحاصل هذا الرد أن كلام المشركين يتضمن تكذيب الرسل وقد دلت المعجزة على صدقهم، ولا يخفى أن المقدمة الأولى وهي أن كل شيء بمشيئة الله:
لا تكذيب فيها، بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل شيء بمشيئة الله، وامتناع أن يجرى في ملكه خلاف ما يشاء. فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية، وهي أن
(٢) سورة النحل الآية ٣٥.
(٣) سورة الزخرف الآية ٢٠.
يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم: إن الله لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء، فيكون قولهم: إن ما نرتكبه مشروع ومرضى عنده سبحانه: تكذيب لقول الرسل. وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة، وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضى عنده- سبحانه- بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر «١».
ثم بعد هذا الرد المفحم للمشركين أمر الله: تعالى: رسوله أن يطالبهم بدليل على مزاعمهم فقال: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا.
أى: قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتعجيز: هل عندكم من علم ثابت تعتمدون عليه في قولكم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا! إن كان عندكم هذا العلم فأخرجوه لنا لنتباحث معكم فيه، ونعرضه على ما جئتكم به من آيات بينة ودلائل ساطعة. فإن العاقل هو الذي لا يتكلم بدون علم، ولا يحيل على مشيئة الله التي لا ندري عنها شيئا.
ومِنْ في قوله مِنْ عِلْمٍ زائدة، وعلم مبتدأ، وعندكم خبر مقدم.
وقوله: فَتُخْرِجُوهُ منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية الواقعة بعد الاستفهام الإنكارى.
ثم بين حقيقة حالهم فقال: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ.
أى: أنتم لستم على شيء ما من العلم، بل ما تتبعون في أقوالكم وأعمالكم وعقائدكم إلا الظن الباطل الذي لا يغنى من الحق شيئا. وما أنتم إلا تخرصون أى تكذبون على الله فيما ادعيتموه.
وأصل الخرص: القول بالظن. يقال: خرصت النخل خرصا- من باب قتل- حزرت ثمره وقدرته بالظن والتخمين، واستعمل في الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة، فيقال:
خرص في قوله- كنصر- أى كذب.
وبعد أن نفى- سبحانه- عنهم أدنى ما يقال له علم وحصر ما هم عليه من دين في أدنى مراتب الظن مع أن أعلاها لا يغنى من الحق شيئا، ووصمهم بالكذب فيما يدعون، بعد كل ذلك أثبت لذاته- سبحانه- في مقابلة ذلك الحجة العليا التي لا تعلوها حجة فقال:
الحجة: كما قال الراغب في مفرداته: الدلالة المبينة للمحجة، أى: المقصد المستقيم.
أى: قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين الذين بنوا قواعد دينهم على الظن والكذب بعد أن عجزوا عن الإثبات بأدنى دليل على مزاعمهم، قل لهم: لله وحده الحجة البالغة. أى البينة الواضحة التي بلغت أعلى درجات العلم والقوة والمتانة، والتي وصلت إلى أعلى درجات الكمال في قطع عذر المحجوج وإزالة الشكوك عمن تدبرها وتأملها.
وقوله. فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أى: لو شاء- سبحانه- هدايتكم جميعا لفعل لأنه لا يعجزه شيء، ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء هداية البعض لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وشاء ضلالة آخرين، لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الباطل.
ونريد أن نزيد هذه الشبهة القديمة الحديثة تمحيصا وكشفا ودفعا فنقول لأولئك الذين يبررون ارتكابهم للموبقات بأنها واقعة بمشيئة الله.
نحن معكم في أنه لا يقع في ملكه- سبحانه- إلا ما يشاؤه، فالطائع تحت المشيئة والعاصي تحت المشيئة، ولكن المشيئة لم تجبر أحدا على طاعة أو معصية وقضاء الله وقدره هو علمه بكل ما هو كائن قبل أن يكون، وليس العلم صفة تأثير وجبر.
ولقد شاء الله- تعالى- أن يجعل في طبيعة البشر الاستعداد للخير والشر، ووهبهم العقل ليهتدوا به وأرسل إليهم الرسل لينمو فيهم استعدادهم وسن لهم شريعة لتكون مقياسا ثابتا لما يأخذون وما يدعون، كي لا يتركهم لعقولهم وحدها.
وإذن فمشيئة الله متحققة حسب سنته التي ارتضاها مختارا- وهو قادر على اختيار غيرها وعلى تغييرها وتبديلها- متحققة سواء اتخذ العبد طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال، وهو مؤاخذ إن ضل ومأجور إذا اهتدى. غير أن سنة الله اقتضدت أن من يفتح عينه يبصر النور، ومن يغمضها لا يراه، كذلك من يفتح قلبه لإدراك دلائل الإيمان يهتدى. ومن يحجب قلبه عنها يضل، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وإذن فزعم الزاعمين بأن الله شاء هذا على معنى أنه أجبرهم عليه فهم لا يستطيعون عنه فكاكا، إنما هو زعم باطل لا سند له من العلم والتفكير الصحيح فإن المشيئة الإلهية لها سنة تقيدت بها، وهذه السنة هي أنه لا جبر على طاعة ولا قسر على معصية.
وتقرير ذلك يؤخذ من قوله- تعالى- قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أى: فلو شاء أن يكرهكم ويفرض هدايتكم بقدرته وقدره لهداكم، ولكنه لم يشأ إجباركم على الضلالة، فهي مشيئة المنح والتيسير وليست مشيئة الإلجاء والتسخير قال- تعالى- فَأَمَّا مَنْ
ثم أمر الله- تعالى- رسوله ﷺ بأن يطالب المشركين بإحضار من يشهد لهم بأن الله قد حرم عليهم ما زعموا تحريمه من الحرث والأنعام وغيرها فقال:
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا.
هلم: لفظ يقصد به الدعوة إلى الشيء، وهي اسم فعل بمعنى أقبل إذا كان لازما، وبمعنى أحضر وائت إذا كان متعديا كما هنا، ويستوي فيه الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث في لغة الحجازيين.
أى: أحضروا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه، وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم.
والمقصود من إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم الحجة، وإظهار أنه لا متمسك لهم كمقلدين، ولذلك قيد الشهداء بالإضافة، ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معروفون بالشهادة لهم وبنصر مذهبهم.
