تفسير سورة آل عمران

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تفسير الشعراوي المعروف بـتفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1418 هـ

وجاءت أيضاً في سور أخرى، في سورة العنكبوت، وفي سورة الروم، ولقمان، والسجدة، وزاد عليها راءً في بعض السور، وزاد عليها صاداً في بعض السور «المص» و «المر» كل ذلك جاء تأكيداً للمعاني أو تأكيداً للسر الذي وضعه الله في هذه الحروف، وإن لم نكن ندرك ذلك السر.
والإنسان ينتفع بأسرار الأشياء التي وضعها من أوجد الأشياء وإن لم يعلم
1257
هذه الأشياء فهو منتفع بها، وضربنا المثل وقلنا: إن الريفي الذي ليس عنده ثقافة في الكهرباء، أيستفيد بالكهرباء أم لا؟ إنه يستفيد بها ويحرك زر المصباح لينيره أو ليطفئه، أهو يعلم سر ذلك؟ لا، لكنه إنما انتفع به، فكذلك المؤمن حين يقول: «ألف لام ميم»، يأخذ سرها من قائلها، فهمها أم لم يفهمها، إذن فالمسألة لا تحتاج إلى أن نفلسفها، صحيح أن العقل البشري يحول حول شيء ليستأنس به، ولكن عطاء الله وحكمة العطاء فوق ما يستأنس به وفوق ما نستوحش منه.
وقول الحق سبحانه في ختام سورة البقرة: ﴿فانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ يناسب أيضاً سورة آل عمران، لماذا؟ لأن الإسلام سيأتي ليواجه معسكر كفر ومعسكر أهل الكتاب، فحتى لا تتشقق دعوة الله التي صدرت عن الله بمواكب الرسل جميعاً الذين سبقوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن هذا جاء ليناقض شيئاً منه، إنه قد جاء ليعزز دعوة الله، ولتكون هذه الأمم التي تبعت هذه الديانات في صف الإسلام. ولذلك حينما أنكر العرب رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الله لهم: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ أي أن من عنده علم الكتاب يشهد أنك رسول الله. ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ [الرعد: ٤٣].
فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكونوا هم أول المؤمنين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأنه جاء ليؤكد موكب الإيمان ويأتي لهم بسورة يسميها آل عمران حتى يعلم الجميع أنك يا محمد لم تأتي لتهدم ديانة عيسى، ولكن لتبقى ديانة عيسى ولتؤيد ديانة عيسى، فإن كنتم يا من آمنتم بعيسى مؤمنين بعيسى فاهرعوا حالاً إلى الإيمان بمحمد؛ فقد سماها الله آل عمران، وجعل لهم سورة في القرآن.
إن رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تأت للعصبية، أو لتمحو ما قبلها كما تأتي عصبيات البشر حين يأتي قوم على أنقاض قوم، ويهدمون كل ما يتصل بهؤلاء القوم
1258
حتى التاريخ يمحونه، والأشياء يمسخونها؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا تاريخاً جديداً. لا إن هذا القرآن يريد أن يصوب التاريخ، فيأتي بسورة اسمها «آل عمران» وذلك تكريم عال لهذه الديانة ولتابعيها.
وبعد ذلك يأتي الحق فيستهلها: بقوله جل شأنه: ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾
1259
تلك هي قضية القمة، ولذلك يتكرر في القرآن التأكيد على هذه القضية، ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ﴾. و ﴿الله﴾ كما يقولون مبتدأ، و ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ خبر، والمبتدأ لابد أن يكون متضحاً في الذهن، فكأن كلمة ﴿الله﴾ متضحة في الذهن، ولكنه يريد أن يعطي لفظ ﴿الله﴾ الوصف الذي يليق به وهو ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾. ولذلك يقول الحق: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦١].
إذن فالله متضح في أذهانهم، ولكن السلطات الزمنية أرادت أن تطمس هذا الإيضاح، فجاء القرآن ليزيل ويمحو هذا الطمس مؤكدا ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ فهذه قضية أطلقها الحق شهادة منه لنفسه: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨].
وكفى بالله شهيداً؛ لأنها شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد فلم يروا أحداً آخر إلا هو، وكذلك، شهد أولو العلم الذين يأخذون من الأدلة
1259
في الكون ما يثبت صدق الملائكة ويؤكد صدق الله، فإذا ما نظرنا نظرة أخرى نقول: إن الحق أطلقها على نفسه وقال: ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ ؛ وجعلها كلمة التوحيد وجعل الأمر في غاية اليسر والسهولة والبساطة؛ فلم يشأ الله أن يجعل دليل الإيمان بالقوة العليا دليلاً معقداً، أو دليلاً فلسفياً، أو لا يستطيع أحد أن يصل إليه إلا أهل الثقافة العالية، لا، إن الدين مطلب للجميع؛ من راعي الشاة إلى الفيلسوف؛ إنه مطلوب للذي يكنس في الشارع كما هو مطلوب من الأستاذ الجامعي.
فيجب أن تكون قضية الإيمان في مستوى هذه العقول جميعاً؛ فلا فلسفة في هذه المسألة، لذلك شاء الحق أن يجعل هذه المسألة في منتهى البساطة فأوضح الله: أنا شهدت ألا إله إلا أنا، فإما أن يكون الأمر صدقاً وبذلك تنتهي المشكلة، وليس من حق أحد الاعتراض، وإن لم تكون صدقاً فقولوا لنا: أين الإله الآخر الذي سمع التحدي، وأخذ الله منه ذلك الكون، وقال: أنا وحدي في الكون، وأنا الذي خلقت، ثم لم نسمع رداً عليه ولا عن معارض له، ألم يدر ذلك الإله الآخر؟
إذن فذلك الآخر لا ينفع أن يكون إلهاً، فإن علم ذلك الآخر ولم يدافع عن نفسه وملكيته للكون فإنه لا يصلح أن يكون إلهاً. وتصبح القضية لله إلى أن يظهر مدع ليناقضها، ف ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ كلمة حق، وبالعقل والمنطق هو إله ولم نجدً معارضاً. وقلنا سابقاً: إن الدعوى حين تُدعى ولا يوجد معارض حين نَسمعها تكون لصاحبها إلى أن يوجد المعارض. وضربنا مثلا: نحن مجتمعون في حجرة، عشرة أشخاص، وبعد ذلك انصرفوا فوجد صاحب البيت حافظة نقود، فجاء واحد متلهفا وقال: لقد ضاعت مني حافظة نقود.
فقال له صاحب البيت: وجدنا حافظة ولكن كان هنا عشرة، فلما جئ بالعشرة، وسئلوا لم يدعها أحد، إذن فهي له.
إن الله قد قال: ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾، فإن كان هناك إله آخر فليظهر لنا، ولكن لا تظهر لنا إلا قوة الله ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ ومادام لا إله إلا هو، وهذا الكون يحتاج إلى قيومية لتدبيره، فلا بد أن يكون حيا حياة تناسبه، لأنه سيهب حيوات كثيرة لكل الأجناس، للإنسان وللحيوان وللنبات وللجماد، إذن فالذي يوجدها لابد أن يكون حياً ولابد أن تكون حياته مناسبة له.
1260
و «قيّوم» هذه يسمونها صيغة مبالغة؛ لأنّ الحدث إذا وقع فإنه يقع مرة على صورة عادية، ومرة يقع على صورة قوية. مثلما تقول: فلان أكول، و «أكول» غير «آكل»، فكلنا نأكل، وكلنا يطلق علينا «آكل»، لكن ليس كلنا يُطلق علينا «أكول» لأن هذه اسمها صيغة مبالغة في الحدث.
وإذا كان الله هو الذي يدبر ويقوم على أمر كل عوالم الكون هل يكون قائما أو قَيُّوماً؟ لابد أن يكون قَيُّوماً. و «قيوم» معناها أيضا: قائم بذاته. فما شكل هذا القيام؟ إنه قيام أزلي كامل.
إذن فكلمة «قيّوم» صيغة مبالغة من القيام على الأمر، قائم بنفسه، قائم بذاته، ويُقيم غيره، والغير متعدد متكرر، فعندما يكون هذا الغير متعدداً ومتكرراً فهو يحتاج إلى صفة قوية في خالقه، فيكون الخالق قيّوما.
إن قوله الحق: ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ هو سند المؤمن في كل حركات حياته، «عن أبيّ بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ فضرب في صدري وقال:» ليهنك العلمُ أبا المنذر «
وقولوا لنا بالله: حين يوجد ولد وأب، هل يحمل الولد همّا لأي مسألة من مسائل الحياة؟ لا؛ لأن الأب متكفل بها، والمثل العامي يقول: الذي له أب لا يحمل همّا، إذن فالذي له ربٌّ عليه أن يستحي؛ لأنه سبحانه يقول: أنا حيّ، وأنا قيّوم، و»
قيّوم «يعني قائم بأمرك.
ويؤكد سبحانه هذه القيّومية في سورة البقرة، فقال في آية الكرسي: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾، كأنه يقول لنا: ناموا أنتم لأنني لا أنام، وإلا فإن نمت أنت عن حراسة حركة حياتك فمن يحرسها لك؟ إنه سبحانه يتفضل علينا بقيوميته ف ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾، وما دام هو»
الحيّ «و» القيّوم «فأمر منطقي أنه قائم
1261
بأمر الخلق جميعا وقد وضع لكل الخلق ما تقوم به حياتهم من مادة وصيانة مادة ومن قيم وصيانة قيم.
ومادام هو القيوم القائم بالأمر والمتولي الشئون للخلق فلابد أن يؤدي لهم مطلوبات مادتهم وما يبقيها، ومطلوبات قيمهم وما يبقيها. أما مطلوبات المادة فيقول فيها: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ﴾ [فصلت: ١٠].
إنه سبحانه يطمئنا على القوت، وأما مطلوبات القيم فقال سبحانه: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ... ﴾
1262
إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني. إذن لابد أن تنزل القيم. لذلك قال سبحانه: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ و ﴿نَزَّلَ﴾ تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لأن النزول معناه: شيء من أعلى ينزل، وهو يقول لك: لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛ لأنها ليست من مساو لك، إنها من خالق الكون والبشر، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو أدنى منك.
لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه؛ لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة، فقال: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾. وفي سياق القرآن نجده سبحانه
1262
يقول: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣].
ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم: ﴿وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ [الإسراء: ١٠٥].
ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه «نزل»، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ [الإسراء: ١٠٥].
وبذلك تتساوى «أنزل» مع «نزل». وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل: أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ثلاثة وعشرين عاما وينزل القرآن حسب الحوادث، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١].
والحق هنا يحدد زمنا. ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاما هو الذي أنزله الله في ليلة القدر.
إذن فللقرآن نزولان اثنان: الأول: إنزال من «أنزل».
الآخر: تنزيل من «نَزّل».
1263
إذن فالمقصود من قوله سبحانه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر.
والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجما على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعا أو إيضاحا لأمر.
لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل، لقد نزلت مرة واحدة؛ لا حسب الأحداث والمناسبات، لقد جاءت مرة واحدة، كما نزل القرآن أولا من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول:
﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل﴾ [آل عمران: ٣]
وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن: «نَزَّل» وقال عن التوراة والإنجيل: «أنزل». لقد جاءت همزة التعدية وجمع سبحانه بين التوراة والإنجيل في الإنزال، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما الله مرة واحدة، أما القرآن الكريم فقد نَزَّله الله في ثلاث وعشرين سنة منجما ومناسباً للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين، ومتضمنا البلاغ الشامل من يوم الخلق إلى يوم البعث.
ونَزَّل الله القرآن منجما مناسباً للأحداث، ليثبت فؤاد رسول الله؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يتعرض لأحداث شتى، كلما يأتي حدث يريد تثبيتا ينزل نجم من القرآن. ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ [الفرقان: ٣٢].
1264
وكان النجم من القرآن ينزل ويحفظه المؤمنون، ويعملون بهديه، ثم ينزل نجم آخر، والله سبحانه يقول: ﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ [الفرقان: ٣٣].
فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح لهم المجال لأن يسألوا، وأن يستوضحوا الأمور التي تغمض عليهم.
وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به.
ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية مُمتلئا بألوان شتى من الداء، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه، وذلك أسهل وأوثق. والحق سبحانه قد جمع للقرآن بين «نزّل» و «أنزل» فقال: ﴿مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان... ﴾
1265
ويأتي القول الفصل في: ﴿وَأَنزَلَ الفرقان﴾.
هنا الجمع بين «نزل» و «أنزل».
وساعة يقول الحق عن القرآن: ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ فمعنى ذلك أن القرآن
1265
يوضح المتجه؛ إنه مصدق لما قبله ولما سبقه، إنه مصدق للقضايا العقدية الإيمانية التي لا يختلف فيها دين عن دين؛ لأن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في بعض الأحكام، فهناك حكم يناسب زمنا وحكم آخر لا يناسب ذلك الزمن. أما العقائد فهي لا تتغير ولا تتبدل، وكذلك الأخبار وتاريخ الرسل، فليس في تلك الأمور تغيير.
ومعنى «مصدق» أي أن يطابق الخبر الواقع، وهذا ما نسميه «الصدق». وإن لم يطابق الخبر الواقع فإننا نسميه «كذبا». إذن، فالواقع هو الذي يحكم. ولذلك قلنا من قبل: إن الصادق هو الذي لا تختلف روايته للأحداث؛ لأنه يستوحي واقعا، وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسها بكلماتها وتفاصيلها، أما الكاذب فلا يوجد له واقع يحكي عنه، لذلك يُنشئ في كل حديث واقعا جديدا، ولذلك يقول الناس: «إن كنت كذوبا فكن ذكورا». أي إن كنت تكذب والعياذ بالله فتذكر ما قلت؛ حتى لا تناقضه بعد ذلك. فالصادق هو من يستقرئ الواقع، ومادام يروي عن صدق فهو يروي عن أمر ثابت لا تلويه الأهواء، فلا يحكي مرة بهوى، ومرة بهوى آخر.
ومادام الخبر صادقاً فإنه يصبح حقاً؛ لأن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير وسبحانه يقول هنا: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ﴾.
وقد تكلمنا من قبل عن التوراة، وقلنا: إن بعضاً من العلماء حين يتعرض للفظ من الألفاظ فهو يحاول أن يجعله من اللغة العربية، ويحاول أن يعثر له على وزن من الأوزان العربية، وأن يأتي له بصفة من الصفات العربية، فقال بعضهم من التوراة: إنها «الوَرْى» بسكون الراء وكان الناس قديماً يشعلون النار بضرب عود في عود آخر، ويقولون: الزند قد ورى «، أي قد خرجت ناره. وقال بعض العلماء أيضا: إن الإنجيل من» النجْل «، وهو الزيادة.
وأقول لهؤلاء العلماء: لقد نظرتم إلى هذه الألفاظ على أنها ألفاظ عربية، لكن التوراة لفظ عبري، والإنجيل لفظ سرياني أو لفظ يوناني، وصارت تلك الكلمات
1266
علما على تلك الكتب وجاءت إلى لغتنا. ولا تظنوا أن القرآن مادام قد نزل عربياً فكل ألفاظه عربية، لا. صحيح أن القرآن عربي، وصحيح أيضا أنه قد جاء وهذه الألفاظ دائرة على لسان العرب، وإذا تم النطق بها يُفهم معناها.
والمثال على ذلك أننا في العصر الحديث أدخلنا في اللغة كلمة «بنك» وتكلمنا بها، فأصبحت عربية؛ لأنها تدور على اللسان العربي، فمعنى أن القرآن عربي أن الله حينما خاطب العرب خاطبهم بألفاظ يفهمونها، وهي دائرة في ألسنتهم، وإن لم تكن في أصلها عربية. وحينما تكلم الحق عن التوراة والإنجيل وقال: إن القرآن جاء مصدقا لهما قال جل شأنه:
﴿مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾ [آل عمران: ٤]
فأي ناس هؤلاء الذين قال عنهم: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ ؟ لاشك أنهم الناس الذين عاصروا الدعوة لتلك الكتب. وإذا كان القرآن قد جاء مصداقا لما في التوراة والإنجيل ألا تكون هذه الكتب هداية لنا أيضا؟ نعم هي هداية لنا، ولكن الهداية إنما تكون بتصديق القرآن لها، حتى لا يكون كل ما جاء فيهما ومنسوبا إليهما حجة علينا. فالذي يصدقه القرآن هو الحجة علينا، فيكون ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ معناها: الذين عاصروا هذه الديانات وهذه الكتب، ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: «وأنزل الفرقان» يدل على أن الكتاب أي القرآن سيعاصر مهمة صعبة؛ فكلمة «الفرقان» لا تأتي إلا في وجود معركة، ونريد أن نفرق بين أمرين: هدى وضلال، حق وباطل، شقاء وسعادة، استقامة وانحراف، إذن فكلمة «الفرقان» تدل على أن القرآن إنما جاء ليباشر مهمة صعبة وهو أنه يفرق بين الخير والشر، ومادام يفرق بين الخير والشر إذن ففيه خير وله معسكر، وفيه شر وله معسكر، إذن ففيه فريقان. ويأتي للفريق الذي يدافع عن الحق نضالاً وجهاداً بما يفرق له ويميز به بين الحق والباطل ويختم الحق هذه الآية
1267
بقوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾.
ولماذا جاء هذا التذييل على هذه الصورة في هذه الآية؟ أي مادام القرآن فرقاناً فلابد أن يفرق بين حق وباطل، والحق له جنوده، وهم المؤمنون، والباطل له جنوده وهم الكافرون، والشر قد جاء من الكافرين فلابد أن يتكلم عن الذين كفروا ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾. والعذاب إيلام، ويختلف قُوّة وضعفا باعتبار المؤلم المباشر للعذاب. فصفعة طفل غير صفعة شاب غير صفعة رجل قوي، كل واحد يوجه الصفعة بما يناسب قوّته، فإذا كان العذاب صادراً من قوة القوي وهو الله، إذن فلابد أنه عذاب لا يطاق. ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾ أي لا يُغلب على أمره، ولا توجد قوة أخرى ضده، وانتقامه لن يستطيع أحد أن يرده.
وقوله الحق سبحانه وتعالى: إنه «قيّوم» أي يقوم بشئون خلقه إيجاداً وإمداداً، بناء مادة وإيجاد قيم، لابد أن يتفرع من ذلك أنه يعلم كل الخلق ويعلم الخبايا، ولذلك يضع التقنين المناسب لكل ما يجري لهم، والتقنينات التي تأتي من البشر تختلف عن التقنينات الموجودة من الله، لماذا؟
لأن الله حين يقنن بكتاب ينزله على رسوله ليبلغ حكم الله فيه فهو سبحانه يقنن لما يعلم، وما يعلمه سبحانه قد يعلمه خلقه وقد لا يعلمونه، وقد تأتي الأحداث بما لم يكن في بال المشرع البشري المقنن حين يقنن، ولذلك يضطرون عادة إلى تغيير القانون؛ لأنه قد جدّت أحداث لم يلتفت إليها المشرع البشري.
ولماذا لم يلتفت إليها المشرع البشري؟ لأن علمه مقصور على المرئيات التي توجد في عصره وغير معاصر للأشياء التي تحدث بعد عصره، وأيضا يقنن لملكات خفية عنه.
إن الحق سبحانه وتعالى لكونه قيّوما ويُنزل ما يفرق بين الحق والباطل، فهو سبحانه يعلم علماً واسعاً، بحيث لا يُستدرك عليه، ولذلك فالذين يحاولون أن يقولوا: إن هذا الحكم غير ملائم للعصر، نقول لهم: أتستدركون على الله؟ ﴿كأنكم تقولون: إن الله قد فاته مثل هذه الحكاية ونريد أن نصححها له﴾.
1268
لا، لا تستدركوا على الله، وخذوا حكم الله هكذا؛ لأن هذا هو الحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه حكم من عالم لا يتجدد علمه، ولا يطرأ شيء على علمه، وفوق كل ذلك فهو سبحانه لا ينتفع بما يقنن، وهو سبحانه يقول: ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾
1269
انظروا إلى خدمة الآية لكل الأغراض التي سبقتها، مادام قيُّوما وقائما بأمور الخلق، فلابد أن يعلم كل شيء عن الخلق، فلا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومادام سيفرق بين الحق والباطل وينزل بالكفار عذاباً شديداً فلا يخفى عليه شيء. إن الآية تخدم كل الأغراض، وهو سبحانه يعلم كل الأغراض، فحين يقنن بقيوميته، فهو يقنن بلا استدراك عليه، وحين يخرج أحد عن منهجه لا يخفى عليه. إذن فالآية حصاد على التشريع وعلى الجزاء ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾. وبعد ذلك يتكلم الحق عن مظهر القيوميّة الأول بالنسبة للإنسان فيقول: ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ... ﴾
والتصوير في الرحم هو إيجاد المادة التي سيوجد منها الإنسان على هيئة خاصة؛ هذه الهيئة تختلف نوعيتها: ذكورة وأنوثة. والذكورة والأنوثة تختلفان أشكالاً؛ بيضاء وسمراء وقمحية وخمرية وقصيرة وطويلة، هذه الأشكال التي يوجد عليها الخلق والتي منها:
1269
﴿واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ [الروم: ٢٢].
هذا الاختلاف في الألوان والألسنة والأشياء المتعددة يَدُل على أنها ليست من إنتاج مصنع يصنع قالباً ثم يشكل عليه، لا؛ فكل إنسان يولد يصنع بيد قديرة بقدرة ذاتية.
إن الصانع الآن إذا أرادت أن يصنع لك كوباً يصنع قالباً ويكرره، لكن في الخلق البشري كل واحد بقالبه الخاص، وكل واحد بشكله المخصوص، وكل واحد بصوته الذي ثبت أن له بصمة كبصمة اليد، وكل واحد بلون، إذن فهي من الآيات، وهذا دليل على طلاقة القدرة، وفوق كل هذا هو الخلق الذي لا يحتاج إلى عملية علاج، معنى عملية علاج أي يجعل قالباً واحدا ليصب فيه مادته. لا، هو جل شأنه يقول: ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧].
إن الأب والأم قد يتحدان في اللون ولكن الابن قد ينشأ بلون مختلف، ويخلق الله معظم الناس خلقاً سويا، ويخلق قلة من الناس خلقاً غير سوي؛ فقد يولد طفل أعمى أو مصاب بعاهة ما أو بإصبع زائدة أو إصبعين.. وهذا الشذوذ أراده الله في الخلق ليلفتنا الحق إلى حسن وجمال خلقه. لأن من يرى وهو السويّ إنساناً آخر معوَّقاً عن الحركة فإنه يحمد الله على كامل خلقه.
وحين يرى إنسان له في كل يد خمس أصابع إنساناً آخر له إصبع زائدة يعوق حركة يده، يعْرف حكمة وجود الأصابع الخمس، فالجمال لا يثبت إلا بوجود القبح، وبضدها تتمايز الأشياء، الإنسان الذي له سبع أصابع في يد واحدة، يضع الطب أمام مهمة يجند نفسه لها؛ حتى يستطيع الطبيب أن يستأصل الزائد عن حاجة الإنسان الطبيعي. ولو خلق الله الإنسان بثلاث أصابع لما استطاع ذلك الإنسان أن يتحكم عند استعماله الأشياء الدقيقة.
1270
إن الإنسان العادي في حركته اليومية لا يدرك جمال استواء خلقه إلا إذا رأى فرداً من أفراد الشذوذ. والحق يلفت الناس الساهين عن نعم الله عليهم لرتابتها فيهم بفقدها في غيرهم. فساعة أن يرى مبصرٌ مكفوفاً يسير بعكاز، يفطن إلى نعمة البصر التي وهبها له الله فيشعر بنعمة الله عليه. إن الشذوذ في الخلق هو نماذج إيضاحية تلفت الناس إلى نعم الله التي أنعم الله عليهم بها.
هذه المُثُل في الكون تلفت الناس إلى نعم الله فيهم، ولذلك تجدها أمامك، وأيضا كي لا تستدرك على خالقك، ولا تقل ما ذنب هذا الإنسان أن يكون مخلوقاً هكذا؟ فهو سبحانه سيعوضه في ناحية أخرى؛ فقد يعطيه عبقرية تفوق إمكانات المبصر.
ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى عن الذي ساح في الدنيا «تيمور لنك الأعرج» وهو القائد الذي أذهل الدنيا شجاعة، إن الله قد أعطاه موهبة التخطيط والقتال تعويضاً له عن العرج. ونحن نجد العبقريات تتفجر في الشواذ غالباً، لماذا؟ لأن الله يجعل للعاجز عجزاً معيناً همة تحاول أن تعوض ما افتقده في شيء آخر، فيأتي النبوغ. إذن ف ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ وكل تصوير له حكمة. ومادام كل تصوير له حكمة فكل خلق الله جميل.
عليك ألاّ تأخذ الخلق مفصولاً عن حكمة خالقه، بل خُذ كل خلق مع حكمته. إن الذي يجعلك تقول: هذا قبيح، إنك تفصل المخلوق عن حكمته، ومثال ذلك: التلميذ الذي يرسب قد يحزن والده، ولكن لماذا يأخذ الرسوب بعيداً عن حكمته؟ لقد رسب حتى يتعلم معنى الجدية في الاستذكار، فلو نجح مع لعبه ماذا سيحدث؟ كل أقرانه الذين عرفوا أنه لعب ونجح سيلعبون ويقولون: هذا لعب ونجح.. إذن فلا بد أن تأخذ كل عمل ومعه حكمة وجوده.
كذلك لا تأخذ العقوبة منفصلة عن الجريمة، فكل عقوبة علينا أن نأخذها ملتصقة بجريمتها، فساعة ترى واحداً مثلاً سيحكمون عليه بالإعدام تأخذك الرحمة به وتحزن، هنا نقول لك: أنت فصلت إعدامه عن القتل الذي ارتكبه سابقاً، إنما
1271
لو استحضرت جريمته لوجدته يُقتَلُ عدالة وقصاصاً فقد قُتُل غيره ظلماً، فلا تبعد هذه عن هذه.
﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ ومعنى ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي سيُصوِّر وهو عالم أن ما يصوِّره سيكون على هذه الصورة؛ لأنه لا يوجد إله آخر يقول له: هذه لا تعجبني وسأصور صورة أخرى، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك عزيز، أي لا يغلب على أمر، وكل ما يريده يحدث وكل أمر عنده لحكمة، لأنه عندما يقول: ﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام﴾ قد يقول أحد من الناس: إن هناك صوراً شاذة وصوراً غير طبيعية. وهو سبحانه يقول لك: أنا حكيم، وأفعلها لحكمة فلا تفصل الحدث عن حكمته، خذ الحدث بحكمته، وإذا أردت الحدث بحكمته تجده الجمال عينه، وهو سبحانه المصور في الرحم كيف يشاء، هذا من ناحية مادته.
وهو سبحانه يوضح: فلن يترك المادة هكذا بل سيجعل لهذه المادة قيما كي تنسجم حركة الوجود مع بعضها يقول سبحانه: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ... ﴾
1272
إذن فبعدما صورنا في الأرحام كيف يشاء على مُقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج للقيم، بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم، ولابد أن نأخذ الشيء بجوار الحكمة منه، وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيما كله جميل وكله خير. فيقول سبحانه: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾.
ماذا يعني الحق بقول: ﴿آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾ ؟ إن الشيء المحكم هو الذي لا يتسرب إليه خلل ولا فساد في الفهم؛ لأنه محكم، وهذه الآيات المحكمة هي النصوص التي لا يختلف فيها الناس، فعندما يقول: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨].
هذه آية تتضمن حُكما واضحا. وهو سبحانه يقول: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا﴾ [النور: ٢].
هذه أيضا أمور واضحة، هذا هو المُحكم من الآيات، فالمُحكم هو ما لا تختلف فيه الأفهام؛ لأن النص فيه واضح وصريح لا يحتمل سواه، و «المُتشابه» هو الذي نتعب في فهم المراد منه، ومادمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله؟
ويوضح لنا سبحانه كما قلت لك خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل؟ فالمُحْكم جاء للأحكام المطلوبة من الخلق، أي افعل كذا، ولا تفعل كذا، ومادامت أفعالا مطلوبة من الخلق فالذي فعلها يُثاب عليها، والذي لم يفعلها يُعاقب، إذن فسيترتب عليها ثواب وعقاب، فيأتي بها صورة واضحة، وإلا لقال واحد: «أنا لم أفهم»، إن الأحكام تقول لك: «افعل كذا ولا تفعل كذا» فهي حين تقول: «افعل» ؛ أنت صالح ألا تفعل، فلو كنت مخلوقاً على أنك تفعل فقط؛ لا يقول لك: افعل، لكن لأنك صالح أن تفعل وألا تفعل فهو يقول لك: «افعل».
1273
وساعة يقول لك: «لا تفعل»، فأنت صالح أن تفعل، فلا يقال: «افعل ولا تفعل» إلاّ لأنه خلق فيك صلاحية أن تفعل أو لا تفعل، ونلحظ أنه حين يقول لي: افعل كذا ولا تفعل كذا يريد أن أقف أمام شهوة نفسي في الفعل والترك، ولذلك يقول الحق في الصلاة: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥].
فعندما يقول لي: «افعل ولا تفعل» معناها: أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن أفعلها، وأن شيئا ثقيلا علي أن أتركه، فمثلا البصر خلقه الله صالحا لأن يرى كل ما في حيِّزه. على حسب قانون الضوء، والحق يقول له: ﴿قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض﴾ [يونس: ١٠١].
ولكن عند المرأة التي لا يحل لك النظر إليها يقول الحق: اغضض.
﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾
[النور: ٣٠ - ٣١].
ومعنى ﴿يَغُضُّواْ﴾ و ﴿يَغْضُضْنَ﴾ أنه سبحانه حدد حركة العين، ومثال آخر؛ اليد تتحرك فيأمرك سبحانه ألاّ تحركها إلا في مأمور به، فلا تضرب بها أحداً، ولا تشعل بها ناراً تحرق وتفسد بل أشعل بها النار لتطبخ مثلاً.
إذن فهو سبحانه يأتي في «افعل ولا تفعل» ويحدد شهوات النفس في الفعل أو الترك، فإن كانت شهوة النفس بأنها تنام، يقول الأمر التعبدي: قم وصل، وإن كانت شهوة النفس بأنها تغضب يقول الأمر الإيماني: لا تغضب.
1274
إذن فالحكم إنما جاء بافعل ولا تفعل لتحديد حركة الإنسان، فقد يريد أن يفعل فعلاً ضاراً؛ فيقول له: لا تفعل، وقد يريد ألاّ يفعل فعل خير يقول له: افعل. إذن فكل حركات الإنسان محكومة ب «افعل ولا تفعل»، وعقلك وسيلة من وسائل الإدراك، مثل العين والأذن واللسان. إن مهمة العقل أن يدرك، فتكليفه يدعوه إلى أن يفهم أمراً ولا يفهم أمرا آخر، وجعل الله الآيات المحكمات ليريح العقل من مهمة البحث عن حكمة الأمر المحكم؛ لأنها قد تعلو الإدراك البشري. ويريد الحق أن يلزم العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي لا تدرك حكمة تشريعه، وأيضا لتحرك عقلك لترد كل المتشابه إلى المحكم من الآيات. وإذا قرأنا قول الحق: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الأنعام: ١٠٣].
نرى أن ذلك كلام عام. وفي آية أخرى يقول سبحانه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣].
ويتكلم عن الكفار فيقول: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥].
إذن فالعقل ينشغل بقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾، وهذا يحدث في الدنيا، أما في الآخرة فسيكون الإنسان قد تم إعداده إعداداً آخر ليرى الله، نحن الآن في هذه الدنيا بالطريقة التي أعدنا بها الله لنحيا في هذا العالم لا نستطيع أن نرى الله، ومسألة إعداد شيء ليمارس مهمة ليس مؤهلا ولا مهيأ لها الآن، أمر موجود في دنيانا، فنحن نعرف أن إنسانا أعمى يتم إجراء جراحة له أو يتم صناعة نظارة طبية له فيرى. ومن لا يسمع أو ثقيل السمع نصنع له سماعة فيسمع بها.
فإذا كان البشر قد استطاعوا أن يُعِدُّوا بمقدوراتهم في الكون المادي أشياء لتؤهلهم إلى استعادة حاسة ما، فما بالنا بالخالق الأكرم الإله المُربّي، ألا يستطيع أن يعيد خلقنا في الآخرة بطريقة تتيح لنا أن نرى ذاته ووجهه؟! إنه القادر على كل شيء.
1275
إذن فالأمر هنا متشابه، إن الله يُدرَك بضم الياء وفتح الراء أو لا يُدْرَك، فما الذي تغير من الأحكام بالنسبة لك؟ لا شيء. إذن فهذه الآيات المتشابهات لم تأتِ من أجل الأحكام، إنما هي قد جاءت من أجل الإيمان فقط، ولذلك فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينهي كل خلاف للعلماء حول هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم:
«إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به».
إن المُتشَابه من الآيات قد جاء للإيمان به، والمُحْكَم من الآيات إنما جاء للعمل به، والمؤمن عليه دائما أن يرد المُتشَابِه إلى المُحْكَم. مثال ذلك عندما نسمع قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [الفتح: ١٠].
إن الإنسان قد يتساءل: «هل لله يد» ؟ على الإنسان أن يرد ذلك إلى نطاق ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. وعندما يسمع المؤمن قول الحق: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥].
فهل لله جسم يستقر به على عرش؟ هنا نقول: هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن الإيمان به، ذلك أن وجودك أيها الإنسان ليس كوجود الله، ويدك ليست كيد الله وأن استواءك أيضا ليس كاستواء الله. ومادام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده كيدك؟
هو كما قال عن نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. ولماذا أدخلنا الله إلى تلك المجالات؟ لأن الله يريد أن يُلفت خلقه إلى أشياء قد لا تستقيم في العقول؛ فمن
1276
يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى المُحْكَم بأن الله ليس كمثله شيء. فله ذلك، ومن يتسع ظنه ويقول: أنا آمنت بأن لله يداً ولكن في إطار ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فله ذلك أيضا وهذا أسلم.
والحق يقول: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب﴾ ومعنى ﴿أُمُّ﴾ أي الأصل الذي يجب أن ينتهي إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه، أو تُرجعه إلى المُحكم فتقول: إن لله يداً، ولكن ليست كأيدي البشر. إنما تدخل في نطاق: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١].
ولماذا قال الحق: ﴿هُنَّ أُمُّ الكتاب﴾ ؟ ولم يقل: هن أمهات الكتاب؟ لك أن تعرف أيها المؤمن أنه ليس كل واحدة منهن أما، ولكن مجموعها هو الأم، ولتوضيح ذلك فلنسمع قول الحق: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ [المؤمنون: ٥٠].
لم يقل الحق: إنهما آيتان؛ لأن عيسى عليه السلام لم يوجد كآية إلا بميلاده من أمه دون أب أي بضميمة أمه، وأم عيسى لم تكن آية إلا بميلاد عيسى أي بضميمة عيسى. إذن فهما معاً يكونان الآية، وكذلك ﴿هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ فالمقصود بها ليس كل محكم أُمّا للكتاب، إنما المحكمات كلها هي الأم، والأصل الذي يَرُدُّ إليه المؤمن أيَّ متشابهٍ. ومهمة المحكم أن نعمل به، ومهمة المتشابه أن نؤمن به؛ بدليل أنك إن تصورته على أي وجه لا يؤثر في عملك.
فقوله الحق: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ لا يترتب عليه أي حكم، هنا يكفي الإيمان فقط.
لكن ماذا من أمر الذين قال عنهم الله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ﴾ ؟. ولنا أن نعرف أن «الزيغ» هو الميْل، فزاغ يعني مال، وهي مأخوذة من تزايغ الأسنان، أي اختلاف منابتها، فسنَّةٌ تظهر داخلة، وأخرى خارجة، وعندما لا تستقيم الأسنان في طريقة نموها يصنعون لها
1277
الآن عمليات تجميل وتقويم ليجعلوها صفاً واحداً.
إن الذين في قلوبهم زيغ أي ميل، يتبعون ما تشابه من الآيات ابتغاء الفتنة. كأن الزيغ أمر طارئ على القلوب، وليس الأصل أن يكون في القلوب زيغ، فالفطرة السليمة لا زيغ فيها، لكن الأهواء هي التي تجعل القلوب تزيع، ويكون الإنسان عارفاً لحكم الله الصحيح في أمر ما، لكن هوى الإنسان يغلب فيميل الإنسان عن حكم الله. والميل صنعة القلب، فالإنسان قد يخضع منطقه وفكره ليخدم ميل قلبه، ولذلك فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»
لماذا؟ لأن آفة الرأي الهوى، وحتى المنحرفون يعرفون القصد السليم، لكن الواحد منهم ينحرف لما يهوى، ودليل معرفة المنحرف للقصد السليم أنه بعد أن يأخذ شرّته في الانحراف يتوب ويعلن توبته، وهذا أمر معروف في كثير من الأحيان؛ لأن الميل تَكَلَّفٌ تبريري، أما القصد السليم فأمر فطري لا يُرهِق، ومثال ذلك: عندما ينظر الإنسان إلى حلاله، فإنه لا يجد انفعال ملكة يناقض انفعال ملكة أخرى، ولكن عندما ينظر إلى واحدة ليست زوجته، فان ملكاته تتعارك، ويتساءل: هل ستقبل منه النظرة أم لا؟ إن ملكاته تتضارب، أما النظر إلى الحلال فالملكات لا تتعب فيه. لذلك فالإيمان هو اطمئنان ملكات، فكل ملكات الإنسان تتآزر في تكامل، فلا تسرق ملكة من وراء أخرى.
مثال آخر: عندما يذهب واحد لإحضار شيء من منزله، فإنه لا يحس بتضارب ملكاته، أما إذا ذهب إنسان آخر لسرقة هذا الشيء فإن ملكاته تتضارب، وكذلك جوارحه؛ لأنها خالفت منطق الحق والاستقامة والواقع.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ﴾ إذن فاتباعهم للمتشابه منه ليؤوّلوه تأويلاً يخالف الواقع ليخدموا الزيغ الذي في قلوبهم.
1278
فالميل موجود عند قلوبهم أولاً ثم بدأ الفكر يخضع للميل، والعبارة تخضع للفكر، وهكذا نرى أن الأصل في الميل قد جاء منهم.. ولننظر إلى أداء القرآن الكريم حين يقول: ﴿فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥].
كأنه يقول: مادمتم تريدون الميل فسأميلكم اكثر وأساعدكم فيه. والحق سبحانه لا يبدأ إنساناً بأمر يناقض تكليفه، لكن الإنسان قد يميله هواه إلى الزيغ، فيتخلى الله عنه: ويدفعه إلى هاوية الزيغ.
وآية أخرى يقول فيها الحق: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: ١٢٧].
إنهم الذين بدأوا؛ انصرفوا عن الله فصرف الله قلوبهم بعيداً عن الإيمان. وكذلك الذين يتبعون المتشابه يبتغون به الفتنة أي يطلبون الفتنة، ويريدون بذلك فتنة عقول الذين لا يفهمون، وما داموا يريدون فتنة عقول من لا يفهمون فهم ضد المنهج، وما داموا ضد المنهج فهم ليسوا مؤمنين إذن، وماداموا غير مؤمنين فلن يهديهم الله إلى الخير، لأن الإيمان يطلب من الإنسان أن يتجه فقط إلى الإيمان بالرب الإله الحكيم، ثم تأتي المعونة بعد ذلك من الله. لكن عندما لا يكون مؤمنا فكيف يطلب المعونة من الله، إنه سبحانه يقول:
(أنا أغنى الشركاء عن الشرك).
إنهم يبتغون الفتنة بالمتشابه، ويبتغون تأويله، ومعنى التأويل هو الرجوع، لأننا نقول: «آل الشيء إلى كذا» أي رجع الشيء إلى كذا، فكأن شيئاً يرجع إلى شيء، فمن لهم عقل لا زيغ فيه يحاولون جاهدين أن يؤولوا المُتشَابه ويردوه إلى المُحكم، أو يؤمنوا به كما هو.
1279
يقول الحق بعد ذلك: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾ إن الله لو أراد للمتشابه أن يكون محكما، لجاء به من المُحكَم، إذن فإرادة الله أن تكون هناك آيات المتشابه ومهمتها أن تحرك العقول، وذلك حتى لا تأتي الأمور بمنتهى الرتابة التي يجمد بها عقل الإنسان عن التفكير والإبداع، والله يريد للعقل أن يتحرك وأن يفكر ويستنبط. وعندما يتحرك العقل في الاستنباط تتكون عند الإنسان الرياضة على الابتكار، والرياضة على البحث، وليجرب كل واحد منا أن يستنبط المتشابه إلى المحكم ولسوف يمتلك بالرياضة ناصية الابتكار والبحث، والحاجة هي التي تفتق الحيلة.
إن الحق يريد أن يعطي الإنسان دربة حتى لا يأخذ المسألة برتابة بليدة ويتناولها تناول الخامل ويأخذها من الطريق الأسهل، بل عليه أن يستقبلها باستقبالٍ واع وبفكر وتدبر. ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ [محمد: ٢٤].
كل ذلك حتى يأخذ العقل القدر الكافي من النشاط ليستقبل العقل العقائد بما يريده الله، ويستقبل الأحكام بما يريده الله، فيريد منك في العقائد أن تؤمن، وفي الأحكام أن تفعل ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾. والذين في قلوبهم زيغ يحاولون التأويل وتحكمهم أهواؤهم، فلا يصلون إلى الحقيقة. والتأويل الحقيقي لا يعلمه إلا الله.
قد رأينا من يريد أن يعيب على واحد بعض تصرفاته فقال له: يا أخي أتَدّعي أنك أحطت بكل علم الله؟ فقال له: لا. قال له: أنا من الذي لا تعلم. وكأنه يرجوه أن ينصرف عنه.
والعلماء لهم وقفات عند قوله الحق: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾ : بعضهم يقف عندها ويعتبر ما جاء من بعد ذلك وهو قوله الحق: ﴿والراسخون فِي العلم﴾ كلاماً مستأنفاً، إنهم يقولون: إن الله وحده الذي يعلم تأويل المتشابه، والمعنى: ﴿والراسخون فِي العلم﴾ أي الثابتون في العلم، الذين لا تغويهم الأهواء، إنهم:
1280
﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ وهو ما قاله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إن الراسخين في العلم يقولون: إن المحكم من الآيات سيعلمون به، والمتشابه يؤمنون به، وكل من المتشابه والمحكم من عند الله.
أمّا مَن عطف وقرأ القول الحكيم ووقف عند قوله: ﴿والراسخون فِي العلم﴾ نقول له: إن الراسخين في العلم علموا تأويل المتشابه، وكان نتيجة علمهم قولهم: ﴿آمَنَّا بِهِ﴾.
إن الأمرين متساويان، سواء وقفت عند حد علم الله للتأويل أو لم تقف. فالمعنى ينتهي إلى شيء واحد. وحيثية الحكم الإيماني للراسخين في العلم هي قوله الحق على لسانهم: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ فالمحكم من عند ربنا، والمتشابه من عند ربنا، وله حكمة في ذلك؛ لأنه ساعة أن يأمر الأعلى الأدنى بأمر ويبين له علته فيفهم الأدنى ويعمل، وبعد ذلك يلقي الأعلى الأمر آخر ولا يبين علته، فواحد ينفذ الأمر وإن لم يعرف العلة، وواحد آخر يقول: لا، عليك أن توضح لي العلة. فهل الذي آمن آمن بالأمر أو بالعلة؟
إن الحق يريد أن نؤمن به وهو الآمر، ولو أن كل شيء صار مفهوماً لما صارت هناك قيمة للإيمان. إنما عظمة الإيمان في تنفيذ بعض الأحكام وحكمتُها غائبة عنك؛ لأنك إن قمت بكل شيء وأنت تفهم حكمته فأنت مؤمن بالحكمة، ولست مؤمناً بمن أصدر الأمر.
وعندما نأتي إلى لحم الخنزير الذي حرمه الله من أربعة عشر قرناً، ويظهر في العصر الحديث أن في أكل لحم الخنزير مضار، ويمتنع الناس عن أكله لأن فيه مضار، فهل امتناع هؤلاء أمر يثابون عليه؟ طبعاً لا، لكن الثواب يكون لمن امتنع عن أكل لحم الخنزير لأن الله قد حرمه؛ ولأن الأمر قد صدر من الله، حتى دون أن يَعْرِّفنا الحكمة، إن المؤمن بالله يقول: إن الله قد خلقني ولا يمكن وهو الخالق أن يخدعني وأنا العبد الخاضع لمشيئته.
إن العبد الممتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر امتثالاً لأمر الله، هو الذي
1281
ينال الثواب، أما الذي يمتنع خوفاً من اهتراء الكبد أو الإصابة بالمرض فلا ثواب له. وهناك فرق بين الذهاب إلى الحكم بالعلة. وبين الذهاب إلى الحكم بالطاعة للآمر بالحكم.
إذن فالمتشابه من الآيات نزل للإيمان به، والراسخون في العلم يقابلهم من تلويهم الأهواء، والأهواء تلوي إلى مرادات النفس وإلى ابتغاءات غير الحق. ومادامت ابتغاءات غير الحق، فغير الحق هو الباطل، فكل واحد من أهل الباطل يحاول أن يأتي بشيء يتفق مع هواه.
ولذلك جاء التشريع من الله ليعصم الناس من الأهواء؛ لأن هوى إنسان ما قد يناقض هوى إنسان آخر، والباقون من الناس قد يكون لهم هوى يناقض بقية الأهواء. والحق سبحانه يقول: ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: ٧١].
إذن فلا بد أن نتبع في حركتنا ما لا هوى له إلا الحق، والدين إنما جاء ليعصمنا من الأهواء؛ فالأهواء هي التي تميلنا، والذي يدل على أن الأهواء هي التي تميل إلى غير الحق أن صاحب الهوى يهوى حكماً في شيء، ثم تأتي ظروف أخرى تجعله يهوى حكماً مقابلاً، إنه يلوي المسألة على حسب هواه، وإلا فما الذي ألجأ دنيا الناس إلى أن يخرجوا من قانون السماء الأول الذي حكم الأرض عند آدم عليه السلام؟
لقد خرجوا من قانون السماء حينما قام قوم بأمر الدين فأخذوا لهم من هذا سلطة زمنية، وأصبحوا يُخضعون المسائل إلى أهوائهم. ونحن إذا نظرنا إلى تاريخ القانون في العالم لوجدنا أن أصل الحكم في القضايا إنما هو لرجال الدين والكهنة والقائمين على أمر المعابد. كان الحكم كله لهم، لأن هؤلاء كانوا هم المتكلمين بمنهج الله.
ولماذا لم يستمر هذا الأمر، وجاءت القوانين الرومانية والإنجليزية والفرنسية وغيرها؟ لأنهم جربوا على القائمين بأمر الدين أنهم خرجوا عن نطاق التوجيه السماوي إلى خدمة أهوائهم، فلاحظ الناس أن هؤلاء الكهنة يحكمون في قضية
1282
بحكم ما يختلف عن حكم آخر في قضية متشابهة. إنهم القضاة أنفسهم والقضايا متشابهة متماثلة، لكن حكم الهوى يختلف من قضية إلى أخرى، بل وقد يتناقض مع الحكم الأول، فقال الناس عن هؤلاء الكهنة:
لقد خرجوا عن منطق الدين واتبعوا أهواءهم، ليثبتوا لهم سلطة زمنية، فنحن لم نعد نأمنهم على ذلك. وخرج التقنين والحكم من يد الكهنة ورجال الدين إلى غيرهم من رجال التقنين. لقد كان أمر القضاء بين الكهنة ورجال الدين؛ لأن الناس افترضت فيهم أنهم يأخذون الأحكام من منهج الله، فلما تبين للناس أن الكهنة ورجال الدين لا يأخذون الحكم من منهج الله، ولكن من الهوى البشري، عند ذلك أخذ الناس زمام التقنين لأنفسهم بما يضمن لهم عدالة ما حتى ولو كانت قاصرة.
وبمناسبة كلمة الهوى نجد أن هناك ثلاثة ألفاظ:
أولا: الهواء هو ما بين السماء والأرض، ويراد به الريح ويحرك الأشياء ويميلها وجمعه: الأهوية وهذا أمر حسي. ثانيا: الهوَى: وهو ميل النفس، وجمعه: الأهواء، وهو مأخوذ من هَوِىَ يَهْوَى بمعنى مال.
ثالثا: الهَوىّ: بفتح الهاء وضمها وتشديد الياء وهو السقوط مأخوذ من هَوَى يَهْوي: بمعنى سقط. وهذا يدل على أن الذي يتبع هواه لابد أن يسقط، والاشتقاقات اللغوية تعطي هذه المعاني.
إنها متلاقية. إذن الراسخون في العلم يقفون ثابتين عند منهج الله. وأما الذين يتبعون أهواءهم فهم يميلون على حسب ميل الريح. فإن الريح مالت، مالوا حيث تميل.
ويقول الراسخون في العلم في نهاية علمهم: آمنا ﴿والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾. وهنا تلتقي المسألة، فنحن نعرف أن المحكم نزل للعمل به، والمشابه نزل للإيمان به لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، وهي أن نأخذ الأمر من الآمر لا لحكمة الأمر. وعندما نأخذ الأوامر من الحق فلا نسأل عن علتها؛ لأننا نأخذها من خالق محب حكيم عادل. والإنسان إن لم ينفذ الأمر القادم من الله إلا إذا علم علته وحكمته فإننا نقول لهذا الإنسان: أنت لا تؤمن بالله ولكنك تؤمن بالعلة
1283
والحكمة، والمؤمن الحق هو من يؤمن بالأمر وإن لم يفهم.
والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند الله، المحكم من عند ربنا والمتشابه من عند ربنا:
ويضيف سبحانه: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾ و ﴿أُوْلُواْ الألباب﴾ أي أصحاب العقول المحفوظة من الهوى، لأن آفة الرأي الهوى، والهوى يتمايل به. ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾ و «اللب» هو: العقل، يخبرنا الله أن العقل يحكم لُبّ الأشياء لا ظواهر الأشياء وعوارضها، فهناك أحكام تأتي للأمر الظاهر، وأحكام للُبّ. الحق يأمر بقطع يد السارق. وبعد ذلك يأتي من يمثل دور حامي الإنسانية والرحمة ويقول: «هذه وحشية وقسوة» !
هذا ظاهر الفهم، إنما لُبّ الفهم أني أردت أن تُقطع يد السارق حتى أمنعه أن يسرق؛ لأن كل واحد يخاف على ذاته، فيمنعه ذلك أن يسرق. وقد قلنا من قبل إن حادثة سيارة قد ينتج عنها مشوهون قدر مِنْ قطعت أيديهم بسبب السرقة في تاريخ الإسلام كله، فلا تفتعل وتدعي أنك رحيم ولا تنظر إلى العقاب حين ينزل بالمذنب، ولكن انظر إلى الجريمة حين تقع منه، فإن الله يريد أن يحمي حركة الحياة للناس بحيث إذا علمت وكددت واجتهدت وعرقت يضمن الله لك حصيلة هذا العمل، فلا يأتي متسلط يتسلط عليك ليأخذ دمه من عرقك أنت.
إذن فهو يحمي حركة الحياة وتحرك كل واحد وهو آمن، هذا «لُبّ» الفهم، ولذلك يقول تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ﴾، إياكم أن تقولوا: إن هذا القصاص اعتداء على حياة فرد. لا، لأن ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ﴾ إنّ من علم إنه إن قَتل فسيقتل، سيمتنع عن القتل، إذن فقد حمينا نفسه وحمينا الناس منه، وهكذا يكون في القصاص حياة، وذلك هو لُبّ الفهم في الأشياء؛ فالله سبحانه وتعالى يلفتنا وينبهنا ألا نأخذ الأمور بظواهرها، بل نأخذها بلبها، وندع القشور التي يحتكم إليها أناس يريدون أن ينفلتوا من حكم الله. و ﴿والراسخون فِي العلم﴾ حينما فَصلوا في أمر المتشابه دعوا الله بالقول الذي أنزله سبحانه:
1284
﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب﴾
1285
فكأن قول الراسخين في العلم: إن كل محكم وكل متشابه هو من عند الله، والمحكم نعمل به، والمتشابه نؤمن به، فهذه هي الهداية؛ ثم يكون الدعاء بالثبات على هذه الهداية، والمعنى: يا رب ثبتنا على عبادتك ولا تجعل قلوبنا تميل أو تزيع. وهذا يدلنا على أن القلوب تتحول وتتغير؛ لذلك يأتي القول الفصل بالدعاء على الثبات الإيماني:
﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب﴾ [آل عمران: ٨].
إنهم يطلبون رحمة هبة لا رحمة حق، فليس هناك مخلوق له حق على الله إلا ما وهبه الله له. والراسخون في العلم يطلبون من الله الرحمة من الوقوع في الهوى بعد أن هداهم الله إلى هذا الحكم السليم بأن المتشابه والمحكم كل من عند الله ويعلموننا كيف يكون الطريق إلى الهداية وطلب رحمة الهبة. والراسخ في العلم مادام قد علم شيئا فهو يريد أن يشيعه في الناس، لذلك يقول لنا:
إياكم أن تظنوا أن المسألة مسألة فهم لنص وتنتهي، إن المسألة يترتب عليها أمر آخر، هذا الأمر الآخر لا يوجد في الدنيا فقط، فهناك آخرة، فالدنيا مقدور عليها لأنها محدودة الأمد ومنتهية، ولكن هناك الآخرة التي تأتي بعد الدنيا حيث الخلود، فيقول الحق على لسان الراسخين في العلم: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ... ﴾
وقولهم: ﴿رَبَّنَآ﴾ نفهم منه أنه الحق المتولي التربية، ومعنى التربية هو إيصال من تتم تربيته إلى الكمال المطلوب له، فهناك ربٌّ يربي، وهناك عبد تتم تربيته، والربُّ يعطي الإنسان ما يؤهله إلى الكمال المطلوب له.
والمؤمنون يرجون الله قائلين: يا رب من تمام تربيتك لنا أن تحمينا من عذاب الآخرة، فإذا ما عشنا الدنيا وانتهت فنحن نعلم أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومادمت ربا، ومادمت إلها فإنك لا تخلف الميعاد؛ فالذي يخلف الميعاد لا يكون إلها؛ لأن الإله ساعة الوعد يعلم بتمام قدرته وكمال علمه أنه قادر على الإنفاذ، إنما الذي ليس لديه قدرة على الإنفاذ لا يستطيع أن يعد إلا مشمولا بشيء يستند إليه، كقولنا نحن العباد: «إن شاء الله» لماذا؟ لأن الواحد منا لا يملك أن يفي بما وعد.
حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤].
قُلنا إياك أن تقول: إني سأفعل شيئا إلا أن تشتمله وتربطه بمشيئة الله؛ لأنك أنت إن وعدت، فأنت لا تضمن عمرك ولا إنفاذ وعدك، إنك لن تفعل شيئا إلا بإرادة الله، لذلك فلا تعد إلا بالمشيئة، لأنك تعد بما لا تضمن، فأنت في حقيقة الأمر لا تملك شيئا، فإن أردت فعل أي شيء أو الذهاب إلى أي مكان فالفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول وزمان ومكان وسبب، ثم يحتاج إلى قدرة لتنفيذ الفعل. والإنسان لا يملك من هذه الأشياء إلا ما يشاء الله له أن يملكه. إن الإنسان لا يملك أن يظل فاعلا. والإنسان لا يملك إن وُجد الفاعل أن يوجد المفعول. والإنسان لا يملك الزمن، ولا يملك المكان، بل لا يملك الإنسان أن يظل السبب قائما ليفعل ما كان
1286
يريد أن يفعله؛ فكل هذه العناصر، الفاعل والمفعول، والزمان، والمكان، والسبب، لا يملكها إلا الله. لذلك فليحم الإنسان نفسه من أن يكون كاذبا ومجازفا وليكن في ظل قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤].
إن كلمة ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ تعصم الإنسان من أن يكون كاذبا. وعندما لا يحدث الذي يعد به الإنسان فمعنى ذلك أن الله لم يشأ؛ لأن الإنسان لا يملك عنصراً واحداً من عناصر هذا الفعل. وعندما يقول الحق: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد﴾ لأن الذي يخلف الميعاد إنما تمنعه قوة قاهرة تأتيه؛ ولو من تغير نفسه تمنعه أن يفعل، أما الله فلا تأتي قوة قاهرة لتغير ما يريد أن يفعل، ولا يمكن أن يتغير؛ لأن التغير ليس من صفات القديم الأزلي.
وحين يؤكد الحق أنه سيتم جمعنا بمشيئته في يوم لا ريب فيه، وأن الله لا يخلف الميعاد، فمن المؤكد أننا سنلتقي. وسنلتقي لماذا؟ لقد قال الراسخون في العلم: عملنا بالمحكم، وآمنا بالمتشابه، ودعوا الله أن يثبت قلوبهم على الهداية رحمة من عنده، وأن يبعد قلوبهم عن الزيغ؛ لأنهم خائفون من اليوم الذي سيجمع الله الناس فيه، إننا سنلتقي للحساب على أفعالنا وإيماننا. وبعد ذلك يقول الحق جل شأنه: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً... ﴾
1287
ساعة تسمع وأنت المؤمن، ويسمع معك الكافر، ويسمع معك المنافق: {رَبَّنَآ
1287
إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} ربما فكر الكافر أو المنافق أن هناك شيئا قد ينقذه مما سيحدث في ذلك اليوم، كعزوة الأولاد، أو كثرة مال يشتري نفسه به، أو خلة، أو شفاعة، هنا يقول الحق لهم: لا، إن أولادكم وأموالكم لا تغني عنكم شيئا.
وفي اللغة يقال: هذا الشيء لا يغني فلاناً، أي أنه يظل محتاجاً إلى غيره؛ لأن الغِنَى هو ألا تحتاج إلى الغير، فالأموال والأولاد لا تُغني أحداً في يوم القيامة، والمسألة لا عزوة فيها، ولا أنساب بينهم يومئذ والجنة ليست للبيع، فلا أحد يستطيع شراء مكان في الجنة بمال يملكه.
وكان الكافرون على أيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولون ذلك القول الشاذ يقولون: مادام الله قد أعطانا أموالاً وأولاداً في الدنيا فلا بد أن يعطينا في الآخرة ما هو أفضل من ذلك. ولذلك يقول الله لهم: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً﴾ إذن فالأمر كله مردود إلى الله. صحيح في هذه الدنيا أن الله قد يخلق الأسباب، والكافر تحكمه الأسباب، وكذلك المؤمن، فإذا ما أخذ الكافر بالأسباب فإنه يأخذ النتيجة، ولكن في الآخرة فالأمر يختلف؛ فلن يملك أحد أسباباً، ولذلك يقول الحق عن اليوم الآخر: ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦].
إن البشر في الدنيا يملكون الأسباب، ويعيشون مختلفين في النعيم على اختلاف أسبابهم، واختلاف كدحهم في الحياة، واختلاف وجود ما يحقق للإنسان المُتع، لكن الأمر في الآخرة ليس فيه كدح ولا أسباب؛ لأن الإنسان المؤمن يعيش بالمُسبب في الآخرة وهو الله جلت قدرته فبمجرد أن يخطر الشيء على بال المؤمن في الجنة فإن الشيء يأتي له. أما الكفار فلا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم، لأنهم انشغلوا في الدنيا بالمال والأولاد وكفروا بالله. {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ
1288
بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: ١١].
إذن فما انشغل به الكفار في الدنيا لن ينفعهم، ويضيف الحق عن الكفار في تذييل الآية التي نحن بصددها: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ إنهم المعَذبون، وسوف يتعذبون في النار. ولنر النكاية الشديدة بهم، إن الذين يُعَذَّبون هم الذي يُعَذَّبُون؛ لأنهم بأنفسهم سيكونون وقود النار. إن المعَذَّب بفتح العين وفتح الذال مع التشديد يكون هو المعَذِّب بفتح العين وكسر الذال مع التشديد -
فهذه ثورة الأبعاض. فذرّات الكافر مؤمنة، وذرات العاصي طائعة، والذي جعل هذه الذرات تتجه إلى فعل ما يُغضب الله هو إرادة صاحبها عليها.
وضربنا قديما المثل ولله المثل الأعلى وقلنا: هب أن كتيبة لها قائد فالمفروض في الكتيبة أن تسمع أمر القائد، وتقوم بتنفيذ ما أمر به؛ فإذا ما جاءوا للأمر والقائد الأعلى بعد ذلك فإنهم يرفعون أمرهم إليه ويقولون له: بحكم الأمر نفذنا العمل الذي صدر لنا من قائدنا المباشر وكنا غير موافقين على رأيه. وفي الحياة الإيمانية نجد القول الحكيم من الخالق: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤].
فكان اللسان ينطق بكلمة الكفر وهو لاعِنٌ لصاحبه. واليد تتقدم إلى المعصية وهي كارهةٌ لصاحبها ولاعِنةٌ له، إن إرادة الله العليا هي التي جعلت للكافر إرادة على يده ولسانه في الدنيا، وينزع الله إرادة الكافر عن جوارحه يوم القيامة فتشهد عليه أنه أجبرها على فعل المعاصي، وتعذب الأبعاض بعضها، وعندما يقول الحق: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ وهنا مسألة يجب أن نلتفت إليها ونأخذها من واقع التاريخ، هذه المسألة هي أن الذين كفروا برسالات الله في الأرض تلقوا بعض العذاب في الدنيا؛ لأن الله لا يدّخر كل العقاب للآخرة وإلا لشقي الناس بالكافرين وبالعاصين، ولذلك فإن الله يُعَجِّلُ بشيء من العقاب للكافرين والعاصين في هذه الدنيا.
1289
ويقول الحق مثالاً على ذلك: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا... ﴾
1290
وساعة تسمع «كدأب كذا» فالدأب هو العمل بكدح وبلا انقطاع فنقول: فلان دأبه أن يفعل كذا أي هو معتاد دائماً أن يفعل كذا. أو نقول: ليس لفلان دأب إلا أن يغتاب الناس.
فهل معنى ذلك أن كل أفعاله محصورة في اغتياب الناس، أو أنه يقوم بأفعال أخرى؟ إنه يقوم بأفعال أخرى لكن الغالب عليه هو الاغتياب، وهذا هو الدأب. فالدأب هو السعي بكدح وتوالٍ حتى يصبح الفعل بالتوالي عادة. إذن فقوله الحق: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي كعادة آل فرعون. وآل فرعون هم قوم جاءوا قبل الرسالة الإسلامية، وقبلهم كان قوم ثمود وعاد وغيرهم.
ويلفتنا الحق سبحانه إلى أن ننظر إلى هؤلاء ونرى ما الذي حدث لهم، إنه سبحانه لم يؤخر عقابهم إلى الآخرة؛ لأنه ربما ظن الناس أن الله قد ادخر عذاب الكافرين إلى الآخرة؛ لأنه قال: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ [آل عمران: ١٠].
لا، بل العذاب أيضا في الدنيا مصداقاً لقوله الحق:
1290
﴿لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ﴾ [الرعد: ٣٤].
إن العذاب لو تم تأجيله إلى الآخرة لشقي الناس بالأشقياء، لذلك يأتي الله بأمثلة من الحياة ويقول: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي كعادة آل فرعون، ولا تصير مسألة عادة إلا بالكدح في العمل، وكان دأب آل فرعون هو التكذيب والطغيان وادّعاء فرعون الألوهية.
ويقول سبحانه: ﴿والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب﴾ فصار الدأب منهم، ومما وقع بهم، فإذا كانوا قد اعتادوا الكفر والتكذيب فقد أوقع الله عليهم العذاب. لقد كان دأب آل فرعون هو التكذيب، والخالق سبحانه يجازيهم على ذلك بتعذيبهم، ولتقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر واليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد﴾ [الفجر: ١ - ١٤].
فدأبهم التكذيب وجزاء الله لهم على ذلك هو العذاب والعقاب. إذن فقوله الحق: ﴿فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب﴾ أي أوقع بهم العذاب في الدنيا، وكانت النهاية ما كانت في آل فرعون وثمود ومن قبلهم من القوم الكافرين.
وعندما تسمع قول الله: ﴿والله شَدِيدُ العقاب﴾ فالذهن ينصرف إلى أن هناك ذنباً يستحق العقاب. وكل الأمور من المعنويات مأخوذة دائماً من المُحسَّات؛ لأن الأصل في إيجاد أي معلومات معنوية هو المشاهد الحسِّية، وتُنقل الأشياء الحسّية إلى
1291
المعنويات بعد ذلك.
لماذا؟ لأن الشيء الحسِّي مشهود من الجميع، أما الشيء المعنوي فلا يفهمه إلا المتعقلون، والإنسان له أطوار كثيرة. ففي طور الطفولة لا يفهم ولا يعقل الإنسان إلا الأمر المحسوس أمامه.
وقلت قديما في معنى كلمة «الغصب» : إنه أخذ وسلب شيء من إنسان صاحب حق بقوة، وهذا أمر معنوي له صورة مشهدية؛ لأن الذي يسلخ الجلد عن الشاة نسميه غاصباً. ولنر كيف يكون أخذ الحق من صاحبه، إنه كالسلخ تماماً، فالكلمة تأتي للإيضاح.
وكلمة «ذنب» وكلمة «عقوبة» مترابطتان؛ فكلمة «ذنب» مأخوذة من مادة ذنب؛ لأن المادة كلها تدل على «التالي» والذَنَب يتلو المقدمة في الحيوان. والعقاب هو ما يأتي عقب الشيء.
إذن فهناك ذنب وهناك عقاب. لكن ماذا قبل الذنب، وماذا يتلو العقاب؟ لا يوجد ذنب إلا إذا وُجِدَ نص يُجرّم، فلا ذنب إلاّ بنص. فليس كل فعل هو ذنب، بل لابد من وجود نص قبل وقوع الذنب. يجرّم فعله؛ ولذلك أخذ التقنين الوضعي هذا الأمر، فقال: لا يمكن أن يعاقب إنسان إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص، فلا يمكن أن يأتي إنسان فجأة ويقول: هذا العمل جريمة يعاقب عليها. بل لابد من التنبيه والنص من قبل ذلك على تجريم هذا العمل.
إنه لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص. فالنص يوضح تجريم فعل نوع ما من العمل، وإن قام إنسان بهذا العمل فإنه يُجّرم، ويكون ذلك هو الذنب، فكأن الذنب جاء تالياً لنص التجريم. والعقاب يأتي عقب الجريمة، وهكذا نجد أن كلا من الذنب والجريمة يأخذان واقع اللفظ ومدلوله ومعناه؛ فالذَّنَبُ هو التالي للشيء. ولذلك يسمون الدلو الذي يملأونه بالماء «ذَنُوبَاً» لأنه هو الذي يتلو الحبل. وأيضا الجزاء في الآخرة: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ﴾ [الذاريات: ٥٩].
