تفسير سورة الممتحنة

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٦٠) سورة الممتحنة مدنيّة وآياتها ثلاث عشرة
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
56
بِالْمَوَدَّةِ)
يا حرف نداء وأيّها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والذين بدل من أيدي وجملة آمنوا صلة ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وعدوي مفعول به، وهو يقع على الواحد فما فوقه لأنه بزنة المصدر، وعدوكم عطف على عدوي وأولياء مفعول به ثان وجملة تلقون حال من فاعل تتخذوا ويجوز أن تكون في موضع نصب صفة لأولياء ويجوز أن تكون تفسيرية لا محل لها لموالاتهم إياهم وقيل هي استئناف مسوق للإخبار بذلك وتلقون فعل وفاعل والمفعول به محذوف تقديره إخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقيل الباء زائدة والمودّة هي المفعول به ولا حذف وإليهم متعلق بتلقون (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وكفروا فعل وفاعل والجملة حال من لا تتخذوا أو من تلقون والمعنى لا توادوهم وهذه حالهم وبما متعلقان بكفروا وجملة جاءكم صلة ومن الحق حال (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) جملة يخرجون مستأنفة أو مفسّرة لكفرهم فلا محل لها على الحالين ويجوز أن تكون حالا من فاعل كفروا والرسول مفعول وإياكم عطف على الرسول وأن تؤمنوا مصدر مؤول في محل نصب مفعول لأجله أي لإيمانكم بالله وبالله متعلق بتؤمنوا وربكم بدل (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة خرجتم خبر كنتم وجهادا مفعول لأجله أي لأجل الجهاد ويجوز أن يكون النصب على الحال أي حال كونكم مجاهدين وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله لا تتخذوا (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) جملة تسرون إما مستأنفة وإما تابعة لتلقون إليهم على أنها بدل بعض من كل لأن إلقاء المودّة أعمّ من السرّ والجهر، وتسرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول به محذوف وبالمودّة متعلقان بتسرون أو الباء زائدة في
57
المفعول على غرار ما تقدم في تلقون إليهم بالمودّة والواو حالية وأنا مبتدأ وأعلم خبر على أنه اسم تفضيل وبما متعلقان بأعلم وجملة أخفيتم صلة ما ويجوز أن تكون أعلم فعلا مضارعا وما أعلنتم عطف على بما أخفيتم (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) الواو عاطفة أو مستأنفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويفعله فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره هو والهاء مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط لاقترانه بقد وضلّ فعل وفاعله هو وسواء السبيل مفعوله وقيل ضلّ لازم فينصب سواء السبيل على الظرفية المكانية (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) إن شرطية ويثقفوكم فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به ويكونوا جواب الشرط وعلامة جزمه حذف النون أيضا والواو اسمها وأعداء خبرها ولكم حال وفي المصباح:
«ثقفت الشيء ثقفا من باب تعب أخذته وثقفت الرجل في الحرب أدركته وثقفته ظفرت به وثقفت الحديث فهمته بسرعة والفاعل ثقيف» (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) عطف على يكونوا وإليكم متعلقان بيبسطوا وأيديهم مفعول به وألسنتهم عطف على أيديهم وبالسوء حال (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) عطف أيضا على جملة الشرط والجزاء فيكون تعالى قد أخبر بخبرين: بما تضمنته الجملة الشرطية وبودادتهم كفر المؤمنين وسيأتي سر العدول عن المضارع إلى الماضي، ولو مصدرية وتكفرون فعل مضارع مرفوع ولو وما في حيّزها مصدر في محل نصب مفعول ودّوا (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) كلام مستأنف مسوق للإعلام بأن أرحامهم وأولادهم لن ينفعوهم، ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتنفعكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به مقدم وأرحامكم فاعل مؤخر ولا أولادكم عطف على أرحامكم ويوم القيامة ظرف متعلق بما قبله أي لن ينفعكم يوم القيامة فيوقف عليه أو متعلق بما بعده أي يفصل بينكم يوم القيامة، ويفصل فعل مضارع
58
وفاعله هو أي الله تعالى وقرىء يفصل بالبناء للمجهول وبينكم ظرف متعلق بيفصل على كل حال (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الله مبتدأ وبما متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة وبصير خبر الله.
