تفسير سورة القدر

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة القدر من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مدنية، في قول أكثر المفسرين، وحكى الماوردي عكسه، وذكر الواحدي أنها أوّل سورة نزلت بالمدينة، وهي خمس آيات، وثلاثون كلمة، ومائة واثنتا عشر حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الملك الأعظم الذي لا يعبد إلا إياه ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ بجوده جميع خلقه أقصاه وأدناه ﴿ الرحيم ﴾ الذي قرّب أهل طاعته وأبعد من عداهم وأشقاه.

وقوله تعالى :﴿ إنا أنزلناه ﴾ أي : بما لنا من العظمة، أي : القرآن، فيه تعظيم له من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أسند إنزاله إليه، وجعله مختصاً به دون غيره.
والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر، شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه.
والثالث : الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه، وهو قوله تعالى :﴿ في ليلة القدر ﴾.
﴿ وما أدراك ﴾ أي : أعلمك يا أشرف الخلق ﴿ ما ليلة القدر ﴾ فإن في ذلك تعظيماً لشأنها. روي أنه أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل عليه السلام على السفرة، ثم كان ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحاجة إليه. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه نزل في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة مباركة، جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة. قال ابن العربي : وهذا باطل، ليس بين جبريل وبين الله تعالى واسطة، ولا بين جبريل وبين محمد صلى الله عليه وسلم واسطة. وعن الشعبي : إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل : المعنى أنزل في شأنها وفضلها فليست ظرفاً، وإنما هو كقول عمر رضي الله عنه : خشيت أن ينزل فيّ قرآن. وقول عائشة رضي الله عنها : لأنا أحقر في شأني أن ينزل فيّ قرآن. وسميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة، وهم إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبرائيل عليهم السلام، كقوله تعالى :﴿ فيها يفرق كل أمر حكيم ﴾ [ الدخان : ٤ ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر، وهذا يصلح أن يكون جمعاً بين القولين في قوله تعالى :﴿ فيها يفرق كل أمر حكيم ﴾ فإنه قيل فيها : إنها ليلة النصف من شعبان، وقيل : ليلة القدر، وحينئذ لا خلاف، وقيل : سميت بذلك لتضيقها بالملائكة. قال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها الملائكة كقوله تعالى :﴿ ومن قدر عليه رزقه ﴾ [ الطلاق : ٧ ] وقيل : سميت بذلك لعظمها وشرفها وقدرها، من قولهم : لفلان قدر، أي : شرف ومنزلة، قاله الأزهري وغيره. وقيل : سميت بذلك لأن للطاعة قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً. وقيل : لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، ومعنى أنّ الله تعالى يقدر الآجال : أنه يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من سعتهم بأن يكتب لهم ما قدّره في تلك السنة، ويعرّفهم إياه، وليس المراد أنه يحدث في تلك الليلة ؛ لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض في الأزل. قيل : للحسين بن الفضل : أليس قد قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال : نعم. قيل له : فما معنى ليلة القدر ؟ قال : سوق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدّر.
واختلفوا هل هي باقية أو لا ؟ فقيل : إنها كانت مرّة ثم انقطعت، وقيل : إنها رفعت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنها باقية إلى يوم القيامة. وروي عن عبد الله بن محسن مولى معاوية قال : قلت لأبي بكر : زعموا أن ليلة القدر قد رفعت، قال : كذب من قال ذلك، قلت : هي في كل شهر رمضان أستقبله، قال : نعم. وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب، أم هي في كل عام ؟ فقال : بل هي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي منهم اثنان، واستدل من قال برفعها بقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان :«إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم »، وهذا غفلة من هذا القائل، ففي آخر الحديث «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة »، فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها.
واختلفوا في وقتها فأكثر أهل العلم أنها مختصة برمضان، واحتجوا بقوله تعالى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ]. وقال تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾. فوجب أن لا تكون ليلة القدر إلا في رمضان لئلا يلزم التناقض. وروي عن أبي بن كعب أنه قال : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان، حلف بذلك ثلاث مرات، وعن ابن عمر قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر، فقال :«هي في كل رمضان »، وقيل : هي دائرة في جميع السنة لا تختص برمضان، حتى لو علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لا يقع ما لم تنقض سنة من حين حلف، يروى ذلك عن أبي حنيفة. وعن ابن مسعود أنه قال : من أراد أن يعرف ليلة القدر فلينظر إلى غرة رمضان، أي : إلى أوّله، فإن كان يوم الأحد فليلة القدر ليلة تسع وعشرين، وإن كان يوم الاثنين فليلة القدر إحدى وعشرين، وإن كان يوم الثلاثاء فليلة سبع وعشرين، وإن كان يوم الأربعاء فليلة تسعة عشر، وإن كان يوم الخميس فليلة خمس وعشرين، وإن كان ليلة الجمعة فليلة سبعة عشر، وإن كان يوم السبت فليلة ثلاث وعشرين. وعلى القول الأول هل هي في كل زمان أو في العشر الأخير ؟ قولان : أحدهما : أنها في كل شهره.