1292
أي ذَنوباً تتبع، وتتلو جريمتهم. إذن فالنص القرآني في أي ذنب وفي أي عقاب يؤكد لنا القضية القانونية الاصطلاحية الموجودة في كل الدنيا: إنه لا عقوبة دون تجريم. فكان العقابُ بعد الجريمة أي بعد الذنب، والذنب بعض النص، فلا نأتي لواحد بدون نص سابق ونقول له: أنت ارتكبت ذنباً. وهذه تحل إشكالات كثيرة، مثال ذلك: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً﴾ [النساء: ٤٨].
إن الله يغفر ما دون الشرك بالله، فالشرك بالله قمة الخيانة العظمى؛ وهذا لا غفران فيه وبعد ذلك يغفر لمن يشاء. ويقول الحق في آية أخرى: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾
[الزمر: ٥٣].
فهناك بعض من الناس يقولون: إن الله قال: إنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، حتى إنهم قالوا: إن ابن عباس ساعة جاءت هذه الآية التي قال فيها الحق: ﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ قال: «إلا الشرك» وذلك حتى لا تصطدم هذه الآية من الآية الاخرى.
والواقع أنه حين يدقق أولو الألباب فلن نجد اصطداما، لأن الذين أسرفوا على أنفسهم. هم من عباد الله الذين آمنوا ولم يشركوا بربهم أحداً، ولكنهم زلُّوا وغووا ووقعوا في المعاصي فهؤلاء يقال عنهم: إنهم مذنبون؛ لأنهم مؤمنون بالله ومعترفون بالذي أنزله، أما المشرك فلم يعترف بالله ولا بما شرع وقنن من أحكام، فما هو عليه لا يسمى ذنبا وإنما هو كفر وشرك. فلا تعارض ولا تصادم في آيات الرحمن.
وعندما يقول الحق:
1293
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب﴾ [آل عمران: ١١].
فهذا القول الحكيم متوازن ومُتّسِق، فالذنب يأتي بعد نص، والعقاب من بعد ذلك. ويقول الحق آمرا رسوله ببلاغ الكافرين: ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد﴾
1294
إنه أمر من الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو المبلغ عن الله، أن يحمل للكافرين خبراً فيه إنذار. من هم هؤلاء الكفار؟ هل هم كفار قريش؟ الأمر جائز. هل هم اليهود؟ الأم جائز. فالبلاغ يشمل كل كافر.
والنص القرآني حينما يأتي فهو يأتي على غير عادة الناس في الخطاب، ولأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى وسبحانه منزه عن التشبيه أو المثل أنت تقول لابنك: اذهب إلى عمك، وقل له: إن أبي سيحضر لزيارتك غدا. فماذا يكون كلام الابن للعم؟ إن الابن يذهب للعم ويقول له: إن أبي سيزورك غدا. لكن الآمر وهو الأب يقول: قل لعمك إن أبي سيزورك غدا. فإذا كان الابن دقيق الأمانة فهو يقول:
قال أبي: قل لعمك إن أبي سيزورك غدا. وعندما يقول الحق سبحانه ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد﴾.
فهذا معناه قمة الأمانة من الرسول المبلغ عن الله، فنَقَل للكافرين النص الذي أمره الله بتبليغه للكافرين. وإلا كان يكفي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يذهب
1294
للكافرين ويقول لهم: ستُغلبون وتُحشرون. لكن من يدريهم أن هذا الكلام ليس من عند محمد وهو بشر؟ لذلك يبلغهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله أبلغه أن يبلغهم بقوله: ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد﴾.
إن الرسول لم يبلغهم بمقول القول: لا، إنما أبلغهم نص البلاغ الذي أبلغه به الله. وساعة يأمر الحق في قرآنه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يبلغ أمرا للكافرين فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُخاطب، والكفار مُخاطبون، فعندما يواجههم فإنه يقول لهم: ستُغلبون.. وفي آية أخرى يقول الحق: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: ٣٨].
إن القياس أن يقول: إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف، لكن الحق قال: ﴿إِن يَنتَهُواْ﴾، فكأن الله حينما قال كان الكفار غير حاضرين للخطاب ورسول الله هو الحاضر للخطاب، والله يتكلم عن غائبين.
ولكن الله سبحانه في هذه الآية التي نحن بصددها يحمل الرسول تمام البلاغ فمرة يكون النقل من الآمر الأول كما صدر منه سبحانه كقوله: ﴿إِن يَنتَهُواْ﴾ ومرة يأمره الآمر الأول أن يبلغ الكلمة التي يكون بها مخاطبا أي لا تقل: سيغلبون وقل: ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ لأنك أنت الذي ستخاطبهم. وهذه الدقة الأدائية لا يمكن إلا أن تكون من قادر حكيم.
إنه بلاغ إلى كفار قريش أو إلى مطلق الذين كفروا. والغلب سيكون في الدنيا، والحشر يكون في الآخرة.
فإذا ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينقل النص القرآني ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ فمتى قالها رسول الله؟ لقد قالها والمسلمون قلة لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا يقدرون على شيء.
وكل مؤمن يحيا في كنف آخر، أو يهاجر إلى مكان بعيد. فهل يمكن أن يأتي هذا البلاغ إلا ممن يملك مطلق الأسباب؟
1295
لقد قالها الرسول مبلغا عن الله، والمسلمون في حالة من الضعف واضحة ومادام قد قالها، فهي حجة عليه، لأنّ مَن أبلغه إياها وهو الله قادر على أن يفعلها. ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ﴾ ليس العقاب في الدنيا فقط، ولكن في الآخرة أيضا ﴿وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد﴾ هذه المسألة بشارة لرسول الله ولأصحابه وإنذار للكافرين به، ويتم تحقيقها في موقعة بدر. فسيدنا عمر بن الخطاب لما نزل قول الله: ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥].
تساءل عمر بن الخطاب: أي جمع هذا؟ إنه يعلم أن المسلمين ضعاف لا يقدرون على ذلك، وأسباب انتصار المسلمين غير موجودة، ولكن رسول الله لم يكن يكلم المؤمنين بالأسباب، إنما برب الأسباب، فإذا ما تحدى وأنذرهم، مع أنه وصحبه ضعاف أمامهم، فقد جاء الواقع ليثبت صدق الحق في قوله: ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ ويتم انتصار المسلمين بالفعل، ويغلبون الكافرين.
ألا يُجعل صدق بلاغ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يحدث في الدنيا دليل صدق على ما يحدث في الآخرة؟ إن تحقيق ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ يؤكد ﴿وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ﴾. وفي هذه الآية شيئان: الأول؛ بلاغ عن هزيمة الكفار في الدنيا وهو أمر يشهده الناس جميعا، والأمر الآخر هو في الآخرة وقد يُكذبه بعض الناس. وإذا كان الحق قد أنبأ رسوله بأنك يا محمد ستغلب الكافرين وأنت لا تملك أسباب الغَلَبَة عليهم. ومع ذلك يأتي واقع الأحداث فيؤكد أن الكافرين قد تمت هزيمتهم. ومادام قد صدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البلاغ عن الأولى ولم يكن يملك الأسباب فلابد أن يكون صادقا في البلاغ في الثانية وهي البلاغ عن الحشر في نار جهنم.
وبعض المفسرين قد قال: إن هذه المقولة لليهود؛ لأن اليهود حينما انتصر المسلمون في بدر زُلزِلوا زِلزَالا شديدا، فلم يكن اليهود على ثقة في أن الإسلام والمسلمين سينتصرون في بدر، فلما انتصر الإسلام في بدر؛ قال بعض اليهود: إن محمداً هو الرسول الذي وَعَدَنا به الله والأوْلَى أن نؤمن به فقال قوم منهم: انتظروا إلى معركة أخرى. أي لا تأخذوها من أول معركة، فانتظروا، وجاءت معركة أحد،
1296
وكانت الحرب سجالا.
ولنا أن نقول: وما المانع أن تكون الآية لليهود وللمشركين ولمطلق الذين كفروا؟ فاللفظ عام وإن كان قد ورد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال لهم: يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش وأسْلِموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل.
فماذا قالوا له؟ قالوا له: لا يَغُرنَّك أنك لقيت قوما أغماراً أي قوما من غمار الناس لم يجربوا الأمور لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس، فأنزل الله قوله: ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ..﴾ إلخ الآية.
والمهاد هو ما يُمهّد عادة للطفل حتى ينام عليه نوماً مستقراً أي له قرار، وكلمة ﴿وَبِئْسَ المهاد﴾ تدل على أنهم لا قدرة لهم على تغيير ما هم فيه، كما لا قدرة للطفل على أن يقاوم من يضعه للنوم في أي مكان. ويقول الحق بعد ذلك: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ... ﴾
1297
وحين يقول الحق: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾. فمن المخاطب بهذه الآية؟ لاشك أن المخاطب بهذه الآية كل من كانت حياته بعد هذه الواقعة، سواء كان مؤمنا أو كافرا، فالمؤمن تؤكد له أن نصر الله يأتي ولو من غير أسباب، والكافر تأتي له الآية
1297
بالعبرة في أن الله يخذله ولو بالأسباب، إن الله جعل من تلك الموقعة آية. والآية هي الشيء العجيب أَيْ إن واقعه ونتائجه لا تأتي وَفق المقدمات البشرية.
نعم هذا خطاب عام لكل من ينتسب إلى أيِّ فئة من الفئتين المتقاتلين، سواء كانت فئة الإيمان أو فئة الكفر. ففئة الإيمان لكي تفهم أنه ليست الأسباب المادية هي كل شيء في المعركة بين الحق والباطل، لأن لله جنودا لا يرونها. وكذلك يخطئ هذا الخطاب فئة الكافرين فلا يقولون: إن لنا أسبابنا من عدد وعُدَّة قوية، فقد وقعت المعركة بين الحق والباطل من قبل؛ وقد انتصر الحق.
وكلمة ﴿فِئَةٌ﴾ إذا سمعتها تصورت جماعة من الناس، ولكن لها خصوصية؛ فقد توجد جماعة ولكن لكل واحد حركة في الحياة. ولكن حين نسمع كلمة ﴿فِئَةٌ﴾ فهي تدل على جماعة، وهي بصدد عمل واحد. ففي غير الحرب كل واحد له حركة قد تختلف عن حركة الآخر. ولكن كلمة ﴿فِئَةٌ﴾ تدل على جماعة من الناس لها حركة واحدة في عمل واحد لغاية واحدة.
ولاشك أن الحرب تصور هذه العملية أدق تصوير، بل إن الحرب هي التي تُوَحّد كل فئةٍ في سبيل الحركةِ الواحدة والعمل الواحد للغاية الواحدة؛ لأن كل واحد من أي فئة لا يستطيع أن يحمي نفسه وحده، فكل واحد يفئ ويرجع إلى الجماعة، ولا يستطيع أن ينفصل عن جماعته. ولكن الفرد في حركة الحياة العادية يستطيع أن ينفصل عن جماعته.
إذن فكلمة ﴿فِئَةٌ﴾ تدل على جماعة من الناس في عملية واحدة، وتأتي الكلمة دائما في الحرب لتصور كل معسكر يواجه آخر. وحين يقول الحق: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا﴾ أي أن هناك صراعا بين فئتين، ويوضح الحق ماهية كل فئة فيقول: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ﴾. وحين ندقق النظر في النص القرآني، نجد أن الحق لم يورد لنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولم يذكر أنها فئة مؤمنة، وأوضح أن الفئة الأخرى كافرة، وهذا يعني أنّ الفئة التي تقاتل في سبيل الله لابد أن تكون فئة مؤمنة، ولم يورد الحق أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان اكتفاء بأن كفرها لابد أن يقودها إلى أن تقاتل في سبيل الشيطان.
1298
لقد حذف الحق من وصف الفئة الأولى ما يدل عليه في وصف الفئة الثانية.
وعرفنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله من مقابلها في الآية وهي الفئة الأخرى.
فمقابل الكافرة مؤمنة، وعرفنا - أيضاً - أن الفئة الكافرة إنما تقاتل في سبيل الشيطان لمجرد معرفتنا أن الفئة الأولى المؤمنة تقاتل في سبيل الله. ويسمون ذلك في اللغة «احتباك». وهو أن تحذف من الأول نظير ما أثبت في الثاني، وتحذف من الثاني نظير ما أثبت في الأول، وذلك حتى لا تكرر القول، وحتى توضح الالتحام بين القتال في سبيل الله والإيمان، والقتال في سبيل الشيطان والكفر.
إذن فالآية على هذا المعنى توضح لنا الآتي: لقد كان لكم آية، أي أمر عجيب جدا لا يسير ولا يتفق مع منطق الأسباب الواقعية في فئتين، فعندما التقت الفئة المؤمنة في قتال مع الفئة الكافرة، استطاعت الجماعة المؤمنة المحددة بالغاية التي تقاتل من أجلها - وهي القتال في سبيل الله - أن تنتصر على الفئة الكافرة التي تقاتل في سبيل الشيطان.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين﴾ فنحن أمام فئتين، فمن الذي يَرى؟ ومن الذي يُرى؟ ومن الرائي ومن المرئي؟ إن كان الرائي هم المؤمنين فالمرئي هم الكافرين. وإن كان الرائي هم الكافرون فالمرئي هم المؤمنون ولنر الأمر على المعنيين:
فإن كان الكافرون هم الذين يرون المؤمنين، فإنهم يرونهم مثليهم؛ أي ضعف عددهم، وكان عدد الكافرين يقرب من ألف. إذن فالكافرون يرون المؤمنين ضعف أنفسهم، أي ألفين. وقد يكون المعنى مؤديا إلى أن المؤمنين يرون الكافرين ضعف عددهم الفعلي. وقل يؤدى المعنى الى أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عددهم وكان عدد المؤمنين يقرب من ثلاثمائة وأربعة عشر، وضعف هذا العدد هو ستمائة وثمانية وعشرون مقاتلا.
فأن أخذنا معنى «مِّثْلَيْهِمْ» على عدد المؤمنين، فالكافرون يرونهم حوالي ستمائة وثمانية وعشرين مقاتلا، وإن أخذنا معنى «مِّثْلَيْهِمْ» على عدد الكافرين فالكافرون يرون المؤمنين حوالي ألفين. وما الهدف من ذلك؟ إن الحق سبحانه يتكلم عن
1303
المواجهة بين الكفر والإيمان حيث ينصر الله الإيمان على الكفر. وبعض من الذين يتصيدون للقرآن يقولون: كيف يقول القرآن: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين﴾ وهو يقول في موقع آخر: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر ولكن الله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ [الأنفال: ٤٣ - ٤٤].
وهذه الآية تثبت كثرة، سواء كثرة المؤمنين أو كثرة الكافرين، والآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية تثبت قلة، والمشككون في القرآن يقولون: كيف يتناول القرآن موقعة واحدة على أمرين مختلفين؟ ونقول لهؤلاء المشككين: أنتم قليلو الفطنة؛ لأن هناك فرقاً بين الشجاعة في الإقبال على المعركة وبين الروح العملية والمعنوية التي تسيطر على المقاتل أثناء المعركة، والحق سبحانه قد تكلم عن الحالين: قلل الحق هؤلاء في أعين هؤلاء، وقلل هؤلاء في أعين هؤلاء، لأن المؤمنين حين يرون الكافرين قليلا فإنهم يتزودون بالجرأة وطاقة الإيمان ليحققوا النصر.
والكافرون عندما يرون المؤمنين قلة فإنهم يستهينون بهم ويتراخون عند مواجهتهم. ولكن عندما تلتحم المعركة فما الذي يحدث؟ لقد دخلوا جميعا المعركة على أمل القلة في الأعداد المواجهة، فما الذي يحدث في أعصابهم؟ إن المؤمن يدخل المعركة بالإستعداد المكثف لمواجهة الكفار. وأعصاب الكافر تخور لأن العدد أصبح على غير ما توقع، إذن فيقول الحق: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ [الأنفال: ٤٤].
1304
يصور الحالة قبل المعركة؛ لأن الله لا يريد أن يتهيب طرف فلا تنشأ المعركة. لكن ما إن تبدأ المعركة حتى يقلب الحق الأمور على عكسها، إنه ينقل الشيء من الضد إلى الضد ونقل الشيء من الضد الى الضد إيذان بأن قادرا أعلى يقود المشاعر والأحاسيس، والقدرة العالية تستطيع أن تصنع في المشاعر ما تريد.
لقد قلل الحق الأعداد أولا حتى لا يتهيبوا المعركة، وفي وقت المعركة جعلهم الله كثيراً في أعين بعضهم البعض، فترى كل فئةٍ الطرف الآخر كثيرا، فتتفجر طاقات الشجاعة المؤمنة من نفوس المؤمنين فيقبلون على القتال بحماسة، وتخور نفوس الكافرين عندما يواجهون أعدادا أكثر مما يتوقعون. والحق سبحانه وتعالى يقول:
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار﴾ [آل عمران: ١٣]
إن هذه الأية هي خبر تبشيري لكل مؤمن بالنصر، وهي في الوقت نفسه خبر إنذاري لكل كافر بأن الهزيمة سوف تلحق به إن واجه الجماعة المؤمنة. فإياكم أن تقيموا الأمور بمقاييس الأسباب، فالأسباب المطلوبة منكم هي المقدور عليها للبشر وعليكم أن تتركوا تتمة كل ذلك للقدر، فلا تخور الفئة المؤمنة أمام عدد كثير، ولا تغتروا معشر الكفار بأعدادكم الكثيرة؛ فالسابقة أمامكم تؤكد أن عدداً قليلا من المؤمنين قد غلب عددا كثيرا من الكافرين.
ومن معاني الآية - أيضا - أن الكافرين يرون المؤمنين مثلى عدد الكافرين، أي ضعف عددهم. ومن معانيها - ثالثا - أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عدد المؤمنين الفعلي. ومن معاني الآية - رابعا - أن يرى المسلمون الكافرين مثليهم، أي مثل المؤمنين مرتين، أي ستمائة نفر وقليلا، وحينئذ يكون عدد الكافرين في عيون المؤمنين أقل من العدد الفعلي لهؤلاء الكافرين. إذن فما حكاية «مِّثْلَيْهِمْ» هذه؟ لقد وعد الله المؤمنين بنصره حين قال:
{ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ
1305
مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: ٦٥].
والنسبة هنا أن المؤمن الواحد يخرج إلى عشرة من الكافرين فيهزمهم، ذلك وعد الله، وحين أراد الله التخفيف قال الحق: ﴿الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين﴾ [الأنفال: ٦٦].
لقد خفف الله النسبة، فواحد من المؤمنين يغلب اثنين من الكافرين. فالمؤمنون موعودون من الله بالغلبة حتى وهم ضعاف. والحق يقول في الآية المبشرة للمؤمنين، المنذرة للكافرين، والتي نحن بصددها الآن: ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار﴾.
ونحن نسمع كلمة «عبرة» كثيرا، والمادة المأخوذة منها تدل على الدخول من مكان إلى مكان، فقال عن ذلك «عُبور»، ونحن في حياتنا العادية نخصص في الشوارع أماكن لعبور المشاة، أي المسافة التي يمكن للمشاة أن ينفذوا منها من ضفة الشارع إلى الضفة الأخرى من الشارع نفسه. وعبور البحر هو النفاذ من شاطئ إلى شاطئ آخر.
إذن فمادة «العبور» تدل على النفاذ من مكان إلى مكان، و «العَبرة» أي الدمعة لأنها تسقط من محلها من العين على الخد. و «العِبارة» أي الجملة التي نتكلم بها، فهي تنتقل من الفم إلى الأذن، وهي عبور أيضا. و «العبير» أي الرائحة الجميلة التي تنتقل من الوردة البعيدة عن الإنسان قليلا لتنفذ إلى أنفه. إذن فمادة «العبور» تدل على «النفاذ».
وحين يقول الحق: ﴿إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً﴾. أي تنقلكم من أمر قد يخيفكم أيها المؤمنون لأنكم قليل، وهم كثير، إنها تنقلكم إلى نصر الله أيها المؤمنون، وتنقلكم
1306
أيها الكافرون إلى الهزيمة برغم كثرة عُدتكم وعَددكم. فالعبرة هي حدث ينقلك من شيء إلى شيء مغاير، كالظالم الذي نرى فيه يوما، ونقول إن ذلك عبرة لنا، أي إنها نقلتنا من رؤيته في الطغيان إلى رؤيته في المهانة.
وهكذا تكون العبرة هي العظة اللافتة والناقلة من حكم إلى حكم قد يستغربه الذهن، فتذييل هذه الآية الكريمة بهذا المعنى هو إيضاح وبيان كامل، فالحق يقول في بداية هذه الآية: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا﴾ وتنتهي الآية بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار﴾.
إذن فالعبرة شيء ينقلنا من أمر إلى أمر قد تستغربه الأسباب وذلك إن كنت متروكا لسياسة نفسك، لكن المؤمن ليس متروكا لسياسة نفسه؛ لأن الله لو أراد أن يعذب الكفار بدون مواجهة المؤمنين وحربهم لعذبهم بدون ذلك، ولكن الله يريد أن يكون عذاب الكافرين بأيدي المؤمنين:
﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٤].
ولو كان الله يريد أن يعذب الكافرين بغير أيدي المؤمنين لأحدث ظاهرة في الكون تعذبهم، كزلزال يحدث ويدمرهم، ولكن الله يريد أن يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين. ﴿والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار﴾، و «الأيد» هو القوة، إذن فهو يريد منك فقط النواة العملية، ثم بعد ذلك يكملها الله بالنصر، «وأيَّده» أي قواه، ويؤيد الله بنصره من يشاء، وتكون العبرة لأولي الأبصار.
وقد يقول قائل: أتكون العبرة لأولي الأبصار؛ أم لأولي البصائر؟ وهنا نقول: إن العبرة هنا لأولى الأبصار لأن الأمر الذي تتحدث عنه الآية هو أمر مشهدي، أمر محسوس، فمن له عينان عليه أن يبصر بهما، فإذا كان التفكير والتدبر ليس أمرا موهوبا لكل مخلوق من البشر، فإن البصر موجود للغالبية من الناس، وكل منهم
1307
يستطيع أن يفتح عينيه ليرى هذا الأمر المشهدي.
وإذا ما نظرنا إلى المعركة بذاتها وجدنا الدليل الكامل على صدق العبارة؛ فالمؤمنون قلة وعددهم معروف محدود، وعتادهم قليل، ولم يخرجوا بقصد حرب، إنما خرجوا لقصد الاستيلاء على العير المحملة بالأرزاق من طعام وكسوة تعويضا عما اغتصبه المشركون من أموالهم في مكة، ولو أنّهم استولوا على العير فقط لما كان النصر عظيما بالدرجة التي كان عليها؛ لأن العِير عادة لا تسير بعتاد ضخم إنما تحفظ بالحراسة فقط. ولكن الله يريد لهم النصر على ذات الشوكة، أي الطائفة القوية المسلحة، لقد وعدهم الله بالنصر على إحدى الطائفتين: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين﴾ [الأنفال: ٧].
لقد كان وعد الله أن ينصر المؤمنين على إحدى الطائفتين، والأمل البشرى كان يود الانتصار على الطائفة غير ذات الشوكة أي الطائفة غير المسلحة وهي العير، ولكن مثل هذا النصر لا يكون له دَوِيُّ النصر على الطائفة المسلحة، فقد كان من السهل أن يقال: إن محمداً ومن معه تعرضوا لجماعة من التجار لا أسلحة معهم ولا جيش، ولكن الله يريد أن يجعل من هذه المعركة فرقانا وأن يحق الحق.
إنكم أيها المؤمنون لم تخرجوا إلاَّ لِقصد العير أي لم يكن استعدادكم كافيا للقتال، أما الكفار فقد جاءوا بالنفير، أي بكل قوتهم فقد ألقت مكة في هذه المعركة بأفلاذ أكبادها. وعندما يأتي النصر من الله للمؤمن في مثل هذه الموقعة فهو نصر حقيقي، ويكون آية غاية في العجب من آيات الله. وتصير عبرة للغير. لذلك نجد العجائب في هذه المعركة - معركة بدر -.
الغرائب أنك تجد الأخوين يكون لكل منهما موقف ومجابهة. وتجد الأب والابن لكل منهما موقف ومجابهة برغم عمق الصلة بينهما، فمثلا ابن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وكان هذا الابن لم يسلم بعد، وكان في جانب الكفار، وأبوه الصديق مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ،
1308
وبعد أن أسلم ابن أبي بكر يحكي الابن لأبيه بشيء من الامتنان والبر: لقد تراءيت لي يوم بدر فزويت وجهي عنك. فيرد أبو بكر الرد الإيماني الصدِّيقي: والله لو تراءيت لي أنت لقتلتك.
وكلا الموقفين منطقي، لماذا؟ لأن ابن أبي بكر حين يلتقي بأبي بكر، ويرى وجه أبيه، فإنه يقارن بين أبي بكر وبين ماذا؟ إنه يقارن بين أبيه وبين باطل، ويعرف تمام العلم أنه باطل، فيرجح عند ابن أبي بكر أبوه، ولذلك يحافظ على أبيه فلا يلمسه. لكنَّ أبا بكر الصديق حينما يقارن فهو يقارن بين الإيمان بالله وابنه، ومن المؤكد أن الإيمان يزيد عند الصديق أبي بكر، فلو رآه يوم بدر لقتله.
ولله حكمة فيمن قُتل على أيدي المؤمنين من مجرمي الحرب من قريش، ولله حكمة فيمن أبقى من الكفار بغير قتل؛ لأن هؤلاء مدخرون لقضية إيمانية كبرى سوف يبلون فيها البلاء الحسن. فلو مات خالد بن الوليد في موقعة من المواقع التي كان فيها في جانب الكفر لحزنا نحن المسلمين؛ لأن الله قد ادخره لمعارك إيمانية يكون فيها سيف الله المسلول، ولو مات عكرمة لفقدت أمة الإسلام مقاتلا عبقريا.
لقد حزن المسلمون في موقعة بدر لأنهم لم يقتلوا هؤلاء الفرسان؛ لأنهم لم يعلموا حكمة الله في ادخار هؤلاء المقاتلين؛ لينضموا فيما بعد إلى صفوف الإيمان. والله لم يمكِّن مقاتلي المسلمين يوم بدر من المحاربين الذين كانوا على دين قومهم آنئذٍ إلاّ لأن الله قد ادخرهم لمواقع إيمانية قادمة يقفون فيها، ويحاربون في صفوف المؤمنين وهذا نصر جديد.
ونرى أبا عزيز وهو شقيق الصحابي مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليبشر بدين الله، ويعلِّم أهل المدينة، وكان مصعب فتى فريش المدلل صاحب ترف، وأمه صاحبة ثراء، وبعد ذلك رآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يلبس جلد شاة بعد أن كان يلبس الحرير، فيقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «انظروا إلى الإيمان ماذا فعل بصاحبكم».
والتقى مصعب في المعركة مع أخيه أبي عزيز، وأبو عزيز على الكفر، ومصعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
1309
مسلم يقف مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحين يرى مصعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أخاه أبا عزيز وهو أسير لصحابي اسمه أبو اليسر، فيقول مصعب: يا أبا اليسر اشدد على أسيرك؛ فإن أمه غنية وذات متاع، وستفديه بمال كثير.
فيقول له أخوه أبو عزيز: أهذه وصاتك بأخيك؟ فيقول مصعب مشيراً إلى أبي اليسر: هذا أخي دونك.
كانت هذه هي الروح الإيمانية التي تجعل الفئة القليلة تنتصر على أهل الكفر، طاقة إيمانية ضخمة تتغلب على عاطفة الأخوة، وعاطفة الأبوة، وعاطفة البنوة. وقد جعل الله من موقعة بدر آية حتى لا يخور مؤمن وإن قل عدد المؤمنين، أو قلت عُدّتهم، وحتى لا يغتر كافر، وإن كثر عددُ قومه وعتادهم.
وقد جعلها الله آية للصدق الإيماني، ولذلك يقال: احرص على الموت توهب لك الحياة. وقد كانت القضية الإيمانية هي التي تملأ نفس المؤمن، إنَّها قضية عميقة متغلغلة في النفوس. ولماذا يتربص الكفار بالمؤمنين؟ إنهم إن تربصوا بهم، فسيدخل المؤمنون الجنة إن قُتِلوا أو ينتصرون على الكفار، وفي ذلك يقول الحق على لسان المؤمنين: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: ٥٢].
فالظفر هنا بأحد أمرين: إما النصر على الكافرين، وإما الاستشهاد في سبيل الله، ونيل منزلة الشهداء في الجنة وكلاهما جميل. والمؤمنون يتربصون بالكافرين، إما أن يصيب الله الكفار بعذاب من عنده، وإما أن يصيبهم بأيدي المؤمنين. إنها معادلة إيمانية واضحة جلية. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات... ﴾
1310
الموضع الذي تأتي فيه هذه الآية الكريمة هو: موقع ذكر المعركة الإسلامية التي جعلها الله آية مستمرة دائمة؛ لتوضح لنا أن المعارك الإيمانية تتطلب الانقطاع إلى الله، وتتطلب خروج الإنسان المؤمن عما ألف من عادة تمنحه كل المتع. والمعارك الإيمانية تجعل المؤمن الصادق يضحي بكثير من ماله في تسليح نفسه، وتسليح غيره أيضا.
فمن يقعد عن الحرب إنسان تغلبه شهوات الدنيا، فيأتي الله بهذه الآية بعد ذكر الآية التي ترسم طريق الانتصارات المتجدد لأهل الإيمان؛ وذلك حتى لا تأخذنا شهوات الحياة من متعة القتال في سبيل الله ولإعلاء كلمته فيقول: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات» وكلمة «زُيِّنَ» تعطينا فاصلا بين المتعة التي يحلها الله، والمتعة التي لا يرضاها الله؛ لأن الزينة عادة هي شيء فوق الجوهر. فالمرأة تكون جميلة في ذاتها وبعد ذلك تتزين، فتكون زينتها شيئا فوق جوهر جمالها.
فكأن الله يريد أن نأخذ الحياة ولا نرفضها، ولكن لا نأخذها بزينتها وبهرجتها، بل نأخذها بحقيقتها الاستبقائية فيقول: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء». وما الشهوة؟ الشهوة هي ميل النفس بقوة إلى أي عمل ما.
وحين ننظر إلى الآية فإننا نجدها توضح لنا أن الميل إذا كان مما يؤكد حقيقة استبقاء الحياة فهو مطلوب ومقبول، ولكن إن أخذ الإنسان الأمر على أكثر من ذلك فهذا هو الممقوت.
وسبق أن ضربنا المثل من قبل بأعنف غرائز الإنسان وهي غريزة الجنس، وأن
1311
الحيوان يفضل الإنسان فيها، فالحيوان أخذ العملية الجنسية لاستبقاء النوع بدليل أن الأنثى من الحيوان إذا تم لقاحها من فحل لا تُمكِّن فحلاً اخر منها. والفحل أيضاً اذا ما جاء إلى أنثى وهي حامل فهو لا يُقبل عليها، إذن فالحيوانات قد أخذت غريزة الجنس كاستبقاء للحياة، ولم تأخذها كالإنسان لذة متجددة.
ومع ذلك فنحن البشر نظلم الحيوانات، ونقول في وصف شهوة الإنسان: أن عند فلان شهوة بهيمية. ويا ليتها كانت شهوة بهيمية بالفعل؛ لأن البهيمة قد أخذتها على القدر الضروري، لكن نحن فلسفناها، إذن فخروجك بالشيء عما يمكن أن يكون مباحاً ومشروعا يسمى: دناءة شهوة النفس.
والحق سبحانة وتعالى يريد أن يضمن للكون بقاءه، والبقاء له نوعان: أن يُبقِي الإنسان حياته بالمطعم والمشرب، وتبقى حياة النوع الإنساني بالتزواج.
ولكن إن نظرت إلى المسألة وجدت الخالق حكيما عليما. إنه يعلم أن طفولة أي حيوان بسيطة بالنسبة لأبيه وأمه، مثال ذلك: الحمامة تطعم فرخها إلى أن يستطيع الطيران، ثم لا تعرف أين ذهب فرخها، لكن حصيلة الإلتقاء بين الرجل والمرأة، والتي أراد الله لها أن تنتج الأولاد تحتاج إلى شقاء إلى أن يبلغ الولد، وذلك ليكون هناك تكافؤ وتناسب بين ما يحرص عليه الإنسان من شهوة، وما يتحمل من مشاق ومتاعب في سبيل الاستمتاع بها واستبقائها.
فقول الحق سبحانه: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء» فمن المزين؟ إن كان في الأمر الزائد على ضروريات الأمر، فهذا من شغل الشيطان، وإن كان في الأمر الرتيب الذي يضمن استبقاء النوع فهذا من الله.
ونجد الحق يضيف «البنين» إلى مجال الشهوات ويقصد بها الذكران، ولم يقل البنات، لماذا؟ لأن البنين هم الذين يُطلبون دائما للعزوة كما يقولون ولا يأتي منهم العار، وكان العرب يئدون البنات ويخافون العار، والمحبوب لدى الرجل في الإنجاب حتى الآن هو إنجاب البنين، حتى الذين يقولون بحقوق المرأة وينادون بها، سواء كان رجلا أو امرأة إن لم يرزقه الله بولد ذكر فإنه أو إنها تريد ولداً ذكراً.
1312
ويضيف الحق إلى مجال الشهوات: ﴿والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة﴾، والقناطير هي جمع قنطار، والقنطار هو وحدة وزن، وهذا الوزن حددته كثافة الذهب، إلا أن القنطار قبل أن يكون وزناً كان حجماً، لكنهم رأوا الحجم هذا يزن قدراً كمياً، فانتقلوا من الحجم إلى الوزن.
وكان علامة الثراء الواسع في الزمن القديم أن يأتوا بجلد الثور بعد سلخه ويملأوه ذهبا، وملء جلد الثور بالذهب يسمونه قنطاراً، وكانت هذه عملية بدائية. وبعد ذلك أخذوا ملء الجلد ذهباً ووزنوه فصار وزنا. إذن فالأصل فيه أنه كان حجماً، فصار ووزناً. وساعة تسمع ﴿والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة﴾ فهو يريد أن يحقق فيها القنطارية، وذلك يعني أن القنطار المقنطر هو القنطار الكامل الوزن، وليس مجرد قنطار تقريباً، كما نقول أيضاً: «دنانير مدنرة». وعادة نجد في اللغة العربية لفظاً يأتي من جنس اللفظ يضم إليه كي يعطيه قوة، فيقال «ظل ظليل» أي ظل كثيف، ويقال «ليل أليل» أي أن الليل في ظلمة شديدة، وهي مبالغة في كثافة الظلام.
والظلام على سبيل المثال يحجب الشمس، وحاجب الشمس عنك قد يكون حجاباً واحداً، وقد يكون الشيء الذي يظلك فوقه شيء آخر يظلله أيضاً فيكون الظل ظليلاً، ولذلك يكون الظل تحت الأشجار جميلاً، لأن ورقة تستر الشمس وورقة أخرى تستر الورقة الأولى، وهكذا، فتصنع تكييفاً طبيعياً للهواء.
ولذلك فهم يصنعون الآن خياماً مكيفة الهواء مصنوعة من قماش فوقه قماش آخر، وبينهما مسافة، فيكون هناك قماش يُظلل ظِلاً آخر، فإذا ما وضعوا قطعة ثالثة من القماش تُظل الظلين الأولين، فإن الظل يكون ظليلاً ولذلك قلنا: إن ظل الأشجار هو ظل ظليل، فيه حنان، فكل ورقة تظل الإنسان تكون نفسها مظَّللةَ بورقة أخرى، وتكون أوراق الشجر التي تظلل بعضها بعضا مختلفة الأوضاع، وتعطي الأوراق للنسيم فرصة المرور، أما الخيام فهي تحجب النسيم.
والشاعر حين أراد أن يصف الروضة قال:
1313
تصد الشمس أَنَّى واجهتها فتحجبها وتأذن للنسيم
إذن فحين وصف الحق القناطير بأنها مقنطرة فذلك يعني القناطير الدقيقة الميزان، وهي قناطير مقنطرة من ماذا؟ ﴿مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة﴾. وكانت الخيل هي أداة العز وأمارة وعلامة على العظمة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة»
قول الحق: ﴿والخيل المسومة﴾ نرى فيهِ أن اللفظ الواحد يشع في مجالات متعددة من المعاني، فمسوَّمة من سامها يَسوُمها، ومعنى ذلك أن لهذه الخيل مراعى تأكل منها كما تريد، وليست خيلاً مربوطة بأكل ما يُقدم لها فقط، ومسوّمة أيضاً تعنى أن لهذا الخيل علامات، فهذا حصان أغرّ، وذلك أدهم وذاك أشقر.
ومسوَّمة أيضا، أن تكون مروضة، ومدربة، وتم تعليمها، فالأصل في الخيل أنها لم تكن مُستأنسة بل مُتوحشة، ولذلك لا بد من ترويضها حتى ينتفع بها الإنسان. فكم معنى إذن أعطته لما كلمة «مُسَوَّمَةِ» ؟
سائمة، أي تأكل على قدر ما تشتهي لا على قدر ما نعطيها من طعام. ومُعلَّمة أي فيها علامات كالغّرة والتحجيل، وهذا جواد أدهم، وذلك جواد أشقر، أو أنها معلمة أي مروضة. فماذا تتطلب الحرب؟.
إن الحرب تتطلب الانقطاع عن الأهل، فيجب ألا تكون شهوة النفس حاجزاً، سواء كانت شهوة للنساء، أو كانت شهوة العزوة للبنين ورعايتهم، أو كانت شهوة المال؛ فالمؤمن ينفقه في سبيل الله، والخيل أيضاً يستخدمها الإنسان في القتال لإعلاء كلمة الله.
ونلحظ أن هذه الآية - التي تعدّد أنواع الزينة - جاءت بعد الآية التي تتحدث عن الجهاد في سبيل الله والتي يقول الحق تبارك وتعالى فيها:
1314
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار﴾ [آل عمران: ١٣]
وذلك ليرشدنا إلى أن الإنسان المؤمن لا يصح أن يضحى بشهوته الحقيقية وهي إدراك الشهادة في سبيل الله أو النصر على العدو بسبب الشهوات الزائلة التي تتمثل في النساء، وفي البنين، وفي القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفي الخيل المسوَّمة والأنعام وقد قال الله عن الأنعام في سورة الأنعام: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾
[الأنعام: ١٤٣ - ١٤٤].
حساب ذلك هو إثنان من الضأن، وإثنان من الماعز، وإثنان من الإبل، وإثنان من البقر أي ثمانية أزواج. ولا يمكن حسابها على أنها ستة عشر كما قال البعض قديماً، لا؛ إن الزوج لا يعني اثنين من الشيء، ولكن الزوج واحد، ولكن يُشترط أن يكون مع غيره من جنسه. ومثال آخر هو كلمة «التوأم»، إن التوأم هو واحدٌ معه غيره، وهما توأمان، وهم توائم إذا كان العدد أكثر من اثنين.
والحق يقول في مجال زينة الشهوات: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء
1315
والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث» وحين تسمع كلمة «الحرث» فافهم أن المراد بها هنا الزرع، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تعلم أن الله حين يُنبت لك أشياء بدون معالجتك فإنه يريد منك أيضاً أن تَسْتنبت أشياء بمعالجتك، وهذا لا يتأتى إلا بعملية الحرث.
والحرث هو إهاجة الأرض؛ فالتربة تكون جامدة، فلا بد أن يهيّجها الإنسان بالحرث، أي أن تفك يبوستها - وتَلاَصُق ذراتها لأن تلاَصُقَ ذرات التربة لا يصلح أن يكون بيئة للنبات؛ لأن النبات يحتاج إلى الماء ويحتاج إلى الهواء، ويحتاج من الإنسان أن يُمهد للشعيرات البسيطة أن تخرج، وتجد تربة سهلة تتحرك فيها إلى أن تقوى.
إذن فالحرث يتثير الأرض، ويجعلها ليّنة مُتفتتة حتى تستطيع البذرة أن تنمو؛ لأن الله قد أودع في فلقتي كل بذرة مقومات الحياة الى أن يوجب لها جذر يأخذ مقومات الحياة من الأرض، وكلما قوى الجذر في النبات فإن الفلقتين تضمحلان، وتصيران مجرد ورقتين. فأين ذهب حجم الفلقتين؟
لقد قامت الفلقتان بتغذية النبتة إلى أن أستطاعت النبتة أن تتغذى بنفسها من الأرض، ولا يمكن حدوث ذلك إلا إذا كانت الأرض محروثة. ولذلك يقولون: إن الأرض الطينية السوداء تكون صعبة، وغير خصبة، ويقال: إن الأرض الرملية أيضاً غير خصبة، لماذا؟.
لأننا نريد صفتين اثنتين في الأرض: الصفة الأولى أن تكون الأرض صالحة أن يتخللها الماء ليشرب الزرع، والصفة الأخرى ألاّ تُسرب الماء بعيداً، فإذا كانت الأرض طينية فإن جذور الزرع تختنق وتتعفن، وإذا كانت رملية فإن الماء يتسرب بعيداً، لذلك نحتاج في الزراعة الى أرض بين سوداء ورملية، أي أرض صفراء. والله حين يتكلم عن الزرع فإنه يقول: «الحرث» وذلك حتى يلفتنا إلى أن من يريد أن يأخذ زرعاً لا بد أن يجدّ ويحرث الأرض. وهو سبحانه القائل: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون﴾ [الواقعة: ٦٣ - ٦٤].
1316
وعبِّر الحق عن الزرع بالحرث لأنه السبب الذي يُوجِد الزرع. وكل ما تقدم من الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، كل ذلك تكون قيمته عند الإنسان ما يوضحه الحق بقوله: «ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب».
إن كل ذلك هو متاع الحياة الدنيا، والفيصل هو أن الإنسان يخشى أن تفوته النعمة فلا تكون عنده، أو أن يفوتها فيموت. وكل ما يفوتك أو تفوته، فلا تعتز به. وعندما نتأمل الآية في مجموعها نجد أن فيها مفاتيح كل شخصية تريد أن تنحرف عن منهج الله، إنه سبحانه يقول:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب﴾ [آل عمران: ١٤]
هكذا نرى المفاتيح التي قد تجذب الإنسان لينحرف عن مراد الله في منهجه، إنه - سبحانه - يطلب من عبده المؤمن أن يبني حركة حياته على مراد الله، فما الذي يجعل المؤمن يترك مراد الله من حكم لينصرف إلى حكم يناقضه؟.
لا شك أنه الهوى، والهوى هو الذي يُميل ويُزيغ القلوب، ولكل هوى مفتاح، ولكل شخصية من المكلفين بمنهج الله مفتاح لهواه، فواحد مفتاحه النساء، وواحد مفتاحه البنون، يحب أن يرعاهم رعاية تفوق دَخْلَه من عمل أو صناعة مثلا فقد يسرق أو يرتشي ليسعد هؤلاء. وأناس مفاتيحهم الشخصية المال، أو في زينة الخيل، والعدة والعتاد فلكل شخصية مفتاح هوى.
والذين يدخلون على الناس ليُزيِّنوا لهم غير منهج الله يأتون لهم بالمفتاح الذي يفتح شخصياتهم، فربما كان هناك إنسان لا تُغريه نظرة المرأة أو ملايين الذهب إنما يتملكه حبه لأولاده وهو الهوى الغلاب.
1317
إذن فكل واحد له مفتاح لشخصيته، والذين يريدون إغراء الناس وغوايتهم يعرفون مفاتيح من يريدون إغراءه وإغواءه. وحين يقول الحق أنَ هذه الأشياء هي المُزَيِّنة للناس. قد يقول قائل: إذا كان الله يريد أن يصرفنا عن هذه الأشياء فلماذا خلقها لنا؟
وعلى هذا القول نرد: إن الحق مادام قد قال: ﴿زُيِّنَ﴾ وبناها - كما يقول النحاة - للمجهول إي لما لم يُسَمَّ فاعله، فمن الذي زيِّن؟ لقد كان الله قادرا أن يقول لنا من الذي زَيَّن تلك الأشياء تحديدا، لكن الحق يريد أن يعلمنا أنه من الممكن أن يكون الشيطان هو الذي يُزيّن لنا هذه الأشياء، ومن الممكن أن يكون منطق المنهج هو الذي يزين، ألم يقل الحق سبحانه دعاء على لسان عباده الصالحين: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾ [الفرقان: ٧٤].
إذن فما الفيصل في تلك المسألة؟ الفيصل في هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل نعمة من نعم الحياة عملا يعمله الإنسان فيها، فالمرأة إنما اتَّخَذَت سكنا أي ارتياحا عندها، ارتياحاً يعطيك كل الحنان والعطف، وهو سبحانه القائل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
[الروم: ٢١].
إن الحق يريد لنا أن يسكن الرجل إلى حلاله، وتصرف المرأة الحلال عَيْنَيْ زوجها عن أعراض الناس. لكن ماذا في الرجل الذي يُحب الأبناء؟ ألم يقل سيدنا زكريا: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً﴾ [مريم: ٤ - ٦].
1318
لقد طلب زكريا عليه السلام وليَّا يرثه، والأنبياء لا تُورث منهم أموال، إنما يُورِّثون العلم والحكمة، إذن فقد طلب زكريا عليه السلام أن يرث ابنه الحكمة منه ويرث من آل يعقوب وأن يجعله الله رضِيَّا. فلو كان الأنبياء يورِّثون المال، لكان البعض قد فهم أن طلب زكريا للإبن كي يرثه في المال، لكن الحق أراد لأنبيائه ألاّ يُورِّثوا المال، بل يورِّثون العلم بمنهج الله. وقد طلب زكريا الابن لتثبيت منهج الله في الأرض.
وكذلك الذي يريد الأموال لينفقها في سبيل الله، وكذلك الذي يريد الخيل ليروضها على الجهاد، وكذلك الذي يريد الحرث ليملأ بطون خلق الله بما يَطعَمُون منه، كل هؤلاء ينالهم المدح والثناء والجزاء الكثير من الله. لذلك يجب أن نعلم أن الحكم يأتي من الله مُحتملا أن تتجه به إلى الخير المراد لله، ومحتملا أن تتجه به إلى الشر المراد لنفسك. وأنت - أيها العبد - حين تنظر إلى أي شهوة من هذه الشهوات فلسوف تجد أنه من الممكن أن توجِّهها وِجهة خير. يقول الحق: ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾ [الفرقان: ٧٤].
لقد أراد الله للأتقياء والأنبياء أن يكون لهم من الذرية أبناء ليرثوا المنهج السلوكي ويكونوا مثلا طيبة للناس يقتدون بهم. إذن فالمؤمن يحب أن تكون ذريته قدوة سلوكية. والذي يحب الخيل يمكن أن يوجه هذا الحب إلى الخير، ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الشريف:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «مِنْ خير معاش الناس لهم رجل ممسك عِنَانَ فرسه في سبيل الله يطير على مَتنه كلما سمع هِيْعَة أو فَزْعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مَظَانَّة».
1319
وقد أمرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن نُروِّض الخيل، إذن فمن الممكن أن تكون هذه الأشياء مساراً للخير. وإياكم أن تفهموا أن الله يزهدنا فيها أو ينفرنا منها، ولكنه يزهدنا أن نستعمل ما خلقه لنا في غير مراده.
ولننظر إلى تعليق الله على الأشياء المُزينة: «ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا» أي أن الذي ينظر الى هذه الاشياء المزينة نظرة تقليدية سطحية سيجدها مجرد متاع، وما عمر هذا المتاع؟ إنه موقوت بالدنيا الفانية.
ولننظر إلى الإنسان عندما يُصَعِّدُ في عمله قيمة الخير، وتصعيد قيمة الخير يأتي من تنمية نوعه، أي الزيادة في نوع الخير، ومن استدامته، ومن أن الإنسان لا يترك هذا الخير.
إذن فتصعيد الخير يأتي على عدة صور تبدأ من تنمية الخير نفسه. واستدامة الخير فلا ينقطع، وضمان أن يحيا الإنسان للخير ويعيش له، وألاّ يذهب الخير عنه، وأمر رابع هو ألاّ تربط هذا الخير بأغيار، أي أن تربطه بواحد قوى يأتي لك به، فقد يضعف، أو يمرض، أو يغيب، أو يغدر بك.
إذن فلا بد من أربعة عناصر: الاول: تصعيد الخير، أي نوع الخير الذي تفعله يكون أرقى من خير آخر، فنعمل دائما على زيادته وتنميته. والثاني: استدامة الخير. والثالث: أن تدوم أنت للخير، وتحرص على أن تعيش له، والأمر الرابع: ألاّ تربط هذا الخير بالأغيار. بل عليك أن تعتمد على الله ثم على نفسك.
وكل خير يأتي دون هذا فهو خير غير حقيقي. فإذا نظرت إلى شهوات النساء والمال والبنين والخيل والأنعام والحرث فإنها ستعطيك متاع الدنيا. ولنسلم جدلا أن شيئا لن يسلبك هذه الأشياء وأنت حيّ، وأنها ستظل معك طيلة دنياك. فما قيمة الدنيا وهي مقاسة بآلاف السنين، والإنسان لا يعيش فيها إلا قدرا محددا من الأعوام يقرره الحق سبحانه وتعالى.
إذن فالدنيا تقاس بعمر الإنسان فيها لا بعمر ذات الدنيا لغيره، لأن عمر الدنيا لغيرك لا يخصك. هب أن هذه الشهوات من نساء ومال وبنين وخيل وذهب وفضة
1320
وحرث وأنعام وعدة وعتاد قد دامت لك، فما الذي يحدث؟ إن الدنيا محدودة. ولا أحد يستطيع أن يستديم الدنيا، لذلك فلن يستطيع أحد أن يستديم الخير لأن عمره في الدنيا محدود.
وحياة الإنسان في الدنيا لم يضع الله لها حداً يبلغه الإنسان. إن الله لم يحدد عمرا يموت فيه الإنسان، ولكنْ لكل إنسان عمْر خاصٌّ محدود بحياته، فعندما يولد أي طفل لا تنزل معه بطاقة تحدد عدد السنوات التي سوف يحياها في الدنيا.
وهو سبحانه قد جعل عدد سنوات الحياة مبهما لكل إنسان، ولذلك يقال إن الإبهام هو أعلى درجات البيان، الحق أخفى توقيت الموت وسببه عن الإنسان. متى يأتي؟ في أي زمان وفي أي مكان؟ كل ذلك أخفاه فأصبح على المؤمن أن يكون مترقبا للموت في كل لحظة.
إن الإبهام للموت هو البيان الوافي، وما دامت الدنيا مهما طالت فهي محدودة وغير مضمونة للإنسان أن يحياها، ونعيمه فيها على قدر إمكاناته وقدرته، وإن لم تذهب الدنيا من الإنسان فالإنسان نفسه يذهب منها. فإذا ما قارنت كل ذلك باسم الحياة التي نحياها الآن، إنّ اسمها «الدنيا» أي «السفلى» ومقابل «الدنيا» هو «العليا» وهي الحياة في الآخرة.
ولماذا هي «عليا» ؟ لأنها ستصعد الخير.
فبعد انقضاء هذه الحياة المحدودة يذهب المؤمن إلى الجنة وبها حياة غير محدودة، وهذا أول تصعيد. ويضمن المؤمن أن أكلها دائم لا ينقطع. ويضمن المؤمن أنه خالد في الجنة فلا يموت فيها. ويضمن المؤمن قيمة هذه الجنة؛ لأن الخير إنما يأتي على مقدار معرفة الفاعل للخير. ومعرفة الإنسان للخير جزئية محدودة، ومعرفة الله للخير كمال مطلق.
فالمؤمن في الآخرة يتنعم في الخير على مقدار ما علم الله من الخير. إذن فحياتنا هي الدنيا، أي السفلى، وهناك الآخرة العليا. فإذا طلب المنهج منا ألاّ ننخدع بالدنيا، وألاّ ننقاد إلى المتاع فهل هذا لون من تشجيع الحب للنفس أو تشجيع للكراهية للنفس؟
1321
إنه منهج سماوي يقود إلى حب النفس؛ لأنه يريد أن يُصَعِّد الخير لكل مؤمن، لقد بيّن المنهج أن في الدنيا ألوانا من المتع هي كذا وكذا وكذا، والدنيا محدودة ولا تدوم لإنسان، ولا يدوم إنسان لها، وإمكانات الإنسان في النعيم الدنيوي محدودة على قدر الإنسان، أما إمكانات النعيم في الآخرة فهي على قدر قدرة الخالق المربي، فمن المنطقي جدا أن يقول الله لنا: ﴿ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب﴾. وحسن المآب تعني حسن المرجع.
والحق حينما طلب منك أيها المؤمن أن تغض بصرك عما لا يحل لك، فقد يظن الإنسان السطحي أن في ذلك حجراً على حرية العين، ولكن هذا الغض للبصر أمر به - سبحانه - إنما ليملأ العين في الآخرة بما أحل الله، إذن فهذا حب من الله للمخلوق وهذا تصعيد في الخير.
ولنفترض أن معك مبلغا قليلا من المال وقابلت فقيرا مسكينا فآثرت أنت هذا الفقير على نفسك، فأنت تفعل ذلك لتنال في الآخرة ثوابا مضاعفا. إذن فقضية الدين هي أنانية عالية سامية، لا أنانية حمقاء. ويوضح الله بعد ذلك حسن المآب بقوله سبحانه: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم... ﴾
1322
وحين تسمع كلمة «أؤخبركم» فما نسمعه بعد ذلك كلام عادي، أما عندما نسمع «أَؤُنَبِّئُكُمْ» فما نسمعه بعدها هو خبر هائل لا يقال إلا في الأحداث العظام،
1322
فلا يقول أحد لآخر: سأنبئك بأنك ستأكل كذا وكذا في الغداء، ولكن يقال «أنا أنبئك بأنك نلت جائزة كبرى»، هذا في المستوى البشرى فما بالنا بالله الخالق الأعلى، ولذلك يقول الله الحق: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم﴾ [النبأ: ١ - ٢].
إنه الأمر الذي يقلب كيان هذه الدنيا كلها، فحين يقول الحق: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم﴾ فمعنى ذلك أن الله يخبرنا بخبر من هذه الأشياء، ومن ذلك نعرف أن الله قد جعل هذه الأشياء مقياساً، لماذا؟
لأنه مقياس محس، وأوضح لنا كيفية التصعيد فقال: ﴿لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ﴾ والمؤمن هو من ينظر بثقة إلى كلمة ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي الرب المتولى التربية والذي يتعهد المربيَِّ حتى يبلغه درجة الكمال المطلوب منه.
والعندية هنا هي عند الرب الأعلى. فماذا أعد المربي الأعلى للمتقين؟ لقد أعد لهم ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ ولنر الخيرية في هذه الجنات، وهي تقابلٍ في الدنيا الحرث والزرع، وقد قلنا: إن الحق حين تكلم عن الزرع تكلم واصفاً له ب «الحرث» لنعرف أن الزرع يتطلب منا حركة وعملاً.
أما في الآخرة فالجنات جاهزة لا تتطلب من المؤمن حركة أو تعباً، ولا يقف الأمر عند ذلك، بل إن هذه الجنات تجر من تحتها الأنهار وفيها للإنسان المؤمن ما وعده الله به: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ إنه الخلود الذي لا يفنى، ولا يتركه الإنسان ولا يترك هو الإنسانِ.
والأزواج المطهرة هي وعد من الله للمؤمنين، ومن يحب النساء في الدنيا يعرف أن المرأة في الدنيا يطرأ عليها أشياء قد تنفر، إما خَلْقاً تكوينياً، وإمَّا خُلًُقاً، فهناك وقت لا يحب الرجل أن يقرب فيه المرأة، وقد يكون فيها خصلة من الخصال السيئة فيكره الإنسان جمالها.
1323
لذلك فالرجل قد ينخدع بالمنظر الخارجي للمرأة في الدنيا، وقد يقع الإنسان في هوى واحدة فيجد فيها خصلة تجعله يكرهها، أما في الآخرة فالأمر مختلف، إنها ﴿أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ أي مطهرة من كل عيب يعيب نساء الدنيا، فيأخذ المؤمن جمالها، ولا يوجد فيها شرور الدنيا، فقد طهرها الله منها.
﴿وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ من الذي طهرها؟ إنه هو الله - سبحانه - طهرها خَلْقاً وَخُلُقاً. فالرجل في الدنيا قد يهوى إمرأة، وتستمر نضارتها خمسة عشر عاماً تستميله وتجذبه، ثم تبدأ التجاعيد والترهل والتنافر. أما في الآخرة فالمرأة مطهرة من كل شيء، وتظل على نضارتها وجمالها إلى الأبد، أليس هذا تصعيداً للخير؟ ونلاحظ أن الحق سبحانه ذكر هنا أمرين:
الأمر الأول: هو جنات تجري من تحتها الأنهار، ونقارن بينها وبين الحرث في الدنيا.
والأمر الآخر: هو الأزواج المطهرة، ونقارن بينها وبين النساء في الدنيا أيضا، ولم يورد الحق أي شيء عن بقية الأشياء، فأين القناطير المقنطرة من الذهب؟ وأين الخيل؟ وأين الأنعام وأين البنون؟
إننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل الأمرين المزينين، واحداً يستهل به الآية، والأمر الآخر يأتي في آخر الآية، ولنقرأ الآية التي فيها التزيين: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث﴾
إن البداية هي النساء، ذلك هو القوس الأول، والنهاية هي الحرث وذلك هو القوس الثاني، وبين القوسين بقية الأشياء المزينة، وقد أعطانا الله عوض القوسين، وأوضح لنا إنهما هما الخير الْمُصَعَّد، ولم يورد بقية الأشياء المزينة، وهذا يعني أن نفهم ذلك في ضوء أن الرزق ما به انتُفِعَ، أي أن كل ما ينتفع به الإنسان رزق، الخُلُق الطيب رزق سماع العلم رزق، أدب الإنسان رزق، حلم الإنسان رزق، صدق الإنسان رزق، ولكن الرزق يأتي مرة مباشرا بحيث تنتفع به مباشرة، ومرة أخرى يأتي الرزق لكنه لا ينفع مباشرة، بل قد يكون سببا ووسيلة لما ينفع مباشرة.
1324
مثال ذلك الخبز، إنه رزق مباشر، والنقود هي رزق، لكنها رزق غير مباشر؛ لأن الإنسان قد يكون جائعاً وعنده جبل من الذهب فلو قال واحد لهذا الإنسان: خذ رغيفا مقابل جبل من الذهب. سيعطي الإنسان الجائع جبل الذهب مقابل الرغيف؛ لأن الإنسان لا يأكل الذهب، وكذلك كوب الماء بالنسبة للعطشان.
إذن فهناك رزق لا يطلب لذاته، ولكن يطلبه الإنسان لأنه وسيلة لغيره فالوسيلة لغيره أنت لن تحتاج إليها في الآخرة؛ لأنك ستعيش ببدل الأسباب بقول الحق: «كن». فالإنسان لن يحتاج في الجنة إلى مال. أو قناطير مقنطرة من الذهب والفضة؛ لأن كل ما تشتهيه النفس ستجده، ولن تحتاج في الآخرة إلى خيل مسومة؛ لأنك لن تجاهد عليها أو تتلذذ وتستأنس بركوبها.
وكل ما لا تحتاج إليه في الآخرة من أشياء أعطاها لك الله في الدنيا لتسعى بها في الأسباب، ولم يورده الله في قوله: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ لم يوردها في النص الكريم، لأن عطاء الله في الآخرة بالرزق المباشر، أما الأشياء التي يسعى بها الإنسان إلى الرزق المباشر في الدنيا فلم يوردها لعدم الحاجة إليها في الآخرة، فنحن نحب المال، ولماذا؟ لأنه يحقق لنا شراء الأشياء، والخيل المسومة نحبها؛ لأنها تحقق لنا القدرة على القتال والجهاد في سبيل الله.
والأنعام؛ لتحقق لنا المتعة.
أما الجنة في الآخرة فالمؤمن يجد فيها كل ما تشتهيه الأنفس، وكل ما يخطر ببال من يرزقه الله الجنة سوف يجده؛ فالوسائط لا لزوم لها. لذلك تكلم الحق عن الأشياء المباشرة، فأورد لنا ذكر الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وذكر لنا الأزواج المطهرة.
وعندما نتأمل قول الحق: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم﴾ قد يقول قائل: ألم يَكن من المنطق أن يخبرنا الحق مباشرة بما يريد أن يخبرنا به، بدلاً من أن يسألنا: أيخبرنا بهذا الخير، أم لا؟
1325
ونقول: أنت لم تلتفت إلى التشويق بالأسلوب الجميل، وحنان الله على خلقه. إنه سبحانه وتعالى يقول لنا: ألا تريدون أن أقول لكم على أشياء تفضل تلك الأشياء التي تسيركم في الدنيا. فكأن الحق سبحانه وتعالى قد نبه من لم ينتبه. ولم ينتظر الحق أن نقول له: قل لنا يارب.
لا، إنه يقول لنا دون طلب منا، ويقال عن هذا الأسلوب في اللغة إنه «استفهام للتقرير»، فالإنسان حين يسمع: ﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم﴾ فالذهن ينشغل، فإن لم يسمع النبأ، فلسوف يظل الذهن مشغولاً بالنبأ، ويأتي الجواب على اشتياق فيتمكن من نفس المؤمن.
ويأتي النبأ ﴿لِلَّذِينَ اتقوا﴾، فعندما نمعن النظر في الشهوات التي تقدمت من نساء وبنين وقناطير مقنطرة من ذهب وفضة وخيل مسومة وأنعام وحرث، ألا يكون من المناسب فيها أن يتقي الإنسان ربه في مجالها؟
إن التقوى لله في هذه الأشياء واجبة، ولذلك قلنا من قبل قضية نرد بها على الذين يريدون أن يجعلوا الحياة زهداً وانحساراً عن الحركة، وأن يوقفوا الحياة على العبادة في أمور الصلاة والصوم، وأن نترك كل شيء. لهؤلاء نقول: لا؛ إن حركتك في الحياة تعينك على التقوى؛ لأننا عرفنا أن معنى التقوى هو أن يجعل الإنسان بينه وبين النار حجاباً، وأن تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية. فإذا ما أخذت نعم الله لتصرفها في ضوء منهج الله فهذا هو حسن استخدام النعم.
وقد أوضحت من قبل أن التقوى حين تأتي مرة في قول الحق: ﴿اتقوا الله﴾ وتأتي مرة أخرى ﴿اتقوا النار﴾ فهما ملتقيان؛ فاتقاء النار حتى لا يصاب الإنسان بأذى، وعندما يتقي الإنسان الله فهو يتقي غضب الله؛ لأن غضب الله يورد العذاب، والعذاب من جنود النار. إذن فالذين يتقون الله لا يظنون أنهم زهدوا في هذه الحياة لذات الزهد فيها، ولكن للطمع فيما هو أعلى منها، إنه الطمع في النعيم الأخروي الدائم.
ويوضح الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: أنكم لن تتمتعوا في الآخرة لضرورة
1326
الحاجة للمتعة، بحيث إذا ما جاءت النعمة عليكم تفرحون بها، إن الأمر لا يقتصر على ذلك وإنما يتعداه إلى أنكم - أيها المؤمنون - تحبون فقط أن تروا المنعم، فمادام المؤمن الذي يدخل الجنة يجد كل ما يشتهي بل إنه لا يشتهي شيئا حتى يأتيه، ويستمتع على قدر عطاء الله وقدراته.
وإذا لم يشته الإنسان ثماراً في الجنة أو نساء، ويصبح مشغولاً برؤية ربه فإن مكانه جنة من الجنان اسمها «عليّون» و «عليّون» هذه ليس فيها شيء مما تسمعه عن الجنة، ليس فيها الا أن تلقى الله. إن الرزق والنعم ليسا من أجل قوام الحياة في الجنة، بل إن الإنسان سيكون له الخلود فيها؛ فالذي يحتاج إليه الإنسان هو رضوان من الله.
إن رضواناً من الله أكبر من كل شيء. ولقد نبأنا الله بما في الجنات، ونبأنا بالخير من كل ذلك. لقد نبأنا الله بأن رضوانه الأكبر هو أن يضمن المؤمن أنْ يظفر برؤية ربّه. وهذا ما يقول في الله. ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣].
إذن فهناك في الجنة مراتب ارتقائية. ويخبرنا الحق من بعد ذلك: ﴿والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ أي أن الله سيعطى كل إنسان على قدر موقفه من منهج ربه، فمن أطاع الله رغبة في النعيم بالجنة يأخذ جنة الله، ومن أطاع الله لأن ذات الله أهل لأن تطاع فإن الله يعطيه متعة ولذة النظر إليه - سبحانه - تقول رابعة العدوية في هذا المعنى:
كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظا جزيلاً
إنِنّي لست مثلهم ولهذا لست أبغي بمن أحب بديلا
وقالت أيضاً: اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فادخلني فيها، وإن كنت تعلم أني أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، إنما أعبدك لأنك تستحق أن تُعبد.
1327
إذن ف ﴿الله بَصِيرٌ بالعباد﴾ أي أنه سيعطي كل عبد على قدر حركته ونيته في الحركة؛ فالذي أحب ما عند الله من النعمة فليأخذ النعمة ويفيضها الله عليه. أما الذي أحب الله وإن سلب منه النعمة، فإن الله يعطيه العطاء الأوفى، وذلك هو مجال مباهاة الله لملائكته.. ومن أقوى دلائل الإيمان وكماله.. إيثار محبة الله ورسوله على كل شيء في الوجود:
عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: مّنْ كان الله ورسوله أحبُّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يَقَذف في النار» إن هناك العبد الذي يحب الله لذاته؛ لأن ذاته سبحانه تستحق أن تعبد، فذات الله تستحق العبادة؛ لأنه الوهاب، الذي نظم لنا هذا الكون الجميل.
إذن فقوله الحق: ﴿والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ يعني أن الله يعلم مقدار ما يستحق كل عابد لربه، وعلى مقدار حركته ونيته في ربه يكون الجزاء، فمن عبد الله للنعمة أعطاه الله النعمة المرجوة في الجنة ليأخذها، ومن أطاع الله لأنه أهل لأن يطاع وإن أخذت - بضم الألف وكسر الخاء - النعمة منه فإن الله يعطيه مكاناً في عليين.
ولذلك قيل: إن أشد الناس بلاء هم الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل. لماذا؟ لأن ذلك دليل صدق المحبة. والإنسان عادة يحب من يحسن إليه، ولا يحب من تأتي منه الإساءة إلا إن كانت له منزلة عالية كبيرة. إنه مطمئن إلى حكمته، إنه ابتلاه - وهو يعلم صبره - ليعطيه ثوابا جزيلا وأجرا كبيرا، والحق يقول: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً﴾ [الكهف: ١١٠].
