تفسير سورة النّور

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة النور من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ النُّور
(مدنية)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)
القراءة الرفعُ، وقرأ عيسى بنُ عُمَر (سُورَةً) بالنصْب (١).
فأمَّا الرفع فَعلى إضمار هذه سُورَة أَنْزَلْنَاهَا، ورفعها بالابتداء قبيخ لأنها نَكِرَة و (أَنْزَلْناهَا) صفة لها. والنصْب على وَجْهَيْن، على معنى أنزلنا سُورَةً، كما تقول زيداً ضربته، وعلى معنى اتْلُ سُورَةً أنزلناها.
(وَفَرَضْنَاهَا).
بتخفيف الراء، ويقرأ بالتشديد في الراء، فمن قرأ بالتخفيف فَمَعْنَاهُ
ألزمناكم العَمَل بما فُرِضَ فيها، ومن قرأ بالتشْدِيد فَعَلَى وجهين:
أحدهما على معنى التكثير، على معنى أنا فَرَضْنَا فيها فُرُوضاً كثيرةً وعلى معنى بيَّنَّا وفضلنَا ما فيها من الحلال والحرام.
* * *
وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)
القراءة الرفع، وقرأ عيسى بنُ عُمرَ بالنصب، (الزانيةَ والزانِي) بفتح التاء.
وزعم الخليل وسيبويه أن النصب المختارُ وزعم سيبويه أن القراءة الرفع.
وزعم غيرهم من البصريين والكوفيين أن الاختيار الرفعُ، وكذا هُو عِندي، لأن الرفع كالإجماع في القراءة، وهُوَ أَقْوَى فِي العربيَّةِ، لأن معناها معنى - من زَنَى
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾: يجوزُ في رَفْعِها وجهان. أحدهما: أن يكونَ مبتدأً. والجملةُ بعدَها صفةٌ لها، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداءِ بالنكرةِ. وفي الخبرِ وجهان، أحدُهما: أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه: ﴿الزانية والزاني﴾ وإلى هذا نحا ابنُ عطية، فإنه قال: «ويجوز أن يكونَ مبتدأً. والخبرُ ﴿الزانية والزاني﴾ وما بَعد ذلك. والمعنى: السورةٌ المُنَزَّلَةُ المَفْرُوْضَةُ كذا وكذا؛ إذ السورةُ عبارةٌ عن آياتٍ مسرودةٍ لها بَدْءٌ وخَتْم». والثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ أي: فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ، أو فيما أَنْزَلْنا سورةٌ.
والوجهُ الثانِي مِنَ الوجَهين الأَوَلَيْن: أَنْ يكونَ خبرُ المبتدأ مضمراً أي: هذه سورةٌ. وقال أبو البقاء: «سورةٌ بالرفع على تقديرِ: هذه سورةٌ، أو مِمَّا يُتْلى عليك سورةٌ فلا تكونُ» سورةٌ «مبتدأَةً لأنها نكرةٌ». وهذه عبارةٌ مُشكلة على ظاهِرها. كيف يقول: لا تكونُ مبتدأً مع تقديرِه: فيما يُتْلى عليك سورةٌ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرةٌ مع تقديرِه لخبرِها جارَّاً مُقَدَّماً عليها، وهو مُسَوِّغٌ للابتداء بالنكرة.
وقرأه العامَّةُ بالرفعِ على ما تقدَّم. وقرأ الحسن بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهدٌ وأبو حيوة في آخرين «سورةً» بالنصبِ. وفيها أوجهٌ، أحدها: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ غير مفسَّرٍ بما بعدَه. تقديره: اتْلُ سورةً أو اقرأ سورةً. والثاني: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده. والمسألةُ من الاشتغال. تقديرُه: أَنْزَلْنا سورةً أنزلناها. والفرقُ بين الوجهين: أنَّ الجملةَ بعد «سورةً» في محلِّ نصبٍ على الأول، ولا محلَّ لها على الثاني. الثالث: أنها منصوبةٌ على الإِغراء، أي: دونَكَ سورةً. قال الزمخشري، ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يجوزُ حَذْفُ أداة الإِغْراءِ، واستشكل الشيخُ أيضاً على وجهِ الاشتغالِ جوازَ الابتداءِ بالنكرةِ من غيرِ مُسَوِّغٍ. ومعنى ذلك: أنه ما مِنْ مَوْضع يجوز [فيه] النصبُ على الاشتغالُ إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداءِ، وهنا لو رُفِعَتْ «سورة» بالابتداءِ لم يَجُزْ؛ إذ لا مُسَوِّغٍ. فلا يُقال: رجلاً ضربتُه لامتناعهِ: رجلٌ ضربتُه. ثم أجاب: بأنه إنْ اعتُقد حَذْفُ وصفٍ جاز، أي: سورة مُعَظَّمة أو مُوَضَّحة أَنْزَلْناها، فيجوزُ ذلك.
الرابع: أنَّها منصوبةٌ على الحال مِنْ «ها» في «أَنْزِلْناها». والحالُ من المكنى يجوز أن تتقدَم عليه. قاله الفراء. وعلى هذا فالضميرُ في «أَنْزَلْناها» ليس عائداً على سورة بل على الأحكام. كأنه قيل: أَنْزلنا الأحكامَ سورةً مِنْ سُوَرِ القرِآن، فهذه الأحكامُ ثابتةٌ بالقرآنِ، بخلافِ غيرِها فإنَّه قد ثَبَتَتْ بالسُّنة.
قوله: ﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديدِ. والباقون بالتخفيف. فالتشديد: إمَّا للمبالغةِ في الإِيجاب وتوكيداً، وإمَّا لتكثير المفروض عليهم، وإمَّا لتكثيرِ الشيءِ المفروض. والتخفيفُ بمعنى: أَوْجَبْناها وجعلناها مقطوعاً بها.
اهـ (الدُّرُّ المصُون)
27
فاجلدُوه، فتأويله الابتداء، وقال سيبويه والخليلُ إن الرفع على معنى:
" وَفِيما فَرَضْنَا عَلَيكُمُ الزانيةُ والزاني " - بالرفع - أو الزانيةُ والزاني فيما فُرِضَ عَلَيْكم.
والدليل على أن الاختيار الرفع قوله عزَّ وجلَّ: (واللذَانِ يَأتِيانِها مِنْكُمْ فآذُوهُما).
وإنَّما اختارَالخليل وسيبويه النَصْبَ لأنه أَمْر، وَأَنَّ الأمْرَ بالفعل أولى. والنصب جائز على مَعْنى اجلدوا الزانيةَ والزانيَ.
والإجماع أن الجَلْدَ على غير المحصنين، يجلد غير المحصن وغير
المُحْصَنَةِ مائة جلدة، وينفى مَعَ الجَلْدِ في قول كثير من الفقهاء، يجلد مَائةً
ويُغرب عَاماً.
فأمَّا أهل العراق فيجلدونه مِائةً.
وقوله: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ).
وتقرأ رَآفَةٌ في دين الله على وزن رَعَافَة، وتقرأ " يأخذكم بالياء ".
ورآفة مثلُ السآمَةِ مثل قولك سئمت سآمَةً، ومثله كآبة ففعاله من أسْمَاءِ المَصَادِر، وسآمة على قياس كلَالَة.
وَفَعَالَةٌ في الخِصَالِ مثل القَبَاحَةِ - والمَلَاحَة والفخامة.
وهذا يكثر جداً.
ومعنى (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)، لَا تَرْحَمُوهُمَا فَتُسْقِطُوا عنهما مَا أمَر اللَّهُ بِهِ من الحَدِّ، وقيلَ يبالغ في جلدِهِمَا.
وقوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة مِنَ المؤمِنِينَ).
القراءةُ إسْكانُ اللام، ويجوز كسرها.
واختلف الناس في الطائفة، فقال بعضم الواحد فما فوقه طائفة، وقال
آخرون لا تكون الطائفة أقل من اثنين، وقال بعضهم ثلاثة، وقال بعضهم
أَرْبَعِةٌ، وقال بعضهم عَشَرة، فأمَّا من قال واحِدٌ فهو على غير ما عندَ أَهْلِ
28
اللغة، لأن الطائفة في معنى الجماعَةِ وأقل الجماعة اثنان، وأقل ما يجب في
الطائفة عِنْدِي اثنان.
والذي ينبغي أن يُتَحَرى في شَهَادَة عَذَاب الزانِي أَن
يكونُوا جَمَاعةً لأن الأغلب على الطائفة الجَمَاعَةُ.
* * *
وقوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
ويجوز الزاني لا يُنْكَحُ إلَّا زانية، والزانِيَةُ لا يُنْكَحُهَا إلا زَانٍ
ولم يقرأ بها. وتأويل (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) على معنى لا يتزوَّجُ.
وكذلك الزانية لا يتَزَوجها إلا زانٍ.
وقَالَ قومٌ: إنَّ مَعْنَى النكاح ههنا الوَطْء، فالمعنى عندهم
الزاني لَا يَطَأ إلَّا زانيةً والزانية لا يطؤها إلا زَانٍ.
وهذا القول يَبْعُد، لأنه لا يعرف شيء من ذكر النكاح في كتاب اللَّه إلا على معنى التزويج، قال اللَّهُ سُبْحَانَه: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، فهذا تزويج لَا شكَّ فيهِ.
وقال اللَّه، عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ).
فاعلم عزَّ وجلَّ أن عقد التزويج يُسمَّى النكاح.
وَأَكْثَرُ التفسير أَن هذه الآيةَ نزلت في قومٍ مِنَ الْمسلمين فقراء كانوا
بِالمَدينة، فهمُّوا بأن يتزوجوا بِبَغايَا من بالمدينة - يزنين، ويأخُذْن الأجْرَةَ.
فَأرَادُوا التزْوِيج بهِن لِيَعُلْنَهُمْ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ تَحرِيمَ ذَلِكَ، وقيل إنهم
أرادوا أن يُسَامحوهُنَّ، فأُعلموا أن ذَلك حَرَام.
ويروى أن الحَسَنَ قال: إن الزاني إذا أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ لا يزوج إلا بامرأة
أُقيمَ عليها الحَدُّ مِثْلُه، وكذلك المرأة إذا أقيم عليها الحدُّ عِنْدَهُ لا تزوج إلا
برجل مثلها.
وقال بَعْضُهم: الآية منسوخة نسخها قوله: (وأنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُم).
وأكثر القول أن المعنى هَهُنَا على التزويج.
ويجوز " وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ " بمعنى وحرَّمَ اللَّه ذلك على
المُؤْمِنين، ولم يقرأ بها.
وهذا لفظُه لفظ خَبَرٍ، ومعناه معنى الأمْرِ، ولو كان على ماقال مَنْ قَالَ إنه
الوَطْءُ لما كان في الكلام فَائِدَةٌ، لأن القائل إذا قال الزانية لا تَزْني إلا بِزَانٍ.
والزاني لا يزني إلا بزانيةٍ، فليس فيه فائدة إلا عَلَى جهة التغليظ في الأمر، كما تقول للرجل الذي قَدْ عَرفْتَهُ بالكذبِ: هذا كذاب، تريدُ تغليظ أَمْرِهِ. فعلى ما فيه الفائدة ومَا توجِبُه اللغَةُ أن المعنى مَعنى التزْوِيج.
* * *
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
(٤)
معنى (يَرْمُونَ المحصنَاتِ) أي، بالزِنا، لكنه لم يَقُلْ بالزنَا، لأن فيما تَقَدَّمَ
مِنْ ذِكْر الزانِيةِ والزاني دليلًا على أن المعنى ذَلِك.
ومَوْضِعُ (الذين) رفع بالابتداء.
وعلى قراءة عيسى بن عُمَر، يجب أن يكون مَوضَعُ (الذين يَرْمُونَ
المُحْصَنَاتِ) نَصْباً على معْنى اجلدوا الذين يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء.
وعلى ذلك اختيار سيبويه والخليل.
والمحصنات ههنا: اللواتي أحْصَنَّ فُرُوجَهُنَّ بالعِفَّةِ (١).
وقوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾: كقولِه: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا﴾ [النور: ٢]، فيعودُ فيه ما تقدَّم بحاله. وقوله: ﴿المحصنات﴾ فيه وجهان أحدُهما: أنَّ المرادَ به النساءُ فقط، وإنَّما خَصَّهُنَّ بالذِّكْر؛ لأنَّ قَذْفَهُنَّ أشنعُ. والثاني: أنَّ المرادَ بهنَّ النساءُ والرجال، وعلى هذا فيقالُ: كيف غَلَّبَ المؤنَّثَ على المذكر؟ والجوابُ: أنه صفةٌ لشيء محذوفٍ يَعُمُّ الرجالَ والنساءَ، أي: الأنفسَ المحصناتِ وهو بعيدٌ. أو تقولُ: ثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ لفهمِ المعنى، والإِجماعُ على أنَّ حكمَهم حكمُهن أي: والمُحْصَنين.
قوله: ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾ العامَّة على إضافة اسمِ العددِ للمعدود. وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بالتنوينِ في العدد، واستفصحَ الناسُ هذه القراءةَ حتى جاوزَ بعضُهم الحدَّ، كابنِ جني، ففضَّلها على قراءة العامَّةِ قال: «لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجودُ الإِتباعُ دونَ الإِضافةِ. تقول: عندي ثلاثةُ ضاربون، ويَضْعُفُ ثلاثةُ ضاربين» وهذا غلطٌ، لأن الصفةَ التي جَرَتْ مجرى الأسماءِ تُعْطى حكمَها فيُضاف إليها العددُ، و «شهداء» مِنْ ذلك؛ فإنه كَثُرَ حَذْفُ موصوفِه. قال تعالى: ﴿مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وتقول: عندي ثلاثةُ أَعْبُدٍ، وكلُّ ذلك صفةٌ في الأصل.
ونَقَل ابنُ عطية عن سيبويهِ أنه لا يُجيزَ تنوينَ العددِ إلاَّ في شعرٍ، وليس كما نقله عنه، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماءِ نحو: ثلاثةُ رجالٍ، وأمَّا الصفاتُ ففيها التفصيلُ المتقدمُ.
وفي ﴿شُهَدَآءَ﴾ على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه تمييزٌ. وهذا فاسد؛ لأنَّ مِنْ ثلاثة إلى عشرة يُضافُ لمميِّزه ليس إلاَّ، وغيرُ ذلك ضرورةٌ. الثاني: أنه حالٌ وهو ضعيفٌ أيضاً لمجيئها من النكرةِ من غيرِ مخصِّص. الثالث: أنها مجرورةٌ نعتاً لأربعة، ولم ينصَرِفْ لألف التأنيث. اهـ (الدُّرُّ المصُون)
30
اختلف الناس في قبول شهادة القاذف، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا تَابَ مِنْ قَذْفِهِ
قُبِلَتْ شهادَتُه.
ويروى أَنَ عُمَر بنَ الخَطَابِ قَبلَ شهادة قاذفيْن، وقال لأبي بكرة
إنْ تُبْتَ قَبِلتُ شَهَادَتَك.
وتوبتُه أَن يرْجَع عن القذف.
وهذا مذهب أكثر الفقهاء، وأما أَهْلُ العِرَاقِ فيقولون شهادَتُه غير مقبولة لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا)، قالوا، وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قالوا: هذا الاستثناء من قوله: (وأولئك هم الفاسقون)، فاسْتُثْنِيَ التائبُونَ
مِنَ الفَاسِقين.
وقال من زعم أن شهادته مَقْبُولَةٌ أن الاستثناء من قوله:
(وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبداً. إِلا الَّذِينَ تَابُوا قالوا وقوله:
(وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) صِفَةٌ لَهُمْ.
وَأَجْمَعُوا أن من قذف وهوكافر ثم أسلم وتَابَ، وكان بَعْدَ إسْلاَمِه
عَدْلاً قبلت شَهادَتُه وإن كان قاذفاً، والقياس قبول شهادة القاذف إن تاب
واللَّه - عزَّ وجلَّ - يقول في الشهادات: (مِمنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشهَدَاءِ)
فليس القاذف بِأَشد جُرْماً مِنَ الكافِر، فحقه أنه إذا تاب وأصلح قُبِلَتْ شهادَتُه، كما أن الكافِرَ إذا أسلم وأصلح قبلت شَهادَتُه.
فإن قال قائل: فما الفائدة في قوله (أَبَدًا)؟
قيل الفَائِدَةُ أن الأبدَ لكل إنسان مقدار مُدتِهِ في حياته، ومقدار مدَّتِه فيما يتصل بقصَّتِهِ. فتقول: الكافر لا يُقْبَلُ منه شَيْء أَبَداً فمعناه، ما دام كافراً فلا يقْبَلُ منه شيء.
وكذلك إذَا قُلْتَ: القَاذِفُ لا تُقْبَل منه شَهادَة أبداً، فمعناه ما دَامَ قَاذِفاً، فإذا زال عنه الكفر فقد زال أَبَدُه، وكذلك القاذفُ إذا زال عنه القذفُ فقد زال عنه أَبَدُه، ولا فرقَ بين هَذا وذَلكَ. -
وتقرأ (ثم لم يأتوا بِأربَعَةٍ شهدَاءَ) - بالتنوين - (فَاجْلِدُوهًمْ)، فأرْبَعة
31
مخفُوضَة مُنَؤَنةٌ، وَ (شَهداء) صفة للأربعة، في موضع جَرٍّ.
ويَجَوْزُ أنْ يَكونَ فِي موضع نَصْبٍ مِنْ جهتين:
إحداهما على معنى ثم لم يُحْضِرُوا أرْبَعةً شهداءَ، وعلى
نصب الحال مع النكِرةِ ثم لم يأتوا حال الشهادة.
فأمَّا (إلا الَّذِينَ تَابُوا) فيجوز أَنْ يَكُونَ في مَوْضِع جَر على البَدَلِ من
الهاء والميم، على معنى ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً إلا الذين تابوا.
ويجوز أن يكون في موضع نَصْبٍ على الاستثناء على قوله:
(وأولئك هم الفَاسِقُونَ - إلا الَّذِينَ تَابُوا)، وإذا استُئنُوا من الفَاسِقينَ أيضاً.
فقد وجب قبول شَهَادَتِهم لأنهم قد زال عنهم اسم الفِسْقِ (١).
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)
معناه والذين يرمون أزواجهم بالزِنَا.
وقوله: (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ باللَّهِ).
ويقرأ أربعَ شهاداتٍ باللَّهِ بِالنَصْبِ، فمن قرأ أرْبَعُ بالرفْع فَعَلَى خبر
الابتداء، المعنى فشهادة أحدهم التي تدرأ حَدَّ القَاذف أَربعٌ، والدليل على
ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ).
ومن نصب أَرْبعاً فالمعنى فَعَلَيْهم أن يَشْهَدَ أَحَدُهُم أرْبَعَ شهاداتٍ.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾: في هذا الاستثناءِ خلافٌ: هل يعودُ لِما تقدَّمه من الجملِ أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟ وتكلم عليها من النحاةِ ابنُ مالك والمهاباذي. فاختار ابنُ مالك عَوْدَه إلى الجملةِ المتقدمةِ، والمهاباذي إلى الأخيرة. وقال الزمخشري: «ردُّ شهادةِ القاذفِ مُعَلَّقٌ عند أبي حنيفة رحمه الله باستيفاءِ الحدِّ. فإذا شهد [به] قبل الحَدَّ أو قبلَ تمام استيفائِه قُبِلَتْ شهادتُه. فإذا اسْتُوفي لم تُقْبَلْ شهادتُه أبداً، وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء. وعند الشافعيِّ رحمه الله يتعلَّقُ رَدُّ شهادِته بنفسِ القَذْفِ. فإذا تاب عن القَذْفِ بأَنْ يرجعَ عنه عاد مقبولَ الشهادة. وكلاهما متمسِّكٌ بالآية: فأبو حنيفةَ رحمه الله جَعَلَ جزاءَ الشرطِ الذي هو الرميُ الجَلْدَ ورَدَّ الشهادةِ عقيبَ الجَلْدِ على التأبيد، وكانوا مردودي الشهادة عندَه في أَبَدِهم وهومدةُ حياتِهم، وجعل قولَه ﴿وأولئك هُمُ الفاسقون﴾ كلاماً مستأنفاً غيرَ داخلٍ في حَيِّزِ جزاءِ الشرط، كأنه حكايةُ حالِ الرامين عند الله بعد انقضاءِ الجملةِ الشرطيةِ، و ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ استثناءٌ من» الفاسقين «. ويَدُلُّ عليه قولُه: ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. والشافعيُّ رحمه الله جَعَل جزاءَ الشرطِ الجملتين أيضاً، غيرَ أنه صَرَفَ الأبدَ إلى مدةِ كونهِ قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة [والرجوع] عن القذف، وجعل الاستثناء بالجملةِ الثانية متعلقاً». انتهى، وإنما ذكرتُ الحكمَ؛ لأنَّ الإِعرابَ متوقفٌ عليه.
ومَحَلُّ المستثنى فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. الثاني: أنه مجرورٌ بدلاً من الضمير في «لهم» وقد أوضح الزمخشري ذلك بقولِه «وحَقُّ المستثنى عنده أي الشافعي أن يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ» هم «في» لهم «، وحقُّه عند أبي حنيفة أن يكونَ منصوباً؛ لأنه عن مُوْجَبٍ. والذي يقتضيه ظاهرُ الآيةِ ونظمُها أن تكونَ الجملُ الثلاثُ بمجموعِهِنَّ جزاءَ الشرط كأنه قيل: ومَنْ قَذَفَ المُحْصناتِ فاجْلِدوهم، ورُدُّوا شهادتَهم وفَسِّقوهم أي: فاجْمَعُوا لهم الجَلْدَ والردَّ والتفسيقَ، إلاَّ الذين تابوا عن القَذْفِ وأصلحوا فإنَّ اللهَ يغفرُ لهم فينقلبون غيرَ مجلودِين ولا مَرْدودين ولا مُفَسَّقين». قال الشيخ: «وليس ظاهرُ الآية يقتضي عَوْدَ الاستثناءِ إلى الجملِ الثلاثِ، بل الظاهرُ/ هو ما يَعْضُده كلامُ العرب وهو الرجوعُ إلى الجملةِ التي تَليها».
والوجه الثالث: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ من قولِه ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. واعتُرِض بخُلُوِّها مِنْ رابطٍ. وأُجيب بأنه محذوفٌ أي: غفورٌ لهم، واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناءِ: هل هو متصلٌ أو منقطع؟ والثاني ضعيفٌ جداً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون)
وعلى معنى فالذي يَِدرَأُ عنها العَذَابَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهم أَرْبَعَ شهاداتٍ
* * *
(والخَامِسَةُ أَن لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ).
ويجوز والخامِسَةَ أَن لَعْنَةَ اللَّه عليه، وكذلك والخَامِسَةُ أَنَ غضبَ اللَّهِ
عليها، والخامِسَةَ جميعاً، فمن قال: والخامِسَةَ فعلى مَعْنَى وَيَشْهَدُ الخامِسَةَ.
فإذا قَذَف القاذِفُ امرأَتَه، فشهادَتُه أَن يَقُولَ: أَشْهَدُ باللَّه إني لَمِنَ
الصادِقِينَ فِيمَا قَذَفْتُها بِهِ، أو يقول: أحلف باللَّهِ إني لمن الصادِقينَ فِيما قَذَفْتُها به، أَرْبَعَ مَراتٍ، ويقول في الخامِسَةِ لعنة اللَّه عليه إن كان من الكَاذبين.
وكذلك تقولُ المرأَةُ: أَشْهَدُ بِالله إئهُ لِمنَ الكاذبين فيما قذفني به، أربع
مرات، وتقول في الخامِسَةِ: وعَلَيَّ غَضَبُ الله إن كان من الصادقين.
وهذا هو اللِّعَانُ، فإذا تلاعنا فُرقَ بينهما، واعتدَّت عِدَّةَ المطلَّقَةِ من وقتها ذلك.