ثم قال- سبحانه- فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أى: فإن فرض إحضار هؤلاء الشهود الذين عرفوا بضلالهم فلا تصدقهم ولا تقبل شهادتهم ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها فإن السكوت عن الباطل في مثل هذا المقام كالشهادة به وإنما عليك أن تبين لهم بطلان زعمهم بواسطة ما آتاك الله من حجج وبينات.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما زعموه محرما ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ قلت: أمره باستحضارهم وهم شهداء بالباطل ليلزمهم الحجة ويلقمهم الحجر، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء لتساوى أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصح التمسك به. وقوله فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ يعنى فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهيد معهم مثل شهادتهم وكان واحدا منهم «١».
ثم قال- سبحانه- وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أى: ولا تتبع أهواء هؤلاء الناس الذين كذبوا بآياتنا التي أنزلها الله عليك لتكون هداية ونورا لقوم يعقلون، فإن شهادتهم- إن وقعت- فإنما هي صادرة عن هوى وضلال.
وقوله وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عطف على الموصوف قبله لتعدد صفاتهم القبيحة.
أى: ولا تتبع أهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله، وبين الكفر بالآخرة، وبين جعلهم لله عديلا أى شريكا مع أنه- سبحانه- هو الخالق لكل شيء، لأن هذه الصفات لا تؤهلهم لشهادة حق، ولا للثقة بهم، وإنما للاحتقار في الدنيا، ولسوء العذاب في الآخرة.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حكت في بضع عشرة آية جانبا من رذائل المشركين وسخف تقاليدهم وعبث أهوائهم وفساد معاذيرهم وبطلان شبهاتهم وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم، ويبطل حجتهم، فيما أحلوه وحرموه في شأن النذور والذبائح والمطاعم والمشارب وغير ذلك مما حكته الآيات الكريمة.
ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى أفق أرحب وأوسع، وإلى ميدان أفسح وأشمل فتناديهم بأسلوب مؤثر بليغ ليستمعوا إلى ما حرم الله عليهم فيجتنبوه وإلى ما كلفهم به فيعملوه، تناديهم ليتدبروا في الأصول الكلية التي تقوم عليها العقيدة السليمة، ويسعد بها المجتمع، ويحيا في ظلها الأفراد والجماعات في أمان واطمئنان. تناديهم ليسمعوا البيان الصحيح الحق فيما أحل الله وحرم من الأفعال والأقوال ليسمعوه ممن له وحده الحق في أن يقوله، وفي أن يتلقى عنه تناديهم فتقول:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥١ الى ١٥٣]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)
روى الترمذي- بسنده- عن ابن مسعود أنه قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ. إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
وروى الحاكم وصححه، وابن أبى حاتم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث، ثم تلا قوله- تعالى-: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ. حتى فرغ منها ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله، إن شاء الله أخذه، وإن شاء عفا عنه» «١».
وروى البيهقي عن على بن أبى طالب- رضى الله عنه- قال: لما أمر الله نبيه ﷺ أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج إلى منى وأنا وأبو بكر معه، فوقف رسول الله ﷺ على منازل القوم ومضاربهم. فسلم عليهم وردوا السلام، وكان في القوم مفروق بن عمرو وهاني بن قبيصة
إلام تدعو يا أخا قريش؟ فقال النبي ﷺ أدعوكم إلى شهادة أن أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله، وأن تؤوونى وتنصروني وتمنعوني حتى أؤدي حق الله الذي أمرنى به، فإن قريشا تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغنى الحميد.
فقال له مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله ﷺ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. إلى آخر الآيات الثلاث.
فقال له مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم لعرفناه. فتلا رسول الله ﷺ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ. الآية.
فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
وقال هانئ بن قبيصة: قد سمعت مقالتك، واستحسنت قولك يا أخا قريش، ويعجبني ما تكلمت به، فبشرهم الرسول- إن آمنوا- بأرض فارس وأنهار كسرى. فقال له النعمان:
اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله ﷺ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا جانب من فضائل هذه الآيات الثلاث، وذلك هو تأثيرها في نفوس العرب، والآن فلنبدأ في التفسير التحليلى لها فنقول:
لقد بدئت الآيات بقوله- تعالى- قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.
أى: قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين حللوا وحرموا حسب أهوائهم، تعالوا إلى وأقبلوا نحوي لأبين لكم ما حرمه ربكم عليكم، ولأتلو على مسامعكم ما أمركم به، وما نهاكم عنه خالقكم ومربيكم، فإنكم إن أقبلتم نحوي وأطعمتمونى سعدتم في دينكم ودنياكم.
وفي تصدير هذه الوصايا بكلمة قُلْ إشعار من أول الأمر بأن هذا بيان إليه، ليس الرسول فيه إلا ناقلا مبلغا، وفيه- أيضا- دلالة على أن المأمور به يحتاج إلى مزيد عناية واهتمام وقد سبق أن بينا أن سورة الأنعام زاخرة بهذا الأسلوب التلقينى الذي يبدأ بكلمة قُلْ.
والأصل في كلمة تعال أن يقولها من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه، ثم اتسع فيها
وفي قوله أَتْلُ إيماء قوى بأن المتكلم يقدر المخاطبين، ويرتفع بهم إلى درجة أنهم لا يحتاجون في الإرشاد إلا لأن يتلو عليهم ما يريدهم أن يعملوه ثم هم بعد ذلك سيمتثلون لحسن استعدادهم لقبول الحق.
- وإنه لأسلوب قد بلغ الغاية في اللطف وفي التكريم وفي حسن الموعظة وتوجيه الخطاب.
- وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا قد اشتملت على المحرمات وعلى غيرها لأن سياق الآيات قبل ذلك كان منصبا على كشف ما اخترعه المشركون من تحريم في الحرث والنسل ما أنزل الله به من سلطان، ولأن بيان أصول المحرمات يستلزم حل ما عداها لأنه الأصل.
وفي نسبة التحريم إلى الرب الذي هو منبع الخير والإحسان. حض لهم على التدبر والاستجابة. لأن الذي حرم عليهم ذلك هو مربيهم، فليس معقولا أن يحرم عليهم ما فيه منفعة لهم، وإنما هو بمقتضى ربوبيته قد حرم عليهم ما فيه ضررهم.
- وقوله أَتْلُ جواب الأمر، أى: إن تأتونى أتل. وما في قوله ما حَرَّمَ موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أى: أقرأ الذي حرمه ربكم عليكم، وهي في محل نصب مفعول به، ويحتمل أن تكون مصدرية، أى أتل تحريم ربكم، ونفس التحريم لا يتلى وإنما هو مصدر واقع موقع المفعول به، أى: أتل محرم ربكم الذي حرمه هو. وعَلَيْكُمْ متعلق ب حَرَّمَ أو ب أَتْلُ.
