هذه السورة مدنية، ونزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة، كان قد وجه كتاباً، مع امرأة إلى أهل مكة يخبرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه إليهم لغزوهم ؛ فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ووجه إلى المرأة من أخذ الكتاب منها، والقصة مشهورة في كتب الحديث والسير.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما ذكر فيما قبلها حالة المنافقين والكفار، افتتح هذه بالنهي عن موالاة الكفار والتودّد إليهم، وأضاف في قوله :﴿ عَدُوّى ﴾ تغليظاً، لجرمهم وإعلاماً بحلول عقاب الله بهم.
ﰡ
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ١٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، كَانَ قَدْ وَجَّهَ كِتَابًا، مَعَ امْرَأَةٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمْ لِغَزْوِهِمْ فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَوَجَّهَ إِلَى الْمَرْأَةِ مَنْ أَخَذَ الْكِتَابَ مِنْهَا، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا حَالَةَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ، افْتَتَحَ هَذِهِ بِالنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمْ، وَأَضَافَ فِي قَوْلِهِ: عَدُوِّي تَغْلِيظًا، لِجُرْمِهِمْ وَإِعْلَامًا بِحُلُولِ عِقَابِ اللَّهِ بِهِمْ. وَالْعَدُوُّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ، وأولياء مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتَتَّخِذُوا. تُلْقُونَ: بَيَانٌ لِمُوَالَاتِهِمْ، فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، أَوِ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ.
وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَا تَتَّخِذُوا، أَوْ صِفَةٌ لِأَوْلِيَاءَ، وَهَذَا تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ الْفَرَّاءُ، قَالَ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مِنْ صِلَةِ أَوْلِياءَ. انْتَهَى. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ النَّكِرَةَ تُوصَلُ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا تُوصَلُ بَلْ تُوصَفُ، وَالْحَالُ وَالصِّفَةُ قَيْدٌ وَهُمْ قَدْ نُهُوا عَنْ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مُطْلَقًا، وَالتَّقْيِيدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذُوا أَوْلِيَاءَ إِذَا لَمْ يَكُونُوا فِي حَالِ إِلْقَاءِ الْمَوَدَّةِ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَوْلِيَاءُ مُتَّصِفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «١»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَلَا ذَلِكَ الْوَصْفِ. وَالْأَوْلِيَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِفْضَاءِ بِالْمَوَدَّةِ، وَمَفْعُولُ تُلْقُونَ مَحْذُوفٌ، أَيْ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْرَارَهُ. وَالْبَاءُ فِي بِالْمَوَدَّةِ لِلسَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ الْمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، كَمَا قِيلَ: فِي: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: أَيْ أَيْدِيكُمْ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ «٢» : أَيْ إِرَادَتُهُ بِإِلْحَادٍ. انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْمَوَدَّةِ مُتَعَلِّقًا بِالْمَصْدَرِ، أَيْ إِلْقَاؤُهُمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَحَذْفَ الْخَبَرِ، إِذْ إِلْقَاؤُهُمْ مُبْتَدَأٌ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقَدْ كَفَرُوا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَذُو الْحَالِ
(٢) سورة الحج: ٢٢/ ٢٥.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِما جاءَكُمْ، وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْمُعَلَّى عَنْ عَاصِمٍ: لِمَا بِاللَّامِ مَكَانَ الْبَاءِ، أَيْ لِأَجْلِ مَا جَاءَكُمْ. يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ: اسْتِئْنَافٌ، كَالتَّفْسِيرِ لِكُفْرِهِمْ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كَفَرُوا، وَإِيَّاكُمْ: مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّسُولِ. وَقَدَّمَ عَلَى إِيَّاكُمُ الرَّسُولَ لِشَرَفِهِ، وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ. وَلَوْ تَقَدَّمَ الضَّمِيرُ لَكَانَ جَائِزًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ، قَالَ: لِأَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَأْتِيَ بِهِ مُتَّصِلًا، فَلَا تُفْصَلُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ «١» وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ، وَقَدَّمَ الْمَوْصُولَ هُنَا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ لِلسَّبْقِ فِي الزَّمَانِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وأَنْ تُؤْمِنُوا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ يُخْرِجُونَ لِإِيمَانِكُمْ أَوْ كَرَاهَةَ إِيمَانِكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ: شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي، وَنُصِبَ جِهَادًا وَابْتِغَاءَ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُجَاهِدِينَ وَمُبْتَغِينَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. تُسِرُّونَ: اسْتِئْنَافٌ، أَيْ تُسِرُّونَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَعْلَمُ الْإِخْفَاءَ وَالْإِعْلَانَ، وَأُطْلِعُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا طَائِلَ فِي فِعْلِكُمْ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تُسِرُّونَ بَدَلٌ مِنْ تُلْقُونَ. انْتَهَى، وَهُوَ شَبِيهٌ بِبَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ يَكُونُ سِرًّا وَجَهْرًا، فَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَنْتُمْ تُسِرُّونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَعْلَمُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِالْبَاءِ. وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا عُدِّيَ بِالْبَاءِ قَالَ: لِأَنَّكَ تَقُولُ عَلِمْتُ بِكَذَا. وَأَنَا أَعْلَمُ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، أَيْ وَمَنْ يَفْعَلِ الْإِسْرَارَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَعُودُ عَلَى الِاتِّخَاذِ، وَانْتَصَبَ سَوَاءَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ تَعَدِّي ضَلَّ، أَوْ عَلَى الظَّرْفِ عَلَى تَقْدِيرِ اللُّزُومِ، وَالسَّوَاءُ: الْوَسَطُ.
وَلَمَّا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ، وَشَرَحَ مَا بِهِ الْوِلَايَةُ مِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمْ، وَذَكَرَ مَا صَنَعَ الْكُفَّارُ بِهِمْ أَوَّلًا مِنْ إِخْرَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ صَنِيعَهُمْ آخِرًا لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إِنْ تَمَكَّنُوا مِنْكُمْ تَظْهَرْ عَدَاوَتُهُمْ لَكُمْ، وَيَبْسُطُوا أَيْدِيَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالتَّعْذِيبِ، وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسَّبِّ وَوَدُّوا لَوِ ارْتَدَدْتُمْ عَنْ دِينِكُمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكُمْ، وَهُوَ سَبَبُ إِخْرَاجِهِمْ إِيَّاكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَوْرَدَ جواب الشرط مضارعا
وَلَمَّا كَانَ حَاطِبٌ قَدِ اعْتَذَرَ بِأَنَّ لَهُ بِمَكَّةَ قَرَابَةً، فَكَتَبَ إِلَى أَهْلِهَا بِمَا كَتَبَ لِيَرْعَوْهُ فِي قَرَابَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ: أَيْ قَرَابَاتُكُمُ الَّذِينَ تُوَالُونَ الْكُفَّارَ مِنْ أَجْلِهِمْ، وَتَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ مُحَامَاةً عَلَيْهِمْ. وَيَوْمَ مَعْمُولٌ لِيَنْفَعَكُمْ أَوْ ليفصل. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَفْصِلُ بِالْيَاءِ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعِيسَى وَابْنُ عَامِرٍ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ مُشَدَّدٌ، وَالْمَرْفُوعُ، إِمَّا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَبْنِيٍّ، وَإِمَّا ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَفْصِلُ، أَيْ يُفَصِّلُ هُوَ، أَيِ الْفَصْلُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: يَفْصِلُ بِالْيَاءِ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً مُشَدَّدًا وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالنُّونِ مُشَدَّدًا وَهُمَا أَيْضًا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَأَبُو حَيْوَةَ أَيْضًا: بِالنُّونِ مَضْمُومَةً، فَهَذَا ثَمَانِي قِرَاءَاتٍ.
