وتسمى سورة العرف وهي مكية فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال بينما نحن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة المرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اقتلوها فابتدرناه فدخلت حجرها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيت شركم كما وقيتم شرها وعن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون وظاهر حديث ابن مسعود هذا عدم استثناء ذلك وأظهر منه ما أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال كنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غار فنزلت عليه والمرسلات فأخذتها من فيه وإن فاه لرطب بها فلا أدري بأيهما ختم فبأي حديث بعده يؤمنون وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون وآيها خمسون آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل يدخل من يشاء في رحمته الخ افتتح هذه بالأقسام على ما يدل على تحقيقه وذكر وقته وأشراطه وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار
ﰡ
وتسمى سورة العرف وهي مكية
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فابتدرناها فسبقتنا، فدخلت جحرها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وقيت شركم كما وقيتم شرها»
. وعن ابن عباس وقتادة ومقاتل إن فيها آية مدنية وهي وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات: ٤٨] وظاهر حديث ابن مسعود هذا عدم استثناء ذلك وأظهر منه ما
أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال: كنا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم في غار فنزلت عليه والمرسلات، فأخذتها من فيه وإن فاه لرطب بها فلا أدري بأيهما ختم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
[المرسلات: ٥٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وآيها خمسون آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان: ٣١] إلخ افتتح هذه بالإقسام على ما يدل على تحقيقه وذكر وقته وأشراطه وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة قبل من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً
قيل أقسم سبحانه بمن اختاره من الملائكة عليهم السلام على ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد، فقيل المرسلات والعاصفات طوائف، والناشرات والفارقات والملقيات طوائف أخرى فالأولى طوائف أرسلن بأمره تعالى وأمرن بإنفاذه فعصفن في المضي وأسرعن كما تعصف الريح تخففا في امتثال الأمر وإيقاع العذاب بالكفرة إنقاذا للأنبياء عليهم السلام ونصرة لهم والثانية طوائف نشرن أجنحتهن في الجو عنده انحطاطهن بالوحي ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عليهم السلام، ولعل من يلقي الذكر لهم غير مختص بجبريل عليه السلام بل هو رئيسهم ويرشد إلى هذا الحديث الرصد
وفي بعض الآثار «نزل إليّ ملك بألوكة من ربي فوضع رجلا في السماء وثنى الأخرى بين يدي»
فالمرسلات صفة لمحذوف، والمراد وكل طائفة مرسلة وكذا النَّاشِراتِ ونصب عُرْفاً على الحال والمراد متتابعة، وكان الأصل والمرسلات متتابعة كالعرف وهو عرف الدابة كالفرس والضبع أعني الشعر المعروف على قفاها فحذف متتابعة لدلالة التشبيه عليه، ثم حذف أداة التشبيه مبالغة ومن هذا قولهم جاؤوا عرفا واحدا إذا جاؤوا يتبع بعضهم بعضا وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه. ويؤخذ من كلام بعض أن العرف في الأصل ما ذكر ثم كثر استعماله في المعنى التتابع فصار فيه حقيقة عرفية أو على أنه مفعول له على أنه بمعنى العرف الذي هو نقيص النكر أي وَالْمُرْسَلاتِ للإحسان والمعروف ولا يعكر على ذلك أن الإرسال لعذاب الكفار لأن ذلك إن لم يكن معروفا لهم فإنه معروف للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين الذين انتقم الله تعالى لهم منهم. وعطف النَّاشِراتِ على ما قبل بالواو ظاهر للتغاير بالذات بينهما وعطف «العاصفات» على «المرسلات» و «الفارقات» على «الناشرات» وكذا ما بعد بالفاء لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذات كما في قوله:
يا لهف زيادة للحارث الصابح فالغانم فالآيب وهي للدلالة على ترتيب معاني الصفات في الوجود أي الذي صبح فغنم فآب، وترتيب مضي الأمر على الإرسال به والأمر بإنقاذه ظاهر، وأما ترتيب إلقاء الذكر إلى الأنبياء عليهم السلام على الفرق بين الحق والباطل مع ظهور تأخر الفرق عن الإلقاء فقيل لتأويل الفرق بإرادته فحينئذ يتقدم على الإلقاء، وقيل لتقدم الفرق على الإلقاء من غير حاجة إلى أن يؤول بإرادته لأنه بنفس نزولهم بالوحي الذي هو الحق المخالف للباطل الذي هو الهوى ومقتضى الرأي الفاسد وإنما العلم به متأخر. ومن هذا يظهر ترتيب الفرق على نشر الأجنحة إذ الحاصل عليه نشرن أجنحتهن للنزول فنزلن فألقين وهو غير ظاهر على ما قبله لأن إرادة الفرق تجامع النشر وكذا إرادته إذا أول أيضا بحسب الظاهر بل ربما يقال إن تلك الإرادة قبل، وقيل: إن الفاء في ذلك للترتيب الرتبي ضرورة أن إرادة الفرق أعلى رتبة من النشر، وقيل: إنها فيه وفيما بعده لمجرد الإشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة أعني النشر والفرق مستقل بالدلالة على استحقاق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم والإجلال بالإقسام بهن فإنه لو جيء بها على ترتيب الوقوع لربما فهم أن مجموع الثلاثة المترتبة هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق.
واستعمال «العاصفات» بمعنى المسرعات سرعة الريح مجاز على سبيل الاستعارة ولا يبعد أن يراد بالعاصفات المذهبات المهلكات بالعذاب الذي أرسلن به من أرسلن إليه على سبيل الاستعارة أيضا أو المجاز المرسل.
وعُذْراً ونُذْراً في قوله تعالى عُذْراً أَوْ نُذْراً جوز أن يكونا مصدرين من عذر إذا أزال الإساءة، ومن أنذر إذا خوف جاءا على فعل كالشكر والكفر والأول ظاهر لأن فعلا من مصادر الثلاثي، وأما الثاني فعلى خلاف القياس مصدر أفعل الأفعال، وقيل هو اسم المصدر كالطاقة أو مصدر نذر بمعنى أنذر
وخص الأمر بالذكر قيل لأنه أهم مع أنه لا يؤدي ما يراد من النهي بصيغته كدع مثلا. وقيل في عطف النَّاشِراتِ بالواو دون الفاء وعطف «الفارقات» به أن النشر عليه بمعنى الإشاعة للشرائع وهو يكون بعد الوحي والدعوة والقبول، ويقتضي زمانا فلذا جيء بالواو ولم يقرن بالفاء التعقيبية. وإذا حصل النشر ترتب عليه الفرق من غير مهلة ولا يتوهم أنه كان حق النَّاشِراتِ حينئذ ثم لأنه لا يتعلق القصد هاهنا بالتراخي ويبقى الكلام في وجه تقديم نشر الشرائع أو نشر النفوس والفرق على الإلقاء مع أنهما بعده في الواقع فقيل الإيذان بكونهما غاية للإلقاء حقيقة بالاعتناء أو الإشعار بأن كلا من الأوصاف مستقل بالدلالة على استحقاق التعظيم كما سمعت على أن باب التأويل واسع فتذكر. وقيل: أقسم سبحانه بأفراد نوعين من الرياح فيقدر للمرسلات موصوف وللناشرات موصوف آخر، ويراد بالمرسلات الرياح المرسلة للعذاب لأن الإرسال شاع فيه، وبالناشرات رياح رحمة وحاصله أنه جل وعلا أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقنه على البقاع فألقين ذكرا إما عُذْراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا شاهدوا آثار رحمته تعالى في الغيث. وإما (إنذارا) للذين يكفرون ذلك وينسبونه إلى الأنواء ونحوها وإسناد إلقاء الذكر إليهن لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت فالتجوز في الإسناد، والمراد ب عُرْفاً متتابعة أو الناشرات رياح رحمة نشرن النبات وأبرزنه أي صرن سببا لذلك بنشر السحاب وإدراره ففرقن