قال بعض العلماء: وهذه العبارة التي قدمت بها الوصايا- وهي قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ فيها إشعار بأن الحقائق الأولى التي قام عليها الجدال في السورة قد أصبحت واضحة. لا مفر من قبولها والبناء عليها، فالله- تعالى- يأمر رسوله بأن يبلغهم، وإذن فهناك إله من شأنه أن يرسل الرسل، وهناك رسل من شأنهم أن يتلقوا عن الله، وهناك محرمات وردت من المصدر الذي يحق له التحريم وحده لأنه هو الرب ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثم هناك لازم عقلي لهذا التحريم هو أن من تعداه وانتهكه كان مغضبا للرب الذي قرره. مستحقا لعقوبته، وإذن فهناك دار للجزاء» «١». ولننظر بعد ذلك في الوصايا.
الوصية الأولى: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أى: أوصيكم ألا تشركوا مع الله في عبادتكم آلهة
وصدر- سبحانه- هذه الوصايا بالنهى عن الشرك، لأنه أعظم المحرمات وأكبرها إفسادا للفطرة، ولأنه هو الجريمة التي لا تقبل المغفرة من الله، بينما غيره قد يغفره- سبحانه- قال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
وقد ساق القرآن مئات الآيات التي تدعو إلى الإيمان وتنفر من الشرك وتقيم الأدلة الساطعة، والبراهين الدامغة على وحدانية الله- عز وجل-.
هذا، وقد ذكر الشيخ الجمل في إعراب هذه الجملة الكريمة ألا تشركوا به شيئا عدة آراء منها:
١- أنّ تكون أن تفسيرية، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه، ولا ناهية ولا تشركوا مجزوم بها.
٢- أن تكون أن ناصية للفعل بعدها، وهي وما في حيزها في محل نصب بدلا من ما حَرَّمَ ولا زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها في قوله: أَلَّا تَسْجُدَ، ولئلا يعلم.
٣- تكون أن ناصبة وما في حيزها منصوب على الإغراء بعليكم ويكون الكلام قد تم عند قوله رَبُّكُمْ ثم ابتدأ فقال: عليكم ألا تشركوا أى الزموا نفى الشرك.
٤- أنها وما في حيزها في محل نصب أو جر على حذف لام العلة، والتقدير تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا به شيئا.
٥- أن تكون هي وما بعدها في محل نصب بإضمار فعل تقديره: أوصيكم ألا تشركوا.
ونكتفي بهذا القدر من وجوه الإعراب التي توسع فيها النحاة توسعا كبيرا، بسبب ورود بعض هذه الوصايا بصيغة النهى، وبعضها بصيغة الأمر، مع تقدم فعل التحريم على جميعها «١».
أما الوصية الثانية: في قوله- تعالى- وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أى: أحسنوا بهما إحسانا كاملا لا إساءة معه.
وقد قرن- سبحانه- هذه الوصية بالوصية الأولى التي هي توحيده وعدم الإشراك به، في هذه الآية وفي غيرها، للإشعار بعظم هذه الوصية وللتنبيه إلى معنى واحد- يجمعها مع الأولى وهو أن المنعم يجب أن يشكر فالوالدان سبب في حياة الولد فيجب أن يشكرهما ويحسن إليهما، والله- تعالى- هو الخالق المنعم فيجب أن يشكر ويفرد بالعبادة والطاعة.
لهذا وذاك قال- سبحانه- وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.
- والإحسان يتعدى بحرفى الباء وإلى، فقال: أحسن به، وأحسن إليه، وبينهما فرق واضح، فالباء تدل على الإلصاق، وإلى تدل على الغاية، والإلصاق يفيد اتصال الفعل بمدخول «الباء» دون انفصال ولا مسافة بينهما، أما الغاية فتفيد وصول الفعل إلى مدخول إلى ولو كان منه على بعد أو كان بينهما واسطة، ولا شك أن الإلصاق في هذا المقام أبلغ في تأكيد شأن العناية والإحسان بالوالدين، ومن هنا لم يعد الإحسان بالباء في القرآن إلا حيث أريد ذلك التأكيد، وقد جاءت جميع الآيات القرآنية التي توحى بالإحسان بالوالدين على هذا الأسلوب» «١».
ثم جاءت الوصية الثالثة وهي قوله- تعالى- وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.
الإملاق: الفقر، مصدر أملق الرجل إملاقا إذا احتاج وافتقر.
أى: لا تقتلوا أولادكم الصغار من أجل الفقر فنحن قد تكفلنا برزقكم ورزقهم.
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها.
ولا شك أن الحياة حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم. فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم، والتخلص منهم خوفا من الفقر، مع أن الله- تعالى- هو الرازق لكم ولهم.
والمجتمع الذي يبيح قتل الأولاد خوفا من الفقر أو خوفا من العار، لا يمكن أن يصلح شأنه، لأنه مجتمع نفعي تسوده الأثرة والأنانية، ويكون في الوقت نفسه مجتمعا أفراده يسودهم التشاؤم، وتتغشاهم الأوهام، لأنهم يظنون أن الله يخلق خلقا لا يدبر لهم حقهم من الرزق، ويعتدون على روح بريئة طاهرة تخوفا من جريمة متوهمة، وذلك هو الضلال المبين.
- وقد روى النهى عن قتل الأولاد هنا بهذه الصيغة، وورد في سورة الإسراء بصيغة أخرى هي قوله- تعالى- وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ وليس إحداهما
- فهنا يقول- سبحانه- مِنْ إِمْلاقٍ أى: لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم أيها الآباء لذا قال: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فجعل الرزق للآباء ابتداء، لأن الفقر الذي يقتلون من أجله أولادهم حاصل لهم فعلا.
- وفي سورة الإسراء يقول: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أى: خوفا من فقر ليس حاصلا، ولكنه متوقع بسبب الأولاد ولذا قال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر، ليكف الآباء عن هذا التوقع، وليضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء.
ففي كلتا الحالتين القرآن ينهى عن قتل الأولاد، ويغرس في نفوس الآباء الثقة بالله، والاعتماد عليه.
وجملة نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ تعليلية لإبطال ما اتخذوه سببا لمباشرة جريمتهم، وضمان منه- سبحانه- لأرزاقهم أى: نحن نرزق الفريقين لا أنتم وحدكم، فلا تقدموا على تلك الجريمة النكراء وهي قتل الأولاد لأن الأولاد قطعة من أبيهم، والشأن حتى في الحيوان الأعجم أنه يضحى من أجل أولاده، ويحميهم ويتحمل الصعاب في سبيلهم.