لقد قال: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ﴾ ولم يقل جنة ربه وهكذا يجب ألا تشغلنا النعمة - الجنة - عن المنعم وهو الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الحق قد طلب منا ألا نشرك بعبادة ربنا أحداً فلنعلم أن الجنة أَحَدٌ.
1328
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا... ﴾
1329
إن قولهم: ﴿رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا﴾ هو أول مرتبة للدخول على باب الله، فكأن الإيمان بالله يتطلب رعاية من الذي تلقى التكليف لحركة تفسه، لأن الإيمان له حق يقتضي ذلك، كأن المؤمن يقول: أنا ببشريتي لا أستطيع أن أوفى بحق الإيمان بك، فيارب اغفر لي ما حدث لي فيه من غفلة، أو من زلة، أو من كبر، أو من نزوة نفس.
وهذا الدعاء دليل على أنه عرف مطلوب الإيمان كما أوضحه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بيانه لمعنى الإحسان حين قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
كأن تستحضر الله في كل عمل؛ لأنه يراك.
وهل يتأتى لواحد من البشر أن يجترئ على محارم من يراه بعينه؟ حينئذ يستحضر المؤمن ما جاء إلينا من مأثور القول، فكأنه سبحانه وتعالى يوجه إلينا الحديث: يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم. وكنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟
وكأن الحق سبحانه يقول للعبد: هل أنا أقل من عبيدي؟ أتقدر أن تسيء إلى أحد وهو يراك؟ إذن فكيف تجرؤ على الإساءة لخالقك؟
إن قول المؤمنين: ﴿إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا﴾ دليل على أنهم علموا أن الإيمان مطلوباته صعبة. ﴿الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾
1329
فلنر على ماذا رتبوا غفران الذنب؟ لقد رتبوا طلب غفران الذنب على الإيمان. لماذا؟ لإنه مادام الحق سبحانه وتعالى قد شرع التوبة، وشرع المغفرة للذنب، فهذا معناه أنه سبحانه قد علم أزلا أن عباده قد تخونهم نفوسهم، فينحرفون عن منهج الله.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله على ألسنة المؤمنين: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النار﴾ لأنه ساعة أن أعلم أن الحق سبحانه وتعالى ضمن لي بواسع مغفرته أن يستر عليّ الذنب، فإن العبد قد يخجل من ارتكاب الذنب، أو يسرع بالاستغفار.
ولماذا لا يكون قوله ﴿فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ بمعنى استرها يارب عنا فلا تأتي لنا أبدا؟ وإن جاءت فهي محل الاستغفار والتوبة. فإذا أذنبت ذنبا، واستغفرت ربي، وعلمت أن ربي قد أذن بالمغفرة؛ لأنه قال: ﴿فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾ [نوح: ١٠].
فإن الوجل يمتنع، والخوف يذهب عني، وأقبل على الله بمحبة على تكاليفه وأحمل نفسي على تطبيق منهج الله كله. ولذلك حينما شرع الله الحق سبحانه وتعالى للخلق التوبة كان ذلك رحمة أخرى. وهذه الرحمة الأخرى تتجلى في المقابل والنقيض.
هب أن الله لم يشرع التوبة وأذنب واحد ذنبا، وبمجرد أن أذنب ذنبا خرج من رحمة الله فماذا يصيب المجتمع منه؟ إن كل الشرور تصيب المجتمع من هذا الإنسان لأنه فقد الأمل في نفسه، أما حينما يفتح الله له باب التوبة فإن ارتكب العبد ذنبا ساهيا عن دينه، فإن يرجع إلى ربه.
وتلك واقعية الدين الإسلامي، فليس الدين مجرد كلام يقال، ولكنه دين يقدر الواقع البشري، فإنه - سبحانه - يعلم أن العباد سيرتكبون الذنوب، فيرسم لهم أيضا طريق الإستغفار. وإذا ما ارتكب العباد ذنوبا، فإن الحق يطلب منهم أن يتوبوا عنها. وأن يستغفروا الله. فإذا ما لذعتهم التوبة حينما يتذكرون الذنب فإن هذه اللذعة كلما لذعتهم أعطاهم الله حسنة.
1330
كأن غفران الذنب شيء، والوقاية من النار شيء آخر. كيف؟ لأنه ساعة أن يعلم العبد أن الحق سبحانة وتعالى ضمن للعبد مغفرته، وهو الخالق المربي، فإن العبد يذهب إلى الله مستغفرا طامعا في المغفرة والرحمة. إنها دعوة المؤمنين إن كانوا قد نسوا أن يستغفروا لأنفسهم. لماذا؟ لأن الاستغفار من الذنب تكليف من الله. وكما قلنا: إن الإنسان قد ينسى بعضا من التكاليف، لذلك فمن الممكن أن يسهو عن الاستغفار، ولذا يقول الحق على ألسنة عباده المؤمنين: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النار﴾.
ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقاية، أو تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية، فإذا ما أخذت النعم من الله لتصرفها في منهج الله تكون حسنة لك، وقلنا: إن «اتقوا الله» و «اتقوا النار» ملتقيتان، لأن معنى «اتقوا النار» كي لا تصيبكم بأذى، «اتقوا الله» تعني أن نضع بيننا وبين غضب الله وقاية، لأن غضب الله سيأتي.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين....﴾
1331
وهذه كلها صفات للذين اتقوا الله، وأعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والأزواج المطهرة، ورضوان من الله أكبر، وهم صابرون وصادقون وقانتون ومنفقون في سبيل الله، ومستغفرون بالأسحار.
وصابرون على ماذا؟ إنهم صابرون على تنفيذ تكاليف الله، لأننا أول ما نسمع عن التكليف فلنعلم أن فيه كلفة ومشقة والتكاليف الشرعية فيها مشقة لأنها قيدت حرية العبد.
لقد خلقك الحق خلقا صالحا لأن تفعل كذا أو لا تفعل. فساعة يقول لك:
1331
افعل.. فإنه قد سد عليك باب «لا تفعل» وساعة يقول لك الحق: لا تفعل فإنه يكون قد سد عليك باب «افعل»، وهكذا يكون تقييد حركتك وتقييد المخلوق على هيئة الإختيار فيه مشقة، فإذا ما جاء أمر الله ب «افعل» فقد يكون الفعل في ذاته شاقا، فإن صبرت على مشقة الفعل الذي جاء بوساطة «افعل» فأنت صابر، لأنك صبرت على الطاعة.. وقد تصبر عن المعصية، عندما يلح عليك شيء فيه غضب الله فترفض أن ترتكب الذنب، فتكون قد صبرت عن ارتكاب الذنب.
إذن ففي «افعل» صبر على مشقتها، وفي «لا تفعل» صبر عنها، فالصابرون لهم اتجاهان اثنان، لأن التكليف إما أن يكون بافعل، وإما أن يكون بلا تفعل. فساعة يأتي التكليف بافعل فقد تأتي المشقة.. وعندما تنفذ التكليف بافعل فأنت قد صبرت على المشقة.. وعندما يأتي التكليف ب «لا تفعل» كأمر الحق بعدم شرب الخمر، أو «لا تسرق» فأنت قد صبرت عنها.. إذن ف «افعل» ولا «تفعل» قد استوعبت نَوْعَيْ التكليف، وبقيت بعد ذلك أحداث لا تدخل في نطاق افعل ولا تفعل، وهي ما ينزل عليك نزولا قدريا بدون اختيار منك بل هي القهرية والقسرية.
فساعة أن يطلب منك أن تفعل، أي إنه قد خلقك صالحا ألا تفعل كما قلنا من قبل. إلاّ إن كنت مجبرا على الفعل فقط. وكذلك إذا قال لك الحق: «لا تفعل». والشيء القدرى الذي لا صلاحية فيه للاختيار ماذا يفعل فيه المؤمن؟ إنه يصبر على الآلآم والمتاعب لأنه آمن بالله ربا، والرب هو الذي يتولى تربية المربي لبلوغه حد الكمال المنشود له فإذا جاء لك الحق بأمر لا خيار لك فيه، كالمرض أو الكوارث الطارئة، كوقوع حجر من أعلى أو إصابة برصاصة طائشة، فكل ذلك هي أمور لا دخل ل «افعل» ولا «تفعل» فيها.
وهناك يكون الصبر على مثل هذه الأمور هو الإيمان بحكمة من أجراها عليك. لأن الذي أجراها رب، وهو الذي خلقني فأنا صنعته.
وما رأينا أحدا يفسد صنعته أبدا. فإذا ما جاء أمر على الإنسان بدون اختيار منه، فالذي أجراه له فيه حكمة فإن صبر الإنسان على هذه الآلام فإنه يدخل في باب الصابرين.
إذن فالصابرون أنواع هم: صابر على الطاعة ومشاقها، صابر على المعاصي
1332
ومغرياتها، وصابر على الأحداث القدرية التي تنزل عليه بدون اختيار منه. وإذا رأيت إنسانا قد صبر على أمر الطاعة وصبر عن شهوة المعصية وصبر على الأقدار النازلة به، فاعرف حبه لربه ورضاه عنه.
ونأتي بعد ذلك لوصف آخر يقول الله فيه: ﴿الصابرين﴾ ﴿والصادقين﴾.
والصدق كما نعلم يقابله الكذب، والصدق كما نعرف حقيقته: يأتي حين توافق النسبة الكلامية التي يتكلم بها الإنسان، النسبة الأخرى الخارجية الواقعة في الكون.
فإن قلت: «حصل كذا وكذا» فتلك نسبة كلامية صدرت من متكلم، فإن وافقها الواقع بأنه حصل كذا وكذا فعلا يكون المتكلم صادقا. وإن لم يكن الواقع موافقا لحدوث ما أخبر به يكون المتكلم كاذبا. لماذا؟ لأن كلام المتكلم العاقل لا بد له من نسب ثلاث:
الأولى وهي النسبة الذهنية: فقبل أن أتكلم أعرض الأمر على ذهني، وذهني هو الذي يعطي الإشارة للساني ليتكلم، هذه هي النسبة الأولى واسمها «نسبة الذهن». وقد يعن لي أن تأتي النسبة الذهنية ثم أعدل عنها فلا أتكلم، فتكون النسبة الذهنية قد وُجِدت، والنسبة الكلامية لم توجد.
وقد أصر على أن أبرز إشارة ذهني على لساني فأقول النسبة الكلامية. ونأتي بعد النسبة الكلامية لنرى: هل الواقع أن ما حدث وتحدثت به وقع أم لم يقع؟ فإن كان قد وقع، يكون الكلام مني صدقا. وإن لن يكن قد وقع، وكانت النسبة الخارجية على عكس ما أخبرت به. فإننا نقول: «هذا كلام كذب» إذن: فالصدق: هو أن تطابق النسبة الكلامية الواقع. والكذب: هو ألا تطابق النسبة الكلامية الواقع وكثيرا ما يخطىء الناس في فهم الواقع فيجدون تناقضا في بعض الأساليب.
مثال ذلك، حينما تعرض بعض المستشرقين لقول الحق سبحانه وتعال: ﴿إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾ [المنافقون: ١]
1333
تلك نسبة كلامية صدرت منهم، فهل هي مطابقة للواقع أم هي مخالفة له؟ إنها مطابقة للواقع. ويؤكد الحق ذلك بقوله: ﴿والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ [المنافقون: ١].
بعد ذلك يقول الحق سبحانة: ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١].
فقيم كذب المنافقون؟ هل كذبوا في قولهم: ﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾ ؟ لا. إن الحق لم يكذبهم في قولهم: ﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾ ؛ لأن الله قد أيد هذه الحقيقة بقوله ﴿والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾.
ولكن كذبهم الله فيما سها عنه المستشرق الناقد عندما قالوا: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾. لقد كذبهم الله في شهادتهم، لا في المشهود به، وهو أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول من الله، إن الله يعلم أن محمدا رسوله المبعوث منه رحمة للعالمين، لكن الكذب كان في شهادتهم هم.
إن كلام المنافقين مردود من الله. لماذا؟ لأن الشهادة تعني أن يواطئ اللسان القلب ويوافقه. وقولهم: شهادة لا توافق قلوبهم وتعنى كذبهم.
إذن، فالتكذيب هو لشهادتهم، فلو قالوا: ﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾ دون «نشهد» لكان قولهم: قضية «سليمة». ولذلك كان تكذيب الله لشهادتهم، ومن هنا ندرك السر في قول الله: ﴿والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾. إن الحق يؤكد الأمر المشهود به وهو بعث محمد رسولا من عند الحق، وبعد ذلك يأتي لنا الحق بشهادته إن المنافقين كاذبون في قولهم: «نشهد». فالصدق أن تطابق النسبة الكلامية الواقع. والصدق - كما قلنا من قبل - حق، والحق لا يتعدد، وضربت من قبل المثل بأن الإنسان الذي نطلب منه
1334
أن يروي واقعة شهدها بعينيه، وأن يحكيها بصدق لن يتغير كلامه أبدا، مهما تكرر القول؛ أو عدد مرات الشهادة. لكن إن كانت الواقعة كذبا، فالراوي تختلط عليه أكاذيبه، فيروي الواقعة بألوان متعددة لا اتساق فيها، وقد ينسي الراوي الكاذب ماذا قال في المرة الأولى، وهكذا ينكشف سر الكذب. لكن الراوي عن واقع مشهود وبصدق، هو الذي يحكى، وهو الذي لا تختلف رواياته في كل مرة عن سابقتها بل تتطابق.
فعندما نقول: «إن زيدا مجتهد»، فهذا يعني أن اجتهاد زيد قد حدث أولا، ثم يأتي في ذهن من رأى اجتهاد زيد أن يخبر بأمر اجتهاده، ثم يخبر بالكلام عن اجتهاد زيد. إن الأمر الخارج وهو اجتهاد زيد قد حدث أولا، وبعد ذلك تأتي النسبة الذهنية، وبعد ذلك تأتي النسبة الكلامية.
ولكن الإنشاء وهو ضد الخبر، هو أن نطلب من واحد أن ينشئ أمرا لا واقع له، كأن نقول لواحد: اجتهد. إننا قبل أن نقول لإنسان ما: «اجتهد» فمعنى ذلك أن الإجتهاد كان أمرا في ذهن القائل، وعندما ينطقها تصبح «نسبة كلامية». وبعد ذلك يحدث الواقع، بعد النسبة الذهنية، والنسبة كلامية، وهذا هو الإنشاء.
إن الإنشاء الطلبي يعني أن تحدث النسبة الخارجية بعد النسبة الكلامية. والصادقون هم الذين أراد الله أن يمدحهم، لماذا؟ وأين هو مجال صدقهم؟ إنهم الذين تتطابق حركتهم مع منهج الله، لأنهم حين قالوا: «لا إله إلا الله»، وآمنوا به، فهم قد التزموا بكل مطلوبات الإيمان قدر الطاقة. ومعنى «لا إله إلا الله» أي لا معبود إلا الله. ومعنى إلا الله أي أنه لا طاعة إلا لله.
والطاعة - كما نعرف - هي امتثال أمر، وامتثال نهي.
إذن فمجال «لا إله إلا الله» يشمل أنه لا معبود بحق إلا الله، ولا مُطاع في تكليفه إلا الله، ولا امتثال لأمر أو لنهي إلا للأمر القادم من الله؛ فإن امتثال إنسان الأمر من الله بعد قوله: «لا إله إلا الله» كان هذا الإنسان صادقا في قوله: «لا إله إلا الله».
وهذا هو صدق القمة، أن تكون كل تصرفات قائل: «لا إله إلا الله» متطابقة
1335
مع هذا القول. والمؤمن الحق هو من يبني كل تصرفاته موافقة لمنهج الله. هذا هو الإنسان الصادق. أما الذي يقول بلسانه: «لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله» ثم يخالف ربه بعصيانه له، لنا أن نقول له: أنت كاذب في قولك «لا إله إلا الله» لماذا؟ لأنه لم يطابق النسبة التي قالها. إن هذا الإنسان إذا آمن بأي تكليف ثم فعل ما يناقضه قلنا له: أنت منافق، لماذا؟ لأننا عندما تكلمنا في أول سورة البقرة عن المنافقين قلنا: إن المؤمن حين يؤمن بالله يكون صادقا مع نفسه؛ لأنه قال: «لا إله إلا الله» وهو مؤمن بها، والكافر حين ينكر الألوهية يكون صادقا مع نفسه أيضا.
أما المنافق فهو لا يصدق مع نفسه، ولا يصدق مع الناس، إنه مذبذب بين هؤلاء وهؤلاء. إن المنافق بلا صدق مع النفس، ولذلك يصفهم الحق: ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء﴾ [النساء: ١٤٣].
إن الكافر له صدق مع النفس فهو لا يقول: «لا إله إلا الله» لأنه لا يعتقدها. أما المنافق فقد قال: «لا إله إلا الله» وهي غير مطابقة لسلوكه، لذلك يكون غير صادق مع نفسه، وغير صادق مع ربه. إذن، فقول الحق: ﴿والصادقين﴾ مقصود به هؤلاء الناس الذين يأتون في كل حركاتهم صادرين عن منهج الله، فلا يؤمنون بقضية، ويفعلون أخرى. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢ - ٣].
أي أنه حين يكون القول شيئا مختلفا عن الفعل، لا تتطابق النسبة. فالصادقون هم الذين يصدقون في سلوكهم مع كلمة التوحيد في كل ما تتطلبه هذه الكلمة من هذه السلسة: «لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله» أي لا مطاع في أمر أو نهي إلا الله، فإن جئت وطاوعت أحدا في غير ما شرع الله يحق للمؤمنين أن يقولوا لك: أنت كاذب في قولك: «لا إله إلا الله».
1336
«فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
هذا هو سمو الإيمان عند المؤمن، إن المؤمن لا يمكن أن يكذب أو يخالف مقتضيات عقيدته؛ لأن المؤمن في كل تصرفاته خاضع لإيمانه بأنه لا إله إلا الله.
ثم يقول الحق: ﴿والقانتين﴾ والقانت: هو العابد بخشوع وباطمئنان وباستدامة. والقانت صادق مع نفسه، لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف عباده تكليفا، فقد يكلفهم بشيء يعز على أفهامهم أن تدرك حكمته.
وأقبل القانتون من العباد على هذا التكليف؛ لأن الذي أمرهم به إله قادر، فهم يثقون في حكمته فأدُّوا الأمر الصادر إليهم لأنهم خاضعون لحكمة الله.
إنهم منفذون للأمر القادم من الآمر لا لعلة الأمر. وبعد أن يصنعوا ذلك؛ يريهم الله نورانية هذا الحكم بأن يعطيهم فرقانا في أنفسهم: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم﴾ [الأنفال: ٢٩].
فيقول المؤمن منهم لنفسه بعد أن يرى هذا الفرقان: إن الله قد أراد لي بهذا الأمر أن أدرك حلاوة طاعة هذا الأمر، لذلك قال أحد العارفين بالله:
إن كنت تريد أن تعلم عن الله حكما كلفك الله به دون أن تعلم علته فاتق الله فيه، وحين تتقي الله في هذا الأمر، فإنك تجد الحكمة مستنيرة في ذهنك، ولذلك يقول الله:
1337
﴿واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٨٢].
فكأنك قبل التقوى لم يعلمك الله، أما بعد التقوى فإن الله يعلمك، فتقبل على تنفيذ التكليف لتلمس إشارة في نورانية نفسك، وهذا هو الفارق بين الأمر من المساوى، والأمر من الأعلى. وعندما ترتقي كلمة «الأعلى»، فإنها لا تنطبق إلا على الأعلى المطلق وهو الله، لأنه الأعلى في الحكمة، والأعلى في المنزلة، والأعلى في المكانة، والأعلى في الربوبية.
إذن، فالإنسان لا يطلب علة حكم إلا من مساو له، فإن قال لك أحد من البشر: افعل الشيء الفلاني. فإنك تسأله: لماذا؟ فإن أقنعك، فأنت تقوم بالفعل. وتكون قد قمت بتنفيذ هذا الفعل؛ لأن المساوى لك قد أقنعك بالحكمة لا بالطاعة له.
ولكن عندما يصدر الأمر من الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى، فإنك أيها العبد المؤمن تنفذ الأمر فورا عشقا في طاعته. والمثال الذي أضربه للتقريب لا للتشبيه، فالله الأعلى، وهو منزه عن كل شبيه، إن الأب يقول للابن في حياتنا اليومية: إن نجحت في المدرسة فسأحضر لك هدية هي الدَّراجة. فهل معنى ذلك أن علة الذهاب إلى المدرسة هي الحصول على الدراجة كهدية؟ لا، ليست هذه هي العلة، إن العلة عند الأب هي أن يتعلم الابن ويتفوق في حياته، ويكبر، وعند ذلك يدرك العلة، ويقول لنفسه: لقد كان أبي على حق.
إذا كان هذا يحدث في الحياة بيننا نحن البشر، فكيف لنا بطاعة الأمر الصادر من الله؟ إن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف العبد تكليفاً، فإن العبد قد يجد مشقة في فهم العلة. والعبد المؤمن يعرف أن الرضوخ لتكليف الحق إنما هو خضوع للأمر الأعلى.
إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن بمن هو أعلى منه وأعلى من كل كائن، ولا يساويه أحد، إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن أولا بأن الله هو الإله الواحد - سبحانه - له مطلق
1338
الحكمة، وله القوة وله كل شيء في الكون، وسبق أن ضربت المثل - ولله المثل الأعلى.
إن الإنسان قد يمرض، وصحة الإنسان أثمن شيء عنده، فيفكر في الذهاب إلى طبيب، ويقول له: إنني أتعب من معدتي، أو من قلبي أو من أمعائي. إنه يحدد ما يشكو منه. وعقل الإنسان هو الذي هداه إلى الطبيب الذي يشخص العلة، وبعد ذلك يأخذ المريض من الطبيب ورقة مكتوباً فيها الأدوية اللازمة. إن الإنسان يتناول كل دواء من هذه الأدوية دون أن يسأل الطبيب عن حكمة كل دواء؛ لأنه لو سأل عن ذلك فهذا معناه الدخول في متاهة كيماوية، فإن سأل أي إنسان ذلك المريض: لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فيجيب المريض: لأن الذي كتب لي هذا الدواء هو الطبيب المختص بعلاج المعدة، أو القلب، أو الأمعاء أو أي عضو يشكو منه الإنسان.
والطبيب قد يخطىء، إنما حكم الله لا يخطئ أبدا، فهو جل شأنه منزه عن الخطأ تماما. إن الحكمة تكون عند الحق سبحانه وتعالى، وعندما ينفذ المؤمن مطلوب الله فإنه يدرك آثار الحكمة الربانية في نفسه. وكلمة «قانتين» كما عرفنا هي وصف لمن يعيشون القنوت، والقنوت هو عباده مع خضوع، وخشوع واستدامة. لماذا الخضوع، والخشوع؟
لأن الله جل وعلا لم يشرع العبادة لينفذها الإنسان، وينقذ نفسه من عذاب النار، لا؛ إننا نرى كثيرا من الناس - إذا ما لا حظنا واقع الحياة - إذا وجدوا رئيسا قوى الشكيمة وقوانينه صارمة في أن الموظفين تحت يده يجب أن يحضروا صباحا في الميعاد المحدد، وأن ينصرفوا في الميعاد المحدد، ولا يسمح لهم بالاشتغال بغير العمل، فلا يشربون الشاي، ولا يقرأون الصحف ولا يقابلون الأصدقاء، وغير ذلك من الأعمال. ويأتي واحد من الموظفين فيقول عن هذا الرئيس «إنه شديد المراس، ولذلك فليس له عندي إلا أن أحضر في الثامنة إلا خمس دقائق، ولن أنصرف إلا في الثانية وخمس دقائق، ولن أقرأ الصحف ولن أفعل أي شيء مما يمنعه». إن هذا الموظف يفعل ذلك بجبروت واستعلاء على رئيسه حتى لا يسمح له بنقد أو تجريح، فهذا الموظف ممتثل ولكن باستعلاء.
1339
إنها طاعة بلا حب، ولكنها باستعلاء. وقد يحاول عبد أن يقول: ماذا يطلب الله مني؟ ألا يطلب منى الصلاة والزكاة وإقامة العبادات؟ سوف أفعل ذلك. لمثل هذا العبد نقول: لا، إن الله يطلب العبادة بحب منك وخشوع واطمئنان، لأن التكليف من الحق صدقة أخرى أجراها الله على العبد. إن الحق سبحانه وتعالى قد كلف العبد بالتكاليف الإيمانية، حتى يكون الإنسان سويا وله قيمة في الحياة.
إن معنى «قانت» هو العبد الذي يؤدي عبادة ربه بخشوع، وباطمئنان، وباستدامة. لماذا؟ لأن الذي يقبل على الطاعة ثم ينصرف عنها كأنه قد جرب وده لله فلم يجد الله أهلا للود. أما العبد الطائع فهو لا ينصرف عن العبادة، لأنه ذاق حلاوة استدامة العبادة لله، ومادام قد أدرك حلاوة العبادة فهو يقبل عليها بخشوع، واطمئنان، واستدامة، ويدخل في دائرة القانتين.
وبعد «القانتين» يقول الله سبحانه: ﴿والمنفقين﴾ وكلمة أنفق و «نفق»، مأخوذة من كلمة «نفق الحمار» أي مات، و «ونفقت السوق» أي انتهت بضائعها واشتراها الناس ولم يبق منها شيء. و «نفقة» مأخوذة من هذا المعنى لتشعرنا بأن الإنسان حين ينفق فهو يُميت ما أنفقه من نفسه، فلا يتذكر أنه أنفق على فلان كذا، وعلى علان كذا، أي يعلم يقينا أن ما أنفقه هو رزق من أنفقه عليهم وليس له إلا أجر إيصاله إليهم فلا مَنّ، ولا إذلال.
إن الله يريد من كل إنسان يُخرج شيئا من ماله أن ينهى من ذهنه هذا الشيء الذي خرج من المال فلا يذكره ولا يَمُنّ به على أحد. «والنفقة»، تقتضي وجود منفق، ومنفقا عليه، ومنفقاً به، المنفق كما نعرف هو المؤمن الذي عنده فضل مالٍ، والمنفق عليه هو الفقير، والمنفَق به هو الخيرات.
ومن أين تأتي هذه الخيرات؟ إنها تأتي نتيجة الحركة في الحياة، وحركة المتحرك في الحياة تقتضي قدرة، فإذا كان الإنسان عاجزا، ولا يجد القدرة على الحركة، فمن أين يعيش، إن الله لا بد أن يضمن له في حركة القادر ما يعوله.
لقد جعل الله القدرة عرضا من أعراض الحياة، فالقادر اليوم قد يصير عاجزا غدا. ومادامت القدرة عرضا من أعراض الحياة، فالقادر الآن عندما يسمع الأمر
1340
من الله بأن ينفق على غير القادر، فلابد أن يُقدر في نفسه أن قدرته هي عرض من أعراض الحياة، والقادر الآن من الأغيار، لذلك فهو عرضة لأن يصير غدا من العاجزين، ويقول القادر لنفسه: «عندما أصبح عاجزا سوف أجد من يعطيني». أليس ذلك هو التأمين الحق؟ إنه تأمين المؤمن. إن المؤمن يعطي عند قدرته، وذلك حتى يجنبه الله مشقة السؤال إن جاءت الأغيار، لأن الأغيار إن جاءت سوف يجد من يعطيه.
إننا يجب أن نلحظ في الحكم، لا ساعة أن تطالب أنت بأداء مطلوب الحكم، ولكن ساعة أن يؤدي الغير إليك مطلوب الحكم. فالذي يطلب منه أن ينفق، عليه أن يقدر أنه قد يصبح عاجرا، ولنا أن نسأله: لو كنت عاجزا ألم تكن تحب أن يعطيك الناس دون مَنٍّ أو أذى؟
إن هذا هو التأمين الحق، لأن التأمين في يد الله، ومادامت الأغيار عرضة لأن يصير القادر عاجزا ويصير العاجز قادرا، فساعة ينفق المنفق يجب عليه أن يميت أنه أنفق فلا يتذكر وجه من أنفق عليه، ولا يخبر أحدا بما أنفق.
عد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الرجل الذي أنفق حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله فقال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
وبعد ذلك على المؤمن المنفق أن يُقدر ساعة عطائه أنه ادّخر ليأخذ، إما أن يأخذ إن طرأت له الأغيار في الدنيا، وإما أن يأخذ من يد الله في الآخرة أضعافا مضاعفة. إذن، فالمنفق هو الذي يُؤَمِّنُ لغير القادر حركته في الحياة ضمانا لنفسه حين لا يقدر؛ أو استثمارا مضاعفا عند الله، وهؤلاء المنفقون الذين يَسَعُونَ العاجزين بفضل ما لديهم، يظهرون حكمة الله في الوجود، لأن الله ما دام قد خلقنا، وفينا
1341
القادر، وفينا العاجز، فقد أراد الله لنا أن نعرف أن القدرة ليست لازمة في الخلق. فإن قدرت الآن فقد تُسلب - بضم التاء - منك هذه القدرة، وما دامت القدرة يتم سلبها، فلابد أن يتمسك المؤمن بالقيوم الذي يقيم القدرة لك أيها المؤمن دائما، وذلك حتى يعرف الواحد منا أنه لم ينفلت من ربه، خلقنا قادرين وانتهت المسألة. لا. إنّ القدرة أغيار تذهب وتجيء. ومادامت الأغيار تذهب وتجيء فلا بد أن يضع المؤمن نصب عينيه عطاء القادر الأعلى.
وقلنا سابقا: إن الله جعل المنفقين وصفا من أوصاف الذين اتقوا، والذين أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وذلك حتى يحمى الله الضعيف الذي خلقه الله لحكمة في الوجود. إن الإنفاق ليس أخذا من العبد، إنما هو مناولة، هذه المناولة تتضح في أنه ما كان لك ما يزيد عن حاجتك، إلا بحركتك في الحياة.
وهذه الحركة في الحياة تتطلب عقلا يخطط للحركة وجوارح تنفذ المخطط الفكري، ومادة يتم الفعل فيها سواء كانت أرضا تتم زراعتها أو آلة يتم الصنع بها، ولا شيء للإنسان من هذا في الكون. إن المخ الذي يدبر هو عطاء من الله، والطاقة التي تنفذ هي عطاء من الله. ونحن نرى في الحياة إنسان قد نزع الله عنه المخ الذي يفكر ويدبر، ونجد إنسانا آخر قد نزع الله منه الطاقة التي تنفذ، فقد يمنع الله عن عبدٍ المادة التي يتفاعل معها.
إذن فلا شيء من هذه الأشياء ذاتي للإنسان، إنها كلها عطاء من الله. فليعمل المؤمن مضاربا عند الله، وليعط المؤمن للعاجز حق الله. إن الله لا يأخذ هذا الحق لنفسه إنما يريده الله لأخيك العاجز، وسوف يطلب الله هذا الحق لك إذا عنَّت لك حاجة بسبب الأغيار.
هكذا تكون ﴿والمنفقين﴾ صفة من صفات الذين اتقوا ربهم. والحق سبحانه وتعالى قد جعل في الصبر، صلابة اليقين الإيماني في النفس البشرية. وفي الصدق انسجاما مع واقع لا إله إلا الله، وفي النفقة حماية العاجز الذي لا يقدر.
وبعد ذلك يعود إلى نفس المؤمن عودة أخرى فيقول: ﴿والمستغفرين بالأسحار﴾ إننا يجب أن نأخذ هذا الوصف بعد مجيء الأوصاف الأخرى في النفس البشرية. البداية
1342
هي إقرارهم بالإيمان، ودعاؤهم الحق - سبحانه - أن يغفر لهم وقد طلبوا الوقاية من عذاب النار، وصبروا، وصدقوا، وقنتوا في العبادة، وأنفقوا في سبيل الله، إن كل هذه الأوصاف تبرئ ذمتهم من أنهم مقصرون أيضا في حقوق إلههم لذلك فهم يأتون حال السكون بالليل، ويستغفرون الله.
إما أن يستغفر العبد لأنه قد فرطت منه هفوة في ذنب، وإما أن يستغفر لأنه لم يَزد فيما يفعله من أمور الطاعة. وكلمة ﴿بالأسحار﴾ توضح لنا لحظات من اليوم يكون الإنسان فيها محل الكسل والراحة، إن الذي سوف يصحو في السحر لا بد أن يكون قد اكتفى من الراحة، ولم يكن قد أخذ منه كد الحياة كل النهار، ثم إن بعضهم يأخذه لهو الحياة ليلا.
وهذا هو وجه الخيبة لما يحدث في زماننا. إن كد الحياة - إن أخذ - يأخذ نهارا، وبعد ذلك يأخذنا لهو الحياة ليلا، مما نشاهده من لهو الحديث، ولهو السهرات، وبعد ذلك يأتي الإنسان لينام متأخرا، فكيف نطلب من هذا الإنسان أن يصحو في السحر؟ إن الذي يصحو في السحر هو من أخذ حظه في الراحة، فبعد أن جاء من كد العمل نام نوما هادئا، ويصحو من بعد ذلك في السحر ليذكر ربه، في الوقت الذي نام فيه غيره من الناس، لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى في لحظة سكون الليل يوزع رحمته، وعندما يصحو إنسان في السحر ويدعو الله، ويستغفره فإنه يأخذ من رحمة الله النازلة.
وعندما يأخذ هذا العبد من رحمة الله النازلة في ذلك الوقت، فمعنى هذا أنه سيأخذ الكثير من رحمة الله. وإياك أن تقول: لو صحونا جميعا في الأسحار لنفدت الرحمة والعطاء «لا» لأن الله قد قال: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾ [النحل: ٩٦].
إن قدرته جل وعلا تتسع لعطائنا جميعا دون أن ينقص شيء من عنده. إن كل هذه الأشياء من التقوى، والإقرار بالإيمان، وطلب المغفرة للذنوب، وطلب الوقاية من عذاب النار، والصبر، والصدق، والقنوت، والإنفاق في سبيل الله،
1343
والاستغفار بالأسحار، كل ذلك نتيجة للتقوى الأولى.
إنها الثمرة من «لا إله إلا الله». وما دامت هذه هي الثمرة من «لا إله إلا الله» فليعلم كل إنسان، أن الله لم يدعك لتستنبطها أنت من مفقود، بل اعلم أن الله قد شهد أنه لا إله إلا الله، وكفى بالله شهيدا. ولذلك يقول الحق: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة... ﴾.
1344
ولنأخذ الجملة الأولى من الآية الكريمة بمعناها: لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو، أي أنَّ الحق قد أخبر بما رآه، وشاهده، أو ما يقوم مقام ذلك. إن «شهد» بمعنى علم.
إنه الحق الذي نصب الأدلة في الوجود على قيوميته، وعلى أنه إله واحد، أليس في ذلك إقامة للحجة على أنه إله واحد؟ ومن الذي خلق الأدلة وجاء بها؟ إنه الله.
ّإذن، فقد شهد الله أنه لا إله إلا هو. وقلنا: إن شهادة الله أنه لا إله إلا هو هي شهادة الذات للذات، وشهادة الذات للذات تعني أنها كلمة مُمَكّنٌ منها. فعندما يقول الحق: ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧].
بالله لو لم يكن قد شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وليس هناك من يعارض مبتغاه، أكان يجازف فيقولها؟ إنه الحق الأعلى الذي شهد أن لا إله إلا هو، فساعة
1344
أن يقول: «كن» فإنه قد علم، أنه لا يوجد إله آخر يقول: «لا تكن». إن الحق لا بد أن يطمئَننا أنه لا إله إلا هو، لذلك فلزم أن يشهد لنفسه أنه مؤمن بأنه لا إله إلا هو ويلقى الأمر، ويلقى الحكم التسخيري، ويعلم أنه لا إله يعارضه.
وأليس من مطلوبات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشهد أنه رسول الله؟ لقد صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال في صلاته: «أشهد أن محمدا رسول الله». ولو لم يشهد بهذه لنفسه فكيف يجازف بالأشياء التي يقولها؟ ولذلك فسيدنا أبو بكر عندما بلغه أمر بعث محمد رسولا، قال ما معناه: أقالها محمد؟ إنه صادق، وما دام قد قالها فهي حق.
إن أبا بكر الصديق واثق من الرصيد الذي سبق بعث محمد بالرسالة. ونحن نرى في التاريخ امرأة كان السبب في إسلامها لمحة من سيرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قرأت هذه المرأة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان له حراس من المؤمنين يقومون بحراسته من الكافرين. وبعد ذلك جاء يوم وصرف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هؤلاء الحراس، وقال لهم ما معناه: إن الله عصمني من الناس فاذهبوا أنتم.
وقد قرأنا هذه الواقعة كثيرا جدا، ولكن الفتح جاء من الحق لامرأة، فشغلتها هذه المسألة، وتساءلت: ألم يكن هؤلاء الحراس يحرسونه خوفا على حياته؟ فلماذا قال لهم: «لا تحرسوني» لأن الله هو الذي يحرسني؟ فلو أن رسول الله قد غش الدنيا كلها؛ أكان من الممكن أن يغش نفسه في حياته؟
وأجابت المرأة على نفسها: لا يمكن، لا بد أن رسول الله قد وثق تمام الثقة في أن الله قد أبلغه أمر حمايته بدليل أنه قام بصرف الحراس، وإلا فكيف يأمن أن يأتي أحد ليقتله؟ قالت المرأة: والله لو خَدع الناس جميعا ما خَدع نفسه في حياته، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
حدث إسلام هذه المرأة من نفحة يسيرة من سيرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
إذن، ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ هي شهادة الذات للذات، وكفى بالله
1345
شهيدا. وشهدت الملائكة أيضا، والملائكة هم الغيب الخفي عنا، وتتلقى الأوامر من الحق. إن الملائكة لم يروا أحدا آخر يعطي لهم الأوامر، إنه الإله الواحد القادر. وهذه هي شهادة المشهد. ويضاف إلى الملائكة ﴿وَأُوْلُواْ العلم﴾ الأدلة وجلسوا يستنبطون من كون الله أدلة على أنه لا إله إلا الله.
إن هذه أعظم شهادة لأعظم مشهود به من أعظم شهود، الله في القمة، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والملائكة وأولوا العلم. ولقد أخذ أولوا العلم منزلة كبيرة لأن الله قد قرنهم بالملائكة.
إن الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قد نثر في كونه الآيات العجيبة العديدة والذي يجلس، ويتفكر ويتدبر، ويتفطن وينظر، فإنه يستخرج الأدلة على أنه لا إله إلا هو، وكما قلنا من قبل: إن أبسط الطرق للتدليل على هذه الحقيقة. إن كانت «لا إله إلا الله» صدقا فقد كُفينا، وإن كانت غير صدق فأين الإله الذي أخذ منه الله هذا الكون، ولم يخبرنا ذلك الإله أنه صاحب الكون؟ فإما أن هذا الإله الآخر لم يَدْر، أو أنه قد علم، ولا يستطيع فعل شيء، إذن فلا يصح أن يكون إلها يزاحم الحق الذي أبلغنا أنه لا إله إلا هو.
وتظل «لا إله إلا الله» لصاحبها - جل شأنه - «شهد الله أنه لا إله إلا هو» وفي كل حركة من حركات الحياة نجد أن الانفراد بصدور الحركة قد يعطي علوا، وقد يعطي استكبارا.. لذلك نقول: ها هو ذا الخالق الأعلى الذي «لا إله إلا هو» يخبرنا أنه قائم بالقسط. ورغم أنه لا أحد في استطاعته أن يتدارك على الله، إلا أنه يطمئننا أنه قائم بالقسط.
ولنلحظ هنا ملحظاً جميلا في الأداء ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط﴾ لماذا لم يقل الله إن «الملائكة» و «أولوا العلم»، الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو «قائمين» بالقسط؟ لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط، والملائكة شهدوا هذه القضية والعلماء شهدوا أيضا بهذه القضية.. لماذا؟ لأن الله لو قال: «قائمين بالقسط» لكان الله مشهودا عليه من هؤلاء، والشهادة هي له وحده أنه قائم بالقسط والعدل.
لأنه سبحانه خلق الملائكة بالقسط، فلو كانوا معه في ذلك لما استقام الأمر،
1346
وأولوا العلم أيضا مخلوقون بالقسط؛ لأن الله قد وزع حركة الحياة على الناس، فَنَاسٌ يعملون بعقولهم، وآخرون يعملون بقلوبهم، وقوم غيرهم يعملون بجوارحهم، فهذا هو
لون من عدل الله، وإلا، فهل يدعي أحد أن إنسانا تتجمع فيه كل المواهب التي تتطلبها الحياة. لا، وهذه من عدالة الرحمن.
إن من عدالة الحق أنه وزع المواهب بين البشر، فبدلا من أن يعتمد الإنسان على نفسه في صناعة الملبس والمأكل، والمشرب، جعل الله المهارات موزعة بين البشر.. فأتقنت مجموعة من البشر حرفة الزراعة لإنتاج الطعام الذي يكفيهم، ويسد حاجة غيرهم، وكذلك تبادلوا مع غيرهم المنافع، فالإنسان - بمفرد - لا يستطيع أن يزرع القطن ويجمعه ويغزله وينسجه؛ ليلبس، والإنسان لا يستطيع أن يزرع القمح ويحصده ثم يطحنه ثم يخبزه.
إن الله لم يخلق الناس ليقوم كل فرد بإشباع حاجات نفسه المتنوعة، إنما وزع الله المواهب، لتتداخل هذه المواهب، ويتكامل المجتمع البشري، فواحد يزرع الأرض، وثانٍ يغزل القطن، وثالث ينسج القماش، ورابع يصنع الأدوات. وهذا عدل عظيم؛ لأن الطاقة البشرية لا تقوى على أن تقوم بكل متطلبات الحياة، لذلك جعل الحق هذا التنوع في المواهب ليربط الناس بالناس قهرا عن الناس، فلم يجعل لأحد تفضيلا على أحد، فما دام واحد يعرف في مجال، وآخر لا يعرف في هذا المجال، فالذي لا يعرف محتاج للآخر، وهكذا يتبادل الناس المنافع رغما عنهم.
ولذلك نجد الكون متكاملا. ولينظر كل منا إلى حياته وليعدد كمْ زاوية من زوايا العلم، وكم زاوية من زوايا القدرات، وكم زاوية من زوايا المواهب تلزم حتى تخدم حركة الحياة؟
إن هذه الزوايا موزعة على الناس جميعا ليخدموا جميعاً حركة الحياة. وهذا قمة العدل. وحتى يوضح لنا الحق قيمة العدل وكيفية العدالة في إقامة المحبة والاحترام بين البشر، فلينظر الواحد منا إلى الإنسان الآخر البعيد عنه، ويتساءل بينه وبين نفسه: أهذا الرجل البعيد عني يعمل من أجلي؟ وتكون الإجابة: نعم.
إذن، فعلى الإنسان عندما يرى إنسانا متفوقا في صنعة ما، فليقل: إن تفوقه في
1347
صنعته عائد إليّ وتفوقه في موهبته عائد إليّ، وهكذا منع الله بالعدل الحقد والحسد، وجعل الناس متكاتفين قهرا عنهم، لا تفضيلا منهم، إذن، فكل إنسان يسعى بحركة الحياة إنما يقيم نفسه في زاوية من زوايا الحياة، ومن العجيب أن الزاوية التي يُحسنها الإنسان تكون حاجته فيها أقل الحاجات، لذلك نجد المثل الريفي الذي يقول: «باب النجار مخلع»، وذلك حتى يعلم الإنسان أن موهبة ما تكون عند غيره سوف تنفعه هو، بدليل أن الموهبة التي عندك لم تنتفع أنت بها إلاّ قليلا.
وبذلك يشيع في الناس اقتناع بأن موهبة كل فرد فيهم، إنما تعود عليهم جميعا، وبذلك تحل المحبة والاحترام بدلا من الحسد والحقد. وعندما سأل أحد الظرفاء: ولماذا يكون باب النجار هو «المخلع» ؟ قال أحد الظرفاء ردا عليه: لأنه الباب الوحيد الذي لن يأخذ النجار أجرا لإصلاحه، ونلتفت إلى العجائب في الحكمة الشائعة، فنجد أطباء اخصائيين في ألوان من المرض، وصاروا أعلاما في مجالات تخصصاتهم، ويشاء الحق سبحانه وتعالى ألا يصابوا إلا بما برعوا فيه، كأن الذي برعوا فيه لم يفدهم هم بشيء، إنما أفاد الآخرين. ولننظر إلى الآية في مجملها: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم﴾ لقد استهلها الله بقوله: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط﴾ ثم قال بعد ذلك: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم﴾ فكأن الآية تقول لنا: إذا ثبتت شهادة الذات للذات، وشهادة المشهد من الملائكة، وشهادة الاستدلال من العلماء، فإن القاعدة تكون قد استقرت استقرارا نهائيا لا شك فيه، فخذوها مسلمة: «لا إله إلا هو».
وما دام «لا إله إلا هو» فليكن اعتمادك عليه وحده، واعلم أنك إن اعتمدت عليه وحده إلها فأنت قد اعتمدت على عزيز لا يُغْلب على أمره.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله
1348
واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف».
فلا يستطيع أحد أن يدخل مع الله في جدال. إنما يدخل خلق الله مع خلق الله في خلاف أو نضال، لكن لا أحد يجرؤ على أن يدخل في نضال مع الله لأنه عزيز لا يغلب. فإن آمنت به وحده، فلك الفوز. وكلمة «وحده» قد تبدو في ظاهرها تقليلا للسند الذي تستند إليه في القياس البشرى، فيقال: «أنا لاجئ إلى فلان وحده» وعندما تكون لاجئا إلى عشرين ألا تكون أكثر قوة؟ لكن هنا لا يكون قياس بين اللجوء إلى الله وحده، بقياس اللجوء إلى مخلوق. إنك هنا تلجأ إلى خالق أعلى بيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير، فكلمة «وحده» هنا تغنيك وتكفيك عن الكل. اعمل لوجه واحد. يكفك كل الأوجه، واعلم أنه لا يوجد من يغلبه على أمره.
وعظمة الحق أنه واحد أحد فرد متفرد صمد، وهو عزيز لا يُغْلب على أمره وهو صاحب كل الحكمة في وضع الأشياء في مواضعها بحيث إذا ما عرفت حكمة مايجريه الله سبحانه وتعالى على خلقه فأنت تتعجب من عظمة قدرة الله، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وما دمت قد وضعت الشيء في موضعه فإنه لا يكون هناك قلقٌ، وما دام الشيء موضوعا في مكانه فهو مستقر، وما دام الشيء مستقراً فإنه لا يتلون وتزداد الثقة فيه، وهذه مأخوذة من «الحَكمة» التي تُوضع في فم الفرس، والتي نسميها «اللجام» وهي كما نعرف تتكون من قطعة من الجلد تدخل على اللسان وفيها قطعة من الحديد، فإن مال إلى غير الاتجاه الذي تريد، يكون من السهل جذبه إلى الاتجاه الصحيح.
إن وجود الحكمة يعني وجود شيء يحكمه فلا ينحرف يمينا ولا يسارا، وما دام الله قد شهد أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة وشهد أولوا العلم، وانتهت القضية بعد هذه الشهادات إلى أنه لا إله إلا هو، وأنه العزيز الحكيم، فكل منهج منه يجب أن يُسلم إليه، وأن ينقاد له. وما دام الله قد شهد لنفسه بأنه إله واحد، أي لا يوجد له
1349
شريك ينازعه فيما يريد من خلقه، وليس لله شريك في الخلق، وليس لله شريك في الرزق، وليس له شريك في التشريع.
إذن.. فالجهة التي نستمد منها مقومات منهجنا هي جهة واحدة، وكان من الممكن أن تظلم وتجور هذه الجهة الواحدة الخالقة على ما خلقت لأنه ليس لأحد من خلق الله حق على الله، لكن الله سبحانه عادل، إنه سبحانه يطمئننا، فهذه الوحدانية بقدرتها وجبروتها وعلمها وحكمتها عادلة لا تظلم، لأنه قال: مع أني إله واحد، لا يُرد لي حكم ولا أمر فأنا قائم بالقسط.
والقيام بالقسط يجب أن نتوقف عنده لنفهمه جيدا، إن الحق يقول عن نفسه: «قائما بالقسط» وكلمة قائم تعني أن الله قد خلقهم الخلق الأول، وهذا الخلق إنما قام على العدل والقسط. وتكليف الحق للخلق قام على العدل والقسط. والعدل والقسط يقتضي ميزانا لا ترجح فيه كفة على كفة، وهذا الميزان ممسوك بيد القدرة القاهرة التي لا توجد قوة أعلى منها تميل في الحكم، والحق سبحانه قائم بالقسط في الخلق، فقبل أن يخلقنا أعدّ لنا ما تتطلبه حياتنا بالقسط أيضا، فلم يجعل أمر الحياة قائما على الأسباب التي يكلفنا بها لنعيش، بل حكم بالقسط، لقد جعل الحق بعضا من الأمور لا دخل لنا نحن العباد فيها، ولم يقض الحق بذلك على حركتنا ولا على حريتنا في الحركة، لذلك خلق لنا أسبابا إن شئنا أن نفعل بها وصلنا إلى المسببات، وإن شئنا ألا نفعل فنترك الأسباب والمسببات.
إذن.. فالحق سبحانه لم يحكمنا في قضية الخلق الأولى بشيء واحد، بأن يجبرنا على كل شيء، بل جبرنا بأنه - سبحانه - لم يدخل أسبابنا ولا حركتنا في كثير من الحركات التي تترتب عليها الحياة، فلم يجعل الشمس بأيدينا، ولا القمر، ولا الريح، ولا المطر. كل هذه الأسباب جعلها بيده هو، لماذا؟ لأن هذه الأسباب ستفعل للمخلوق قبل أن تكون له قدرة. هذه الأسباب تفعل للإنسان قبل أن توجد له حياة؛ لتمهد للحياة التي يهبك الله إياها، فلو ترك الله كل هذه الأشياء لأسباب الإنسان لتأخرت هذه الأشياء إلى أن يوجد للإنسان إرادة، وتوجد له قدرة وعلم.
لقد جعل الله أسباب الحياة بيده، كالتنفس مثلا، إن التنفس لا يخضع لإرادة القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان - وهو سبحانه الإله القادر - تحرك
1350
التنفس إلى أن توجد له إرادة. ولا توجد الإرادة إلا إن وجُد عند الإنسان علم بأنه يريد إدخال الأوكسجين إلى الرئتين حتى يتغذى الدم والمخ وينقى الدم والجسم من الأشياء التي تضره، هذا يقتضي العلم، فإن كان هذا الأمر يقتضي العلم. فماذا يصنع الطفل الذي ليس له علم؟ كيف يتنفس؟
لذلك فمن رحمة الله وعدالته أن جعل أمر التنفس - على سبيل المثال - بيده هو سبحانه، ولكن الحق سبحانه لم يقض على مخلوقه بأن يجعله في الكون بلا حرية أو اختيار، لا، لقد ترك الحق سبحانه بعضا من الأشياء لحرية الإنسان واختياره.
إذن، فالحق لم يلزم العبد تسخيرا، ولم يمنع تخييرا. وذلك هو العدل المطلق. لقد احترم الحق كينونة الإنسان، وحياة الإنسان، ومشيئة الإنسان، واختيار الإنسان، فقال: أنا سأعطيك أسباب الحياة الضرورية ولا أجعل لك دخلا فيها؛ لأنك إن تدخلت فيها أفسدتها، وتأخر وصول خدمتها لك إلى أن تعرف وتعلم، وأنا - الحق - أريدها لك، وأنت أيها الإنسان عاجز قبل أن توجد لك، وأنت قادر بوجودها الذي أمنحه لك؛ لذلك جعلتها بيدي أنا الخالق المأمون على خلقي. ولكن لن أقضي على حريتك، فإن أردت ارتقاءً في الحياة فتحرك في الحياة، إن شئت أيها الإنسان أن تفعل فافعل. وإن شئت أيها الإنسان ألا تفعل فلا تفعل. وهذا مطلق العدل.
ثم جاء الحق سبحانه وتعالى وجعل قوله: ﴿قَآئِمَاً بالقسط﴾ مشتملا على التكليف أيضا، أي إن عدالته في التكليف مطلقة. فأناس يقولون: «لا إله» وأناس آخرون عددوا الآلهة، فقام الحق بالقسط بين الأمرين. هو إله موجود يا من تقول: «لا إله». وهو إله غير متعدد يا من تشرك معه غيره. وهذا قيام بالقسط وجاء الحق سبحانه في الأحكام. ونحن نجد أحكاما شرعية طلبها الحق سبحانه من العبد طلبا باتا، ولم يتركها لاختيار الإنسان ونجد أشياء تركها الحق سبحانه ليجتهد فيها الإنسان، فلم يجعل الحق سبحانه العبد حراً طليقا يعربد في الكون كما يشاء، ولم يجعل الحق سبحانه عبده مقهورا أو مقسورا بحيث لا توجد له إرادة أو اختيار.
لقد جعل الله للإنسان مجالا في القسر ومجالا في الاختيار، أوجد في الإنسان القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان - وهو الإله القادر - تحرك
1351
في الحياة وأنا أحمي نتيجة ما تتحرك فيه، ولكن لي في مالك الذي جعلتك فيه خليفة حق عليك أن تعطي بعضا منه لأخيك المحتاج.
لقد أعطى الحق للنفس البشرية أن تكد، وأعطى لها أن تكدح، وحفظ لها ما تملك، ولكنه هو الحق لم يُطلق للنفس البشرية عنانها، بل قال: لي حق في ذلك. وهكذا نجده سبحانه قد عدل في هذا الأمر.
إذن فقول الحق إنه قائم بالقسط.. نجده واضحا في كل شيء؛ ففي الخلق والرزق والتكليف نجد أنه قائم بالقسط، وما دام هو إلها واحدا وقائما بالقسط، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام... ﴾.
1352
بعد أن قال لنا: إنه إله واحد، وقائم بالقسط هو نتيجة منطقية لكونه - سبحانه - إلها واحدا فكأن قوله ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ هو نتيجة لقوله: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط﴾. لماذا؟ لأنه لا تسليم لأحد إلا الله، وما دام الله إلها واحدا، فلا إله غيره يشاركه، يقول الحق: ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩١].
1352
وما دام قد ثبت أنه هو الإله الواحد، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ إذن فقول الحق بعد ذلك: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ هو أمر منطقي جدا يجب أن ينتهي إليه العاقل، ومع ذلك رحمنا الله سبحانه وتعالى فأرسل لنا رسلا لينبهونا إلى القضية السببية، والمسببية، والمقدمة والنتيجة ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ وإذا سألنا: ما هو الدين؟ تكون الإجابة: إن الدين كلمة لها إطلاقات متعددة فهي من «دان» تقول: دنت لفلان: رجعت له وأسلمت نفسي له، وائتمرت بأمره. ويُطلق الدين أيضا على الجزاء، فالحق يقول عن يوم الجزاء: «يوم الدين» وهو يوم الجزاء على الطاعة وعلى المعصية، وعلى أن الإنسان المؤمن قد دان لأمر الله، فكلها تلتقي في قول الحق: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ يُشعرنا بأنه قد توجد أديان يخضع لها الناس، ولكنها ليست أديانا عند الله؛ ألم يقل الحق: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦].
إن معنى ذلك أن هناك دينا لغير الله فيه خضوع واستسلام، وفيه تنفيذ لأوامر، ولكن ليس دينا لله، ولا دينا عند الله. إن الدين المعترف به عند الله هو الإسلام. والدين يطلق مرة على الملة ومرة أخرى على الشريعة، فإن أراد المؤمن الأحكام المطلوبة فلك أن تسميها شريعة، وإن أراد المؤمن الطاعة، والخضوع، وما يترتب عليهما من الجزاء فليسمها المؤمن الدين، وإن أراد الإنسان كل ما ينتظم ذلك فليسمها الملة.
إذن فقوله سبحانه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ تعني أنه لا دين عند الله إلا الإسلام، وكلمة «الإسلام» مأخوذة من مادة «سين» و «لام» و «ميم». و «السين» و «اللام» و «الميم» لها معنى يدور في كل اشتقاقاتها، وينتهي عند السلامة من الفساد. وينتهي المعنى أيضا إلى الصلح بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وربه، وبين الإنسان والكون، وبين الإنسان وإخوانه، إنه صلاح وعدم فساد، كل مادة السين واللام والميم تدل على ذلك، وما دامت المادة المكونة منها كلمة «إسلام» تدل على ذلك فلماذا لا نتبعها؟.
لقد قلنا سابقا: إن الإنسان لا يخضع لمثيله إلا إذا اقتنع بما يقول، إن الإنسان
1353
يقول لمساويه الذي يأمره: لماذا تريدني أن أنفذ أوامرك؟ إنك لا بد أن تقنعني بالحكمة من ذلك الأمر، لكن عندما يؤمن الإنسان بإله واحد قائم بالقسط، ويصدر من هذا الإله أمر، فعلى الإنسان الطاعة.
إذن.. فالإسلام معناه الخضوع، والاستسلام بعزة وفهم، وعزة وتعقل؛ لأن هناك عبودية تَعَقّل عندما يقف الإنسان عند المعنى السطحي، وهناك عزة تعقل عندما يقف الإنسان عند المعنى الذي لا يأتيه الباطل من بين يده أو من خلفه، إن هذا هو عزة العقل فلا يستهويه أي شيء سوى الخضوع للأمر الثابت الذي لا يتناقض أبدا.
فما دام الله إلها واحدا قائما بالقسط فإني كعبدٍ من عبيده حين أؤمن به وآخذ عنه، فهذه عزة في الفهم وعزة في التعقل، وعزة في العبودية أيضا، لأنني أعبد الله الذي هو فوق كل المخلوقات والكائنات، ولا أعبد مساويا لي، وإن الذي يعبد مساويا له لا يملك إلا إنفة وحميّة الذليل، وما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام لله فهو خضوع لغير مساو، و «أسلم» أي دخل في السلم، أي دخل في الصلح، وعدم التناقض، وفي الأمان والراحة، أي خلص نفسه من كل شيء إلا وجه الله؛ ولذلك يقول الحق: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٢٩].
كأن الله يريد أن يوضح لنا الفرق بين الخاضع لأمر سيد واحد، وبين الخاضع لِسَادَةٍ كثيرين. وضرب الله لنا المثل بالأمر المشهور عندنا، فقال ما معناه: هب أن عبداً له من السادة عشرة، وكل سيّد له منه طلب، فماذا يصنع ذلك العبد؟ وعبد آخر له سيد واحد، هذا العبد يكون مستريحا لأنّ له سيدا واحدا، بينما الآخر المملوك لعشرة تتضارب حياته بتضارب أوامر سادته العشرة.
إذن فالعبد المملوك لشركاء تعيس؛ لأن الشركاء غير متفقين، إنهم شركاء
1354
متشاكسون، فإذا رآه سيده يفعل أمرا لسيد آخر، أمره بالعكس، وبذلك يتبدد جهد هذا العبد ويكثر تعبه، ولكن الرجل السلم لرجل، هو مستريح، وكذلك التوحيد، لقد جاء الحق سبحانه بمثل من واقعنا ليقرب لنا حلاوة التوحيد. إن العبد المؤمن بإله واحد يحمد الله لأنه خاضع لإله واحد. إذن فما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام ومعناه الدخول في السلم بكسر السين - أو الدخول في السلم - بفتح السين - يقول الحق: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾ [الأنفال: ٦١].
هذا الخضوع ليس لمساو، بل لأعلى. والأعلى الذي نخضع له هو الذي خلق، وهو الأعلى الذي أمدنا بقيوميته بكل شيء.
إذن فإذا أسلم الإنسان، فإن هذا الإسلام له ثمن هو المثوبة من الله. إن من مصلحة الإنسان أن يسلم. ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ وما دام الدين المعترف به عند الله هو الإسلام فهو الدين الذي يترتب عليه الثواب والإسلام هو دين الرسل جميعا، وكلهم قد آمن به؛ فإبراهيم خليل الرحمن قد قال: ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم﴾ [البقرة: ١٢٨].
ويعقوب عليه السلام يخبر الحق عنه في قوله لبنيه وإجابتهم له: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٣].
1355
ويقول - جل شأنه -: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين﴾ [الأنعام: ١٦١ - ١٦٣].
إذن فالإسلام دين شائع، والمسلمون كلمة شائعة في الأديان، وبذلك لا يقف الإسلام عند رسالة سيدنا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقط، إنما الإسلام خضوع من مخلوق لإله في منهج جاء به رسل مؤيدون بالمعجزات، إلاّ أن الإسلام بالنسبة لهذه الرسالات كان وصفا، لكن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تميزت بديمومة الوصف لدينها كما كان لأمم الرسل السابقة، وصار الإسلام - أيضا - علما لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأن رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تضمنت منتهى ما يوجد من إسلام في الأرض، فلم يعد هناك مزيد عليها، وانفردت أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن صار الإسلام علما عليها.
إذن فالإسلام في الأمم السابقة كان وصفا، وأما بالنسبة لرسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد صار علما لأنه لم يأت بعدها دين، فإسلامها إسلام عالمي، ولذلك فنحن بهذا الدين نقول: «نحن مسلمون» أما أصحاب الديانات الأخرى فهم أيضا مسلمون لكن بالوصف فقط. نحن الذين نتبع الدين الخاتم سمانا الله في كتابه المسلمين فهذا من إعجازات التسمية التي وافق فيها خليل الله إبراهيم عليه السلام مراد ربه: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا
1356
بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الحج: ٧٨].
لقد صار الإسلام اسما لأمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ولا يُطلق هذا الوصف اسما إلا على من بالغ في التسليم.
كيف؟ نحن نعلم أن لفظ الجلالة «الله» علم لواجب الوجود، ونعلم أن «حي» صفة من صفات الله سبحانه وتعالى. ولكن صارت كلمة «حي» اسما من أسماء الله؛ لأن الله حي حياة كاملة أزلية. إذن لا تكون الصفة اسما إلا إذا أخذ الوصف فيها الديمومة والإطلاق. وعلى هذا القياس يكون الرسل السابقون على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والأمم السابقة على أمة الإسلام، كانوا مسلمين، وكانوا أمما مسلمة بالوصف، ولكن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تميزت بالإسلام وصفا وعَلَما، فصار الأمر بالنسبة إليها اسما، ونظرا لأنه لن يأتي شيء بعدها، لذلك صار إسلام أمة رسول الله «علما». ولقد بشر سيدنا إبراهيم عليه السلام بهذا الأمر: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين﴾ [الحج: ٧٨] إن الحق قد أورد على لسان سيدنا إبراهيم بالوضوح الكامل ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين﴾ ولم يقل الحق: «هو وصفكم بالمسلمين». لا، إنما قال: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين﴾، لأن الأمم السابقة موصوفة بالإسلام وأما أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهي مسماة بالإسلام. وتجد من إعجازات التسمية، أننا نجد لأتباع الأديان الأخرى أسماء أخرى غير الإسلام، فاليهود يسمون أنفسهم باليهود نسبة ل «يوها». ويقولون عن أنفسهم: «موسويون» نسبة إلى موسى عليه السلام. والمسيحيون يسمون أنفسهم بذلك نسبة إلى المسيح عيسى ابن مريم. ولم نقل نحن أمة رسول الله عن أنفسنا: «إننا محمديون» لقد قلنا عن أنفسنا: «نحن مسلمون». ولم يأت على لسان أحد قط إلا هذه التسمية لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وصار اسم الإسلام لنا شرفا. إذن، فقول الله الحق: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ يعني أنه، إن جاز أن يكون لرسول أو لأتباع رسول وصف
1357
الإسلام فقد يجيء رسول بشيء جديد لم يكن عند الأمم السابقة فنزيده نحن بالتسليم، وبزيادتنا - نحن المسلمين - بهذا التسليم خُتِمَ التسليم بنا نحن أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولذا صار الإسلام لا يُطلق إلا علينا.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الذين أوتوا الكتاب قد اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم. ولماذا اختلفوا؟ جاءت الإجابة من الحق. الأعلى: ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ وكلمة الاختلاف هذه توحي أن هناك شيئا متفقا عليه، وما دام الإسلام هو خضوعا لمنهج الله. لأنه إله واحد وقائم بالقسط، فمن أين يوجد الاختلاف؟ وما الذي زاد حتى يوجد اختلاف؟ أبرز إلهٌ آخر يناقض الله في ملكه؟ لا لم يحدث. وما دام الإله واحدا، وما دام المنهج القادم من عنده منهجا واحدا، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟
إن الحق يوضح لنا أن الاختلاف قد جاء للذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءهم العلم وتلك هي النكاية، وذلك هو الشر، فلو كانوا قد اختلفوا من قبل أن يأتي إليهم العلم لقلنا: «إنهم معذورون في الاختلاف».
ولكن أن يحدث الاختلاف من بعد أن جاء العلم من الإله الواحد القائم بالقسط فلنا أن نقول لهم: ما الذي جَدَّ لتختلفوا؟ إن الذي جَدَّ هو من عالم الأغيار، وما دام الجديد قد جاء إليهم من عالم الأغيار، فمعنى ذلك أن هوى النفس قد دخل، ونريد أن نعرف أولا معنى الاختلاف، الاختلاف في حقيقته هو ذهاب نفس إلى غير ما ذهبت إليه نفس أخرى.
ولماذا حدث الاختلاف هنا رغم أن الإله واحد، وهو قائم بالقسط؟ لا بد لنا أن نستنتج أن شيئا جديدا قد نبت، ما هو هذا الشيء؟ إنه الهوى المختلف، وحينما يقال: «اختلفوا» فنحن نعلم أن جماعة قد ذهبت إلى شيء وجماعة أخرى ذهبت إلى شيء آخر. وقد نستنتج أن طرفا قد ذهب إلى حق، وأن الطرف الآخر قد ذهب إلى باطل، أو أنهم جميعا قد ذهبوا إلى باطل. والذهاب إلى الباطل قد يختلف؛ لأن كل باطل له لون مختلف. هل أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقول: أنا أنزلت الأديان، ومن رحمتي بخلقي تركت بعضا من الناس يحتفظون بالحق في ذاته وإن طرأ عليهم أناس يختلفون معهم. وتجد المثال لذلك في اليهود، عندما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد اختلفوا، وأسلم منهم أناس وآمنوا برسالة النبي الخاتم، بينما
1358
الآخرون لم يسلموا، ومن أسلم هم الذين كانوا على الحق، ومن رحمة الله تعالى أنه جعل الذين علموا برسالة رسول الله أن يعلنوا البشارة في كتبهم ولم يكتموا ذلك العلم بل أعلنوا الإيمان، بينما أصر البعض الآخر على كتمان ما جاءهم من العلم وأصروا على الإنكار. إن الذين أسلموا هم الذين ينطبق عليهم قول الشاعر:
إن الذي جعل الحقيقة علقما لم يخل من أهل الحقيقة جيلا
وإذا كان الله قد عصم الأجيال المتتالية من أمة الإسلام بأن حفظ لنا القرآن. ففي الأديان الأخرى كان هناك أناس من أهل الحقيقة، وأنصفهم الله: ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين﴾ [آل عمران: ١١٣ - ١١٤].