كل صنف منه عن سائر الأصناف بالشكل واللون وسائر الخواص فتسببن ذِكْراً إما عُذْراً للشاكرين وإما نُذْراً للكافرين. وقيل أقسم سبحانه أولا بالرياح وثانيا بسحائب نشرن الموات ففرقن بين من يشكر وبين من يكفر كقوله تعالى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: ١٦، ١٧] فتسببن ذِكْراً إما وإما وقيل: أقسم جل وعلا بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضلا وإحسانا أو شيئا بعد شيء لأنها نزلت منجّمة فعصفن وأذهبن سائر الكتب بالنسخ ونشرن آثار الهدى في مشارق الأرض ومغاربها وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق في أكتاف العالمين. وقيل: أقسم جل جلاله برسله من البشر أرسلوا إحسانا وفضلا كما هو المذهب
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من وجه عن أبي صالح أنه قال: الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الرسل ترسل بالمعروف، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الريح والنَّاشِراتِ نَشْراً المطر، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الرسل ومن وجه آخر الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الملائكة فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الرياح العواصف وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الملائكة ينشرون الكتب أي كتب الأعمال كما جاء مصرحا به في بعض الروايات فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الملائكة يفرقون بين الحق والباطل فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً الملائكة أيضا يجيئون بالقرآن والكتاب عُذْراً أَوْ نُذْراً منه تعالى إلى الناس وهم الرسل يعذرون وينذرون. وعن أبي صالح روايات أخر في ذلك وكذا عن أجلة الصحابة والتابعين، فعن ابن مسعود وأبي هريرة ومقاتل الْمُرْسَلاتِ الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي.
وفي أخرى عن ابن مسعود أنها الرياح وفسر العاصفات بالشديدات الهبوب. وروي تفسير الْمُرْسَلاتِ بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وفي أخرى عن ابن عباس أنها جماعة الأنبياء أرسلت إفضالا من الله تعالى على عباده وعن أبي مسعود النَّاشِراتِ الرياح تنشر رحمة الله تعالى ومطره. وروي عن مجاهد وقتادة وقال الربيع: الملائكة تنشر الناس من قبورهم، قال الضحاك: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد وعليه تكون النَّاشِراتِ على معنى النسب. وعن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك «الفارقات» الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام. وقال قتادة والحسن وابن كيسان: آيات القرآن فرّقت بين ما يحل وما يحرم. وعن مجاهد أيضا الرياح تفرق بين السحاب فتبدده. وعن ابن عباس وقتادة والجمهور «الملقيات» الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء. وعن الربيع آيات القرآن ومن الناس من فسر «العاصفات» بالآيات المهلكة كالزلازل والصواعق وغيرها، ومنهم من فسر «الفارقات» بالسحائب الماطرة على تشبيهها بالناقة الفاروق وهي الحامل التي تجزع حين تضع، ومنهم من فسرها بالعقول تفرق بين الحق والباطل والصحيح والفاسد إلى غير ذلك من الروايات والأقوال التي لا تكاد تنضبط والذي أخاله أظهر كون المقسم به شيئين «المرسلات العاصفات والناشرات الفارقات الملقيات» لشدة ظهور العطف بالواو في ذلك وكون الكل من جنس الريح لأنه أوفق بالمقام المتضمن لأمر الحشر والنشر لما أن الآثار المشاهدة المترتبة على الرياح ترتبا قريبا وبعيدا تنادي بأعلى صوت حتى يكاد يشبه صوت النفخ في الصور على إمكان ذلك وصحته ودخوله في حيطة مشيئة الله تعالى وعظيم قدرته ومع هذا الأقوال كثيرة لديك وأنت غير مجحود عليك فاختر لنفسك ما يحلو.
