تفسير سورة المرسلات

تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ
تفسير سورة المرسلات
وهي مكية.
قال البخاري : حدثنا عمر بن حفص بن غياث، [ حدثنا أبي ]١، حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، في غار بمنى، إذ نزلت عليه :" وَالْمُرْسَلاتِ " فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ وَثَبت علينا حَيَّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" اقتلوها ". فابتدرناها فذهبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" وُقِيَتْ شركم كما وُقِيتُم شرّهَا ".
وأخرجه مسلم أيضا، من طريق الأعمش٢.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن الزّهْري، عن عُبَيد الله، عن ابن عباس، عن أمه : أنها سَمعَت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عُرفًا٣.
وفي رواية مالك، عن الزهري، عن عُبَيد الله، عن ابن عباس : أن أم الفضل سمعته يقرأ :" وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا "، فقالت : يا بني، ذكَّرتني بقراءتك هذه السورة، أنها لآخر ما سمعتُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب.
أخرجاه في الصحيحين، من طريق مالك، به٤.
١ - (١) زيادة من م، أ، والبخاري..
٢ - (٢) صحيح البخاري برقم (١٨٣٠)، وصحيح مسلم برقم (٢٢٣٤)..
٣ - (٣) المسند (٦/٣٣٨).
٤ - (٤) صحيح البخاري برقم (٧٦٣)، وصحيح مسلم برقم (٤٦٢)..

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، [حَدَّثَنَا أَبِي] (١)، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ-قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَارٍ بِمِنًى، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: " وَالْمُرْسَلاتِ " فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لِأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا، إِذْ وَثَبت عَلَيْنَا حَيَّة، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْتُلُوهَا". فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُم شرّهَا".
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ (٢).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة، عَنِ الزّهْري، عَنْ عُبَيد اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُمِّهِ: أَنَّهَا سَمعَت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلَاتِ عُرفًا (٣).
وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ يَقْرَأُ: " وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا "، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، ذكَّرتني بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، أَنَّهَا لَآخِرُ مَا سمعتُ مِنْ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، بِهِ (٤).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (١) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) ﴾
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ سَهْلٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة: ﴿وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ قال: الملائكة.
(١) زيادة من م، أ، والبخاري.
(٢) صحيح البخاري برقم (١٨٣٠)، وصحيح مسلم برقم (٢٢٣٤).
(٣) المسند (٦/٣٣٨)
(٤) صحيح البخاري برقم (٧٦٣)، وصحيح مسلم برقم (٤٦٢).
296
قَالَ: ورُوي عَنْ مَسْرُوقٍ، وَأَبِي الضُّحَى، وَمُجَاهِدٍ -فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ-وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، مثلُ ذَلِكَ.
ورُويَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الرُّسُلُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ. وَهَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ فِي " الْعَاصِفَاتِ" وَ " النَّاشِرَات " [وَ " الْفَارِقَاتِ "] (١) وَ " الْمُلْقِيَاتِ": أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيل، عَنْ مُسلم البَطين، عَنْ أَبِي العُبَيدَين قَالَ: سَأَلْتُ ابنَ مَسْعُودٍ عَنْ ﴿وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ قَالَ: الرِّيحُ. وَكَذَا قَالَ فِي: ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ إِنَّهَا الرِّيحُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ -فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ-وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ﴿وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ هَلْ هِيَ الْمَلَائِكَةُ إِذَا أُرْسِلَتْ بالعُرْف، أَوْ كعُرْف الفَرَس يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ أَوْ: هِيَ الرِّيَاحُ إِذَا هَبَّت شَيْئًا فَشَيْئًا؟ وَقَطَعَ بِأَنَّ الْعَاصِفَاتِ عَصْفًا هِيَ الرِّيَاحُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ فِي الْعَاصِفَاتِ أَيْضًا: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (٢)، وَالسُّدِّيُّ، وَتَوَقَّفَ فِي ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾ هَلْ هِيَ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الرِّيحُ؟ كَمَا تَقَدَّمَ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: أَنَّ النَّاشِرَاتِ نَشْرًا: الْمَطَرُ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ: "الْمُرْسَلات" هِيَ الرِّيَاحُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [الْحِجْرِ: ٢٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٧] وَهَكَذَا الْعَاصِفَاتُ هِيَ: الرِّيَاحُ، يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ إِذَا هَبَّت بِتَصْوِيتٍ، وَكَذَا النَّاشِرَاتُ هِيَ: الرِّيَاحُ الَّتِي تَنْشُرُ السَّحَابَ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، كَمَا يَشَاءُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَلَا خِلَافَ هَاهُنَا؛ فَإِنَّهَا تَنْزِلَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى الرُّسُلِ، تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالْغَيِّ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَتُلْقِي إِلَى الرُّسُلِ وَحْيًا فِيهِ إِعْذَارٌ إِلَى الْخَلْقِ، وإنذارٌ لَهُمْ عقابَ اللَّهِ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ، أَيْ: مَا وُعِدْتُمْ بِهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالنَّفْخِ فِي الصُّوَرِ، وَبَعْثِ الْأَجْسَادِ وَجَمْعِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَمُجَازَاةِ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، إِنَّ هَذَا كُلَّهُ ﴿لَوَاقِع﴾ أَيْ: لَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾ أَيْ: ذَهَبَ ضَوْؤُهَا، كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ [التَّكْوِيرِ: ٢] وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾ [الِانْفِطَارِ: ٢].
﴿وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ﴾ أَيِ: انْفَطَرَتْ وَانْشَقَّتْ، وَتَدَلَّتْ أَرْجَاؤُهَا، وَوَهَت أَطْرَافُهَا.
﴿وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ﴾ أَيْ: ذُهِب بِهَا، فَلَا يَبْقَى لَهَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا﴾ [طه: ١٠٥ -١٠٧]
(١) زيادة من أ.
(٢) في أ: "علي بن أبي طلحة".
297
وقوله :﴿ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴾ يعني : الملائكة قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومسروق، ومجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، والسّدي، والثوري. ولا خلاف هاهنا ؛ فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل، والهدى والغيّ، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذارٌ لهم عقابَ الله إن خالفوا أمره.
وقوله :﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴾ هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام، أي : ما وعدتم به من قيام الساعة، والنفخ في الصور، وبعث الأجساد وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاة كل عامل بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، إن هذا كله ﴿ لَوَاقِع ﴾ أي : لكائن لا محالة.
ثم قال :﴿ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ﴾ أي : ذهب ضوؤها، كقوله :﴿ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾ [ التكوير : ٢ ] وكقوله :﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾ [ الانفطار : ٢ ].
﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ﴾ أي : انفطرت وانشقت، وتدلت أرجاؤها، وَوَهَت أطرافها.
﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ﴾ أي : ذُهِب بها، فلا يبقى لها عين ولا أثر، كقوله :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ﴾ [ طه : ١٠٥ - ١٠٧ ] وقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٧ ]
وقوله :﴿ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ﴾ قال العوفي، عن ابن عباس : جمعت. وقال ابن زيد : وهذه كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ]. وقال مجاهد :﴿ أُقِّتَت ﴾ أجلت.
وقال الثوري، عن منصور، عن إبراهيم :﴿ أُقِّتَت ﴾ أوعدت. وكأنه يجعلها كقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٩ ].