أما الوصية الرابعة فتقول: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ الفواحش. جمع فاحشة وهي كما قال الراغب في مفرداته- ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال يقال: فحش فلان، أى صار فاحشا مرتكبا للقبائح، والمتفحش هو الذي يأتى بالفحش من القول أو الفعل، كالسرقة والزنا والنميمة وشهادة الزور.
وأنهاكم عن أن تقتربوا من الأقوال والأفعال القبيحة ما كان منها ظاهرا وما كان منها خافيا.
وقد تعلق التحريم والنهى بهذا الوصف الذي يشعر بالعلة- كما يقول علماء الأصول- فكأنه قال. إن كل قول أو فعل تستقبحه العقول فهو فاحشة يجب البعد عنها.
والمجتمع الذي يؤمن بأن هناك «فواحش» يجب أن تجتنب، و «محاسن» يجب أن تلتمس هو المجتمع الفاضل الطهور.
أما المجتمع الذي يسوى بين القبيح والحسن، ويقوم على الإباحية التي لا تفرق بين ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك، فلا بد أن يكون مصيره إلى التدهور والتعاسة والمهانة.
وجملة ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ بدل اشتمال من الفواحش.
وتعليق النهى بقربانها للمبالغة في الزجر عنها لأن قربانها قد يؤدى إلى مباشرتها، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وهذا لون حكيم من ألوان الإصلاح، لأنه إذا حصل النهى
ثم جاءت الآية في ختامها بالوصية الخامسة فقالت: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
أى: لا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها بأن عصمها بالإسلام إلا بالحق الذي يبيح قتلها شرعا كردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم.
قال ابن كثير: وهذا مما نص- تبارك وتعالى- على النهى عنه تأكيدا، وإلا فهو داخل في النهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» «١».
وقوله إِلَّا بِالْحَقِّ في محل نصب على الحال من فاعل تَقْتُلُوا أى: لا تقتلوها ملتبسين بالحق، ويجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف أى: قتلا ملتبسا بالحق، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أى: لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق.
وذلك لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بناه الله فلا يحق لأحد أن يهدمه إلا بالحق، وبذلك يقرر عصمة الدم الإنسانى، ويعتبر من يعتدى على نفس واحدة فكأنما قد اعتدى على الناس جميعا: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً.
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى- ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
أى: ذلكم الذي ذكرناه لكم من وصايا جليلة، وتكاليف حكيمة، وصاكم الله به، وطلبه منكم. لعلكم تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح.
فاسم الإشارة ذلِكُمْ
مشار به إلى الوصايا الخمس السابقة، وهو مبتدأ وجملة وصاكم به خبر. ولفظ وصاكم من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له- تعالى- ما يحمل النفوس على الطاعة والاستجابة.
هذه هي الوصايا الخمس التي تضمنتها الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث وكلها تشترك في معنى واحد هو أنها حقائق أو حقوق ثابتة في نفسها، ولم يكن ثبوتها إلا تجاوبا مع الفطرة، فالله واحد سواء آمن الناس بهذه الحقيقة عقيديا وعمليا أم لم يؤمنوا، وشكر النعمة يقتضى الإحسان
والوصية السادسة تأتى في مطلع الآية الثانية فتقول: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
أى: لا تقربوا مال اليتيم الذي فقد الأب الحانى، ولا تتعرضوا لما هو من حقه بوجه من الوجوه إلا بالوجه الذي ينفعه في الحال أو المآل، كتربيته وتعليمه، وحفظ ماله واستثماره.
وإذن، فكل تصرف مع اليتيم أو في ماله لا يقع في تلك الدائرة- دائرة الأنفع والأحسن- محظور، ومنهى عنه.
قال بعض العلماء: وكثيرا ما يتعلق النهى في القرآن بالقربان من الشيء، وضابطه بالاستقراء: أن كل منهى عنه كان من شأنه أن تميل إليه النفوس وتدفع إليه الأهواء النهى فيه عن «القربان» ويكون القصد التحذير من أن يأخذ ذلك الميل في النفس مكانة تصل بها إلى اقتراف المحرم، وكان من ذلك في الوصايا السابقة النهى عن الفواحش، ومن هذا الباب وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ولا تَقْرَبُوا الزِّنى وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ إلخ.
أما المحرمات التي لم يؤلف ميل النفوس إليها ولا اقتضاء الشهوات لها، فإن الغالب فيها أن يتعلق النهى عنها بنفس الفعل لا بالقربان منه. ومن ذلك في الوصايا السابقة الشرك بالله، وقتل الأولاد، وقتل النفس التي حرم الله قتلها، فإنها وإن كان الفعل المنهي عنه فيها أشد قبحا وأعظم جرما عند الله من أكل مال اليتيم وفعل الفواحش، إلا أنها ليست ذات دوافع نفسية يميل إليها الإنسان بشهوته، وإنما هي في نظر العقل على المقابل من ذلك، يجد الإنسان في نفسه مرارة من ارتكابها، ولا يقدم عليها إلا وهو كاره لها أو في حكم الكاره» «١».
وقوله: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
ليس غاية للنهى، إذ ليس المعنى فإذا بلغ أشده فاقربوه لأن هذا يقتضى إباحة أكل الولي له بعد بلوغ الصبى، بل هو غاية لما يفهم من النهى كأنه قيل: احفظوه حتى يصير بالغا رشيدا فحينئذ سلموا إليه ماله.
والخطاب للأولياء والأوصياء. أى: احفظوا ماله حتى يبلغ الحلم فإذا بلغه فادفعوه إليه.
والأشد: قوة الإنسان واشتعال حرارته: من الشدة بمعنى القوة والارتفاع. يقال: شد النهار إذا ارتفع. وهو مفرد جاء بصيغة الجمع. ولا واحد له.
أى: أتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون.
فالجملة الكريمة أمر من الله- تعالى- لعباده بإقامة العدل في التعامل: بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان ولا بخس، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة.
والكيل والوزن: مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن، كالعيش بمعنى ما يعاش به.
وبالقسط حال من فاعل أوفوا أى: أوفوهما مقسطين أى: متلبسين بالقسط. ويجوز أن يكون حالا من المفعول أى: أوفوا الكيل والميزان بالقسط أى: تامّين.
وهذه الوصية هي مبدأ العدل والتعادل، وكل مجتمع محتاج إليها، فالناس لا بد لهم من التعامل، ولا بد لهم من التبادل، والكيل والوزن هما وسيلة ذلك، فلا بد من أن يكونا منضبطين بالقسط.
والمجتمعات الأمينة التي لا تجد فيها أحدا يغبن عن جهل أو غفلة، وهي أيضا المجتمعات الأمينة التي لا تجد فيها من يحاول أن يأخذ أكثر من حقه. أو يعطى أقل مما يجب عليه.
وقوله لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
أى: لا نكلف نفسا إلا ما يسعها ولا يعسر عليها.
والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل، للترخيص فيما خرج عن الطاقة، ولبيان قاعدة من قواعد الإسلام الرافعة للحرج وذلك لأن التبادل التجارى لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل من المساواة أو التعادل، فلا بد من تقبل اليسير من الغبن في هذا الجانب أو ذاك.
والوصية الثامنة تقول: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى.
أى: وإذا قلتم قولا فاعدلوا فيه ولو كان المقول له أو عليه صاحب قرابة منكم.
إذ العدل هو أساس الحكم السليم: العدل في القول، والعدل في الحكم، والعدل في كل فعل.
وإنما خصصت الآية العدل في القول مع أن العدل مطلوب في الأقوال والأفعال وفي كل شيء، لأن أكثر ما يكون فيه العدل أقوال كالشهادة، والحكم، ثم الأقوال هي التي تراود النفوس في كل حال. فالإنسان حين تصادفه قضية من القضايا القولية أو العملية يحدث نفسه في شأنها، ويراوده معنى العدل وكأنه يطالبه بأن ينطق به ويؤيده، فيقول في نفسه سأفعل كذا لأنه العدل، فإذا لم يكن صادقا في هذا القول فقد جافى العدل وقال زورا وكذبا.
فهو أخذ بالإنسان عما جرت به عادته من التأثر بصلات القربى في المحاباة للأقرباء والظلم لغيرهم.
فالقرآن يرتفع بالضمير البشرى إلى مستوى سامق رفيع، على هدى من العقيدة في الله، بأن يكلفه بتحرى العدل في كل أحواله ولو إزاء أقرب المقربين إليه.
أما الوصية التاسعة والأخيرة في هذه الآية فهي قوله- تعالى- وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
أى:
كونوا أوفياء مع الله في كل ما عهد إليكم به من العبادات والمعاملات وغيرها.
إذ الوفاء أصل من الأصول التي يتحقق بها الخير والصلاح، وتستقر عليها أمور الناس.
وقوله: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
يفيد الحصر لتقديم المعمول، وفي هذا إشعار بأن هناك عهودا غير جديرة بأن تنسب إلى الله، وهي العهود القائمة على الظلم أو الباطل، أو الفساد، فمثل هذه العهود غير جديرة بالاحترام، ويجب العمل على التخلص منها.
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى- ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
أى: ذلكم المتلو عليكم في هذه الآية من الأوامر والنواهي وصاكم الله به في كتابه رجاء أن تتذكروا وتعتبروا وتعملوا بما أمرتم به وتجتنبوا ما نهيتم عنه أو رجاء أن يذكّر بعضكم بعضا فإن التناصح واجب بين المسلمين.
أما الوصية العاشرة فهي قوله- تعالى- في الآية الثالثة من هذه الآيات: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.
قرأ الجمهور بفتح همزة أَنَّ وتشديد النون. ومحلها مع ما في حيزها الجر بحذف لام العلة. أى: ولأن هذا الذي وصيتكم به من الأوامر والنواهي طريقي وديني الذي لا اعوجاج فيه، فمن الواجب عليكم أن تتبعوه وتعملوا به.
ويحتمل أن يكون محلها مع ما في حيزها النصب على ما حَرَّمَ أى: وأتلو عليكم أن هذا صراطي مستقيما.
وقرأ حمزة والكسائي «إن» بكسر الهمزة على الاستئناف.
وقوله وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ يعنى الأديان الباطلة، والبدع والضلالات الفاسدة فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أى. فتفرقكم عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لكم.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- قال: خط لنا رسول الله ﷺ خطا ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً.
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى- ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أى: ذلكم المذكور من اتباع سبيله- تعالى- وترك اتباع السبل وصاكم الله به لعلكم تتقون اتباع سبل الكفر والضلالة، وتعملون بما جاءكم به هذا الدين.
قال أبو حيان: ولما كانت الخمسة المذكورة في الآية الأولى من الأمور الظاهرة الجليلة مما يجب تعلقها وتفهمها ختمت الآية بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، ولما كانت الأربعة المذكورة في الآية الثانية خافية غامضة ولا بد فيها من الاجتهاد والتفكر حتى يقف الإنسان فيها على موضع الاعتدال ختمت بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف، وأمر- سبحانه- باتباعه ونهى عن اتباع السبل المختلفة ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار، إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية» «١».
وبعد: فهذه هي الوصايا العشر التي جاءت بها هذه الآيات الكريمة، والمتأمل فيها يراها قد وضعت أساس العقيدة السليمة في توحيد الله- تعالى- وبنت الأسرة الفاضلة على أساس الإحسان بالوالدين والرحمة بالأبناء، وحفظت المجتمع من التصدع عن طريق تحريمها لانتهاك الأنفس والأموال والأعراض، ثم ربطت كل ذلك بتقوى الله التي هي منبع كل خير وسبيل كل فلاح.
فأين المسلمون اليوم من هذه الوصايا؟ إنهم لو عملوا بها لعزوا في دنياهم ولسعدوا في أخراهم، فهل تراهم فاعلون؟.
اللهم خذ بيدنا إلى ما يرضيك وجنبنا مالا يرضيك.
ولما كان هذا الصراط قديما، والديانات قبله كانت في اتجاهه، أشار- سبحانه- إلى موسى وكتابه، وبين منزلة هذا القرآن، وأمر الناس باتباعه فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٤ الى ١٥٧]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)قال الآلوسى: قوله ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ. إلخ. كلام مستأنف مسوق من جهته- تعالى- تقريرا للوصية وتحقيقا لها، وتمهيدا لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه، فعلنا ذلك ثُمَّ آتَيْنا وقيل عطف على ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ. وعند الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة، كأنه قيل: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثم أتل عليهم ما آتاه الله موسى «١».
وكلمة ثم لا تفيد الترتيب الزمنى هنا، وإنما تفيد عطف معنى على معنى، فكأنه- سبحانه- يقول: لقد بينت لكم في هذه الوصايا ما فيه صلاحكم ثم أخبركم بأنا آتينا موسى الكتاب وهو التوراة ليكون هدى ونورا.
وقوله: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ قرأ الجمهور أحسن بفتح النون على أنه فعل ماض وفاعله ضمير الذي، أى: آتينا موسى الكتاب تماما للكرامة والنعمة على من أحسن القيام به كائنا من كان. فالذي لجنس المحسنين.