فإذا فعلا ذلك لم يَتَزوجْهَا أبداً في قول أكثر الفقهاء من أهل الحجاز وبعضُ
الكوفيين يُتابِعُهُمْ، وهو أبو يوسُفَ، والقياسُ ما عليه أهل الحجاز، لأن القاذفَ قَذَفَها بالزِّنَا، فهو لا ينبغي له أن يتزوَّج بزانيةٍ، وليس يظهر لهذا تَوْبَةٌ، واللِّعَانُ لا يكون إلا بحاكم من حكام المسلمين (١).
* * *
وقوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ
(١٠)
ههنا جواب لولا متروك، والمعنى - واللَّهُ أعلم - ولولا فضلُ الله عليكم
لنال الكاذب لما ذكرنا عَذابٌ عظيم، ويدل عليه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤).
* * *
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١)
معنى الِإفك ههنا الكذبُ. وقد سُمِّيَ بعضُهُمْ في الآثار، وَلَمْ يُسمَّوْا في
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ﴾: في رفع «أنفسهم» وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ مِنْ «شهداء»، ولم يذكر الزمخشري في غضونِ كلامِه غيرَه. والثاني: أنه نعتٌ له، على أنَّ «إلاَّ» بمعنى «غير». قال أبو البقاء: «ولو قُرىء بالنصبِ لجاز على أن يكونَ خبرَ كان، أو منصوباً على الاستثناء. وإنما كان الرفعُ هنا أقوى؛ لأنَّ» إلاَّ «هنا صفةٌ للنكرةِ كما ذَكْرنا في سورة الأنبياء». قلت: وعلى قراءةِ الرفعِ يُحتمل أَنْ تكونَ «كان» ناقصةً، وخبرُها الجارُّ، وأَنْ تكونَ تامةً أي: ولم يُوجَدْ لهم شهداءُ.
وقرأ العامَّةُ «يكن» بالياءِ من تحتُ، وهو الفصيحُ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ لِما بعدَ «إلاَّ» على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو: «ما قام إلاَّ هندٌ» ولا يجوز: ما قامَتْ، إلاَّ في ضرورة كقوله:
٣٤٣٣......................... وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجَراشعُ
أو في شذوذٍ كقراءةِ الحسنِ: «لا ترى إلاَّ مَساكنُهم» وقرىء «ولم تَكُنْ» بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه.
قوله: ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ﴾ في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مبتدأ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي: فعليهم شهادة، أو مُؤَخَّرهُ أي: فشهادة أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ. الثاني: أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: فالجوابُ شهادةُ أحدِهم. الثالث: أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي: فيكفي. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعلِ.
وقرأ العامَّةُ «أربعَ شهاداتٍ» بالنصبِ على المصدر. والعاملُ فيه «شهادة» فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه، كما تقدَّم في قولِه ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً﴾ [الإسراء: ٦٣]. وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع «أربع» على أنها خبرُ المبتدأ، وهو قوله: «فشهادة».
ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله: «بالله»، فعلى قراءةِ النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ بشهادات؛ لأنه أقربُ إليه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بقوله: «فشهادةُ» أي: فشهادةُ أحدِهم بالله. ولا يَضُرُّ الفصلُ ب «أربع» لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً. والثالث: أن المسألةَ من باب التنازعِ؛ فإنَّ كلاً مِنْ شهادة وشهادات تَطْلُبه من حيث المَعنى، وتكون المسألةُ من إعْمال الثاني للحَذْفِ من الأول، وهو مختار البصريين. وعلى قراءةِ الرفعِ يتعيَّن تَعَلُّقُه بشهادات؛ إذ لو عَلَّقْتَه بشهادة لَزِمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالجرِّ، ولا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ. ولم يُختلفْ في «أربع» الثانية وهي قولُه «أَنْ تَشْهد أربعَ شهاداتٍ أنها منصوبةٌ للتصريح بالعاملِ فيها. وهو الفعلُ.
قوله: ﴿والخامسة﴾: اتفق السبعةُ على رفع الخامسة الأولى، واختلفوا في الثانية: فنصبها حفصٌ، ونَصَبهما معاً الحسنُ والسلمي وطلحة والأعمش. فالرفعُ على الابتداءِ، وما بعده مِنْ «أنَّ»
وما في حَيِّزها الخبرُ. وأمَّا نصبُ الأولى فعلى قراءةِ مَنْ نصبٍ «أربعَ شهادات» يكون النصبُ للعطفِ على المنصوبِ قبلها. وعلى قراءةِ مَنْ رَفَعَ يكونُ النصبُ بفعلٍ مقدرٍ أي: ويَشْهَدُ الخامسةَ. وأمَّا نصبُ الثانيةِ فعطفٌ على ما قبلَها من المنصوبِ وهو «أربع شهادات». والنصبُ هنا أقوى منه في الأولى لقوةِ النصبِ فيما قبلَها كما تقدَّم تقريرُه: ولذلك لم يُخْتَلَفْ فيه. وأمَّا «أنَّ» وما في حَيِّزها: فعلى قراءةِ الرفعِ تكونُ في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ كما تقدَّم، وعلى قراءةِ النصبِ تكونُ على إسقاطِ الخافضِ، ويتعلَّقُ الخافضُ بذلك الناصبِ للخامسةِ أي: ويشهد الخامسةَ بأنَّ لعنةَ الله وبأنَّ غضبَ اللهِ. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ بدلاً من الخامسة.
قوله: ﴿أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ﴾ قرأ العامَّةُ بتشديد «أنَّ» في الموضعين. وقرأ نافعٌ بتخفيفها في الموضعين، إلاَّ أنه يقرأ «غَضِبَ اللهُ» بجَعْلِ «غَضِبَ» فعلاً ماضياً، والجلالة فاعلَه. كذا نقل الشيخ عنه التخفيفَ في الأولى أيضاً، ولم ينقُلْه غيره. فعلى قراءتِه يكون اسمُ «أنْ» ضميرَ الشأنِ في الموضعين، و «لعنةُ الله» مبتدأ و «عليه» خبرُها. والجملةُ خبرُ «أنْ». وفي الثانية يكون «غضِبَ الله» جملةً فعليةً في محل خبر «أنْ» أيضاً، ولكنه يقال: يلزمُكم أحدُ أَمْرَيْن، وهو إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المخففةِ والفعلِ الواقعِ خبراً، وإمَّا وقوعُ الطلبِ خبراً في هذا البابِ وهو ممتنعٌ. تقريرُ ذلك: أنَّ خبرَ المخففةِ متى كان فعلاً متصرفاً/ غير مقرونٍ ب «قد» وَجَبَ الفصلُ بينهما. بما تقدَّم في سورة المائدة. فإنْ أُجيب بأنه دعاءٌ اعتُرِض بأنَّ الدعاءَ طلبٌ، وقد نَصُّوا على أنَّ الجملَ الطلبيةَ لا تقع خبراً ل «إنَّ». حتى تأوَّلوا قولَه:
٣٤٣٤........................... إنَّ الرِّياضةَ لا تُنْصِبْك للشَّيْبِ
وقوله:
٣٤٣٥ إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ... لا تَحْسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
على إضمارِ القول. ومثلُه ﴿أَن بُورِكَ مَن فِي النار﴾ [النمل: ٨]. وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلميُّ وعيسى بتخفيف «أنْ و» غَضَبُ الله «بالرفع على الابتداء، والجارُّ بعدَه خبرُه. والجملةُ خبرُ» أنْ «.
وقال ابنُ عطية:»
وأنْ الخفيفةُ على قراءة الرفعِ في قوله: «أَنْ غَضِبَ» وقد وليها الفعلُ. قال أبو علي: «وأهلُ العربيةِ يَسْتَقْبِحون أَنْ يليَها الفعلُ إلاَّ بأَنْ يُفْصل بينها وبينه بشيء نحو قولِه ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ﴾ [المزمل: ٢٠] ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ﴾ [طه: ٨٩] فأمَّا قولُه: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ﴾ [النجم: ٣٩] فذلك لقلةِ تمكُّنِ» ليس «في الأفعال. وأمَّا قولُه: ﴿أَن بُورِكَ مَن فِي النار﴾ ف» بُوْرِكَ «في معنى الدعاء فلم يَجىءْ دخولُ الفاصلِ لئلا يَفْسُدَ المعنى». قلت: فظاهرُ هذا أنَّ «غَضِبَ» ليس دعاءً، بل هو خبرٌ عن «غَضَِبَ الله عليها» والظاهرُ أنه دعاءٌ، كما أنَّ «بُورك» كذلك. وليس المعنى على الإِخبارِ فيهما فاعتراضُ أبي علي ومتابعةُ أبي محمد له ليسا بمَرْضِيَّيْنِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون)
33
ْالقرآن فمِمنْ سُمِّيَ حسانُ بنُ ثَابتٍ، ومِسْطَح بنُ أُثاثَةَ، وعبدُ اللَّه بنُ
أُبَيٍّ.
ومن النساء حِمْنة بِنت جَحش.
(لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
وقيل لكم والتي قُصِدَتْ عائشة رحمها اللَّه، فقيل لكم يعنى به هِيَ ومن
بسببها من النبي - ﷺ - وأبي بكر رحمه اللَّه.
وقوله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ).
ويُقْرأ (كُبْرَهُ مِنْهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
34
فمن قرأ (كِبْرَه) فمعناه من تَولَّى الإثْمَ في ذلك، ومن قرأ كُبْرَه أراد
مُعْظَمَهُ.
ويروى أن حسان بن ثابت دَخَل علَى عائشة، فقيل لها أَتُدْخِلين هذا
الذي قال اللَّه عزَّ وجلَّ - فيه: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فقالت أَوَ لَيْسَ قَدْ ذهب بَصَرُه.
ويروى أنَّه أنشدها قوله في بيته:
حَصَانٌ رَازانٌ ما تُزَنُّ بِريبةٍ... وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحومِ الغَوافِل
فقالت له: لكنك لست كذلك.
وقوله تعالى: (والْخَامِسَةُ أَن غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا).
بتخفيف أَن ورَفع غَضَبُ على معنَى أَنَه غَضَبُ الله عليها، ويجوز أَنْ
غَضِبَ اللَّهِ عليها، وههنا " هاء " مُضْمرة، وأن مخففَة من الثقِيَلَةِ.
المعنى أَنهُ غَضِبَ اللَّه عليها، وأنه غَضَبُ اللَّهِ عليها.
قال الشاعر:
في فتية كسيوف الهند قد علموا... أن هالك كل من يَحْفَى وَيَنْتَعلُ
وجاء في التفسير في قوله: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)
أنه يعنى به عَائِشةُ وصَفوانُ بنُ المعَطِّل، ويجوز " لكم " في معنى
35
(لكما)، والذي فسَّرْنَاهُ أولاً يَتَضَمّنُ أمر عائشة وَصَفْوانُ والنبي - ﷺ - وكل من بينه وبين عائشةَ سَبَبٌ، ويجوز أَن يكون لكُلِ مَنْ رُمِيَ بِسَبَبٍ.
* * *
وقوله تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢)
معناه هَلَّا إذْ سِمعتُموه، لِأن المعنى ظَن المؤمنُونَ بِأنْفُسِهِمْ، في موضع
الكنايَةِ عَنْهُمْ وعن بَعْضِهِمْ، وكذلك يقال للقوم - الذين يَقْتُل بَعْضُهُمْ بعضاً أَنَّهُمْ يَقْتُلونَ أَنْفُسَهُمْ.
(وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)، أي كذِبٌ بَيِّنٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
وَقُرِئَتْ: وَلاَ يَتَأَلَّ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ (١).
وَمَعْنَى تَأتَلِي تَحْلِفُ وكذلك يَتَأَلَّى يحلف.
ومعنى (أَنْ يُؤْتُوا) أنْ لاَ يُؤتُوا (أُولِي الْقُرْبَى)، المعنى ولا يحلف
أولو الفضل منكم والسَّعَةِ أنْ لَا يُعْطوا (أُولِي الْقُرْبَى والمَسَاكِينَ).
ونزلت هذه الآية في أبي بكر الصِّدِّيقِ، وكان حلف أَنْ لاَ يُفْضِل
على مِسْطًح بن أُثَاثَة، وكان ابنَ خَالَتِهِ بِسَبَبِ سَبِّهِ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - فَلَما نَزَلَتْ: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ).