ثم قال :﴿ لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ يقول تعالى : لأي يوم أجلت الرسل وأرجئ أمرها ؟ حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى :﴿ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ إبراهيم : ٤٧، ٤٨ ] وهو يوم الفصل، كما قال ﴿ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:ثم قال :﴿ لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ يقول تعالى : لأي يوم أجلت الرسل وأرجئ أمرها ؟ حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى :﴿ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ إبراهيم : ٤٧، ٤٨ ] وهو يوم الفصل، كما قال ﴿ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ﴾
ثم قال معظما لشأنه :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي : ويل لهم من عذاب الله غدا. وقد قدمنا في الحديث أن " ويل " : واد في جهنم. ولا يصح.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:ثم قال معظما لشأنه :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي : ويل لهم من عذاب الله غدا. وقد قدمنا في الحديث أن " ويل " : واد في جهنم. ولا يصح.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الْكَهْفِ: ٤٧]
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ﴾ قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جُمِعَتْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ١٠٩]. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿أُقِّتَت﴾ أُجِّلَتْ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ﴿أُقِّتَت﴾ أَوْعِدَتْ. وَكَأَنَّهُ يَجْعَلُهَا كَقَوْلِهِ: ﴿وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الزُّمَرِ: ٦٩].
ثُمَّ قَالَ: ﴿لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتِ الرُّسُلُ وَأُرْجِئَ أَمْرُهَا؟ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٧، ٤٨] وَهُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ، كَمَا قَالَ ﴿لِيَوْمِ الْفَصْلِ﴾
ثُمَّ قَالَ مُعَظِّمًا لِشَأْنِهِ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَيْ: وَيْلٌ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ غَدًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ "وَيْلٌ": وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَلَا يَصِحُّ.
﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (١٧) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) ﴾
﴿ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ﴾ أي : ممن أشبههم ؛ ولهذا قال :﴿ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ قاله ابن جرير١.
١ - (١) تفسير الطبري (٢٩/١٤٤)..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:﴿ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ﴾ أي : ممن أشبههم ؛ ولهذا قال :﴿ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ قاله ابن جرير١.
١ - (١) تفسير الطبري (٢٩/١٤٤)..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:﴿ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ﴾ أي : ممن أشبههم ؛ ولهذا قال :﴿ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ قاله ابن جرير١.
١ - (١) تفسير الطبري (٢٩/١٤٤)..

﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ﴾ ؟ يَعْنِي: مِنَ الْمُكَذِّبِينَ للرسل المخالفين لما جاؤوهم بِهِ،
﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ﴾ أَيْ: مِمَّنْ أَشْبَهَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ (١).
ثُمَّ قَالَ مُمْتَنًّا عَلَى خَلْقِهِ وَمُحْتَجًّا عَلَى الْإِعَادَةِ بالبَدَاءة: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ ؟ أَيْ: ضَعِيفٍ حَقِيرٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدرَة الْبَارِئِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "يس" فِي حَدِيثِ بُسْر بْنِ جِحَاش: "ابنَ آدَمَ، أنَّى تُعجزُني وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مثل هذه؟ " (٢).
(١) تفسير الطبري (٢٩/١٤٤).
(٢) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية: ٢٦ من سورة "القيامة".
﴿ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾ يعني : جمعناه في الرّحِم، وهو قرار الماء من الرجل والمرأة، والرحم معد لذلك، حافظ لما أودع فيه من الماء.
وقوله :﴿ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ يعنى : إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر ؛ ولهذا قال :﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:وقوله :﴿ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ يعنى : إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر ؛ ولهذا قال :﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:وقوله :﴿ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ يعنى : إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر ؛ ولهذا قال :﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
ثم قال :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴾ قال ابن عباس :﴿ كِفَاتًا ﴾ كنَّا. وقال مجاهد : يُكَفتُ الميت فلا يُرَى منه شيء. وقال الشعبي : بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم. وكذا قال مجاهد وقتادة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:ثم قال :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴾ قال ابن عباس :﴿ كِفَاتًا ﴾ كنَّا. وقال مجاهد : يُكَفتُ الميت فلا يُرَى منه شيء. وقال الشعبي : بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم. وكذا قال مجاهد وقتادة.
﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ﴾ يعني : الجبال، أرسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب.
﴿ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ﴾ عذبا زُلالا من السحاب، أو مما أنبعه الله من عيون الأرض.
﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي : ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها، ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره.