الفارجي باب الأمير المبهم ولا مانع من ذلك أيضا سواء كانت السماء جسما صلبا أو جسما لطيفا، وأدلة استحالة الخرق والالتئام فيها خروق لا تلتئم وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف ونحوه وبست الجبال بسا وكانت الجبال كثيبا مهيلا قال في البحر: فرقتها الرياح وذلك بعد التسيير وقيل ذلك جعلها هباء وقيل نسفت أخذت من مقارها بسرعة من انتسفت الشيء إذا اختطفته، وقرأ عمرو بن ميمون «طمّست» و «فرّجت» بتشديد الميم والراء وذكر في الكشاف أن الأفعال الثلاثة قرئت بالتشديد. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة وجوز أن يكون المعنى عيّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم وذلك عند مجيئه وحصوله والوجه هو الأول كما قال جار الله وتحقيقه كما في الكشف أن توقيت الشيء تحديده وتعيين وقته فإيقاعه على الذوات بإضمار لأن المؤقت هو الأحداث لا الجثث، ويجيء بمعنى جعل الشيء منتهيا إلى وقته المحدود وعلى هذا يقع عليها دون إضمار إذا كان بينها وبين ذلك الوقت ملابسة وإنما كان الوجه لأن القيامة ليست وقتا يتبين فيه وقت الرسل الذي يحضرون فيه للشهادة بل هي نفس ذلك الوقت وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ يقتضي ذلك لأنك إذا قلت إذا أكرمتني أكرمتك اقتضى أن يكون زمان إكرام المخاطب للمتكلم هو ما دل عليه إِذَا سواء جعل الظرف معموله أو معمول الجزاء أي فلا بد من التأويل، وقد أشير إليه في ضمن التفسير. وقرأ النخعي والحسن وعيسى وخالد «أقتت» بالهمزة وتخفيف القاف وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وعيسى أيضا «وقّتت» بالواو على الأصل لأن الهمزة مبدلة من الواو المضمومة ضمة لازمة وهو أمر مطرد كما بيّن في محله. وقال عيسى: وقتت لغة سفلى مضر. وقرأ عبد الله بن الحسن وأبو جعفر «وقتت» بواو واحدة وتخفيف القاف. وقرأ الحسن أيضا «ووقتت» بواوين على وزن فوعلت وإِذَا في جميع ما تقدم شرطية. وقوله تعالى لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ قيل مقول لقول مقدر هو جواب إِذَا أي يقال لِأَيِّ يَوْمٍ إلخ وجعل التأجيل بمعنى التأخير من قولهم دين مؤجل في مقابل الحال والضمير لما
صفته فمسوغ الابتداء به ظاهر والمشهور أن مسوغ ذلك كونه للدعاء كما في سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: ٢٤] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كقوم نوح وعاد وثمود. وقرأ قتادة «نهلك» بفتح النون على أنه من هلكه بمعنى أهلكه ومنه هالك بمعنى مهلك كما هو الظاهر في قول العجاج:
ومهمه هالك من تعرجا | هائلة أهواله من أدرجا |
وجوز أن يكون المعنى فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن والأول أولى لقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه ونافع والكسائي «فقدّرنا» بالتشديد ولقوله تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: ١٩] ولقوله سبحانه إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فزاده تفخيما بأن جعلت الغاية مقصودة بنفسها، فقيل: فقدنا ذلك تقديرا أي تقديرا دالا على كمال القدرة وكمال الرحمة على أن حديث القدرة قد تم في قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ وقول الطيبي في ترجيح الثاني إثبات القدرة أولى لأن الكلام مع المنكرين لا وجه له إذ لا أحد ينكر هذه القدرة ولو سلم فقد قرروا بها بقوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ فتأمل. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بقدرتنا على ذلك أو الإعادة أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً الكفات اسم جنس أو اسم آلة لما يكفت أي يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع، وأنشدوا قول الصمصامة بن الطرماح:
فأنت اليوم فوق الأرض حي | وأنت غدا تضمك في كفات |