البلاغة:
عدل عن المضارع المناسب لما قبله في قوله «وودّوا لو تكفرون» إلى الماضي مع أن السياق يتطلب أن يكون مضارعا مستقبلا لاعتباره قد كان أي أن ودادتهم كفركم هو المهم لديهم ولا شيء يعدله في الرجحان، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم جميع مضار الدنيا والدين وارتدادكم كفّارا أسبق المضار لكم لأنهم يعلمون أن الدين أعزّ عليكم من أرواحكم وهذا من بديع التعبير.
الفوائد:
وقد آن أن ننقل إليك خلاصة وافية للقصة التي نزلت السورة بسببها لما فيها من متعة وفائدة فقد روى الأئمة واللفظ لمسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: ائتوا روضة خاخ- بالصرف وعدمه- موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا نهادي خيلنا أي نسرعها فإذا نحن بامرأة فقلنا اخرجي الكتاب فقالت: ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ فقال: لا تعجل عليّ يا رسول
59
الله إنّي كنت امرأ ملصقا في قريش- قال سفيان: كان حليفا لهم ولم يكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وإن كتابي لا يغني عنهم شيئا وأنّ الله ناصرك عليهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: صدق فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنه شهد بدرا وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عزّ وجلّ: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء» الآية. قيل اسم المرأة سارة وهي مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم.
نص الكتاب:
أما نص كتاب حاطب فهو «أما بعد فإن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ولأنجز له موعده فيكم فإن الله وليّه وناصره».
وذكر القشيري والثعلبي أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن وكان في مكة حليف بني أسد بن عبد العزّى رهط الزبير بن العوّام وقيل كان حليفا للزبير بن العوّام فقدمت من مكة سارة إلى المدينة ورسول الله يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله: أمهاجرة جئت يا سارة؟ فقالت: لا فقال: أمسلمة جئت؟ قالت: لا قال: فما جاء بك؟
قالت: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشير وقد ذهب بعض الموالي يعني قتلوا يوم بدر وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني فقال عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من شباب مكة وكانت
60
مغنية قالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله بني عبد المطلب على إعطائها فكسوها وحملوها وأعطوها فخرجت إلى مكة وأتاها حاطب فقال أعطيك عشرة دنانير وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم إلى آخر القصة.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٤ الى ٧]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)
61
اللغة:
(أُسْوَةٌ) بضم الهمزة وكسرها وقد قرىء بها أيّ القدوة وما يتعزى به والجمع أسى بضم الهمزة وكسرها أيضا.
(بَراءٌ) جمع بريء كظريف وظرفاء ويجمع أيضا على براء بكسر الباء كظريف وظرف وعلى براء بضم الباء كتؤام وظؤار وعلى أبراء وأبرياء والبريء الخالص والخالي وخلاف المذنب والمتهم.
الإعراب:
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) كلام مستأنف مسوق لضرب المثال الجدير بالاحتذاء في النهي عن موالاة الكفّار والركون إلى الأعداء وأن الصدور المطوية على الضغن يجب أن تبقى على عدائها حتى يزول السبب القائم فإذا زال انقلبت العداوة مودّة والبغضاء محبة. وقد حرف تحقيق وكانت فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدّم وأسوة اسمها المؤخر وحسنة نعت لأسوة، وفي إبراهيم:
لك أن تعلقه بمحذوف صفة ثانية لأسوة أو حال منها لأنها وصفت، وعبارة أبي البقاء «فيه أوجه: أحدها هو نعت آخر لأسوة والثاني هو متعلق بحسنة تعلق الظرف بالعامل والثالث أن يكون حالا من الضمير في حسنة والرابع أن يكون خبرا لكان ولكم تبيين ولا يجوز أن يتعلق بأسوة لأنها قد وصفت» وقد ردّ على أبي البقاء عدد من المعربين الوجه الأخير لأن الظروف يغتفر فيها ما لا يغتفر بغيرها، والذين عطف على إبراهيم ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف هو الصلة للذين (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن أي حين قالوا وهو بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه وهذا أولى الأعاريب المتكلفة التي ذكرها أبو البقاء وغيره، وجملة قالوا في محل
62