وَلَمَّا نَهَى عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّ مِنْ سِيرَتِهِ التَّبَرُّؤَ مِنَ الْكُفَّارِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي ذَلِكَ وَيَتَأَسَّوْا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِسْوَةً بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَعَاصِمٌ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَالَّذِينَ مَعَهُ، قِيلَ: مَنْ آمَنَ بِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْأَنْبِيَاءُ مُعَاصِرُوهُ، أَوْ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ عَصْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَتْبَاعٌ مُؤْمِنُونَ فِي مُكَافَحَتِهِ لَهُمْ وَلِنُمْرُوذٍ. أَلَا تَرَاهُ قَالَ لِسَارَّةَ حِينَ رَحَلَ إِلَى الشَّامِ مُهَاجِرًا مِنْ بَلَدِ نُمْرُوذٍ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ يَعْبُدُ اللَّهَ غَيْرِي وَغَيْرُكِ؟ وَالتَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ فِي التَّبَرُّؤِ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَبِرَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْعَقَائِدِ وَأَحْكَامِ الشرع. وقرأ الجمهور بُرَآؤُا جَمْعَ بَرِيءٍ، كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ وَعِيسَى: بَرَاءٌ جَمْعَ بَرِيءٍ أَيْضًا،
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فَمَا بَالُ قَوْلِهِ: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ غَيْرُ حَقِيقٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً؟ قُلْتُ: أَرَادَ اسْتِثْنَاءَ جُمْلَةِ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ، وَالْقَصْدُ إِلَى مَوْعِدِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَمَا بَعْدَهُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ وَتَابِعٌ لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَسْتَغْفِرُ لَكَ وَمَا فِي طَاقَتِي إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّلًا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي مَقَالَاتٍ قَالَ: لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ، فَهُوَ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتَسُوا بِهِ وَيَتَّخِذُوهُ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بها. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ مُضَافٍ لِإِبْرَاهِيمَ تَقْدِيرُهُ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي مَقَالَاتِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَاوَرَاتِهِ لِقَوْمِهِ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، فَلَيْسَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ مُنْدَرِجًا فِي أُسْوَةٍ حَسَنَةٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الْأُسْوَةِ هُوَ الِاقْتِدَاءُ وَالتَّأَسِّي، فَالْقَوْلُ لَيْسَ مُنْدَرِجًا تَحْتَهُ، لَكِنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَقَالَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل إن يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّبَرِّي وَالْقَطِيعَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ، لَمْ تَبْقَ جُمْلَةٌ إِلَّا كَذَا.
انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ الْمَعْنَى، لَكِنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، فَلَا تَأَسَّوْا بِهِ فِيهِ فَتَسْتَغْفِرُوا وَتُفْدُوا آبَاءَكُمُ الْكُفَّارَ بِالِاسْتِغْفَارِ. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَمَا بَعْدَهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتَأَسَّى بِهِ فِيهِ، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالِاسْتِثْنَاءِ اعْتِنَاءً بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلِقُرْبِهِ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ
رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُعَذِّبُنَا بِأَيْدِيهِمْ أَوْ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ وَأَنَّا مُبْطِلُونَ، فَيُفْتَنُوا لِذَلِكَ. وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ قَتَادَةُ وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِأَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ دُعَاءٌ لِلْكَافِرِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِمْ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، وَكُرِّرَتِ الْأُسْوَةُ تَأْكِيدًا، وَأُكِّدَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ أَيْضًا، وَلِمَنْ يَرْجُو بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، بَدَلَ بَعْضِ مِنْ كُلٍّ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، عَزَمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِظْهَارِ عَدَاوَاتِ أَقْرِبَائِهِمُ الْكُفَّارِ، وَلَحِقَهُمْ هَمٌّ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَتَوَادُّوا، فَنَزَلَ عَسَى اللَّهُ الْآيَةَ مُؤْنِسَةً وَمُرْجِئَةً، فَأَسْلَمَ الْجَمِيعُ عَامَ الْفَتْحِ وَصَارُوا إِخْوَانًا. وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَدَّةَ هِيَ تَزْوِيجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، وَأَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَدْ أَخْطَأَ، لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا كَانَ وَقْتَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنْ يَسُوقَهُ مِثَالًا، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ اسْتَمَرَّ بَعْدَ الْفَتْحِ كَسَائِرِ مَا نَشَأَ مِنَ الْمَوَدَّاتِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَعَسَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ، وَاللَّهُ قَدِيرٌ عَلَى تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ وَتَيْسِيرِ الْعَسِيرِ، وَاللَّهُ غَفُورٌ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِمَكَّةَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَكَانُوا فِي رُتْبَةِ سُوءٍ لِتَرْكِهِمْ فَرْضَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ: فِي مُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا تَرَكُوا الْهِجْرَةَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو صالح: في خزاعة وبين الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَكِنَانَةَ وَمُزَيْنَةَ وَقَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ، كَانُوا مُظَاهِرِينَ لِلرَّسُولِ مُحِبِّينَ فِيهِ وَفِي ظُهُورِهِ. وَقِيلَ: فِيمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَا أخرج ولا أظهر سوأ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ قُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبير: فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْكَفَرَةِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ وَالثَّعْلَبِيُّ: أَرَادَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الْهِجْرَةَ.