قال أبُو بكر: بَلَى، وَأَعَاد الإِفْضَالَ عَلَى مِسْطَح وعلى مَنْ حَلَفَ أن لاَ
يُفْضِلَ عَليْه وَكَفَّرَ عن يمينه.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ﴾: يجوزُ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِن الأَلِيَّة وهي الحَلْف كقوله:
٣٤٣٧............................. وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
ونَصَرَ الزمخشري هذا بقراءة الحسن «ولا يَتَأَلَّ» من الأَلِيَّة كقوله: «مَنْ تألَّ على اللهِ يُكَذِّبْه». ويجوزَ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَوْتُ أي قَصَّرْتُ كقوله تعالى: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ [آل عمران: ١١٨] قال:
٣٤٣٨ وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نَفْسِه... بمُدْرِكِ أَطْراف الخُطوب ولا آلِ
وقال أبو البقاء: وقُرِىء «ولا يَتَأَلَّ» على يَتَفَعَّل وهو من الأَلِيَّة أيضاً «.
قلت: ومنه:
٣٤٣٩ تَأَلَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّني... إلى نِسْوةٍ كأنَّهنَّ مَفائِدُ
قوله: ﴿أَن يؤتوا﴾ هو على إسقاطِ الجارِّ، وتقديرُه على القول الأولِ، ولا يَأْتَلِ أُولوو الفَضْلِ على أَنْ لا يُحِسنوا. وعلى الثاني: ولا يُقَصِّر أُولو الفَضْل في أَنْ يُحِسنوا. وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن قطيب»
تُؤْتُوا «بتاء الخطاب. وهو التفاتُ موافِقٌ لقولِه:» ألا تُحِبون «. وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين: وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا، بالخطاب، وهو موافِقٌ لِما بعده. اهـ (الدُّرُّ المصُون)
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٢٣)
قيل إنه يعنى به أزواج النبي - ﷺ -.
وقيل إن الأصْلَ فيه أَمْر عائشة، ثم صار لكل مَنْ رَمَى المؤمِنَاتِ.
ولم يَقل هَهنَا والمؤمنين استغناء بأنه إذا رَمَى المؤمِنَةَ فلا بد أَنْ يَرْمِيَ فعها مؤمِناً، فاستغنى عن ذكر المؤمنين لأنه قد جرى ذِكْرُ الْمؤمِنِينَ والمؤمِنَاتِ، وَدَل ذكرُه المؤْمِنَاتِ عَلَى المُؤْمِنِين، كما قال:
(سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ) ولم يَقُلْ وَتَقِيكُمُ البرْدَ، لأن ما كان وقى الحرَّ وقى
البَرْدَ، فاستَغْنَى عَنْ ذِكْرِ أَحدهما بالآخر.
* * *
وقوله: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
ويقرأ الحقُّ، فمن قرأ الحقُّ فالحقُّ من صِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، فالمعنى
يوْمَئِذ يوفيهم اللَّهُ الحق دِينَهُمْ، ومن قرأ دينهم الحق، فالحق من صِفَةِ الذِينِ
والدِّين ههنا الجزاء، المعنى يَوْمَئِذٍ يَوَفِّيهمُ اللَّه جزاءهم الحق، أي جزاءهم
الواجب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
(٢٦)
فيها وَجْهَان، المعنى الكلمات الخَبيثَاتُ للخبيثين من الرجال، والرجال
الخَبِيثونَ للكلمات الخبيثَاتِ، أي لا يَتَكلَّم بالخبيثات إلا الخبيثُ من الرجال
والنساء، ولا يتكلَّمْ بالطيبَاتِ إلا الطيبُ من الرجال والنساء، ويجوز أن يكون معنى هذِهِ الكَلِمَاتِ الخبيثات إنما تلصق بالخَبِيثين من الرجال والخبيثات مِن النِّسَاءِ، فأما الطَاهِرَاتُ الطيبات فلا يلصق بِهِنَ شيء.
وقيل الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجَالِ وكذلك الطيبات من النساء، للطيبين من الرجال.
وقوله: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ).
أَي عائِشة وَصَفْوانُ بنُ المُعَطِّل، وكذلك كل من قُذِفَ من المُؤْمِنينَ
والمُؤْمِنَاتِ مُبَرأُونَ ممَّا يَقُول أهل الخُبْث القَاذِفُونَ.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
أي للذين قُذِفوا ورُمُوا مَغْفِرَة وَرزْق كريم، وللقاذفين اللعْنَةُ في الدُنيَا
والآخرة وَعَذَابٌ عَظِيئم.
* * *
وقوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) (١).
معناه إذ يلقيه بعضكم إلى بَعْض، وقرأت عائشة رحمها اللَّه: إذْ تُلْيقُونَهُ
بألسنَتِكُمْ، ومعناه إذْ تسْرِعُونَ بالكَذِبِ، يقال وَلَق يلِقُ إذَا أَسْرَع فِي الكَذِبِ وغيره.
قال الشاعر:
جاءتْ به عَنْسٌ من الشامِ تَلِق
أي تسرع.
* * *
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)
يُقْرَأُ بِالضمِّ والكَسْرِ، ولكن الضم أَكثَرُ، فمن ضمَّ فَعَلَى أصل الجمع.
يجمع بَيْتُ وبيوتُ مثل قَلْب وقُلوب وفَلْس وفلوس، وَمَنْ قرأ بِالكَسْرِ فإنما كَسَر للياء التي بعد الباء، وذلك عند البَصْرِيينَ رَدِيء جدًّا، لأنه ليس في كلام العرب فِعُول - بكسر الفاء -.
وقوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾: «إذْ» منصوبٌ ب «مَسَّكُمْ» أو ب «أَفَضْتُمْ». وقرأ العامَّةُ «تَلَقَّوْنه». والأصلُ: تَتَلَقَّوْنه فحُذِفَتْ إحدى التاءَيْن ك ﴿تَنَزَّلُ﴾ [القدر: ٤] ونحوه. ومعناه: يتلقَّاه بعضُكم من بعض. والبزيُّ على أصله: في أنه يُشَدِّد التاءَ وصلاً. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة نحو ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ﴾ [البقرة: ٢٦٧] وهو هناك سَهَّلَ لأنَّ ما قبله حرفُ لِيْنٍ بخلافِه هنا. وأبو عمرو والكسائي وحمزةُ على أصولِهم في إدغامِ الذالِ في التاء. وقرأ أُبَيّ «تَتَلَقَّوْنَه» بتاءين، وتقدَّم أنها الأصلُ. وقرأ ابن السميفع في روايةٍ عنه «تُلْقُوْنَه» بضمِّ التاءِ وسكونِ اللام وضمِّ القافِ مضارِعَ «ألقى» إلقاءً. وقرأ هو في روايةٍ أخرى «تَلْقَوْنه» بفتح التاءٍ وسكونِ/ اللامِ وفتحِ القاف مضارع لَقِيَ.
وقرأ ابنُ عباس وعائشةُ وعيسى وابنُ يعمر وزيد بن علي بفتحِ التاءِ وكسرِ اللامِ وضَمِّ القافِ مِنْ وَلَقَ الرجلُ إذا كَذِبَ. قال ابن سيده: «جاؤوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي. وعندي أنه أراد تَلِقُوْن فيه فحذف الحرف ووصل الفعلُ للضمير». يعني أنهم جاؤوا ب «تَلِقُوْنه» وهو متعدٍ مُفَسَّراً ب «تُكذِّبون» وهو غيرُ متعد ثم حَمَّله ما ذكر. وقال الطبري وغيره: «إن هذه اللفظةَ مأخوذةٌ من الوَلْقِ وهو الإِسراعُ بالشيءِ بعد الشيءِ كعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ وكلامٍ في إثرِ كلامٍ يُقال: وَلَقَ في سَيْرِه أي: أسرع وأنشد:
٣٤٣٦ جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّأْمِ تَلِقْ... وقال أبو البقاء: أي: تُسْرعون فيه. وأصله من الوَلْقِ وهو الجنون»
.
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر «تَأْلِقُوْنه» بفتح التاء وهمزةٍ ساكنةٍ ولامٍ مكسورةٍ وقافٍ مضمومةٍ من الأَلْقِ وهو الكذبُ. وقرأ يعقوب «تِيْلَقُوْنه» بكسر التاءِ من فوقُ، بعدها ياءٌ ساكنةٌ ولامٌ مفتوحةٌ وقافٌ مضمومةٌ، وهو مضارع وَلِق بكسر اللامِ كما قالوا يِْيجَلُ مضارعَ وجِل. اهـ (الدُّرُّ المصُون)
معنى تستأنسوا في اللغة تَسْتَأذِنُوا، وكذلك هو في التفسير، والاستئذان
الاستعلام، تقول آذَنتُه بكذا أي أعلَمْتُه، وكذلك آنست مِنْهُ كذا
وكذا - عَلِمْتُ منه، وكذلك، (فَإِنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً) أي علمتم.
فمعنى حتى تَسْتَأنِسُوا حتى تستعلِمُوا أيريد أهلها أن يُدخلوا أَمْ لاَ، والدليل على أَنه الِإذْنُ قَوله: (فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤذَنَ لَكُمْ).
* * *
وقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩)
أي ليس عليكم جناح أنْ تَدْخُلوا هَذِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ.
وجاء في التفسير أنه يعنى بها الخانات، ويقال للخَانِ فُنْدق وفُنْتُق. -
بالدال والتاء - وإنما قيل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تدخُلُوا هَذِهِ البُيُوتَ لأنه
حَظَرَ أن تُدْخَل البُيُوتُ الَّتي ليست لهم إلا بِإذْنٍ، فأُعْلِمُوا أَن دُخول هذه
المواضعَ المُبَاحَةَ - نحو الخانات وحوانيت التجارة التي تباع فيها الأشْيَاءُ وُيبِيحُ
أهلُها دُخُولَها - جائزٌ.
وقيل إنه يُعْنَى بِهَا الخَرِبَاتُ التي يَدْخُلُها الرجُلُ لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ.
ويكون معنى: (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) بمعنى إمْتاعِ، أي مُتفرَّجُون فيها مِما بكم.
* * *
وقوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا).
أي لا يبدين زينَتَهُنَّ الباطِنَةَ، نحو المِخْنَقَةِ والْخلْخَال والدُّمْلُجُ
والسِّوار.
والتي تُظْهَرُ هي الثيابُ والوَجْهُ.
وقوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ).
كانت المرأة ربما اجتازت وفي رجلها الْخلخال، وربما كان فيها
الخَلاَخِلُ فإذا ضَرَبتْ بِرِجْلِها عُلِمَ أنها ذاتُ خَلْخَال وزينةٍ، وهذا يحرك من
الشهْوَةِ فنُهِيَ عنه، كما أُمِرْنَ ألا يُبْدِينَ، لأن استماعَ صَوْته بمنزلة إبْدَائِه.
* * *
وقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
قُرِئَتْ من عَبِيدِكُمْ، وكلاهما جائز، وهذا لازِم في الأيَامَى، والمَعْنَى
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وإمَائِكُم إنْ أَرَدْن تَحَصُّناً.
* * *
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)
ومعنى (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا).
أي لا تكرهوهن على البغاء ألْبتَّةَ، وليس المعنى: لا تكرهوهن إنْ
أَرَدْن تَحَصُناً. وإن لم يرِدْن فَلَيْس لنا أَنْ نُكْرِهَهُنَّ.
* * *
وقوله: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
فحث اللَّه - عزَّ وجلَّ - على النكاح وأعلم أنه سَبَبٌ لِنَفْيِ الفَقْر.
ويروى عن عمر رحمه اللَّه أنه قال: عَجَتُ لاِمْرِئ كيف لا يَرْغَبُ في البَاءَةِ
واللَّه يَقُولُ (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
وقوله: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا).
معنى (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قيل إن علمتم أدَاءَ ما يفارق عليه، أي
عَلِمْتُمْ أَنهم يَكتِبُونَ ما يُؤَدُّونَهُ.