لقد أنصفهم الله حق الإنصاف، والذين آمنوا برسول الله من أتباع تلك الديانات قد اهتدوا إلى الحق، واختلفوا مع غيرهم وقول الحق: ﴿أُوتُواْ الكتاب﴾ هذا القول يقتضي أن نقف عند «أُوتُواْ» أي أن شيئا قد جاء إليهم من جهة أخرى. إذن فالكتاب ليس من أفكار البشر؛ لأن المنهج لو كان من أفكار البشر لكان من الممكن أن يختلفوا فيه أو حوله، وبناء «أُوتُواْ» للمفعول يجعلنا نسأل: من الذي آتاهم الكتاب؟ إنه الله سبحانه وتعالى، والحق سبحانه وتعالى لا يأتي بمختلف فيه.
وما دام الكتاب من عند الله فلا يمكن أن يوجد فيه خلاف. يقول الحق: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ [النساء: ٨٢].
1359
وكأن الله بنبهنا بذلك القول إلى أن كل شيء بنبت من البشر للبشر، فلا بد أن تحدث فيه خلافات. إنما الشيء عندما يأتي من الواحد الأحد لا يمكن أن يحدث فيه خلاف أبدا. لا يمكن أن يحدث خلاف فيما اتحد فيه المصدر والمنبع إلا إن وجدت - بضم الواو وكسر الجيم - أشياء زائدة عن ذلك، وهذه الأشياء الزائدة هي أهواء الذين يقولون: إنهم منسوبون إلى الله.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الكتاب لم يأت إليهم من بشر مثلهم، إنما من إله واحد قادر، وفي هذا تنبيه لأتباع الديانات السابقة. أي إنكم أيها الأتباع لا تتبعون إلا منهج الله، وحين تتبعون منهج الله الذي جاء به الرسل فأنتم لا تتبعون أحدا من الخلق، لأن أي رسول أرسل إليكم إنما جاء ليبلغكم بمنهج قادم من ربكم، ولم يقل لكم أحد من الرسل إن المنهج قادم من عنده والرسول يحمل نفسه على الطاعة والخضوع للمنهج المنزل عليه قبلكم، وهذه عزة لكم، ولينتبه جميع الخلق أن المنهج الحق دائما قد أخذه الرسل من الله.
وحين يقول الحق: «الكتاب» فلنا أن نعرف أن كلمة «الكتاب» قد وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع، إن الحق سبحانه وتعالى يسمي القرآن مرة «قرآنا» لأنه يقرأ، ويسميه الحق أيضا «الكتاب» وذلك دليل على أنه يُكتب، وحين نقول: إن القرآن من «القراءة» فهذا يعني أن نبرز ما في الصدور بالقراءة ولكن ما في الصدور قد تلويه الأهواء؛ لذلك يحرس الحق قرآنه بما في السطور ولذلك فالقرآن مقروء ومكتوب.
وعندما يقول الحق «من أهل الكتاب»، فإن ذلك تنبيه لنا أن الكتاب هو منهج مكتوب، أي لم يتم وضعه في الصدور ونسيته النفوس، لا، إنه منهج مكتوب، هكذا حدد الحق أمر المنهج السابق على القرآن، إنه مكتوب، فإن لعبت أهواء النفوس كما لعبت، فإن ذلك يعني تحريف الكلم عن مواضعه. ولنا أن ننتقل الآن إلى المعرفة «العلم» : ما هو العلم؟ إن العلم هو أن تدرك قضية وهذه القضية واقعة في الوجود تستطيع أن تقيم الدليل عليها، وغير ذلك من القضايا لا يصل إلى مرتبة العلم لأنه لا يستطيع أحد أن يدلل عليه.
مثال ذلك: نحن نقول: «الأرض كروية» إن كروية الأرض هي نسبة
1360
حدثت، ونقولها ونحن جازمون بها. والسابقون لنا في عصور سابقة قال بعضهم: «إن الأرض مسطحة»، وحاول أن يجد من الأسباب ما يقيم الدليل على ذلك ولكن الذين أقاموا الدليل على أن الأرض كروية كانوا صادقين بالفعل. وفي العصر الحديث صارت كروية الأرض أمرا مرئيا من سفن الفضاء، وغيرها من الوسائل، ونحن نعرف أنه «ليس مع العين أين» إن الكروية بالنسبة للأرض، هي نسبة، نقولها ونجزم بها، والواقع أنها كذلك، ونستطيع أن نقيم على ذلك الدليل.
هذا هو العلم المستوفى، إن فساد الناس أنهم يأتون إلى قضية لن تصل إلى هذه المرتبة ويسمونها «علما» كقولهم: إن الإنسان أصله قرد، لا، إن أحدا لا يستطيع الجزم بذلك، وتلك قضية ليست من العلم، إن كلمة «علم» تُطلق على القضية المجزوم بها؛ وهي واقعة في الوجود، ونستطيع أن ندلل عليها، وإذا كانت القضية مجزوماً بها؛ وواقعة في الوجود، ولكنك لا تستطيع أن تدلل عليها، فماذا تسمي هذه القضية؟ هذا ما يطلق عليه «تقليد» تماما كما يقلد الولد أباه قبل أن ينضج عقله فيقول: «لا إله إلا الله، الله واحد». ومثلما يأخذ التلميذ عن أستاذه القضية العلمية، ولا يعرف كيفية إقامة الدليل عليها، فهذا نطلق عليه «تقليدا»، وإلى أن ينضج عقل التلميذ ويحسن استيعابه نقول له: ابحث بحثا آخر لتقيم الدليل.
إذن فالتقليد هو قضية مجزوم بها، وواقعة، ولا يوجد عليها دليل. وهكذا نعرف أن «العلم» يمتاز عن التقليد بوجود القدرة على التدليل، لكن إذا ما كانت هناك قضية ومجزوم بها ولكنها ليست واقعة، فماذا نسمي ذلك؟ إن هذا هو الجهل. إن الجهل لا يعني عدم علم الإنسان، ولكن الجهل يعني أن يعلم الإنسان قضية مخالفة للواقع ومناقضة له. أما الذي لا يعلم فهو أميّ يحتاج إلى معرفة الحكم الصحيح، فالجاهل أمره يختلف، إنه يحتاج منا أن نخرج من ذهنه الحكم الباطل؛ ونضع في يقينه الحكم الصحيح، وهكذا تكون عملية إقناع الجاهل بالحكم الصحيح هي عملية مركبة من أمرين، إخراج الباطل من ذهنه، ووضع الحكم الصحيح في يقينه.
ولذلك فنحن نجد أن تعب الناس يتأتى من الجهلاء، لا من الأميين؛ لأن الجاهل هو الذي يجزم بقضية مخالفة للواقع ومناقضة له، أما الأميّ فهو لا يعرف، ويحتاج
1361
إلى أن يعرف. وماذا يكون الأمر حين تكون القضية غير مجزوم بها، وتكون نسبة عدم الجزم، مساوية للجزم؟ هنا نقول: إن هذا الأمر هو الشك، وإن رجح أمر الجزم على عدم الجزم فهذا هو الظن، وإن رجح عدم الجزم يكون ذلك هو الوهم.
إذن فوسائل إدراك القضايا هي كالآتي: أولا: علم. ثانيا: تقليد. ثالثا: جهل. رابعا: شك. خامسا: ظن. سادسا: وهم. والعلم هو أعلى المستويات في إدراك القضايا. ولذلك نجد أن الحق يحدد لنا على ماذا اختلف الذين أوتوا الكتاب، لقد اختلفوا من بعد ما جاءهم من العلم. ولم يقل الحق: إنهم اختلفوا بعد ما جاءهم التقليد أو الظن، أو الجهل أو الشك، إنما قال الحق: إنهم قد اختلفوا من بعد ما جاءهم الاستيفاء الكامل، وهو العلم. وما دام هناك أمر قد جاء من القائم بالقسط والإله الواحد، فالمسألة القادمة منه وهي الحق قد وصلت إلى مرتبة العلم إذن، ففيم الاختلاف؟ لا بد أن أمراً ما قد جدّ. والذي يجد إنما هو قادم من الأغيار، وهي الأهواء، ولذلك يحدد لنا الحق هذا الأمر بقوله «بَغْياً بَيْنَهُمْ». ما البغي؟ البغي هو طلب الاستعلاء بغير حق. إذن فطلب الاستعلاء ليس ممقوتا في ذاته؛ لأن طلب الاستعلاء هو قضية الطموح في الكون. وأن يطلب إنسان الرفعة فيجد ويجتهد، ويبذل العرق ليصل إلى مكانة علمية أو غيرها، فهذا حق طبيعي، ونحن نعرف أن العالم قد ارتقى بالطموحات الإنسانية، إن العالم لو اكتفى وثبت عند الذي وصل إليه في جيل ما، فإن العالم يحكم على نفسه بالجمود، ولكن الناس طورت في العالم الذي تحياه بجهد بذله البعض منهم في قضايا نافعة، ثم حاولوا أن يرتقوا بها ونالوا حقهم من التقدير، وارتفعوا بالعلم بجهد حقيقي بذلوه، وبدراسة لما بذله السابقون عليهم.
إذن فطلب الاستعلاء في حد ذاته غير ممقوت، بل محمود ما دام قائما على الجهد. ولكن أن يطلب الإنسان الاستعلاء بغير حق، فهذا هو البغي. لقد أثبت الله لنا في هذه الآية، أن كل خلاف بين رجال الدين، أو بين دين ودين، إنما مرجعه إلى نشوء البغي، ونشوء البغي هو طلب رجال الدين الاستعلاء بغير الحق. ومظاهر طلب الاستعلاء بغير حق هو إعطاء الفتاوى التي توافق أمزجة القوم، وتخالف ما أنزله الحق.
1362
إن الواحد من هؤلاء يدعى لنفسه التحضر، ويعطي من الفتاوى ما يناقض الذي أنزله الله، ويدعى أنه يأخذ الدين بروح العصر، ويدعى لنفسه عدم الجمود، ويذهب إلى حد اتهام المتمسكين بدينهم بأنهم متخلفون، والهدف الذي يختبئ في صدر مثل هذا الإنسان هو الاستعلاء في قومه بغير الحق، ويجب أن نفهم أن كل خلاف بين أهل دين واحد، أو بين دين ودين، منبعه قول الحق: ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾. وهذا يعني اتباع البعض للهوى النابع من بينهم ولم ينزله الله.
لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى إمّا أن ينزل الله حكما محكما لا رأى فيه لأحد، ولا يستطيع أحد أن ينقضه، وإما أن ينزل الله حكما قابلا للفهم والاجتهاد.
ولم يجعل الله الأحكام كلها من لون واحد، إنما جعل الأحكام على لونين، وذلك حتى يحترم الإنسان ما وهبه الخالق له من عقل، ويجعل له مهمة، فيأتي بقضية ويبحثها ويرجع سببا على سبب. وفي ذلك استخدام من الإنسان لعقله، إنها رحمة من الله حتى لايجمد العقل الإنساني.
إذن فإذا رأيت أي خلاف بين رجال الدين أو بين دين ودين فاعلم أن القول الفصل في هذا الأمر هو ما عبر عنه في القرآن: ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ فمن البغي يهب الهوى الذي تنشأ منه الأعاصير، إن من يحب الاستعلاء بغير الحق هو الذي يحاول البغي فيدعي لنفسه أنه أرقى في الفكر، أو يستعلى عند من يملكون له أمرا، أو يستعلي عندما يوافق حاكما في رأي من الآراء، ويبرر للحاكم حكما من الأحكام.
إن كلمة ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ يدخل في نطاقها كل موجات الخروج عن منهج الله، والتي نراها في الكون، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أعطانا المناعة ضد الأمراض النفسية الناشئة عن البغي، مثلما يعطي المعاصرون المصل ضد أمراض البدن التي تفتك بالإنسان، وحتى لا تفاجئنا أمراض البغي، نجد الرسول يعطينا المناعة
فيقول لنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» ويحذرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذلك كما في الحديث التالي:
1363
فيقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون».
إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحذرنا ليوضح لنا أن أهل البغي لهم لجاج في أن يقولوا ويصدروا الفتاوى، وما معنى الإفتاء الذي يحذرنا منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ هل هو مجرد رأي؟ أم هو رأي يأتي من إنسان معروف عنه أنه مشتغل بعلم الله وبالأحكام؟ إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينبهنا إلى ذلك مناعة لنا. فقد يصبح أصحاب الحق قلة، وليس لهم نصيب في إيصال رأيهم للناس، أو أن الذين يملكون الكلمة الإعلامية ليسوا مع أصحاب الحق بل في جانب رجل يساير الباطل أو الركب.
وهنا نرى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أعطانا المناعة حتى لا ييأس المتمسكون بالحق، فأمر الدين لن يمر رخاء، أو بسلام دائم، بل سنجد قوما يفسرون أحكام الدين بغيا بينهم، ويلوون الأشياء؛ لذلك أوضح لنا أن المؤمن حَكَمٌ في نفسه، ويحذرنا من الذين يفتون بالبغي، إن الإفتاء يحتاجه الناس من الذي يعلم، ولذلك جاءت كلمة «يستفتونك» أكثر من مرة في القرآن الكريم، لأن الذين يطلبون الفتوى هم الذين يحتاجون إلى توضيح لأمر ما؛ لأنهم مشغولون بقضية الإيمان، ولذلك فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحذرنا من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى، ويحذر كل مؤمن من أن يستمع لكل فتوى.
ويقول الحق: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله﴾. إذن فمن هو الذي يكفر بآيات الله؟ وفي أي مجال؟ إن الكفر بآيات الله هنا محدد في الاختلاف، وفي البغي بينهم، أي طلب الاستعلاء بغير حق، وسمى الحق كل ذلك «كفرا» والمراد منه هنا التنبيه لنا ألا نستر أحكام الله بالاختلاف أو البغي، وجاء التحذير في تذييل الآية بقوله: ﴿فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾. فإياك أن تستطيل أمر الجزاء وتقول: سأستمتع بنتيجة البغي والاختلاف لخدمة من يهمهم أمر الاختلاف، ويهمهم أمر البغي، لأنك تريد أن تتعجل أشياء تظن أنها نافعة لك، لكن ها هو ذا الحق سبحانه يحذرك أن تستبطئ حسابه، لماذا؟ لأنه من الجائز أن يأتي لك الحساب من الله في الدنيا،
1364
وهب أن الله لم يبتل مثل هذا الإنسان ببلاء كبير في الدنيا فإن هذا الإنسان سيكون له الحساب العسير في الآخرة.
وقد يقول قائل: إن الحساب في الدنيا قد يؤجله الله إلى الآخرة، والعلامات الصغرى للقيامة نحن في مراحلها، وما زالت العلامات الكبرى ليوم القيامة لم تظهر. لمثل هذا القائل نقول: هناك فرق بين الحدث في ذاته، وبين الحدث فيمن يُجرى عليه الحدث. هناك فرق بين أن تقوم القيامة على الناس جميعا، وبين أن تُختصر حياة الإنسان بحادثة ليست في حسبانه، فقد يفتى الإنسان فتوى اليوم؟ وتأتي له حادثة فورية تنقله فجأة إلى سريع الحساب، فإن استبطأ إنسان الحساب، فعليه أن يعرف أن الآخرة قد تجيء له أسرع من مسائل الدنيا لأن الإنسان لا يملك القدرة على أن ينقل إليه من يريد في أي وقت. وهكذا تكون الآخرة بالنسبة للمستبطئ للحساب أسرع من حساب الدنيا، وكلمة «حساب» كلمة تطمئن المؤمن إلى أن الله قائم بالقسط لا يتخلى حتى عمن كفر به أو عصاه، إن كل إنسان يأخذ ماله ويدفع ما عليه، ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ... ﴾.
1365
﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ هذا هو القول يدل على أن الحق سبحانه وتعالى يلقى منهجه على الرسول الخاتم، ويعطيه الواقع الذي يحيا فيه، لقد جابه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاثة معسكرات. المعسكر الأول: هم مشركو قريش، وكان كفرهم في القمة. والمعسكر الثاني: هو معسكر اليهود والنصارى ويجمعهم معا لأنهم أهل كتاب. والمعسكر الثالث: هو معسكر المنافقين. والمحاجّة قد أتت من المعسكر
1365
الثاني، لأن كفار قريش لم يدعوا أن عندهم دينا قد نزل من السماء، أما أهل الكتاب فهم يدعون أن عندهم دينا منزلا من السماء، وعندما يناطح الشرك دينا فهذا أمر معقول، أما أن يناطح أهل دين نزل من السماء رسولا جاء بدين خاتم من السماء فهذا أمر يستحق أن نتوقف عنده.
ومعنى ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ أي أنهم يحاججون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتم إدغام الحرفين المتشابهين وهما حرفا «الجيم» حتى لا تصبح ثقيلة على اللسان. ومعنى المحاجة: أن يدلي كل واحد من الخصمين بحجته. وهذا يعني النقاش، وما دام هناك نقاش بين حق وبين باطل، فإن الله لا يترك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بل يقول له: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ أي إن ناقشوك في أمر الإسلام الذي جئت به كدين خاتم مناقض لوثنية أو شرك قريش ومناقض لما قام أهل الكتاب بتغييره من مراد الله فقل يا محمد: ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ وقد قلنا من قبل: إننا عندما نسمع قول الحق ﴿فَقُلْ﴾ كان من الجائز أن يكتفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمقول القول وضربنا مثلا على ذلك، حين يقول الأب لابنه: اذهب إلى عمك وقل له: كذا وكذا. وساعة أن يذهب الابن إلى العم فيقول له: الأمر كذا، وكذا. إن الابن لا يقول لعمه: قل لعمك كذا وكذا.. لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد حافظ على النص الذي جاءه من ربه لأن النص واضح. ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ فهل هذا رد بالحجة؟ نعم هذا هو الرد، لأن أهل الكتاب وكفار قريش يأتي فيهم القول: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم﴾ [الزخرف: ٩].
ويأتي فيهم القول الحكيم: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: ٨٧].
والكون كما نعرف «مكان» و «مكين» فالمكان: هو السماء والأرض. والمكين وهو الإنسان. والمكان مخلوق لله، والمكين مخلوق لله. وكان من المنطق
1366
أن نسلم وجهنا لمن خلق.
إذن فقول الحق: ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ أي انتبهوا أيها الناس، إنني لم أخرج عن دائرة الإيمان بالإله الواحد، والذي تؤمنون به. إنه هو الذي خلق وهو الذي أوجد الكون.
وبعد ذلك إذا كان في الإسلام خضوع، فإن الحق يأتي بأشرف شيء في الإنسان ليجعله مظهر الخضوع. لأن الوجه هو السمة العالية المميزة، وهو الذي يظهر عليه انفعالات الأحداث في الكون من سرور أو حزن، ويظهر عليه أنك قد تكون قد سجدت وأنت كاره للسجود، أو سجدت وأنت مقرب لله سبحانه وتعالى فيمتلئ الوجه بالبشر والبشاشة.
وقول الحق: ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾. تعني أن الوجه المسلم لله وهو أشرف شيء في الإنسان قد خضع للحق، وكأن القول الكريم لم ينسب الخضوع للبدن ولكن لأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه، والوجه يطلق مرة ويراد به الذات كلها، فعندما يقول إنسان: ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ﴾ فهو يعني «أسلمت ذاتي» بكل ما أوتيت الذات من جوارح ومن أعضاء. ولنقرأ قول الحق سبحانه: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: ٨٨].
أي كل شيء هالك إلا ذاته سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود ب ﴿إلا وجهه﴾ وإلا إن أخذنا الوجه على أنه الوجه فقط فقد يقول قائل: أليس لله يد مثلا؟ ونقول إن له يدا في نطاق ليس كمثله شيء، ولذلك فلا يد الله تهلك ولا أي شيء فيه يهلك، ووجهه يعْني ذاته في نطاق ليس كمثله شيء. وأطلق الوجه على الذات، لأن الوجه هو المشخص للذات، فلا يستطيع أحد أن يميز أعضاء بدن عن أعضاء بدن، إنما التمييز يأتي بسمة الوجه، لأنها السمة المميزة، وقول الحق في تلقينه لرسول الله: ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن﴾. تدل على أن الرسول قد أسلم وجهه لله؛ لأن الله خاطبه بوساطة الوحي، والوحي يباشره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن حين يقول: ﴿وَمَنِ اتبعن﴾ فقد قام الليل لمن اتبعني، وإن لم يكن مخاطبا من الله مباشرة.
1367
إذن فلا مجال لأن يقول قائل للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنت أسلمت وجهك لله لأنه خاطبك وحدك، وكأن صاحب هذا القول يريد خطابا لكل مؤمن، قال سبحانه: ﴿وَمَنِ اتبعن﴾ فمن اتبع الرسول فقد آمن بأن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو رسول صدق مبلغ عن الله منهج حق، فلا مجال لطلب البلاغ لكل فرد؛ لأن البلاغ قد وصل إليهم بالإيمان بما أنزله الله على رسوله الكريم ويأمر الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ﴾.
وساعة تقرأ أو تسمع أسلوبا فيه «همزة الاستفهام» فلك أن تعرف أن الاستفهام يطلب منه أن تُعرف الحقيقة، كقول إنسان لآخر: أعندك محمد؟ أو أزارك فلان؟ إن هذا استفهام المراد به فهم الحقيقة، ومرة يريد الاستفهام مجرد الأمر بشيء، كأن يأتيك ضيف وتجلس معه ويدخل عليك والدك فيقول لك: أصنعت قهوة لضيفك؟ إن ذلك توجيه لك إن كنت لم تقم بواجب الضيافة فعليك أن تسرع في القيام بهذا الواجب.
وعلى ذلك نفهم قول الحق: ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ ولذلك نقرأ قول الحق سبحانه بعد الكلام عن الخمر: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١].
إن قول الحق: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ يتضمن استفهاما، والاستفهام هنا يعني الأمر بالانتهاء. وفي مجال الآية التي نتعرض لها بالخواطر نجد قول الحق: ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ تعني الدعوة للإسلام، أي «أسلموا» وجاء بعد ذلك قول الحق الكريم: ﴿فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا﴾ ومعنى «اهتدوا» أنهم عرفوا الطريق الموصل للغاية التي خلق الله من أجلها الإنسان. وهنا يجب أن نعلم أن كلمة «الإسلام» هنا جاءت لتدل على الخضوع والخضوع لا يلمح إلا من خاضع، وعملية الخضوع تعرف بالحركة والسلوك، ولا تعرف فقط بالاعتقاد، ولذلك فالإمام علي كرم الله وجهه الذي أوتي شيئا من نفح النبوة في الأداء الإيماني بالأسلوب البياني الجميل قال الإمام عليّ لإخوانه: سأنسب الإسلام نسبا لم ينسبه قبلى أحد: الإسلام هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء، والأداء
1368
هو العمل، والمؤمن يُعرف إيمانه بالعمل. ونحن في حياتنا العادية نسأل: ما نسب فلان؟
أي أننا نسأل «هو ابن مَن» ؟ ومعنى كلمة «نسابة» عند العرب هو الرجل الذي يعرف سلسلة النسب، ومَن ابن مَن، ففلان ابن فلان ابن فلان، ابن فلان. والإمام عليّ كرم الله وجهه، حين ينسب الإسلام ينسبه بالفعل إلى نسب لم ينسبه قبله أحد. وحين ينتهي الإمام عليّ كرم الله وجهه إلى أن نسب الإسلام إلى العمل
قال:
المؤمن يعرف إيمانه بالعمل، فالدليل الصحيح على إيمان المؤمن هو عمله. ويضيف الإمام عليّ كرم الله وجهه: والكافر يُعرف كفره بالإنكار، وإن المؤمن قد أخذ دينه من ربه، ولم يأخذه برأيه. والسيئة في الإسلام خير من الحسنة في غيره؛ لأن السيئة في الإسلام تغفر، والحسنة في غيره لا تُقبل؛ لأن الكفر يصاحبها بالله هل هناك نسب للإسلام أروع من هذا؟ وهكذا نجد القول الكريم: ﴿فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا﴾. والمقابل للإسلام يأتي بعد ذلك: ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾ إن المقابل هو «تولوا» أي لم يسلموا، إنه الحق ينبه رسوله ألا يحزن وألا يأسف إن تولوا كما جاء في قوله الكريم: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً﴾ [الكهف: ٦].
لماذا؟ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليه البلاغ فقط، وما دام قد جاء في صدر الآية: ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن﴾ فإن البلاغ أيضا يشمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن اتبعه، ولذلك تأتي آية أخرى لتشرح هذه القضية الإيمانية، ولتبقى الرسالة في أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولتخبرنا أيضا لماذا لم يعد هناك داع لوجود أنبياء بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمناء على أن يعدلوا فساد السلوك في الكون، فلم يعد العالم في حاجة إلى أنبياء جدد، ولهذا السبب قال الرسول: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«العلماء ورثة الأنبياء».
1369
إذن ﴿فعليك البلاغ﴾ نأخذ منها الفهم الواضح أن البلاغ لا تنتهي مهمته عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إنما يشمل كل عالم بالبلاغ الذي وصل إلى رسول الله وآمن به، فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة، ويوضح الحق ذلك في آية أخرى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ [آل عمران: ١١٠].
ويقول الحق في آية أخرى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ... ﴾ [الحج: ٧٨] ومعنى ذلك أنكم تشهدون على الناس أنكم أبلغتموهم رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فمن لم يقم بإبلاغ الناس برسالة رسول الله فهو لم يأخذ ميراث النبوة، وميراث النبوة كما يكون شرف تبليغ، فهو أيضا تجلّد وتحمل، إن ميراث النبوة يكون مرة هو نيل شرف التبليغ لرسالةً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومرة أخرى يكون ميراث النبوة هو جلادة التحمل، في سبيل أداء الرسالة، وجلادة التحمل هي التي يجب أن يتصف بها أتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكلما ورثناه نحن المسلمين في شرف النبوة فإننا نرثه في جلادة التحمل، وهذا هو معنى القول الحق: ﴿لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ [الحج: ٧٨].
1370
فما معنى الأسوة إذن؟ إن الأسوة في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تقتضي أنه ما دام قد تحمل بجلادة بلاغ الناس في رسالته، فعلينا ايضا أن نقتدي به. لقد ناضل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعلى أتباع رسول الله أن يناضلوا في سبيل نشر الدعوة، فإن رأيت أهل الدين في استرخاء وترهل وعدم قدرة على النضال في سبيل البلاغ عن الله فلتعلم أن هؤلاء القوم لن يأخذوا ميراث النبوة. ولذلك إذا رأيت عالما من علماء الإسلام ليس له أعداء فأعلم أنه قد نقص ميراثه من ميراث الأنبياء.
لماذا؟ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان له أعداء وكان يواجههم، فساعة أن ترى رجل دين وله أعداء فاعرف أنه قد أخذ حظه من ميراث الأنبياء ولننظر الآن إلى قول الحق سبحانه تذييلا للآية يوضح لنا ما الإسلام: ﴿والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ لم يقل الله: إنه عليم بالعباد، لأن «عليم» تكون للأمور العقدية، لقد قال الحق في وصف ذاته هنا: «إنه بصير بالعباد»، والبصر لايأتي إلا ليدرك حركة وسلوكا.
فماذا يرى الله من العباد؟ إنه - سبحانه - يرى العباد المتحركين في الكون، وهل حركة العبد منهم تطابق الإسلام أولا؟ ومتابعة الحركة تحتاج إلى البصر، ولا تحتاج إلى البصر، ولا تحتاج إلى العلم، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟
إذن فقول الحق: ﴿والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ نفهم منها أن الإسلام سلوك لا اعتقاد فقط، لأن الذي يُرى هو الفعل لا المعتقدات الداخلية. ومادام الله بصيرا بكل سكنات الإنسان وحركاته فإن الإنسان يستحي أن يراه ربه على غير ما يحب، وأضرب هذا المثل للتقريب لا للتشبيه فالحق سبحانه له المثل الأعلى وليس كمثله شيء، ونحن في حياتنا العادية نجد أن الشاب الذي يدخن يستحي أن يظهر أمام كبار عائلته كمدخن، فيمتنع عن التدخين أثناء تواجده مع الكبار، فما بالنا بالعبد وهو يعتقد أن الله يراه؟ وبعد ذلك يقول الحق: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله... ﴾.
1371
وقلنا إن الحق حين يقول: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ هم الذين يكفرون بآيات الله على إطلاقها، وهناك فرق بين الكفر بآيات الله وبين الكفر بالله. لماذا؟ لأن الإيمان بالله يتطلب البينات التي تدل على الله، والبينات الدالة على وجود الله موجودة في الكون.
إذن فالبينات واضحة، إن الذي يكفر بالله يكون قبل ذلك كافرا بالأدلة التي تدل على وجود الخالق. إن الحق لم يقل هنا: إن الذين يكفرون بالله، وذلك حتى يوضح لنا أنّ الحق غيب، ولكن الآيات البينات ظاهرة في الكون، لذلك قال: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين﴾. ولنا أن نلاحظ هنا، أن كلمة القتل تأتي دائما للنبيين، أي أنها لا تأتي للذين أخذوا صفة تزيد على مهمة النبي، وهو الرسول، فليس من المعقول أن يرسل الله رسولا ليبلغ منهجا لله، فيُقدر الله خلقه على أن يقتلوا الرسول. ولكن الأنبياء يرسلهم الله ليكونوا أسوة سلوكية للمؤمنين، ولا يأتي الواحد منهم بتشريعات جديدة، أما الرسول فإن الله يبعثه حاملا لمنهج من الله. وليس من المعقول أن يصطفي الله عبدا من عباده ويستخلصه ليبلغ منهجه، ويُمَكّن الله بعد ذلك بعضا من خلقه أن يقتلوا هذا الرسول.
إن الخلق لا يقدرون على رسول أرسله الله، لكنهم قد يقدرون على الأنبياء، وكل واحد من الأنبياء هو أسوة سلوكية، ولذلك نجد ان كل نبيّ يتعبد على دين الرسول السابق عليه، فلماذا يقتل الخلق الأسوة السلوكية مادام النبيّ من هؤلاء قد جاء ليكون مجرد أسوة، ولم يأت بدين جديد؟ فلو كان النبي من هؤلاء قد جاء بدين جديد، لقلنا: إن التعصب للدين السابق عليه هو الذي جعلهم يقتلونه،
1372
لكن النبيّ أسوة في السلوك، فلماذا القتل؟ إن النبي من هؤلاء يؤدي من العبادة ما يجعل القوم يتنبهون إلى أن السلوك الذي يفعله النبيّ لا يأتي وفق أهوائهم.
إن القوم الذين يقتلون النبيين هم القوم الذين لا يوافقون على أن يسلكوا السلوك الإسلامي الذي يعني إخضاع الجوارح، والحركة لمنطق الدين ولمنطق الإسلام، لماذا؟ لأن النبيّ وهو ملتزم بشرع الرسول السابق عليه، حينما يلتزم بدين الله بين جماعة من غير الملتزمين يكون سلوكه قد طعن غير الملتزمين.
إن وجود النبيّ الذي يتمسك بشرع الله، ويخضع جوارحه، وسلوكه لمنهج الله بين جماعة تدّعي أنها تدين الله، ولكنها لا تتمسك بمنهج الله تحملهم إلى أن يقولوا: لماذا يفعل النبي هذا السلوك القويم، ولماذا يخضع جوارحه لمنطق الإيمان، ونحن غير ملتزمين مثله؟ وهذا السؤال يثير الغيظ والحقد على النبيّ بين هذه الجماعة عير الملتزمة بدين الله، وإن أعْلنت في ظاهر الأمر التزامها بالدين.
إنهم يحقدون على النبيّ لأنه يرتفع بسلوكه المسلم، وهم لا يستطيعون أن يرتفعوا ليكونوا مثله.
إن النبيّ بسلوكه الخاضع لمنهج الله يكون أسوة واضحة جلية يظهر بها الفرق بين مجرد إعلان الإيمان بمنهج الله، وبين الالتزام السلوكي بمنهج الله، وتكون أسوة النبيّ مُحقرة لفعلهم. ولذلك حين نجد إنسانا ملتزما بدين الله ومنهجه، فإننا نجد غير الملتزم ينال الملتزم بالسخرية والاستهزاء، لماذا؟ لأن غير الملتزم يمتلئ بالغيظ والحقد على الملتزم القادر على إخضاع نفسه لمنهج الله، ويسأل غير الملتزم نفسه:
لماذا يكون هذا الإنسان قادرا على نفسه مخضعا لها لمنهج الله وأنا غير قادر على ذلك؟ إن غير الملتزم يحاول إزاحة الملتزم وإبعاده من أمامه. لماذا؟ لأن غير الملتزم يتضاءل في نظر نفسه ونظر الآخرين إذا ما قارن نفسه بالملتزم بمنهج الله، وعندما يقارن الآخرون بين سلوك الملتزم بمنهج الله وسلوك غير الملتزم بمنهج الله فهم لا يحترمون غير الملتزم فيشعر بالصغار النفسى أمام الملتزم وأمام الناس فيحاول غير الملتزم أن يزيح الملتزم وينحيه عن طريقه، إن غير الملتزمين بمنهج الله يسخرون ويتغامزون على الملتزمين بمنهج الله، كما يقول الحق سبحانه وتعالى:
1373
﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ [المطففين: ٢٩ - ٣٣].
ألا توضح لنا تلك الآيات البينات ما يقوله غير الملتزمين في بعض مجتمعاتنا للملتزمين بمنهج الله؟ ألا نسمع قول غير الملتزمين للملتزم بمنهج الله: «خذنا على جناحك» ؟ إن هؤلاء غير الملتزمين ينطبق عليهم قول الحق: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ﴾ [المطففين: ٣٠ - ٣٢].
إن غير الملتزمين قد يفرح الواحد منهم، لأنه استطاع السخرية من مؤمن ملتزم بالله. وقد يتهم غيرُ الملتزمين إنسانا ملتزما بأن الالتزام ضلال. والحق سبحانه وتعالى يرد على هذا الاتهام بالقول الكريم: ﴿وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ [المطففين: ٣٣].
الحق يرد على الساخرين من الملتزمين بمنهج الله، فيضحك الذين آمنوا يوم القيامة من الكفار، ويتساءل الحق بجلال قدرته وتمام جبروته: ﴿فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: ٣٤ - ٣٦].
1374
هكذا ينال غير الملتزمين عقابهم، فماذا عن الذين يقتلون النبيين بغير حق؟ إن لنا أن نسأل: لماذا وصف الله قتل النبيين بأنه «بغير حق»، وهل هناك قتل لنبيّ بحق؟ لا يمكن أن يكون هناك قتل لنبي بحق، وإذا كان الله قد قال: ﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ هذا القول الكريم قد أتى ليوضح واقعا، إنه سبحانه يقول بعد ذلك في سلسلة أعمال هؤلاء الذين يقتلون النبيين بغير حق: ﴿وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس﴾ إنهم لم يكتفوا بقتل النبيين، بل يقتلون أيضا من يدافع من المؤمنين عن هذا النبيّ كيف؟ لأنه ساعة يُقتل نبيّ، فالذين التزموا بمنهج النبيّ، وكانوا معه لابد لهم أن يغضبوا ويحزنوا.
إن أتباع النبيّ ينفعلون بحدث قتل النبيّ فإن استطاعوا منع ذلك القتل لفعلوا وإن لم يستطع أتباع النبي منع قتل النبيّ فلا أقل من أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، لكن القتلة يتجاوز طغيانهم فلا يقتلون النبيين فقط فإذا قال لهم منكر لتصرفهم: ولماذا تقتلون النبيين؟ فإنهم يقتلونه أيضا، وبالنسبة لرسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونحن نعرف أن أعداءه قد صنعوا معه أشياء أرادوا بها اغتياله، وذلك يدل على غباء الذين فكروا في ذلك الاغتيال.
لماذا؟ لأنهم لم ينظروا إلى وضعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم يكن نبيا فقط، ولكنه رسول أيضا. وما دام رسولا فهو أسوة وحامل لمنهج في آن واحد، فلو كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نبيا فقط لكان في استطاعتهم أن يقتلوه كما قتلوا النبيين من قبل، لكنه رسول من عند الله، ولقد رأوه يحمل منهجا جديدا، وهذا المنهج يسفه أحلامهم، ويوضح أكاذيبهم، من تبديلهم للكتب المنزلة عليهم.
إذن، كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولا يحمل رسالة ومنهجا، وحينما أرادوا أن يقتلوه كنبيّ، غفلوا عن كونه رسولا. ولذلك قال الحق مطمئنا لنا ومحدثا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ [المائدة: ٦٧].
1375
الرسول الكريم إذن حامل رسالة ومعصوم بالله من أعدائه، والحق سبحانه وتعالى قد حكى عن الذين يقتلون الأنبياء، وأراد أن يطمئن المؤمنين، ويطمئن الرسول على نفسه، وأن يعرف خصوم رسول الله أنه لا سبيل إلى قتله، فيقول الحق: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١].
ولماذا يأتي الله ب «من قبل» هذه؟ إنه يوضح لنا وللرسول ولأعداء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن مسألة قتل الأنبياء كان من الممكن حدوثها قبل رسول الله، لكن هذه المسألة صارت منتهية، ولا يجرؤ أحد أن يمارسها مع محمد رسول الله، وبذلك طمأن الحق المؤمنين، وطمأن رسول الله بأن أحدا لن يناله بأذى، ولذلك قال الحق: ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ [المائدة: ٦٧].
وأيأس الحق الذين يريدون قتل رسول الله فقد قال لهم: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ﴾ [البقرة: ٩١].
ولو أن المسألة مسألة نبوة، ورسالة رسول الله غير داخلة في مواجيدهم، وكان إنكارهم لرسالته عنادا، لكانوا قد قالوا: «إن مسألة قتل الأنبياء لا تتوقف عند» من قبل «لأننا سنجعلها» من بعد «أيضا، لكانوا قد كتلوا قواهم وقتلوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن الله سبحانه أيأسهم وقنطهم من ذلك، وذلك من مناط قدرة الله.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى يحكي عن أمر في قتل الأنبياء، وقتل الذين يأمرون بالقسط، أكان ذلك معاصر لقول الرسول هذا؟ أو كان هذا الكلام لمن؟ إنه موجه لبعض من أهل الكتاب، إنه موجه لمن آمنوا باتباع الذين قتلوا النبيين من قبل، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط، لقد آمنوا كإيمان السابقين لهم من قتلة الأنبياء، وقتلهم للذين يأمرون بالقسط.
1376
وهذا تقريع لهؤلاء الذين اتبعوا في الإيمان قوما قتلوا الأنبياء من قبل، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط، إنه تقريع وتساؤل. كيف تؤمنون كإيمان الذين قتلوا الأنبياء؟ وكيف تتبعون من فعل مثل ذلك؟ وقد قص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أن بني إسرائيل قد قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا دفعة واحدة، فقام مائة وسبعون من أتباع الأنبياء لينكروا عليهم ذلك، فقتلوهم، وهذا هو معنى هذه الآية الكريمة:
﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]
لماذا يبشرهم الحق بعذاب أليم؟ أليس معنى التبشير هو إخبار بما يسر في أمد يمكن أن يؤتى فيه الفعل الذي يسر؟ إن التبشير دائما يكون للفعل الذي يسر، كتبشير الحق للمؤمنين بالجنة، ومعنى التبشير بالجنة أن الله يخبر المؤمن بأمر يُسر له المؤمن، ويعطي الحقّ الفرصة للمؤمن لينفذ منهج الله ليأخذ الجائزة والبشارة.
لماذا يكون الحديث بالبشارة موجها لأبناء الذين فعلوا ذلك؟ لأننا نعرف أن الذين قتلوا النبيين وقتلوا الذين أمروا بالقسط من الناس لم يكونوا معاصرين لنزول هذا الآية، إن المعاصرين من أهل الكتاب لنزول هذه الآية هم أبناء الذين قتلوا الأنبياء وقتلوا الذين أمروا بالقسط، ويبشرهم الحق بالعذاب الأليم؛ لأنهم ربما رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا. فإن كانوا قد رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا فلهم أيضا البشارة بالعذاب.
وتتسع دائرة العذاب لهم أيضا ولكن لماذا يكون العذاب بشارة لهم، رغم أن البشارة غالبا ما تكون إخبارا بالخير، وعملية العذاب الأليم ليست خيرا؟ إن علينا أن نعرف أنه ساعة نسمع كلمة «أبشر» فإن النفس تتفتح لاستقبال خبر يسر وعندما تستعد النفس بالسرور وانبساط الأسارير إلى أن تسمع شيئا حسنا يأتي قول: أبشر بعذاب أليم، ماذا يحدث؟ الذي يحدث هو انقباض مفاجئ أليم ابتداء مطمع «فبشرهم» وانتهاء مُيْئِس (بعذاب أليم) وهنا يكون الإحساس بالمصيبة أشد، لأن الحق لو أنذرهم وأوعدهم من أول الأمر بدون أن يقول: «
1377
فبشرهم» لكان وقوع الخبر المؤلم هينا.
لكن الحق يريد للخبر أن يقع وقوعاً صاعقا، ومثال لذلك قول الحق: ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ [الكهف: ٢٩].
إنهم يستغيثون في الآخرة، ويغاثون بالفعل، ولكن بماذا يغيثهم الله؟ إنه يغيثهم بماء كالمهل يشوي الوجوه. إننا ساعة أن نسمع «يغاثوا» قد نظن أن هناك فرجا قادما، ولكن الذي يأتي هو ماء كالمهل يشوي الوجوه. وهكذا تكون البشارة بالنسبة لمن قتلوا الأنبياء أو لأتباع القتلة الذين آمنوا بمثل ما آمن به هؤلاء القتلة. ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وكلمة «عذاب» تعني إيلام حيّ يحس بالألم. والعذاب هو للحيّ الذي يظل متألما، أما القتل فهو ينهي النفس الواعية وهذا ليس بعذاب، بل العذاب أن يبقى الشخص حيَّا حتى يتألم ويشعر بالعذاب، وقول الحق: ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ يلفتنا إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [النساء: ٥٦].
أي أن الحق يديم عليهم الحياة ليديم عليهم التعذيب. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ... ﴾.
1378
إنهم الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا النبيين بغير حق، وقتلوا الذين أمروا بالقسط بين الناس، هؤلاء لهم العذاب، ولهم أيضا حبط العمل في الدنيا
1378
والآخرة، وكذلك من نهج نهجهم، ومعنى «حبطت» أي لا ثمرة مرجوة من العمل، إن كل عمل يعمله العاقل لا بد أن يكون لهدف يقصده، فأي عمل لا يكون له مقصد يكون كضربة المجنون ليس لها هدف. إن العاقل قبل أن يفعل أي عمل ينبغي أن يعرف الغاية منه، وما الذي يحققه من النفع؟ وهل هذا النفع الذي سوف يحققه هو خير النفع وأدومه، أو هو أقل من ذلك؟
وعلى ضوء هذه المقاييس يحدد العاقل عمله، وحينما يقول الحق: ﴿أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة﴾ فهو سبحانه يريد أن يخبرنا أن إنسانا قد يفعل عملا هو في ظاهره خير، فإياك أن تغتر أيها المؤمن بأنه عَمِلَ خيرا. لماذا؟ لأن عمل الخير لا يحسب للإنسان إلا بنية إيمانه بمن يجازى فالإنسان إن عمل عملا قد تصلح به دنياه فهو عمل حسن، فلماذا يكون عمل هؤلاء حابطا في الدنيا، وفي الآخرة؟ إنه حابط بموازين الإيمان ويكون العمل حابطا لأنه لم يصدر من مؤمن، لأن ذلك الإنسان قد عمل العمل ثقة بنتيجة العمل، لا ثقة بالأمر الأعلى.
إن الإنسان المؤمن حين يقوم بالعمل يقوم بالعمل ثقة في الأمر الأعلى. وبعض من الناس في عصرنا يأخذون على الإسلام أنه لا يجازي الجزاء الحسن للكفرة الذين قاموا بأعمال مفيدة للبشرية. يقوم الواحد منهم: هل يعقل أحد أن «باستير» الذي اكتشف الميكروبات، والعالم الآخر الذي اكتشف الأشعة، وكل هؤلاء العلماء يذهبون إلى النار؟ ولهؤلاء نقول: نعم، إن الحق بعدالته أراد ذلك، ولنتقاض نحن وأنتم إلى أعراف الناس. إن الذي يطلب أجرا على عمل يطلبه ممن؟ إنه يطلب الأجر ممن عمل له. فهل كان الله في بال هؤلاء العلماء وهم يفعلون هذه الأعمال؟ إن بالهم كان مشغولا بالإنسانية، وقد أعطتهم الإنسانية التخليد، وغير ذلك من مكاسب الدنيا، وينطبق عليهم قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن أول الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال؛ فاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جرىء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلّم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن، ليقال: هو قارئ
1379
فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار».
إذن فإذا كان الجزاء من الله، فلنا أن نسأل: هل كان الله في بال هؤلاء العلماء حينما أنتجوا مخترعاتهم؟ لم يكن في بالهم الله. والذي يطلب أجرا، فهو يطلبه ممن عمل له. ولم يُضع الله ثمرة عملهم، بل درت عليهم أعمالهم الذكر والجاه والرفعة. لم يضع الله أجر من أحسن عملا. ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠].
وقد قلت لكم قديما: تذكروا المفاجأة التي تحدث لمن عمل عملا هو في ظاهره خير، ولكن لم يكن ربه في باله، هذا ينطبق عليه قول الحق: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب﴾ [النور: ٣٩].
إنه يفاجأ بوجود الله، ولم يكن هذا الإله في باله ساعة أن قام بهذا العمل الذي هو في ظاهره خير، كأن الله يقول لصاحب مثل هذا العمل: أنا لم أكن في بالك ساعة أن قمت بهذا العمل، فخذ جزاءك ممن كان في بالك. ﴿أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ إن أعمالهم حبطت في الدنيا، لأنهم قد يعملون عملا يراد به الكيد للإسلام، لذلك لا يمكنهم الله من ذلك، بل يخذلهم
1380
جميعا. وانتصر دين الله رغم قلة العُدّة. وليس لهؤلاء ناصرون. أي ليس لهم من يأتي ويراهم مهزومين أمام خصم لهم وينجدهم إنهم لن يجدوا ناصرا إذا هزمهم الله، فليس مع الله أحد غيره. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب... ﴾
1381
ونعرف أننا ساعة نسمع قول الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾. فهنا همزة استفهام، وهنا أداة نفي هي «لم»، وهنا «تر» ومعناها أن يستخدم الإنسان آلة الإبصار وهي العين. فإذا ما قال الله لرسوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾. إن هذه دعوة لأمر واضح. لكن في بعض الأحيان تأتي ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ في حادث كان زمانه قبل بعثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يره رسول الله كقول الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾ [الفيل: ١].
إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ير أصحاب الفيل، إذن فساعة تسمع ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ إن كان حدثها من المعاصر، فمن الممكن أن تكون رؤية، والرؤية تؤدي إلى علم يقين، لأنها رؤية لمشهود وإن جاءت ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ في أمر قد حدث من قبل، أو أمر لما يحدث بعد فهي تعني «ألم تعلم» ؛ لأن الرؤية سيدة الأدلة، فكأن الله سبحانه وتعالى ساعة يقول لرسوله في حدث لم يشهده الرسول: ألم تر؟ فهذا معناه: ألم تعلم؟
وقد يقول قائل: ولماذا لم يأت ب «تعلم» وجاء ب «تر» ؟ لأن سيادة الأدلة هو الدليل المرئي، فكأن الله يريد أن يخبرنا ب ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أن نأخذ المعلومة من الله على أنها
1381
مرئية، وليكن ربك أوثق عندك من عينك، إنك قد لا ترى بالفعل هذا الأمر الذي يخبرك به الله، ولكن لأن القائل هو الله، ولا توجد قدرة تُخرج ما يقوله الله على غير ما يقوله الله. لذلك فقد قلنا ساعة يعبر الله عن الأمر المستقبل الذي سيأتي بعد، فإنه قد يعبر عنه بالماضي، فالحق قد قال: ﴿أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١].
فهل ينسجم قوله: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ مع ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ ؟ إن الأمر الذي يخبرنا به الله قد أتى، فكيف يمكن عدم استعجاله؟ إن «أتى» معناها أن الأمر قد حصل قبل أن يتكلم. يجب علينا إذن أن نعرف أن الذي قال: «أتى» قادر على الإتيان به، فكأنه أمر واقع، إنها مسألة لا تحتاج إلى جدال؛ لأنه لا توجد قوة تستطيع أن نتازع الله لتبرز أمرا أراده في غير مراده. فكأن قوله الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ إن كانت تحكى عن حدث فات زمنه فالذي يأتي منها هو العلم، لأنه إخبار الله، وإن كانت تحكى عن حدث معاصر فالذي يأتي منه أيضا هو العلم؛ لأنه صادر عن رؤية ومشاهدة.
وعندما يقول الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾.
«وأوتوا» تلفتنا إلى قوم قد نزل إليهم منهج من أعلى. ولذلك يأتي في القرآن ذكر المنهج ب «نزل» و «أنزل»، وذلك حتى نشعر بعلو المكانة التي نزل منها المنهج. وما هو النصيب؟ إننا نسمي النصيب «الحظ»، أو خارج القسمة، كأن يكون عندنا عشرون دينارا، ونقسمهما على أربعة فيكون لكل واحد خمسة، هذه الخمسة الدنانير هي التي تسمى «نصيبا» أو «حظا»، والنصيب: «حظ» أو «قسمة» يضاف لمن أخذه.
إذن، فلماذا يقول الحق: ﴿الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ إنها لفتة جميلة، فالكتاب كله لم يبق لهم، إنما الذي وصل وانتهى إليهم جزء بسيط من الكتاب، فكأن هذه الكلمة تنبه الرسول والسامعين له أن يعذروا هؤلاء القوم حيث لم يصلهم من الكتاب إلا جزء يسير منه، إن نصيبا من الكتاب فقط هو الذي وصلهم.
1382
ويشرح الحق ذلك في آيات أخرى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ﴾ [المائدة: ١٣].
إن الجزء المنسي من الكتاب لم يأخذه المعاصرون لرسول الله. وقلنا أيضا: إن الحق قد أوضح أن بعضهم كتم بعضا من الكتاب. ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٤٦].
وما دام هناك من كتم بعضا من الكتاب فمعنى ذلك كتمانه عن المعاصرين له، وهناك أناس منهم مخدوعون، فشيء من الكتاب قد نسى، وبالتالي مسح من الذاكرة، وهناك شيء من الكتاب قد كتم، فصار معلوما عند البعض، وغير معلوم عند البعض الآخر، وحتى الذي لم يكتموه، جاء فيه القول الحكيم: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ٧٨].
إذن فالكتاب الذي أنزل إليهم من الله قد تعرض لأكثر من عدوان منهم، ولم يبق إلا حظ من الكتاب، وهذا الحظ من الكتاب هو الذي يجادل القرآن به هؤلاء الناس، إن القرآن لا يجادلهم فيما تبدل عندهم بفعل أحبارهم ورهبانهم السابقين، ولكنه يجادلهم بالنصيب الذي أوتوه.
يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله
1383
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ}. وعن أي كتاب لله تتحدث هذه الآية؟ هل تتحدث عن القرآن؟ لو كان الحديث عن القرآن فلا بد أنه حُكِّمَ في أمر بينهم وبين رسول الله، لكن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب قد اختلفوا فيما بينهم، ولماذا يختلفون فيما بينهم؟ السبب هو أيضا لون من البغي فيما بينهم.
وإذا كان الكتاب هو القرآن، أليس القرآن مصدقا لما معهم؟
إذن فعندما يدعون ليتم التصديق على ما جاء في كتبهم، فالدعوة هنا لأن يسود حكم القرآن. وما معنى ﴿يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله﴾، إن الداعي هو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهم المدعون، وما دام الحق قد قال: ﴿أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ فهل كان خلافهم في النصيب الذي بين أيديهم أم النصيب المحذوف؟ إنه خلاف بينهم في النصيب الذي بين أيديهم، ليكون ذلك حجة على أنهم غير مأمونين حتى على ما وصل إليهم وما هو مكتوب عندهم. وعندما تكلم العلماء عن هذه المسألة أوردوا لذلك الأمر حادثة. لقد اختلفوا في أمر سيدنا إبراهيم وقالوا: إن سيدنا إبراهيم يهودي وقال بعضهم: إنه نصراني. وجاء القرآن حاسما: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ [آل عمران: ٦٧].
لماذا.. لأن كلمة يهودي ونصراني قد جاءت بعد إبراهيم، وكان لا بد لهم أن يخرجوا من قلة الفطنة وأن يرتبوا الأحداث حسب زمنها، إذن ففي إي أمر اختلفوا؟ هل اختلفوا في أمر النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ هل اختلفوا في حكم موجود عندهم في التوراة؟ لقد كانت الدعوة موجهة إليهم في ماذا؟ إنهم ﴿يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ وذلك يدل على أن كلمة: ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩].
هي حالة شائعة بينهم، لماذا؟ لأن العلماء حينما ذكروا الحادثة التي دعوا للحكم فيها بكتاب الله، قال العلماء: إن اثنين من يهود خيبر - امرأة - خيبرية ورجل من
1384
خيبر، قد زنيا، وكان الاثنان من أشراف القوم، ويريد الذي يحكمون في هذا الأمر بكتاب التوراة ألا يبرزوا حكم الله الذي جاء بالتوراة، وهو الرجم، فاحتالوا حيلة، وهي أن يذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولماذا يذهبوا في هذه الجزئية إلى رسول الله عليه وسلم؟ إننا نأخذ مجرد الذهاب إلى رسول الله ارتضاء لحكمه.
لكن لماذا لم يرتضوا من البداية بكل ما جاء به رسول الله؟ لقد أرادوا أن يذهبوا لعلهم يجدون نفعا في مسألة يبغونها، أما في غير ذلك فهم لا يذهبون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إن مجرد ذهابهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعطينا فكرة عنهم، لقد كانوا يريدون حكما مخففا غير الرجم. إن الزاني وهو من خيبر والخيبرية الزانية أرادا أن يستنقذا أنفسهما من حكم التوراة بالرجم، إنهما من أشراف خيبر، ولأن اليهود قد صنعوا لأنفسهم في ذلك الوقت سلطة زمنية، فذهب الزاني والزانية ومعهما الأحبار الذين الذين يريدون أن يلووا حكم الله السابق نزوله في التوارة وهو الرجم.
وعندما دخلوا على رسول الله كان هناك واحد اسمه «النعمان بن أوفى»، وواحد اسمه «بحرى بن عمرو» فقالوا: يارسول اقض بين هؤلاء، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما معناه: أوَ ليس عندكم حكم؟ وأضاف رسول الله ما معناه: أنا احتكم إلى التوراة وهي كتابكم، فماذا قالوا: ؟ قالوا: أنصفتنا.
وكان رسول الله قد بين لهم حكم الإسلام في الزنا بأنه الرجم، وجيء بالجزء الباقي عندهم من التوراة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي يتضمن الحكم الملزم دليلا على أن الله أطلعه على أشياء لم تكن في بال أحد. فدعا بقسم من التوراة، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما معناه: أيكم أعلم بالتوراة؟ فقالوا شخص اسمه عبد الله بن صورية فأحضروه، وأعطاه التوراة، وقال: اقرأ مجلس عبد الله بن صورية يقرأ، فلما مر على آية الرجم وضع كفه عليها ليخفيها، وقرأ غيرها وكان عبد الله بن سلام حاضرا، فقال: يا رسول الله أما رأيته قد ستر بكفه آية وقرأ ما بعدها؟ وزحزح ابن سلام كف الرجل، وقرأ هو فإذا هي آيةُ الرجم.
هذه المسألة تعطينا أن الحكم في القرآن الكريم هو الحكم في التوراة في أمر الزنا، وتعطينا أيضا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفاض الله عليه من إلهاماته فجاء
1385
بالجزء من التوراة الذي يحمل هذا النص. وجاء بعد ذلك جندي من جنود الله هو عبد الله بن سلام وكان يهوديا قد أسلم ليظهر به رغبة القوم في التزييف والتزوير.
وإسلام عبد الله بن سلام له قصة عجيبة، فبعد أن اختمر الإيمان في قلبه، جاء إلى رسول الله قائلا: لقد شرح الله صدري إلى الإسلام ونطق بكلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ولكني أحب قبل أن أعلن إسلامي أن تحضر رؤساء اليهود لتسألهم رأيهم في شخصى، لأن اليهود «قوم بهت» فيهم افتراء وفيهم الكذب وفيهم التضليل، فلما سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رؤساء اليهود عن رأيهم في عبد الله بن سلام قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا.. إلخ. وأفاضوا في صفات المدح والإطراء والتقدير. فقال عبد الله بن سلام أمامهم: الآن أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فانقلب رؤساء اليهود، وقالوا في عبد الله بن سلام: عكس ما قالوه أولا، قالوا: إنه خبيثنا وابن خبيثنا.. إلخ.
لقد غيروا المديح إلى ذم. فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله أما قلت لك: إنهم قوم بهت؟ والله لقد أردت أن أعلمك برأيهم في قبل أن أسلم. ذلك هو عبد الله بن سلام الذي زحزح كف عبد الله بن صورية عن النص الذي فيه آية الرجم في التوراة، وفي ذلك جاء القول الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ إنهم الذين أعرض فريق منهم عن قبول الحق.
ما سبب هذا الإعراض؟ أهو قضية عامة؟ أو أنّ سبب هذا الإعراض هو السلطة الزمنية التي أراد اليهود أن يتخذوها لأنفسهم؟ ومعنى السلطة الزمنية أن يجيء أشخاص فيأخذوا من قداسة الدين ما يفيض عليهم هم قداسة، ويستمتعوا بهذه القداسة ثم يستخدموها في غير قضية الدين، هذا هو معنى السلطة الزمنية. وقلنا سابقا: إن كل تحوير في منهج الله سببه البغي، والمفروض أن أهل الكتاب من أصحاب التوراة كانوا يستفتحون على العرب ويقولون: سيأتي نبي من العرب نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما جاءهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما عرفوه سابقا في كتبهم كفروا به، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في مثل هذه القضية موضحا موقفهم من قضية الإيمان العليا:
1386
﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ [الرعد: ٤٣].
فكأن من عنده علم بالكتاب كان مفروضا فيه أن يشهد لصالح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإلا فلا يقول الله: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ لن يقول الحق ذلك إلا إذا كان عند علماء أهل الكتاب ما يتفق مع ما جاء به الله في صدق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البلاغ عنه، وكان السبب في محاولة بعض اليهود لإنكار رسالة رسول الله هو السلطة الزمنية، وأرادوا أن ييسروا لأتباعهم أمور الدين.
إن كل دعي - أي مزيف - في مبدأ من المبادئ يحاول أن يأخذ لنفسه سلطة زمنية، فيأتي إلى تكاليف، الدين التي قد يكون فيها مشقة على النفس، ويحاول أن يخفف من هذه التكاليف، أو يأتي بدين فيه تخفيف مخل بالعبادات، فإذا نظرنا إلى مسيلمة الكذاب نجده قد خفف الصلاة حتى يُرغب في دينه من تشق عليه الصلاة، وينضم إلى دين مسيلمة، وحذف مسيلمة جزءا من الزكاة، وهذا يعطي فرصة التحلل من تكاليف الدين، ولذلك فالذي أفسد الأديان السابقة على الإسلام أن بعضا من رجال الدين فيها كلما رأوا قوما على دين فيه تيسيرات أخذوا من هذه التيسيرات ووضعوها في الدين؛ لأن تكاليف الدين شاقة ولا يحمل إنسان نفسه عليها إلا من آمن بها إيمان صدق وإيمان حق، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في عمدة العبادات وهي الصلاة: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥].
ويقول في موقع آخر في القرآن الكريم عن الصلاة: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى﴾ [طه: ١٣٢].
1387
إن الحق عليم حكيم بمن خلق وهو الإنسان، ويعلم أن الضعف قد يصيب روح الإنسان فلا يصطبر على الصلاة، أو يراها تكليفا صعبا، لكن الذي يقيم الصلاة ويحافظ عليها فهو الخاشع لربه.
ولذلك فإننا نجد أن كل منحرف يأتي ويحاول أن يخفف من تكاليف الدين، ويحاول أن يحلل أشياء محرمة في الدين، ولم نر منحرفا يزيد في الأشياء المحرمة. إن المنحرفين يريدون إنقاص الأمور الحرام. إذا سألنا هؤلاء المنحرفين: لماذا تفعلون ذلك؟ فإننا نجد أنهم يفعلون ذلك لجذب الناس إلى أمور محرمة يحللها هؤلاء المنحرفون. ولذلك أراد أراد بعض اليهود أن يسهلوا على أتباعهم الدين، وقال بعض من أحبارهم: لا تخافوا من أمر يوم القيامة. وجاء القول الحق يحكي عنهم وكأنهم حاولوا أن يفهموا الأمر بأن الله يحلل لهم أمورا لا، إن الله لم يحلل إلا الحلال، ولم يحرم إلا الحرام. وإذا كان الحق قد قال: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ والله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ العليم الحكيم﴾ [التحريم: ٢].
فهذا القول الحكيم جاء في مناسبة محددة وينطبق فقط في مجال ما حلل الله فلا تحرمه، أما ما حرم الله فلا تقربه، لقد أرادوا أن يبيحوا للأتباع ارتكاب الآثام، لأن النار لن تصيبهم إلا أيام معدودة، وإذا دققنا التأمل في القول الحق الذي جاء على لسانهم، فإننا نجد الآتي: إننا نعرف أن لكل حدث زمان، ولكل حدث قوة يحدث عليها، فمن ناحية الزمان. قال هؤلاء المزوّرون لأحكام الله عن يوم القيامة إنها أيام معدودة، فلا خلود في النار، وحتى لو كان العذاب شديدا فإنه أيام معدودة، فالإنسان يستطيع أن يتحمل، ومن ناحية قوة الحدث أرادوا أن يخففوا منه، فقالوا: إنه عذاب ليس بشديد إنما هو مجرد مس. إنهم يحاولون إغراء الناس لإفسادهم وقال هؤلاء الأحبار: نحن أبناء الله وأحباءه أرأيتم أحدا يعذب أبناءه وأحباءه؟ لقد أعطى الله يعقوب النبوة، ولا يمكن أن يعاقب ذريته أبدا، إلا بمقدار تحلة القسم. ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ٤٤].
إن أيوب عليه السلام قد حلف أن يضرب امرأته إذا برئ من مرضه مائة سوط، وأراد الله أن يحله في هذا القسم فأمره أن يأخذ حزمة من حشيش أو
1388
عشب فيها مائة عود ويضربها بها ضربة خفيفة ليبرّ في قسمه، وكان ذلك رحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وقت المرض، وكان أيوب عبدا شاكراً لله، كأن الضربة الواحدة هي مائة ضربة، وهذا تحليل للقسم، وقال بعض من بني إسرائيل: إن ذرية بني يعقوب لن تُعذب من الله إلا بمقدار تحلة القسم، وكل ذلك ليزينوا للناس بقاءهم على هذا الدين الذي سوف تكون الآخرة فيه بعذابها مجرد مس من النار، وأيام معدودة، بادعاء أن بني يعقوب هم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله قد أعطى وعداً ليعقوب بأنه لن يعذب أبناءه إلا بمقدار تحلة القسم، وهذا بطبيعة الحال هو تزييف لدين الله ومنهجه لقد تولوا عن منهج الله، وأعرضوا عنه بعصيان، يوضح لنا هذا المعنى القول الكريم: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ... ﴾
1389
لقد تولوا وهم معرضون عن حكم الله لقد ظنوا أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات. ولنا أن نعرف معنى «غرهم» ولنا أن نسأل ما الغرور؟ إن الغرور هو الأطماع فيما لا يصح ولا يحصل، فعندما تقول لواحد والعياذ بالله: «أنت مغرور» فأنت تقصد أنه يسلك سبيلا لا يوصله إلى الهدف المنشود. إذن فالغرور هو الإطماع فيما لا يصح ولا يحصل، ولذلك يسمى الله الشيطان «الغرور». ﴿ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير﴾ [فاطر: ٥ - ٦].
إنه الشيطان الذي يزين للناس بعض الأمور ويحث الخلق ليطمعوا في حدوثها،
1389
وعندما تحدث فإن هذه الأمور لا صواب فيها، فهي مما زينه الشيطان، لذلك فحصيلتها لا تتناسب مع الطمع فيها. والحق سبحانه يقول عن الدنيا: ﴿اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور﴾ [الحديد: ٢٠].
ويقال عن الرجل الذي ليس له تجربة: إنه «غِرٌّ» فيأتي بأشياء بدون تجربة؛ فلا ينتفع منها، ولا تصح. إذن، فكل مادة «الغرور» مأخوذة من إطماع فيما لا يصح ولا يحصل. لذلك سمى الله الشيطان «الغرور» لأنه يطمعنا نحن البشر بأشياء لا تصح ولا تحدث، ولهذا سوف يأتي الشيطان يوم القيامة ليتبرأ من الذين اتبعوه ويتهمهم بالبلاهة: ﴿وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ من قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم: ٢٢].
ما معنى ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ ؟ السلطان أي القوة التي تقنع الإنسان بعمل فعل ما، وهو إما أن يكون سلطان الحجة فيقنعك بفعل ما، فتفعله، وإما أن يكون سلطان القوة، فيرغمك أن تفعل، السلطان - إذن - نوعان: سلطان حجة، وسلطان قوة، والفرق بين سلطان الحجة وسلطان القوة القاهرة على الفعل، هو أن سلطان الحجة يقنعك أن تفعل وأنت مقتنع، أما سلطان القوة القاهرة فهو لا يُقنع الإنسان، ولكنه يُرغم الإنسان على فعل ما، ولذلك فالشيطان يعلن لأتباعه يوم القيامة: لم يكن لي سلطان عليكم،
1390
لا حجة عندي لأقنعكم بعمل المعاصي، ولا عندي قوة ترغمكم على الفعل، لكنكم أنتم كنتم على حرف إتيان المعاصي ودعوتكم فاستجبتم لي.
ويضيف الشيطان مخاطبا أتباعه: ﴿مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: ٢٢].
أي أن الشيطان يؤكد أنه لن يفزع لأحد من الذين اتبعوه لينجده، إن كلمة «يصرخ» تعني أن هناك مَنْ يفزع لأحد تلبية لنداء أو استغاثة. الشيطان إذن لن ينجد أحدا من عذاب الله، ولن ينجد أحد الشيطان من عذاب الله، وهكذا ذهب بعض من أهل الكتاب إلى الغرور في دين الله، فافتروا أقوالا على الله، لم تصدر عنه، وصدقوا افتراءاتهم، ويا ليت غرورهم لم يكن في الدين لأن الغرور في غير الدين تكون المصيبة فيه سهلة لكن الغرور في الدين هو المصيبة الكبرى، لماذا؟ لأن الغرور في أي أمر يخضع لقانون واضح، وهو أن ميعاد كل حدث موقوت بماهيته، لكن الغرور في امر الدين مختلف لماذا؟ لأن حدث الدين غير موقوت بماهية الزمان، إنه مستمر، لأن منهج قيم صدر من الحق إلى الخلق، إن الغرور في أي جزئية من جزئيات الدنيا، فإن فشلت فالفشل يقف عند هذه الجزئية وحدها، ولا يتعدى الفشل إلى بقية الزمن، لكن الغرور في الدين يجعل العمر كُله يضيع، لأن الإنسان لم يتبع المنهج الحق بل يمتد الضياع والعذاب إلى العمر الثاني وهو الحياة في الآخرة يقول الحق: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: ٢٤].
والإفتراء هو تعمد الكذب، إن الحق سبحانه يوضح لهم المعنى فيقول: إن حصل ذلك منكم وأعرضتم عن حكم الله الذي دعيتم إليه في كتاب الله، وعللتم ذلك بأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، وادعيتم كذبا أن الأيام المعدودات هي أيام عبادتكم للعجل، وادعيتم أنكم أبناء الله وأحباءه، إن ذلك كله غرور وافتراءات، ويا ليتهم كانوا يعلمون صدق هذه الافتراءات، لكنهم هم الذين قالوها ويعرفون أنها كذب، فإذا جاز ذلك لهم في هذه الدنيا فكيف يكون موقفهم
1391
وحالهم عندما يجمعهم الله في يوم لا ريب فيه؟ وفي هذا يقول الحق: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ....﴾
1392
إن كذبهم سينكشف في هذا اليوم، فالفاضحة قد جاءت، والفاضحة هي القيامة، إنها تفضح كل كذاب وكل غشاش وكل داعية بغير الحق. إن الحق يتساءل: كيف يصنعون ذلك كله في الحياة التي جعلنا لهم فيها اختيارا، فيفعلون ما يريدون، ولا يفعلون ما لا يريدون، يحدث منهم كل ذلك وهم يعلمون أن الحق قد جعل الثواب لمن اتبع تكاليف الله، وجعل العقاب لمن يخرج عن مراد الله، كيف يتصرفون عندما يسلب الحق منهم الاختيار ويجئ يوم القيامة. لقد كانوا في الدنيا يملكون عطاء الله من قدرة الاختيار بين البديلات، وركز الله لهم في بنائهم أن كل جوارحهم خاضعة لارادتهم كبشر من خلق الله، فمنهم من يستطيع ان يستخدم جوارحه فيما يرضى الله، وفيهم من يستخدم جوارحه المسخرة له - بفضل الله - فيما لا يرضى الله، إن الجوارح كما نعلم جميعا خاضعة لإرادة الإنسان، وإرادة الإنسان هي التي تختار بين البديلات، لكن ماذا يفعل هؤلاء يوم القيامة؟ إن الجوارح التي كانت تطيع الخارجين عن منهج الله في الفعل لا تطيعهم في هذا اليوم العظيم؛ لأن الطاعة اختيار أن تفعل وتطيع، والجوارح يوم القيامة لا تكون مقهورة لإرادة الإنسان، إن الجوارح يوم القيامة تنحل عنها صفة القهر والتسخير لمراد الإنسان، وتصير الجوارح على طبيعتها: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين﴾ [النور: ٢٤ - ٢٥].
إن اللسان كان أداة إعلان الكفر، وهو يوم القيامة يشهد على الكافر، واليد
1392
كانت أداة معصية الله، وهي يوم القيامة تشهد على صاحبها، والجلود تشهد أيضا، لقد كانت الجوارح خاضعة لإرادة أصحابها، وتفعل ما يريدونها أن تفعل، ولكنها كانت تفعل الفعل العاصي لله وهي كارهة لهذا الفعل؛ لذلك يقول الحق:
﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ٢٥].
كيف يكون حالهم يوم يجمعهم الله للجزاء في يوم لا ريب فيه ولا شك في مجيئه.. وهذا اليوم قادم لا محالة لقيام الأدلة على وجوده، رغم خصومتهم لله فإن الله العادل الحق لا يظلمهم بل سيأخذهم بمقاييس العدل.
1393
وساعة تسمع كلمة «ملك»، فلنا أن نعرف أن هناك كلمة هي «مُلك» بضم الميم، وكلمة أخرى هي «مِلك» بكسر الميم. إن كلمة «مِلك» تعني أن للإنسان ملكية بعض من الأشياء، كملكية إنسان لملابسه وكتبه وأشيائه، لكن الذي يملك مالك هذا الملك فهذا تسميه «مُلك»، فإذا كانت هذه الملكية في الأمر الظاهر لنا، فإننا نسميه «عالم الملك»، وهو العالم المُشاهد، وإذا كانت هذه الملكية في الأمر الخفي فإننا نسميه «عالم الملكوت». إذن، فنحن هنا أمام «مِلك»، و «مُلك» و «ملكوت». ولذلك فعندما تجلى الحق سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم خليل الرحمن وكشف له ما خفي عن العيون وما ظهر، قال سبحانه:
1393
﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين﴾ [الأنعام: ٧٥].
أي أن الله سبحانه وتعالى أراد لسيدنا إبراهيم أن يشاهد الملكوت في السماوات والأرض، أي كل الأشياء الظاهرة والخافية المخفية عن عيون العباد. وهكذا نرى مراحل الحيازة كالآتي: ملك، أي أن يملك الإنسان شيئا ما، وهذا نسميه مالكا للأشياء فهو مالك لاشيائه، ومالك لمتاعه أما الذي يملك الانسان الذي يملك الاشياء فإننا نسميه «مُلك»، أي أنه يملك من يملك الأشياء، والظاهرة في الأولى نسميها «مِلْك» فكل إنسان له ملكية بعض من الاشياء، وبعد ذلك تنحاز الى الأقل، اي ان تنسب ملكية أصحاب الأملاك إلى ملك واحد. فالملكية بالنسبة للإنسان تتلخص في أن يملك الإنسان شيئا فيصير مالكا، وإنسان آخر يوليه الله على جماعة من البشر فيصير مَلِكاً، هذا في المجال البشرى.
أما في المجال الإلهي، فإننا نُصعد لنرى من يملك كل مالك وملك، إنه الله سبحانه وتعالى. ولا يظن أحد أن هناك إنسانا قد ملك شيئا؛ أو جاها في هذه الدنيا بغير مراد الله فيه فكل إنسان يملك بما يريده الله له من رسالة فإذا انحرف العباد فلا بد أن يولى الله عليهم ملكا ظالما، لماذا؟ لأن الأخيار قد لا يحسنون تربية الناس. ﴿وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٩].
وكأن الحق سبحانه يقول: يأيها الخيِّر - بتشديد الياء - ضع قدما على قدم ولا تلوث يدك بأن تنتقم من الظالم، فسوف أضع ولاية ظالم أكبر على هذا الظالم الصغير، إنني أربأ بك أن تفعل ذلك، وسأنتقم لك، وأنت أيها الخيِّر منزه عندي عن ارتكاب المظالم ولذلك نجد قول الحق: ﴿وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٩].
1394
ونحن جميعا نعرف القول الشائع: «الله يسلط الظالمين على الظالمين».
ولو أن الذين ظلموا مُكِّن منهم من ظلموهم ما صنعوا فيهم ما يصنعه الظالمون في بعضهم بعضا. إن الحق يسلط الظالمين على الظالمين، وينجى أهل الخير من موقف الانتقام ممن ظلموهم.
إذن فنحن في هذه الحياة نجد «مالك» و «ملك» وهناك فوق كل ذلك «مالك الملك»، ولم يقل الله: إنه «ملك الملك» ؛ لأننا إذا دققنا جيدا في أمر الملكية فإننا لن نجد مالكا إلا الله. ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك﴾ إنه المتصرف في ملكه، وإياكم أن تظنوا أن أحدا قد حكم في خلق الله بدون مراد الله، ولكن الناس حين تخرج عن طاعة الله فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم، ولذلك فالحق سبحانه يقول في حديثه القدسي:
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يطوى الله - عَزَّ وَجَلَّ - السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟».
إياك أيها المؤمن أن تظن أن أحدا قد أخذ الملك غضبا من الله. إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد. وإن ظلم الملك في التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه، ومن رأى ظلم هذا الملك أو ذاك الحاكم فمن الجائز أن يريه الله هذا الملك أو ذلك الحاكم مظلوما. إنه القول الحكيم يؤكد لنا أنه سبحانه وتعالى مالك الملك وحده.
إن الحق سبحانه يأمر رسوله الكريم: ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك﴾ إن كلمة «اللهم» وحدها فيها عجب من العجائب اللغوية، إن القرآن قد نزل باللسان العربي وأمة العرب فصيحة اللسان والبيان والبلاغة، وشاء الحق أن يكون للفظ الجلالة «الله» خصوصية فريدة في اللغة العربية.
إن اللغة العربية تضع قاعدة واضحة وهي ألا يُنادي ما فيه، أداة التعريف، مثل «الرجل» ب «يا» فلا يقال: «يا رجل» بل يقال: «يأيها الرجل» لكن اللغة
1395
التي يسرها الله لعباده تخص لفظ الجلالة بالتقديس، فيكون من حق العباد أن يقولوا: «يا الله». وهذا اللفظ بجلاله له تميز حتى في نطقه.
ولنا أن نلحظ أن العرب من كفار قريش وهم أهل فصاحة لم يفطنوا إلى ذلك، فكأن الله يرغم حتى الكافرين بأن يجعل للفظ الجلالة تميزا حتى في أفواه الكافرين فيقولون مع المؤمنين: «يا الله». أما بقية الأسماء التي تسبقها أداة التعريف فلا يمكن أن تقول: «يا الرجل» أو «يا العباس» لكن لا بد أن تقول «يأيها الرجل»، أو «يأيها العباس»، ولا تقول حتى في نداء النبي: «يا النبي»، وإنما تقول: «يأيها النبي».
لكن عند التوجه بالنداء إلى الله فإننا نقول: «يا الله»، إنها خصوصية يلفتنا لها الحق سبحانه بأنه وحده المخصوص بها، وأيضا ما رأينا في لغة العرب عَلَماً دخلت عليه «التاء» كحرف القسم إلا الله، فإننا نقول «تالله»، ولم نجد أبدا من يقول «تزيد» أو «تعمرو».
إننا لا نجد التاء كحرف قسم إلا في لفظ الجلاله، ولا نجد أيضا علما من الأعلام في اللغة العربية تحذف منه «يا» في النداء وتستبدل بالميم إلا في لفظ الجلالة فنقول: «اللهم» كل ذلك ليدل على أن اللفظ في ذاته له خصوصية المسمى. «قل اللهم» وكأن حذف حرف النداء هنا يُعلمنا أن الله هو وحده المستدعى بدون حرف نداء. «اللهم» وفي بعض الألسنة يجمعون الياء والميم، مثل قول الشاعر:
إني إذا ما حادث ألمَّا أقول ياللهم يا اللهمَّا
إنها خصوصية لصاحب الخصوصية الأعلى. ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك﴾ وقد يسأل إنسان لماذا لم يقل الحق: «ملك الملك» ؟ هنا لا بد أن نعرف أنه سيأتي يوم لا تكون فيه أي ملكية لأي أحد إلا الله، وهو المالك الوحيد، فهو سبحانه يقول: {رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ
1396
التلاق يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: ١٥ - ١٦].
إن قول الحق هنا: «مالك الملك» توضح لنا أن ملكية الله وهي الدائمة والقادرة واضحة، وجلية، ومؤكدة، ولو قال الله في وصف ذاته: «ملك الملك» لكان معنى ذلك أن هناك بشرا يملكون بجانب الله، لا، إنه الحق وحده مالك الملك. وما دام الله هو مالك الملك، فإنه يهبه لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء. وهنا نلاحظ أن قول الحق: إنه مالك الملك يعطي الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء تأتي بعد عملية المحاجّة، وبعد أن تهرب بعض من أهل الكتاب من تطبيق حكم الله بعد أن دعوا إليه، فتولى فريق منهم وأعرض عن حكم الله، وعللوا ذلك بادعاء أنهم أبناء الله وأحباؤه وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.
كل هذه خيارات من لطف الله وضعها أمام هؤلاء العباد، خيارات بين اتباع حكم الله أو اتباع حكم الهوى، لكنهم لم يختاروا إلا الاختيار السيء، حكم الهوى. ولذلك يأتي الله بخبر اليوم الذي سوف يجيء، ولن يكون لأحد أي قدرة، أو اختيار.
إن حق الاختيار موجود لنا في هذه الدنيا، وعلينا أن نحسن الاختيار في ضوء منهج الله.
ولنتأمل هذا المثل الذي حدثتنا عنه السيرة النبوية الطاهرة، حينما جاءت غزوة الأحزاب التي اجتمع فيها كل خصوم الدعوة، واشتغل اليهود بالدس والوقيعة، وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحفر بمشورة سلمان الفارسي خندقا حول المدينة المنورة. ومعنى «الخندق»، أي مساحة من الأرض يتم حفرها بما يعوق التقدم. وكان المقاتلون يعرفون أن الفرس يستطيع أن يقفز مسافة ما من الأمتار.
لقد حاول المؤمنون أثناء حفر الخندق أن يكون اتساع أكبر من قدرة الخيل، ولننظر إلى دقة الإدارة عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إن سلمان الفارسي قد اقترح أن يتم حفر الخندق، وفيما يبدو أنه قد أخذ الفكرة من بيئته وقبل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الفكرة وأقرها، وفعلها المسلمون.
1397
إذن فليس كل ما فعله الكفار كان مرفوضا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل تطبيق كل الأعمال النافعة، سواء أكان قد فعلها الكفار من قبل أم لا، ورأى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن عملية الحفر مرهقة بسبب جمود الأرض وصخريتها في بعض المواقع، لذلك وضع حصة قدرها أربعون ذراعا لكل عشرة من الصحابة، وبذلك وزع الرسول الكريم العمل والمسئولية، ولم يترك الأمر لكل جماعة خشية أن يتواكلوا على غيرهم.
وتوزيع المسئولية يعني أن كل جماعة تعرف القدر الواضح من العمل الذي تشارك به مع بقية الجماعات وقد يسأل سائل: ولماذا لم يوزع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التكليف لكل واحد بمفرده؟ ونقول: إنها حكمة الإدارة والحزم هي التي جعلت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعرف على حقيقة واضحة، وهي أن الذين يحفرون من الصحابة ليسوا متساوون في القدرة والمجهود، لذلك أراد لكل ضعيف أن يكون مسنودا بتسعة من الصحابة.
إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يجعل الأمر مشاعا، بل كان هناك تحديد للمسئولية، لكنه لم يجعل المسئولية مشخصة تشخيصا أوليا ومحددا بكل فرد، وذلك حتى يساعد الأقوياء الضعيف من بينهم. لقد ستر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الضعيف بقوة إخوانه، وساعة أن يوجد ضعيف بين عشرة من الإخوان يحملون عنه ويحفرون، فإن موقفه من أصحابه يكون المحبة والألفة، ويكون القوي قد أفاض على الضعيف.
وكان عمرو بن عوف ضمن عشرة منهم سلمان الفارسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فلما جاءوا ليحفروا صادفتهم منطقة يقال عنها: «الكئود»، ومعنى «الكئود» هي المنطقة التي تكون صلبة أثناء الحفر، فالحافر إذا ما حفر الأرض قد يجد الأرض سهلة ويواصل الحفر، أما إذا صادفته قطعة صلبة في الأرض فإنه لا يقدر عليها بمعوله لأنها صخرية صماء، فيقال له: «أكدى الحافر».
وعندما صادف عمرو بن عوف وسلمان الفارسي والمغيرة وغيرهم هذه الصخرة الكئود، قالوا لسلمان: «اذهب فارفع أمرنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ». ومن هذا نتعلم درسا وهو أن المُكلّفَ مِنْ قِبَل مَنْ يكلفه بأمر إذا وجد شيئا يعوقه عن أداء المهمة فلا بد أن يعود إلى من كلفه بها.
وذهب سلمان إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحضر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
1398
مع سلمان إلى الموقع وأخذ المعول وجاء على الصخرة الكئود وضربها، فحدث شرر أضاء من فرط قوة الاصطدام بين الحديد والصخرة، فهتف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الله أكبر فُتِحَتْ قصور بصرى بالشام، ثم ضرب ضربة أخرى، وقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الله أكبر فُتِحَتْ قصور الحمراء بالروم. وضرب ضربة ثالثة وقال: الله أكبر فُتِحَتْ قصور صنعاء في اليمن، فكأنه حين ضرب الضربة أوضح الله له معالم الأماكن التي سوف يدخلها الإسلام فاتحا ومنتصرا، فلما بلغ ذلك القول أعداء رسول الله صلى الله عليه قال الأعداء للصحابة: يمنيكم محمد بفتح قصور صنعاء في اليمين، والحمراء في الروم، وفتح قصور بصرى، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا لنا للقتال فأنزل الله قوله: ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ... ﴾.
إن المسألة ليست عزما من هؤلاء المؤمنين، إنما هي نية على قدر الوسع، فإن فعلت أي فعل على النية بقدر الوسع فانتظر المدد من الممد الأعلى سبحانه وتعالى.
إن الله سبحانه هو الذي يعطي الملك، وهو الإله الحق الذي ينزع ملك الكفر في كسرى والروم وصنعاء، ويعطي سبحانه الملك لمحمد رسول الله وأصحابه، وينزعه من قريش، وينزع الملك من يهود المدينة حيث كانوا يريدون الملك.
إن قول الحق: ﴿وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ تجعلنا نتساءل: ما النزع؟ إنه القلع بشدة، لأن الملك عادة ما يكون متمسكا بكرسي الملك، متشبثا به، لماذا؟ لأن بعضا ممن يجلسون على كراسي السلطان ينظرون إليه كمغنم بلا تبعات فلا عرق ولا سهر ولا مشقة أو حرص على حقوق الناس، إنهم يتناسون سؤال النفس «وماذا فعلت للناس» ؟ إن الواحد من هؤلاء لا يلتفت إلى ضرورة رعاية حق الله في الخلق فيسهر على مصالح الناس ويتعب ويكد ويشقى ويحرص على حقوق الناس.
إننا ساعة نرى حاكما متكالبا على الحكم، فلنعلم أن الحكم عنده مغنم، لا مغرم. ولنر ماذا قال سيدنا عمر بن الخطاب عندما قالوا له: إن فقدناك - لا نفقدك - نولى عبد الله بن عمر، وهو رجل قرقره الورع.
. فقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: بحسب آل الخطاب أن يُسأل منهم عن أمة محمد رجل واحد، لماذا؟ لأن الحكم في الإسلام مشقة وتعب.
1399
لقد جاء الحق بالقول الحكيم: ﴿وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ وذلك لينبهنا إلى هؤلاء المتشبثين بكراسي الحكم وينزعهم الله منها، إن المؤمن عندما ينظر إلى الدول في عنفوانها وحضاراتها وقوتها ونجد أن الملك فيها يسلب من الملك فيها على أهون سبب. لماذا؟ إنها إرادة الخالق الأعلى، فعندما يريد فلا راد لقضائه.
إن الحق إما أن يأخذ الحكم من مثل هذا النوع من الحكام، وإما أن يأخذه هو من الحكم، ونحن نرى كل ملك وهو يوطن نفسه توطينا في الحكم، بحيث يصعب على من يريد أن يخلعه منه أن يخلعه بسهولة، لكن الله يقتلع هذا الملك حين يريد سبحانه.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ لأن ظواهر الكون لا تقتصر على من يملك فقط، ولكن كل ملك حوله أناس هم «ملوك ظل». ومعنى «ملوك الظل» أي هؤلاء الذين يتمتعون بنفوذ الملوك وإن لم يكونوا ظاهرين أمام الناس، ومن هؤلاء يأتي معظم الشر. إنهم يستظلون ويستترون بسلطان الملك، ويفعلون ما يشاءون، أو يفعل الآخرون لهم ما يأمرون به، وحين يُنزع الملك فلا شك أن المغلوب بالظالمين يعزه الله، وأما الظالمون لأنفسهم فيذلهم الله؛ لذلك كان لا بد أن يجيء بعد ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ هذا القول الحق: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾. لماذا؟ لأن كل ملك يعيش حوله من يتمتع بجاهه ونفوذه، فإذا ما انتهى سلطان هذا الملك، ظهر هؤلاء المستمعون على السطح. وهذا نشاهده كل يوم وكل عصر. ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير﴾.
ونلاحظ هنا: أن إيتاء الملك في أعراف الناس خير. ونزع الملك في أعراف الناس شر. ولهؤلاء نقول: إن نزع الملك شر على من خُلِعَ منه، ولكنه خير لمن أوتي الملك. وقد يكون خيرا لمن نزع منه الملك أيضا. لأن الله حين ينزع منه الملك، أو ينزعه من الملك يخفف عليه مؤونة ظلمه فلو كان ذلك الملك المخلوع عاقلا، لتقبل ذلك وقال: إن الله يريد أن يخلصني لنفسه لعلى أتوب..
إذن فلو نظرت إلى الجزئيات في الأشخاص، ونظرت إلى الكليات في العموم لوجدت أن ما يجري في كون الله من إيتاء الملك وما يتبعه من إعزاز، ثم نزع الملك
1400
وما يتبعه من إذلال، كل ذلك ظاهرة خير في الوجود، لذلك قال الحق هنا: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ ولو دقق كل منا النظر إلى مجريات الأمور، لوجد أن: الله هو الذي يؤتي، والله هو الذي ينزع، والله هو الذي يعز، والله هو الذي يذل، ولا بد أن يكون في كل ذلك صور للخير في الوجود، فيقول: ﴿بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
إن إيتاء الملك عملية تحتاج إلى تحضير بشرى وبأسباب بشرية، وأحيانا يكون الوصول إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية، أو السياسية، وكذلك نزع الملك يحتاج إلى نفس الجهد.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا المعنى فيقول: ليس ذلك بأمر صعب على قدرتي اللانهائية، لأنني لا أتناول الأفعال بعلاج، أو بعمل، إنما أنا أقول: «كن» فتنفعل الأشياء لإرادتي، ويأتي الحق بعد ذلك ليدلل بنواميس الكون وآيات الله في الوجود على صدق قضية ﴿إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقول وقوله الحق: ﴿تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل... ﴾
1401
إن الحق يقول لنا: عندكم ظاهرة تختلف عليكم، وهي الليل والنهار، وظاهرة أخرى، هي الحياة والموت. إن ظاهرة الليل والنهار كلنا نعرفها لأنها آية من الآيات العجيبة، والحق يقول عنها: ﴿تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل﴾ إن الحق لم يصنع النهار بكمية محدودة من الوقت متشابهة في كل مرة، لا، إنه سبحانه شاء لليل أن ينقص أحيانا عن النهار خمس ساعات، وأحيانا يزيد النهار على الليل خمس ساعات.
1401
ولنا أن نتساءل.. هل تنقص الخمس الساعات من الليل أو النهار مرة واحدة وفجأة هل يفاجئنا النهار بعد أن يكون اثنتي عشرة ساعة ليصبح سبع عشرة ساعة؟ هل يكون الليل مفاجئاً لنا في الطول أو القصر؟ لا، إن المسألة تأتي تباعا، بالدورة، بحيث لا تحس ذلك، إن هناك نوعا من الحركة اسمها الحركة الترسية. إننا عندما ننظر إلى الساعة في كل الزمن؟ لا، إن كل ترس له زمن يتوقف فيه، وعندما يتوقف فإننا ندفع به ليعيد دورته، ويعمل، وإذا دققنا النظر في عقرب الدقائق فإننا نستطيع أن نلحظ ذلك.
إذن هناك فترة توقف وسكون بين انتقال عقرب الدقائق من دقيقة إلى أخرى، وهذا اللون من الحركة نسميه «حركة ترسية»، وهناك حركة أخرى ثانية نسميها «حركة انسيابية»، بحيث يكون كل جزء من الزمن له حركة، كما يحدث الأمر في ظاهرة النمو بالنسبة للإنسان والنبات والحيوان.
إن الطفل الوليد لا يكبر من الصباح إلى المساء بشكل جزئي، أو محسوس، إنه يكبر بالفعل دون أن نلحظ ذلك، وقد يزيد بمقدار ملليمتر في الطول، وهذا الملليمتر شائع في كل ذرات الثواني من النهار، إن الطفل لا يظل على وزنه وطوله أربعا وعشرين ساعة من النهار، ثم يكبر فجأة عند انتهاء اليوم، لا، إن نمو الطفل كل يوم يتم بطريقة تشيع فيها قدرة النمو في كل ذرات الثواني من النهار، وهذه العملية تحتاج إلى الدقة المتناهية في توزيع جزيئات الحدث على جزيئات الزمان، وهذه هي العظمة للقدرة الخالقة التي يظل الإنسان عاجزا عنها إلى الأبد.
وقد قلت لكم مرة: إن الواحد منكم إن نظر إلى ابنه الوليد، وظل ناظراً له طوال العمر فلن يلحظ الإنسان منكم كبر ابنه على الإطلاق، لكن عندما يغيب الإنسان عن ابنه شهرا أو شهورا، ثم يعود، هنا يرى في ابنه مجموع نمو الشهور التي غاب فيها عنه وقد أصبح واضحا. ولو زرع الإنسان نباتا ما، وجلس ينظر إلى هذا النبات، فهو لن يرى أبدا نمو هذا النبات لماذا؟ لأن الجزئيات تكبر دون قدرة على أن يلمس الإنسان طريقة نموها.
ولنا أن نعرف أن كل ما يكبر إنما يصغر أيضا، ولا توجد عند الإنسان قدرة
1402
للملاحظة المباشرة لذلك، وفي الحياة أمثلة أخرى، نأخذ منها هذا المثل، فعندما قام العلماء بتصوير الأرض من الأقمار الصناعية، كانت الصور الأولى لمدينة نيويورك هي صورة لنقطة بسيطة، وعندما قام العلماء بتكبير هذه الصورة ظهرت الجزئيات، كالشوارع وغيرها، أين كانت الشوارع في هذه النقطة الصغيرة؟ لقد صغرت الشوارع أثناء التصوير بصورة تستحيل معها على آلات الإدراك عند الإنسان أن تراها، ولذلك فلا بد من التكبير لهذه الصورة حتى يمكن للإنسان أن يراها، ونحن نرى الشيء البعيد صغيرا، ولكما قربناه كبر في نظرنا.
إذن فقول الله: ﴿تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل﴾ هو لفت للانتباه البشرى إلى أن الليل والنهار لا يفصل بينهما حد قاطع بنسبة متساوية لكل منهما، لا، إنه الحق بقدرته يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل. إن معنى «تُولج» هو «تُدخل»، ومثال ذلك أن يؤذن المؤذن لصلاة المغرب في يوم ما عند الساعة الخامسة، ويؤذن المؤذن لصلاة المغرب في أيام أخرى في الساعة السابعة. إن ذلك لا يحدث فجأة، ولا يقفز المغرب من الخامسة إلى السابعة، إنما يحدث ذلك بانسيابية، ورتابة. ومن ذلك نتلقى الدرس والمثل.
إنك أيها العبد إن رأيت ملكا قائما على حضارة مؤصلة، فاعلم أن هناك عوامل دقيقة لا تراها بالعين تنخر في هذا الملك إلى أن يأتي يوم ينتهي فيه هذا الملك. وهكذا تنهار الحضارات بعد أن تبلغ أوج الارتقاءات، ويصل الناس فيها إلى استعدادات ضخمة وإمكانات هائلة، وذلك لأن عوامل الانهيار تنخر داخل هذه الحضارات.
إن الحق بلفتنا إلى جلال قدرته وعظمة دقة صنعه، بمثل الليل والنهار: ﴿تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل﴾. ثم يأتي لنا الحق الأعلى بمثل آخر، فيقول: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾، إنها القدرة المطلقة بدون أسباب.
والوقفة هنا تجعلنا نرى كيف اهتدينا بما أفاض الله على بعض خلقه من اكتشاف لبعض أسراره في كونه، لقد وصل العلم لمعرفة أن لكل شيء حياة خاصة، فنرى أن ورقة النبات تحدث فيها تفاعلات ولها حياة خاصة، ونرى أن الذرة فيها تفاعلات
1403
ولها حياة خاصة، والتفاعل معناه الحركة، والحياة كما تعرف مظهرها الحركة، وغاية ما هناك أنه يوجد فرق في رؤية الحياة عند العامة، ورؤية الحياة عند الخاصة. إن الإنسان العامى لا يعرف أن النطفة فيها حياة، وأن الحبة فيها حياة، ولا يعرف ذلك إلا الخاصة من أهل العلم.
إن العامة من الناس لا يعرفون أن الحبة توجد لها حياة مرئية، ويكمن فيها نمو غير ظاهر، ولا يعرف العامة أن هناك فرقا بين شيء حي، وشيء قابل لأن يحيا.
ومثال ذلك نواة البلح التي نأخذها ونزرعها لتخرج منها النخلة، إنها كنواة تظل مجرد نواة إلى أن يأخذها الإنسان، ويضعها في بيئتها؛ لتخرج منها النخلة.
إذن فالنواة قابلة للحياة، وعندما ننظر إلى ذرات التراب فإننا لا نستطيع أن نضعها في بيئة لنصنع منها شيئا، ورغم ذلك فإن لذرة التراب حركة. ويقول العلماء: إن الحركة الموجودة في ذرات رأس عيدان علبة كبريت واحدة تكفي لإدارة قطار كهربائي بإمكانه أن يلف حول الكرة الأرضية عددا من السنوات.
إن هذه أمور يعرفها الخاصة، ولا يعرفها العامة. فإن نظرنا إلى العامة عندما يسمعون القول الحق: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ كانوا يقولون: إن المثل على ذلك نواة البلح، وكانوا يعرفون أن النخلة تنمو من النواة. ولكن الخاصة بحثوا واكتشفوا أن في داخل النواة حياة وعرفوا كيفية النمو.. وعرف العلماء أن لكل شيء في الوجود حياة مناسبة لمهمته.. فليست الحياة هي الحركة الظاهرة والنمو الواضح أمام العين فقط، لا، بل إن هناك حياة في كل شيء.
إن العامة يمكنهم أن يجدوا المثال الواضح على أن الحق يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، أما الخاصة فيعرفون قدرة الله عن طريق معرفتهم أن كل شيء فيه حياة، فالتراب الذي نضع فيه البذر لو أخذنا بعضا منه في مكان معزول، فلن يخرج منه شيء، هذا التراب هو ما يصفه العلماء بوصف «الميت في الدرجة الأولى» وأما النواة التي يمكن أن تأخذها وتضعها في هذا التراب، فيصفها العلماء بأنها «الميت من الدرجة الثانية».
وعندما ننقل الميت في الدرجة الأولى ليكون وسطا بيئيا للميت في الدرجة الثانية
1404
تظهر لنا نتائج تدلل على حياة كل من التراب والنواة معا، وقد مس القرآن ذلك مسا دقيقا، لأن القرآن حين يخاطب بأشياء قد تقف فيها العقول فإنه يتناولها التناول الذي تتقبلها به كل العقول، فعقل الصفوة يتقبلها وعقل العامة يتقبلها أيضا، لأن القرآن عندما يلمس أي أمر إنما يلمسه بلفظ جامع راق يتقبله الجميع، ثم يكتشف العقل البشري نفاصيل جديدة في هذا الأمر.
إن القرآن على سبيل المثال لم يقل لنا: إن الذرة فيها حركة وحياة وفيها شحنات من لون معين من الطاقة، ولكن القرآن تناول الذرة وغيرها من الأشياء بالبيان الإلهي القادر، وخصوصا أن هذه الأشياء لم يترتب عليها خلاف في الحكم أو المنهج. فلو عرف الإنسان وقت نزول القرآن أن الذرة بها حياة فماذا الذي يزيد من الأحكام؟ ولو أن أحدا أثبت أن الذرة ليس بها حياة فما الذي ينقص من أحكام المنهج الإيماني؟ لم يكن الأمر من ناحية الأحكام ليزيد أو لينقص، وعندما نأخذ القرآن مأخذ الواعين به، ونفهم معطيات الألفاظ فإننا نجد أن كلمة «الحياة» لها ضد هو «الموت»، وقد ترك الحق سبحانه كلمة «الموت» في بعض المواقع من الكتاب الكريم وأورد لنا كلمة أخرى هي «الهلاك» قال الحق سبحانه:
﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤٢].
إن «الهلاك» هنا هو مقابل الحياة، لماذا لم يورد الحق كلمة «الموت» هنا؟ لانه الخالق الأعلم بعباده، يعلم أن العباد قد يختلفون في مسألة «الموت» فبعض منهم يقول تعريفا للميت: إنه الذي لا توجد به حركة أو حس أو نمو، ولكن هذا الميت له حياة مناسبة له، كحياة الذرة أو حياة حبة الرمل، أو حياة أي شيء ميت، وهكذا عرفنا من الآية السابقة أن الحياة يقابلها الهلاك. ويقول الحق سبحانه عن الآخرة ليوضح لنا ما الذي سوف يحدث يوم القيامة: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨].
1405
لقد استثنى الحق الوجه أو الذات الإلهية، وكل ما عداها هالك. وما دام كل شيء هالك فمعنى ذلك أن كل شيء كان حيا وإن لم ندرك له حياة. اذن فالحياة الحقيقية توجد في كل شيء بما يناسبه، مرة تدركها أنت، ومرة لا تدركها.
إذن فقوله الكريم: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ يجوز أن تأخذه مرة بالعرف العام، أو تأخذه بالعرف الخاص، أي عرف العلماء، وما دام ذلك أمرا ظاهرا في الوجود كولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل، أي أن الحق يدخل النهار في الليل، ويدخل الليل في النهار. وفي اللغة يسمون بطانة الرجل - أي خاصة أصدقائه - «الوليجة» لماذا؟ لأنها تتداخل فيه، لأنك إن أردت أن تعرف سر واحد من البشر فاجلس مع صديق له أو عددٍ من أصدقائه الذين يتداخلون معه.
لذلك جاء أمر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل بالوضوح الكامل، وجاءت مسألة الحياة والموت بألفاظ يمكن أن يفهمها كل من العامة والخاصة. وإذا كانت تلك الظواهر هي بعض من قدرات الله فمن إذن يستكثر على الله قدرته في أنه يؤتي الملك من يشاء، ويعز من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويذل من يشاء؟ لقد جاء الدليل من الآيات الكونية، ونراه كل يوم رأي العين. ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك.. تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. إنك أنت يا الله، الذي أجريت في كونك كل هذه المسائل وهي كلها أمور من الخير، وإن بدا للبعض أن الخير فيها غير ظاهر.
إن الإنسان عندما يرى في ابنه شيئا يحتاج إلى علاج فإنه يسرع به إلى الطبيب ويرجوه أن يقوم بكل ما يلزم لشفاء الابن، حتى ولو كان الأمر يتطلب التدخل الجراحي. إن الأب هنا يفعل الخير للابن، والابن قد يتألم من العلاج، فإذا كان هذا أمر المخلوق في علاقته بالمخلوق، فما بالنا بالخالق الأكرم الذي يجري في ملكه ما يشاء، إيتاء ملك أو نزعه، وإعزازا أو إذلالا، فكل ذلك لا بد أن يكون من الخير، وآيات الله تشهد بأن الله على كل شيء قدير لذلك يأتي بعد الآية السابقة قوله:
1406
﴿تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٢٧]
فإذا كان هناك إنسان لم يفطن أبدا لمسألة إيلاج الليل في النهار أو إخراج الحي من الميت، فإنه لا بد أن يلتفت إلى رزقه، فكل واحد منا يتصل برزقه قهرا عنه، ولذلك جاء الحق سبحانه بهذا الأمر الواضح: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وساعة تسمع كلمة «حساب» فإنك تعرف أن الحساب هو كما قلنا سابقا: يبين لك مالك وما عليك.
وعندما نتأمل قول الحق: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. فإننا نعلم أن «الحساب» يقتضي «محاسبا» - بكسر السين ويقتضي «محاسبا» - بفتح السين ويقتضي «محاسبا عليه»، إن الحساب يقتضي تلك العناصر السابقة. فعندما يقول الحق: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فلنا أن نقول: ممن؟ ولمن؟ من أين يأتي الرزق؟ وإلى أين؟ إنه يأتي من الله، ويذهب إلى ما يقدره الله لأن الله هو الرزّاق، وهو الحق وحده، وهو الذي لا يستطيع ولا يجرؤ أحد على حسابه، فهو سبحانه الذي يحاسبنا جميعا، لا شريك له، وهو الفعال لما يريد.
إن الحساب يجريه الله على الناس، وهو سبحانه لا يعطي الناس فقط على قدر حركتهم في الوجود، بل يرزقهم أحيانا بما هو فوق حركتهم. وقد يرزقك الله من شيء لم يكن محسوبا عندك؛ لأن معنى الحساب هو ذلك الأمر التقديري الذي يخطط له الإنسان، كالفلاح الذي يحسب عندما يزرع الفدان ويتوقع منه نتاجا يساوي كذا إردبا أو قنطارا، أو الصانع الذي يقدر لنفسه دخلا محددا من صنعته. هذا هو الحساب، لكن الإنسان قد يلتفت فيجد أن عطاء الله له من غير حساب. وقد يحسب الإنسان مرة ولا يأتي له الرزق.
مثال ذلك: قالوا: إن دولة أعلنت أنها زرعت قمحا يكفي الدنيا كلها، ولكن عندما نضج المحصول هبت عاصفة أهلكت الزرع، وأكلت هذه الدولة قمحها من
1407
الخارج. فمن قالوا عن أنفسهم: إنهم سيطعمون الناس أطعمهم الناس.
أليس ذلك مصداقا لقول الحق: «من غير حساب» ؟ إنه الحق سبحانه لا يحسب حركتك إيها الإنسان ليعطيك قدرها، ولكنه قد يعطيك أحيانا فوق حركتك.
ونحن نرى إخوتنا الذين أفاض الله عليهم بثروة البترول، لقد تفجر البترول من تحت أرجلهم دون جهد منهم إنه الله يريد أن يلفت الناس إلى قدرته جل وعلا، وأن الأرزاق في يده هو. وننظر إلى الناس الذين يشيرون إلى منطقة البترول فيتهمون أهلها بالكسل، ونجد ان الحق سبحانه وتعالى قد سخر لهم غير الكسالى ليخدموهم، وعندما أفاء على المنطقة العربية بالبترول احتاجت لهم الدول التي تقول عن نفسها: أنها متقدمة، إنه رزق بغير حساب.
إن هذه اللفتات إنما تؤكد للمؤمن طلاقة القدرة، إن الحق قد خلق الأسباب، ولم يترك الأسباب تتحكم وحدها، وقد يترك الحق الأسباب للإنسان ليعمل بها، وقد لا يعطيه منها، ويعطي الحق الإنسان من جهة أخرى لم يحسب لها حسابا. والإنسان الذي يتأمل تقدير أموره أو أمور من يعرف يجد أن تلك القضية منتشرة في كل الخلق، إنه سبحانه يرزق بغير حساب، ولا يقول: «لقد فعلت على قدر يساوي كذا»، والحق سبحانه يعطي بغير حساب من الإنسان، لأن الموازنة التي قد يقوم بها الإنسان قد يأتي لها من الأسباب ما يخرقها.
إذن ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ تعني قدرة الحق المطلقة على الرزق بغير حساب ولا توجد سلطة أعلى منه تقول له: لماذا فعلت؟ أو ماذا أعطيت؟ أو من غير حساب منه سبحانه لخلقه، فيأتي الرزق على ما هو فوق أسباب الخلق، أو من غير حساب للناس المرزوقين فيأتي رزقهم من حيث لم يقدروا، فإذا كانت كل هذه الأمور لله، وهو مالك الملك ويعطي من يشاء، ويعز من يشاء، ويولج الليل في النهار، ويرزق من يشاء بغير حساب، أليس من الحمق أن يذهب إنسان ليوالي من لا سلطان له ويترك هذا السلطان، إن من يوالي غير الله هو الذي استبد به الغباء. ولنفطن لتلك القضية الإيمانية: إي فما دامت كل الأمور عندي فإياكم أن توالوا خصومى، لأنني أنا الذي بيده كل شيء، هاهوذا القول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ
1408
قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: ١١٨].
إنه الحق يأمرنا ألا نوالي إلا الله، فإن كنت تجري حسابا لكل شيء وبتقدير مؤمن فلا توال إلا صاحب هذه الأشياء، وإياك أن تعمد إلى عدو لهذه القوة القاهرة القادرة المستبده في كل امور الكون ونواميسه، إياك أن تعمد الى أعداء الله لتتخذ منهم أولياء؛ لأنك لو فعلت تكون غير صائب التفكير.
1409
أنت لا تتخذ الكافر وليا إلا إن بانت لك مظاهر القوة فيه، ومظاهر الضعف فيك، إنك عندما تتأمل معنى كلمة «ولي». تجد أن معناها «معين» وحين تقول: «الله هو الولي» فإننا نستخدم الكلمة هنا على إطلاقها، إن كلمة الولي تضاف إلى الله على إطلاقها، وتضاف بالنسبية والمحدودية لخلق الله، فالحق يقول: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [البقرة: ٢٥٧].
1409
إن الله ولي على إطلاقه، والحق يقول: ﴿ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: ٦٢].
إن المفرد لأولياء الله هو «ولي الله»، فالمؤمن ولي الله، والحق يقول: ﴿هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً﴾ [الكهف: ٤٤].
هكذا نلاحظ أن الولاية قد تضاف مرة إلى الله، ومرة إلى خلق الله. إن الله ولي المؤمن، وهذا أمر مفهوم، وقد نتساءل: كيف يكون المؤمن ولي الله؟ إنا نستطيع أن نفهم هذا المعنى كما يلي: إن الله هو المعين للعباد المؤمنين فيكون الله ولي الذين آمنوا، أي معينهم ومقويهم. وأولياء الله، هم الذين ينصرون الله، فينصرهم الله، وهو - سبحانه - الحق الذي قال: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: ٧].
ألم يكن الله قادرا أن ينتقم من الكفار مرة واحدة وينتهي من أمرهم؟ ولكن الحق سبحانه قال: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٤].
إن الحق لو قاتلهم فإن قتاله لهم سيكون أمرا خفيا، وقد يقولون: إن هذه مسائل كونية في الوجود، لذلك يأتي بالقتال للمؤمنين الذين استضعفهم الكافرون. إذن مرة تُطلق «الولي» ويراد بها «المعين». ومرة أخرى تُطلق كلمة «الولي» ويراد
1410
بها «المعان». لأنك إن كنت أنت ولي الله، والله وليك فإنه الحق سبحانه «معين» لك وأنت «معان».
إن الحق سبحانه يريد لمنهجه ان يسود بإيمان خلقه به، وإلا لكان الحق سبحانه وتعالى قد استخدم طلاقة قدرته على إرغام الناس على أن يكونوا طائعين، فلا أحد بقادر على أن يخرج عن قدرة الله، والإنسان عليه أن يفكر تفكيرا واضحا، ويعرف أن حياته بين قوسين: بين قوس ميلاده وقوس وفاته ولا يتحكم الإنسان في واحد من القوسين، فلماذا يحاول التحكم في المسافة بين القوسين؟ إذن القواميس الكونية بيد الله وتسير كالساعة، إنه سبحانه يقول: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: ٥٧].
إن شيئا لم يخرج عن مراد الخالق الأعظم. إنما الحق سبحانه وتعالى أخذ هذه المسائل في حركة السماوات والأرض بقوة قهره وقدرة جبروته، فلا شيء يخرج من يده، أما بالنسبة للعباد فهو سبحانه يريد ان يأخذ قوما بحب قلوبهم.
إن الإيمان طريق متروك لاختيار الإنسان، صحيح أن الحق قادر على أن يأتي بالناس مؤمنين، ولكنه يريد أن يرى من يجيء إليه وهو مختار ألا يجيء.
إن تسخير الأشياء يظهر لنا صفة القدرة الكاملة لله، واختيارات الإنسان هي التي تظهر صفة المحبوبية لله، والله يريد لنا أن نرى قدرته، ويريد منا أن نتجه إليه بالمحبوبية لذلك يقول الحق: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين﴾ لماذا؟ لأن الكافرين وإن تظاهروا أنهم أولياء لك أيها المؤمن، فهم يحاولون أن يجعلوك تستنيم لهم، وتطمئن إليهم وربما تسللوا بلطف ودقة، فدخلوا عليك مدخل المودة، وهم ليسوا صادقين في ذلك، لأنهم ما داموا كافرين، فليس هناك التقاء في الأصل بين الإيمان والكفر؛ لذلك يقول الحق: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ﴾.
إن من يتخذ هؤلاء أولياء له، فليس له نصيب من نصرة الله، لماذا؟ لأنه اعتقد
1411
إن هؤلاء الكافرين قادرون على فعل شيء له. لذلك يحذرنا الله ويزيد المعنى وضوحا أي: إياكم أن تغتروا بقوة الكافرين وتتخذوا منهم أولياء. ولا تقل أيها المؤمن: «ماذا أفعل؟» لأن الله لا يريد منك إلا أن تبذل ما تستطيع من جهد، ولذلك قال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: ٦٠].
إن الحق لم يقل: «أعدوا لهم ما تغلبونهم به»، ولكنه قال: ﴿أَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم﴾. إن على المؤمن أن يعمل ما في استطاعته، وأن يدع الباقي لله، ولذلك فهناك قضية قد يقف فيها العقل، ولكن الله يطمئننا؛ أي: لا تخافوا ولا تظنوا أن أعدادهم الكبيرة قادرة على أن تهزمكم، ولا تسأل: «ماذا أفعل يا الله» ؟ لقد علمنا الحق ألا نقول ذلك، وعلمنا ما يحمينا من هذا الموقف لذلك قال: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: ١٢].
إذن فساعة يلقي الله في قلوب الذين كفروا الرعب فماذا يصنعون مهما كان عددهم أو عدتهم؟ أليس في ذلك نهاية للمسألة؟ إن الرعب هو جندي ضمن جنود الله، ولذلك فعلى المؤمن ألا يوالي الكافرين من دون المؤمنين، لماذا؟ حتى لا ينطبق عليه القول الحق: «وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ» ويضع الحق بعد ذلك الاستثناء: ﴿إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير﴾.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي المنهج للإنسان وهو من خلقه سبحان، ويعرف كل غرائزه، وانفعالاته، وفكره، وفي أنه قد تأتي له ظروف أقوى من طاقته، لذلك
1412
يعامل الحق الإنسان على أنه مخلوق محدود القدرات؛ وفي موضع آخر جاء الحق باستثناء آخر فقال: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير﴾ [الأنفال: ١٦].
إن الحق يقول في هذا الموضع من سورة آل عمران: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ، إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً﴾.
«وتقاة» مأخوذة من «الوقاية». إنهم قد يكونون أقوياء للغاية، وقد لا يملك المؤمن بغلبه الظن في أن ينتصر عليهم؛ وهم الكافرون، فلا مانع من أن يتقي المؤمن شرهم.
إن التقية رخصة من الله، روى: أن مسيلمة الكذاب جاء برجلين من المسلمين وقال لواحد منهما: «أتشهد أن محمدا رسول الله» ؟ قال المؤمن «نعم» : قال مسيلمة: «وتشهد أني رسول الله؟» قال المؤمن: «نعم». وأحضر مسيلمة المسلم الآخر وقال له: «أتشهد أن محمداً رسول الله؟» قال المؤمن: «نعم». قال مسيلمة: «أتشهد أني رسول الله؟» قال المؤمن الثاني: «إني أصم» كيف رد عليه المؤمن بدعوى الصمم؟ لقد علم مسيلمة أنه يدعي الصمم، لذلك أخذه وقلته، فرفع الأمر إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فماذا قال؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أما المقتول.. فقد صدع بالحق فهنيئا له، وأما الآخر فقد أخذ برخصة الله». فالتقية رخصة، والإفصاح بالحق فضيلة..
وعمار بن ياسر أخذ بالرخصة وبلال بن رباح تمسك بالقرعة.
1413
ولننظر إلى حكمة التشريع في هذا الأمر. إن كل مبدأ من مبادئ الخير جاء ليواجه ظاهرة من ظواهر الشر في الوجود، وهذا المبدأ يحتاج إلى منهج يأتي من حكيم أعلى منه، ويريد صلابة يقين، وقوة عزيمة، كما يريد تحمل منهج، فالتحمل إنما يكون من أجل أن يبقى المنهج للناس، والعزيمة من أجل أن يواجه المؤمن الخصوم، فلو لم يشرع الله التقية بقوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان﴾ [النحل: ١٠٦].
لكنا حقيقة سنحقق الفدائية التي تفدي مناهج الحق بالتضحية بالحياة رخيصة في سبيل الله، ولكن هب ان كل مؤمن وقف هذا الموقف فمن يحمل علم الله إلى الآخرين؟ لذلك يشرع الحق سبحانه وتعالى التقية من أجل أن يبقى من يحمل المنهج، إنه يقرر لنا الفداء للعقيدة، ويشرع لنا التقية من أجل بقاء العقيدة. لقد جاء الحق بالأمرين: أمر الوقوف في وجه الباطل بالاستشهاد في سبيل الحق، وأمر التقية حماية لبعض الخلق حتى لا يضيع المنهج الحق لو جاء جبار، واستأصل المؤمنين جميعا، لذلك يشرع الحق ما يبقى للفداء قوما، ويبقى للبقاء قوما ليحملوا منهج الله، هل عرفنا الآن لماذا جاءت التقية؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد منهجا يعمر الأرض، ويورث للأجيال المتتالية، فلو أن الحق لم يشرع التقية بقوله:
﴿مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦].
لثبتت الفدائية في العقيدة، ولو ثبتت الفدائية وحدها لكان أمر المنهج عرضه لأن يزول، ولا يرثه قوم آخرون، لذلك شرع الله التقية ليظل أناس حول شمعة الإيمان، يحتفظون بضوئها؛ لعل واحدا يأخذ بقبسها، فيضيء بها نورا وهاجا. ولذلك، فلا ولاية من مؤمن لقوم كافرين إلا أن يتقى منهم تقاة، لماذا؟ لأن الله يحذرنا نفسه بقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير﴾.
1414
فإياك أن تقبل على السلوك الذي يضعه أمامك الكفار بانشراح صدر وتقول: أنا أقوم بالتقية، بل لا بد أن تكون المسألة واضحة في نفسك، وأن تعرف لماذا فعلت التقية، هل فعلتها لتبقى منهج الخير في الوجود، أو لغير ذلك؟ هل فعلتها حتى لا تجعل جنود الخير كلهم إلى فناء أو غير ذلك؟ إنك إن فعلت التقية بوعي واستبقيت نفسك لمهمة استبقاء المنهج الإيماني، فأنت أهل الإيمان، وعليك أن تعرف جيدا أن الحق قد قال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير﴾. إنه الحق يقول للمؤمنين: إياكم أن تخلعوا على التقية أمرا هو مرغوب لنفوسكم، لماذا؟ لأن الحق قد حددها: ﴿مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦].
فلا غاية إلا الله، فإياكم أن تغشوا أنفسكم؛ لأنه لا غاية عند غيره؛ فالغاية كلها عنده وبعد ذلك يقول الحق: ﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله... ﴾
1415
لأن الإنسان قد يقوم بالتقية كظاهرة شكلية، أما المؤمن فلا يفعل ذلك أبدا. لماذا؟ لأن التحذير واضح في هذه الآية. هنا قد يقول قائل: إن إخفاء ما في الصدر هو الذي يعلمه الله أما إبداء ما في الصدر فإنه قد علمه أحد غير الله، فلماذا جاء هذا القول؟ لقد جاء هذا القول الحكيم، لأنه قد يطرأ على بالك أن الله غيب فهو يعلم
1415
الغيب فقط ولا يعلم المشهد. لكن الله لا يحجبه مكان عن مكان أو زمان عن زمان. فإياك أن تعتقد ان الله غيب فلا يعرف إلا الغيب. إن الحق يعلم الغيب ويعلم ما برز إلى الوجود. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً... ﴾
1416
إن العمل في ذاته ظاهرة تحدث وتنتهي، فكيف يأتي الإنسان يوم القيامة، ويجد عمله؟ إنه لا شك سوف يجد جزاء عمله، إننا حتى الآن نقول ذلك، لكن حين يفتح الله على بعض العقول فتكتشف أسرارا من أسرار الكون فقد يكون تفسير هذه الآية فوق ما نقول، إنهم الآن يستطيعون تصوير شريط لعمل ما وبعد مدة يقول الإنسان للآخر: انظر ماذا فعلت وماذا قلت إن العمل المسجل بالشريط يكون حاضرا ومصورا، فإذا كنا نحن البشر نستطيع أن نفعل ذلك بوسائلنا فماذا عن وسائل الحق سبحانه وتعالى؟ لا بد أنها تفوقنا قدرة، إنه الحق يعلم كل شيء، في الصدر، أو في السماوات أو في الأرض: إن الحكم الإلهي يشمل الكون كله مصداقا لقول الحق: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩].
1416
ويختم الحق هذه الآية بقوله: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إنه القادر الذي يعلم عنا الغفلة، فينبهنا دائما إلى كمال قدرته، كما قال في آية قبلها: ﴿إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ونحن مخلوقون لله، وهو القادر الأعلى، القادر على كل شيء ويأتي لكل منا بكتاب حسابه يوم الحساب: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩].
إذن فمن تقف في عقله هذه المسألة، فليقل: ﴿مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً﴾ يعني أنه يجد جزاء عمله. أما ما عملته النفس من السوء فهي تود أن يكون بينه وبينها أمد بعيد، أي غاية بعيدة، ويقول الإنسان لنفسه: «يا ليتها ما جاءت». والحق سبحانه يقول: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفٌ بالعباد﴾ إن الحق سبحانه يكرر التحذير لنستحضر قوته المطلقة، ولكنه أيضا رءوف بنا رحيم ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله... ﴾
1417
ولنا أن نعرف أن كل «قل» إنما جاءت في القرآن كدليل على أن ما سيأتي من بعدها هو بلاغ من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ربه، بلاغ للأمر وللمأمور به، إن البعض ممن في قلوبهم زيغ يقولون: كان من الممكن أن يقول الرسول: ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله﴾ لهؤلاء نقول: لو فعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك لكان قد أدى «المأمور به» ولم يؤد الأمر بتمامه. لماذا؟ لأن الأمر في «قل».. والمأمور به ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله﴾ وكأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل بلاغ عن الله بدأ ب «قل» إنما يبلغ «الأمر» ويبلغ «المأمور به» مما يدل على أنه
1417
مبلغ عن الله في كل ما بلغه من الله.
إن الذين يقولون: يحب أن تحذف «قل» من القرآن، وبدلا من أن نقول: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ فلننطقها: «الله أحد». لهؤلاء نقول: إنكم تريدون أن يكون الرسول قد أدى «المأمور به» ولم يؤد «الأمر».
إن الحق يقول: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله﴾ هذه الآية تدل على ماذا؟ إنهم لا بد قد ادعوا أنهم يحبون الله، ولكنهم لم يتبعوا الله فيما جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكأنهم جعلوا الحب لله شيئا، واتباع التكليف شيئا آخر، والله سبحانه وتعالى له على خلقه إيجاد، وإمداد، وتلك نعمة، ولله على خلقه فضل التكليف؛ لأن التكليف إن عاد على المُكَلّف «بفتح الكاف وتشديد اللام» ولم يعد منه شيء على المُكَلِّف بكسر الكاف فهذه نعمة من المكلِّف.
إن الحق سبحانه لا يحتاج إلى أحد ولا من أحد. إن الحق سبحانه عندما كلفنا إنما يريد لنا أن نتبع قانون صيانة حياة الإنسان. وقد ضربنا المثل - ولله المثل الاعلى، بالآلة المصنوعة بأيدي البشر، إن المهندس الذي صممها يضع لها قانون صيانة ما، ويضع قائمة تعليمات عن كيفية استعمالها؛ وهي تتلخص في «افعل كذا» و «لا تفعل كذا»، ويختار لهذه الآلة مكانا محددا، وأسلوبا منظما للاستخدام.
إذن فوضع قائمة بالقوانين الخاصة بصيانه واستعمال آلة ما وطبعها في كراسة صغيرة، هي لفائدة المنتفع بالصنعة. هذا في مجال الصنعة البشرية فما بالنا بصنعة الله عَزَّ وَجَلَّ؟ إن لله إيجادا للإنسان، ولله إمدادا للإنسان، ولله تكليفا للإنسان، والحق قد جعل التكليف في خدمة الإيجاد والإمداد. إن الحق لو لم يعطنا نظام حركة الحياة في «افعل» و «لا تفعل» لفسد علينا الإيجاد والإمداد، إن من تمام نعمة الحق على الخلق أن أوجد التكليف، وإن كان العبد قد عرف قدر الله فأحبه للإيجاد والإمداد فليعرف العبد فضل ربه عليه أيضا من ناحية قبول التكليف، وأن يحب العبد ربه لأنه كلفة بالتكاليف الإيمانية.
إنك قد تحب الله، ولكن عليك أن تلاحظ الفرق بين أن تحب أنت الله، وأن
1418
يحبك الله. إن التكليف قد يبدو شاقا عليك فتهمل التكليف؛ لذلك نقول لك: لا يكفي أن تحب الله لنعمة إيجاده وإمداده؛ لأنك بذلك تكون أهملت نعمة تكلفيه التي تعود عليك بالخير، إن نعمة التكليف تعود عليك بكل الخير عندما تؤديها أيها الإنسان، فلا تهملها، ومن الجائز أن تجد عبادا يحبون الله لأنه أوجدهم وأمدهم بكل أسباب الحياة، ولكن حب الله لعبده يتوقف على أن يعرف العبد نعمته - سبحانه - في التكليف، إن الله يحب العبد الذي يعرف قيمة النعمة في التكليف.
ونحن في مجالنا البشري نرى إنسانا يحب إنسان آخر، لا يبادله العاطفة، والمتنبي قال:
أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون حبيبا غير محبوب
إن المتنبي يستعيذ أن يحب واحدا لا يبادله الحب. فكأن الذين يدعون أنهم يحبون الله، لأنهم عبيد إحسانه إيجادا وإمدادا، ثم بعد ذلك يستنكفون، أولا يقدرون على حمل نفوسهم على أداء التكليف لهؤلاء نقول: أنتم قد منعتم شطر الحب لله، لأن الله لن يكلفكم لصالحه ولكنه كلفكم لصالحكم؛ لأن التكليف لا يقل عن الإيجاد والإمداد.
لماذا؟ لأن التكليف فيه صلاح الإيجاد والإمداد، والحب - كما نعرف - هو ودادة القلب وعندما تقيس ودادة القلب بالنسبة لله، فإننا نرى آثارها، وعملها، من عفو، ورحمة، ورضا.
وعندما تقيس ودادة القلب من العبد إلى الله فإنها تكون في الطاعة. إن الحب الذي هو ودادة القلب يقدر عليه كل إنسان، ولكن الحق يطلب من ودادة القلب ودادة القالب، وعلى الإنسان أن يبحث عن تكاليف الله ليقوم بها، طاعة منه وحبا لله، ليتلقى محبة الله له بآثارها، من عفو، ورحمة، ورضا.
والحب المطلوب شرعا يختلف عن الحب بمفهومه الضيق، أقول ذلك لنعلم جميعا، أنه الحق سبحانه قائم بالقسط، فلا يكلف شططا ولا يكلف فوق الوسع أو فوق الطاقة. إن الحب المراد لله في التكليف هو الحب العقلي، ولا بد أن نفرق بين الحب العقلي والحب العاطفي، العاطفي لا يفنن له. لا أقول لك: «عليك أن تحب فلانا حبا عاطفيا» لأن ذلك الحب العاطفي لا قانون له. إن الإنسان يحب ابنه حتى ولو كان قليل الذكاء أو صاحب عاهة، يحبه بعاطفته، ويكره قليل الذكاء
1419
بعقله.
والإنسان حينما يرى ابن جاره أو حتى ابن عدوه، وهو متفوق، فإنه يحب ابن الجار أو ابن العدو بعقله، لكنه لا يحب ابن الجار أو العدو بعاطفته، ودليل ذلك أن الإنسان عندما توجد لديه أشياء جميلة فإنه يعطيها لابنه لا لابن الجيران، هناك - إذن - فرق بن حب العقل، وحب العاطفة.
والتكليف دائما يقع في إطار المقدور عليه وهو حب العقل، ومع حب العقل قد يسأل الإنسان نفسه: ماذا تكون حياتي وكيف.. لو لم أعتنق هذا الدين؟ وماذا تكون الدنيا وكيف، لولا رحمة الله بنا عندما أكرمنا بهذا الدين؟ وأرسل لنا هذا الرسول الكريم؟ إن هذا حديث العقل وحب العقل.
وقد يتسامى الحب فيصير بالعاطفة أيضا، لكن المكلف به هو حب العقل، وليس الحب العاطفي، ولذلك يجب أن نفطن إلى ما روى عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حينما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين».
وقف سيدنا عمر عند هذه النقطة فقال: أمعقول أن يكون الحب لك أكثر من النفس؟ إنني أحبك أكثر من مالي، أو من ولدي، إنما من نفسي؟ ففي النفس منها شيء. وهكذا نرى صدق الأداء الإيماني من عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكررها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثانيا، وثالثا، فعرف سيدنا عمر أنه قد أصبحت تكليفا وعرف أنها لا بد أن تكون من الحب المقدور عليه، وهو حب العقل، وليس حب العاطفة. وهنا قال عمر: «الآن يارسول الله؟» فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الآن يا عمر، أي كمل إيمانك الآن، أي أن سيدنا عمر قد فهم المراد بهذا الحب وهو الحب العقلي.
ونريد هنا أن نضرب مثلا حتى لا تقف هذه المسألة عقبة في القلوب أو العقول -
1420
نقول - ولله المثل الأعلى: إن الإنسان ينظر إلى الدواء المر طعما ويسأل نفسه هل أحبه أو لا؟ إن الإنسان يحب هذا الدواء بعقله، لا بعاطفته.
إذن فحب العقل هو ودادة من تعلم أنه صالح لك ونافع لديك وإن كانت نفسك تعافه، وعندما تتضح لك حدود نفع بالشيء فأنت تحبه بعاطفتك إذاً فالمطلوب للتكليف الإيماني» الحب العقلي «، وبعد ذلك يتسامى ليكون» حبا عاطفيا «وهكذا يكون قول الحق: ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله﴾ وهذا الحب ليس دعوى. إن الإنسان منا عندما يدعى أنه يحب إنسانا آخر، فكل ما يتصل به يكون محبوبا، ألم يقل الشاعر:» وكل ما يفعل المحبوب محبوب «؟ فإن كنتم تحبون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فاتبعوه بتنفيذ التكاليف الإيمانية، ولنلتفت إلى الفرق بين» اتبعني «و» استمع لي «.
إن الاتباع لا يكون إلا في السلوك، فإن كانت تحب رسول الله فعليك أن ترى ماذا كان يفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأن تفعل مثله، أما إذا كنت تدعى هذا الحب، ولا تفعل مثلما فعل رسول الله صلى فهذا عدم صدق في الحب، إن دليل صدقكم في الحب المدعى منكم أن تتبعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإن اتبعنا رسول الله نكون قد أخذنا التكليف من الله على أنه نعمة، ونقلبها من الله مع ما فيها من مشقة علينا، فيحبنا الله؛ لأننا آثرنا تكليفه على المشقة في التكليف.
إن فهم هذه الآية يقتضي أن نعرف أن الحق ينبهنا فكأنه يقول لنا: أنتم أحببتم الله للإيجاد والإمداد، وبعد ذلك وقفتم في التكليف لأنه ثقيل عليكم، وهنا نقول: «انظروا إلى التكليف أهو لصالح من كلف أم هو لصالح من تلقى التكليف؟»
. إنه لصالح المكلَّف أي الذي تلقى التكاليف.
وهكذا يجب أن نضم التكليف للنعم، فتصبح النعم هي «نعم الإيجاد»، و «الإمداد»، و «التكليف»، فإن أحببت الله للإيجاد والإمداد، فهذا يقتضي أن تحبه أيضا للتكليف، ودليل صدق الحب هو قيام العبد بالتكليف، وما دمت أنت قد عبرت عن صدق عواطفك بحبك لله، فلا بد أن يحبك الله، وكل منا يعرف أن حبه لله لا يقدم ولا يؤخر، لكن حب الله لك يقدم ويؤخر.
1421
إن قول الحق سبحانه وتعالى فيما يعلّمه لرسول الله ليقول لهم: ﴿فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله﴾ أي أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المرسل من عند الله جاء بكل ما أنزله الله ولم يكتم شيئا مما أُمِرَ بتبليغه، فلا يستقيم أن يضع أحد تفريقا بين رسول الله وبين الله، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبلغ عن الله كل ما أنزل عليه.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ إن مسألة ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ هذه تتضمن ما تسميه القوانين البشرية بالأثر الرجعي، فمن لم يكن في باله هذا الأمر؛ وهو حب الله، واتباع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فعليه أن يعرف أن عليه مسئولية أن يبدأ في هذه المسألة فورا ويتبع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وينفذ التكليف الإيماني، وسيغفر له الله ما قد سبق، وأي ذنوب يغفرها الله هنا؟ إنها الذنوب التي فر منها بعض العباد عن اتباع الرسول، فجاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحكم فيها.
وهكذا نعرف ونتيقن أن عدالة الله أنه سبحانه لن يعاقب أحدا على ذنب سابق ما دام قد قبل العبد أن ينفذ التكليف الإيماني، إن الذين أبلغهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يجب عليهم أن يفطنوا بعقولهم إلى ما أعلنه الرسول لهم، إن هذا الأمر لا يكون حجة إلا بعد أن صار بلاغا، وقد جاء البلاغ، ولذلك يغفر الله الذنوب السابقة على البلاغ، وبعد ذلك يقول الحق: ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ إننا نعلم أن المغفرة من الله والرحمة منه أيضا، وبعد ذلك يقول الحق: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول... ﴾
1422
وقد قلت من قبل في مسألة الأمر بالطاعة، إنها جاءت في القرآن الكريم على ثلاثة ألوان: فمرة يقول الحق: ﴿أَطِيعُواْ الله والرسول﴾. كما جاء بهذه الآية التي
1422
نحن بصدد تناولها بخواطرنا الإيمانية. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه لم يكرر أمر الطاعة، بل جعل الأمر واحدا، هو «أطيعوا»، فإذا سألنا من المطاع؟ تكون الإجابة. الله والرسول معا.