وَقِيلَ: قَدِمَتْ عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أُمُّهَا نُفَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، بِهَدَايَا، فَلَمْ تَقْبَلْهَا وَلَمْ تَأْذَنْ لَهَا بِالدُّخُولِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَأَمَرَهَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُدْخِلَهَا مَنْزِلَهَا وَتَقْبَلَ مِنْهَا وَتَكْفِيَهَا وَتُحْسِنَ إِلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِيمَا رُوِيَ خَالَتَهَا فَسَمَّتْهَا أُمًّا وَفِي التَّحْرِيرِ: أَنَّ أَبَا بكر الصديق رضي الله تَعَالَى عَنْهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ نُفَيْلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ.
كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ قَدْ تَضَمَّنَ أَنَّ مَنْ أَتَى أَهْلَ مَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُرَدَّ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رُدَّ إِلَيْهِمْ، فَجَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ، وَهِيَ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ هَاجَرَتْ بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَخَرَجَ فِي أَثَرِهَا أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ، فَقَالَا: يَا مُحَمَّدُ أَوْفِ لَنَا بِشَرْطِنَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَالُ النِّسَاءِ إِلَى الضَّعْفِ، كَمَا قَدْ عَلِمْتَ، فَتَرُدَّنِي إِلَى الْكُفَّارِ يَفْتِنُونِي عَنْ دِينِي وَلَا صَبْرَ لِي، فَنَقَضَ اللَّهُ الْعَهْدَ فِي النِّسَاءِ، وَأَنْزَلَ فِيهِنَّ الْآيَةَ، وَحَكَمَ بِحُكْمٍ رَضُوهُ كُلُّهُمْ.
وَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ، جَاءَتِ الْحُدَيْبِيَةَ مُسْلِمَةً، فَأَقْبَلَ زوجها مسافر المخدومي.
وَقِيلَ: صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي، فَإِنَّكَ قَدْ شَرَطْتَ لَنَا أَنْ تَرُدَّ عَلَيْنَا مَنْ أَتَاكَ مِنَّا، وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ، فَنَزَلَتْ
بَيَانًا أَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا كَانَ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، امْرَأَةُ حَسَّانَ بْنِ الدَّحْدَاحَةِ، وَسَمَّاهُنَّ تَعَالَى مُؤْمِنَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُمْتَحَنَّ، وَذَلِكَ لِنُطْقِهِنَّ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُنَّ مَا يُنَافِي ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُنَّ مُشَارِفَاتٌ لثبات إيمانهن بالامتحان.