جر بإضافة الظرف إليها ولقومهم متعلقان بقالوا وإن واسمها وبرآء خبرها والجملة مقول قولهم ومنكم متعلق ببرآء ومما عطف على منكم وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) الجملة مفسّرة للتبرؤ منهم ومما يعبدون ولك أن تجعلها حالا أي تبرأنا منكم حال كوننا كافرين بكم، وكفرنا فعل وفاعل وبكم متعلق بكفرنا وبدا فعل ماض وبيننا ظرف متعلق ببدا وبينكم ظرف معطوف على بيننا والعداوة فاعل والبغضاء عطف على العداوة وأبدا ظرف متعلق ببدا أيضا وحتى حرف غاية وجر وتؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وبالله متعلقان بتؤمنوا ووحده حال (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) إلا أداة استثناء وقول إبراهيم مستثنى من أسوة حسنة لأن القول من جملة الأسوة فهو استثناء متصل فكأنه قيل لكم فيه أسوة حسنة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا، وقيل هو استثناء منقطع والمعنى لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك فلا تتأسّوا فيه وعبارة أبي حيان: والظاهر أنه من تمام قول إبراهيم متصلا بما قبل الاستثناء وهو من جملة ما يتأسى به فيه، وفصل بينهما بالاستثناء اعتناء بالاستثناء ولقربه من المستثنى منه. ولأبيه متعلقان بقول، ولأستغفرنّ اللام موطئة للقسم وأستغفرن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنا والجملة مقول القول ولك متعلقان بأستغفرنّ والواو للحال أو للعطف لأن الجملة من تمام قول إبراهيم فهي في محل نصب على الحال من فاعل أستغفرنّ أي أستغفر لك وليس في طاقتي إلا الاستغفار فهو مبني على ما قبله مرتب عليه بطريق الحالية ويجوز العطف أيضا، وما نافية وأملك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ولك متعلقان بأملك ومن الله حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه
63
مفعول أملك (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) تتمة مقول قول الخليل إبراهيم والذين معه فهو من جملة المستثنى منه فيتأسى به فيه فهو في المعنى مقدّم على الاستثناء وجملة الاستثناء اعتراضية في خلال المستثنى منه وعبارة الكشاف «فإن قلت بم اتصل قوله تعالى: ربنا عليك توكلنا قلت بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة ويجوز أن يكون المعنى: قولوا ربنا أمرا من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه وتعليما منه لهم تتميما لما وصّاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفّار والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم وتنبيها على الإثابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر والاستغفار مما فرط منهم» أي فهو مقول قول محذوف وربنا منادى مضاف وعليك متعلقان بتوكلنا وإليك متعلقان بأنبنا والواو عاطفة وإليك خبر مقدّم والمصير مبتدأ مؤخر (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ربنا منادى مضاف أيضا ولا ناهية والمقصود به الدعاء وتجعلنا فعل مضارع مجزوم بلا ونا مفعول به أول وفتنة مفعول به ثان وهو مصدر بمعنى الفاعل أي لا تجعلنا فاتنين لهم بأن ينتصروا علينا فتقصف عقولهم وتفتتن وتسوّل لهم أنفسهم أنهم على حق، أو بمعنى المفعول كما قرر البيضاوي أي لا تجعلنا
مفتونين بهم بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا طاقة لنا باحتماله، وللذين متعلقان بفتنة على الحالين وجملة كفروا صلة الموصول وربنا منادى مضاف كرره للتأكيد وإن واسمها وأنت ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إن والحكيم خبر ثان على كل حال (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) الجملة تابعة لجملة قد كانت لكم أسوة تأكيد لها أتى بها للمبالغة في التحريض على الحكم. واللام موطئة لقسم مقدّر وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدّم وفيهم حال وأسوة اسم كان المؤخر وحسنة نعت لأسوة ولمن
64
بدل بعض من كل من لكم بإعادة الجار وقيل بدل اشتمال وجملة كان صلة لمن واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يرجو الله خبر كان واليوم الآخر عطف على الله (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويتول فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والفاء رابطة للجواب والجواب محذوف تقديره فإن وبال توليه على نفسه وإن واسمها وخبراها تعليل للجواب (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) عسى فعل من أفعال الرجاء والله اسمها وأن يجعل في موضع الخبر وبينكم ظرف في موضع المفعول الثاني ليجعل وبين الذين عاديتهم عطف على الظرف ومودّة مفعول يجعل الأول ومنهم حال من الذين عاديتم (وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مبتدأ وخبر وعطف عليهما مثيلهما.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٨ الى ٩]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