ومعنى المكاتبة أن يكاتب الرجل عبده أو أَمَتَهُ
40
عَلَى أن يُفَارِقَة، أنه إذا أَدَّى إليه كذا وكذا من المال في كذا وكذا من النجوم
فالعبدُ حُر إذا أَدَّى جميع ما عليه، وَوَلاؤه لمولَاه الذي كاتبه، لأن مولاه جاد
عليه بالكسْب الذي هو في الأصل لمولاه.
وقوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ).
هذا - عند أكثر الفقهاء - على الندْبِ، للمولى أن يُعْطِيَهُ شَيْئاً مما يُفَارِقُه
عليه، أو من ماله ما يستعين به على قضاء نجومِهِ، وله ألَّا يفْعَلَ، وكذلك له
أَنْ يكاتِبَهُ إذا طلب المكاتبة وَلَه أَلَّا يكاتِبَهُ.
ومخرج هذا الأمر مخرجُ الِإبَاحَةِ، كما قال: (وإِذَا حَلَلْتُم فاصطادوا) لأنه حرَّم عليهم الصيدَ ما دَامَوا حُرُماً.
وكذلك قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) هذا بَعْدَ أن حَظَر عليهم البيعَ في وقت النداء إلَى الصلَاة، فهذا أباحَهُ
فيهِ لأن العَبْدَ المملوك لا مال له، ولا يقدر على شيءٍ، فأباح اللَّه لَهُم أن
يُقْدِرُوه.
ويروى عن عُمَرَ أنه كَاتَبَ عَبْداً له يُكْنَى أَبَا أُمَيَّةَ، وهو أول عَبْدٍ كوتب
في الإسلام، فأتاه باول نجم فدفَعَهُ إلَيْهِ عُمر، وقال له: اسْتَعِنْ به عَلَى
مُكَاتَبَتِكَ، فقال: لَوْ أَخْرته إلى آخرِ نَجْم، فقال أَخَافُ أَلَّا أدرك ذلك.
وقوله: (أوْ نِسائِهِنَّ)..
وذلك أنه لا يَحِلُ أن ترى المشركاتُ ما يحِل أن تراه المؤمِنَاتُ من
41
المُومِنَاتِ، يُعْنَى بِنِسائِهِن نساء المؤمنات، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
* * *
وقوله تَعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ).
" غير " صفة للتابعين دَليل على قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)، معْنَاهُ أيْضاً غير أولي الإربَةِ من الرجَال.
والمعنى لا يبدين زينتهن لمماليكهنَّ ولا لِتُباعِهِنَّ إلا أن يكونُوا غير أُولي إربَة. والِإرْبَةُ الحاجَةُ، ومعناه هَهُنَا غير ذَوي الحاجات
إلى النِسَاءِ فَأمَّا خَفْضُ " غير " فصفة للتابعين، وإن كانت " غير " توصف بها
النَكِرَةُ، فَإنَّ التَابِعِينَ هَهُنَا ليس بمَقْصودٍ إلى قوم بأعْيانِهِمْ، إنما معناهُ لكل
تَابِع غير أولي إرْبةٍ.
ويجوز " غير " بنصب " غيرَ " على ضربين:
أَحَدهما الاستثناء، المعنى لا يبدين زينتهن إلا للتابعين إلا أُولي الإربة فلا يبدين
زينَتَهن لَهُمْ، ويجوز أن يكون منصوباً على الحال، فيكون المعنى، والتابعين
لا مُرِيدينَ النسَاء أي في هذه الحال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ).
ويقرأ " عَوَرات " - بالفتح الواو - لأن فَعْلَة يجمع على فَعلات - بفتح
العين - نحو قَولكَ جَفنة وَجَفَنَات، وصَحْفَة وصَحَفَات، فإذا كان نحو قولكَ لَوْزَة وجَوْزَة وعَوْرَة، فالأكثر أَنْ تسكَن، وكذلك قوله بَيْضَات، لثقل الحركة مع الواو والياء، ومن العرب من يَلْزَمُ الأصلَ والقياسَ في هذا فيقول جَوَازات وبَيَضَات.
وعلى هذا قرئ عَوَراتٍ. ومعنى لَمْ يَظهرُوا على عورات النساء، لم يبلغوا أن يُطيقُوا النساء، كما تقول: قد ظهر فلانٌ على فلانٍ إذا قوي عليه. ويجوز أَنْ يَكُونَ (لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِسَاءِ) لم يَدْرُوا ما قباحَةُ عورات النساء من غيرها.
42
وقوله: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
يقرأ بالفتح والكسر - فمن قرأ مبيَّنَاب بالفتح فالمعنى أنه لَيْسَ فيها
لَبْسٌ، وَمَنْ قرأ بالكَسْرِ فالمعنى أنها تبيِّن لكم الحلال من الحرام.
ثم أَعلم عزَّ وجلَّ أَنه قَدْ بيَّنَ جميع أَمر السماء، وأمر الأرض بَيَاناً نيِّراً لا غاية بَعْدَ نورِهِ فقال:
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(٣٥)
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (١)
أي مدَبِّر أَمْرِهِمَا بِحِكْمَةٍ بَالِغةٍ وحجًةٍ نيِّرَة.
ثم مثلَ مَثَلَ نورِه ذلك في القلوبِ بأبينِ النورِ الذي لم يُدرك بالأبْصَارِ فقال:
(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ).
فَنورُهُ يجوز أن يكون ما ذكرنا من تدبيره، وجائز أنْ يكونَ كتابُه الذي
بَيَّن بِهِ فقال: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) وجائز أن يكون النبي - ﷺ - هو النور الذي قال مثل نورِهِ، لأن النبي - ﷺ - هو المرشِدُ والمبيِّنُ والناقل عن الله ما هو نيِّرٌ، بَيِّنٌ.
وقال: (كَمِشْكَاةٍ)، وهي الكوَّة، وقيل إنها بلغة الحَبَشِ، والمشكاة من
كلام العرب، ومثلها - وإن كانت لغيرِ الكُوَّةِ - الشَكْوَةُ وَهِي مَعْروفَة، وهي الدقيق الصغير أو مَا يُعْمَل مِثْله.
(فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ).
والمصباح السَراج.
وقال: (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) - لأن النور في الزُّجاج.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿الله نُورُ السماوات﴾: مبتدأٌ وخبرٌ: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذو نورٍ السماوات. والمرادُ بالنور عَدْلُه. ويؤْيِّد هذا قولُه ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾. وأضاف النورَ لهذين الظرفين: إمَّا دَلالةً على سَعَةِ إشراقِه وفُشُوِّ إضاءته، حتى تضيءَ له السماواتُ والأرضُ، وإمَّا لإِرادةِ أهلِ السماوات والأرضِ، وأنَّهم يَسْتضيئون به. ويجوز أَنْ يبالَغَ في العبارةِ على سبيلِ المَدْحِ كقولهم: فلانٌ شمسُ البلاد وقمرُها، قال النابغة:
٣٤٤٦ فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ... إذا ظهرَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبُ
وقال:
٣٤٤٧ قَمَر القبائلِ خالدُ بن يزيد...............................
ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ واقِعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: مُنَّوِّرُ السماواتِ. ويؤيِّد هذا الوجهَ قراءةُ أميرِ المؤمنين وزيدِ بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي «نَوَّرَ» فعلاً ماضياً. وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى، و «السماواتِ» مفعولُه فكَسْرُه نصبٌ. و «الأرضَ» بالنصبِ نَسَقٌ عليه. وفَسَّره الحسنُ فقال: الله مُنَوِّرُ السماوات.
قوله: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ أيضاً. وهذه الجملةُ إيضاحٌ لِما قبلَها وتفسيرٌ فلا محلَّ لها. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: كَمَثَلِ نورِ مشْكاة. قال الزمخشري: «أي: صفةُ نورِه العجيبِ الشأنِ في الإِضاءةِ كَمِشْكاةٍ أي: كصفةِ مِشْكاة».
واختلفوا في الضمير في «نُوره» فقيل: هو للهِ تعالى، وهو الأولى، والمرادُ بالنورِ على هذا: الآياتُ المبيناتُ المتقدمةُ، أو الإِيمان، وقيل: إنه عائدٌ على المؤمنين أو المُؤْمنِ أو مَنْ آمن به. وقد قرأ أُبَيّ بهذه الألفاظِ كلِّها. وأعاد الضميرَ على ما قرأ به. وقيل: يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يتقدَّمْ لهذه الأشياءِ ذِكْرٌ. وأمَّا عَوْدُه على المؤمنين في قراءةِ أُبَيّ، ففيه إشكالٌ من حيث الإِفراد. / قال مكي: «يُوْقَفَ على» الأرض «في هذه الأقوالِ الثلاثةِ».
واختلفوا أيضاً في هذا التشبيهِ: أهو تشبيهٌ مركَّبٌ أي: قُصِدَ فيه تشبيهُ جملةٍ بجملةٍ، من غير نَظَرٍ إلى مقابلة جزءٍ بجزءٍ، بل قَصَدَ تشبيهَ هُداه وإتقانَ صنعتِه في كلِّ مخلوقٍ على الجُملة بهذه الجملةِ من النور الذي يَتَّخذونه. وهو أبلغُ صفاتِ النورِ عندكم؟ أو تشبيهٌ غيرُ مركبٍ أي: قُصِدَ مقابلةُ جزءٍ بجزءٍ؟ ويترتَّبُ الكلامُ فيه بحسَبِ الأقوال في الضمير في «نوره».
والمِشْكاةُ: الكُوَّةُ غيرُ النافِذَةِ. وهل هي عربية أم حبشية مُعَرَّبة؟ خلافٌ. وقيل: هي الحديدةُ أو الرَّصاصة التي يوضع فيه الذُّبال وهو الفتيل، وتكون في جَوْفُ الزجاجة، وقيل: هي العمودُ الذي يوْضَعُ على رأسِه المصباحُ، وقيل: ما يُعَلَّقُ فيه القنديلُ من الحديدِ، وأمال «المِشْكاة» الدُّوري عن الكسائي لتقدُّمِ الكسرِ، وإنْ وُجِدَ فاصلٌ. ورُسِمَتْ بالواو كالزكاة والصلاة.
والمِصْباح: السِّراجُ الضخمُ. والزجاجةُ: واحدةٌ الزجاج، وهو جوهرٌ معروفٌ. وفيه ثلاثُ لغاتٍ: فالضم لغةُ الحجاز، وهو قراءةُ العامَّة، والكسرُ والفتحُ لغةُ قيس.
وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابنِ مجاهد. وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في روايةٍ عنه، وأبو رجاء. وكذلك الخلافُ في قوله «الزجاجةُ».
والجملةُ مِنْ قوله: ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ صفةُ ل «مِشْكاة». ويجوزُ أن يكونَ الجارُّ وحدَه هو الوصفَ، و «مصباحٌ» مرتفعٌ به فاعلاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون)
43
وضوء النارِ أَبْيَنُ منه في كل شيءٍ، وضوؤه يزيدُ في الزُّجَاجِ.
ثم وصف الزجاجة فقال:
(كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).
و (دُرِّيٌّ)، منسوب إلى أنه كالدُّرِ، في صَفَائِه وحُسْنِهِ، وَقُرِئَتْ دِرِّيٌّ وَدَرِّيٌّ
- بالكسر والفتح - وقَد رُوِيتْ بالهَمْزِ.
والنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه فيه، لأنه ليس في كلام العَرَبِ شيء عَلَى فِعِّيل، ولكن الكسر جَيِّدٌ بِالهَمْز - يكون على وَزْنِ فِعِّيل، ويكون من النجوم الدَّرَارِي التي تَدَرُ.
أي يَنْحط وَيسِيرُ مُتَدافِعاً، ويجوز أن يكونَ دِرِّيٌّ بغير همزٍ مُخَفَفاً مِنْ
هذا.
قال أبو إسحاق: ولا يجوز أن يضم الدال وَيُهْمَزُ، لأنه ليس في الكلام
فُعِّيلٌ، ومثال " دُرِّيٌّ " فُعْلِيٌّ مَنْسُوبٌ إلى الدُّرِّ، وَمَنْ كَسَرَ الدالَ قَالَ دِرِّيٌّ - فكان له، أَنْ يهْمِزَ ولا يَهْمِزَ، فمن هَمَزَ أَخَذه من درأ يدرأ الكَوْكَبُ إذَا تَدافع مُنْقَضًّا، فتضاعف ضَوْءُه، يقال: تدارأ الرجُلَانِ إذَا تَدَافَعَا، ويكون وزنه على فِعِّيل.