وتدل عليه قراءة عبد الله «تماما على الذين أحسنوا» وقراءة الحسن «على المحسنين».
ويجوز أن يكون فاعل أحسن ضمير موسى- عليه السلام- ومفعوله محذوف أى: آتينا
وقرأ يحيى بن يعمر «على الذي أحسن» بضم النون على أنه خبر لمبتدأ محذوف، و «الذي» وصف للدين أى: تماما على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه.
قال ابن جرير: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح، لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قراء الأمصار» «١».
وقوله: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ معطوف على ما قبله، أى: وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه قومه في أمور دينهم ودنياهم.
وقوله: وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أى: هذا الكتاب هداية لهم إلى طريق الحق، ورحمة لمن عمل به لعلهم- أى قوم موسى وسائر أهل الكتاب- يصدقون بيوم الجزاء، ويقدمون العمل الصالح الذي ينفعهم في هذا اليوم الشديد.
ثم بين- سبحانه- منزلة القرآن فقال: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ أى: وهذا القرآن الذي قرأ عليكم أوامره ونواهيه رسولنا ﷺ كتاب عظيم الشأن أنزلناه بواسطة الروح الأمين، وهو جامع لكل أسباب الهداية الدائمة، والسعادة الثابتة.
فَاتَّبِعُوهُ أى: اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام.
وَاتَّقُوا مخالفته واتباع غيره.
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أى: لترحموا بواسطة اتباعه والعمل بما فيه.
ثم قطع- سبحانه- عذر كل من يعرض عن هذا الكتاب فقال: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ.
أى: أنزلنا هذا الكتاب لهدايتكم كراهة أن تقولوا يوم القيامة، أو لئلا تقولوا لو لم ننزله:
إنما أنزل الكتاب الناطق بالحجة على جماعتين كائنتين من قبلنا وهما اليهود والنصارى، وإنا كنا عن تلاوة كتابهم لغافلين لا علم لنا بشيء منها لأنها ليست بلغتنا.
وقيل إنه مفعول به والعامل فيه قوله في الآية السابقة- أيضا- وَاتَّقُوا | أى. واتقوا قولكم كيت وكيت. وقوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ معترض جار مجرى التعليل. |
وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا من بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام.
والخطاب لكل من أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم ساق- سبحانه- آية أخرى لقطع أعذارهم فقال أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ.
أى: وأنزلنا الكتاب- أيضا- خشية أن تقولوا معتذرين يوم القيامة لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الذين من قبلنا، لكنا أهدى منهم إلى الحق وأسرع منهم استجابة لله ولرسوله لمزيد ذكائنا، وتوقد أذهاننا، وتفتح قلوبنا.
وقوله: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ جواب قاطع لأعذارهم وتعلاتهم أى:
فقد جاءكم من ربكم عن طريق نبيكم محمد ﷺ هذا الكتاب الواضح المبين، والذي هو هداية لكم إلى طريق الحق، ورحمة لمن يعمل بما اشتمل عليه من توجيهات وإرشادات.
وقوله: فَقَدْ جاءَكُمْ متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أى:
لا تعتذروا فقد جاءكم... وإما شرط له أى: إن صدقتم فيما كنتم تعدون به. فقد حصل ما فرضتم وجاءكم بينة من ربكم.
والاستفهام في قوله فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها للإنكار والنفي. أى:
لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وأعرض عنها بعد أن جاءته ببيناتها الكاملة، وهداياتها الشاملة.
والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. فإن مجيء القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه أى: وإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم.. ؟ ومعنى: وصدف عنها أى:
أعرض عنها غير متفكر فيها، أو صرف الناس عنها وصدهم عن سبيلها. فجمع بين الضلال والإضلال.
ثم ختم- سبحانه- الآية بتهديد أولئك المعرضين عن آياته بقوله:
فالآيتان الكريمتان تقطعان كل عذر قد يتعلل به يوم القيامة المكذبون لرسول الله ﷺ وللقرآن الكريم، وتتوعدهم بأشد ألوان العذاب.
ثم يمضى القرآن في تهديدهم خطوة أخرى. ردا على ما كانوا يطلبون من الآيات الخارقة، وتحذيرا من إعراضهم وتقاعسهم عن طريق الحق مع أن الزمن لا يتوقف، والفرص لا تعود فيقول:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٠]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
أى: ما ينتظر مشركو مكة وغيرهم من المكذبين بعد إعراضهم عن آيات الله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم من أجسادهم.
والجملة الكريمة مستأنفة لبيان أنهم لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى.
قال البيضاوي: وهم ما كانوا منتظرين لذلك، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين.
وقوله: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أى: إتيانا يناسب ذاته الكريمة بدون كيف أو تشبيه للقضاء بين الخلق يوم القيامة، وقيل المراد بإتيان الرب، إتيان ما وعد به من النصر للمؤمنين والعذاب للكافرين.
فقد روى البخاري عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا رآها الناس آمن من عليها. فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل».
وفي رواية لمسلم والترمذي عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض».
ثم بين- سبحانه- أنه عند مجيء علامات الساعة لا ينفع الإيمان فقال:
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً.
أى: عند مجيء بعض أشراط الساعة، يذهب التكليف، فلا ينفع الإيمان حينئذ نفسا كافرة لم تكن آمنت قبل ظهورها، ولا ينفع العمل الصالح نفسا مؤمنة تعمله عند ظهور هذه الأشراط، لأن العمل أو الإيمان عند ظهور هذه العلامات لا قيمة له لبطلان التكليف في هذا الوقت.
قال الطبري: معنى الآية لا ينفع كافرا لم يكن آمن قبل الطلوع- أى طلوع الشمس من مغربها- إيمان بعد الطلوع. ولا ينفع مؤمنا لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع، بعد الطلوع. لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ. حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة، وذلك لا يفيد شيئا. كما قال- تعالى- فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا وكما ثبت في الحديث الصحيح: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «١».
وقال ابن كثير: إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لم يقبل منه، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك فإن كان مصلحا في عمله فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحا فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته، كما دلت عليه الأحاديث، وعليه يحمل قوله- تعالى-: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً أى: لا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك» «٢».
وقوله: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ تهديد لهم. أى: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين: انتظروا
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١٩٥.
ثم بين- سبحانه- أحوال الفرق الضالة بوجه عام فقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.