وقيل: جمع كافت كصيام وصائم فلا يحتاج إلى تقدير أيضا، أو جمع كفت بكسر الكاف وسكون الفاء وهو الوعاء كقدح وقداح وأجرى على الأرض مع جمعه وإفرادها باعتبار أقطارها. وجوز انتصاب الجمعين على الحالية من مفعول كِفاتاً المحذوف والتقدير كفاتا إياهم أو إياكم أو كفاتا الأنس أَحْياءً وَأَمْواتاً أو من مفعول حذف مع فعله أي كِفاتاً تكفتهم أو تكفتكم أو تكفت الإنس أَحْياءً وَأَمْواتاً وأن يكون انتصابهما على المفعولية لنجعل بتقدير مضاف أي ذات أحياء وأموات أو على أن المراد بأمواتا الأرض الموات على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد، وبأحياء ما يقابلها. وانتصاب كِفاتاً على الحالية من الأرض وأنت تعلم أن انتصابهما على المفعولية أظهر وبعده انتصابهما على الحالية من محذوف وتنوينهما على ما سمعت أولا للتكثير وجوز أن يكون للتبعيض بإرادة أحياء الإنس وأمواتهم وهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات ولا ينافي ذلك التفخيم نظرا إلى أنه بعض غير محصور كثير في نفسه فلا تغفل. واستدل الكيا بالآية على وجوب مواراة الميت ودفنه. وقال ابن عبد البر: احتج ابن القاسم بها على قطع النباش لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ فيكون حرزا ولا يخفى ضعف الاستدلالين.
وقيل للإشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهو الجبال السماوية وهو مما يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر وظنوا وجودها في غيره وتعقب بأنه تفسير بما لم يعرف وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عذبا وذلك بأن خلقناه في أصولها وأجريناه لكم منها في أنهار وأنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها وقد يفسر بما هو أعم من ذلك والماء المنزل من السماء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه النعم العظيمة انْطَلِقُوا أي يقال لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا من العذاب انْطَلِقُوا أي خصوصا فليس تكرارا للأول وقيل هو تكرار له وإن قيد بقوله تعالى إِلى ظِلٍّ هو ظل دخان جهنم كما قاله جمهور المفسرين فهو كقوله تعالى وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة: ٤٣] وفيه استعارة تهكمية، وقرأ رويس عن يعقوب «انطلقوا» بصيغة الماضي وهو استئناف بياني كأنه قيل فما كان بعد الأمر فقيل انطلقوا إلى ظل ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ متشعب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق تفرق الذوائب. وفي بعض الآثار يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش. وخصوصية الثلاث قيل إما لأن حجاب النفس عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم أو لأن المؤدي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية الحالّة في الدماغ والقوة الغضبية السبعية التي عن يمين القلب والقوة الشهوية البهيمية التي عن يساره، ولذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره. وقيل لأن تكذيبهم بالعذاب يتضمن تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلّى الله عليه وسلم فهناك ثلاثة تكذيبات. واعتبر بعضهم التكذيب بالعذاب أصلا والشعب الثلاث التكذيبان المذكوران وتكذيب العقل الصريح فتأمل. وعن ابن عباس يقال ذلك لعبدة الصليب فالمؤمنون في ظل الله عز وجل وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب لا ظَلِيلٍ أي لا مظلل وهو صفة ثانية لظل ونفى كونه مظللا عنه والظل لا يكون إلّا مظللا للدلالة على أن جعله ظلا تهكم بهم ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم فنفى هذا الاحتمال بذلك وفيه تعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وغير مفيد في وقت من الأوقات من حر اللهب شيئا وعدّي يغني بمن لتضمنه معنى يبعد واشتهر أن هذه الآية تشير إلى قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له فانظر هل تتعقل ذلك إِنَّها أي النار الدال عليها الكلام وقيل الضمر للشعب تَرْمِي بِشَرَرٍ هو ما تطاير من النار سمّي بذلك لاعتقاد الشر فيه وهو اسم جنس جمعي واحده شررة كَالْقَصْرِ كالدار الكبيرة المشيدة والمراد كل شررة كذلك في العظم ويدل على إرادة ذلك ما بعد ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مقسم «بشرار» بكسر الشين وألف بين الراءين فإن الظاهر أنه جمع شررة كرقبة