ومن كسرها فإنما أَصْلُه الهَمْزُ فَخُفِفَ، وبقيتْ كسرة الدال عَلَى
أَصْلِهَا.
ووزنه أيضاً فعِّيل كما كان وهو مهموز (١).
* * *
وقوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ).
ويقرأ (تُوقَدُ) بالتاء، فمن قرأ بالياء عنى به المصباح، وهو مذكر.
ومن قرأ بالتاء عَنَى بِهِ الزُجَاجَةَ.
ويجوز " في زَجَاحَةٍ " بفتح الزاي وفيها وجهان آخران قُرِئ بِهِمَا - تَوَقَّدَ - بفتح الدالِ وضمها وتشديد القافِ فيهما جميعاً.
فمن قرأ تَوَقَّدُ، فالمعنى تَتَوَقدُ الزجاجةُ، ومن قرأ تَوَقَّدَ فتحه لأنه فِعْلٌ مَاضٍ.
ويكون المعنى: المصباحِ في زُجَاجَةِ تَوَقَّدَ المِصْبَاحُ (٢).
وقوله: (مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿دُرِّيٌّ﴾، قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. والباقون بضمِّ الدال وتشديد الياءِ من غيرِ همزةٍ، وهذه الثلاثةُ في السبع، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء. وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء. وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيَّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً «دَرِّيْء» بفتح الدال وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ.
فأما الأولى فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو «سِكِّين» وفي الصفاتِ نحوِ «سِكِّير».
وأمَّا القراءةُ الثانية فهي مِنْ الدِّرْءِ بمعنى الدَّفْع أي: يدفع بعضُها بعضاً أو يَدْفعُ ضوءُها خَفاءَها، قيل: ولم يوجد شيءٌ وزنُه فُعِّيل إلاَّ مُرِّيْقاً للعُصْفُر وسُرِّيَّة على قولنا: إنها من السرور، وإنه أُبْدل مِن إحدى المضعَّفاتِ ياءٌ، وأُدْغِمَتْ فيها ياءُ فُعِّيل، ومُرِّيخاً للذي في داخلِ القَرْنِ اليابس، ويقال بكسرِ الميمِ أيضاً، وعُلِّيَّة ودُرِّيْء في هذه القراءة، وذُرِّيَّة أيضاً في قولٍ. وقال بعضهم: «وزن دُرِّيْء في هذه القراءةِ فُعُّول كسُبُّوح قُدُّوْس، فاستُثْقِل توالي الضمِّ فنُقِل إلى الكسرِ، وهذا منقولٌ أيضاً في سُرِّية وذُرِّيَّة.
وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ كقراءةِ حمزةَ، إلاَّ أنه أَبْدَلَ مِنَ الهمزةِ ياءً، وأَدْغم، فَيَتَّحدُ معنى القراءتين، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها.
وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى الدُّر. والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ.
وأمَّا فتحُ الدالِ مع المدِّ والهمز ففيها إشكالٌ. قال أبو الفتح:»
وهو بناءٌ عزيزٌ لم يُحْفَظْ منه إلاَّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين «. قلت: وقد حكى الأخفشُ:» فَعَلَيْه السَّكِّينة والوَقار «و» كوكَبٌ دَرِّيْءٌ «مِنْ» دَرَاْتُه «.
اهـ (الدُّرُّ المصُون)
(٢) قال السَّمين:
قولِه: ﴿يُوقَدُ﴾ قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو»
تَوَقَّدَ «بزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح، ولا يعودُ على» كوكب «لفسادِ المعنى. والأخوان وأبو بكر» تُوْقَدُ «بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ، مضارعَ أَوْقَدَ. وهو مبنيٌّ للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على» زجاجة «فاسْتَتَرَ في الفعل. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ.
والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح.
وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك، إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال، جعله مضارع «تَوَقَّدَ»
، والأصلُ: تَتَوَقَّد بتاءَيْن، فحُذِفَ إحداهما ك «تَذَكَّرُ». والضميرُ أيضاً للزُّجاجة.
وقرأ عبد الله «وَقَّدَ» فعلاً ماضياً بزنةِ قَتَّلَ مشدداً، أي: المصباح. وقرأ الحسنُ وسَلاَّم أيضاً «يَوَقَّدُ» بالياء مِنْ تحتُ، وضَمِّ الدال، مضارعَ تَوَقَّدَ. والأصلُ يَتَوَقَّدُ بياءٍ من تحتُ، وتاءٍ مِنْ فوقُ، فَحُذِفَتْ التاءُ مِنْ فوقُ. هذا شاذٌ إذ لم يتوالَ مِثْلان، ولم يَبْقَ في اللفظِ ما يَدُلُّ على المحذوف، بخلافِ «تَنَزَّلُ» و «تَذَكَّرُ» وبابِه؛ فإنَّ فيه تاءَيْن، والباقي يَدُلُّ على ما فُقِد. / وقد يُتَمَحَّلُ لصحتِه وجهٌ من القياس وهو: أنهم قد حَمَلوا أَعِدُ وتَعِدُ ونَعِدُ على يَعِدُ في حَذْفٍ الواوِ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ فكذلك حَمَلوا يَتَوَقَّد بالياء والتاء على تَتَوَقَّد بتاءين، وإنْ لم يكنْ الاستثقالُ موجوداً في الياء والتاء.
اهـ (الدُّرُّ المصُون)
44
وليس شيء في الشجَرِ يورِقُ غُصْنُه من أوله إلى آخره مثلُ الزيْتُونِ
والرمَّانِ
قَال الشاعِرُ:
بورِكَ الميتُ الغريبُ كما... بُورِكَ نَظْم الرُمان والزيْتونِ
قوله عزَّ وجلَّ: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ).
أكثر التفسير أنها ليست مما تطلع عليه الشمسُ في وقت شروقها فقط أو
عِنْدَ الغُروبِ، أي ليس يسترها في وقت من النهَارِ شيءٌ، أي فهي شرقية
غربيَّة، أي تصيبها الشمس بالغداة، والعَشِىِ، فهو أنضر لها وأجود لزيتها
وزَيْتونها.
وقال الحسن: إن تأويلَ قوله: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) أنها ليست من
شجر الدُّنْيَا أي هي من شجر الجنَّةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦)
جاء في التفسير أَن تبْنَى، وقال الحسنُ: تأويل " أَنْ ترْفَعَ " أن تعظَّمَ.
و" في " من صِلَةِ قوله (كَمِشْكَاةٍ).
المعنى كَمِشْكاةٍ في بيوتٍ، أي فِي مَسَاجِدَ.
وقال الحسن يُعْنَى بِهِ بيتُ المقدِسِ.
ويجوز أن تكون " في " متصلة بـ (يُسَبِّحُ)
ويكون فيها تكريراً على التوكيد، فيكون المعنى يسبح لِلَّهِ رِجَالٌ في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ لأنْ تُرْفَع (١).
وتقرأ (يُسَبَّحُ) له فيها، فيكون رفع رجال هَهُنَا على تفسير
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿فِي بُيُوتٍ﴾: فيها ستةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها صفةٌ ل «مِشْكاةٍ» أي: كمِشْكاةٍ في بيوتٍ أي: في بيتٍ من بيوتِ الله. الثاني: أنه صفةٌ لمصباح. الثالث: أنه صفةٌ ل «زجاجة». الرابع: أنه متعلقٌّ ب «تُوْقَدُ». وعلى هذه الأقوالِ لا يُوقف على «عليم». الخامس: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ كقولِه ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ﴾ [النمل: ١٢] أي: يُسَبِّحونه في بيوت. السادس: أَنْ يتعلَّقَ ب «يُسَبِّحُ» أي: يُسَبِّحُ رجالٌ في بيوت. وفيها تكريرٌ للتوكيدِ كقولِه: ﴿فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [هود: ١٠٨]. وعلى هذه القولَيْن فيُوْقَفُ على «عليم». وقال الشيخ: «وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ» ولم يُذْكر سوى قولين.
قوله: ﴿أَذِنَ الله﴾ في محلِّ جرٍّ صفةً ل «بيوتٍ»، و «أن تُرفع» على حَذْفِ الجارِّ أي: في أَنْ تُرْفَعَ. ولا يجوزُ تَعَلُّقُ «في بيوت» بقوله: «ويُذْكَرُ» لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز «أَنْ»، وما بعد «أَنْ» لا يتقدَّم عليها. اهـ (الدُّرُّ المصُون)
ما لم يسم فَاعِلُه، فيكون المعنى على أنه لما قال: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا) كأنَّه قيل: مَن يُسَبِّحُ الله فقيل يُسَبِّحُ رِجَال كما قال الشاعر:
لِيُبْكَ يزيدٌ ضارِعٌ لخُصُومةٍ... ومُخْتبِطٌ مما تُطِيحُ الطَّوائِحُ
(والآصال): واحدها أُصُل، وهي العَشَايَا (١).
* * *
(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧)
ومعنى: (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).
أي لا يشغلهم أَمر عن ذَلِكَ.
ويروى أن ابن مَسْعُودٍ رأى قوماً من أَهْل السوقِ، وقد نُودِيَ بالصَّلَاةِ
فتركوا بِيَاعاتِهِمْ ونَهضُوا إلَى الصَّلاةِ، فقال: هؤلاء من الذين قال اللَّه - عز وجل - فيهم، (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
وقوله: (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)
الكلام أقمت الصلاة إقَامَةً، وأصلها أقَمْتُ إقْوامَاً، ولكن قُلِبَت الوَاوَ
أَيضاً فاجتمعت ألفان، فحذفت إحداهما لالْتِقَاءِ السَّاكنين، فبقي أَقَمْتُ الصلاة إقامَةً وأدخِلَتِ الهاء عِوَضاً من المَحْذُوفِ، وقامت الإضافة ههنا في
التعويض مقام الهاء المحذوفة.
وهذا إجماع من النحويين.
وقوله: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).
ويجوز تَقلَّبُ فيه القلوب والأبْصَارُ، في غير القرآنِ، ولا يجوز في
القران " تَقَلَّبُ، لأن القراءة سنة لا تخالَفُ وإن جاز في العربية ذَلِكَ.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿يُسَبِّحُ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة. والأولى منها بذلك الأولُ لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه، والذي يليه أولى. و «رجالٌ» على هذه القراءةِ مرفوعٌ على أحدِ وجهين: إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه، وكأنه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحه؟ فقيل: يُسَبِّحُه رجالٌ. وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر:
لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ
كأنه قيل: مَنْ يبكيه؟ فقيل: يَبْكيه ضارعٌ. إلاَّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً، منهم مَنْ جَوَّزَه، ومنهم مَنْ مَنعه. والوجهُ الثاني في البيت: أنَّ «يَزيدُ» منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي: يا يزيد، وهو ضعيف جداً.
والثاني: أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: المُسَبِّحه رجالٌ. وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال.
وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل. والفاعلُ «رجال» فلا يُوْقَفُ على الآصال.
وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة «تُسَبِّح» بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها. وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ. وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء، كقولهم: «صِيْد عليه يومان» أي: وَحْشُها. وخَرَّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي: تُسَبَّح التسبيحةُ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين، كما خَرَّجوا قراءةَ أَبي جعفرٍ أيضاً ﴿ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الجاثية: ١٤] أي: ليجزى الجزاءُ قوماً، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية؛ إذ ليس هنا مفعولٌ صريح. اهـ (الدُّرُّ المصُون)
ومعنى تَتَقلًبُ أي تَرْجُفُ وَتَجفُ من الجَزَعِ والخَوْفِ، ومعناه أَن مَنْ
كَانَ قلبُه مُوقِناً بالبعث والقيامَةِ ازداد بَصِيرَةً، ورأى ما يحبُّه مما وُعِدَ بِهِ، ومن
كان قلبه على غير ذلك رأى ما يُوقِنُ مَعَهُ بِأمْرِ القِيامة والبعْثِ، فَعَلِمَ ذلك بقلبه وشاهده بِبَصَرِه، فذلك تَقَلبُ القلوب والأبْصَار.