أى: إن الذين فرقوا دينهم بأن اختلفوا فيه مع وحدته في نفسه فجعلوه أهواء متفرقة، ومذاهب متباينة: وَكانُوا شِيَعاً أى فرقا ونحلا تتبع كل فرقة إماما لها على حسب أهوائها ومتعها ومنافعها بدون نظر إلى الحق.
وقوله: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ تهديد لهم. أى: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين: انتظروا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أى شيء تنتظرون، فإنا منتظرون معكم لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.
ثم بين- سبحانه- أحوال الفرق الضالة بوجه عام فقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.
أى: إن الذين فرقوا دينهم بأن اختلفوا فيه مع وحدته في نفسه فجعلوه أهواء متفرقة، ومذاهب متباينة: وَكانُوا شِيَعاً أى فرقا ونحلا تتبع كل فرقة إماما لها على حسب أهوائها ومتعها ومنافعها بدون نظر إلى الحق.
وقوله: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أى: أنت برىء منهم محمى الجناب عن مذاهبهم الباطلة، وفرقهم الضالة. أو لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء إذ هم قد انطمست قلوبهم فأصبحوا لا يستجيبون لمن يدعوهم إلى الهدى.
وقوله: إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ تعليل للنفي المذكور قبله أى: هو يتولى وحده أمرهم جميعا، ويدبره حسب ما تقتضيه حكمته، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون».
وقوله: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أى: ثم يخبرهم يوم القيامة بما كانوا يفعلونه في الدنيا من آثام وسيئات، ويعاقبهم على ذلك بما يستحقونه من عقوبات.
والآية الكريمة عامة في كل من فارق تعاليم الإسلام سواء أكان مشركا أم كتابيا، ويندرج فيها أصحاب الفرق الباطلة والمذاهب الفاسدة في كل زمان ومكان، كالقاديانية، والباطنية، والبهائية، وغير ذلك من أصحاب الأهواء والبدع والضلالات.
قال ابن كثير: «والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله
فمن اختلف فيه وَكانُوا شِيَعاً أى: فرقا كأهل الأهواء والملل والنحل والضلالات، فإن الله قد برأ رسوله منهم. وهذه الآية كقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. الآية.
وفي الحديث: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات. ديننا واحد» فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء، والرسل برآء منها كما قال- تعالى- لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ «١».
ثم بين- سبحانه- لطفه في حكمه، وفضله على عباده، بمناسبة الحديث عن الجزاء فقال:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها.
أى: من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة. فله عشر حسنات أمثالها في الحسن، فضلا من الله- تعالى- وكرما.
قال بعضهم: وذلك- ولله المثل الأعلى- كمن أهدى إلى سلطان عنقود عنب يعطيه بما يليق بسلطنته لا قيمة العنقود. والعشر أقل ما وعد من الأصناف، وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب، ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص.
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ أى: بالأعمال السيئة فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أى: فلا يجزى بحكم الوعد إلا بمثلها في العقوبة واحدة بواحدة وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب وزيادة العقاب.
فإن ربك لا يظلم أحدا.
وقد وردت أحاديث كثيرة في معنى الآية منها ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «يقول الله- تعالى-: إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها. وإن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة. فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة».
ثم ختمت السورة الكريمة بخمس آيات جامعة لوجوه الخير، من تأملها تجلى له أنها ختام حكيم يناسب هذه السورة التي هي سورة البلاغ والإعلان، والمبادئ العليا لدعوة الإيمان.
أما الآيات الخمس فهي قوله- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦١ الى ١٦٥]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)أى: قل يا محمد لهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ولغيرهم ممن أرسلت إليهم، قل لهم جميعا: لقد هداني خالقي ومربينى إلى دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده دِيناً قِيَماً أى:
ثابتا أبدا لا تغيره الملل والنحل ولا تنسخه الشرائع والكتب.
وقوله دِيناً نصب على البدل من محل إِلى صِراطٍ لأن معناه هداني صراطا، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور. أى: عرفني دينا.
وقوله قِيَماً صفة ل دِيناً والقيّم والقيم لغتان بمعنى واحد وقرئ بهما.
وقوله مِلَّةَ إِبْراهِيمَ منصوب بتقدير أعنى أو عطف بيان ل دِيناً وحَنِيفاً حال من إبراهيم. أى: هداني ربي ووفقني إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم والدين القيم المتفق مع ملة إبراهيم الذي كان مائلا عن كل دين باطل إلى دين الحق، والذي ما كان أبدا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مع الله آلهة أخرى في شأن من شئونه. لا كما يزعم المشركون وأهل الكتاب أن إبراهيم كان على دينهم.
ثم قل لهم للمرة الثانية: إن صلاتي التي أتوجه بها إلى ربي وَنُسُكِي أى عبادتي وتقربي إليه- وهو من عطف العام على الخاص- وقيل المراد به ذبائح الحج والعمرة. وَمَحْيايَ وَمَماتِي
كل ذلك لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فأنا متجرد تجردا كاملا لخالقي ورازقي بكل خالجة في القلب، وبكل حكة في هذه الحياة.
فهو- سبحانه- رب كل شيء. ولا شريك له في ملكه، بذلك القول الطيب، وبذلك العمل الخالص أمرت وأنا أول المسلمين الممتثلين لأوامر الله والمنتهين عن نواهيه من هذه الأمة.
ثم قل لهم للمرة الثالثة على سبيل التعجب من حالهم، والاستنكار لواقعهم: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا أى: أغير الله- تعالى- تريدونني أن أطلب ربا فأشركه في عبادته، والحال والشأن أنه- سبحانه- هو رب كل شيء ومليكه، وهو الخالق لكل شيء.
فجملة وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ حال في موضع العلة لإنكار ما هم عليه من ضلال.
ثم بين- سبحانه- أن كل إنسان مجازى بعمله فقال: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها.
أى: لا تجترح نفس إثما إلا عليها من حيث عقابه. فلا يؤاخذ سواها به، وكل مرتكب لإثم فهو وحده المعاقب به.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أى: ولا تحمل نفس مذنبة ولا غير مذنبة ذنب نفس أخرى، وإنما تتحمل الآثمة وحدها عقوبة إثمها الذي ارتكبته بالمباشرة أو بالتسبب.
قال القرطبي: وأصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ وهو هنا الذنب كما في قوله تعالى وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ.
ثم بين- سبحانه- نهايتهم فقال: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أى: رجوعكم بعد الموت يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بتمييز الحق من الباطل، ومجازاة كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر على حسب عمله.
ثم ختمت السورة بهذه الآية وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ أى: خلائف القرون الماضية، فأورثكم أرضهم لتخلفوهم فيها وتعمروها بعدهم.