إذن فقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلاغا عن الله ﴿فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله﴾ يعني أن طاعة المؤمنين للرسول من طاعة الله. إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأمرنا بطاعته، ولكنه يأمرنا بطاعة الله، ولذلك لم يكرر الحق أمر الطاعة، إنّ الحق هنا يوحد أمر الطاعة فيجعلها لله وللرسول معا، إنه يعطف على المطاع الأول وهو الله بمطاع ثانٍ هو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق في كتابه العزيز: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين﴾ [النور: ٥٤].
إن الحق يورد أمر الطاعة ثلاث مرات، فمرة يكون أمر الطاعة لله، ومرة ثانية يكون أمر الطاعة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومرة ثالثة يقول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: ٥٩].
فما مسألة هذه الأوامر بالطاعة؟ إنها طاعة بألوان التكليف وأنواعها، إن الأحكام المطلوب من المؤمنين أن يطيعوا فيها، مرة يكون الأمر من الله قد جاء بها وأن يكون الرسول قد أكدها بقوله وسلوكه، إن المؤمن حين يطيع في هذا الأمر الواحد، فهو يطيع الله والرسول معاً، ومرة يأتي حكم من الله إجمالا، ويأتي الرسول ليفصله.
1423
﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النور: ٥٦].
إن الواحد منا لم يكن يعرف كم صلاة في اليوم، ولا عدد الركعات في كل صلاة، ولا نعرف كيفيتها لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد فصل لنا الأمر في كل صلاة، إذن، فالمؤمن يطيع الله في الإجمال، ويطيع الرسول في التفصيل. إن علينا أن نلتفت إلى أن هنا طاعتين: الأولى: طاعة الله، والثانية: طاعة الرسول، أما في الأمر المتحد، فتكون الطاعة لله والرسول؛ لأنه أمر واحد. وأما الأمر الذي جاء من الله فيه تكليف إجمالي فقد ترك الله للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيانه، فالمؤمن يطيع الله في الأمر الإجمالي كأمر الصلاة، وإقامتها، ويطيع الرسول في تفصيل أمر الصلاة؛ وكيفيتها، وأحيانا يجيء الحكم بالتفويض الأعلى من الله للرسول، فيقول الله لرسوله ما معناه إنك أنت الذي تقرر في هذه الأمور، كما قال الحق:
﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧].
لقد ترك الحق سبحانه للرسول أن يصدر التشريعات اللازمة «لاستقامة حياة المؤمنين» لقد أعطاه الحق سبحانه التفويض العام، وما دام سبحانه قد أعطى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التفويض العام فإن طاعة المؤمن تكون للرسول فيما يقوله الرسول وإن لم يقل الله به. إننا على سبيل المثال لا نجد في القرآن دليلا على أن صلاة الفجر ركعتان، لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي فصل لنا الصلاة فعرفنا أن الفجر ركعتان، والظهر أربع ركعات، والعصر مثل الظهر، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات. إن الدليل هو تفصيل الرسول، وقول الحق: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧].
1424
إنه دليل من القرآن الكريم. هكذا نعرف أن الأمر بالطاعة جاء بالقرآن على ألوان ثلاثة: اللون الأول: إن اتحد المطاع «الله والرسول» إن عطف الرسول هنا يكون على لفظ الجلالة الأعلى. اللون الثاني: هو طاعة الله في الأمر الإجمالي وطاعة الرسول في تفصيل هذا الأمر، فإن الحق يقول ﴿أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾ اللون الثالث: وهو الذي لم يكن لله فيه حكم، ولكنه بالتفويض العام للرسول، بحكم قوله الحق: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ هذه طاعة للرسول، ثم يأتي في أمر طاعة أولى الأمر فيقول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: ٥٩].
إن الحق لم يورد طاعة أولي الأمر مندمجة في طاعة الله والرسول، لتكون طاعة واحدة. لا. إن الحق أورد طاعة أولي الأمر في الآية التي يفرق فيها بين طاعة الله وطاعة الرسول، ثم من بطن طاعة الرسول تكون طاعة أولي الأمر. لماذا؟ لأنه لا توجد طاعة ذاتية لأولي الأمر؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له الطاعة الذاتية. أما طاعة أولي الأمر فهي مستمدة من طاعة أولي الأمر لله ورسوله، ولا طاعة لأولي الأمر فيما لم يكن فيه طاعة لله وللرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
إن الحق يقول: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين﴾. إن الله يبلغ الرسول أن يبلغ هؤلاء الذين قالوا: إنهم يحبون الله، بالشروط التي يمكن أن يبادل بها الحق عباده الحب، وذلك حتى تتحقق الفائدة للبشر، لأن محبة الله تفوق ما يقدمه البشر من حب. إن اتباع الرسول وتنفيذ التكليف بالطاعة لله والرسول.
ذلك هو أسلوب تعبير العباد عن حبهم لله وللرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أما إن تولوا، أي لم يستمعوا إليك يا محمد، ولم يتبعوك، فإن موقفهم - والعياذ بالله - ينتقل إلى الكفر؛ لأن الحق يقول عن الذين يتولون عن الله والرسول: ﴿فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين﴾.
وليس هناك تفظيع أكثر من هذا.
1425
إن كلمة «تولوا» توحي بأن الذين استمعوا إلى أوامر الحق قد نفروا وأعرضوا، فهم لم يأخذوا حكم الله، ثم منعهم الكسل من تنفيذه. لا. إنهم أعرضوا عن حكم الله - والعياذ بالله - ولذلك فقد قلت وما زلت أقول: فليحذر الذين يخالفون عن أوامر الله ألا يفرقوا بين أمر متقبل على أنه الحكم الحق وبين حمل النفس على اتباع الحكم وتنفيذه.
إياك أيها المسلم أن تنكر حكما لا تستطيع أن تحمل نفسك عليه أو لا تقدر عليه. إنك إن أنكرت تنقل نفسك من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر والعياذ بالله. ولكن عليك أن تؤمن بالحكم، وقل: «إنه حكم الله وهو صواب ولكني لا أستطيع أن أقدر على نفسي» إن ذلك يجعل عدم تنفيذ الحكم معصية فقط. ويأتي الحق - سبحانه - بعد أن بيّن لنا أصول العقائد في قوله: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم﴾ [آل عمران: ١٨].
وبعد أن بشر الحق المؤمنين بأنه سبحانه وتعالى يعطيهم الملك الإيماني وأنه الإله القادر، وطلاقة قدرته تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، وبعد أن رسم سبحانه طريق محبته، فإن كنتم قد أحببتم الله للإيجاد والإمداد، وتريدون أن يحبكم فعليكم بطاعة الله والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تنفيذ التكاليف.
وبعد أن وضع الله سبحانه وتعالى المبادئ الإيمانية عقدية وتشريعية، بعد هذا وذاك يعطي لنا نماذج تطبيقية من سلوك الخلق، ذلك أن هناك فرقا بين أن توضع نظريات ويأتي الأمر للتطبيق فلا تجد من يطبق، إن الحق لم يكلف شططا ولا عبثا، إن الله يقول لنا: أنا كلفت بالتكاليف الإيمانية ومن الخلق أمثالكم من استطاع أن يسير عليها وأن ينفذها، لذلك يعرض الحق لنا النماذج التي توضح ذلك.
لقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبعوثا إلى أمة أمية، وكان الإسلام جديدا عليهم، ولذلك يعرض الحق نماذج قديمة، وهذه النماذج تؤكد لنا أننا في دين
1426
الإسلام لا نجد تعصبا، لأن الدين الذي جاء من الله على آدم عليه السلام هو الدين الذي جاء به إبراهيم عليه السلام من عند الله وهو الدين الذي نزل إلى آل عمران وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام.
إن الحق يعطي صفات التكريم لأهل أديان منسوبين إلى ما أنزله الله عليهم من منهج. وجاء الإسلام لينسخ بعضا مما جاء في تلك الرسالات السابقة ويضعها في منهج واحد باق إلى يوم القيامة، هو منهج الإسلام، إنه مطلق العظمة. ها هو ذا الحق يقول: ﴿إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين﴾
1427
إنها عدالة القرآن الكريم، إنه الحق العادل الذي ينزل على الرسول بلاغا يذكر الأبناء بطهارة أصول الآباء، ومن الخسارة أن يصير الأبناء إلى ما هم عليه. ﴿إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ﴾ وكلمة ﴿اصطفى﴾ تدل على اختيار مُرضٍ. ولنا أن نسأل: هل اصطفى الحق هؤلاء الرسل، آدم ونوحاً، وآل إبراهيم، وآل عمران فكانوا طائعين، أم علم الحق أزلا أنهم يكونون طائعين فاصطفاهم؟ إن الحق علمه أزلى، وعلمه ليس مرتبا على كل شيء. وساعة أن تأتي أنت بقانونك البشرى وتتفرس في إنسان ما، وتوليه أمرا، وينجح فيه، هنا تهنئ نفسك بأن فراستك كانت في محلها، بعلم الله واقتداره؟
إن الذين اصطفاهم الله هم الذين علم الله أزلا أنهم سيكونون طائعين، وقد يقول قائل: إنهم طائعون لله بالاصطفاء، لمثل هذا القائل نرد: إنهم طائعون بالنفس العامة ويكونون في مزيد من الطاعة بعد أن يأخذوا التكليف بالنفس الخاصة، إنهم طائعون من قبل أن يأخذوا أمور التكليف، ولو تركهم الحق للأمور
1427
العقلية لاهتدوا إلى طاعته، وعندما جاءهم الأمر التكليفي ويصطفيهم الله يكونون رسلا وحملة منهج سماوي.
عندما يسمع الإنسان قول الحق: ﴿إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ﴾ فقد يتساءل عن معناها، ذلك أن من اصطفاء الله لآدم تأتي إلى الذهن بمعنى «خصه» بنفسه أو أخذه صفوة من غيره، فكيف كان اصطفاء آدم، ولم يكن هناك أحد من قبله، أو معه لأنه الخلق الأول؟ إننا يمكن أن نعرف بالعقل العادي أن اصطفاء الله لنوح عليه السلام؛ كان اصطفاء من بشر موجودين، وكذلك اصطفاء إبراهيم خليل الرحمن وبقية الأنبياء.
إذن، فكيف كان اصطفاء آدم؟ إن معنى ﴿اصطفىءَادَمَ﴾ - كما قلنا - تعني أن الله قد اختاره أو أن «المصطفى عليه» يأتي منه ومن ذريته. نعم وقد جاء المصطفى عليه من ذريته، وهذا المعنى يصلح، والمعنى السابق عليه يصلح أيضا. إن الحق يقول: ﴿إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً﴾ ونحن نعلم أن سيدنا نوحاً عليه السلام واجه جماعة من الكافرين به، فأغرقهم الله في الطوفان، ونجا نوح ومن معه بأمر الله. ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠].
إن الذين بقوا من بعد نوح عليه السلام كانوا مؤمنين، ثم تعرضوا للأغيار. وجاءت هذه الأغيار في أعقابهم، فنشأ كفر وإيمان، لماذا؟ لأن آدم عليه السلام حين خلقه الله وضع له التجربة التكليفية في الجنة، كان من الواجب أن ينقل ما علمه له الله لأبنائه.
لقد نقل آدم لهم مسائل صيانة مادتهم وعلمهم كيف يأكلون، وكيف يشربون، وغير ذلك.
وكان يجب أن تكون معهم القيم. إن آدم عليه السلام قد أدى ذلك، وعلم أبناءه كيفية صيانة مادتهم وعلمهم القيم أيضا، ولكن بمرور الزمان، ظل بعض من أبناء آدم يتخففون من التكاليف حتى اندثرت وذهبت. ومن رحمة الله بخلقه يجدد سبحانه وتعالى الرسالة ببعث رسول جديد.
1428
والرسالة الجديدة تعطي ما كان موجودا أولا، فيما يتعلق بالعقائد والأخبار، والأشياء التي لا تتغير، وتأتي الرسالة الجديدة بالأحكام المناسبة لزمن الرسالة. فإذا ما أمكن للبشر أن يعدلوا من سياسة البشر، يظل الأمر كما هو، فإن ارتكب واحد منكرا وضرب قومه على يده، استقام أمر الرسالة وبقيت هذه الأمة على الخير. لماذا؟ لأن مصافى اليقين في النفس الإنسانية موجودة، ونحن نراها ونلمسها. إن هناك واحدا تجد مصافي اليقين في ذاته، وقد لا يقدر على نفسه، فيرتكب المعصية، وتلومه نفسه، فيرجع عن المعصية.
ومرة أخرى نجد إنسانا آخر لا يجد في نفسه مصافى اليقين، ولكنها موجودة في غيره، فنجد من يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، فإذا امتنعت المصافي الذاتية للإيمان، وكذلك امتنعت المصافي الإيمانية في المجتمع، فلا أمل هنالك، لذلك يجب أن يأتي رسول جديد، وينبه الناس بمعجزة ما.
لقد شاءت إرادة الحق سبحانه ألا يأتي رسول آخر بعد سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي ذلك شهادة لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن الله أمنها على منهج الله، فإذا مُنِعت من أي نفس مصافيها الذاتية فستبقى مصافيها الاجتماعية، ولا بد أن يكون في أمة محمد ذلك؛ لأن امتناع ذلك كان يستدعي وجود نبيّ جديد.
إن الله أمن أمة محمد على منهجه، ولذلك لم يأت نبيّ بعد سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد أمن الحق أمة محمد فلم يمنع فيها أبدا المصافي الذاتية أو الاجتماعية، ولذلك يأتي القول الحق: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله﴾ [آل عمران: ١١٠].
إن هذا توجيه لنا من الحق لنعرف أن المصافي الاجتماعية ستظل موجودة في أمة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إذن فبعد حدوث الغفلة من بعد نوح عليه السلام جاء الله باصطفاءات أخرى رحمة منه بالعالمين، ويقول الحق: ﴿إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين﴾. ونحن نقول على إبراهيم عليه السلام: «أبو الأنبياء» وأورد الحق نبأ بعض من أبناء آل إبراهيم، وهم آل عمران وأعطاهم ميزة.
1429
وكلمة «عمران» هذه حين ترد في الإسلام فلنا أن نعرف أن هناك اثنين لهما الاسم نفسه، هناك «عمران» والد موسى وهارون عليهما السلام. وهناك «عمران» آخر. إن عمران والد موسى وهارون كان اسم أبيه «يصهر» وجده اسمه «فاهاث» ومن بعده «لاوى» ومن بعده «يعقوب»، ومن بعده «إسحق»، وبعده «إبراهيم»، أما عمران الآخر، فهو والد مريم عليها السلام.
وقد حدث إشكال عند عدد من الدارسين هو «أي العمرانين يقصده الله هنا؟» والذي زاد من حيرة هؤلاء العلماء هو وجود أخت لموسى وهارون عليهما السلام اسمها مريم، وكانت ابنة عمران والد موسى وهارون فكلتاهما اسمها مريم بنت عمران. وكانوا في ذلك الزمن يتفاءلون باسم «مريم» لأن معناه «العابدة»، ولما اختلفوا لم يفطنوا إلى أن القرآن قد أبان وأوضح المعنى، وكان يجب أن يفهموا أن المقصود هنا ليس عمران والد موسى وهارون عليهما السلام، بل عمران والد مريم، ومنها عيسى عليه السلام، وعمران والد مريم هو ابن ماثان، وهو من نسل سليمان، وسليمان من داود، وداود من أوشى، وأوشى من يهوذا، ويهوذا من يعقوب، ويعقوب من إسحق.
وكنا قديما أيام طلب العلم نضع لها ضبطا بالحرف، فنقول «عمعم سدئيّا» ومعناها.. عيسى ابن مريم، ومريم بنت عمران، وعمران ابن ماثان، وماثان من سليمان، من داود من أوشى وأوشى من يهوذا ويهوذا من يعقوب ويعقوب من إسحاق. لقد التبس الأمر على الكثير وقالوا: أي العمرانين الذي يقول الله في حقه هذا القول الكريم؟ ولهؤلاء نقول: إن مجيء اسم مريم عليها السلام من بعد ذلك يعني أنه عمران والد مريم، وأيضا يجب أن نفطن إلى أن الحق قد قال عن مريم: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧].
1430
وزكريا عليه السلام هو ابن آذن، وآذن كان معاصرا لماثان. إن المراد هنا هو عمران والد مريم. هكذا حددنا أي العمرانين يقصد الحق بقوله: ﴿إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين﴾. وعندما تقول: اصطفيت كذا على كذا، فمعنى ذلك أنه كان من الممكن أن تصطفى واحدا من مجموعة على الآخرين، ولذلك نفهم المقصود ب «على العالمين» أي على عالمي زمانهم، إنهم قوم موجودون وقد اصطفى منهم واحدا، أما الذي سيولد من بعد ذلك فلا اصطفاء عليه، فلا اصطفاء على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق بعد ذلك: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
1431
وحين يقول: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ فلنا أن نسأل: هل المقصود بذلك الأنساب أم الدين والقيم؟ ولنا أن نلتفت أن الحق قد علمنا في مسألة إبراهيم عليه السلام أن الأنساب بالدم واللحم عند الأنبياء لا اعتبار لها، وإنما الأنساب المعترف بها بالنسبة للأنبياء هي أنساب القيم والدين. وكنا قد عرضنا من قبل لما قاله الحق: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: ١٢٤].
فردها الله عليه قائلا: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤].
1431
لماذا؟ لأن الإمام هو المقتدى في الهدايات. إذن فالمسألة ليست وراثة بالدم. وهكذا علم سيدنا إبراهيم ذلك بأن النسب للأنبياء ليس بوراثة الدم، إذن فنحن نفهم قول الحق: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ على أنها ذرية في توارثها للقيم. ونحن نسمع في القرآن: ﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٦٧].
إن هذا النفاق ليس أمرا يتعلق بالنسب وإنما يتعلق بالقيم، إنها كلها أمور قيمية، وحين يقال: ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي أن الله يعرف الأقوال وكذلك الأفعال والخبايا. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً... ﴾
1432
وعندما تقرأ «إذ» فلتعلم أنها ظرف ويُقدر لها في اللغة «اذكر»، ويقال «إذ جئتك» أي «اذكر أني جئتك». وعندما يقول الحق: ﴿إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ﴾ فبعض الناس من أهل الفتح والفهم يرون أن الحق سبحانه سميع عليم وقت أن قالت امرأة عمران: «رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي»، وهم يحاولون أن يربطوا هذه الآية بما جاء قبلها، بأن الله سميع وعليم. ونقف عند قول امرأة عمران: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً﴾.
إننا عندما نسمع كلمة «مُحَرَّراً» فمعناها أنه غير مملوك لأحد فإذا قلنا: «حررت
1432
العبد» يعني ينصرف دون قيد عليه. أو «حررت الكتاب» أصلحت ما فيه. إن تحرير أي أمر، هو إصلاح ما فيه من فساد أو إطلاقه من أي ارتباط أو قيد. أما قولها: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً﴾ هو مناجاة لله، فما الدافع إلى هذه المناجاة لله؟
إن امرأة عمران موجودة في بيئة ترى الناس تعتز بأولادها، وأولاد الناس - كما نعلم - يحكمون حركة الناس، والناس تحكم حركة أولادهم، ويكد الناس من أجل أن يكون الأبناء عزوة، وقرة عين، ويتقدم المجتمع بذلك التواصل المادي، ولم تعجب امرأة عمران بذلك، لقد أرادت ما في بطنها محررا من كل ذلك، إنها تريده محررا منها، وهي محررة منه. وهذا يعني أنها ترغب في أن يكون ما في بطنها غير مرتبط بشيء أو بحب أو برعاية.
لماذا؟ لأن الإنسان مهما وصل إلى مرتبة اليقين، فإن المسائل التي تتصل بالناس وبه، تمر عليه، وتشغله، لذلك أرادت امرأة عمران أن يكون ما في بطنها محررا من كل ذلك، وقد يقال: إن امرأة عمران إنما تتحكم بهذا النذر في ذات إنسانية كذاتها، ونرد على ذلك بما يلي:
لقد كانوا قديما عندما ينذرون ابنا للبيت المقدس فهذا النذر يستمر ما دامت لهم الولاية عليه، ويظل كما أرادوا إلى أن يبلغ سن الرشد، وعند بلوغ سن الرشد فإن للابن أن يختار بين أن يظل كما أراد والداه أو أن يحيا حياته كما يريد.
إن بلوغ سن الرشد هو اعتراف بذاتية الإنسان في اتخاذ القرار المناسب لحياته. كانت امرأة عمران لا تريد مما في بطنها أن يكون قرة عين، أو أن يكون معها، إنها تريده محررا لخدمة البيت المقدس، وكان يستلزم ذلك في التصور البشري أن يكون المولود ذكرا؛ لأن الذي كان يقوم بخدمة البيت هم الذكران.
ونحن نعرف أن كلمة «الولد» يطلق أيضا على البنت، ولكن الاستعمال الشائع، هو أن يطلق الناس كلمة «ولد» على الذكر.
لكن معنى الولد لغويا هو المولود سواء أكان ذكرا أم أنثى. وعندما نسمع كلمة «نذر» فلنفهم أنها أمر أريد به الطاعة فوق تكليف المكلف من جنس ما كلّفه به الله.
1433
إن الله قد فرض علينا خمس صلوات، فإذا نذر إنسان أن يصلي عددا من الركعات فوق ذلك، فإن الإنسان يكون قد ألزم نفسه بأمر أكثر مما ألزمه به الله، وهو من جنس ما كلف الله وهو الصلاة. والله قد فرض صيام شهر رمضان، فإذا ما نذر إنسان أن يصوم يومي الاثنين والخميس أو صيام شهرين فالإنسان حر، ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض الله من تكاليف، وهو الصيام. والله فرض زكاة قدرها باثنين ونصف بالمائة، ولكن الإنسان قد ينذر فوق ذلك، كمقدار عشرة بالمائة أو حتى خمسين بالمائة.
إن الإنسان حر، ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض الله من تكاليف، إن النذر هو زيادة عما كلف المكلف من جنس ما كلف سبحانه. وكلمة «نذرت» من ضمن معانيها هو أن امرأة عمران سيدة تقية وورعة ولم تكن مجبرة على النذر، ولكنها فعلت ذلك، وهو أمر زائد من أجل خدمة بيت الله.
والنذر كما نعلم يعبر عن عشق العبد لتكاليف الله، فيلزم نفسه بالكثير من بعضها. ودعت امرأة عمران الله من بعد ذلك بقبول ذلك النذر فقالت: «فتقبل مني». «والتقبل» هو أخذ الشيء برضا، لأنك قد تأخذ بكره، أو تأخذ على مضض، أما أن «تتقبل» فذلك يعني الأخذ بقبول وبرضا. واستجابة لهذا الدعاء جاء قول الحق: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ [آل عمران: ٣٧].
ونلاحظ أن امرأة عمران قالت في أول ما قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾، ولم تقل: «يا الله» وهذا لنعلم أن الرب هو المتولى التربية، فساعة ينادي «ربي» فالمفهوم فيها التربية. وساعة يُنادي ب «الله» فالمفهوم فيها التكليف. إن «الله» نداء للمعبود الذي يطاع فيما يكلف به، أما «رب» فهو المتولي التربية.
قالت امرأة عمران: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾. هذا هو الدعاء، وهكذا كانت الاستجابة: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا
1434
بِقَبُولٍ حَسَنٍ} وبعد ذلك تكلم الحق عن الأشياء التي تكون من جهة التربية. ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً.. وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾. كل ذلك متعلق بالتربية وبالربوبية، فساعة نادت امرأة عمران عرفت كيف تنادي ونذرت ما في بطنها. وبعد ذلك جاء الجواب من جنس ما دعت بقمة القبول وهو الأخذ برضا.
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾.
فالحسن هنا هو زيادة في الرضا، لأن كلمة «قبول» تعطينا معنى الأخذ بالرضا، وكلمة «حسن» توضح أن هناك زيادة في الرضا، وذلك مما يدل على أن الله قد أخذ ما قدمته امرأة عمران برضا، وبشيء حسن، وهذا دليل على أن الناس ستلمح في تربيتها شيئا فوق الرضا، إنه ليس قبولا عاديا، إنه قبول حسن. ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾. مما يدل على أن امرأة عمران كانت تقصد حين نذرت ما في بطنها، ألا تربي ما في بطنها إلى العمر الذي يستطيع فيه المولود أن يخدم في بيت الله. ولكنها نذرت ما في بطنها من اللحظة الأولى للميلاد. إنها لن تتنعم بالمولود، ولذلك قال الحق: ﴿وكفلها زكريا﴾، وزكريا هو زوج خالة السيدة مريم. وبعد دعاء امرأة عمران، يجيء القول الحكيم: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى... ﴾
1435
لقد جاء هذا القول منها، لأنها كانت قد قالت إنها نذرت ما في بطنها محررا لخدمة البيت، وقولها: «محررا» تعني أنها أرادت ذكرا لخدمة البيت، لكن المولود جاء أنثى. فكأنها قد قالت: ان لم أُمَكّنْ من الوفاء بالنذر، فلأن قدرك سبق، لقد جاءت المولودة أنثى. لكن الحق يقول بعد ذلك: {والله أَعْلَمُ
1435
بِمَا وَضَعَتْ}. وهذا يعني أنها لا تريد إخبار الله، ولكنها تريد أن تظهر التحسر، لأن الغاية من نذرها لم تتحقق وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾. فهل هذا من كلامها، أم من كلام الله؟
قد قالت: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى﴾ وقال الله: ﴿وليس الذكر كالأنثى﴾.
إن الحق يقول لها: لا تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه الأنثى، إن هذه الأنثى لها شأن عظيم. أو أن القول من تمام كلامها: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى﴾ ويكون قول الحق: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ هو جملة اعتراضية ويكون تمام كلامها ﴿وليس الذكر كالأنثى﴾. أي أنها قالت: يارب إن الذكر ليس كالأنثى، إنها لا تصلح لخدمة البيت.
وليأخذ المؤمن المعنى الذي يحبه، وسنجد أن المعنى الأول فيه إشراق أكثر، إنه تصور أن الحق قد قال: أنت تريدين ذكرا بمفهومك في الوفاء بالنذر، وليكون في خدمة البيت، ولقد وهبت لك المولود أنثى، ولكني سأعطي فيها آية أكبر من خدمة البيت، وأنا أريد بالآية التي سأعطيها لهذه الأنثى مساندة عقائد، لا مجرد خدمة رقعة تقام فيها شعائر.
إنني سأجعل من هذه الآية مواصلة لمسيرة العقائد في الدنيا إلى أن تقوم الساعة. ولأنني أنا الخالق، سأوجد في هذه الأنثى آية لا توجد في غيرها، وهي آية تثبت طلاقة قدرة الحق، ولقد قلت من قبل: إن طلاقة القدرة تختلف عن القدرة العادية، إن القدرة تخلق بأسباب، ولكن من أين الأسباب؟ إن الحق هو خالق الأسباب أيضا.
إذن فما دام الخالق للأسباب أراد خلقا بالأسباب فهذه إرادته. ولذلك أعطانا الحق القدرة على رؤية طلاقة قدرته؛ لأنها عقائد إيمانية، يجب أن تظل في بؤرة الشعور الإيماني، وعلى بال المؤمن دائما. لقد خلق الله بعضا من الخلق بالأسباب كما خلقنا نحن، وجمهرة الخلق عن طريق التناسل بين أب وأم، أما خلق الحق لآدم عليه السلام فقد خلقه بلا أسباب. ونحن نعلم أن الشيء الدائر بين اثنين له قسمة عقلية ومنطقية، فما دام هناك أب وأم، ذكر وأنثى، فسيجيء منهما تكاثر..
1436
إن الحق يقول: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: ٤٩].
وعندما يجتمع الزوجان، فهذه هي الصورة الكاملة، وهذه الأولى في القسمة المنطقية والتصور العقلي، وإما أن ينعدم الزوجان فهذه هي الثانية في القسمة المنطقية والتصور العقلي.
أو أن ينعدم الزوج الأول ويبقى الطرف الثاني، وهذه هي الثالثة في القسمة المنطقية والتصور العقلي، أو أن ينعدم الزوج الثاني ويبقى الطرف الأول، وهذه هي الرابعة في القسمة المنطقية والتصور العقلي.
تلك إذن أربعة تصورات للقسمة العقلية. وجميعنا جاء من اجتماع العنصرين، الرجل والمرأة. أما آدم فقد خلقه الله بطلاقة قدرته ليكون السبب. وكذلك تم خلق حواء من آدم. وأخرج الحق من لقاء آدم وحواء نسلا. وهناك أنثى وهي مريم ويأتي منها المسيح عيسى ابن مريم بلا ذكر. وهذه هي الآية في العالمين، وتثبت قمة عقدية. فلا يقولن أحد: ذكراً، أو أنثى، لأن نية امرأة عمران في الطاعة أن يكون المولود ذكرا، وشاء قدر ربكم أن يكون أسمى من تقدير امرأة عمران في الطاعة، لذلك قال: ﴿وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾. أي أن الذكر لن يصل إلى مرتبة هذه الأنثى.
وقالت امرأة عمران: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم﴾. إن امرأة عمران قالت ما يدل على شعورها، فحينما فات المولودة بأنوثتها أن تكون في خدمة بيت الله فقد تمنت امرأة عمران أن تكون المولودة طائعة، عابدة، فسمتها «مريم» لأن مريم في لغتهم - كما قلنا - معناها «العابدة».
وأول ما يعترض العبودية هو الشيطان. إنه هو الذي يجعل الإنسان يتمرد على العبودية. إن الإنسان يريد أن يصير عابدا، فيجيء الشيطان ليزين له المعصية. وأرادت إمرأة عمران أن تحمي ابنتها من نزغ الشيطان لأنها عرفت بتجربتها أن المعاصي كلها تأتي من نزغ الشيطان، وقد سمتها «مريم» حتى تصبح «عابدة لله»، ولأن إمرأة عمران كانت تمتلك عقلية إيمانية حاضرة وتحمل المنهج التعبدي كله لذلك قالت: ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم﴾.
1437
إن المستعاذ به هو الله، والمستعاذ منه هو الشيطان، وحينما يدخل الشيطان مع خلق الله في تزيين المعاصي، فهو يدخل مع المخلوق في عراك، ولكن الشيطان لا يستطيع أن يدخل مع ربه في عراك، ولذلك يقال عن الشيطان إنه إذا سمع ذكر الله فإنه يخنس أي يتراجع، ووصفه القرآن الكريم بأنه «الخنَّاس»، إن الشيطان إنما ينفرد بالإنسان حين يكون الإنسان بعيدا عن الله، ولذلك فالحق يُعَلِّمُ الإنسان: ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ٢٠٠].
إن الشيطان يرتعد فرقا ورعشة من الإستعاذة بالله. وعندما يتكرر ارتعاد الشيطان بهذه الكلمة؛ فإنه يعرف أن هذا الإنسان العابد لن يحيد عن طاعة الله إلى المعاصي. وقد علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كيف يجيء الرجل امرأته، ومجيء الأهل هو مظنة لمولود قد يجيء، فيقول العبد: «اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني» (من دعاء الرسول).
إن من يقول هذا القول قبل أن يحدث التخلق «فلن يكون للشيطان ولاية أو قدرة على المولود الذي يأتي بإذن الله. ولذلك قالت إمرأة عمران: ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم﴾. والذرية قد يفهمها الناس على أنها النسل المتكاثر، ولكن كلمة» ذرية «تطلق على الواحد وعلى الاثنين، وعلى الثلاثة أو أكثر. والذرية هنا بالنسبة لمريم عليها السلام هي عيسى عليه السلام، وتنتهي المسألة. وبعد دعاء إمرأة عمران ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم﴾ يجيء القول الحق: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا... ﴾
1438
وقد عرفنا القبول الحسن والإنبات الحسن، أما قوله الحق: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ فهذا يعني أن المسألة جاءت من أعلى، إنه الرب الذي تقبل بقبول حسن، وهو الذي أنبتها نباتا حسنا. إذن، فرعاية زكريا لها إنما جاءت بأمر من الله. والدليل على ما حدث عند كفالة مريم. لقد اجتمع كبار القوم رغبة في كفالتها وأجروا بينهم قرعة من أجل ذلك. وساعة تجد قرعة، أو إسهاما. فالناس تكون قد خرجت من مراداتها المختلفة إلى مراد الله. فعندما نختلف على شيء فإننا نجري قرعة، ويخصص سهم لكل مشترك فيها، ونرى بعد ذلك من الذي يخرج سهمه، ويلجأ الناس لهذا الأمر؛ ليمنعوا هوى البشر عن التدخل في الاختيار، ويصبح الأمر خارجا عن مراد البشر إلى مراد الله سبحانه وتعالى، وهذا ما حدث عند كفالة زكريا لمريم. ولذلك فالحق يقول لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤].
إذن فالكفالة لمريم أخذت لها ضجة، وهذا دليل على أنهم اتفقوا على إجراء قرعة بالنسبة لكفالتها، ولا يمكن أن يكونوا قد ذهبوا إلى هذه القرعة إلا إذا كان قد حدث تنازع بينهم، عن أيهم يكفل مريم، ومن فضل الله أن زكريا عليه السلام كان متزوجا من «إشاع» «أخت» «حنة» وهي أم مريم، فهو زوج خالتها.
وكلمة «أقلامهم» قال فيها المفسرون: إنها القداح التي كانوا يصنعونها قديما، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة، فرموها في البحر، فمن طفا قلمه لم يأخذ رعاية مريم، ومن غرق قلمه في البحر فهو الذي فاز بكفالة مريم. إذن فهم قد خرجوا
1439
عن مراداتهم إلى مراد الله.
والخروج عن المرادات، والخروج عن الأهواء بجسم ليس له اختيار - كقداح القرعة - لا يوجد في النفس غضاضة. لكن لو كان هناك من سيأخذ رعاية مريم بالقوة والغضب فلا بد أن يجد نفوس الآخرين وقد امتلأت بالمرارة أو الغصب. ولذلك فقد كان سائدا في ذلك العصر عملية إجراء السهام إذا ما خافوا أن يقع الظلم على أحد أو أن يساء الظن بأحد، وهناك قصة سيدنا يونس عندما قاربت السفينة على الغرق، وكان لا بد لإنقاذها أن ينزل واحد إلى البحر، وجاء القول الحكيم: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٣٩ - ١٤٤].
كان لا بد أن ينزل واحد من تلك السفينة، لذلك تم إجراء قرعة بالسهام حتى لا تقوم معركة بين الموجودين على ظهر السفينة، وحتى لا تكون الغلبة للأقوياء، ولكن القرعة حمت الناس من ظلم بعضهم بعضا.
قالوا: لنجر قرعة السهام، فمن يخرج سهمه فهو الذي يلقى به، وكان على يونس عليه السلام أن ينزل إلى اليم فيلتقمه الحوت. ولأنه من المسبحين فإن الله ينقذه. لقد قبل يونس عليه السلام اختيار الله ولم ينس تسبيح الله فكان في ذلك الإنقاذ له. وهكذا نقرأ قول الله لنفهم أن كفالة زكريا كانت باختيار الله. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾.
وكلمة «كفلها» أي تولى كل مهمة تربيتها، هذه هي الكفالة، ونحن نعرف أن الكفيل في عرفنا هو الضامن، والضامن هو من يسد القرض عندما يعجز الإنسان عن السداد، وقوله الحق: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ يعطينا المعنى الواضح بأن زكريا عليه
1440
السلام هو الذي قام برعاية شئون مريم.
ويتابع الحق الكريم قوله: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾ إنه لم يدخل مرة واحدة، بل دخل عليها المحراب مرات متعددة. وكان زكريا عليه السلام كلما دخل على مريم يجد عندها الرزق، ولذلك كان لا بد أن يتساءل عن مصدر هذا الرزق، ولا بد أن يكون تساؤله معبرا عن الدهشة، لذلك يجيء القول الحق على لسان زكريا: ﴿أنى لَكِ هذا﴾.
وساعة أن تسمع ﴿أنى لَكِ هذا؟﴾ فهذا يدل على أنه قام بعمل محابس على المكان الذي توجد به مريم، وإلا لظن أن هناك أحدا قد دخل على مريم، وكما يقولون: فإن زكريا كان يقفل على مريم الأبواب. وإلا لو كانت الأبواب غير مغلقة لظن أن هناك من دخل وأحضر لها تلك الألوان المتعددة من الرزق.
والرزق هو ما ينتفع به - بالبناء للمجهول - وعندما يقول زكريا عليه السلام: ﴿أنى لَكِ هذا﴾. فلنا أن نتذكر ما قلناه سابقا من أن أي إنسان وكله الله على جماعة ويرى عندهم ما هو أزيد من الطاقة أو حدود الداخل، فلا بد أن يسأل كُلاًّ منهم: من أين لك هذا؟ ذلك أن فساد البيوت والمجتمعات إنما يأتي من عدم الإهتمام بالسؤال وضرورة الحصول على إجابة على السؤال المحدد: من أين لك هذا؟
إن الذي يدخل بيته ويجد ابنته ترتدي فستانا مرتفع الثمن ويفوق طاقة الأسرة، أو يجد ابنه قد اشترى شيئا ليس في طاقة الأسرة أن تشتريه، هنا يجب أن يتوقف الأب أو الولي ليسأل: من أين لك هذا؟ إن في ذلك حماية لأخلاق الأسرة من الإنهيار أو التحلل. فلو فطن كل واحد أن يسأل أهله ومن يدخلون في كفالته - «من أين لك هذا؟» لعرف كل تفاصيل حركتهم، لكن لو ترك الحبل على الغارب لفسد الأمر.
وقول زكريا: «أنّى لك هذا؟» هو سؤال محدد عن مصدر هذا الرزق، ولننظر إلى إجابتها: ﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله﴾ ثم لا تدع البديهة الإيمانية عند سيدنا زكريا دون أن تذكره أنها لا تنسى حقيقة واضحة في بؤرة شعور كل مؤمن: {إِنَّ الله يَرْزُقُ
1441
مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وأثارت هذه المسألة في نفس زكريا نوازع شتى؛ إنها مسألة غير عادية، لقد أخبرته مريم أن الرزق الذي عندها هو من عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب، إنه الإله هو القادر على أن يقول: «كن» فيكون.
وهنا ذكر زكريا نفسه، وكأن نفسه قد حدثته: «إذا كانت للقدرة طلاقة في أن تفعل بلا أسباب، وتعطي من غير حساب، فأنا أريد ولدا يخلفني، رغم أنني على كبر ورغم بلوغي من السن عتيّا، وامرأتي عاقر. إن مسألة الرزق الذي وجده زكريا كلما دخل على مريم هي التي نبهت زكريا إلى ما يتمنى ويرغب.
ونحن نعلم أن المعلومات التي تمر على خاطر النفس البشرية كثيرة، ولكن لا يستقر في بؤرة الشعور. ومعلومات في حاشية الشعور يتم استدعاؤها عند اللزوم، فلما وجد زكريا الرزق المنوع عند مريم وقالت له عن مصدره: ﴿هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. هنا تساءل زكريا: كيف فاتني هذا الأمر؟ ولذلك يقول الحق عن زكريا: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ... ﴾
1442
إنها ساعة أن قالت له: إن الرزق من عند الله، وأنه الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب، هنا أيقظت فيه القضية الإيمانية فجاءت أمنيته إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا لنفسه: فلنطلب من ربنا أن يرزقنا ما نرجوه لأنفسنا، وما دام قد قال هذا القول فلا بد أنه قد صدق مريم في قضيتها، بأن هذا الرزق الذي يأتيها هو من عند الله، ودليل آخر في التصديق هو أنه لا بد وقد رأى أن الألوان المتعددة من الرزق التي توجد عند مريم ليست في بيئته، أو ليست في أوانها؛ وكل ذلك في المحراب.
1442
ونحن نعرف أن المحراب كلمة يراد بها بيت العبادة. يقول الحق: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: ١٣].
أو «المحراب» وهو مكان الإمام في المسجد، أو هو حجرة يصعد إليها بسلم، كالمبلغات التي تقام في بعض المساجد. وما دامت مريم قد أخبرت زكريا وهي في المحراب بأن الرزق من عند الله، وأيقظت بذلك تلك القضية الإيمانية في بؤرة شعوره، فماذا يكون تصرفه؟ هنا دعا زكريا أثناء وجوده في المحراب. ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء﴾ إنه هنا يطلب الولد. ولكن لا بد لنا أن نلاحظ ما يلي:
- هل كان طلبه للولد لما يطلبه الناس العاديون من أن يكون زينة للحياة أو «عزوة» أو ذكرا؟ لا، إنه يطلب الذرية الطيبة، وذكر زكريا الذرية الطيبة تفيد معرفته أن هنالك ذرية غير طيبة. وفي قول زكريا الذي أورده الحق: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: ٦].
أي أن يكون دعاء لإرث النبوة وإرث المناهج وإرث القيم، هكذا طلب زكريا الولد. لقد طلبه لمهام كبيرة، وقول زكريا: «رب هب» تعني أنه استعطاء شيء بلا مقابل، إنه يعترف. أنا ليس لي المؤهلات التي تجعل لي ولدا؛ لأني كبير السن وامرأتي عاقر، إذن فعطاؤك يارب لي هو هبة وليس حقا، وحتى الذي يملك الاستعداد لا يكون هذا الأمر حقا له، فلا بد أن يعرف أن عطاء الله له يظل هبة، فإياك أن تظن أن اكتمال الأسباب والشباب هي التي تعطي الذرية، إن الحق سبحانه ينبهنا ألاّ نقع في خديعة وغش أنفسنا بالأسباب. {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ
1443
لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: ٤٩ - ٥٠].
إن في ذلك لفتا واضحا وتحذيراً محدداً ألا نفتتن بالأسباب، إذن فلكل عطاء من الله هو هبة، والأسباب لا تعطي أحدا ما يريد.
إن زكريا يقول: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ﴾ وساعة أن تقول من: «لدنك» فهو يعني «هب لي من وراء أسبابك». لماذا؟ لأن الكل من الله.
ولكن هناك فرقا بين عطاء الله بسبب، كأن يذهب إنسان ليتعلم العلم ويمكث عشرين عاما ليتعلم، وهناك إنسان يفيض الله عليه بموهبة ما، ولذلك يقول أهل الإشراقات: إنه علم لدنى، أي من غير تعب، وساعة أن نسمع «من لدن» أي انعزلت الأسباب، كان دعاء زكريا هو ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ﴾ وكلمة «هب» توضح ما جاء في سورة مريم من قول زكريا: ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً﴾ [مريم: ٨].
إن «هب» هي التي توضح لنا هذه المعاني؛ هذا كان دعاء زكريا: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء﴾ فهل المراد أن يسمع الله الدعاء؟ أم أن يجيب الله الدعاء؟ إنه يضع كل أمله في الله، وكأنه يقول: إنك يارب من فور أن تسمعني ستجيبني إلى طلبي بطلاقة قدرتك. لماذا؟ لأنك يارب تعلم صدق نيتي في أنني أريد الغلام لا لشيء من أمور كقرة العين، والذكر، والعز، وغيرها، إنما أريد الولد ليكون وارثا لي في حمل منهجك في الأرض، وبعد ذلك يقول الحق: ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب... ﴾
1444
هل كل الملائكة اجتمعوا أو نادوا زكريا؟ لا، لأن جبريل عليه السلام الذي ناداه. ولماذا جاء القول الحق هنا بأن الملائكة هي التي نادته؟ لقد جاء هذا القول الحق لنفطن إلى شيء هو، أن الصوت في الحدث - كالإنسان - له جهة يأتي منها، أما الصوت القادم من الملأ الأعلى فلا يعرف الإنسان من أين يأتيه، إن الإنسان يسمعه وكأنه يأتي من كل الجهات، وكأن هناك ملكا في كل مكان.
والعصر الحديث الذي نعيشه قد ارتقى في الصوتيات ووصل لدرجة أن الإنسان أصبح قادرا على جعل المؤثر الصوتي يحيط بالإنسان من جهات متعددة، إذن فقوله الحق: ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة﴾ فهذا يعني أن الصوت قد جاء لزكريا من جميع الجهات.
﴿فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ [آل عمران: ٣٩]
لقد نادته الملائكة في أورع لقاءاته مع ربه أو هو حينما دعا أخذ ما علمه الله للأنبياء إذا حزبهم أمر قاموا إلى الصلاة. أليس طلبه من الله؟ إذن فليقف بين يدي الله. وليجربها كل واحد منا عندما يصعب عليك أي شيء، وتتأزم الأمور، وتمتنع الأسباب، فليقم ويتوضأ وضوءا جديدا ويبدأه بالنية حتى ولو كان متوضئا. وليقف بين يدي الله، وليقل - إنه أمر يارب عزّ عليّ في أسبابك، وليصل بخشوع، وأنا أجزم بأن الإنسان ما إن يسلم من هذه الصلاة إلاّ ويكون الفرج قد جاء. ألم نتلق عن رسول الله هذا السلوك البديع؟ إنه كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة؟
1445
ومعنى حزبه أمر، أي أن أسبابه ضاقت، لذلك يذهب إلى الصلاة لخالق الأسباب، إنها ذهاب إلى المسبب. وبدلا من أن تلف وتدور حول نفسك، اذهب إلى الله من أقصر الطرق وهو الصلاة، لماذا تتعب نفسك أيها العبد ولك رب حكيم؟ وقديما قلنا: إن من له أب لا يحمل هما، والذي له رب أليس أولى بالإطمئنان؟
إن زكريا قد دعا الله في الأمر الذي حزبه، وبمجرد أن دعا في الأمر الذي حزبه، قام إلى الصلاة، فنادته الملائكة، وهو قائم يصلي، إن الملائكة لم تنتظر إلى أن ينتهي من صلاته، ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾.
والبشارة هي إخبار بخير زمنه لم يأت، فإذا كانت البشارة بخير زمنه لم يأت فلنر من الذي يخبر بالبشارة؟ أمن يقدر على إيجاده أم من لا يقدر؟ فإذا كان الله هو الذي يبشر، فهو الذي يقدر، لذلك فالمبشر به قادم لا محالة، ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى﴾ لقد قال له الله: سأعطيك. وزيادة على العطاء سماه الله ب ﴿يحيى﴾ وفوق كل ذلك: ﴿مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله﴾.
ولننظر إلى دقة الحق حين يقول: ﴿بيحيى مُصَدِّقاً﴾. هذا دليل على أنه سيعيش بمنهج الله وما يعرفه من الطاعات سيسير في هذا الطريق وهو مصدق، وهو سيأتي بكلمة من الله، أو هو يأتي ليصدق بكلمة من الله، لأن سيدنا يحيى هو أول من آمن برسالة عيسى عليه السلام. وهو موصوف بالقول الحق: ﴿وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾. أي ممنوعا عن كل ما حُرم عليه، أو ممنوعا عن قمة الغرائز وهي الشهوة، وهو نبيّ، أي قدوة في اتباع الرسول الذي يجيء في عصره، لقد دعا زكريا، وقام ليصلي، وتلقى البشارة بيحيى، وهنا ارتجت الأمور على بشرية زكريا، ويصوره الحق بقوله: ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ... ﴾
1446
إن زكريا - وهو الطالب - يصيبه التعجب من الاستجابة فيتساءل. كيف يكون ذلك؟ والحق يورد ذلك ليعلمنا أن النفس البشرية دائما تكون في دائرات التلوين، وليست في دائرات التمكين، وذلك ليعطي الله لخلقه الذين لا يهتدون إلى الصراط المستقيم الأسوة في أنه إذا ما حدث له ابتلاء فعليه الرجوع إلى الله، فيقول زكريا: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ﴾.
إن بلوغ الكبر ليس دليلا على أنه عاجز عن الإنجاب لأنه يكون كبير العمر، وقادرا على إخصاب امرأة، ذلك أن الإخصاب بالنسبة لبعض الرجال ليس أمرا عسيرا مهما بلغ من العمر إن لم يكن عاقرا، ولكن المرأة هي العنصر المهم، فإن كانت عاقرا، فذلك قمة العجز في الأسباب. ولو أن زكريا قال فقط: ﴿وامرأتي عَاقِرٌ﴾ لكان أمرا غير مستحب بالنسبة لزوجته، ولكان معنى ذلك أنه نسب لنفسه الصلاحية وهي غير القادرة.
إنه أدب النبوة وهو أدب عال؛ لذلك أوردها من أولها: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ﴾ ولنر دقة القول في: ﴿بَلَغَنِي الكبر﴾ ‘ إنه لم يقل: «بلغت الكبر» بل يقول: إن الكبر هو الذي جاءني ولم أجيء أنا إلى الكبر؛ لأن بلوغ الشيء يعني أن هناك إحساسا ورغبة في أن تذهب إليه، وذكر زكريا ﴿وامرأتي عَاقِرٌ﴾ هو تضخيم لطلاقة القدرة عند من يستمع للقصة، لقد أورد كل الخوالج البشرية، وبعد ذلك يأتي القول الفصل: ﴿قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ إنها طلاقة القدرة التي فوق الأسباب لأنها خالقة الأسباب. ويقول زكريا: ﴿قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً... ﴾
إن زكريا يطلب علامة على أن القول قد انتقل إلى فعل.
1447
﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ [مريم: ٨ - ٩].
لقد كان هذا القول تأكيدا لا شك فيه، فبمجرد أن قال الرب فقد انتهى الأمر. فماذا يريد زكريا من بعد ذلك؟ إنه يطلب آية، أي علامة على أن يحيى قد تم إيجاده في رحم أمه، وما دامت المرأة قد كبرت فهي قد انقطع عنها الحيض، ولا بد أنه عرف الآية لأنه يعرف مسبقا أنها عاقر. لكن زكريا لم يرغب أن يفوت على نفسه لحظة من لحظات هبات الله عليه، وما دام الحمل قد حدث فهنا كانت استغاثة زكريا، لا تتركني يارب إلى أن أفهم بالعلامات الظاهرة المحسة، لأنني أريد أن أعيش من أول نعمتك علىّ في إطار الشكر لك على النعمة، فبمجرد أن يحدث الإخصاب لا بد أن أحيا في نطاق الشكر؛ لأن النعمة قد تأتي وأنا غير شاكر.
إنه يطلب آية ليعيش في نطاق الشكر، إنه لم يطلب آية لأنه يشك - معاذ الله - في قدرة الله، ولكن لأنه لا يريد أن يفوت على نفسه لحظة النعمة من أول وجودها إلا ومعها الشكر عليها، والذي يعطينا هذا المعنى هو القول الحق: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار﴾. لا بد أن معناها أنه يرغب في الكلام فلا يستطيع.
إن هناك فارقا بين أن يقدر على الكلام ولا يتكلم، وبين ألا يقدر على الكلام. وما دامت الآية هبة من الله. فالحق هو الذي قال له: سأمنعك من أن تتكلم، فساعة أن تجد نفسك غير قادر على الكلام فاعرف أنها العلامة، وستعرف أن تتكلم مع الناس رمزا، أي بالإشارة، وحتى تعرف أن الآية قادمة من الله، وأن الله علم عن عبده أنه لا يريد أن تمر عليه لحظة مع نعمة الله بدون شكر الله عليها، فإننا نعلم أن الله سينطقه.. ﴿واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار﴾.
لقد أراد زكريا أن يعيش من أول لحظة مع نعمة المنعم شكرا، وجعل كل وقته ذكرا، فلم ينشغل بالناس أو بكلام الناس، وذكر الرب كثيرا هو ما علمه - سبحانه - عن زكريا عندما طلب الآية ليصحبها دائما بشكر الله عليها، إن قوله:
1448
﴿واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً﴾ تفيد أن زكريا قادر على الذكر وغير قادر على كلام الناس، لذلك لا يريد الله أن يشغله بكلام الناس، وكأن الله يريد أن يقول له: ما دمت قد أردت أن تعيش مع النعمة شكرا فسأجعلك غير قادر على الكلام مع الناس لكنك قادر على الذكر.
والذكر مطلقا هو ذكر الله بآلائه وعظمته وقدرته وصفات الكمال له، والتسبيح هو التنزيه لله، لأن ما فعله الله لا يمكن أن يحدث من سواه، فسبحان الله، معناها تنزيه لله، لأنه القادر على أن يفعل ما لا تفعله الأسباب ولا يقدر أحد أن يصنعه.. إنه يريد أن يشكر الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب. تلك اللفتة.. التي جاءت من قبل من مريم لزكريا.
وزكريا كما نعلم هو الكفيل لها، فكونها تنطق بهذه العبارة دلالة على أن الله مهد لها بالرزق، يجيئها من غير زكريا، بأنها ستأتي بشيء من غير أسباب. وكأن التجربة قد أراد الله أن تكون من ذاتها لذاتها؛ لأنها ستتعرض لشيء يتعلق بعرض المرأة، فلا بد أن تعلم مسبقا أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وبدون أسباب. فإن جاءت بولد بدون سبب من أبوة فلتعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فلما سمع زكريا منها ذلك قال: ما دام الله يرزق من غير حساب ويأتي بالأشياء بلا أسباب فأنا قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتي عاقر، فلماذا لا أطلب من ربي أن يهبني غلاما؟ إذن فمقولة مريم: ﴿إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قد لفتت زكريا، ونبهت إيمانا موجودا في أعماقه وحاشية شعوره، ولا نقول أوجدت إيمانا جديدا لزكريا بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ولكنها أخرجت القضية الإيمانية من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا: ما دام الأمر كذلك فأنا أسأل الله أن يهبني غلاما.. وقول زكريا: ﴿هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ دل على أنه وزوجته لا يملكان اكتساب الأبوة والأمومة ولذلك طلب الهبة من الله. والهبة شيء بدون مقابل.
فلما سأل الله ذلك استجاب الله له، وقال له سبحانه: سأهبك غلاما بدون أسباب من خصوبتك في التلقيح أو خصوبة الزوجة في الحمل، وما دامت المسألة ستكون بلا أسباب وأنا - الخالق - سأتولى الإيجاب ب «كن» ولمعنى سام شريف سأمنحكم شيئا آخر تقومون به أنتم معشر الآباء والأمهات - عادة - إنه تسمية
1449
المولود، فأفاض الحق عليهم نعمة أخرى وهي تسمية المولود بعد أن وهبه لهما.. هنا وقفة عند الهبة بالاسم. ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ [آل عمران: ٣٩].
حين يولد للناس ولد فهم يسمونه، فالتسمية أمر شائع في عادات الناس. ولكن من يهمهم أمر الوليد حينما يقبلون على تسميته؛ فهم يحاولون أن يتفاءلوا؛ فيسموه اسما يرجون أن يتحقق في المسمى، فيسمونه «سعيدا» أملا في أن يكون سعيدا، أو يسمونه «فضلا» أو يسمونه «كريما».
إنهم يأتون بالاسم الذي يحبون أن يجدوا وليدهم على صفته وذلك هو الأمل منهم ولكن أتأتي المقادير على وفق الآمال؟
قد يسمونه سعيدا، ولا يكون سعيدا. ويسمونه فضلا، ولا يكون فضلا. ويسمونه عزا، ولا يكون عزا. ولكن ماذا يحدث حين يسمى الله سبحانه وتعالى؟ لا بد أن يختلف الموقف تماما، فإذا قال اسمه ﴿يحيى﴾ دل على أنه سيعيش. وقديما قال الشاعر حينما تفاءل بتسمية ابنه يحيى:
فسميته يحيا ليحيا... فلم يكن لرد قضاء الله فيه سبيل
كان الشاعر قد سمى ابنه يحيى أملا أن يحيا، ولكن الله لم يرد ذلك، فمات الابن. لماذا؟ لأن المسمىِّ من البشر ليس هو الذي يُحْيِي، إن المسمى إنسان قدرته عاجزة، ولكن «المحيى» له طلاقة القدرة، فحين يسمى من له طلاقة القدرة على إرادة أن يحيا فلا بد من أن يحيا حياة متميزة؟ وحتى لا تفهم أن الحياة التي أشار الله إليها بقوله: «اسمه يحيى» بأنها الحياة المعروفة للبشر عادة - لأن الرجل حينما يسمى ابنه «يحيى» يأمل أن يحيا الابن متوسط الأعمار، كما يحيا الناس ستين عاما، أو سبعين، أو أي عدد من السنوات مكتوبة له في الأزل.
لكن الله حينما يسمى «يحيى» فانه لا يأخذ «يحيى» على قدر ما يأخذه الناس،
1450
بل لا بد أن يعطيه أطول من حدود أعمار الناس، ويهيء له الحق من خصومه ومن أعدائه من يقتله ليكون شهيدا، وهو بالشهادة يصير حيا، فكأنه يحيا دائما، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
وهكذا أراد الله ليحيى عليه السلام أن يحيا كحياة الناس، ويحيا أطول من حياة الناس إلى أن تقوم الساعة، وأيضا نأخذ ملحظا في أن زكريا حينما بُشِّر بأن الله سيهبه غلاما ويسميه يحيى، نجده قد استقبلها بالعجب. كيف يستقبل زكريا مسألة الرزق بالولد متعجبا مع أنه رآها في الرزق الذي كان يجده عند مريم؟ ﴿يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
ولنا أن نقول: أكنت تحب أن يمر مثل هذا الأمر الخارق للعادة والخارق للناموس على سيدنا زكريا كأنه أمر عادي لا يندهش له ولا يتعجب؟ لا، لا بد أن يندهش ويتعجب لذلك قال: ﴿رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾. فكأن الدهشة لفتته إلى أنه ستأتي آية عجيبة، ولو لم تكن تلك الدهشة لكانت المسألة رتيبة وكأنها أمر عادي. إذن، فهو يلفتنا إلى الأمر العجيب الذي خصه الله به. وأيضا جاءت المسألة على خلاف ناموس التكاثر والإنجاب والنسل: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ﴾.
إن المسألة كلها تفضل وهبة من الله.
فلما جاءته البشارة، لم يقل الله له: إنني سأهبك الغلام واسمه يحيى من امرأتك هذه، أو وأنت على حالتك هذه. فيتشكك ويتردد ويقول: أترى يأتي الغلام الذي اسمه «يحيى» منى وأنا على هذه الحالة، امرأتي عاقر وأنا قد بلغت هذا الكبر، أو ربما ردنا الله شبابا حتى نستطيع الإنجاب، أو تأتي امرأة أخرى فأتزوجها وأنجب.
إذن فالعجب في الهيئة التي سيصير عليها الإنجاب فقوله: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقد بلغني الكبر وامرأتي عَاقِراً﴾ هذا التساؤل من زكريا يهدف به إلى معرفة الهيئة أو الحالة التي سيأتي بها الإنجاب، لأن الإنجاب يأتي على حالات متعددة. فلما أكد الله ذلك قال: «كذلك» ماذا تعني كذلك؟ إنها تعني أن الإنجاب سيأتي منك ومن زوجك وأنتما على حالكما، أنت قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتك عاقر. لأن العجيبة تتحقق بذلك، أكان من المعقول أن يردهما الله شبابا حتى يساعداه أن يهبهما الولد؟ لا. لذلك قال الحق: ﴿كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾. أي كما أنتما، وعلى حالتكما.
1451
لقد جعل الحق الآية ألا يكلم زكريا الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة، وقد يكون عدم الكلام في نظر الناس مرضا لا، إنه ليس كذلك، لأن الحق يقول له: ﴿واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار﴾ إن الحق يجعل زكريا قادرا على التسبيح، وغير قادر على الكلام. وهذه قدرة أخرى من طلاقة قدرة الله، إنه اللسان الواحد، غير القادر على الكلام، ولو حاول أن يتكلم لما استطاع، ولكن هذا اللسان نفسه - أيضا - يصبح قادرا فقط على التسبيح، وذكر الله بالعشيّ والإبكار، ذكر الله باللسان وسيسمعه الناس، وذلك بيان لطلاقة القدرة.
وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى مسألة أخرى تتعلق بمريم، لأن مريم هي الأصل في الكلام، فالرزق الذي كان يأتيها من الله بغير حساب هو الذي نبه سيدنا زكريا إلى طلب الولد، وجاء الحق لنا بقصة زكريا والولد، ثم عاد إلى قصة مريم: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك... ﴾
1452
﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة﴾ المراد بها جبريل عليه السلام، والسبب في أن الحق يورد ذلك ب ﴿قَالَتِ الملائكة﴾ لأن كلام المتكلم - أي الإنسان - له - كما قلنا - زاوية انطلاق يأتي من جهتها الصوت. وتستطيع أن تتأكد من ذلك عندما يجيء لك صوت، فأنت تجد ميل أذنك لجهة مصدر الصوت، فإن جاء الصوت من ناحية أذنك اليمنى فأنت تلتفت وتميل إلى يمينك، وإذا جاءك الصوت من شمالك تلتفت إلى الشمال. لكن المتكلم هنا هو جبريل عليه السلام، ويأتي صوته من كل جهة حتى يصير الأمر عجيبا، لهذا جاء الكلام منسوبا إلى الملائكة.
فماذا قال جبريل؟ قال جبريل مبلغا عن رب العزة: ﴿يامريم إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين﴾ وما الاصطفاء؟ إن الاصطفاء اختيار واجتباء، وهو مأخوذ
1452
من الصفو أو الصافي، أي الشيء الخالص من الكدر. وعادة تؤخذ المعاني من المحسات، وعندما تقول الماء الصافي أي الماء غير المكدر، أو كما يقول الحق: ﴿وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ [محمد: ١٥].
وعندما يقول الحق: ﴿إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين﴾ نحن هنا أمام اصطفاءين، الاصطفاء الأول ورد دون أن تسبقه كلمة «على» والإصطفاء الثاني تسبقه كلمة «على» والمقصود بالإصطفاء الأول هو إبلاغ مريم أن الله ميزها بالإيمان، والصلاح والخلق الطيب، ولكن هذا الاصطفاء الأول جاء مجردا عن «على» أي أن هذا الاصطفاء الأول لا يمنع أن يوجد معها في مجال هذا الإصطفاء آخرون، بدليل قول الحق: ﴿إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين﴾ [آل عمران: ٣٣].
ثم أورد الحق سبحانه أنه طهرها، وجاء من بعد ذلك بالاصطفاء الثاني المسبوق ب «على» فقال ﴿واصطفاك على نِسَآءِ العالمين﴾ إذن فهذا خروج للرجال عن دائرة هذا الاصطفاء، ولن يكون مجال الاصطفاء موضوعا يتعلق بالرجولة؛ فهي مصطفاة على نساء العالمين، فكأنه لا توجد أنثى في العالمين تشاركها هذا الاصطفاء. لماذا؟ لأنها الوحيدة التي ستلد دون ذكر، وهذه مسألة لن يشاركها فيها أحد.
وقوله الحق: ﴿واصطفاك على نِسَآءِ العالمين﴾ هذا القول يجب أن ينبه في نفسها سؤالا هو: ما الذي تمتاز هي به عن نساء العالمين؟ إن الذهن ينشغل بهذا الأمر، وينشغل على أمر من وظيفة الأنثى، ولنضم هذه إلى قول الحق على لسانها: ﴿إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ونجد أن هذه كلها إيناسات للحدث الذي سيأتي من بعد ذلك، وهو حدث يتعلق بعرضها وعفافها، فلا بد أن يمهد الله له تمهيدا مناسبا حتى تتأكد من أن هذه المسألة ليس فيها شيء يخدش الكرامة.
﴿واصطفاك على نِسَآءِ العالمين﴾ ولنا أن نسأل: ما نتيجة الاصطفاء؟
1453
لقد عرفنا أن الاصطفاء هو الاجتباء والآختيار، ويقتضي «مصطفِى» بفتح الفاء. ويقتضي «مصطفِى» بكسر الفاء. والمصطفى هو الله، لكن ما علة الاصطفاء؟ إن الذي يصطفيه الله إنما يصطفيه لمهمة، وتكون مهمة صعبة. إذن هو يصطفيه حتى يشيع اصطفاؤه في الناس. كأن الله قد خصه بالاصطفاء من أجل الناس ومصلحتهم، سواء أكان هذا الاصطفاء لمكان أم لإنسان أم لزمان ليشيع صفاؤه في كل ما اصطفى عليه. لقد اصطفى الله الكعبة من أجل ماذا؟ حتى يتجه كل إنسان إلى الكعبة. إذن فقد اصطفاها من أجل البشر وليشيع اصطفاؤها في كل مكان آخر، ولذلك قال الحق عن الكعبة: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦].
وإذا اصطفى الحق سبحانه زمانا، كاصطفائه لرمضان، فلماذا اصطفاه؟ ليشيع صفاؤه، وصفاء ما أنزل فيه في كل زمان. إذن فاصطفاء الحق للشخص أو للمكان أو للزمان هو لمصلحة بقية الناس أو الأمكنة أو الأزمنة، لماذا؟ لأن أحدا من الخلق ليس ابنا لله، وليس هناك مكان أولى بمكان عند الله. ولكن الله يصطفي زمانا على زمان، ومكانا على مكان، وإنسانا على إنسان ليشيع اصطفاء المُصطفى في كل ما اصطُفِىَ عليه. إذن فهل يجب على الناس أن يفرحوا بالمصطفى، أو لا يفرحوا به؟ إن عليهم أن يفرحوا به؛ لأنه جاء لمصلحتهم، والحق سبحانه يقول: ﴿يامريم اقنتي لِرَبِّكِ... ﴾
1454
فكأن ما تقدم من حيثيات الاصطفاء الأول، والاصطفاء الثاني، يستحق منها القنوت، أي العبادة الخالصة الخاضعة الخاشعة. وقد يقول قائل: ولماذا يصطفى
1454
الله واحدا، ليشيع اصطفاؤه في الناس؟ لأن الاصطفاء من الحق لا بد أن يبرئه من كل ما يمكن أن يقع فيه نظيره من الاختيارات غير المرضية، والحق سبحانه يريده نموذجاً لا يقع منه الا الخير، والمثال الكامل على ذلك اصطفاء الحق سبحانه لرسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أول الأمر وجعله لا يفعل إلا السلوك الطيب من أول الأمر، وذلك حتى يعطينا الرسول القدوة الإيمانية في ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة المحمدية.
والحق يقول لمريم على لسان الملائكة: ﴿يامريم اقنتي لِرَبِّكِ﴾ إنه أمر بالعبادة الخاشعة المستديمة لربها، وكلمة ﴿لِرَبِّكِ﴾ تعني التربية، فكأن الاصطفاءات هي من نعم الله عليك يا مريم، وتستحق منك القنوت ﴿واسجدي واركعي مَعَ الراكعين﴾ و ﴿واسجدي﴾ أي بَالِغِي في الخشوع، والخضوع، بوضع الجبهة التي هي أشرف شيء في الإنسان على الأرض، لأن السجود هو أعلى مرتبة من الخضوع.
لكن أيعفيها هذا اللون من الخضوع مما يكون من الركوع لله مع الناس؟ لا، إنه الأمر الحق يصدر لمريم ﴿واركعي مَعَ الراكعين﴾ ولا يعفيك من الركوع أنك فعلت الأمر الأعلى منه في الخضوع وهو السجود، بل عليك أن تركعي مع الراكعين، فلا يحق لك يا مريم أن تقولي: «لقد أمرني الله بأمر» أعلى ولم أنفذ الأمر الأدنى «
إن الحق يأمرها أن تكون أيضا في ركب الراكعين مثلما نقرأ قوله الحق عن الكفار: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين﴾ [المدثر: ٤٢ - ٤٣].
إنهم كفار، فكيف يصلون؟ إنه اعتراف منهم بأنهم كفار، ولم يكونوا مسلوكين في سلك من يصل، واعتراف بانهم لم يكونوا مسلمين أو مؤمنين بالله. وهنا يسأل سائل كريم: لماذا قال سبحانه وتعالى في خطابه لمريم: ﴿يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين﴾ ولم يقل الحق:»
مع الراكعات «؟ هذا هو السؤال.
1455
وإجابة على هذا السؤال نحب أن نمهد تمهيدا بسيطا إلى فلسفة الأسماء في وضعها على مسمياتها. إن الأسماء ألفاظ من اللغة تعين مسماها. والمسميات مختلفة، فمنها الجماد، ومنها النبات ومنها الحيوان، ومنها الأسماء التي تدل على عالم الغيب كالجن، والملائكة، وكل ما غيب الله. هذه الأسماء تدل على معانيها.
وهدى الله سبحانه البشر إليها بما علم آدم من الأسماء، فكيف كان باستطاعة آدم التعبير عن معطيات الأسماء بمسمياتها؟ إذن لا بد أن يوجد لكل شيء اسم حتى نستطيع حين نتفاهم على الشيء أو الكائن بأن نذكر لفظا واحدا موجزاً يشير إليه.
ولو لم يكن يذكر هذا فكيف كان باستطاعة إنسان أن يتكلم مع إنسان آخر عن الجبل مثلا؟. أكان على المتكلم أن يأخذ السامع إلى الجبل ويشير إليه؟ أم يكفي أن يقول له لفظ «جبل» حتى يستحضر السامع في ذهنه صورة لهذا المسمى؟
إذن.. ففلسفة تعليم الحق للأسماء لنا أزاحت عنا عبئا كبيرا من صعوبة التفاهم. ولولا ذلك لما استطعنا أن نتفاهم على شيء إلا إذا واجهنا الشيء وأشرنا إليه. فكلمة «جبل» وكلمة «صخر» وغيرها من الكلمات هي أسماء لمسميات.. وعندما أتكلم على سبيل المثال عن أمريكا فإنني لن آخذ السامع إليها وأشير إليه قائلا «إن هذه هي أمريكا»، لكن كلمة واحدة هي «أمريكا» تعطي السامع معنى للمسمى، فتلحق الأحكام على مسمياتها. وما دامت المسألة هكذا فلا بد من وجود أسماء لمسميات، هذه الأسماء علمها الله للإنسان حتى يتفاهم بها والإنسان أصله من آدم.
وكلمة «آدم» حينما تتكلم بها تجدها في النحو مذكرة، والمذكر يقابله المؤنث. وقد خلق الحق الأعلى: الذكورة والأنوثة؛ لأن من تزاوجهما سيخرج النسل. إذن فكان لا بد من التمييز بين النوعين للجنس الواحد. فالذكر والأنثى، هما بنو آدم، ومنها ينشأ التكاثر، لكن العجيب أن الله حين سمى آدم ونطقناه اسما مذكرا وسمى «حواء» ونطقناه اسما مؤنثا، وجعل سبحانه الاسم الأصيل الذي وجِدَ منه الخلق هو «نفس». لقد قال الحق: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله
1456
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: ١].
لقد سمى الحق آدم بكلمة نفس، وهي مؤنثة، إذن فليس معنى التأنيث أنه أقل من معنى التذكير، ولكن «التذكير» هو فقط علامة لتضع الأشياء في مسمياتها الحقيقية وكذلك التأنيث. إن الحق سبحانه يطلق على كل إنسان منا «نفس» وهي كلمة مؤنثة، وحينما تكلم الحق سبحانه كلاما آخر عن الخلق قال: ﴿ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: ١٣].
وكلمة «ناس» تعني مجموع الإنسان. وهكذا نعرف أن كلمة: «إنسان» تُطلق مرة على المذكر، ومرة أخرى على المؤنث. إذن فالحق قد أورد مرة لفظا مذكرا، ومرة أخرى أطلق لفظا مؤنثا، وذلك حتى لا نقول: أن المذكر أفضل وأحسن من المؤنث، ولكن ذلك وسيلة للتفاهم فقط، ولذلك يؤكد لنا الحق سبحانه أنه قد وضع الأسماء لمسمياتها لنتعارف بها. ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا﴾ [الحجرات: ١٣].
ومعنى «لنتعارف» أي أن يكون لكل منا اسمٌ يعرف به عند الآخرين.
وفي حياتنا العادية - ولله المثل الأعلى - نجد رجلا عنده أولاد كثيرون، لذلك يُطلق على كل ابن اسما ليعرفه المجتمع به، والعجيب في هذه الآية الكريمة: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا﴾. أننا نجد كلمة «شعوبا» مذكرة وكلمة «قبائل» مؤنثة. إذن فلا تمايز بالأحسن، ولكن الكلمات هنا مسميات للتعارف. والحق الأعلى يقول:
1457
﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ [العصر: ١ - ٣].
إذن فما وضع النساء اللائي آمنّ؟ إنهن يدخلن ضمن ﴿الذين آمَنُواْ﴾. ولماذا أدخل الله المؤنث في الذكر؟ لأن المذكر هو الأصل، والمؤنث جاء منه فرعا. إذن فالمؤنث هو الذي يدخل مع المذكر في الأمور المشتركة في الجنس. ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١].
وهذا يعني أن «المؤنث» عليه أن يدخل في تكليف العبودية لله.
والمعنى العام يحدد أن المطلوب منه العبادة هو الإنسان كجنس. وبنوعية الذكر والأنثى. وفي الأمر الخاص بالمرأة، ويحدد الله المرأة بذاتيتها. فالحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً﴾ [الأحزاب: ٣٦].
لماذا؟ إن المسألة هنا تشمل النوعين من الجنس الواحد: الرجل والمرأة، زوج وزوجة، فمثلا نجد زوجا يريد تطليق زوجته، فيأتي الحق بتفصيل يوضح ذلك. وإذا كان هناك أمر خاص بالمرأة فالحق سبحانه وتعالى يحدد الأمر فها هوذا قوله الحكيم: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
1458
الجاهلية الأولى وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: ٣٢ - ٣٣].
إن كل ما جاء في الآية السابقة يحدد المهام بالنسبة لنساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالخطاب الموجه يحدد الأمر بدقة «لستن» و «اتقيتن»، و «لا تخضعن»، و «قرن»، و «لا تبرجن». الحديث في هذه الآية الكريمة يتعلق بالمرأة لذلك يأتي لها بضميرها مؤنثا.
ولكن إذا جاء أمر يتعلق بالإنسان بوجه عام فإن الحق يأتي بالأمر شاملا للرجل والمرأة ويكون مذكرا، ولذلك فعندما قالت النساء لماذا يكون الرجل أحسن من المرأة، جاء قول الحق: ﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: ٣٥].
هكذا حسم الحق الأمر.
قال سبحانه تأكيدا لذلك؛ ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ [النساء: ١٢٤].
إن الذكر والأنثى هنا يدخلان في وصف واحد هو ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ إذن فعندما يأتي الأمر في المعنى العام الذي يُطلب من الرجل والمرأة فهو يُضمر المرأة في الرجل
1459
لأنها مبنية على الستر والحجاب، مطمورة فيه. داخله معه.. فإذا قال الحق سبحانه لمريم: ﴿واركعي مَعَ الراكعين﴾ فالركوع ليس خاصا بالمرأة حتى يقول «مع الراكعات» ولكنه أمر عام يشمل الرجل والمرأة، لذلك جاء الأمر لمريم بأن تركع مع الراكعين، وبعد ذلك يقول الحق: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ... ﴾
1460
وقد قلنا من قبل: إن كلمة «نبأ»، لا تأتي إلاّ في الخبر العظيم. والغيب هو ما غاب عن الحس. وهناك «غياب عن الحس» من الممكن أن يدركه مثلك. وهناك غياب عن الحس لا يدركه مثلك. وقلنا من قبل: إن حجب الغيب ثلاثة: مرة يكون الحجاب في الزمن ماضيا، ومرة مستقبلا، ومرة ثالثة يكون الحجاب في المكان. لماذا؟ لأن ظروف الأحداث زمان ومكان. فإذا أنبأني منبئ بخبر مضى زمنه فهذا اختراق للحجاب الزمن الماضي، فالحدث يكون قد وقع من سنوات وصار ماضيا وإذا أخبرني به الآن فهذا يعني أنه اخترق حجاب الزمن الماضي، وإذا قال لي عن أمر سيحدث بعد سنتين من الآن فهذا اختراق حجاب الزمن المستقبل، وهب أنه أخبرك بنبأ معاصر لزمنك الآن نقول: هنا يوجد حجاب المكان، فعندما أكون معكم الآن لا أعرف ما الحادث في مدينة أخرى غير التي نحن بها، ورغم أن الزمن واحد.
لذلك فعلينا أن نعرف، أنه مرة يكون الحجاب زمان.. أي قد يكون الزمن ماضيا، أو يكون الزمن مستقبلا، وقد يكون حجاب مكان. فإذا كان الله ينبئ رسوله بهذا النبأ فوسائل علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاث؛ لأن وسيلة العلم بالنبأ أحد ثلاثة أمور: مشاهدة؛ أو سماع؛ أو قراءة.
1460
والوسيلة الأولى وهي مشاهدة النبأ يشترط أن يوجد في زمن هذا النبأ، والنبأ الذي أخبر الله به رسوله حدث من قبل بعث الرسول بما لا يقل عن ستة قرون. إذن فالمشاهدة كوسيلة علم بهذا النبأ لا تصلح، لأن النبأ قد حدث في الماضي. قد يقول قائل: لعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قرأها، أو سمعها وبإقرار خصوم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه ليس بقارئ، فامتنعت هذه الوسيلة أيضا، وبإقرار خصومة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه لم يجلس إلى معلم فلم يستمع من معلم. إذن فلم يكن من سبيل لمعرفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذا النبأ إلا بالوحي، لذلك قال الحق سبحانه:
﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤]
وقلنا قديما إن الوحي، هو إعلام بخفاء؛ لأن الإعلام العادي هو أن يقول إنسان لإنسان خبراً ما، أو يقرأ الإنسان الخبر، أما الإعلام بخفاء فاسمه «وحي». والوحي يقتضي «موحي» وهو الله، «وموحى إليه» وهو الرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، و «موحى به» وهو القرآن الكريم.
وإذا نظرنا إلى الإعلام بخفاء لوجدنا له وسائل كثيرة.
إن الله يوحي. لكن الموحي إليه يختلف. الله سبحانه وتعالى يوحي للأرض: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا﴾ [الزلزلة: ١ - ٥].
إنه إعلام بخفاء، لأن أحدا منا لم يسمع الله وهو يوحي للأرض، والحق سبحانه يوحي للنحل، ويوحي للملائكة، ويوحي للأنبياء، وهناك وحي من غير الله، كوحي الشياطين.
1461
﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الانعام: ١٢١].
وهناك وحي من البشر للبشر: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ١١٢].
لكن الوحي إذا أُطلق، ينصرف إلى الوحي من الله إلى من اختاره لرسالة، وما عدا ذلك من أنواع الوحي يسمونه «وحيا لغويا» إنما الوحي الاصطلاحي وحي من الله لرسول، إذن فوحى الله للأرض ليس وحيا اصطلاحيا، ووحى الله للنحل ليس وحيا اصطلاحيا، ووحي الله لأم موسى ليس وحيا اصطلاحيا، ووحي الله للحواريين ليس وحيا اصطلاحيا، إن الحق سبحانه يقول: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة: ١١١].
إن هذا لون من الوحي غير اصطلاحي، بل هو وحي لغوي، أي أعلمهم بخفاء. لكن الوحي الحقيقي أن يُعلم الله من اختاره لرسالة، وهذا هو الوحي الذي جاء للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. يقول الحق: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾.
هكذا يخبرنا الحق ان الرسول تلقى هذا النبأ بالوحي، فلم يقرأه، ولم يشاهده، ونحن نعرف أن خصوم رسول الله شهدوا انه لم يقرأ ولم يستمع من معلم. وهكذا يخبرنا الحق أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن موجودا مع قوم مريم حين ألقوا أقلامهم.
1462
والقلم يُطلق على القلم الذي نكتب به، أو يطلق القلم على القداح التي كانوا يقترعون بها إذا اختلفوا على شيء. وكانوا عندما يختلفون يحضرون قداحا، ليعفروا من يظفر بالشيء المختلف عليه ونسميها نحن القرعة، والقرعة يقومون بإجرائها لإخراج الهوى من قسمة شائعة بين أفراد، وذلك حتى لا يميل الهوى إلى هذا أو إلى ذاك مفضلا له على الآخرين، ولذلك فنحن أيضا نجري القرعة فنضع لكل واحد ورقة.
إذن فلا هوى لأحد في إجراء قسمة عن طريق القرعة، وبذلك نكون قد تركنا المسألة إلى قدر الله لأن الورقة لا هوى لها، ولما اختلف قوم مريم على كفالتها، واختصموا حول مَن الذي له الحق في أن يكفلها. هنا أرادوا أن يعزلوا الهوى عن هذه المسألة، وأرادوا أن تكون قدرية، ويكون القول فيها عن طريق قدح لا هوى له.
وهذا القدح سيجري على وفق المقادير. أما «أقلامهم» فقد تكون هي القداح التي يقتسمون بها القرعة، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة تبركا.
وتساؤل البعض، ما المقصود بقول الحق: «إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ» وأين تم إلقاء هذه الأقلام؟ قيل: إنها ألقيت في البحر وإذا ألقيت الأقلام في البحر فمن الذي يتميز في ذلك؟ قيل: إنه إذا ما أطل قلم بسنه إلى أعلى فصاحبه الفائز، أو إذا غرقت كل الأقلام وطفا قلم واحد يكون صاحبه هو الفائز. ولا بد أنهم اتفقوا على علامة أو سمة ما تميز القلم الذي كان لصاحبه فضل كفالة مريم. ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾.
وكلمة ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ تدل على حرارة المنافسة بين القوم شوقا إلى كفالة مريم، لدرجة أن أمر كفالتها دخل في خصومة، وحتى تنتهي الخصومة لجئوا إلى الاقتراع بالأقلام.
وننتقل الآن إلى مرحلة أخرى.
1463
لقد كانت المرحلة الأولى بالنسبة لإعداد مريم هي قوله الحق على لسانها: ﴿إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وبذاك تعرفت على طلاقة قدرة الله، والمرحلة الثانية هي سماعها لحكاية زكريا ويحيى وتأكيد الحق لها أنه اصطفاها على نساء العالمين، وفي ذلك أمر يتعلق بالنساء، وكان ذلك إيناساً من الحق لها، وتدخل مريم إلى مرحلة جديدة.
﴿إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ [آل عمران: ٤٥].
والبشارة لا تكون إلا بخبر عظيم مفرح، وقد يتساءل البعض؟ ماذا يقصد الحق بقوله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ ؟ والإجابة هي: أن الحق سبحانه وتعالى يزاول سلطانه في ملكه بالكلمة، لا بالعلاج، فالحق سبحانه علمنا ذلك بقوله: ﴿الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٤٧].
وهذا القول هو مجرد إيضاح لنا وتقريب لأنه لا يوجد عندنا أقصر في الأمر من كلمة «كن» إن قدرته قادرة بطلاقتها أن تسبق نطقنا بالكاف وهي الحرف الأول من «كن»، ولكن الحق يوضح لنا بأقصر أمر على طريقة البشر، إن الحق سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا فإنه يقول له كن فيكون، وذلك إيضاح أن مجرد الإرادة الإلهية لأمر ما تجعله ينشأ على الفور، و «كن» هي مجرد إظهار الأمر للخلق، هكذا نفهم معنى بشارة الحق لمريم ب ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ ويقول الحق: ﴿اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾. إنها ثلاثة أسماء، «المسيح»، «عيسى»، «ابن مريم».
1464
ما معنى المسيح؟ قد يكون المسموح من الذنوب، أو أن تكون من آياته أن يمسح على المريض فيبرأ، أو المسيح المبارك.. أما عيسى. فهذا هو الاسم، والمسيح هو اللقب، وابن مريم هي الكنية.. ونحن نعرف أن العََلمَ في اللغة العربية يأتي على ثلاثة أنواع: اسم أو لقب أو كنية. وابن مالك يقول: «واسما أتى وكنية ولقبا» إن العَلَم على الشخص له ثلاث حالات. إما اسم وهو ما يطلق على المسمى أولا. والاسم الثاني الذي أطلقناه عليه. إن كان يشعر برفعة صاحبه أو بضِعَته نسميه لقبا. أما ما كان فيه أب أو أم فيقال له: «كنية» وجاءت الثلاثة في عيسى ﴿اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾.
«المسيح» هو اللقب، «عيسى» هو الاسم «و» ابن مريم «وهو الكنية. ومجيء عيسى باللقب والاسم والكنية ستكون لها حكمة تظهر لنا من بعد ذلك. ويقول عنه الحق: ﴿وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة﴾.
ونحن في حياتنا نستعمل كلمة فلان وجيه من وجهاء القوم، والوجيه هو الذي لا يرده مسئول للكرامة في وجهه، ونحن نسمع في حياتنا اليومية.
فلان لا يصح أن نسبب له الخجل برفض أي طلب له. وكما يقول العامة: (هو الوجه ده حد يكسفه) إذن فالوجيه هو الذي يأخذ سمة وتميزا بحيث يستحي الناس أن يردوه إذا كان طالبا، وهناك إنسان آخر قد يسألك أو يسأل الناس، فلا يبالي به أحد، إنه يريق ماء وجهه وتنتهي المسألة.
إذن فقوله الحق في وصف عيسى بن مريم: ﴿وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة﴾ أي أن أحدا لا يرده إن سأله. لكرم وجهه، فالإنسان يخجل أن يرد صاحب مثل هذه الكرامة، لذلك نجد أن السائل قد يقول: أعطني لوجه الله. أي أنه يقول لك: لا تنظر إلى وجهي، ولكن انظر إلى وجه الله؛ لأن الله هو الذي جاء بي إلى الدنيا وخلقني، وما دام قد جاء بي الخالق إلى الدنيا فهو المتكفل برزقي، فأنت حينما تعين على رزق من استدعاه الله إلى الوجود تكون قد أعطيت لوجه الله، إنه الخالق الذي يرزق كل مخلوق له حتى الكافر.
إذن فعطاء الإنسان للسائل ليس عطاء لوجه السائل، ولكنه عطاء لوجه الله. والحق يقول عن عيسى بن مريم: ﴿وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة﴾ وعرفنا كيف يكون
1465
الإنسان وجيها في الدنيا، فلماذا نص الحق على وجاهة عيسى في الآخرة؟ وخصوصا أن كل وجوه المؤمنين ستكون ناضرة، لقد نص الحق على وجاهة عيسى في الآخرة لأنه سوف يُسأل سؤالا يتعلق بالقمة الإيمانية: ﴿وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ [المائدة: ١١٦].
إياك أن تظن أن هذا السؤال هو تقريع من الله لعيسى بن مريم. لا إن الحق يريد أن يقرّع من قالوا هذا الكلام. ولذلك يقول عنه الحق: ﴿والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ [مريم: ٣٣].
لأن ميلاده كان له ضجة، وبعض بني إسرائيل اتهموا والعياذ بالله أمه مريم البتول، و «يوم الممات»، كلنا نعرف حكاية الصلب وكان لها ضجة. إنه لم يصلب ولكن صلب من خانه ووشي به فألقى الله شبه عيسى عليه فقتلوه. ويوم البعث حيا يوم يسأله الله: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [المائدة: ١١٦].
إنه عيسى ابن مريم الذي أنعم الله عليه بالسلام في هذه المواقف الثلاثة. ويتابع الحق فيصف عيسى ابن مريم بقوله: ﴿وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين﴾ إن كلمة «من المقربين» تدل على تعالى الحق في عظمته، فحين يفتن بعض البشر في واحد منهم قد يغضب بعضهم من الشخص الذي فتن الآخرون فيه مع أنه ليس له ذنب في ذلك.
والحق سبحانه يعلمنا أن للمغالي جزاءه ولكن المغالَى فيه تنجيه رحمة الغفار.
1466
إن الحق يعلمنا أن فتنة بعض الناس بعيسى ابن مريم عليه السلام لا تؤثر في مكانة عيسى عليه السلام عند الحق، إنه مقرب من الله، ولا تؤثر فتنة الآخرين في مكانته عند الله، ويقول الحق: ﴿وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد... ﴾
1467
الكلام: معناه اللفظ الذي ينقل فكر الناطق إلى السامع، وقول الحق: ﴿وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد﴾، معناه أن المواجه لعيسى عليه السلام في المهد هم الناس و «المهد» هو ما أعد كفراش للوليد. ولقد أورد الحق ﴿المهد وَكَهْلاً﴾ رمزية لشئ، وهي أن عيسى ابن مريم من الأغيار، يطرأ عليه مرة أن يكون في المهد، ويطرأ عليه مرة أخرى أن يكون كهلا، وما دام في عالم الأغيار فلا يصح أن يفتتن به أحد ليقول إنه «إله» أو «ابن إله».
ونفهم أيضا من ﴿وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد﴾ سر وجود آية المعجزة التي وهبها له الله وهو طفل في المهد. لأن المسألة تعلقت بعِرض أمه وكرامتها وعفتها، فكان من الواجب أن تأتي آية لتمحو عجبا من الناس حين يرونها تلد بدون أب لهذا الوليد أو زواج لها. وهذه المسألة لم نجد لها وجودا. مع أنها مسألة كان يجب أن تقال لأنهم يمجدون نبيهم، وكان من الواجب ألا يغفلوا عن هذه العجيبة، إن كلام طفل في المهد لما كان أمرا عجيبا كان لا بد أنّه سيكون محل حفظ وتداول بين الناس، ولن يكتفي الناس برواية واقعة كلامه في المهد فقط، بل سيحفظون ما قاله، ويرددون قوله.
والكلمة التي قالها عيسى عليه السلام في المهد لا تسعف من يصف عيسى عليه السلام بوصف يناقض بشريته؛ لأن الكلمة التي نطق بها أول ما نطق: إني عبد الله، فأخفوا هم هذه المسألة كلها لأن هذه الكلمة تنقض القضية التي يريدون
1467
أن يضعوا فيها عيسى عليه السلام، إن الحق يقول: ﴿وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً﴾.
ونعرف أن الكلام في المهد أي وهو طفل و «كهلا» أي بعد الثلاثين من العمر أي في العقد الرابع. والبعض قد قال: إن الكهولة.. بعد الأربعين من العمر. وهو قد حدثت له في روايتهم حكاية الصلب قبل أن يكون كهلا، فإذا كان قد تكلم في المهد فيبقى أن يتكلم وهو كهل، وقالوا إن حادثة الصلب أو عدم الصلب، أو الاختفاء عن حس البشر قد حدثت قبل أن يكون كهلا، إذن فلا بد أن يأتي وقت يتكلم فيه عيسى بن مريم عندما يصير كهلا، وأيضاً قوله الحق: ﴿وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً﴾ أي انه تكلم في المهد طفلاً ويتكلم كهلا أي ناضج التكوين، وبذلك نعرف أن عيسى بن مريم فيه أغيار وفيه أحوال، فإذا كنتم تقولون إنه إله فهل الألوهية في المهد هي الألوهية في الكهولة؟
إن كانت الألوهية في المهد فقط فهي ناقصة لأنه لم يستمر في المهد، وحدثت له أغيار، وما دام قد حدثت له أغيار فهو محدث، وما دام محدثا فلا يكون إلها، وبعد ذلك يقول الحق عن عيسى ابن مريم: ﴿وَمِنَ الصالحين﴾ ما حكايتها؟
إن العجيبة التي قال عنها الله: إنه يكلم الناس في المهد لم تكن باختياره، وكلامه وهو كهل سيكون بالوحي، أي ليس له اختيار فيه أيضا، ﴿وَمِنَ الصالحين﴾ مقصود بها عمله، أي الحركة السلوكية.
لماذا؟ لأنه لا يكفي أن يكون مبلغا، ولا يكفي أن يكون حامل آية، بل لا بد أن يؤدي السلوك الإيماني.
ويقول الحق على لسان مريم البتول: ﴿قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ... ﴾
1468
ونريد أن نقف وقفة ذهنية تدبرية عند قولها: ﴿قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ فلو أنها سكتت عند قولها: ﴿أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ لكان أمرا معقولا في تساؤلها، ولكن إضافتها ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ تثير سؤالا، من أين أتت بهذا القول ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ ؟ هل قال لها أحد: إنك ستلدين ولدا من غير أب؟ إن الملائكة لم تخبرها بذلك، لذلك انصرف ذهنها إلى مسألة المس. إنها فطرة وفطنة المهيأة والمعدة للتلقي عن الله، عندما قال لها: «المسيح عيسى ابن مريم».
قالت لنفسها: إن نسبته بأمر الله هي لي، فلا أب له، لقد قال الحق: إنه «ابن مريم» ولذلك جاء قولها: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ ذلك أنه لا يمكن أن ينسب الطفل للأم مع وجود الأب. هكذا نرى فطنة التلقي عن الله في مريم البتول. لقد مر بها خوف عندما عرفت أن عيسى منسوب إليها وقالت لنفسها، إن الحمل بعيسى لن يكون بوساطة أب، وكيف يكون الحمل دون أن يمسسني بشر. وقال الخالق الأكرم: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي لن يمسك بشر، ولم يقل لها: لقد نسبناه لك لأنك منذورة لخدمة البيت، ولكن الحق قال: ﴿كَذَلِكَ﴾ تأكيدا لما فهمته عن إنجاب عيسى دون أن يمسسها بشر. وتتجلى طلاقة القدرة في قوله سبحانه: ﴿الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾.
إنها طلاقة القدرة، وطلاقة القدرة في الإنسال أو الإنجاب أو في عدم التكثير بالنسبة للإنسان وطلاقة القدرة لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، ولو كانت طلاقة القدرة في الخلق لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، إنه الحق الأعلى القادر على أن يخلق دون ذكورة أو أنوثة، كخلقه لآدم عليه السلام، ويخلق الحق سبحانه بواحد منهما، كخلقه سبحانه لحواء وخلق عيسى عليه السلام، ويخلق الخالق الأعلى الذكورة والأنوثة يمكن أن يُحقق الخلق، فقد توجد الذكورة والأنوثة ولا يوجد إنجاب، ها هو ذا القول الحق: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً
1469
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: ٤٩ - ٥٠].
هذه هي إرادة الحق، إذن فلا تقل: إن اكتمال عنصري الذكورة والأنوثة هو الذي يحدث الخلق، لأن الخلق يحدث بإرادة الحق ﴿كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. فأنتم أيها المحدثون تفعلون بالأسباب. لكن الذي خلقكم وخلق الأسباب لكم هو الذي بيده أن يوجد بلا أسباب، لأنه أنشأ العالم أول ما أنشأ بدون أسباب.
ويقول الحق سبحانه عن عيسى عليه السلام: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكتاب والحكمة... ﴾
1470
وساعة نسمع ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكتاب﴾ فنحن نفهم أن المقصود بها الكتاب المنزل، ولكن ما دام الحق قد أتبع ذلك بقوله: ﴿التوراة والإنجيل﴾ فلا بد لنا أن نسأل. إذن ما المقصود بالكتاب؟ هل كان المقصود بذلك الكتاب الكتب المتقدمة، كالزبور، والصحف الأولى، كصحف إبراهيم عليه السلام؟ إن ذلك قد يكون صحيحا، ومعنى ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكتاب﴾ أن الحق قد علمه ما نزل قبله من زبور داود، ومن صحف إبراهيم، وبعد ذلك توراة موسى الذي جاء عيسى مكملا لها.
وبعض العلماء قد قال: أُثِرَ عن عيسى عليه السلام أن تسعة أعشار جمال الخط كان في يده. وبذلك يمكن أن نفهم ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكتاب﴾ أي القدرة على الكتابة. وما المقصود بقوله: إن عيسى عليه السلام تلقى عن الله بالإضافة إلى ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكتاب﴾ أنه تعلم أيضا ﴿الحكمة والتوراة والإنجيل﴾ وكلمة الحكمة عادة تأتي بعد
1470
كتاب منزل، مثال ذلك قوله الحق: ﴿واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٤].
كتاب الله المقصود هنا هو القرآن الكريم، والحكمة هي كلام الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. فالرسول له كلام يتلقاه ويبلغه، ويعطيه الحق أيضا أن يقول الحكمة، أما التوراة التي علمها الله لعيسى عليه السلام فقد علمها له الله، لأننا كما نعلم أن مهمة عيسى عليه السلام جاءت لتكمل التوراة، ويكمل ما أنقصه اليهود من التوراة، فالتوراة أصل من أصول التشريع لعصره والمجتمع المبعوث إليه فهو بالنص القرآني: ﴿وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ... ﴾
1471
إن كلمة رسول تحتاج إلى علامة، فليس لأي أحد أن يقول: «أنا رسول من عند الله» بل لا بد أن يقدم بين يدي دعواه معجزة تثبت أنه رسول من الله. والأية كما نعرف هي الأمر العجيب الذي خرج عن القوانين والنواميس لتثبت صدق
1471
الرسول في البلاغ، وما دامت المعجزة خارجة عن نواميس البشر، فالمخالف نقول له: أنت حين تكذب أن حامل المعجزة رسول، فكيف تعلل أنه جاء بمعجزة خرجت عن الناموس؟ إذن فالمعجزة تلزم المنكر الذي يتحدى وتفحمه، لأنه لا يستطيع أن يأتي بمثلها، ولذلك قلنا: إن من لزوم التحدي ألا يتحدى الله حين يعطي رسولا معجزة إلا بشيء نبغ فيه القوم المبعوث إليهم ذلك الرسول؛ لأن الحق لو جاء لهم بشيء لم يدرسوه ولم يعرفوه، فالرد منهم يكون للرسول بقولهم: إن هذا أمر لم نروّض أنفسنا ولم ندربها عليه، ولو روّضنا أنفسنا عليه لا ستطعنا أن نفعل مثله، وأنت قد جئت لنا بشيء لم نعود أنفسنا عليه، لذلك يرسل الحق الرسول - أي رسول - بمعجزة من جنس ما ينبغ فيه القوم المرسل إليهم.. مثال ذلك، موسى عليه السلام، أرسله الله إلى قوم كانوا نابغين في السحر، فكانت معجزته تقرب من السحر.
وإياك أن تقول إن معجزة موسى كانت سحرا؛ لأن موسى عليه السلام لم ينزل بسحر ولكن بمعجزة. كانوا هم يخيلون للناس أشياء ليست واقعا لذلك تجد القرآن يعطيك الفارق بين ما يكون عليه ما يأتي به الله على يد رسول من الرسل من معجزة وسحر القوم، فيقول القرآن: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى﴾ [طه: ١٧ - ٢٠].
كأن الحق يقول لموسى عليه السلام: إن حدود علمك بما في يدك أنها عصا تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك، أما علمي أنا فهو علم آخر. لذلك يأمره أن يلقى العصا، فلما ألقاها وجدها حية تسعى، فأوجس في نفسه خيفة.. إن «أوجس في نفسه خيفة» هي التي فرقت بين سحر القوم ومعجزة موسى عليه السلام «.
لماذا؟ لأن الساحر يلقى العصا فيراها الناس حية وهو يراها عصا لأنّ الساحر لو رآها حية لخاف مثل الناس، لقد خاف موسى عليه السلام لأنها تغيرت وصارت حية فعلا، ولذلك قال له الله:
1472
﴿قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى﴾ [طه: ٢١].
فلو كانت من جنس السحر لما أوجس في نفسه خيفة لأنه سوف يراها عصا وإن رآها غيره حية، وهذا هو الفارق.
وقوم عيسى أيضا كانوا مشهورين بالحكمة والطب، إذن فستجيء الآيات من جنس الحكمة والطب، ثم تتسامى المعجزة، لأن الذي يطبب جسما ويداويه لا يستطيع أن يعيد الميت إلى الحياة، لأن الإنسان إذا ما مات فقد خرج الميت عن دائرة علاج الطبيب. ولذلك رقّى الله آية عيسى، إنه يشفي المرضى، ويحيى الموتى أيضا، وهذا ترق في الإعجاز. قال عيسى: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله﴾. إن كلمة «أخلق» تحتاج إلى وقفة وكذلك «الطين» و «الهيئة» و «الطير».
«أخلق» مأخوذة من الخلق، والخلق هو إيجاد شيء على تقدير، فأنت تتخيله وتقدره في ذهنك أولا ثم تأتي به على هذه الحالة. فإن كان قد أتى على غير تقديرك فليس خلقا، إنما هو شيء جزافى جاء على غير علم وتقدير، وإنّ من يأخذ قطعة من الطين ويصنع منها أي شيء فهذا ليس خلقا. إن الخلق هو المطلوب على تقدير. مثال ذلك الكوب أو الكأس البلور الذي نشرب فيه حينما صنعه الصانع. هل كانت هناك شجرة تخرج أكوابا، أم أن الصانع أخذ الرمال وصهرها ووضع عليها مواد كيماوية تخليها من الشوائب، ثم قام بتشكيلها على هيئة الكوب؟
إذن فالكوب لم تكن موجودة، ووجدت على تقدير أن تكون شكل الكوب، فهي خلق أُوجد على تقدير. فماذا عن خلق الله؟ إنه يخلق على تقدير، وفرق بين صنعة البشر حين يخلق، وبين صنعة الله حين يخلق. إن صنعة البشر حين تخلق، إنما تخلق من موجود، وحين يخلق الله فهو يخلق من معدوم، وهذا هو أول فرق، إنه سبحانه يخلق من عدم، أما الإنسان فيضع الأشياء بنظام يحدث فيها تفاعلات أرادها الله فتوجد، فلا يوجد من يستطيع - على سبيل المثال - من يصنع كوبا من غير المادة التي خلقها الله.
إن هذا أول فرق بين خلق الله، وخلق الإنسان، فخلق الله يكون من عدم،
1473
وخلق الإنسان من موجود، وإن كان الإثنان على تقدير. وأيضا يعطي الله لخلقه سرا لا يستطيع البشر إعطاءه لصنعته، فالله يعطيه سر الحياة والحياة فيها نمو، وفيها تكاثر، لكن البشر يصنعون الكوب مثلا، فتظل كوبا، ولا يوجد تكاثر بين كوب ذكر وكوب أنثى.
إن الإنسان يوجد صنعته فتظل على حالتها، ولا يستطيع أن يصنعها صغيرة ثم تكبر، لكن صنعة الله هي صنعة القادر الذي يهب الحياة، فتكبر مخلوقاته وتتطور وتمر بمراحل، وتعطي مثلها. إذن، فالخلق إيجاد على تقدير، هذا الإيجاد يوجد معدوما، والمعدوم موجودة مادته، هذا في خلق الإنسان، أما في خلق الله، فالله يخلق من معدوم لا توجد له مادة.
والله يخلق من الشيء ذكرا وأنثى ويعطيهما القدرة على التناسل، فها هو ذا قول الحق سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٢ - ١٤].
ولم يمنع الحق خَلْقَه أن يخلقوا أشياء، ولكن خلق الله أحسن، لماذا؟ لأنه يخلق من عدم، والبشر يخلقون من موجود. وهو الحق يخلق ويوجد في مخلوقاته حياة وتكاثرا، والبشر يخلقون بلا نمو ولا حياة، إنه الحق أحسن الخالقين، إذن قول عيسى عليه السلام: ﴿أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ «الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله﴾.
يعني أن كل إنسان يستطيع أن يصنع تمثالا كهيئة الطير. لكن الله أوجد معجزة عيسى وجعله يخلق من الطين كهيئة الطير، وينفخ فيه، وقد تسأل، في ماذا ينفخ؟ أينفخ في الطير، أم في الطين، أم في الهيئة؟ إن قلنا: أن النفخ في الطين بعد ما صار طيرا. يكون النفخ في الطين، كالنفخ في الطير، وجاءت في آية أخرى أنها نفخ في الهيئة.
1474
﴿إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾ [المائدة: ١١٠].
إن» النفخ فيه «، تكون للطين أو الطير. و» النفخ فيها «تكون للهيئة، وهناك آية بالنسبة للسيدة مريم البتول: ﴿وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾ [التحريم: ١٢].
إن النفخ هنا في الفرج، وآية أخرى بالنسبة للسيدة مريم البتول: ﴿والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩١].
مرة يقول:»
نفخنا فيه «أي في الفرج، ومرة يقول:» نفخنا فيها «أي فيها هي، والقولان متساويان، وهنا في هذه الآية، نجد أن الإعجاز ليس في أن عيسى صنع من الطين كهيئة الطير، لأن أي إنسان يستطيع أن يفعل ذلك، فكأنه حينما قال: ﴿أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله﴾.
كأنه صار طيرا من النفخة، أما عن أمر صناعة طير من الطين فأي إنسان يمكن أن يفعلها، لكن عيسى عليه السلام يفعل ذلك بإذن الله، ولا بد أن يجيء الأمر
1475
مختلفا، و» بإذن الله «هنا تضم صناعة الطير، والنفخ فيه.
إن عيسى لم يكن ليجترئ ويصنع ذلك كله إلا بإذن الله، وجاءت كلمة»
بإذن الله «من عيسى وعلى لسانه كاعتراف منه بأن ذلك ليس من صناعته، وكأنه يقول لقومه: إن كنتم فتنتم بهذه.
فكان يجب أن تفتنوا بإبراهيم من باب أولى، حينما قطَّع الطير وجعل على كل جبل جزءا منهن ثم دعاهن. ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٦٠].
إذن كان من الأولى الفتنة بما أعطاه الله إبراهيم عليه السلام من معجزة، فإن كانت الفتنة من ناحية الإحياء لكان ما صنعه إبراهيم عليه السلام أولى بها، وإن كانت الفتنة من ناحية أنه جاء إلى الدنيا بدون أب لكانت الفتنة أكثر في خلق آدم، لأن الله خلقه بلا أب أو أم. إذن فالفتنة لا أصل لها ولا منطق يبررها.. ويتابع الحق سبحانه على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام ﴿وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله﴾.
لماذا تعرض عيسى ابن مريم لهذين المرضين؟ لأنها كانت الأمراض المستعصية في ذلك العصر، والأكمه هو الذي ولد أعمى أي لم يحدث له العمى من بعد ميلاده. والبرص، هو ابيضاض بقعة في الجلد وإن كان صاحبها آدم أو أسود. وبعد ذلك تنتشر بقع متناثرة في كافة الجسم بلون أبيض، مما يدل على أن لون الجلد له كيماويات في الجسم تغذى هذا اللون، فإن مُنعت الكيماويات في الجسم صار أبرص.
وتبين صدق هذا في أن العلم المعاصر قد عرف أن الملونات للجلد هي غدد خاصة توجد في الجسم، واسمها الغدد الملونة، فإن امتنعت الغدد الملونة من إعطاء الألوان، جاء البرص والعياذ بالله. وهو مرض صعب، لم يكن باستطاعتهم أن
1476
يداووه، فعندما جاء عيسى ابن مريم أعطاه الله الآية من جنس ما نبغوا فيه وهو الطب. وجاء لهم بآية هي إبراء ما كانوا عاجزين عنه.
وبعض القوم الذين يحاولون أن يقربوا بين المعجزة وعقول الناس. يقولون: إن هذه المعجزة إنما هي سبق زمني، بمعنى أنه من الممكن أن يتوصل الإنسان إلى أن يكتشف علاجا لهذه الأمراض، لكن لهؤلاء نقول: لا، إن المعجزة تظل معجزة إلى أن تقوم الساعة. كيف؟
لنأخذ مثالا من طب العيون، وعندما قالوا إن هناك علاجاً للعمى. «سنقوم بتركيب قرنية» أو أن نأخذ مثالا من طب الجلد لو قالوا: «سنداوي البرص» واكتشفوا ألوانا مختلفة من العلاج تحاول أن تجعل الجلد على لون واحد، لكنه لا يستعيد لونه الأصلي. ولذلك قال البعض: «إن معجزة عيسى كانت مجرد سبق زمني». لهؤلاء نقول: لا، لنأخذ كل أمر بأدواته.
إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يبرئ بالكلمة والدعوة ومهما تقدم العلم فلن يستطيع العلم أن يبرئ المرض بالكلمة والدعوة، إنما سيأخذون أشياء ويقومون بتحليل تلك الأشياء، وخلط الكيماويات وإجراء الجراحات، لذلك تظل المعجزة التي جاء بها عيسى ابن مريم عليه السلام معجزة؛ لأنه كان يبرئ بالكلمة والدعوة.
ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم: ﴿وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ﴾. ومسألة إحياء الموتى لم يأخذها عيسى هكذا على إطلاقها فيحيي كل ميت، إنما قام بها وفي وحدات تثبت صدق الآية ولا تعمم مدلول المعجزة كسام بن نوح مثلا، و «عازر» إنها أشياء لمجرد إثبات المعجزة، ولكنها ليست مطلقة، ذلك أنه نبي ورسول من الله فلا يمكن أن يصادم قدر الله في الآجال. ولذلك قالوا إنه عندما أحيا سام بن نوح، أحياه حتى نطق بكلمة، ثم عاد سام إلى الموت من بعد ذلك ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام:
﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ [آل عمران: ٤٩].
لماذا؟ لأن كل إنسان يعلم جزئية من أحداثه الحياتية الخاصة، يكون هذا العلم
1477
خاصا به، وكل إنسان - مثلا - يأكل طعامه بألوان مختلفة يعرفها هو، ولا يعرفها الآخرون. إن الأمر الأول كخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، هي أمور عامة للكل. أما الإنباء بألوان الطعام التي يأكلها كل إنسان فهي خاصية أحداث، لأن كل واحد يأكل أكلا معينا فيقول له عيسى ابن مريم ماذا أكل. وليس من المعقول أن يكون عيسى ابن مريم قد دخل كل بيت أو جاءت له أخبار عن كل بيت.
وكذلك أمر الادخار. وذلك حتى تنتفي شبهة أنه كان يشم رائحة الإنسان فيعرف لون الطعام الذي يأكله، لذلك كان الإخبار بما يدخر كل واحد في بيته، فهذه مسألة توضح بالجلاء التام أنها آية من إخبار من يعلم مغيبات الأمور.
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٤٩].
إن هذه آية عجيبة تثبت أن هناك قوة أعلى قاهرة هي قوة الله الحق هي التي تعطيه هذه الأشياء، فإن كنتم مؤمنين بوجود قوة أعلى فعليكم تصديق الرسالة التي جاء بها عيسى ابن مريم، لأن معنى (رسول) أنه مخلوق اصطفاه الله وأرسله سبحانه إلى الأدنى منه، فالذي يؤمن الآية هو الذي يؤمن بوجود إله أعلى قادر ومن يريد أن يتثب - مع إيمانه بالله - من الآية التي بعثها الله مع عيسى ابن مريم، فالآية واضحة. بالله فلن تفيده الآية في الإيمان. ويقول الحق متابعا على لسان عيسى ابن مريم: ﴿وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة... ﴾
1478
وقد قلنا: إن «مصدقا» تعني أن ما جاء به عيسى بن مريم مطابق لما جاء في
1478
التوراة. وقلنا: إن «ما بين يدي» الإنسان هو الذي سبقه، أي الذي جاء من قبله وصار أمامه. وما دام عيسى ابن مريم جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة في زمانه، وكانت التوراة موجودة، فلماذا جاءت رسالته إذن؟
لكن القول الحق يتضمن هذا المعنى: إن عيسى سيأتي بأحكام جديدة، ويتضح ذلك في قوله الحق سبحانه على لسان عبده عيسى ابن مريم: ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ إذن فليس المهم هو التصديق فقط، ذلك أن عيسى جاء ليحل بعضا من الذي حرمته التوراة.
وقد يقول قائل: إذا كانت الكتب السماوية تأتي مصدقة بعضها بعضا فما فائدة توالي نزول الكتب السماوية؟ والإجابة هي: أن فائدة الكتب السماوية اللاحقة أنها تذكر من سها عن الكتب السابقة، هذا في المرتبة الأولى، وثانيا: تأتي الكتب السماوية بأشياء، وأحكام تناسب التوقيتات الزمنية التي تنزل فيها هذه الكتب. هذه هي فوائد الكتب السماوية التي توالت نزولا من الحق على رسله، إنها تذكر من عقل وتُعَدلّ في بعض الأحكام.
ومن الطبيعي أننا جميعا نفهم أن العقائد لا تبديل فيها، وكذلك الأخبار والقصص، لكن التبديل يشمل بعضا من الأحكام. ولهذا جاء القول الحق على لسان عبده عيسى ابن مريم: ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ ونحن نعرف أن القوم الذي أرسل الله عيسى ابن مريم لهم هم بنو إسرائيل، والتحريم والتحليل يكون بحكمة من الله.
إن لله حكمة فيما يحلل وحكمة فيما يحرم، إنما إياك أن تفهم أن كل شيء يحرمه الله يكون ضارا؛ قد يحرم الله أشياء لتأديب الخلق، فيأمر بالتحريم، ولا يصح أن تسأل عن الضرر فيها، وقد يعيش المؤمن دنياه ولم يثبت له ضرر بعض ما حرم الله. فإن تساءل أحد: لماذا حرم الله ذلك؟ تقول له: من الذي قال لك إن الله حين يحرم فهو يحرم الشيء الضار فقط؟ إنه الحق سبحانه يحرم الضار ويحرم بعضا مما هو غير ضار، ولذلك قال الحق:
1479
﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً﴾ [النساء: ١٦٠].
وتفصيل ذلك في آية أخرى: ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام: ١٤٦].
إذن التحرير ليس ضروريا أن يكون لما فيه الضرر، ولهذا جاء قول الحق على لسان عبده ورسوله إلى بني إسرائيل عيسى ابن مريم: ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ لقد جاء عيسى ابن مريم ليُحل لهم بأمر من الله ما كان قد حرمه الله عليهم من قبل.
وبعد ذلك يقول الحق على لسان عبده ورسوله عيسى ابن مريم: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ ومجموعة هذه الأوامر التي تقدمت هي آية أي شيء عجيب، بلغت القوم الذين أرسل الله عيسى إليهم، إنه كرسول وكبشر لا يستطيع أن يجيء بالآية المعجزة بمفرده بل لا بد أن يكون مبعوثا من الله. فيجب أن يلتفتوا إلى أن الله الذي أرسله، وله طلاقة القدرة في خرق النواميس هو سبحانه الذي أجرى على يدي عيسى هذه الأمور، ويأمرهم عيسى ابن مريم بتقوى الله نتيجة لذلك، ويدعو القوم لطاعته في تطبيق منهج الله.
وبعد ذلك يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه... ﴾
1480
إذن اجتمع الرسول والمرسل إليهم في أنهم جميعا مربوبون إلى إله واحد، هو الذي يتولَّى تربيتهم والتربية تقتضي إيجادا من عدم، وتقتضي إمدادا من عدم، وتقتضي رعاية قيومية، وعيسى ابن مريم يقر بعبوديته لله وكأنه يقول: وأنا لم أصنع ذلك لأكون سيدا عليكم، ولكن أنا وأنتم مشتركون في العبودية لله. ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم﴾.
ومعنى ﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم﴾ أي أنه صراط غير ملتويا لأن الطريق إذ إلتوى؛ انحرف عن الهدف، وحتى تعرف أن الكل يسير على طريق مستقيم واحد، فلتعلم أنك إذا نظرت على سبيل المثال إلى الدائرة، فستجد أن لها محيطا، ولها مركزا، ومركز الدائرة هو الذي نضع فيه «سن الفرجار» حتى نرسم الدائرة، وبعد ذلك تصل من المركز إلى المحيط بأنصاف أقطار، وكلما بعدنا عن المركز زاد الفرق، وكلما تقرب من المركز تتلاشى الفروق.
فإذا ما كان الخلق جميعا يلتقون عند المركز الواحد فهذا يعني الاتفاق، لكن الاختلاف يحدث بين البشر كلما بعدوا عن المركز ولذلك لا تجد للناس أهواء ولا نجد الناس شيعا إلا إذا ابتعدوا عن المركز الجامع لهم والمركز الجامع لهم هو العبودية للإله الواحد، وما دامت عبوديته لإله واحد ففي هذا جمع للناس بلا هوى أو تفرق.
إنه حتى في الأمر الحسي وهو الدائرة المرسومة، نجد أن الأقطار المأخوذة من المحيط وتمر بمركز الدائرة، سنجد أنه في مسافة ما قبل المركز تتداخل الأقطار إلى أن تصير عند نقطة المركز شيئا واحدا لا انفصال بينها أبدا. وهكذا الناس إذا التقوا جميعا عند مركز عبوديتهم للإله الواحد، فإذا ما اختلفوا، بعدوا عن العبودية للإله الواحد بمقدار ذلك الاختلاف.
ولذلك دعا المسيح عيسى ابن مريم الناس لعبادة الله {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه
1481
هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} ذلك هو منطق عيسى. كان منطقه الأول حينما كان في المهد ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ [مريم: ٣٠].
إن قضية عبوديته لله قد حُسمت من البداية، وهي قضية القمة، إنه عبد الله والقضية الثانية هي قضية الرسالة ونقل مراد الله وتكليفه إلى خلق الله حتى يبنوا حركة حياتهم على مقتضى ما أنزل الله عليهم، ومن الطبيعي أن أي رسول عندما يأتي بمنهج من عند الله، فالهدف أن يحمل الناس جميعا على سلوك هذا المنهج، ويحدد حركة حياتهم ب «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» وعندما يسمع الواحد من الناس الأمر ب «افعل» فقد يجد في التكليف مشقة، لماذا؟ لأنها تلزمه بعمل قد يثقل عليه، و «لا تفعل كذا» فيها مشقة؛ لأنها تبعده عن عمل كان يحبه.
والمرء في الأحداث بين اثنين: عمل يشق عليه فيحب أن يجتنبه، وعمل يستهويه فيحب أن يقترب منه، والمنهج جاء من السماء ليقول للإنسان «افعل» ولا «تفعل» إذن فهناك مشقة في أن يحمل الإنسان نفسه على أن يقوم بعمل ما من أعمال التكليف، ومشقة أخرى في أن يبتعد عن عمل نهى عنه التكليف.
ومعظم الناس لا تلتفت إلى الغاية الأصيلة؛ ولا يفهمونها حق الفهم، فيأتي أنصار الشر؛ ولا يعجبهم حمل نفوسهم على مرادات خالقهم. إن أفكار الشر تلح على صاحبها فيتمرد على التكليف الإيماني، وأفكار الشر تحاول الاقتراب بصاحبها من فعل الأمور التي حرمها التكليف. ولذلك ينقسم الناس لأنهم لم يحددوا هدفهم في الوجود.
إن كل حركة في الوجود يمكننا أن نعرف أنها حركة إيمانية في صالح انسجام الإنسان مع الكون، أو هي حركة غير إيمانية تفسد انسجام الإنسان مع فطرته ومع الكون، فإذا كانت الحركة تصل بالإنسان إلى هدفه الإيماني. فستكون حركة طيبة وحسنة بالنسبة للمؤمن، وإذا كانت تبعده عن هدفه تكون حركة سيئة وباطلة، وهكذا نرى أن الهدف هو الذي يحدد الحركة.
1482
إن التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة له هدف بأن يتخرج في مهنة ما، وما دام ذلك هو هدفه فنحن نقيس حركة سلوكه، هل هي حركة تقربه إلى الهدف أن تبعد به عنه؟ فإن كان مجتهدا. فاجتهاده حركة تقرب له الهدف، وإن كان كسولا، خاملا فإنه يبتعد بنفسه عن الهدف. إذن يجب أن نحدد الهدف حتى نعرف هل يكون هذا العمل صالحا. أو غير صالح.
وآفة الناس أنهم عندما يحددون أهدافهم يقعون في اعتبار ما ليس بالهدف هدفا وغاية. وما دام هناك من يعتبر غير الهدف هدفا فلا بد من حدوث اضطراب وضلال، فالذي يعتبر أن الحياة هي الهدف، فهو يريد أن يحقق لنفسه أكبر قدر من اللذة فيها. أما الذي يعرف أن الهدف ليس هو الحياة، إنما الحياة مرحلة، نسأله.. ما الهدف إذن، فيقول: إنه لقاء الله والآخرة.
هذا المؤمن سيكون عمله من أجل هذا الهدف. لكن الضال الذي يرى الدنيا وحدها هدفه ولا يؤمن بالجنة أو النار، هو غارق في ضلاله ويقبل على ما تشتهيه نفسه، ويبتعد عما يتعبه وإن كانت فيه سعادته.
ولكن المؤمن يعرف أن الهدف ليس هو الدنيا، وأن الهدف في مجال آخر، لذلك يسعى في تطبيق التكاليف الإيمانية ليصل إلى الهدف، وهو الجنة. إذن ما يفسد سلوك الناس هو جهلهم بالهدف، وحين يوجد الهدف، فالإنسان يحاول أن يعرف العمل الذي يقربه من الهدف فيفعله، فهذا هو الخير. أما الذي يبعده عن الهدف ويفعل عكس الموصل إليه فهذا هو الشر.
وإذا كان الأمر كذلك والمسألة هي في تحديد الهدف يجب أن تعلم أن الناس يستقبلون الكثير من الأحداث بما يناقض معرفة الهدف، وما دام الهدف هو أن تذهب إلى الآخرة لتلقى الله فلماذا يغرق في الحزن إنسان لأن له حبيبا قد انتقل إلى رحمة الله؟
هذا الإنسان يمكننا أن نسأله، لماذا تحزن وقد قصر الله عليه خطواته إلى الهدف؟ لا بد أنك حزين على نفسك لأنك مستوحش له، ولأنك كنت تأنس به، أما حزنك من أجله هو، فلا حزن، لأنه اقترب من الهدف ووصل إليه.
1483
وفي حياتنا اليومية عندما يكون هدف جماعة أن تصل إلى الإسكندرية من القاهرة، نجد إنسانا ما يذهب إلى الإسكندرية ما شيا، لأنه لا يجد نقودا أو وسيلة توصله، وتجد آخر يذهب إليها راكبا حمارا، وثالثا يذهب إليها راكبا حصانا، ورابعا يصل إليها راكبا «أتوبيسا»، وخامسا يصل إليها بركوب الطائرة، وسادسا يصل إليها بصاروخ، وكل ما حدث هو أن كل واحد في هذه الجماعة قد اقترب من الهدف بالوسيلة التي توافرت له، وهكذا نجد إنسانا يذهب إلى الله ماشيا في سبعين عاما، وآخر يستدعيه الله فورا، فلماذا تحزن عليه؟
إن لنا أن نحزن على الإنسان الذي لم يكن موفقا في خدمة الهدف، أما الموفق في خدمة الهدف فلنا أن نفرح له، ونقول: إن الله قد قصر عليه المسافة، وأغلبنا إن كان عنده ولد حبيب إلى قلبه وصغير ويفقده فهو يغرق في الحزن قائلا «إنه لم ير الدنيا» لهذا الإنسان نقول: يا رجل إن الله جعل ابنك يقفز الخطايا ويتجاوزها وأخذه إلى الغاية، فما الذي يحزنك؟ إن علينا أن نحسن استقبال ما يقضي به الله في خلقه، ونعرف أنه حكيم وأنه رحيم وأن كل شيء منه يجب ألا نفهمه خارجا عن الحكمة.
وبعد تلك الآيات الكريمة التي تحدث فيها الحق عن مريم وعيسى عليه السلام.. قال الحق سبحانه: ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله... ﴾
1484
لقد ذكر عيسى ابن مريم القضية الجامعة المانعة أولا حين قال: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [آل عمران: ٥١].
1484
وأوضح عيسى ابن مريم بما لا يقبل الجدل: «أنا معكم سواء في مربوبيتنا إلى إله واحد، وأنا لم أجيء لأعلمّكم لأني تميزت عنكم بشيء. فيما يتعلق بالعبادة نحن سواء، فالله رب لي ورب لكم، والصراط المستقيم هو عبادة الله الحق.
ونحن ساعة نسمع»
الصراط المستقيم «فإننا نتخيل على الفور الطرق الموصلة إلى الغاية، ونعرف جميعا أنه لا يوجد طريق في الحياة مصنوع لذات الطريق، إنما الطريق يصنع ليوصل إلى غاية. وساعة تسمع» صراط «فإننا نفهم على الفور الغاية التي نريد أن نصل إليها. والحق سبحانه يقول: ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣].
وما دام هناك طريق لغاية ما فلا بد أن نحدد الغاية أولا، وتحديد الغاية إنما يهدف إلى إيضاح السبيل أمام الإنسان ليسلك الطريق الموصل إلى تلك الغاية. وهكذا يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه﴾.
والعبادة هي إطاعة العابد لأمر المعبود، وهكذا يجب أن نفطن إلى أن العبادة لا تقتصر على إقامة الأركان التعبدية في الدين من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، إن هذه هي أركان الإسلام ولا يستقيم أن ينفصل الإنسان المسلم عن ربه بين أوقات الأركان التعبدية، إن الأركان التعبدية لازمة، لأنها تشحن الطاقة الإيمانية للنفس حتى تقبل على العمل الخاص بعمارة الدنيا، ويجب أن نفطن إلى أن العبادة في الدنيا هي كل حركة تؤدي إلى إسعاد الناس وعمارة الكون.
ويجب أن نعرف أن الأركان التعبدية هي تقسيم اصطلاحي وضعه العلماء في الفقه كباب العبادات وباب المعاملات، لكن علينا أن نعرف أن كل شيء يأمر به الله اسمه»
عبادة «. إذن فالعبادة منها ما يصل العبد بالمعبود ليأخذ الشحنة الإيمانية من خالقه، خالق الكون، ومنها ما يتصل بعمارة الكون. ولذلك قلنا: إنك حينما
1485
تتقبل من الله أمرا بعبادة ما، فأنت تتلقاه وأنت موصول بأسباب الله بحثا عن الرزق وغير ذلك من أمور الحياة، والمثل الواضح لذلك هو قول الحق: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: ٩].
إن هذا الأمر بالصلاة الجامعة يوم الجمعة يخرج بالإنسان من أمر البيع، وهذا الأمر بالصلاة لم يأخذ الإنسان من فراغ، إنما أخذ الإنسان من عمل، هو البيع.
. ولو نظرنا إلى دقة الأداء في البيع لوجدناها قمة الأخذ المباشر للرزق. إن كلام الله يصل في دقته إلى ما لا يصل إليه كلام بشر، فلم يقل الله مثلا «اتركوا الصنعة» «اتركوا الحرث» ولكن الحق جاء بالبيع هنا لأنه قمة النفعية العاجلة.
إن الذي يحرث ويزرع ينتظر وقتا قد يطول حتى تنضج الثمار، لكن الذي يبيع شيئا، فإنه ينال المنفعة فوراً، لقد جاء الأمر بترك هذه الثمرة العاجلة لأداء صلاة الجمعة، ويتضمن هذا الأمر ترك كل الأمور التي قد تأتي ثمراتها من بعد ذلك لأداء الصلاة.
إن البيع هو التعبير الدقيق لأن المتكلم هو الله، والحق لم يتكلم هنا مثلا عن الشراء، لأن الشاري قد يشتري وهو كاره، لكن البائع يملأه السرور وهو يبيع فقد يذهب رجل لشراء أشياء لبيته فيسمع الأذان فيسرع إلى الصلاة ويقول لأهله من بعد ذلك: لقد ذهبت إلى الشراء، لكن المؤذن قد أذن لصلاة الجمعة، ذلك أن الإنسان يجب ألا يدفع نقودا، لكن البائع يستفيد بقمة الفائدة. لذلك يخرجنا الحق من قمة «كل الأعمال ونهاية كل الأعمال وهي مبادلة السلع بأثمانها». لكن ماذا بعد انقضاء الصلاة؟ ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: ١٠].
1486
لقد أخرجنا من الصلاة إلى الحياة نبتغي من فضل الله، ولذلك يكون الإنتشار في الأرض والبحث عن الرزق عبادة.
ولننظر إلى الدقة في قوله الحق: ﴿فانتشروا فِي الأرض﴾ إن الانتشار يعني أن ينساح البشر لينتظموا في كل حركات الحياة، وبذلك تعمر كل حركة فيها. إن كل حركة في الحياة هي عبادة، وهكذا نستوعب قوله الحق على لسان عيسى ابن مريم: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر﴾ لقد حسم عيسى ابن مريم أمر العقيدة حينما قال: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ إن في ذلك تحذيرا من أن يقول أتباع عيسى أي شيء آخر عن عيسى غير أنه عبد الله خاضع لله، مأمور بالطاعة والعبادة لله. ووضع أمامهم المنهج، فقال: ﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾.
وقول الحق: ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر﴾ يدل على أن كل صاحب فكرة، وكل صاحب مهمة، وكل صاحب هدف لا بد أن يكون يقظ الأحاسيس، لأن صاحب الفكرة وخاصة الدينية يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وقد يقول قائل: لماذا يعيش الناس في الظلام ولا يتجهون إلى النور من أول الأمر؟ وتكون الإجابة: إن هناك أناسا يستفيدون من وجود جموع الناس في الظلمات، لذلك يكون بينهم أناس ظالمون وأناس مظلومون، والظالم الذي يأخذ - اغتصابا - خيرَ الآخرين ويعربد في الكون يخاف من رجل الدعوة الذي ينهاه عن الظلم، ويدعوه إلى الهداية إلى منطق العقل، ومثل هذا الظالم عندما يسمع كلمة المنطق والدعوة إلى الإيمان لا يحب أن تُنطق هذه الكلمة، إنه يكره الكلمة والقائل لها.
إن الداعية مأمور من الله بأن يكون يقظا لأنه إن اهتدى بكلماته أناس وسعدوا بها، فإنّه يغضب أناساً آخرين، ذلك أن المجتمع الفاسد يوجد به المستفيدون من الفساد، فالداعية عليه أن يعرف يقظة الحس، ويقظة الحس معناها الالتفاف إلى الأحاسيس الخفية الموجودة عند كل إنسان، ونحن نسمى الأشياء الظاهرة منها الحواس الخمس، اللمس، والرؤية، والسمع، والتذوق، والشم.
إن رجل الدعوة مأمور بأن تعمل كل حواسه حتى يعرف من الذي يجبن ويرتجف
1487
لحظة أن تأتي دعوة الخير، ومن الذي يطمئن ويحسن الراحة لدعوة الخير. إن رجل الدعوة مأمور بدقة اليقظة والإحساس ليميز بين الذي تتغير سحنته لحظة دعوة الخير، ومن الذي يستبشر ويفرح.
وعندما أعلن عيسى ابن مريم منهج الحق، وجد أنصار الظلم وأنصار البغي، وأنصار الظلمات غير معجبين بالمنهج الواضح للإيمان بالله، لذلك أحس منهم الكفر لقد كان مليئا باليقظة والانتباه. إنه يعلم أنه قد جاء برسالة من الله؛ ليخرج أناساً من مفسدة إلى مصلحة. وعندما أحس منهم الكفر، أراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر الدعوة. ﴿قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ ؟
إن الدعوة تحتاج إلى معركة، والمعركة تحتاج إلى تضحية. والتضحية تكون بالنفس والنفيس، لذلك لا بد أن يستثير ويحرك من يجد في نفسه العون على هذه المسألة. وهو لم يناد أفرادا محددين، إنما طرح الدعوة ليأتي الأنصار الذين يستشرفون في أنفسهم القدرة على حمل لواء الدعوة، ولتكون التضحية بإقبال نفس لا استجابة لداع. ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ وكلمة «أنصار» هي جمع «نصير». والنصير هو المعين لك بقوة على بُغْيَتِك.
وعندما سأل عيسى: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله؟﴾ كانت إلى في السؤال تفيد الغاية، وهي الله، أي من ينصرني نصرا تصير غايته إلى الله وحده لا إلى هؤلاء البشر؟ إنه لا يسأل عن أناس يدخلون في لواء الدعوة من أجل الغنيمة أو يدخلون من أجل الجاه أو غير ذلك إنه يسأل عن أهل العزم ليكون كل منهم متجها بطاقته إلى نصرة الله وحده.
ومثال ذلك ما دار بين رسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين رجال من المدينة في أثناء مبايعتهم له في العقبة فقد قال لهم رسول الله «:» أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون فيه نساءكم وأبناءكم «فأخذ الداء بن معرور بيده ثم قال:» نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مِما نمنع منه أزرنا «فبايعوا رسول الله على ذلك فقام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين اليهود حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعنَا» ؟ فتبسم رسول الله ثم قال: «بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم»
1488
أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم «.
أقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنكم ستمتلكون الأرض وستسودون الدنيا، أو ستنتصرون على أعدائكم؟ لا. بل قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنا منكم وأنتم مِنِّي. لماذا؟ لأنه لو قال لهم ستنتصرون على أعدائكم، فقد يدخلون المعركة، ويموت واحد منهم؛ ولا يرى النصر، لكن الأمر الذي سيراه كل المؤمنين أن رسول الله منهم وأنهم من رسول الله وما داموا كذلك فسيدخلون معه الجنة وهي الغاية الأصيلة.
وعندما سأل عيسى ابن مريم ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ فكأنه كان يسأل: من يعينني معونة غايتها الله؟ ولماذا نأخذ هذا المعنى؟ تكون الإجابة: أنا آخذ المعنى على قدر ذهني؛ لأن مرادات الله في كلماته لا تتناهى كمالاً، وقد يأتي غيري ويأخذ منها معنى آخر. ومعنى «النصير»
: هو «من ينصر بجهد وقوة». وننظر النصر في الإيمان كيف يأتي؟ إن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن النصر في الإيمان قال: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: ٧].
إذن فالنصر منا لله بأن نُطبق دينه، وهذا مراد الله، ولذلك يأتي النصر مرة من المؤمن لربه، ومرة من الرب لمربوبه، وقد يكون مراد عيسى - عليه السلام - من الذي ينصرني كي ينضم إلى الله في النصر؟
ونحن هنا أمام معسكرين معسكر الإيمان، ومعسكر الكفر. لقد سأل عيسى ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ أي أنه يسأل عن الذين بإمكانهم أن ينضموا إلى غاية هي الله ونتفهم نحن هذا المعنى على ضوء ما قاله الحق: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: ٧].