﴿فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ يَعْنِي: جَمَعْنَاهُ فِي الرّحِم، وَهُوَ قَرَارُ الْمَاءِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالرَّحِمِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ، حَافِظٌ لِمَا أُوْدِعَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ يَعْنِي: إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
ثُمَّ قَالَ: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿كِفَاتًا﴾ كنَّا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُكَفتُ الْمَيِّتُ فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: بَطْنُهَا لِأَمْوَاتِكُمْ، وَظَهْرُهَا لِأَحْيَائِكُمْ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ.
﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ﴾ يَعْنِي: الْجِبَالَ، أَرْسَى بِهَا الْأَرْضَ لِئَلَّا تَمِيدَ وَتَضْطَرِبَ.
﴿وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا﴾ عَذْبًا زُلالا مِنَ السَّحَابِ، أَوْ مِمَّا أَنْبَعَهُ اللَّهُ مِنْ عُيُونِ الْأَرْضِ.
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَيْ: وَيْلٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يَسْتَمِرُّ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَكُفْرِهِ.
﴿انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ﴾ يَعْنِي: لَهَبَ النَّارِ إِذَا ارْتَفَعَ وصَعِدَ مَعَهُ دُخَانٌ، فَمِنْ شِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ أَنَّ لَهُ ثَلَاثِ شُعَبٍ، ﴿لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ أَيْ: ظِلُّ الدُّخَانِ الْمُقَابِلُ لِلَّهَبِ لَا ظَلِيلٌ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ، يَعْنِي: وَلَا يَقِيهِمْ حَرَّ اللَّهَبِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ﴾ أَيْ: يَتَطَايَرُ الشَّرَرُ مِنْ لَهَبِهَا كَالْقَصْرِ. قَالَ (١) ابْنُ مَسْعُودٍ: كَالْحُصُونِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرِهِمْ: يَعْنِي أُصُولَ الشَّجَرِ.
﴿كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ﴾ أَيْ: كَالْإِبِلِ السُّودِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿جِمَالَةٌ صُفْرٌ﴾ يَعْنِي: حِبَالُ السفن. وعنه -
(١) في م: "قاله".
299
أَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ-: ﴿جِمَالَةٌ صُفْرٌ﴾ قِطَعُ نُحَاسٍ (١).
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: ﴿إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ﴾ قَالَ: كُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْخَشَبَةِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ وَفَوْقَ ذَلِكَ، فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ، فَنُسَمِّيهِ القَصَرَ، ﴿كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ﴾ حِبَالُ السُّفُنِ، تُجْمَعُ حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَاطِ الرِّجَالِ (٢)، ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ﴾ أَيْ: لَا يَتَكَلَّمُونَ.
﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِيهِ لِيَعْتَذِرُوا، بَلْ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَوَقَعَ القولُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ. وَعَرَصَاتُ الْقِيَامَةِ حَالَاتٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ تَارَةً، وَعَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ تَارَةً؛ لِيَدُلَّ عَلَى شِدَّةِ الْأَهْوَالِ وَالزَّلَازِلِ يَوْمَئِذٍ. وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْدَ كُلِّ فَصْلٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ﴾ وَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ مِنَ الْخَالِقِ لِعِبَادِهِ يَقُولُ لَهُمْ: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ﴾ يَعْنِي: أَنَّهُ جَمَعَهُمْ بِقُدْرَتِهِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسمعُهم الدَّاعِي ويَنفُذهُم الْبَصَرُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ﴾ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، أَيْ: إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى أَنْ تَتَخَلَّصُوا مِنْ قَبْضَتِي، وتَنجُوا مِنْ حُكْمِي فَافْعَلُوا، فَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٣٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾ [هُودٍ: ٥٧] وَفِي الْحَدِيثِ: "يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبلُغوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي".
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الطَّرِيقِيُّ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا حُصيَن بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ (٣) حَسَّانَ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الجَدَلي قَالَ: أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا عُبادة بْنُ الصَّامِتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ عُبَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ بِصَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ ويُسمعهم الدَّاعِي، وَيَقُولُ اللَّهُ: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ﴾ الْيَوْمَ لَا يَنْجُو مِنِّي جَبَّارٌ عَنِيدٌ، وَلَا شَيْطَانٌ مَرِيدٌ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو (٤) : فَإِنَّا نُحَدَّثُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ عُنُق مِنَ النَّارِ فَتَنْطَلِقُ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ النَّاسِ نَادَتْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي بُعثتُ إِلَى ثَلاثَة أَنَا أَعْرَفُ بِهِمْ مِنَ الْأَبِ بِوَلَدِهِ وَمِنَ الْأَخِ بِأَخِيهِ، لَا يُغَيّبهم عَنِّي وَزَر، وَلَا تُخفِيهم عَنِّي خَافِيَةٌ: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَكُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَكُلُّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ. فَتَنْطَوِي عَلَيْهِمْ فَتَقْذِفُ بِهِمْ فِي النار قبل الحساب بأربعين سنة (٥).
(١) في م: "النحاس".
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٩٣٣).
(٣) في م: "ابن".
(٤) في م: "عمر".
(٥) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٣/١٧٠) عن محمد بن فضيل به نحوه.
300
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:يقول تعالى مخاطبا للكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة والنار، أنهم يقال لهم يوم القيامة :﴿ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ﴾ يعني : لَهَبَ النار إذا ارتفع وصَعِدَ معه دخان، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب.
﴿ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ﴾ أي : ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل هو في نفسه، ولا يغني من اللهب، يعني : ولا يقيهم حر اللهب.
وقوله :﴿ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴾ أي : يتطاير الشرر من لهبها كالقصر. قال١ ابن مسعود : كالحصون. وقال ابن عباس وقتادة، ومجاهد، ومالك عن زيد بن أسلم، وغيرهم : يعني أصول الشجر.
١ - (١) في م: "قاله"..
﴿ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ﴾ أي : كالإبل السود. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك. واختاره ابن جرير.
وعن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير :﴿ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ﴾ يعني : حبال السفن. وعنه -أعني ابن عباس - :﴿ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ﴾ قطع نحاس١.
وقال البخاري : حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، أخبرنا سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس قال : سمعت ابن عباس :﴿ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴾ قال : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك، فنرفعه للشتاء، فنسميه القَصَرَ، ﴿ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ﴾ حبال السفن، تجمع حتى تكون كأوساط الرجال٢،
١ - (١) في م: "النحاس"..
٢ - (٢) صحيح البخاري برقم (٤٩٣٣)..
وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة ؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ. ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
ثم قال تعالى :﴿ هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ﴾ أي : لا يتكلمون.
﴿ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ أي : لا يقدرون على الكلام، ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا، بل قد قامت عليهم الحجة، ووقع القولُ عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون.
وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة ؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ. ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة ؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ. ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
وقوله :﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴾ وهذه مخاطبة من الخالق لعباده يقول لهم :﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ ﴾ يعني : أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد، يُسمعُهم الداعي ويَنفُذهُم البصر.
وقوله :﴿ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴾ تهديد شديد ووعيد أكيد، أي : إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي، وتَنجُوا من حكمي فافعلوا، فإنكم لا تقدرون على ذلك، كما قال تعالى ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ﴾ [ الرحمن : ٣٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ﴾ [ هود : ٥٧ ] وفي الحديث :" يا عبادي، إنكم لن تَبلُغوا نَفْعِي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني ".
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن المنذر الطريقي الأودي، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا حُصيَن بن عبد الرحمن، عن١ حسان بن أبي المخارق، عن أبي عبد الله الجَدَلي قال : أتيت بيت المقدس، فإذا عُبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو، وكعب الأحبار يتحدثون في بيت المقدس، فقال عبادة : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين بصعيد واحد، ينفذهم البصر ويُسمعهم الداعي، ويقول الله :﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴾ اليوم لا ينجو مني جبار عنيد، ولا شيطان مريد. فقال عبد الله بن عمرو٢ : فإنا نحدث يومئذ أنه يخرج عُنُق من النار فتنطلق حتى إذا كانت بين ظهراني الناس نادت : أيها الناس، إني بُعثتُ إلى ثَلاثَة أنا أعرف بهم من الأب بولده ومن الأخ بأخيه، لا يُغَيّبهم عني وَزَر، ولا تُخفِيهم عني خافية : الذي جعل مع الله إلها آخر، وكلّ جبار عنيد، وكلّ شيطان مريد. فتنطوي عليهم فتقذف بهم في النار قبل الحساب بأربعين سنة٣.
١ - (٣) في م: "ابن"..
٢ - (٤) في م: "عمر"..
٣ - (٥) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٣/١٧٠) عن محمد بن فضيل به نحوه..
وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة ؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ. ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ (١) الَّذِينَ عَبَدُوهُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ: إِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، أَيْ: بِخِلَافِ مَا أُولَئِكَ الْأَشْقِيَاءُ فِيهِ، مِنْ ظِلِّ الْيَحْمُومِ، وَهُوَ الدُّخَانُ الْأَسْوَدُ الْمُنْتِنُ.
﴿وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أَيْ: مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ، مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا. ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ أَيْ: هَذَا حَزَّاؤُنَا لِمَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ، ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ﴾ خِطَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وأمَرَهم أَمْرَ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا﴾ أَيْ: مُدَّةً قَلِيلَةً قَرِيبَةً قَصِيرَةً، ﴿إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ﴾ أَيْ: ثُمَّ تُسَاقُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [لُقْمَانَ: ٢٤] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يُونُسَ: ٦٩، ٧٠]
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾ أَيْ: إِذَا أَمَرَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةَ مِنَ الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَصَلِّينِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
ثُمَّ قَالَ: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ ؟ أَيْ: إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَبِأَيِّ كَلَامٍ يُؤْمِنُونَ بِهِ؟! كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [الْجَاثِيَةِ: ٦].
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ: سَمِعْتُ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا بَدَويا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ إِذَا قَرَأَ: ﴿وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ فَقَرَأَ: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ ؟ فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ "الْقِيَامَةِ" (٢).
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "وَالْمُرْسَلَاتِ" [ولله الحمد والمنة] (٣)
(١) في أ: "المؤمنين".
(٢) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية الأخيرة من سورة القيامة من رواية الترمذي وأبي داود.
(٣) زيادة من م، أ.
﴿ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ أي : من سائر أنواع الثمار، مهما طلبوا وجدوا.
﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي : يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم.
ثم قال تعالى مخبرًا خبرًا مستأنفًا :﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي : هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل.
وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة ؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ. ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
وقوله :﴿ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ﴾ خطاب للمكذبين بيوم الدين، وأمَرَهم أمر تهديد ووعيد فقال تعالى :﴿ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا ﴾ أي : مدة قليلة قريبة قصيرة، ﴿ إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ﴾ أي : ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ كما قال تعالى :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ] وقال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٦٩، ٧٠ ]
وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة ؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ. ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
وقوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ﴾ أي : إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة، امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه ؛ ولهذا قال :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٨:وقوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ﴾ أي : إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة، امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه ؛ ولهذا قال :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾

وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة، وعن هذه الحالة تارة ؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ. ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾
ثم قال :﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؟ أي : إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، فبأي كلام يؤمنون به ؟ ! كقوله تعالى :﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الجاثية : ٦ ].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية : سمعت رجلا أعرابيا بَدَويا يقول : سمعت أبا هريرة يرويه إذا قرأ :﴿ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ﴾ فقرأ :﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؟ فليقل : آمنت بالله وبما أنزل.
وقد تقدم هذا الحديث في سورة " القيامة " ١.
آخر تفسير سورة " والمرسلات " [ ولله الحمد والمنة ]٢
١ - (٢) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية الأخيرة من سورة القيامة من رواية الترمذي وأبي داود..
٢ - (٣) زيادة من م، أ..
Icon