وحوج وبعض القراء «كالقصر» بفتح القاف وكسر الصاد وهو بمعنى القصر في قراءة الجمهور كَأَنَّهُ أي الشرر جِمالَتٌ بكسر الجيم كما قرأ به حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي وهارون عنه وهو جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع كما في البحر يقال جمل وجمال وجمالة أو اسم جمع له كما قيل في حجر وحجارة والتنوين للتكثير صُفْرٌ فإن الشرار لما فيه من النارية والهوائية يكون أصفر فالصفرة على معناها المعروف. وقيل سود والتعبير بصفر لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة شبه الشرر حين ينفصل من النار في عظمه بالقصر وحين يأخذ فقيل الارتفاع والانبساط لانشقاقه عن أعداد غير محصورة بالجمال لتصور الانشقاق والكثرة والصفرة والحركة المخصوصة. وقد روعي الترتيب في التشبيه رعاية لترتيب الوجود وأفيد أن القصور والجمال يشبه بعضها ببعض ومنه قوله:
فوقفت فيها ناقتي وكأنها | فدن (١) لأقضي حاجة المتلوم |
الموقدي نار القرى الآصال | والإسحار بالإهضام والإشعاف |
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى | ترمي بكل شرارة كطراف |
جمع ظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا
لما زال عنه الشمس ويعبر به أيضا عن الرفاهة وعن العزة والمناعة وعن هذا المعنى حمل الراغب ما في الآية والمتبادر منه ما هو المعروف، ويؤيده ما تقدم في المقابل انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ إلخ وقراءة الأعمش في «ظلل» جمع ظلة وأيّا ما كان فالمراد من قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أنهم مستقرون في فنون الترفه وأنواع التنعم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقدر بقول هو حال من ضمير الْمُتَّقِينَ في الخبر كأنه قيل مستقرون في ذلك مقولا لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من العمل الصالح بالإيمان وغير ذلك إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العظيم نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لا جزاء أدنى منه، والمراد بالمحسنين المتقون السابق ذكرهم إلّا أنه وضع الظاهر موضع الضمير مدحا لهم بصفة الإحسان أيضا مع الإشعار بعلة الحكم، وجوز أن يراد بالمتقين والمحسنين الصالحون من المؤمنين ولا دليل فيه للمعتزلة على خلود العصاة أهل الكبائر في النار وغاية الأمر عدم التعرض لحالهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث نال أعداؤهم هذا الثواب العظيم وهم بقوا في العذاب الأليم كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ حال من المكذبين على ما ذهب إليه غير واحد من الأجلة أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكيرا لما كان يقال لهم في الدنيا ولما كانوا أحقاء بأن يخاطبوا به حيث تركوا الحظ الكثير إلى النزر الحقير فيفيد التحسير والتخسير وعلى طريقته قوله:
إخوتي لا تبعدوا أبدا | وبلى والله قد بعدوا |
روي عن مقاتل أن الآية نزلت في ثقيف قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: حط عنا الصلاة فإنّا لا نجبى فإنها مسبة علينا، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» ورواه أيضا أبو داود والطبراني وغيرهما
. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال هذا يوم القيامة يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا. واتصال الآية على ما نقل عن الزمخشري بقوله تعالى لِلْمُكَذِّبِينَ كأنّه قيل ويل يومئذ للذين كذبوا والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، وجوز أن يكون أيضا بقوله سبحانه إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ على طريقة الالتفات كأنه قيل هم أحقاء بأن يقال لهم كُلُوا وَتَمَتَّعُوا ثم علل ذلك بكونهم مجرمين وبكونهم إذا قيل لهم صلّوا لا يصلّون واستدل به على أن الأمر للوجوب وإن الكفار مخاطبون بالفروع وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين
تم والحمد لله تعالى الجزء التاسع والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثلاثين وأوله (سورة النبأ)