الإعراب:
(لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) كلام مستأنف مسوق لبيان الترخيص في صلة الذين لم يقاتلوا المؤمنين ولم يخرجوهم
65
من ديارهم ولا نافية وينهاكم الله فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وعن الذين متعلقان بينهاكم وجملة لم يقاتلوكم صلة الموصول وفي الدين متعلقان بيقاتلوكم أي لأجله (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ولم يخرجوكم عطف على لم يقاتلوكم ومن دياركم متعلقان بيخرجوكم وأن تبرّوهم في موضع جر بدل اشتمال من الذين، وتقسطوا إليهم عطف على تبروهم وإن واسمها وجملة يحبّ المقسطين خبرها وجميل قول الزمخشري بهذا الصدد «وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم مترجمة عن حال مسلم يجترىء على ظلم أخيه المسلم» (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إنما كافّة ومكفوفة وينهاكم الله فعل مضارع ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر وعن الذين متعلقان بينهاكم وجملة قاتلوكم صلة الذين وفي الدين متعلقان بقاتلوكم (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) وأخرجوكم عطف على قاتلوكم ومن دياركم متعلقان بأخرجوكم وظاهروا عطف أيضا وعلى إخراجكم متعلقان بظاهروا أي عاونوا على إخراجكم وأن وما في حيّزها بدل اشتمال من الذين وقد تقدم نظيره (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويتولهم فعل الشرط والفاء رابطة وجملة أولئك هم الظالمون في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من.
66

[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٠ الى ١٣]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
اللغة:
(فَامْتَحِنُوهُنَّ) فابتلوهنّ واختبروهن ولذلك سمّيت السورة الممتحنة بكسر الحاء أي المختبرة، أراد المرأة أو الجماعة الممتحنة فقد ذكر فيها أمر جماعة المؤمنين بالامتحان، وإن فتحت الحاء يكون المعنى سورة المرأة المهاجرة التي نزلت فيها آية الامتحان وسيأتي حديثها في باب الفوائد.
67
(بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) العصم جمع عصمة وهي هنا عقد النكاح وكل ما عصم به الشيء فهو عصام وعصمة وقد مرّت خصائص العين والصاد فاء وعينا، والكوافر جمع كافرة كضوارب في ضاربة، وعبارة أبي حيان «وقال الكرخي: الكوافر يشمل الرجال والنساء فقال له أبو علي الفارسي النحويون لا يرون هذا إلا في النساء جمع كافرة فقال أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة قال أبو علي: فبهت فقلت هذا تأييد» والكرخي هذا معتزلي فقيه وأبو علي معتزلي أيضا فأعجبه هذا التخريج وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعا لموصوفها أو يكون محذوفا مرادا أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة جاءكم في محل جر بإضافة الظرف إليها والمؤمنات فاعل مؤخر ومهاجرات حال والفاء رابطة وجملة امتحنوهنّ لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) الله مبتدأ وأعلم خبر وبإيمانهنّ متعلقان بأعلم لأنه أفعل تفضيل والفاء عاطفة وإن شرطية وعلمتموهنّ فعل الشرط وهو فعل وفاعل ومفعول به أول ومؤمنات مفعول به ثان والفاء رابطة للجواب لأنه جملة طلبية ولا ناهية وترجعوهنّ فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وإلى الكفّار متعلقان بترجعوهنّ (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الجملة لا محل لها لأنها تعليلية لقوله فلا ترجعوهنّ، ولا نافية
68