وقرىء: مُهَاجِرَاتٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتُ، وَامْتِحَانُهُنَّ، قَالَتْ عَائِشَةُ: بِآيَةِ الْمُبَايَعَةِ. وَقِيلَ: بِأَنْ يَشْهَدْنَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وإن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وقرأ طلحة: لَا هُنَّ يَحِلَّانِ لَهُمْ، وَانْعَقَدَ التَّحْرِيمُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَتَشْدِيدِ الْحُرْمَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تَحِلَّ الْمُؤْمِنَةُ لِلْكَافِرِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا حِلَّ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ. وَقِيلَ: أَفَادَ قَوْلُهُ: وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ اسْتِمْرَارَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، كَمَا هُوَ فِي الْحَالِ مَا دَامُوا عَلَى الْإِشْرَاكِ وَهُنَّ عَلَى الْإِيمَانِ. وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا: أَمَرَ أَنْ يُعْطَى الزَّوْجُ الْكَافِرُ مَا أَنْفَقَ عَلَى زَوْجَتِهِ إِذَا أَسْلَمَتْ، فَلَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ خُسْرَانُ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ امْتِحَانِهَا زَوْجَهَا الْكَافِرَ، مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَكَانَ إِذَا امْتَحَنَهُنَّ، أَعْطَى أَزْوَاجَهُنَّ مُهُورَهُنَّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحُكْمُ فِي رَدِّ الصَّدَاقِ إِنَّمَا كَانَ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ، فَأَمَّا مَنْ لَا عَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ، وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، ثُمَّ نَفَى الْحَرَجَ فِي نِكَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُنَّ إِذَا آتَوهُنَّ مُهُورَهُنَّ، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِفِرَاقِ نِسَائِهِنَّ الْكَوَافِرِ عَوَابِدِ الْأَوْثَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُمْسِكُوا مُضَارِعُ أَمْسَكَ، كَأَكْرَمَ وَأَبُو عَمْرٍو وَمُجَاهِدٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: مُضَارِعُ مَسَّكَ مُشَدَّدًا وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ مُعَاذٍ: تَمَسَّكُوا بِفَتْحِ الثَّلَاثَةِ، مُضَارِعُ تَمَسَّكَ مَحْذُوفَ الثَّانِي بِتَمَسَّكُوا وَالْحَسَنُ أَيْضًا: تُمْسِكُوا بِكَسْرِ السِّينِ، مُضَارِعُ مَسَكَ ثُلَاثِيًّا. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: الْكَوافِرِ، يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ:
النَّحْوِيُّونَ لَا يَرَوْنَ هَذَا إِلَّا فِي النِّسَاءِ، جَمْعُ كَافِرَةٍ، وَقَالَ: أَلَيْسَ يُقَالُ: طَائِفَةٌ كَافِرَةٌ وَفِرْقَةٌ كَافِرَةٌ؟ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَبُهِتَ فَقُلْتُ: هَذَا تَأْيِيدٌ. انْتَهَى. وَهَذَا الْكَرْخِيُّ مُعْتَزِلِيٌّ فَقِيهٌ، وَأَبُو عَلِيٍّ مُعْتَزِلِيٌّ، فَأَعْجَبَهُ هَذَا التَّخْرِيجُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ كَافِرَةٌ فِي وَصْفِ الرِّجَالِ إِلَّا تَابِعًا لِمَوْصُوفِهَا، أَوْ يَكُونُ مَحْذُوفًا مُرَادًا، أَمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يُجْمَعُ فَاعِلَةٌ عَلَى فَوَاعِلَ إِلَّا
وَلَمَّا تَقَرَّرَ هَذَا الْحُكْمُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ، فِيمَا رُوِيَ: لَا نَرْضَى هَذَا الْحُكْمَ وَلَا نَلْتَزِمُهُ وَلَا نَدْفَعُ لِأَحَدٍ صَدَاقًا، فَنَزَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى: وَإِنْ فاتَكُمْ، فَأَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْفَعُوا مَنْ فَرَّتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَفَاتَتْ بِنَفْسِهَا إِلَى الْكُفَّارِ وَانْقَلَبَتْ مِنَ الْإِسْلَامِ، مَا كَانَ مَهْرُهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لِإِيقَاعِ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَائِدَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنْ لَا يُغَادَرَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَإِنْ قَلَّ وَحَقُرَ، غَيْرُ مُعَوَّضٍ مِنْهُ تَغْلِيظًا فِي هَذَا الْحُكْمِ وَتَشْدِيدًا فِيهِ. انْتَهَى. وَاللَّاتِي ارْتَدَدْنَ مِنْ نِسَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَلَحِقْنَ بِالْكُفَّارِ: أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، زَوْجُ عِيَاضِ بْنِ شَدَّادٍ الْفِهْرِيِّ وَأُخْتُ أُمِّ سَلَمَةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، زوج عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَبْدَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى، زَوْجُ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ جَرْوَلٍ، زَوْجُ عُمَرَ أَيْضًا. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُنَّ سِتٌّ، فَذَكَرَ: أُمَّ الْحَكَمِ، وَفَاطِمَةَ بِنْتَ أبي أمية زوج عمر بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدَةَ وَذَكَرَ أَنَّ زَوْجَهَا عَمْرُو بْنُ وُدٍّ، وَكُلْثُومَ، وَبِرْوَعَ بِنْتَ عُقْبَةَ كَانَتْ تَحْتَ شَمَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ، وَهِنْدَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ كَانَتْ تَحْتَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي، أَعْطَى أَزْوَاجَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهُورَهُنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَعاقَبْتُمْ بِأَلِفٍ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَعِكْرِمَةُ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ: بِشَدِّ الْقَافِ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْرَجُ أَيْضًا وَأَبُو حَيْوَةَ أَيْضًا وَالزُّهْرِيُّ أَيْضًا وَابْنُ وَثَّابٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِخَفِّ الْقَافِ مَفْتُوحَةً وَمَسْرُوقٌ وَالنَّخَعِيُّ أَيْضًا وَالزُّهْرِيُّ أَيْضًا:
بِكَسْرِهَا وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: فَأَعْقَبْتُمْ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، يُقَالُ: عَاقَبَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ فِي كَذَا، أَيْ جَاءَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْقُبُ فِعْلَ الْآخَرِ، وَيُقَالُ: أَعْقَبَ، قال:
وحادرت البلد الحلاد وَلَمْ يَكُنْ | لِعُقْبَةِ قِدْرِ الْمُسْتَعِيرِينَ يُعْقِبُ |
فَآتُوا مَنْ فَاتَتْهُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْكُفَّارِ مِثْلَ مَهْرِهَا مِنْ مَهْرِ الْمُهَاجِرَةِ، وَلَا يُؤْتُوهُ زَوْجَهَا الْكَافِرَ،
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ: كَانَتْ بَيْعَةُ النِّسَاءِ فِي ثَانِي يَوْمِ الْفَتْحِ على جبل الصفاء، بعد ما فَرَغَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ، وَهُوَ عَلَى الصَّفَا وَعُمَرُ أَسْفَلُ مِنْهُ يُبَايِعُهُنَّ بِأَمْرِهِ وَيُبَلِّغُهُنَّ عَنْهُ، وَمَا مَسَّتْ يَدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ قَطُّ.
وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ: كُنْتُ فِي النِّسْوَةِ الْمُبَايِعَاتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْسُطْ يَدَكَ نُبَايِعْكَ، فَقَالَ لِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ لَكِنْ آخُذُ عَلَيْهِنَّ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ»، وَكَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي النِّسَاءِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْآيَةَ. فَلَمَّا قَرَّرَهُنَّ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا، قَالَتْ هِنْدٌ: وَكَيْفَ نَطْمَعُ أَنْ تَقْبَلَ مِنَّا مَا لَمْ تَقْبَلْهُ مِنَ الرِّجَالِ؟ تَعْنِي أَنَّ هَذَا بَيِّنٌ لُزُومُهُ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى السَّرِقَةِ قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُصِيبُ الْهَنَةَ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ، لَا أَدْرِي أَيَحِلُّ لِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا أَصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا عَبَرَ فَهُوَ لَكِ حَلَالٌ، فَضَحِكَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَهَا، فَقَالَ لَهَا: «وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ»، قَالَتْ: نَعَمْ، فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فَقَالَ: وَلا يَزْنِينَ، فَقَالَتْ: أو تزني الْحُرَّةُ؟ قَالَ:
وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ، فَقَالَتْ: رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلْتَهُمْ كِبَارًا، وَكَانَ ابْنُهَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَضَحِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَتَّى اسْتَلْقَى، وَتَبَسَّمَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ الْبُهْتَانَ لَأَمْرٌ قَبِيحٌ، وَلَا يَأْمُرُ اللَّهُ إِلَّا بِالرُّشْدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. فَقَالَ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا جَلَسْنَا مَجْلِسَنَا هَذَا وَفِي أَنْفُسِنَا أَنْ نَعْصِيَكَ فِي شَيْءٍ.