واختلفوا في، أي ليلة منه، فقال ابن رزين : هي الليلة الأولى من رمضان، وقال الحسن البصري : السابعة عشر، وقال أنس : التاسعة عشر، وقال محمد بن إسحاق : الحادية والعشرون، وقال ابن عباس : الثالثة والعشرون، وقال أبيّ بن كعب : السابعة والعشرون. وقيل : التاسعة والعشرون، وقيل : ليلة الثلاثين، وكل استدل على قوله بما يطول الكلام عليه. والقول الثاني - وهو ما عليه الأكثرون - أنها مختصة بالعشر الأخير منه، واستدل لذلك بأشياء منها : ما روى عبادة بن الصامت «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال : في رمضان، فالتمسوها في العشر الأواخر ». ومنها : ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان ». وعن عائشة رضي الله عنها قالت :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها ». وعنها قالت :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله ».
واختلفوا في أنها أي ليلة من العشر، هل في ليلة من ليالي العشر كله، أو في أوتاره فقط، وهل تلزم ليلة بعينها، أو تنتقل في جميعه أقوال. والذي عليه الأكثر أنها في جميعه، ولكن أرجاها أوتاره، وأرجى الأوتار عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين، يدل للأوّل خبر الصحيحين، وللثاني خبر مسلم، وأنها تلزم عنده ليلة بعينها. وقال المزني صاحب الشافعي وابن خزيمة : إنها متنقلة في ليالي العشر جمعاً بين الأحاديث، قال النووي : وهو قويّ. وقال في مجموعه : إنه الظاهر المختار، وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر، وبعضهم بأشفاعه.
وقال ابن عباس وأبيّ : هي ليلة سبع وعشرين، وهو مذهب أكثر أهل العلم، واستنبط ذلك بعضهم من أنّ ليلة القدر ذكرت ثلاث مرّات، وهي تسعة أحرف، وإذا ضربت تسعة في ثلاثة تكن سبعة وعشرين، وبعضهم استنبط ذلك من عدد كلمات السورة، وقال : إنها ثلاثون كلمة وفاقاً، وقوله تعالى :﴿ هي ﴾ السابع والعشرون، وهي كناية عن هذه الليلة، فبان أنها ليلة السابع والعشرين، وهو استنباط لطيف، وليس بدليل كما قيل، وفيها نحو الثلاثين قولاً، وبضع وعشرون حديثاً، وأفردت بالتصنيف، وفيما ذكرناه كفاية.
وذكروا للسبب في إخفائها عن الناس وجوهاً :
أحدها : أنه تعالى أخفاها ليعظموا جميع السنة على القول بأنها فيها، أو جميع رمضان على القول به، أو جميع العشر الأخير على القول به، كما أخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في كلها، وأخفى غضبه في المعاصي ليحذروها كلها، وأخفى وليه من المسلمين ليعظموهم كلهم، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في الدعوات، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهدوا في العبادة في جميع الأوقات المنهيّ عنها طمعاً في إدراكها، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل أسمائه تعالى، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسامها، وأخفى قيام الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة.
ثانيها : أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر واجتهد في الطاعة رجاء أن يدركها فيباهي الله تعالى به ملائكته، ويقول : تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء وهذا جدّه واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة، فحينئذ يظهر أني أعلم ما لا تعلمون.
ثالثها : ليجتهدوا في طلبها والتماسها فينالوا بذلك أجر المجتهدين في العبادة، بخلاف ما لو عينت في ليلة بعينها لحصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها.
ثم ذكر الله تعالى فضلها من ثلاثة أوجه : أحدها : ما ذكره بقوله سبحانه :﴿ ليلة القدر ﴾ أي : التي خصصناها بإنزالنا فيها ﴿ خير من ألف شهر ﴾ ليس فيها ليلة القدر، فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها ليلة قدر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، وتمنى ذلك لأمّته، فقال : يا رب، جعلت أمتي أقصر الأمم أعماراً وأقلها أعمالاً، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، فقال تعالى :﴿ ليلة القدر خير من ألف شهر ﴾ التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة »، أي : فهي من خصائص هذه الأمة.
وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقيل : إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد، وهي أفضل ليالي السنة، ويدخل في ذلك ليلة الإسراء، فهي أفضل منها إن لم تكن ليلة الإسراء ليلة القدر، كما قيل : إن الإسراء كان في رمضان، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع، فيكتب فيها جميع خير السنة وشرّها ورزقها وأجلها وبلائها ورخائها ومعاشها إلى مثلها من السنة، ولا يشكل ذلك بما قيل : إن الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى، لما ورد أنّ الله تعالى يأمر بنسخ ما يكون في السنة من الآجال والأمراض والأرزاق ونحوها في ليلة النصف من شعبان، فإذا كان ليلة القدر فيسلمها إلى أربابها. وقيل : يقدّر في ليلة النصف من شعبان الآجال والأمراض، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة.