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩)
والقيعة جمع قاعٍ، مثل جَارٍ وَجِيرَةٍ، والقيعة والقاع ما انبسط من
الأرْض ولم يكن فيه نبات، فالذي يسير فيه يَرَى كأن فيه ماءً يَجْرِي.
وذَلِكَ هُوَ السَّرابُ، والآل مثلُ السرابِ إلا أنه يرتفع وقت الضحَى كالماء بين السماء والأرْضَ.
(يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً).
يجوز يَحْسِبُه وَيَحْسَبُه، ويجوز الظَّمآن والظَّمانُ، على تخفيف الهَمْزَةِ.
وهُوَ الشديدُ العَطَشِ يقال ظمئ الرجل يظمأ ظمأً فَهُو ظمآنُ، مثل عَطِشَ
يَعْطَشُ عطشاً فَهُوَ عطشانُ.
وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا).
أي حتى إذا جاء إلى السراب وإلى موضعه رأى أرضاً لا ماء فيها.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الكافر يظن عَمَلَه قد نفعه عند اللَّه، ظَنه كَظَنِّ الذي يظن أن السرابَ ماء، وأن عمله قَدْ حَبِط وذَهبَ.
وضرب الله هذا المثلَ لِلكَافِر فقال: إن أعمال الكفار كهذا السرابِ.
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
لأنه عزَّ وَجل وصف نوره الذي هو للمؤمنين، وأعلم أن قلوب المؤمنين
وأعمالهم بمنزلة النورِ الَّذي وصَفَهُ، وأنهم يجدونه عند اللَّه يجازيهم عليه
بالجنة، وأن أعمال الكافرين وإن مثلت بما يوجَدُ فمثله كمثل السرابِ، وإنْ
مثلت بِمَا يُرَى فهي كهذه الظلمات التي وَصَفَ في قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) الآية.
وقوله: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا).
معناه لم يرها ولم يكد، وَقَالَ بَعضُهُم يراها من بَعْدِ أن كانَ لا يَراهَا
من شِدةِ الظلمة، والقولُ الأولُ أَشْبَهُ بهذَا المعنى، لأِن في دُونِ هذه
الظُّلُمَاتِ لا يُرَى الكف.
وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
أي من لم يهده اللَّه إلى الإسلام لم يَهْتَدِ (١).
* * *
وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١)
ويجوز " والطيرَ " على معنى: " يسبح له الخلق مَعَ الطيْرِ " ولم يُقْرأْ بها.
وقوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ).
معاه كل قد علم اللَّهُ صَلاتَه وتسبيحَه، والصلاة للناس، والتسبيح لغير
الناس، ويجوز أن يكون (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) كل شيء قد علم
(١) قال السَّمين في سورة البقرة:
قوله تعالى: ﴿يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾: «يكادُ» مضارع كَادَ، وهي لمقاربةِ الفعل، تعملُ عمل «كانَ»، إلاَّ أنَّ خَبَرها لا يكونُ إلا مضارعاً، وشَذَّ مجيئُه اسماً صريحاً، قال:
٢٤١ فَأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آيباً... وكم مثلِها فارَقْتُها وهي تَصْفِرُ
والأكثرُ في خبرِها تجرُّدُهُ من «أنْ» عَكَسَ «عسى»، وقد شَذَّ اقترانُهُ بها، وقال رؤبة:
٢٤٢ قد كادَ مِنْ طولِ البلى أن يَمْحَصا... لأنها لمقاربةِ الفعلِ، و «أَنْ» تُخَلِّصُ للاستقبال، فَتَنَافَا. واعلم أنَّ خَبَرَها إذا كانَتْ هي مثبتةً- منفيٌّ في المعنى لأنها للمقاربة، فإذا قلت: «كاد زيدٌ يفعلُ» كان معناه قارَبَ الفعلَ، إلا أنه لم يَفْعَل، فإذا نُفِيَتْ انتفَى خبرُها بطريقِ الأَوْلى، لأنه إذا انْتَفَتْ مقاربةُ الفعل/ انتفى هو من باب أَوْلَى ولهذا كانَ قَولُه تعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠] أبلغَ مِنْ أَنْ لو قيل: لم يَرَها، لأنه لم يقارِبِ الرؤيةَ فكيف له بها؟ وزعم جماعةٌ منهم ابن جني وأبو البقاء وابنُ عطية أنَّ نفيَها إثباتُ وإثباتَها نفيٌ، حتى أَلْغَزَ بعضُهم فيها فقال:
٢٤٣ أَنَحْوِيَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ... جَرَتْ في لِسانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ
إذا نُفِيَتْ - والله أعلمُ - أُثْبِتَتْ... وإِنْ أُثْبِتَتْ قامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
وَحَكَوْا عن ذي الرمة أنه لمَّا أَنْشَدَ قولَه:
٢٤٤ إذا غَيَّر النأيُ المحِبِّينَ لم يَكَدْ... رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
عِيْبَ عليه لأنه قال: لَمْ يَكَدْ يَبْرَحُ فيكون قد بَرِحَ، فغيَّره إلى قوله: «لم يَزَلْ» أو ما هو بمعناه، والذي غَرَّ هؤلاء قولُهُ تعالى: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] قالوا: فهي هنا منفيَّةٌ وخبرُها مُثْبَتٌ في المعنى، لأن الذبْحَ وقع لقوله: «فَذَبَحُوها». والجوابُ عن هذهِ الآية من وَجْهَين، أحدُهما: أنه يُحْمَلُ على اختلافِ وَقْتَيْنِ، أي: ذَبَحوها في وقتٍ، وما كادوا يفعلونَ في وقتٍ آخرَ، والثاني: أنه عَبَّر بنفيِ مقاربةِ الفعل عن شدَّةِ تعنُّتِهِمْ وعُسْرِهِم في الفعلِ.
وأمَّا ما حَكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرُّمة في رجوعِهِ عن قولِهِ، وقالوا: هو أَبْلَغُ وأحسنُ مِمَّا غَيَّره إليه.
واعلم أَنَّ خَبَرَ «كاد» وأخواتِها غيرَ عسى لا يكون فاعلُه إلا ضميراً عائداً على اسمها، لأنها للمقارَبَةِ أو للشروع بخلافِ عسى، فإنها للترجِّي، تقول: «عسى زيدٌ أن يقومَ أبوه»، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأمَّا قولُه:
٢٤٥ وَقَفْتُ على رَبْعٍ لِميَّةَ ناقتي... فما زِلْتُ أبكي عندَهُ وأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حتى كَادَ مِمَّا أَبُثُّه... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُه ومَلاعِبُهْ
فأتى بالفاعلِ ظاهراً فقد حَمَلَه بعضُهم على الشذوذِ، وينبغي أن يُقال: إنما جاز ذلك لأن الأحجارَ والملاعب هي عبارةٌ عن الرَّبْع، فهي هو، فكأنه قيل: حتى كاد يكلِّمني، ولكنه عَبَّر عنه بمجموع أجزائه، وقولُ الأخر:
٢٤٦ وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني... ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشاربِ السَّكِرِ
وكنتُ أمشي على رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً... فَصِرْتُ أمشي على أخرى من الشجر
فأتى بفاعل [خبر] جَعل ظاهراً، فقد أُجيب عنه بوجهين: أحدُهما: أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديره: وقد جَعَل ثوبي إذا ما قمت يُثْقلني. والثاني: أنه من باب إقامةِ السببِ مُقامَ المُسَبَّبِ، فإنَّ نهوضَه كذا متسبِّبٌ عن إثقالِ ثوبِه إياه، والمعنى: وقد جَعَلْتُ أَنْهَضُ نَهْضَ الشارب الثملِ لإِثقالِ ثوبي إياي.
ووزن كاد كَودِ بكسر العين، وهي من ذواتِ الواو، كخاف يَخاف، وفيها لغةٌ أخرى: فتحُ عينها، فعلى هذه اللغةِ تُضَمُّ فاؤُها إذا أُسْنِدَتْ إلى تاء المتكلم وأخواتِها، فتقولُ: كُدْت وكُدْنا مثل: قُلْت وقُلْنا، وقد تُنْقَلُ كسرةُ عينها إلى فائِها مع الإِسناد إلى ظاهر، كقوله:
٢٤٧ وكِيدَ ضِباعُ القُفِّ يأكُلْنَ جُثَّتي... وكِيدِ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَمُ
ولا يجوز زيادتُها خلافاً للأخفشِ، وسيأتي هذا كلُه في «كاد» الناقصة، أمَّا «كاد» التامة بمعنى مَكَر فإنها فَعَل بفتح العين من ذواتِ الياء، بدليل قوله: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً﴾ [الطارق: ١٥ - ١٦]. اهـ
وقال في سورة النور ما نصه:
وقد تقدَّم الكلامُ في «كاد»، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها نفيٌ. وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري هنا: «لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي: لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلاً أنْ يَراها. ومنه قولُ ذي الرمة:
إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ... رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
أي: لم يَقْرُبْ مِنْ البَراح فما بالُه يَبْرَحُ»
. وقال أبوة البقاء: «أختلف الناسُ في تأويلِ هذا الكلامِ. ومَنْشَأُ الاختلافِ فيه: أنَّ موضوعَ» كاد «إذا نُفِيَتْ: وقوعُ الفعلِ. وأكثرُ المفسِّرين على أن المعنى: أنَّه لا يرى يدَه، فعلى هذا: في التقديرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ التقديرَ: لم يَرَها ولم يَكَدْ، ذَكرَه جماعةٌ من النحويين. وهذا خطأٌ؛ لأنَّ قولَه» لم يَرَها «جزمٌ بنفيِ الرؤيةِ وقوله:» لم يَكَدْ «إذا أخرجها على مقتضى البابِ كان التقديرُ: ولم يكَدْ يَراها كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية. فإنْ أراد هذا القائلُ أنَّه لم يَكَدْ يراها، وأنه رآها بعد جُهْدٍ، تناقَضَ؛ لأنه نفى الرؤية ثم أَثْبَتها، وإنْ كان معنى» لم يكَدْ يَراها «: لم يَرَها ألبتَّةََ على خلافِ الأكثرِ في هذا الباب، فينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه مِنْ غير أَنْ يُقَدِّرَ لم يَرَها. والوجه الثاني: أنَّ» كاد «زائدةٌ وهو بعيدٌ. والثالث: أنَّ» كاد «أُخْرِجَتْ ههنا على معنى» قارب «والمعنى: لم يقارِبْ رؤيتَها، وإذا لم يقارِبْها باعَدَها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
صلاة نفسه وتسبيحَهَا، ويجوز أن يكون كل إنسان قَدْ عَلِمَ صلاة الله، وكل
شيء قد علم تسبيح اللَّه.
والأجود أن يكون كل قد علم اللَّه صلاته وتسبيحه.
ودليل ذلك قوله - (واللَّهُ عَليم بِمَا يَفْعَلُونَ).
* * *
وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣)
معنى: (يُزْجِي) يَسُوقُ، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي يجعل القطع المُتَفَرِّقَةَ مِنَ
السحَابِ قطعةً وَاحِدةً (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا)، أي يجعل بَعْضَ السحاب يركب
بعضاً.
(فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِه).
الودْقُ المطرُ، ويقرأ من خَلَلِه، وخِلَالِه أَعم وأجوَدُ في القراءة، وخِلَال
جمع خَلَلٍ وخِلَال، مثل جَبَل وجِبَالٍ، ويجوز أن يكون السحاب جمع
سحابة ويكون " بينَه " أي بينَ جميعه، ويجوز أن يكون السحاب وَاحِداً إلا أنه
قال بينه لكثرته، ولا يجوز أن تقول جلست بين زَيْدٍ حتى تقول وعَمْرٍو.
وتقول ما زلت أدور بين الكوفة، لأن الكوفة اسم يتضمَّن أَمْكِنَةً كثيرة، فكأنك تقول ما زلت أدور بين طرق الكوفة.
وقوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ).
ويجوز وُينْزِل بالتخفيف، ومعنى (مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)
مِن جِبَالِ بَرَدٍ فيها كما تقول هذا خاتم في يدي مِنْ حَدِيد.
المعنى هذا خاتَم حَديدٍ في يَدِي.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون معنى " مِن جِبَال " مِنْ مِقْدار
جِبَال مِنْ بَرَدٍ كما تقول عِنْدَ فُلَانٍ جِبَالُ مَال تريد مقدار جبال مِنْ كَثْرَتِه.
قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ).
وقرأ أبو جعفر المدني: يُذْهِبُ بالأبْصَارَ، ولم يقرأ بها غيرُه، ووجهها
في العربيَّةِ ضعيف، لأن كلام العَرَبِ: ذَهَبْتُ بِهِ وَأَذْهَبْتُه.
وتلك جائزة أيضاً - أعني الضم في الياءِ في يُذْهِبُ.
ومعنى (سَنَا بَرْقِهِ) ضَوء بَرْقِه، وقرئت (سَنَا بُرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)
على جَمْعِ بُرْقَةٍ وبُرْقٍ، والفرق بين بُرْقِهِ - بالضمِ -
وبَرْقِهِ بالفتح أن البرق المقدارُ من البرق، والبرقَةُ أن يبرق الشيء مَرةً واحِدةً، كما تقول: غَرفْتُ غَرفَةً وَاحِدةً تريد مَرة وَاحِدةً.
والغَرْفَةُ مقدار ما يُغْرَفُ، وكذَلِكَ اللَّقمة واللُّقْمَة.
* * *
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
(وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)
ويقرأ، (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)، فَدَابَّة اسم لكل حيوان مُمَيَنر وغيره:
فلما كان لما يعقل ولما لَا يعقِلُ قال (فمنهم)، ولوكان لما لَا يَعْقِل لقيلَ فمنها
أو مِنْهُنَّ.
ثم قال: (مَنْ يَمْشي عَلَى بَطْنِه).
فقال (مَنْ) - وأصل مَنْ لِمَا يَعْقِل -، لأنه لَمَّا خلَط الجماعةَ فقيل فمنهم
جعلت العِبَارَةُ بِمَنْ، وقيل يمشي على بطنه، لأن كل سائر كان له رِجْلان أو
أربع أوْ لَمْ تكن له قَوائِم، يقال له ماش وقَدْ مَشَى، ويقال لكل مُسْتَمِر مَاشٍ، وإن لم يكن من الحيوان حَتى يقال قد مشى. هذا الأمْرِ.
(مِنْ مَاءٍ)، وإِنَما قيل من ماء كما قال اللَّه سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
وقوله جلَّ وعلا: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)
جاء في التفسير " مُسْرِعين "، والِإذْعَان في اللغةِ الإسْراعُ مَعَ الطاعَة.
تقول: قَدْ أذْعَنَ لي بِحَقِي، معناه قَدْ طَاوَعَنِي لِمَا كُنْتُ أَلْتَمِسُه مِنه، وصارَ
يُسْرِعُ إليْه.
وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥٣)
(قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ).
تأويلُهُ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أمثلُ مِنْ قَسَمِكُمْ لِمَا لَا تَصْدُقُونَ فِيهِ.
والخبر مُضْمَر،. وهَوُ " أَمْثَلُ " - وَحُذِفَ لأن في الكلام دَلِيلاً عليه، لأنه قال: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ).
واللَّه عزَّ وجلَّ وراء مَا فِي قلوبِهِم فقال: (قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
ويجوز: طاعةً معروفةً على مَعْنى أطِيعوا طَاعةً مَعروفَةً، لأنهم أقسَموا إن أمِروا أنْ يُطيعُوا فقيل أطيعوا طاعةً معروفةً، وَلَا أعْلَمُ أحَداً قَرأ بها، فإنْ لَم ترْوَ فلا
تقْرا بها، وهذا يُعْنَى به المنافقونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥)
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ)
وإنما جاءت اللام لأن " وَعَدْته بِكَذَا أَو كَذَا " و " وَعَدْتُه لأكْرِمَنَّه بمنزلة
قُلْت لأن الوَعْدَ لا ينعقِدُ إلا بقول.
ومعنى (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ليجعلنَّهم يخلفون مَنْ بَعْدَهم من المؤمنين فَاستخلَفَ الذّين من قبلِهِمْ.
وقرئِت (كما اسْتُخْلِفَ الذين مِنْ قَبلِهِم).
(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ).
يعني به الإسلام.
(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) وقرئت (وَلْيُبْدِلَنَّهُمْ).
وقوله: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)
يجوز أن يكن مستأنفاً، ويجوز أن يكون في موضع الحال، على معنى
وعد اللَّهُ المؤمنين في حالِ عبادتهم وإخلاصهم لِلَّهِ - عزَّ جل - ليفعَلَنَّ بهم.
وَيجُوز أَنْ يكونَ اسْتِئنَافاً على طريق الثناء عليهم وَتَثْبيتاً كأنَّه قال: يَعْبدُنِي
المؤْمِنونَ لَا يُشركون بي شيئاً.
وقوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
القراءة بالتاء على معنى: لا تَحْسَبَنَّ يا مُحَمًد الكَافِرِينَ مُعْجِزينَ، أي
قدرةُ اللَّهِ محيطة بِهِمْ وقرئت: لَا يُحْسَبَن عَلَى حَذْفِ المفعول الأول مِنْ
يحسَبَن على معنى لا يَحْسَبَن الذين كفروا إياهم معجزين في الأرض، كما
تَقُولُ زَيْد حَسِبهُ، فإنما تريد حَسِبَ نَفْسَه قَائِماً، وكأنه لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أَنْفُسَهم مُعْجِزين، وهذا في بَابِ ظَنَنْتُ، تطرح فيه النفس يُقَالُ ظننتُنِي أَفْعَلُ، ولا يقال ظننت نفسي أفعلُ، وَلَا يَجُوُز ضَرَبْتُنِي، استُغْني عنها بِضَرَبتُ نَفْسِي.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)
فأمر اللَّه عزَّ وجلَّ بالاستئذان في الأوقات التي يُتَخَفى فيها
ويتكشفون، وَبيَّنَها فقال: (مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ).
يعنى به العَتَمة عشاء الآخرة، فأعلم أنها عورات فقال (ثَلَاثُ عَوْراتٍ
لَكُمْ)، على معنى هي ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ، وقرئت " ثَلَاثَ عَوَرَاتٍ لَكُمْ "
والإِسكان أكثر لثقل الحركة والواو.
تقول طلحة وطَلَحات، وجمْرة وجمَرات.
ويجوز في لوزة لَوَزَات بحركة الواو، والأجْوَدُ لَوْزَات، ويجوز ثَلاثَ عَوَراتٍ
بالنصْبِ، على معنى ليستأذتوكم ثلاثَ عَوْرَاتٍ، أي في أَوْقَاتِ ثلاث عَوْراتٍ.
وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ).
أي ليس عليكم جناح ولا عليهم في أنْ لاَ يَسْتَأذِنُوا بعد أن يمضي كل
وَقْتٍ من هذه.
وقوله تعالى: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ).
على مَعنى هُم طَوافُونَ عَلَيْكُم.
وقوله: (بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) على معنى يَطُوف بَعْضُكُم على بعْض.
* * *
وقوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩)
فالبالغ يستأذن في كل الأوقات، والطفل والمملوكُ يستأذن في الثلاث
العورات.
* * *
وقوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
القواعد جمعِ قاعدة، وهي التي قعدت عن الزواج.
(اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) أي لاَ يُرِدْنهُ، ولا يَرْجُونَه، وقيل أيضاً اللاتي قَدْ قَعدْنَ عَنِ الحيض.
(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ).
قال ابن مسعود: أن يضعن المِلْحَفَةَ والرِّدَاء.
(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ).
أي أنْ لَا يضَعْن الرداء والملحفة خير لهن من أن يَضَعْنَه.
* * *
وقوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
الحرج في اللغة الضيق، ومَعْناهُ فِي الدِّين الإثمُ، وجاء في التفسير أن
أهل المدينة قبل أن يُبعثَ النبي - ﷺ - كانُوا لا يُؤَاكلونَ هؤلاءِ، فقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك خوفاً من تمكن الأصحاء في الطعام، وقِلَّةِ تمكنِ هؤلاء، فقيل
53
لهم ليس في مُؤَاكَلِتِهْمْ حَرَج، وقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك تقززاً، وقيل أيضاً إِنَّهُمْ كانوا إذا خرجوا مع رسول اللَّه - ﷺ - خَلَّفوا هؤلاء فكانوا يتحوبون أن يأكلوا مما يحفظونه فَأعْلِمو أَنه ليس عَلَيهم خنَاحٌ، وقيل أيضاً إنه كان قوم يَدْعونَهم إلى طعامِهِم فربما صاروا إلى منازلهم فلم يجدوا فيها طعاماً، فيمضون بهم إلي آبائهم.
وجميع ما ذكروا جيِّدٌ بالغ إلا ما ذكروا من ترك المؤاكلة تَقَززاً، فإني
لا أدري كيف هو.
وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا).
معنى (أَشْتَاتًا) متفرقين متَوَحِّدِين.
ونصب " جميعاً " على الحال، ويروى أَن حَياً من العرب كان الرجل منهم لَا يَأْكل وحدَه، وهم حَيٌّ من كنانة، يمكث
الرجل يَوْمَهُ فإن لم يجد مَنْ يؤاكله لم يأكل شيئاً، وربما كانت مَعَهُ الإبل
الحُفَّل، وهي التي مِلْء أخلافها اللبَنُ فلا يَشْرَب من ألبانها حتى يَجِدَ من
يُشَارِبُه، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَنَ الرجلَ منهم إن أكل وحده فلا إثم عليه.
وقوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ).
معناه فلْيُسَلِّمْ بَعْضكمْ عَلَى بَعض، فالسلام قد أمر الله به، وقيل أيضاً:
إذَا دَخَلْتم بيوتاً وكانت خَالِية فَلْيَقلِ الداخِل: السلامُ علينا وعلى عباد اللَّهِ
الصَّالِحِينَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
54
مَعْنَاهُ النصْبُ على المصدَرِ، لأن قوله فَسَلَمُوا، معناه تَحَيوْا، ويحيي
بعْضُكمْ بعْضاً، تَحِيَّةً من عند اللَّه.
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن السلام مُبَارَك طَيِّب.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)
قال بعضهم كان ذلك في الجمعة، فهو - واللَّه أعلم - أن اللَّه عزَّ وَجَل
أمر المؤمنين إذَا كانوا مع نبيِّه - ﷺ - فيما يُحتاج فيه إلى الجماعة، نحو الحرب لِلْعَدو، أَوْ مَا يَحضرونه مما يُحْتَاجُ إلى الجمع فِيه، لم يذهبوا حَتى يستاأذِنُوه.
وكذلك ينبغي أن يكونوا مَعَ أَئَمَّتِهِمْ لا يخالفونهم ولا يرجعون عنهم في جمع
من جموعهم إلا بِإذْنِهِمْ، وللإمام أن يأذن، وله أن لا يأذَنَ، على قدر ما يرى
من الحَظِّ فِي ذَلِكَ لقوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ).
فجعل المشيئة إليْه فِي الإذْنِ.
(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ).
أي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ بِخُروجِهِمْ عن الجماعة إذا رأيت أنَّ لهم عُذْراً.
* * *
وقوله: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
أي لا تقولوا: يا محمد كما يَقُولُ أَحَدُكم لِصَاحِبِه، ولكن قولوا يا رسول
الله ويا نبي اللَّهِ بتبجيل وَتَوْقِيرٍ وَخَفْض صَوْتٍ.
أعلمهم اللَّه عزَّ وجلَّ فضل النبِي عليه السلام على سائر البريَّةْ في
المخاطبة.
55
وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا).
أُظْهِرَتِ الوَاوُ في (لِوَاذًا) على معنى لاَوَذْتُ لِوَاذاً، ومعنى لِوَاذاً ههنا
الخلاف - أي، يُخَالِفُونَ خلافاً، ودليل ذلك قوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ).
فأمَّا مَصْدَرُ لُذْتُ فقولك: لُذْتُ بِهِ لِيَاذاً.
56
Icon