وهنّ مبتدأ وحلّ خبر ولهم متعلقان بحل ولا هم يحلّون لهنّ عطف على الجملة الآنفة مماثلة لها (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) الواو عاطفة وآتوهم فعل ماض وفاعل ومفعول به والضمير يعود إلى الكفّار أي أعطوا أزواجهنّ الكفّار ما أنفقوا عليهن، وما مفعول به ثان وجملة أنفقوا صلة ما أي ما أنفقوا عليهنّ من المهور (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) الواو عاطفة ولا نافية للجنس وجناح اسمها المبني على الفتح وعليكم خبر لا وأن حرف مصدري ونصب وتنكحوهنّ فعل مضارع منصوب بأن والمصدر المؤول في محل نصب بنزع الخافض أي في أن تنكحوهنّ والجار والمجرور متعلقان بجناح وإذا ظرف متضمن معنى الشرط وجملة آتيتموهنّ في محل جر بإضافة الظرف إلها وأجورهنّ مفعول ثان لآتيتموهنّ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمسكوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وبعصم الكوافر متعلقان بتمسكوا (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) الواو عاطفة واسألوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وما مفعول به وجملة أنفقتم لا محل لها لأنها صلة ما، وليسألوا الواو عاطفة واللام لام الأمر ويسألوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وما مفعول به وجمل أنفقوا صلة (ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ذلكم مبتدأ والاشارة إلى الحكم الوارد في الآيات وحكم الله خبر وجملة يحكم استئنافية أو حالية من حكم الله وبينكم ظرف متعلق بيحكم والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) الواو عاطفة لتتساوق الأحكام، وإن شرطية وفاتكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وشيء فاعل فاتكم ومن أزواجكم فيه وجهان أولهما يجوز أن يتعلق بفاتكم أي من جهة أزواجكم ويراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج لأنه ورد أن الرجل المسلم إذا فرّت زوجه إلى الكفار أمر الله المؤمنين أن يعطوه ما غرمه
69
وثاني الوجهين أنه يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشيء ثم يجوز في شيء أن يراد به ما تقدم من المهور ولكن على هذا لا بدّ من حذف مضاف أي من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته ويجوز أن يراد بالشيء النساء أي نوع وصنف منهنّ، وإلى الكفار متعلقان بمحذوف حال أي ذاهبات أو سابقات، فعاقبتم الفاء عاطفة وعاقبتم فعل وفاعل أي فغزوتم وغنمتم وأصبتموهم في القتال، فآتوا الفاء رابطة وآتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط والذين مفعول به وجملة ذهبت أزواجهم صلة ومثل مفعول به ثان وما موصول مضاف لمثل وجملة أنفقوا صلة (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به والذي نعت وأنتم مبتدأ وبه متعلق بمؤمنون ومؤمنون خبر أنتم والجملة لا محل لها لأنها صلة الذي (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجمل جاءك في محل جر بإضافة الظرف إليها والكاف مفعول به والمؤمنات فاعل ويبايعنك فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون
النسوة والنون فاعل والكاف مفعول به والجملة حالية أي حال كونهنّ طالبات للمبايعة وعلى حرف جر وأن وما في حيّزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بيبايعنك وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ) كلام معطوف على أن لا يشركن ومعنى يقتلن أولادهنّ كما كان الحال في زمن الجاهلية من وأد البنات، وببهتان متعلقان بيأتين وجملة يفترينه حالية وبين أيديهنّ وأرجلهنّ الظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير المنصوب في يفترينه أي يأتين بولد ملقوط ينسبنه إلى الزوج، وجميل وصفه بصفة الولد الحقيقي فإن الولد متى وضعته أمه سقط بين يديها ورجليها، فبايعهنّ الفاء رابطة
70
لجواب إذا وجملة بايعهنّ لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة واستغفر فعل أمر ولهنّ متعلقان باستغفر والله مفعول به وجملة إن الله غفور رحيم تعليل للأمر بالاستغفار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) كلام مستأنف مسوق لاختتام السورة بمثل ما ابتدأها من النهي عن اتخاذ الكفار أولياء، ولا ناهية وتتولوا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وقوما مفعول به وجملة غضب الله عليهم نعت لقوما (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) الجملة نعت ثان لقوما أو حال بعد أن وصف، وقد حرف تحقيق ويئسوا فعل وفاعل ومن الآخرة متعلقان بيئسوا وكما نعت لمصدر محذوف ويئس الكفار فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي ومن أصحاب القبور فيه وجهان أحدهما أن من لابتداء الغاية كالأولى والمعنى أنهم لا يوقنون ببعث الموتى البتة فيأسهم من الآخرة كيأسهم من موتاهم لاعتقادهم عدم بعثهم والثاني أن من لبيان الجنس يعني أن الكفّار هم أصحاب القبور فيكون متعلق الجار والمجرور بمحذوف حال ومتعلق يئس الثاني محذوفا والمعنى أن هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار حال كونهم من أصحاب القبور من خير الآخرة.