الوجه الثاني : من فضائلها ما ذكره الله تعالى في قوله جلّ ذكره :﴿ تنزل ﴾ أي : تنزلاً متدرجاً متواصلاً على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء ﴿ الملائكة ﴾ أي : إلى الأرض. روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة وهم سكان سدرة المنتهى ﴿ والروح ﴾ أي : جبريل عليه السلام ﴿ فيها ﴾ أي : في الليلة ومعه أربعة ألوية، فينصب لواء على قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولواء على ظهر بيت المقدس، ولواء على ظهر المسجد الحرام، ولواء على ظهر سيناء، ولا يدع بيتاً فيه مؤمن ولا مؤمنة إلا دخله وسلم عليهم، يقول : يا مؤمن ويا مؤمنة السلام يقرئك السلام، إلا على مدمن خمر، وقاطع رحم، وآكل لحم خنزير. وعن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى ». وهذا يدل على أن الملائكة كلهم لا ينزلون، وظاهر الآية نزول الجميع، وجمع بين ذلك بما روي أنهم ينزلون فوجاً فوجاً كما أنّ أهل الحج يدخلون الكعبة فوجاً بعد فوج، وإن كانت لا تسعهم دفعة واحدة، كما أن الأرض لا تسع الملائكة دفعة واحدة، ولذلك ذكر بلفظ تنزل الذي يقتضي المرّة بعد المرّة، أي : ينزل فوج ويصعد فوج، والله أعلم بذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى، وقال بعضهم : الروح ملك تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، وله ألف رأس أعظم من الدنيا، وفي كل رأس ألف وجه، وفي كل وجه ألف فم، وفي كل فم ألف لسان يسبح الله تعالى، بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة أخرى. فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّت ملائكة السماوات السبع سجداً مخافة أن تحرقهم أنوار أفواهه، وإنما يسبح الله تعالى غدوة وعشية، فينزل في ليلة القدر لشرفها وعلوّ شأنها فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر.
وعن عليّ أنه صلى الله عليه وسلم قال :«رأيت ليلة أسري بي ملكاً رجلاه جاوزت من الأرض السابعة السفلى، ورأسه من السماء السابعة العليا، ومن لدن رأسه إلى قدميه وجوه وأجنحة في كل وجه فم ولسان يسبح الرحمن تسبيحاً لا يسبحه العضو الآخر، ولو أمره الله تعالى أن يلتقم السماوات السبع والأرضين السبع لقمة واحدة، كما يلتقم أحدكم اللقمة لأطاق ذلك، ثم لم تكن تلك في فيه إلا كلقمة أحدكم في فيه، ولو سمع أهل الدنيا صوته بالتسبيح لصعقوا، ما بين شحمة أذنه إلى منكبه خفقان الطير السريع سبعة آلاف سنة، وهو رأس الملائكة ». وقيل : الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. ﴿ بإذن ربهم ﴾ أي : بأمر المحسن إليهم المربي لهم ﴿ من كل أمر ﴾ أي : قضاه الله تعالى فيها لتلك السنة إلى قابل، وتقدّم الجمع بينها وبين ليلة النصف من شعبان، ومن سببية بمعنى الباء.
الوجه الثالث : فضائلها : ما ذكره تعالى بقوله سبحانه :﴿ سلام ﴾ أي : عظيم جدّاً، وهو خبر مقدّم والمبتدأ ﴿ هي ﴾، جعلت سلاماً لكثرة السلام فيها من الملائكة لا يمرّون بمؤمن ولا مؤمنة إلا سلمت عليه، ويستمرّون على ذلك من غروب الشمس ﴿ حتى ﴾ أي : إلى ﴿ مطلع الفجر ﴾ أي : وقت مطلعه، أي : طلوعه. وقرأ الكسائي بكسر اللام على أنه كالمرجع، واسم زمان على غير قياس كالمشرق، والباقون بفتحها.
ومن فضائلها أنّ من قامها غفرت له ذنوبه، ففي الصحيحين :«من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه ». قال النووي في «شرح مسلم » : ولا ينال فضلها إلا من أطلعه الله تعالى عليها، فلو قامها إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها. قال الأذرعي : وكلام المتولي ينازعه حيث قال : يستحب التعبد في كل ليالي العشر حتى يحوز الفضيلة على اليقين اه. وهذا أولى، نعم حال من أطلق أكمل إذا قام بوظائفها. وعن أبي هريرة مرفوعاً :«من صلى العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان فقد أدرك ليلة القدر »، أي : أخذ حظاً منها. ويسنّ لمن رآها أن يكتمها، ويسنّ أن يكثر الدعاء والتعبد في ليالي رمضان، وأن يكون من دعائه :«اللهمّ إنك عفوّ كريم تحب العفو فاعف عني ».
ومن علاماتها أنّ الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها، رواه مسلم عن أبيّ بن كعب وعن ابن مسعود : قال :«إنّ الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان إلا صبيحة ليلة القدر، فإنها تطلع يومئذ بيضاء ليس لها شعاع ». فإن قيل : لا فائدة في هذه العلامة فإنها قد انقضت. أجيب : بأنه يستحب أن يجتهد في ليلتها ويبقى يعرفها كما مرّ عن الشافعي أنها تلزم ليلة واحدة.
Icon