وخلائف: جمع خليفة، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة، لأنه يخلفه.
وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أى: فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان وغير ذلك.
ثم بين- سبحانه- العلة في ذلك فقال: لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أى: ليختبركم في الذي أنعم به عليكم، يختبر الغنى في غناه ويسأله عن شكره، ويختبر الفقير في فقره ويسأله عن صبره.
ثم رهب- سبحانه- من معصيته، ورغب في طاعته فقال. إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه وخالف رسله. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن أطاعه واتبع سبيل المؤمنين الصادقين.
أما بعد: فهذه هي سورة الأنعام التي عالجت من مبدئها إلى نهايتها قضية العقيدة بكل مقوماتها علاجا قويا حكيما يهدى إلى الرشد لمن عنده الاستعداد لذلك، والتي طوفت بالنفس البشرية في الكون كله لترشدها إلى خلق هذا الكون، وتجعلها تستجيب له وتنتفع بما منحها من نعم، والتي كشفت عن مواطن الشرك ومظاهره في كل مظانه ومكانه. لتدمغه وتدحضه وتخلص النفس البشرية والحياة الإنسانية من أمراضه وأدرانه.
تلك هي سورة الأنعام التي نزلت مشيعة بالملإ العظيم من الملائكة وذلك تفسير تحليلي لها، لا نزعم أننا استقصينا فيه كل ما يتعلق بهذه السورة الكريمة، من توجيهات وهدايات، وإنما هو قبسات من نور القرآن الكريم، نرجو الله أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم.
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمهالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فهذا تفسير تحليلي لسورة الأعراف، توخينا فيه أن نبرز ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية، وآداب عالية، وهدايات شاملة، وحكم جليلة.
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، ونافعا لعباده إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد سيد طنطاوى القاهرة- مدينة نصر ١٤/ ٢/ ١٤٠٥ هـ- ٧/ ١٢/ ١٩٨٤ م
١- سورة الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفى، وهي أطول سورة مكية في القرآن الكريم، وعدد آياتها ست ومائتا آية.
والرأى الراجح عند العلماء أنها جميعها مكية، وقيل إن الآيات من ١٦٣- ١٧٠ مدنية، وكان نزولها بعد سورة «ص».
٢- ومناسبتها لسورة الأنعام التي قبلها أن سورة الأعراف تعتبر كالتفصيل لها، فإن سورة الأنعام قد تكلمت عن أصول العقائد وكليات الدين كلاما إجماليا، ثم جاءت سورة الأعراف فكانت كالشرح والتفصيل لذلك الإجمال، خصوصا فيما يتعلق بقصص الأنبياء مع أقوامهم وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
٣- مقاصدها ومميزاتها: وقد اشتملت سورة الأعراف على المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها السور المكية، كإقامة الأدلة على وحدانية الله، وعلى صدق رسوله محمد ﷺ وعلى أن يوم القيامة حق.. إلخ.
والذي يتأمل هذه السورة الكريمة يراها تهتم بعرض الحقائق في أسلوبين بارزين فيها، أحدهما أسلوب التذكير بالنعم، والآخر أسلوب التخويف من العذاب والنقم.
أما أسلوب التذكير بالنعم فتراه واضحا في لفتها لأنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسونه من نعمة تمكينهم في الأرض، ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم، ونعمة تمتع الإنسان بما في هذا الكون من خيرات سخرها الله له.
وأما أسلوب التخويف بالعذاب فالسورة الكريمة زاخرة به، تلمس ذلك في قصص نوح، وهود، وصالح. ولوط، وشعيب، وموسى- عليهم السلام- مع أقوامهم.
وقد استغرق هذا القصص أكثر من نصفها، وقد ساقت لنا السورة الكريمة ما دار بين الأنبياء وبين أقوامهم، وما آل إليه أمر أولئك الأقوام الذين لم يستجيبوا لنصائح المرسلين إليهم.
٤- عرض إجمالى لها: ونحن عند ما نستعرض سورة الأعراف نراها في الربع الأول منها تطالعنا بالحديث عن عظمة القرآن وتأمرنا باتباعه، وتحذرنا من مخالفته، وتحثنا على المسارعة إلى العمل الصالح الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة.
ثم ساقت لنا بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس، وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من الشجرة المحرمة، فلما أكل منها هو وزوجه.
بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.
ثم وجهت إلى بنى آدم نداء في أواخر هذا الربع نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان.
قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما، إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.
وفي الربع الثاني منها نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد، وتخبرنا بأن الله- تعالى-، قد أباح لنا أن نتمتع بالطيبات التي أحلها لنا، وتبشرنا بحسن العاقبة متى اتبعنا الرسل الذين أرسلهم الله لهدايتنا، ثم تسوق لنا في بضع آيات عاقبة المكذبين لرسل الله، وكيف أن كل أمة من أمم الكفر عند ما تقف بين يدي الله للحساب تلعن أختها.
قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ، قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
ثم تبين السورة بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
وفي أواخر هذا الربع وفي أوائل الربع الثالث منها نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وتحكى لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات، تنتهي بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.
فيجيبهم أصحاب الجنة: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا.
ثم تسوق لنا السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه، وتدعونا إلى شكره عليها لكي يزيدنا من فضله.
أما في الربع الخامس منها فقد بينت لنا سنن الله في خلقه، ومن مظاهر هذه- السنن أنه- سبحانه- لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار، وأن الناس لو آمنوا لفتح- سبحانه- عليهم بركات من السماء والأرض وأن الذين يأمنون مكر خالقهم هم القوم الخاسرون.
قال تعالى: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ.
ثم عقب على ذلك ببيان أن الله- تعالى- قد ساق قصص السابقين للعظة والاعتبار.
ثم أسهبت السورة في الحديث عن قصة موسى- عليه السلام- فقصت علينا في زهاء سبعين آية- استغرقت الربع السادس والسابع والثامن- ما دار بينه وبين فرعون من محاورات ومناقشات، وما حصل بينه وبين السحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة:
آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
ثم حكت لنا ما لقيه موسى من قومه بنى إسرائيل من تكذيب وجهالات، مما يدل على أصالتهم في التمرد والعصيان، وعراقتهم في الكفر والطغيان.
وفي الربع التاسع منها حدثتنا عن العهد الذي أخذه الله على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم حضتنا على التفكر والتدبر في ملكوت السموات والأرض، وبينت لنا أن موعد قيام الساعة لا يعلمه سوى علام الغيوب، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات الله، ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
أما في الربع العاشر والأخير فقد اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله، ووبخت المشركين على شركهم، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.