البلاغة:
في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفّار من أصحاب القبور» فن الاستطراد وهو فن رفيع من فنون البيان وقد ذكر الحاتمي أنه نقل هذه التسمية عن البحتري الشاعر وسمّاه ابن المعتز الخروج من معنى إلى معنى ومنه في القرآن المجيد «ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود» فقد
71
استطرد، وفي الآية التي نحن بصددها ذمّ اليهود واستطرد ذمّهم بذمّ المشركين على نوع حسن من النسبة، والاستطراد في اللغة مصدر استطرد الفارس من قرنه في الحرب وذلك أن يفرّ من بين يديه يوهمه الانهزام ثم يعطف عليه على غرّة منه، وفي الاصطلاح أن تكون في غرض من أغراض الشعر توهم أنك مستمر فيه ثم تخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما ولا بدّ من التصريح باسم المستطرد بشرط أن لا يكون قد تقدم له ذكر ثم ترجع إلى الأول، أو يكون آخر الكلام وقيل إن أول شاهد ورد في هذا النوع وسار مسير الأمثال قول السموأل:
وإنّا لقوم لا نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول
فانظر إلى خروجه الداخل في الافتخار إلى الهجو وحسن عوده إلى ما كان عليه من الافتخار بقوله:
يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول
ومنه قول حسان بن ثابت:
إن كنت كاذبة الذي حدّثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام
فانظر كيف خرج من الغزل إلى هجو الحارث بن هشام وهو أخو أبي جهل أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه ومات يوم اليرموك بالشام، ومنه أيضا قول البحتري من قصيدة في وصف فرس:
كالهيكل المبني إلا أنه في الحسن جاء كصورة في هيكل
ملك العيون فإن بدا أعطيته نظر المحب إلى الحبيب المقبل
ما إن يعاف قذى ولو أوردته يوما خلائق حمدويه الأحول
ومثله قول بعضهم يصف خمرا طبخت حتى راقت وصفت:
72
لم يبق منها وقود الطابخين لها إلا كما أبقت الأنواء من داري
فما أحلى استطراده من وصف الخمر إلى وصف داره بالخراب.
ومن الغريب في هذا الباب الاستطراد من الهجو إلى الهجو كقول جرير يهجو الفرزدق:
لها برص بأسفل أسكيتها كعنفقة الفرزدق حين شابا
الفوائد:
اشتملت هذه السورة على فوائد تاريخية وتشريعية نورد منها ما يتعلق بموضوع كتابنا ونحيل القارئ إلى كتب الفقه والتفاسير المطوّلة:
١- روى التاريخ أنه لما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مبايعة الرجال يوم فتح مكّة أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه يبايعهنّ بأمره ويبلغهنّ عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد فقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال وكان قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال رسول الله ولا يسرقن فقالت إن أبا سفيان شحيح وإني أصبت من ماله هنات فما أدري أتحلّ لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف ما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال ولا يزنين فقالت أو تزني الحرة؟
وفي رواية: ما زنت منهنّ امرأة فقال عليه الصلاة والسلام: ولا يقتلن أولادهنّ فقالت ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم
73
رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: ولا يأتين ببهتان فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال ولا يعصينك في معروف فقالت والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
٢- ذكروا في كيفية وأد البنات روايات شتى نرى أن أقربها إلى المنطق ما روي عن ابن عباس قال: «كانت المرأة في الجاهلية إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وردّت التراب عليها وإذا ولدت غلاما أبقته، وكان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية أي بنت ست سنين يقول لأمها طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيذهب بها إلى البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب.
74
Icon