ومعنى قول هند: أو تزني الْحُرَّةُ أَنَّهُ
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ: وَلَا يُقَتَّلْنَ مُشَدَّدًا
، وَقَتْلُهُنَّ مِنْ أَجْلِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ.
وَالْبُهْتَانُ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: أَنْ تَنْسُبَ إِلَى زَوْجِهَا وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَقِطُ الْمَوْلُودَ فَتَقُولُ لِزَوْجِهَا: هُوَ وَلَدِي مِنْكَ. بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ: لِأَنَّ بَطْنَهَا الَّذِي تَحْمِلُهُ فِيهِ بَيْنَ الْيَدَيْنِ، وَفَرْجَهَا الَّذِي تَلِدُهُ بِهِ بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ: الْبُهْتَانُ: الْعَضَّةُ، لِأَنَّهَا إِذَا قَذَفَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرَهَا، فَقَدْ بَهَتَتْ مَا بَيْنَ يَدَيِ الْمَقْذُوفَةِ وَرِجْلَيْهَا، إِذْ نَفَتْ عَنْهَا وَلَدًا قَدْ وَلَدَتْهُ، أَوْ أَلْحَقَتْ بِهَا وَلَدًا لَمْ تَلِدْهُ. وَقِيلَ: الْبُهْتَانُ: السِّحْرُ. وَقِيلَ: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ أَلْسِنَتُهُنَّ بِالنَّمِيمَةِ، وَأَرْجُلِهِنَّ فُرُوجُهُنَّ. وَقِيلَ: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ قُبْلَةٌ أَوْ جَسَّةٌ، وَأَرْجُلِهِنَّ الْجِمَاعُ. وَمِنَ الْبُهْتَانِ الْفِرْيَةُ بِالْقَوْلِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، والكذب فيما اؤتمنّ عَلَيْهِ مِنْ حَمْلٍ وَحَيْضٍ، وَالْمَعْرُوفُ الَّذِي نُهِيَ عَنِ الْعِصْيَانِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ النَّوْحُ وَشَقُّ الْجُيُوبِ وَوَشْمُ الْوُجُوهِ وَوَصْلُ الشَّعَرِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ فَرْضُهَا وَنَدْبُهَا. وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُوَاصِلُونَ الْيَهُودَ لِيُصِيبُوا مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَنَّهُمُ الْيَهُودُ، فَسَّرَهُمُ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ، لِأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ قَدْ صَارَ عُرْفًا لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ، لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ عَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.
وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ خَيْرِهَا وَثَوَابِهَا. وَالظَّاهِرُ إِنَّ مِنْ فِي مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ لِقَاءِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ. فَمِنْ الثَّانِيَةُ كَالْأُولَى مِنَ الْآخِرَةِ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ. انْتَهَى. وَالْكُفَّارُ عَلَى هَذَا كَفَّارُ مَكَّةَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتَ لَهُمْ حَمِيمٌ قَالُوا: هَذَا آخِرُ الْعَهْدِ بِهِ، لَنْ يُبْعَثَ أَبَدًا، وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ. وَقِيلَ:
مَنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَيِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ الْقُبُورِ، وَالْمَأْيُوسُ مِنْهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الْمَقْبُورُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حَيًّا لَمْ يُقْبَرْ، كَانَ يُرْجَى لَهُ أَنْ لَا يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِذْ هُوَ مُتَوَقَّعٌ إِيمَانُهُ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مُجَاهِدٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبَيَانُ الْجِنْسِ أَظْهَرُ. انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُ مَنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، إِذْ لَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: كَمَا يَئِسَ الْكَافِرُ عَلَى الْإِفْرَادِ.
وَالْجُمْهُورُ: عَلَى الْجَمْعِ. وَلَمَّا فَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ، خَتَمَهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ تأكيدا لترك موالاتهم وَتَنْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَوَلِّيهِمْ وَإِلْقَاءِ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ.