ﰡ
مكية، خمسون آية ومائة وإحدى وثمانون كلمة، ثمانمائة وستة عشر حرفا قال ابن مسعود: نزلت والمراسلات عرفا على النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار منى، فنزلت، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها، إذ وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها، فذهبت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «وقيتم شرها كما وقيت شركم»
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥).
وهذا إقسام من الله تعالى بطوائف من الملائكة أرسلهم بأوامره متتابعين، فهم عصفوا في طيرانهم عصف الرياح، ونشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، ففرقوا بين الحق والباطل، فألقوا ذكرا إلى الأنبياء ويقال: أقسم الله برياح عذاب أرسلها متتابعة كعرف الفرس، فعصفن، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بعض أجزائه عن بعض، فإن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع، وتهدم الجبال، وترفع الأمواج تمسّك بذكر الله، والتجأ إلى إعانة الله، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب، ويمكن حمل هذه الكلمات الخمس على القرآن، أي والآيات المرسلة على لسان جبريل إلى محمد، النازلة بكل عرف، أي خير، فعصفت سائر الملل، فقهرت سائر الأديان، وجعلتها باطلة، ونشرت تلك الآيات آثار الهداية في قلوب العالمين شرقا وغربا، ففرقت بين الحق والباطل. عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦)، وهذا إما بدل من «ذكرا»، أي فأقسم بالملائكة المنزلات وحيا أمرا أو نهيا. ويقال: وعدا أو وعيدا، وإما مفعول لأجله، أي إزالة أعذار المخلوقين وتخويفا لهم، إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) أي إن الذي توعدون به من مجيء يوم القيامة لكائن، ثم إنه تعالى ذكر علامات وقوع هذا اليوم فقال: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) أي محقت ذواتها وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) أي فتحت فكانت أبوابا، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) أي قلعت بسرعة من أماكنها،
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١).
وقرأ أبو عمرو بالواو على الأصل أي حصل لهم الوقت وهو إما وقت يحضرون فيه للشهادة على أممهم، وإما وقت يجتمعون فيه للفوز بالثواب، وإما وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به،
سنتبعهم بسين التنفيس، أما قراءة الأعمش والأعرج عن أبي عمرو، ثم نتبعهم بتسكين العين فهو تسكين للتخفيف لا للجزم، فهو مستأنف كالمرفوع لفظا، كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) أي مثل ذلك الفعل الشنيع نفعل بكل من أشرك بالله، فيما يستقبل إما بالسيف وإما بالهلاك فسنتنا جارية على ذلك، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أي هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا فالمصيبة العظمى معدة لهم يوم القيامة.
وقيل: هذا الويل لعذاب الدنيا، فالمعنى: شدة عذاب يوم إذ أهلكناهم للمكذبين بآيات الله وأنبيائه، أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) أي من نطفة قذرة منتنة.
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) أي في مكان حريز رحم المرأة، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) لله تعالى أي وقت الولادة، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) أي قدرنا خلقه في رحم المرأة تقديرا فنعم المقدرون له نحن، فإن إيقاع الخلق على هذا التحديد نعمة من المحدد على المخلوق، أو فقدرنا على تصويره كيف شئنا، فنعم القادرون نحن حيث خلقناه في أحسن الهيئات.
قرأ نافع والكسائي «فقدرنا» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف. وقال علي كرم الله وجهه: «ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحد لأن العرب تقول: قدر وقدر عليه الموت». أي فقدرنا بالتخفيف يكون بمعنى قدرنا بالتشديد، ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الهلال: «إذا
. أي قدروا له السير في المنازل وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) بقدرتنا على البدء والإعادة بعد الموت، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦)، أي ألم نجعل الأرض موضعا يضم أحياء كثيرة على ظهره، وأمواتا غير محصورة في بطنه، فالأحياء يسكنون في منازلهم، والأموات يدفنون في قبورهم.
ونقل القفال عن ربيعة: أنه قال: دلت هذه الآية على وجوب قطع النباش، لأن الأرض كانت حرزا للميت. وَجَعَلْنا فِيها أي على ظهر الأرض رَواسِيَ، أي جبالا ثوابت لا تزول شامِخاتٍ أي عاليات وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧)، أي غاية في العذوبة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) بأمثال هذه النعم العظيمة وتقول لهم الزبانية بعد الفراغ من الحساب: انْطَلِقُوا يا معشر المكذبين إِلى ما كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) من العذاب.
روي أن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس، ولا كنان، فتلفحهم الشمس، وتأخذ بأنفاسهم ويمتد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله تعالى، فهناك يقولون: فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم وتقول: خزنة النار للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عقاب الله، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ أي إلى دخان جهنم. وقرأ يعقوب «انطلقوا» على لفظ الماضي، أي فانقادوا للأمر لأجل أنهم لا يستطيعون امتناعا منه، ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) أي فرق، وهي كون النار من فوقهم ومن تحث أرجلهم ومحيطة بهم
لا ظَلِيلٍ، أي لا يمنع حر الشمس، وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) أي ولا يدفع من لهب النار شيئا، أو ولا يبعد من العطش- كما قاله قطرب- إِنَّها أي النار تَرْمِي بِشَرَرٍ وهو ما يتطاير من النار كَالْقَصْرِ (٣٢) من البناء في عظمه كَأَنَّهُ جِمالَتٌ أي إبل صُفْرٌ (٣٣)، أي في الحركة واللون، فإن الشرار لما فيه من النار يكون أصفر، وهذا تنبيه على أن في كل واحد من تلك الشرارات أنواعا من البلاء والمحنة، فكأنه قيل:
تلك الشرارات كالجمالات الموقرة بأنواع المحنة والبلاء.
قرأ حمزة والكسائي وحفص «جمالة» بغير ألف بعد اللام. والباقون بالألف وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) بهذه الأمور، هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) فيه بحجة تنفعهم والسؤال قد انقضى قبل ذلك. وقرأ الأعمش بنصب «يوم»، أي هذا الذي قص عليكم واقع يوم ينطقون، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)، أي أنهم لم يؤذنوا في العذر، وهم لم يعتذروا أيضا لا لأجل عدم الإذن بل لأجل عدم العذر في نفسه وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) بهذا اليوم هذا، أي اليوم يَوْمُ الْفَصْلِ أي فصل حكومات جميع المكلفين جَمَعْناكُمْ يا معشر المكذبين من جميع هذه الأمة وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) من المكذبين، فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩)، أي فإن كان لكم حيلة في دفع الحقوق عن أنفسكم فافعلوها وغالبوني، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) بالبعث
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ أي في ظلال شجرة، وَعُيُونٍ (٤١) أي ماء ظاهر جار.
وقال أبو السعود: وهذا مقدر بقول هو حال من المكذبين، أي الويل ثابت لهم مقولا لهم ذلك تذكيرا لهم بحالهم في الدنيا، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع الفاني عن قريب على النعيم الخالد، وعلّل ذلك بإجرامهم دلالة على أن كل مجرم مآله هذا، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) بما يجب تصديقه. وهذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨)، أي وإذا قيل للمجرمين في الدنيا: اخضعوا لله بالتوحيدة، وأطيعوا، لا يقبلون ذلك. ويقال: نزلت هذه الآية في ثقيف حيث قالوا: لا نحني ظهورنا بالركوع والسجود.
ويقال: هذا في الآخرة وذلك لما يقول الكفار: والله ربنا ما كنا مشركين. قال الله تعالى لهم:
اسجدوا إن كنتم صادقين فيما تقولون، فلم يقدروا على السجود وبقيت أصلابهم كالصياصي.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) بمن يرشدهم إلى المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة، وهذا هو النوع العاشر من أنواع تخويف الكفار، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠) أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع وضوحها، فبأي كلام بعدها يؤمنون، لأن القرآن مصدّق للكتب القديمة، موافق لها في أصول الدين، فيلزم من تكذيبه تكذيب غيره من الكتب، لأن ما في غيره موجود فيه، فلا يمكن الإيمان بغيره مع تكذيبه.