ونعرف أيضا أن هناك نصراً من المؤمن لله، وهناك نصر من الله للمؤمن. وهكذا
1489
يكون سؤال عيسى ابن مريم ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ ؟ فقد أفاد المعنيين معاً. وكانت الإجابة: ﴿قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
والحواريون مأخوذة من الحور، وهو شدة البياض وهم جماعة أشرقت في وجوههم سيماء الإيمان فكأنها مشرقة بالنور. ونور الوجه لا يقصد به البشرة البيضاء، ولكن نور الوجه في المؤمن يكون بإشراقة الإيمان في النفس، ولذلك يصف الحق المؤمنين برسالة رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود﴾
[الفتح: ٢٩].
فحتى لو كان المؤمن أسود اللون فإن له سمة على وجهه. كيف ولماذا؟ لأن الإنسان مكون من أجهزة، ومكون من ذرات، وكل جهاز في الإنسان له مطلوب محدد وساعة أن تتجه كل الأجهزة إلى ما أراده الله، فإن الذي يحدث للإنسان هو انسجام كل أجهزته، وما دامت الأجهزة منسجمة فإن النفس تكون مرتاحة، ولكن عندما تتضارب مطلوبات الأجهزة، تكون السحنة مكفهرة.
عندما قال عيسى: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ سمع الاستجابة من الحواريين، والحواريون قوم لهم إشراقات انسجام النفس مع الإيمان، أو هم قوم بيض المعاني أي أن معانيهم بيضاء ومشرقة. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سمى بعضا من صحابته حواري رسول الله وهم الذين جعلهم رسول الله معه طوال الوقت.
وحين قال الحواريون: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ الله﴾ كان ذلك يعني أن كل إنسان منهم يريد نصرة الله. فينضم إلى الله ناصرا للمنهج وهذا يتطلب أن يعرف كل منهم المنهج. ونحن نعرف مقومات النصرة لله. إنه الإيمان: وما الإيمان؟ إنه اطمئنان القلب إلى قضية ما، هذا هو الإيمان في عمومه. فلو لم أكن مؤمنا بأن الطريق الذي أسير فيه موصلٌ إلى غاية مطلوبة لي لما سرت فيه.
مثال ذلك المسافر من القاهرة إلى دمياط لو لم يعتقد صحة الطريق لما سلك هذا الطريق، وإن لم اعتقد أنني إن لم أذاكر دروسي سوف أرسب لما ذاكرت. إذن فكل أمر
1490
في الدنيا يتم بناؤه على الإيمان، لكن إذا أطلق الإيمان بالمعنى الخاص، فهو اطمئنان القلب إلى قمة القضايا، وهي الإيمان بالله، لذلك فأسلحة النصر إلى الله هي: إسلام كل جوارح الإنسان إلى الله. ولذلك قال الحواريون: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
لماذا يشهد الرسول لهم؟ لأن المفروض في الرسول أن يبلغ القوم عن الله، فيشهد عليهم كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾ [الحج: ٧٨].
ولنا أن نلحظ أن الحق أورد على لسانهم - الحواريين - الإيمان أولا، لأنه أمر غيبي عقدي في القلب، وجاء من بعد ذلك على لسان الحواريين طلب الشهادة بالإسلام؛ لأن الإسلام خضوع لمطلوبات الإيمان وأحكامه. إن قولهم: ﴿واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ هو أيضا طلب منهم يسألونه لعيسى ابن مريم أن يبلغهم كل مطلوبات الإسلام قل لنا افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا إنهم قالوا: «آمنا» وما داموا قد أعلنوا الإيمان بالله، فهم آمنوا بمن بلغهم عن الله، والمطلوب من عيسى ابن مريم أن يشهد بأنهم مسلمون، ولا تتم الشهادة إلا بعد أن يبلغهم كل الأحكام وقد بلغهم ذلك وعملوا به وقالوا من بعد ذلك: ﴿رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول... ﴾
1491
فهل يكون إعلانهم للإيمان، يعني إيمانهم بتشريعات رسالة سابقة، لا، إن الإيمان هنا مقصود به ما جاء به عيسى من عند الله؛ لأن كل رسول جاء بشيء من الله، فوراء
1491
مجيء رسول جديد أمر يريد الله إبلاغه للناس، ونحن نعلم أن العقائد لا تغيير فيها؛ وكذلك الأخبار؛ وكذلك القصص، ولكن الأحكام هي التي تتغير. فكأن إعلان الحواريين هو إعلان بالإيمان بما جاء سابقا على عيسى ابن مريم من عقائد وبما جاء به عيسى ابن مريم من أحكام وتشريعات.
وقولهم: ﴿رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ﴾ كلمة ﴿بِمَآ أَنزَلَتَ﴾ تدل على منهج منزل من أعلى إلى أدنى، ونحن حين نأخذ التشريع فنحن نأخذه من أعلى. ولذلك قلنا سابقا: إن الله حينما ينادي من آمن به ليتبع مناهج الإيمان يقول: «تعالوا» أي ارتفعوا إلى مستوى التلقي من الإله وخذوا منه المنهج ولا تظلوا في حضيض الأرض، أي لا تتبعوا أهواء بعضكم وآراء بعضكم أو تشريع بعضكم، وما دام المؤمن يريد العلو في الإيمان، فليذهب بسلوكه في الأرض إلى منهج السماء.
وقولهم: ﴿رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول﴾. إن المتبع عادة يقتنع بمن اتبعه أولا، حتى يكون الاتباع صادرا من قيم النفس لا من الإرغام قهرا أو قسرا، فنحن قد نجد إنسانا يرغم إنسانا آخر على السير معه، وهنا لا يقال عن المُرغَم: إنه «اتبع» إنما الذي يتبع، أي الذي يسير في نفس طريق صاحبه يكون ذلك بمحض إرادته ومحض اختياره. فلو سار شخص في طريق شخص آخر بالقهر أو القسر لكان ذلك الاتباع بالقالب، لا بالقلب. ولذلك فمن الممكن لمتجبر أن يمسك سوطا ويقهر مستضعفا على السير معه، وفي ذلك إخضاع لقالب المستضعف، لكنه لم يخضع قلبه، فالإكراه يخضع القالب لكنه لا يخضع القلب. ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٣ - ٤].
إن الحق يخبر رسوله أن أحدا من العباد. لا يستعصي على خالقه، وأنه سبحانه القادر على الإحياء والإماتة، ولو أراد الله أن ينزل آية تخضع أعناق كل العباد لَفَعَل، لكن الحق لا يريد أعناق الناس، ولكنه يطلب القلوب التي تأتي طواعية وبالاختيار، وأن يأتي العبد إلى الإيمان وهو قادر ألا يجيء. هذه هي العظمة
1492
الإيمانية. وقال الحواريون بعد إعلانهم الإيمان بما جاء به عيسى: ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ إنه الطلب الإيماني العالي الواعي، الفاهم. إنهم يحملون أمانة التبليغ عن الرسول، ويشهدون كما يشهد الرسل لأممهم، ويطلبون أن يكتبهم الله مع الذين يشهدون أن الرسل يبلغون رسالات الله وأنهم يحملونها من بعدهم؛ ولذلك قلنا عن أمة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: إنها الأمة التي حملها الله مهمة وصل بلاغ الرسالة المحمدية إلى أن تقوم الساعة.
لماذا؟ ها هو ذا القول الحق: ﴿وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾ [الحج: ٧٨].
ولذلك فلن يأتي أنبياء أو رسل من بعد أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد ائتمن الله أمة محمد؛ بعد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لذلك فلا نبوة من بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وبعد ذلك يخبرنا الحق: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين... ﴾
1493
إن الأشياء التي يدركها العقل هي مسميات ولها أسماء وتكون أولا بالحس؛ لأن الحس هو أول مصاحب للإنسان لإدراك الأشياء، وبعد ذلك تأتي المعاني عندما نكبر ونعرف الحقائق. إن البداية دائما تكون هي الأمور المحسة، ولذلك يقول الله عن المنهج الإيماني: إنه طريق مستقيم، أي أن نعرف الغاية والطريق الموصل إليها،
1493
وكلمة «الطريق المستقيم» من الأمور المحسة والتي يتعرف الناس عليها بالتطبيق لقواعد المنهج.
إن كلمة «مكر»، مأخوذة من الشجر، فساعة أن ترى الشجرة التي لا تلتف أغصانها على بعضها فإن الإنسان يستطيع أن يحكم أن ورقة ما، هي من فرع ما، ولكنْ هناك نوع من الأشجار تكون فروعه ملفوفة على بعضها بحيث لا يستطيع الإنسان أن يعرف أي ورقة من أي فرع هي، ومن هذا المعنى أخذنا كلمة «المكر» فالرجل الذي يلف ويدور، هو الذي يمكر، فالذي يلف على إنسان من أجل أن يستخلص منه حقيقة ما، والذي يحتال من أجل إبراز حقيقة، فإن كان ذلك بغير قصد الضرر نسميه حيلة، وإن كان بقصد الضرر فهذا هو المكر السيء. ولذلك فالحق يقول: ﴿وَمَكْرَ السيىء وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً﴾ [فاطر: ٤٣].
ومعنى ذلك أن هناك مكراً غير سيء، أي أن المكر الذي لا يقصد منه إيقاع الضرر بأحد، فإننا نسميه مكرَ خير، أما المكر الذي يقصد منه إيقاع الضرر فهو «المكر السيء». ولنا أن نسأل: ما الذي يدفع إنسانا ما إلى المكر؟ إن الذي يمكر يداري نواياه، فقد يظهر لك الحب بينما هو مبغض، ويريد أن يزين لك عملا ليمكر بك، فيحاول مثلا أن يصحبك إلى مكان بعيد غير مأهول بالناس ويريد أن يوقع بك أبلغ الضرر، وقد يكون القتل.
إذن، فمن أسس المكر التبييت، والتبييت يحتاج إلى حنكة وخبرة، لأن الذي يحاول التبييت قد يجد قبالته من يلتقط خبايا التبييت بالحدس والتخمين، وما دام المكر يحتاج إلى التبييت، فإن ذلك علامة على الضعف في البشر لأن القوي لا يمكر ولا يكيد ولكن يواجه.
1494
إن القوي لحظة أن يمسك بخصم ضعيف، فمن الممكن أن يطلقه، لأن القوي مطمئن إلى أن قوته تستطيع أن تؤذي هذا الضعيف. لكن الضعيف حين يملك قويا، فإنه يعتبر الأمر فرصة لم تتكرر، ولذلك فالشاعر يقول:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت... كذلك قدرة الضعفاء
إن الضعيف هو الذي يمكر ويبيت. والذي يمكر قد يضع في اعتباره أن خصمه أقوى منه حيلة وأرجح عقلا، وقد ينكل به كثيرا، لذلك يخفى الماكر أمر مكره أو تبييته.
فإذا ما أراد خصوم المنهج الإيماني أن يمكروا، فعلى من يمكرون؟ إن الرسول لا يكون في المعركة بمفرده ولكن معه الله. ﴿يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ٩].
فالله يعلم ما يبيت أي إنسان، ولذلك فعندما يريد الله أن يبرز شيئا ويوجده فلن يستطيع أحد أن يواجه إرادة الله وأمره، إذن فمكر الله لا قبل لأحد لمواجهته.
﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين﴾ [آل عمران: ٥٤]
وساعة تجد صفة تستبعد أن يوصف بها الله فاعلم أنما جاءت للمشاكلة فقط وليست من أسماء الله الحسنى، إن المؤمنين بإمكانهم أن يقولوا للكافرين: إنكم إن أردتم أن تبيتوا لنا، فإن الله قادر على أن يقلب المكر عليكم، أما أسماء الله وصفاته فهي توقيفية، نزل بها جبريل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن إذا وجد فعل لله لا يصح أن نشتق نحن منه وصفا ونجعله اسما لله، ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين﴾، فليس من أسماء الله مخادع، أو ماكر، إياك أن تقول ذلك، لأن أسماء الله وصفاته توقيفية، وجاء القول هنا بمكر الله كمقابل لفعل من البشر، ليدلهم على أنهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله، ولا يستطيعون أن يمكروا بالله، لأن الله إذا أراد أن يمكر بهم، فهم لا يستطيعون مواجهة ذلك. إن الحق يقول:
1495
﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين﴾.
إذن فهناك «مكر خير».. وذلك دليل على أن هناك من يصنع المكر ليؤدي إلى الخير. ولماذا تأتي هذه الآية هنا؟ لأن هناك معركة سيدخلها عيسى ابن مريم عليه السلام، وعيسى عليه السلام لم يجيء ليقاتل بالسيف ليحمي العقيدة، إنما جاء واعظا ليدل الناس على العقيدة، إن النصرة لا تكون بالسيف فقط، ولكن بالحجة. ونحن نعرف أن السماء كانت لا تطلب من أي رسول أن يحارب في سبيل العقيدة لأن السماء هي التي كانت تتولى التأديب. ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٠].
ولم يجيء قتال إلا حينما طلب بنو إسرائيل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ [البقرة: ٢٤٦].
ولكن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي التي أذن الله لها أن تحمل السيف لتؤدب به الذين يحولون دون بلوغ العقيدة الصحيحة للناس.
إن السيف لم يأت ليفرض العقيدة، إنما ليحمي الاختيار في النفس الإيمانية، فبدلا من أن يترك الناس
1496
مقهورين على اعتناق عقيدة خاطئة فالمسلمون يرفعون السيف في وجه الظالم القاهر لعباد الله. وعباد الله لهم أن يختاروا عقيدتهم.
ولذلك فعندما يقول اعداء الإسلام: «أن الإسلام انتشر بالسيف». نرد عليهم: إن الله قد بدأ الإسلام بضعف حتى يسقط هذا الاتهام، لقد كان المسلمون الأوائل ضعفاء لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فيتجه بعضهم إلى الحبشة، ويهاجرون بحثا عن الحماية، فلو كان الإسلام قد انتشر بالسيف فلنا أن نسأل: من الذي حمل أول سيف ليكره أول مؤمن؟ إن المؤمنين رضوا الإسلام دينا وهم في غاية الضعف ومنتهاه. إن الإسلام قد بدأ واستمر وما زال يحيا بقوة الإيمان.
إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء في أمة أمية، ومن قبيلة لها شوكتها، وشاء الحق ألا ينصر الله دينه بإسلام أقوياء قريش أولا، بل آمن بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الضعفاء وخاض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحلة الدعوة الإيمانية مدة ثلاثة عشر عاما، دعوة للإيمان بالله، ثم هاجر رسول الله إلى المدينة، إلى أن صار كل المسلمين وحدة إيمانية قوية، وارتفع السيف لا ليفرض العقيدة، ولكن ليحمي حرية اختيار الناس للعقيدة الصحيحة. ولو أن الإسلام انتشر بالسيف. فكيف نفسر وجود أبناء لديانات أخرى في البلاد المسلمة؟ لقد أتاح الإسلام فرصة اختيار العقيدة لكل إنسان.
إذن فكل مسلم يمثل وحدة إيمانية مستقلة، وواجب كل مسلم أن يعرف أن الإسلام قد انتشر بالأسوة الحسنة، وأنه كمؤمن بالله وبدين الله، قد اصطفاه الله ليطبق السلوك الإيماني، فقد مكن الله للإسلام في الأرض بالسلوك والقدوة.
إن كل مسلم عليه واجب ألا يترك في سلوكه ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام إلى الإسلام، ذلك أن اختلال توازن سلوك المسلم بالنسبة لمنهج الله هو ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام، ولذلك فالمفكرون في الأديان الأخرى حينما يذهبون إلى الإسلام، ويقتنعون به، إنما يقتنعون بالإسلام لأنه منهج حق. إنهم يمحصونه بالعقل، ويهتدون إليه بالفطرة الإيمانية. أما الذين يريدون الطعن في الإسلام، فهم ينظرون إلى سلوك بعض من المسلمين، فيجدون فيه من الثغرات ما يتهمون به الإسلام.
1497
إن المفكرين المنصفين يفرقون دائما بين العقيدة، ومتبع العقيدة، ولذلك فأغلب المفكرين الذين يتبعون هذا الاتجاه، يلجأون إلى الإسلام ويؤمنون به. ولكن الذين يذهبون إلى الإسلام من جهة أتباعه، فإن صادفوا تابعا للإسلام ملتزما دعاهم ذلك إلى أن يؤمنوا بالإسلام، ولذلك كانت الجمهرة الكثيرة الوفيرة في البلاد الإسلامية المعاصرة في بلاد لم يدخلها فتح إسلامي، وإنما دخلتها الأسوة الإسلامية في أفراد تابعين ملتزمين، فراق الناس ما عليه هؤلاء المسلمون من حياة ورعة، ومن تصرفات مستقيمة جميلة، ومن أسلوب تعامل سمح أمين، نزيه، نظيف، كل ذلك لفت جمهرة الناس إلى الإسلام، وجعلهم يتساءلون: ما الذي جعلكم على هذا السلوك الطيب؟ قالوا: لأننا مسلمون.
وتساءل الناس في تلك المجتمعات: وما معنى الإسلام؟ وبدأ المسلمون يشرحون لهم الإسلام.
إذن، فالذي لفت إلى الإسلام هو السلوك المنهجي الملتزم، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حين يعرض منهج الدعوة الناجحة يقول: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين﴾ [فصلت: ٣٣].
والدعوة إلى الله تكون باللسان والعمل الصالح، ليدل المؤمن على أن ما يدعو إليه غيره قد وجده مفيدا فالتزمه هو، فالعمل الصالح هو شهادة للدعوة باللسان، ولا يكتفي المؤمن بذلك، إنما يعلن ويقول: ﴿إِنَّنِي مِنَ المسلمين﴾ يقول ذلك لمن؟ يقوله لمن يرونه على السلوك السمح الرضى الطيب. إنها لفتة من ذاته إلى دينه.
إن هذا يفسر لنا كيف انتشر الإسلام بوساطة جماعة من التجار الذين كانوا يذهبون إلى كثير من البلاد، وتعاملوا مع الناس بأدب الإسلام، وبوقار الإسلام، وبورع الإسلام، فصار سلوكهم الملتزم لافتا، وعندما يسألهم القوم عن السر في سلوكهم الملتزم، ويقول الإنسان منهم: أنا لم أجيء بذلك من عندي ولكن من اتباعي لدين الله الإسلام.
ومثال ذلك في السلوك الأسوة: المسلمون الأوائل من صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد كان صحابته رضوان الله عليهم يخافون عليه من خصومه، فكانوا
1498
يتناوبون حراسته، ومعنى تناوب الحراس أنهم أرادوا أن يكونوا المصد للأخطار يتداولون ذلك فيما بينهم. وأراد الحق سبحانه أن يهاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى المدينة خفية، ونام علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه مكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد أراد علي - كرم الله وجهه - أن يكون هو المصد، فإذا جاء خطر فإنه هو الذي يصده.
لا شك أنه كان يفعل ذلك لأنه واثق أن بقاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خير للإسلام حتى ولو افتداه بروحه. هذا هو التسامى العالي من صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. كان الواحد منهم يحب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن الأسوة بالرسول واتباع دين الله إنّما يعود ذلك عليه بالخير العميم. وعندما يموت واحد منهم في سبيل المحافظة على من أرسله الله رسولا ليبلغ دعوته فقد نال الشهادة في سبيل الله.
هذا هو أبو بكر الصديق رضوان الله عليه مع رسول الله في الغار. ألم يجد الصديق شقوقا فيمزع من ثيابه ليسد الشقوق؟ ألم يضع قدمه في شق لأنه يخشى أن تجيء حشرة من الحشرات قد تؤذي حضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ لقد أراد أن يحافظ على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى ولو افتداه، وهذه شهادة بأن صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمنوا بأن بقاء الرسول خير لهم وللإيمان ولنفوسهم من بقائهم هم أنفسهم.
وهكذا أراد الله نصرة رسوله على الكفار، عندما مكروا وبيتوا أن يقتلوه قبل الهجرة، وهكذا أراد الله نصر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد الهجرة عندما واجه أعداء الإسلام في القتال، لقد مكروا، ولكن الله خير الماكرين.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول بهذا النصر من الله: لن تستطيعوا أن تقاوموا محمدا لا بالمواجة ولا بالتبييت. وها هو ذا تابع من أتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يهاجر علنا، ويقول: من أراد أن تثكله أمه، أو ترمل زوجته، أو ييتم ولدُه، فليلقني وراء هذا الوادي. بينما هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خفية.
1499
لماذا؟ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسوة للضعيف. إن القوى يستطيع حماية نفسه ويخرج إلى الهجرة مجاهرا. أما الضعيف فلا بد أن يهاجر خفية؛ لذلك فالأسوة للضعيف كانت في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد مكر أعداء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن الله مكر بهم. ﴿وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال﴾ [إبراهيم: ٤٦].
إن مكرهم رغم عنفه وشدته والذي قد يؤدي إلى زوال الجبال، هذا المكر يبور عند مواجهته لمكر الله الذي يحمى رسله وعباده الصالحين. لقد جاء مكر بني إسرائيل وأنزل فيه الله قوله الحكيم: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين﴾. لأنهم أرادوا أن يتخلصوا من سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام. فقال الحق سبحانه: ﴿إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ... ﴾
1500
لقد جاء الحق سبحانه بعد عرضه لمسألة المكر بهذا القول الحكيم، وذلك دليل على أن عيسى عليه السلام أحس من بني إسرائيل الكفر، والتبييت، ومؤامرة للقتل فطمأن الله عيسى إلى نهاية المعركة. ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة﴾. إنها أربعة مواقف، أرادها الله لعيسى ابن مريم عليه السلام.
1500
ونريد أن نقف الآن عند كلمة قول الحق: ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾. نحن غالبا ما نأخذ معنى بعض الألفاظ من الغالب الشائع، ثم تموت المعاني الأخرى في اللفظ ويروج المعنى الشائع فنفهم المقصد من اللفظ. إن كلمة «التوفي» نفهمها على أنها الموت، ولكن علينا هنا أن نرجع إلى أصل استعمال اللفظة، فإنه قد يغلب معنى على لفظ، وهذا اللفظ موضوع لمعان متعددة، فيأخذه واحد ليجعله خاصا بواحد من هذه. إن كلمة «التوفي» قد يأخذها واحدا لمعنى «الوفاة» وهو الموت. ولكن، ألم يكن ربك الذي قال: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ ؟ وهو القائل في القرآن الكريم: ﴿وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٦٠].
إذن ﴿يَتَوَفَّاكُم﴾ هنا بأي معنى؟ إنها بمعنى ينيمكم. فالنوم معنى من معاني التوفي. ألم يقل الحق في كتابه أيضا الذي قال فيه: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾. ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: ٤٢].
لقد سمى الحق النوم موتا أيضا. هذا من ناحية منطق القرآن، إن منطق القرآن الكريم بين لنا أن كلمة «التوفي» ليس معناها هو الموت فقط ولكن لها معان أخرى، إلا أنه غلب اللفظ عند المستعملين للغة على معنى فاستقل اللفظ عندهم بهذا المعنى، فإذا ما أطلق اللفظ عند هؤلاء لا ينصرف إلا لهذا المعنى، ولهؤلاء نقول: لا، لا بد أن ندقق جيدا في اللفظ ولماذا جاء؟
وقد يقول قائل: ولماذا يختار الله اللفظ هكذا؟ والإجابة هي: لأن الأشياء التي قد يقف فيها العقل لا تؤثر في الأحكام المطلوبة ويأتي فيها الله بأسلوب يحتمل هذا،
1501
ويحتمل ذلك، حتى لا يقف أحد في أمر لا يستأهل وقفة. فالذي يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رفعه الله إلى السماء ما الذي زاد عليه نت أحكام دينه؟ والذي لا يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رُفع، ما الذي نقص عليه من أحكام دينه، إن هذه القضية لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين، لكن العقل قد يقف فيها؟ فيقول قائل: كيف يصعد إلى السماء؟ ويقول آخر: لقد توفاه الله.
وليعتقدها أي إنسان كما يريد لأنها لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين.
إذن، فالأشياء التي لا تؤثر في الحكم المطلوب من الخلق يأتي بها الله بكلام يحتمل الفهم على أكثر من وجه حتى لا يترك العقل في حيرة أمام مسألة لا تضر ولا تنفع. وعرفنا الآن أن «توفى» تأتي من الوفاة بمعنى النوم من قوله سبحانه: ﴿وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٦٠].
ومن قوله سبحانه وتعالى: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: ٤٢].
إن الحق سبحانه قد سمى النوم موتا لأن النوم غيب عن حس الحياة. واللغة العربية توضح ذلك، فأنت تقول - على سبيل المثال - لمن أقرضته مبلغا من المال، ويطلب منك أن تتنازل عن بعضه لا، لا بد أن أستوفي مالي، وعندما يعطيك كل مالك، تقول له: استوفيت مالي تماما، فتوفيته، أي أنك أخذته بتمامه.
إذن، فمعنى ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ قد يكون هو أخذك الشيء تاما. أقول ذلك حتى نعرف
1502
الفرق بين الموت والقتل، كلاهما يلتقي في أنه سلب للحياة، وكلمة «سلب الحياة» قد تكون مرة بنقض البنية، كضرب واحد لآخر على جمجمته فيقتله، هذا لون من سلب الحياة، ولكن بنقض البنية. أما الموت فلا يكون بنقض البنية، إنما يأخذ الله الروح، وتبقى البنية كما هي، ولذلك فرق الله في قرآنه الحكيم بين «موت» و «قتل» وإن اتحدا معا في إزهاق الحياة. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين﴾ [آل عمران: ١٤٤].
إن الموت والقتل يؤدي كل منهما إلى انتهاء الحياة، لكن القتل ينهي الحياة بنقض البنية، ولذلك يقدر بعض البشر على البشر فيقتلون بعضهم بعضا. لكن لا أحد يستطيع أن يقول: «أنا أريد أن يموت فلان»، فالموت هو ما يجريه الله على عباده من سلب للحياة بنزع الروح. إن البشر يقدرون على البينة بالقتل، والبينة ليست هي التي تنزع الروح، ولكن الروح تحل في المادة فتحيا، وعندما ينزعها الله من المادة تموت وترم أي تصير رمة.
إذن، فالقتل إنما هو إخلال بالمواصفات الخاصة التي أرادها الله لوجود الروح في المادة، كسلامة المخ أو القلب. فإذا اختل شيء من هذه المواصفات الخاصة الأساسية فالروح تقول: «أنا لا أسكن هنا».
إن الروح إذا ما انتزعت، فلأنها لا تريد أن تنتزع.. لأي سبب ولكن البنية لا تصلح لسكنها. ونضرب المثل ولله المثل الأعلى.
إن الكهرباء التي في المنزل يتم تركيبها، وتعرف وجود الكهرباء بالمصباح الذي يصدر منه الضوء. إن المصباح لم يأت بالنور، لأن النور لا يظهر إلا في بنية بهذه المواصفات بدليل أن المصباح عندما ينكسر تظل الكهرباء موجودة، ولكن الضوء يذهب. وكذلك الروح بالنسبة للجسد. إن الروح لا توجد إلا في جسد له مواصفات خاصة. وأهم هذه المواصفات الخاصة أن تكون خلايا البنية مناسبة، فإن توقف القلب، فمن الممكن تدليكه قبل مرور سبع ثوان على التوقف، لكن إن
1503
فسدت خلايا المخ، فكل شيء ينتهي لأن المواصفات اختلت.
إذن، فالروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات خاصة، والقتل وسيلة أساسية لهدم البنية؛ وإذهاب الحياة، لكن الموت هو إزهاق الحياة بغير هدم البنية، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى. ولكن خلق الله يقدرون على البينة، لأنها مادة ولذلك يستطيعون تخريبها.
إذن، «فمتوفيك» تعني مرة تمام الشيء، «كاستيفاء المال» وتعني مرة «النوم». وحين يقول الحق: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ ماذا يعني ذلك؟ إنه سبحانه يريد أن يقول: أريدك تماما، أي أن خلقي لا يقدرون على هدم بنيتك، إني طالبك إلى تاما، لأنك في الأرض عرضة لأغيار البشر من البشر، لكني سآتي بك في مكان تكون خالصا لي وحدى، لقد أخذتك من البشر تامّاً، ومعنى «تاما»، أي أن الروح في جسدك بكل مواصفاته، فالذين يقدرون عليه من هدم المادة لم يتمكنوا منه.
إذن، فقول الحق: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ هذا القول الحكيم يأتي مستقيما مع قول الحق: ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾. وقد يقول قائل: لماذا نأخذ الوفاة بهذا المعنى؟ نقول: إن الحق بجلال قدرته كان قادرا على أن يقول: إني رافعك إليّ ثم أتوفاك بعد ذلك. ونقول أيضا: من الذي قال: إن «الواو» تقتضي الترتيب في الحدث؟ ألم يقل الحق سبحانه: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: ١٦].
هل جاء العذاب قبل النذر أو بعدها؟ إن العذاب إنما يكون من بعد النذر. إن «الواو» تفيد الجمع للحدثين فقط. ألم يقل الله في كتابه أيضا: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ [الأحزاب: ٧].
1504
إن «الواو» لا تقتضي ترتيب الأحداث، فعلى فرض أنك قد أخذت ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ أي «مميتك»، فمن الذي قال: إن «الواو» تقتضي الترتيب في الحدث؟ بمعنى أن الحق يتوفى عيسى ثم يرفعه. فإذا قال قائل: ولماذا جاءت ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ أولا؟ نرد على ذلك: لأن البعض قد يظن أن الرفع تبرئة من الموت.
ولكن عيسى سيموت قطعا، فالموت ضربة لازب. ومسألة يمر بها كل البشر. هذا الكلام من ناحية النص القرآني. فإذا ما ذهبنا إلى الحديث وجدنا أن الله فوّض رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليشرح ويبين، ألم يقل الحق: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤].
فالحديث كما رواه البخاري ومسلم: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم) ؟.
إي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين لنا أن ابن مريم سينزل مرة أخرى. ولنقف الآن وقفة عقلية لنواجه العقلانيين الذين يحاولون إشاعة التعب في الدنيا فنقول: يا عقلانيون أقبلتم في بداية عيسى أن يوجد من غير أب على غير طريقة الخلق في الإيجاد والميلاد؟ سيقولون نعم. هنا نقول: إذا كنتم قد قبلتم بداية مولده بشيء عجيب خارق للنواميس فكيف تقفون في نهاية حياته إن كانت خارقة للنواميس؟. إن الذي جعلكم تقبلون العجيبة الأولى يمهد لكم أن تقبلوا العجيبة الثانية. إن الحق سبحانه يقول:
﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة﴾ [آل عمران: ٥٥].
إنه سبحانه يبلغ عيسى إنني سأخذك تاما غير مقدور عليك من البشر ومطهرك من خبث هؤلاء الكافرين ونجاستهم، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. وكلمة «اتبع» تدل على أن هناك «مُتَّبعاً» يتلو مُتّبعا. أي أن المتبِّع هو
1505
الذي يأتي بعد، فمن الذي جاء من بعد عيسى بمنهج من السماء؟ إنه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولكن على أي منهج يكون الذين اتبعوك؟ أعلى المنهج الذي جاؤا به أم المنهج الذي بلغته أنت يا عيسى؟ إن الذي يتبعك على غير المنهج الذي قلته لن يكون تبعا لك، ولكن الذي يأتي ليصحح الوضع على المنهج الصحيح فهو الذي اتبعك. وقد جاء محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليصحح الوضع ويبلغ المنهج كما أراده الله. ﴿وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة﴾ فإن أخذنا المعنى بهذا؛ فإن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي التي اتبعت منهج الله الذي جاء به الرسل جميعا، ونزل به عيسى أيضا، وأن أمة محمد قد صححت كثيرا من القضايا التي انحرف بها القوم. نقول ليس المراد هنا من «فوق» الغلبة والنصر، ولكننا نريد من «فوق» الحجة والبرهان. وذلك إنما يحدث في حالة وجود قوم منصفين عقلاء يزنون الأمور بحججها وأدلتها وهم لن يجدوا إلا قضية الإسلام وعقيدة الإسلام.
إذن، فالفوقية هي فوقية ظهور دليل وقوة برهان. ولذلك قال الحق سبحانه: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾
[التوبة: ٣٣].
وفي موقع آخر من القرآن الكريم، يؤكد الحق ظهور الإسلام على كافة الأديان وهو الشاهد على ذلك: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً﴾ [الفتح: ٢٨].
ومعنى ذلك أن الله قد أراد للإسلام أن يظهر على كل الأديان. وقد يقول قائل: إن في العالم أديانا كثيرة، ولم يظهر عليها الإسلام، والموجودون من المسلمين في العالم الآن مليار وأضعاف ذلك من البشر على ديانات أخرى. نقول لمثل هذا القائل: إن
1506
الله أراد للإسلام أن يظهره إظهار حجة، لا من قِبَلِكم أنتم فقط ولكن من قِبلهم هم كذلك، والناس دائما حين يجتمعون ليشرعوا القوانين وليحددوا مصالح بعضهم بعضا، يلجأون أخيرا إلى الإسلام. فلننظر إلى من يشرع من جنس تشريع الأرض ولنسأل أرأيت تشريعا ارضيا ظل على حاله؟ لا، إن التشريع الأرضي يتم تعديله دائما.
لماذا لأن الذي وضع التشريع الأول لم يكن له من العلم ما يدله على مقتضيات الأمور التي تَجدّ، فلما جَدّت أمور في الحياة لم تكن في ذهن من شرع أولا، احتاج الناس إلى تعديل التشريع. ولنمسك بأي قانون بشرى معدل في أي قضية من قضايا الكون، ولننظر إلى أي اتجاه يسير؟ إنه دائما يتجه إلى الإسلام، وإن لم يلتق مع الإسلام فإنه يقرب من الإسلام. وعندما قامت في أوروبا ضجة على الطلاق في الإسلام، ما الذي حدث؟ جاء التشريع بالطلاق في إيطاليا تحت سمع وبصر الفاتيكان. هل شرعوا الطلاق لأن الإسلام أباح الطلاق؟ لا. إنما شرعوه لأن أمور الحياة أخضعتهم إلى ضرورة تشريع الطلاق، فكأنهم أقاموا الدليل بخضوعهم لأمور الحياة على أن ما جاء به الإسلام قبل التجربة كان حقا. بدليل أن أوربا لجأت إلى تشريع الطلاق لا كمسلمين ولكن لأن مصالح حياتهم لا تتأتى إلا به.
وهل هناك ظهور وغلبة أكثر من الدليل الذي يأتي من الخصم؟ تلك هي الغلبة. لقد وصلوا إلى تشريع الطلاق، رغم كراهيتهم للإسلام كدليل على صدق ما جاء به الإسلام. وفي الربا، الذي يريد البعض هنا أن يحلله، تجد أوربا تحاول التخلص منه، لأنهم توصلوا بالتجربة إلى أن المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى الصفر أي؟ أنهم عرفوا أن إلغاء الربا ضروري حتى يؤدي المال وظيفته الحقيقية في الحياة، والذي ألجأهم إلى الوصول إلى هذه الحقيقة هو أن فساد الحياة سببه الربا، فأرادوا أن يمنعوا الربا. لقد وصلوا إلى ما بدأ به الإسلام من أربعة عشر قرنا. أتريد غلبة، وتريد فوقا، وتريد ظهورا، أكثر من هذا بالنسبة لدين الله؟
إذن، ففهم الخصوم ما يصلح أمر الحياة اضطرهم إلى الأخذ بمبادئ الإسلام ونتابع بالتأمل قول الحق: ﴿وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة﴾، أي أن الحق جاعل الذين ساروا على المنهج الأصيل القادم من الله فوق الذين كفروا.
فالذين يقولون فيك يا عيسى ابن مريم ما لا يقال من ألوهية، هل
1507
اتبعوك؟ لا.. لم يتبعوك.
إن الذي يتبع عيسى هو الذي يأتي على المنهج القادم من الله. إن عيسى ابن مريم رسول إلى بني إسرائيل. وديانات السماء لا تأتي لعصبيات الجنس أو القومية أو الأوطان أو غير ذلك، ولكن المنهج هو الذي يربط الناس بعضهم ببعض، ولذلك جاء لنا الحق بقصة سيدنا نوح لنتعرف على هذه المعاني. لقد وعد الله سيدنا نوحا أن ينجي له أهله. وعندما دعا نوح عليه السلام ابنه ليركب معه: ولكن ابن نوح رفض، فقال نوح عليه السلام لله: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين﴾ [هود: ٤٥].
فهل الأهلية بالنسبة للأنبياء هي التي قالها نوح هل أهلية الدم؟ لا، لأن الحق قال: ﴿قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ [هود: ٤٦].
لماذا؟ لأن أهل النبوة هم المؤمنون بها فالذين اتبعوا المنهج الذي جاء به المسيح من عند الله ليس من يطلق على نفسه النسب للمسيح، ومن يطلق على نفسه أنه يهودي إن هذه أسماء فقط. إن المتبع الحق هو من يتبع المنهج المنزل من عند الله. إن الأنبياء ميراثهم المنهج والعلم. ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سلمان وهو فارسي لا يجتمع مع رسول الله في أرومة عربية:
«سلمان منا آل البيت».
1508
وهكذا انتسب سلمان إلى آل البيت بحكم إيمانه، وبنص حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
إذن: «وجاعل الذي اتبعوك فوق الذي كفروا إلى يوم القيامة»، أي أن الحق سبحانه قد جعل الفوقية للذين يتبعون المنهج الحق القادم من عند الله. والذي يصوب منهج عيسى هو محمد رسول الله هل تكون الفوقية هي فوقية مساحة جغرافية؟ لأن رقعة من الأرض التي تتبع الديانات الأخرى غير الإسلام أكبر مساحة من رقعة أرض المؤمنين بالإسلام؟ لا.. فالفوقية تكون فوقية دليل.
وقد يقول قائل: إن الدليل لا يلزم. نرد قائلين: كيف لا يلزم الدليل؟ ونحن نرى الذين لا يؤمنون به يدللون عليه. كيف يدللون عليه؟ إنهم يسيرون فيما يقننون من قوانين البشر إلى ما سبق إليه تقنين السماء. وما دام هنا في هذه الآية كلمة «فوق» وكلمة «كفروا» وهناك أتباع إذن، فهناك قضية وخصومة، وهناك حق، وهناك باطل، وهناك هدى، وهناك ضلال. فلا بد من الفصل في هذه القضية.
ويأتي الفصل ساعة ألا يوجد للإنسان تصرف إرادى لا على ذات نفسه ولا على سواه.
إن الظالمين يستطيعون التصرف في الأرض، لكن عندما يكون المرجع إلى الله فالله يقول: أنا ملكتكم وأنتم عصاة لي في كثير من الأسباب، لكن هناك وقت تزول فيه ملكيتكم للأسباب. إذن.. فالظالم قد يتحكم على الأرض وكذلك الباطل لأن الله أوجد لنا جميعا إرادات ومرادات اختيارية. لكن في يوم القيامة فلا إرادات إلا إرادة الله: ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦].
إذن فالحكم قادم بدون منازع.. والذي يدل على ذلك قوله الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب
1509
وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} [البقرة: ١٦٦ - ١٦٧].
إن الذي اتبع واحدا على ضلال يأتي يوم القيامة ليجد أن صاحب الضلال يتبرأ منه، فيقول المتبعون سائلين الله: يارب ارجعنا إلى الدنيا لننتقم ممن خدعونا، هذا من ناحية علاقة البشر بالبشر. أما من ناحية الجسد الواحد نفسه، فسوف نجد شهادة الجلود والألسنة والأيدي، بعد أن تسقط عنها إرادة الإنسان ويسقط تسخير الحق لهذه الجوارح والحواس لخدمة الإنسان، تقول الجوارح والحواس: لقد كانت لصاحبي إرادة ترغمني على أن أفعل ما لا أحب، لكن ها هو ذا يوم القيامة، فلا قهر ولا إرغام ولا تسخير لأن الملك كله لله.. لذلك تشهد الألسنة والجلود ولهذا يقول الحق: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
إن الحق يحكم فيما كانوا فيه يختلفون لتكون ثمرة الحكم هي ماذا؟ هل هناك تكليف بعد ذلك؟ لا.. لكن ثمرة الحكم هي الجزاء. ففي الآخرة لا عمل هنالك، والحكم فيها للجزاء، وكما قلنا: مادام هناك متبعون وكافرون، وجماعة فوق جماعة، وإلى الله مرجعهم، فلا بد لنا أن نرى ما هو الحكم الذي سوف يكون؟ ها هو ذا القول الحكيم: ﴿فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة... ﴾
1510
لماذا لم يأت الله بالحكم على المؤمنين أولا؟ لأن المؤمنين يؤمنون بذلك تماما، إنهم بإيمانهم يعرفون ذلك ويعونه. ولننتبه هنا إلى أن الحكم لا يشمل العذاب في الآخرة فقط ولكنه يشتمل على العذاب في الدنيا أيضا، فعذاب الدنيا سيكون قبل الحكم،
1510
وكأن الحق يقول لنا: لا تعتقدون أن تعذيبي إياهم في الدنيا يعفيهم من تعذيبي إياهم في الآخرة لأن التعذيب في الدنيا فقط قد يصيب من آمن بي.
أما من كفر بي، فإني أعذبه في الدنيا وأعذبه في الآخرة إنني لا أؤجل العذاب للكافرين إلى الآخرة فقط ولكن سأضم عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة.
إن الحصيلة بعد كل شيء هي أن يعذب الكافر في الدنيا وفي الآخرة. ويقول الحق عن هذا العذاب: إنه عذاب شديد؛ لأن الحدث حين يقع لا بد أن تلحظ فيه القوة التي تناسب من أحدث. ولنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى:
إن الطفل قد يكسر شيئا في حدود قوته كطفل، والشاب قد يكسر شيئا مناسبا لقوته. إذن فالحديث يجب أن نأخذه قياسا بالنسبة لفاعله؛ فإذا كان الفاعل هو الله، فهل لأحد طاقة على عذاب الله؟ لا أحد يتصور ذلك، وليس لأحد من هؤلاء من ناصر، لأن الذي يهزمه الله ويعذبه لا ناصر له، وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل: ﴿وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ... ﴾
1511
أي فما دام الذين كفروا سينالون العذاب الشديد من الله، فالذين آمنوا سينالون النعيم المقيم بإذن الله.
يقول الحق تبارك وتعالى:
﴿ذلك﴾ إشارة لما سبق من الأحداث، في شأن امرأة عمران، ومريم، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكان لكل واحد من هؤلاء قضية عجيبة يخرق فيها ناموس الكون، وكلها آيات، أي عجائب. وقد نقلت إلينا هذه العجائب من واقع ما رآه الذين عاصروا تلك الأحداث، وجاء الخبر اليقين بتلك العجائب في قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الحق الموصوف من الله بأنه ﴿الذكر الحكيم﴾ فاطمئنوا - أيها المؤمنين - إلى أن ما وصلكم عن طريق القرآن، إنما حكى واقعا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما جاء به من أخبار عن تلك الآيات هو ما يطابق الواقع الذي عاصره الناس وحكوه.
وبعد ذلك يعرض الحق لنا سبحانه قضية سيدنا عيسى عليه السلام، وهي قضية يجب أن نتنبه إليها تنبها جديدا فنعرض وجهة نظر الذين يضعونه في غير الموضع الذي أراده الله، كما نعرض وجهة نظر الذين يضعونه في الموضع الذي يريده الله، فالمسألة ليست انتصارا منا في الدنيا على فريق يقول: كذا، لأنها مسألة لها عاقبة تأتي في الآخرة ويحاسبنا عليها الحق تعالى، لذلك كان من المهم جدا أن نصفيها تصفية يتضح فيها الحق، حتى لا يظلم أحد نفسه.
لقد جاء عيسى عليه السلام على دين اليهودية، أي طرأ على دين اليهودية ونحن نعلم أن دين اليهودية قد تم تحريفه من اليهود تحريفا جعله ينحاز إلى الأمور المادية الصرفة، دون أدنى اعتبار للأمور الروحية والإيمان بالغيب، فهم ماديون، وتتمثل ماديتهم في أنهم قالوا لموسى عليه السلام ما حكاه القرآن الكريم:
1512
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٥].
إنهم لم يلتفتوا إلى أن بعضا من كمال وجلال الله غيبٌ؛ لأنه لو كان مشهودا محسا، لحدد - بضم الحاء وكسر الدال - وحُيِّزَ، وما دام قد حُدِدَ وحُيِّزَ في تصورهم فذلك يعني أنه سبحانه قد يوجد في مكان ولا يوجد في مكان آخر، والحق سبحانه منزه عن مثل ذلك لأنه موجود في كل الوجود، ولا نراه بالعين، لكن نرى آثار أعماله وجميل صنعه في كل الكون.
إذن فكون الله غيبا هو من تمام الجلال والكمال فيه.
لكن اليهود قد صوروا الأشياء كلها على أنها حسية، حتى أمور اقتيات حياتهم وهي الطعام، لقد أرادها الله لهم غيبا حتى يريحهم في التيه، فأرسل عليهم المنّ والسلوى، كرزق من الغيب الذي يأتي إليهم، لم يستنبتوه. ولم يستوردوه، ولم يعرفوا كنهه، ولم يجتهدوا في استخراجه، إنه رزق من الغيب، ومع ذلك تمردوا على هذا الرزق القادم لهم من الغيب وقالوا كما أخبر الله عنهم:
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٦١].
إنهم يريدون أن يكون طعامهم كما ألفوا، وأن يروا هذا الطعام كأمر مادي من
1513
أمور الحياة؛ لذلك تشككوا في رزق الغيب، وهو المن والسلوى، وقالوا: «من يدرينا أن المن قد لا يأتي، وأن السلوى قد لا تنزل علينا» فلم تكن لهم ثقة في رزق وُهب لهم من الغيب؛ لأنهم تناولوا كل أمورهم بمادية صرفة. وما دامت كل أمورهم مادية فهم في حاجة إلى هزة عنيفة تهز أوصال ماديتهم هذه؛ لتُخرجهم إلى معنى يؤمنون فيه بالغيب.
ونحن نعلم أن الفكر المادي لا يرى الحياة إلا أسبابا ومسببات، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع منهم ذلك الفكر المادي، لذلك جاء بعيسى عليه السلام على غير طريق الناموس الذي يأتي عليه البشر، فجعله من امرأة دون أب، حتى يزلزل قواعد المادية عند اليهود. لكن الفتنة جاءت في قومه، فقالوا ببنوته للإله، وسبحانه منزه عن أن يكون له ولد.
ولنا أن نسأل ما الشبهة التي جعلتهم يقولون بهذه البنوة؟
قالوا: إن الأمومة موجودة والذكورة ممتنعة، والشبهة إنما جاءت من أن الله نفخ فيه الروح، فالله هو الأب.
نقول لهم: لو أن الأمر كذلك لوجب أن تفتنوا في آدم أولى من أن تفتنوا في عيسى؛ لأن عيسى عليه السلام كان في خلقه أمومة، أما آدم فلا أمومة ولا أبوة، فتكون الفتنة في آدم عليه السلام أكبر، وإن قلتم: «إن الحق قال: إنه نفخ فيه من روحه»، فلكم أن تعرفوا قول الله في آدم عليه السلام: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٨ - ٢٩].
إذن فالنفخ هنا في آدم موجود، فلماذا سكتم عن هذه الحكاية منذ آدم وحتى مجيء عيسى عليه السلام، وهكذا يتم دحض تلك الحجة ونهايتها، وبعد ذلك نأتي إلى قضية أخرى، وهي توفيه أو وفاته، إلى القضيتين معا - توفيه ووفاته - حتى
1514
نُبَيِّن الرأيين معا: وهنا نتساءل: لماذا فتنتم في ذلك؟ يقولون: لقد أحيا عيسى الموتى، ونقول لهم: ألم تأخذوا تاريخ إبراهيم عليه السلام حينما قال الله له: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
[البقرة: ٢٦٠].
إذن فمجال الفتنة في إبراهيم عليه السلام كبير، وكذلك، ألم يجيء موسى عليه السلام بآية هي العصا؟ إنه لم يجيء ميتا كانت فيه حياة، إنما أجرى الله على يديه خلق الحياة فيما لم تثبت له حياة، فأصبحت العصا - وهي جماد - حية تسعى لماذا إذن لم تفتنوا في عصا موسى عليه السلام؟
وهكذا نعرف انه لا يصح أن يفتن أحد في المعجزة التي جاءت بعيسى عليه السلام، أو في إحيائه الموتى بإذن الله، وأتباع عيسى عليه السلام يتفقون معنا أن الله سبحانه وتعالى غيب، ولكنهم يختلفون معنا فيقولون: إن الله أراد أن يؤنس البشر بصورة يتجلى لهم فيها بشرا فجاء بعيسى عليه السلام ليتحقق لهم ذلك الأنس.
ونقول لهم: سنبحث هذه المسألة بدون حساسية، وبدون عصبية، بل بالعقل، ونسأل «هل خلق الله عيسى ليعطي صورة للإله؟ إن عيسى كان طفلا، ثم كبر من بعد ذلك، فأي صورة من صورة المرحلية كانت تمثل الله؟
إن كانت صورة طفل فهل هي صورة الله؟ وإن كانت صورة كهل فهل هي صورة الله؟ إن لله صورة واحدة لا نراها ولا نعرف كنهها فهو سبحانه»
ليس كمثله شيء «، فأية صورة من الصور التي تقولون: إنها صورة الله؟
وإن كان الله على كل هذه الصور فمعنى ذلك أن لله أغيارا وهو سبحانه منزه عن ذلك، ولو كان على صورة واحدة لقلنا: إنه الثبات والأمر كذلك فهو -
1515
سبحانه - الحق الذي لا يتغير إنهم يقولون: إن الله أراد أن يجعل صورته في بشر ليؤنس الناس بالإله، فتمثل في عيسى.
ولنا أن نسأل: كم استغرق وجود عيسى على الأرض؟ والإجابة: ثلاثين عاما أو يزيد قليلا. وهكذا تكون فترة معرفة الناس بالصورة الإلهية محدودة بهذه السنوات الثلاثين طبقا لتصوركم. ولا بد ان نسأل» ما عمر الخلق البشرى كله؟ «إن عمر البشرية هو ملايين السنين. فهل ترك الله خلقه السابقين الأولين بدون أن يبدي لهم صورته، ثم ترك خلقه الآخرين الذين قدموا إلى الحياة بعد وفاة عيسى - أي تمام مهمته - ورفعه، بدون أن يعطيهم صورة له؟ إن هذا تصور لإله ظالم، وسبحانه وتعالى منزه عن الشرك والظلم. فلا يعقل أن يضن بصورته فلا يبقيها إلا ثلاثين عاما؟ إن هذا القول لا يقبله عقل يثق في عدالة الله المطلقة.
ثم إنهم يقولون: إن عيسى عليه السلام قد صلب، وهم معذورون والحق سبحانه وتعالى قد عذرهم في ذلك فأورد التأريخ الحق العادل، حين يقول:
﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ [النساء: ١٥٧].
لقد جعل الله لهم عذرا في أن يقولوا: إنه قتل أو صلب؛ لأنه شبه لهم وكان من المعقول أن يلتمسوا من الإسلام حلا لهذه المشكلة، لأن الإسلام جاء ليقول: «لا، لقد شبه لكم، فما قتلوه وما صلبوه؛ لأن هذا الفعل - القتل أو الصلب - ينقض فكرتهم عن أنه إله أو ابن إله. لأن المصلوب لو كان إلها أو ابن إله، لكانت لديه القدرة التي تغلب الصالب، فكيف يعقل الإنسان أن ينقلب الإله - أو ابن الإله - مقدورا عليه من مخلوق؟ والإسلام عندما يقول: إن عيسى ابن مريم لم يصلب فقد كرمه الله. وهكذا ترى أن الإسلام قد جاء ليصفى العقائد كلها من عيوب التحريف التي قام بها المتبعون لتلك الأديان.
1516
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعرض علينا قضية جدلية حدثت في أيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى يخرج الناس - مسلمين ونصارى ويهودا - من هذه البلبلة، وأن يتم ذلك في مودة، لأنهم كلهم مؤمنون بالعبودية لمعبود واحد. فقد جاء وفد من نصارى نجران إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة، والتقوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان لهؤلاء القوم جدل مع اليهود، ولهم جدل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما كان لليهود والنصارى معا جدل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والجدل بين اليهود والنصارى مصدره أن لليهود والنصارى قولا متضاربا في بعضهم بعضا يرويه لنا الحق: ﴿وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [البقرة: ١١٣].
فاليهود يقولون:» كان إبراهيم يهوديا «والنصارى يقولون لا، كان» إبراهيم نصرانيا «وأما الجدل بين النصارى وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فسببه أنهم قد أرادوا ان يتكلموا في مسألة عيسى وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يصفى القضية تصفية نهائية حتى لا تظل معلقة تلوكها الألسنة وتجعلها مثارا للفتن. فلما اجتمع نصارى نجران تحت لواء رؤسائهم، ومن هؤلاء الرؤساء من اسمه السيد، ومنهم من يسمى العاقب صاحب المشورة، ومعهم قسيس، فقال لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ماذا تقولون في عيسى؟ قالوا: إنه ابن الله. وقال لهم الرسول: إن عيسى عليه السلام قال:» إني عبد الله «وهو عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ إن كنت قد رأيت مثل ذلك فأخبرنا به.
وهنا نزلت الآية الكريمة:
1517
﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ... ﴾
1518
لقد جاء القول الفصل بالحجة الأقوى، فإذا كان عيسى عليه السلام قد جاء بدون أب، فإن آدم عليه السلام قد جاء بدون أب، وبدون أم، وقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: تعلمون أني رسول الله وأنني نبي هذه الأمة، فقالوا: أنظرنا غدا نتكلم في هذه المسائل، ودعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإيمان فقالوا: لا.
وعندما يعرض الحق سبحانه صراع قضية حق مع قضية باطل فهو يقول: ﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤].
أي إن طرفا واحدا على الهدى، والطرف الآخر على ضلال مبين، لماذا؟ لأن القضيتين متناقضتان، ولا يمكن أن يجتمعا، ودعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن يجتمع بهم في مكان ظاهر، ويدعو الطرفان الأبناء والنساء، ويبتهل الجميع إلى الله الحق أن تُسْتَنْزلَ لعنة الله على الكاذبين، وفي هذا جاء القول الكريم: ﴿الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين... ﴾
لقد جاء الحق البيّن والقول الفصل من الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا مجال للشك أو المراء، ومن يرد أن يحتكم إلى أحدٍ فليقبل الاحتكام إلى الإله العادل الذي لن يحكم بالباطل أبدا، فهو سبحانه الحق، ويجيء هذا القول: ﴿تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين﴾. إن الطرفين مدعوان ليوجها الدعوة لأبنائهم ونسائهم، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مدعو لدعوة أبنائه ونسائه، ومن له الولاية عليهم، وبحضوره هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهم مدعون لدعوة أبنائهم ونسائهم وأنفسهم للابتهال.
وقد يسأل سائل: ولماذا تكون الدعوة للأبناء والنساء؟ والإجابة هي: أن الأبناء والنساء هم القرابة القريبة التي تهم كل إنسان، وإن لم يكن رسولا، إنهم بضعة من نفسه وأهله. فكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مأمور بأن يقول لهم: «هاتوا أحبابكم من الأبناء والنساء لأنهم أعزة الأهل وألصقهم بالقلوب وادخلوا معنا في مباهلة» «والمباهلة» : هي التضرع في الدعاء لاستنزال اللعنة على الكاذب، فالبهلة - بضم الباء - هي اللعنة، وعندما يقول الطرفان: «يارب لتنزل لعنتك على الكذاب منا» فهذا دعاء يحمل مطلق العدالة، فالإله الذي يستطيع أن ينزل اللعنة هو الإله الحق. وهو سينزل اللعنة على من يشركون به، ولو كانت اللعنة تنزل من الآلهة المتعددة فسوف تنزل اللعنة على أتباع الإله الواحد.
ولهذا كانت الدعوة إلى المباهلة والبهلة - كما قلنا - وهي ضراعة إلى القوة القاهرة التي تتصرف في الأمر لتنهى الخلاف، ثم صار المراد بالمباهلة هنا مطلق الدعاء،
1519
فنحن نقول: «نبتهل إلى الله»، أي ندعو الله.
إذن فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاءهم بالأمر المنزل من عند الله الحق بدعوة الأبناء والنساء والأنفس، لكنهم قالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنْظِرْنا إلى غد ونأتي إليك».
ثم أرسلوا في الصباح واحدا منهم ليرى ماذا فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ وهل هو مستعد لهذا الأمر حقيقة، أو هو مجرد قول منه أراد به التهديد فقط؟ ووجد رسولهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جاء ومعه الحسين والحسن وفاطمة وعلي بن أبي طالب، لذلك قالوا: «لا لن نستطيع المباهلة»، والله ما باهل قوم نبيا إلا أخذوا، وحاولوا ترضية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقالوا: «لنظل على ديننا ويظل محمد وأتباعه على دينه» لقد ظنوا ان الدعوة إلى المباهلة هي مجرد تهديد لن ينفذه الرسول، لكن صاحب اليقين الصادق جاء ومعه أهله استعدادا للمباهلة، ولن يُقبل على مثل هذا الموقف الا من عنده عميق الإيمان واليقين، أما الذي لا يملك يقيناً فلن يقبل على المباهلة بل لا بد ان يرجع عنها.
وقد رجعوا عن المباهلة، وقالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لنتفق معا ألا تغزونا أو تخيفنا على أن نرسل لك الجزية في رجب وفي صفر وهي من الخيل وغير ذلك! لقد فروا من المباهلة لمعرفتهم أنهم في شك من أمرهم، أما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان على يقين بما أنزل الله عليه وكان العرب إذا خرجوا إلى الحرب يأخذون نساءهم معهم، لذلك حتى يخجل الرجل من الفرار، وحتى لا يترك أولاده ونساءه لكيلا يذلوا من بعد موته، فإن قُتِلَ قُتلوا معه هم أيضا.
إذن إن أردنا نحن الآن أن ننهي الجدل في مسألة عيسى عليه السلام فلنسمع قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين﴾ إنه الحق القادم من الربوبية فلا تكن أيها السامع من الشاكين في هذه المسألة. ومن أراد أن يأتي بحجة مضادة للحجة القادمة من الله فلنا أن نحسمها بأن نقول: ﴿تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين﴾.
ولن يجرؤ واحد منهم على ذلك. لماذا؟ لأن السابقين عليهم قد فروا من المباهلة
1520
ولأن الله - سبحانه - يريد ان يزيد المؤمنين إيمانا واطمئنانا إلى أن ما ينزله على رسوله هو الحق قال - جل شأنه -: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق... ﴾
1521
وقوله الحق: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق﴾ يلفتنا إلى أن ما يرويه الحق لنا هو الحق المطلق، وليس مجرد حكاية أو قصة، أو مزج خيال بواقع، كما يحدث في العصر الحديث، عندما أُخذت كلمة القصة في العرف الأدبي الحديث - القادم من حضارة الغرب - إن القصة بشكلها الحديث المعروف إنما يلعب فيها الخيال دورا كبيرا، لكن لو عرفنا ان كلمة «قصة» مشتقة من قص الأثر لبحث أهل الأدب فيما يكتبون من روايات وخيالات عن كلمة أخرى غير «قصة»، فالقصص هو تتبع ما حدث بالفعل لا تبديل فيه ولا أخيلة.
وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ فإذا جاء القصص من الإله الواحد فلنطمئن إلى أنه لا يوجد إله آخر سيأتي بقصص أخرى، ولأن الله الواحد هو ﴿العزيز الحكيم﴾ أي الغالب على أمره، ومع أنه غالب على أمره فهو حكيم في تصرفه.
لكن هل اتعظ القوم الذين جادلوا؟ لا، إن الحق يقول: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين... ﴾
إن قوله ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ يدل على أن الله قد علم أزلا أنهم لن يقبلوا المباهلة، وهكذا حكموا على أنفسهم بأنهم المفسدون، فصدق الحق سبحانه في قوله: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين﴾ ومع ذلك فقد أمر الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدعوهم إلى الدين الكامل لأنهم مؤمنون بالإله، وبالسماء، وبالكتاب، لذلك يقول الحق: ﴿قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ... ﴾
إنها دعوة إلى كلمة مستوية لا التواء فيها ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله﴾ وهذا أمر لا جدال فيه، ثم ﴿وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً﴾ أي لا ندخل معه من لا يقدر على الارتفاع إلى جلال كماله، فالعقول السليمة ترفض كلمة «الشرك» ؛ لأن الشرك يكون على ماذا؟ هل الشرك على خلق الكون؟ إن كل مخلوق أشركوه في الألوهية إنما جاء من بعد أن خلق الله الكون. أو يكون الشرك على إدارة هذا الكون؟
إذا كان هذا هو السبب في الشرك فهو أتفه من أن يكون سببا لأن الحق سبحانه قادر على إدارة هذا الكون، وأنزل منهجا إذا ما اتبعه الإنسان صار الكون منسجما، إذن فأي شرك لا لزوم له. وإن كان - والعياذ بالله - له شريك وتمتع إله ما بقدرات خاصة فهذه القدرات تنقص من قدرات الإله الثاني. وهذا عجز في قدرة هؤلاء الآلهة، ولهذا يحسم الحق هذا الأمر بقوله الكريم:
1522
﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩١].
إذن فمسألة الشركاء هذه ليست مقبولة، وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾. أي ألا نأخذ من بعضنا كهنوتا وكهنة، يضع الواحد منهم الحلال لنا أو الحرام علينا، فالتحليل والتحريم إنما يأتي من الله، وليس لمخلوق أن يحلل أو يحرم. ثم يقول الحق: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ: اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي إن من لا يقبل عبادة الإله الواحد الذي لا شريك له ولا أرباب تحلل أو تحرم، إنما يريد أربابا وشركاء، وهذا معناه أن قلبه غير مستعد لتقبل قضية الإيمان؛ لأن قضية الإيمان تتميز بأن مصدرا واحدا هو الذي له مطلق القدرة، وهو مصدر الأمر في الحركة وهو الواحد الأحد، فلا تتضارب الحركات في الكون.
إن حركاتنا كلها وهي الخاضعة لمنهج الله ب «افعل» و «لا تفعل» فلو أن هناك إلها قال: «افعل» وإلها آخر قال: «لا تفعل»، لكان معنى ذلك والعياذ بالله أن هؤلاء الآله أغيار لها أهواء. والحق سبحانه يحسم هذا بقوله: ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: ٧١].
وهكذا كانت دعوة الله على لسان رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، إنها آية تحمل دعوة مستوية بلا نتوءات، فلا عبادة إلا لله، ونحن لا نأخذ «افعل» و «لا تفعل» إلا من الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا كهنوتا أو مصدرا للتحليل أو التحريم، فإن رفضوا وتولوا، فليقل المؤمنون: ﴿اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي أنه
1523
لا يوجد إلا إله واحد، ولا شركاء له، وبعضنا لا يتخذ بعضا أربابا، وتلك شهادة بأن الإسلام إنما جاء بالأمرالمستوى الذي لا عوج ولا نتوء فيه ونحن متبعون ما جاء به.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ... ﴾
1524
إن الحق يسألهم: لماذا يكون جدالكم في إبراهيم خليل الله؟ إن اليهود منكم ينسبون أنفسهم إلى موسى، والنصارى منكم ينسبون أنفسهم إلى عيسى، وإبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا كما يدعي اليهود، فاليهودية قد جاءت من بعد إبراهيم والنصارى لا يمكنهم الادعاء بأن إبراهيم كان نصرانيا، لأن النصرانية قد جاءت من بعد إبراهيم عليه السلام، فلم المحاجة إذن؟ لقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم فكيف يكون تابعا للتوراة والإنجيل؟
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ... ﴾
أي لقد جادلتم فيما بقي عندكم من التوراة وتريدون أن تأخذوا الجدل على أنه باب مفتوح، تجادلوا في كل شيء، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه الخالق الرحمن علام الغيوب.
ويوضح الحق هذا الأمر فيقول: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً... ﴾
وبذلك يتأكد أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا، لأن اليهودية جاءت من بعده. ولم يكن إبراهيم نصرانيا، لأن النصرانية جاءت من بعده، لكنه وهو خليل الرحمن ﴿كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ ونحن نفهم أن كلمة ﴿حَنِيفاً﴾ تعني الدين الصافي القادم من الله، والكلمة مأخوذة من المحسات، فالحنف هو ميل في الساقين من أسفل، أي اعوجاج في الرجلين، ثم نقل الحنف إلى كل أمر غير مستوٍ.
وهنا يتساءل الإنسان، هل كان إبراهيم عليه السلام في العوج أو في الاستقامة؟ وكيف يكون حنيفا، والحنف عوج؟ وهنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام كان على الاستقامة، ولكنه جاء على وثنية واعوجاج طاغ فالعالم كان معوجا. وجاء إبراهيم ليخرج عن هذا العوج، وما دام منحرفا عن العوج فهو مستقيم، لماذا؟ لأن الرسل لا يأتون إلا على فساد عقدي وتشريعي طاغ. والحق سبحانه وتعالى ساعة ينزل منهجه يجعل في كل نفس خلية إيمانية. والخلية الإيمانية تستيقظ مرة، فتلتزم، وتغفل مرة، فتنحرف، ثم يأتي الاستيقاظ بعد الانحراف، فيكون الانتباه، وهكذا توجد النفس اللوامة، تلك النفس التي تهمس للإنسان عند الفعل الخاطئ: أن الله لم يأمر بذلك.
1525
ويعود الإنسان إلى منهج الله تائبا ومستغفرا، فإن لم توجد النفس اللوامة صارت النفس أمارة بالسوء، وهي التي تتجه دائما إلى الانحراف، وحول النفس الواحدة توجد نفوس متعددة تحاول أن تقاوم وتقوّم المعوج، وهي نفوس من البيئة والمجتمع، فمرة يكون الاعتدال والاتجاه إلى الصواب بعد الخطأ قادما من ذات الإنسان أي من النفس اللوامة، ومرة لا توجد النفس اللوامة، بل توجد النفس الأمارة بالسوء، لكن المجتمع الذي حول هذا الإنسان لا يخلو من أن يكون فيه خلية من الخير تهديه إلى الصواب، أما إذا كانت كل الخلايا في المجتمع قد أصبحت أمارة بالسوء فمن الذي يعدلها ويصوبها؟
هنا لابد أن يأتي الله برسول جديد، لأن الإنسان يفتقد الردع من ذاتية النفس بخلاياها الإيمانية، ويفتقد الردع من المجتمع الموجود لخلوه كذلك من تلك الخلايا الطيبة، وهكذا يطم الظلام ويعم، فيرسل الله رسولا ليعيد شعلة الإيمان في النفوس. والله سبحانه وتعالى قد ضمن لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يأتي لها نبي بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولهذا فمن الضروري أن يوجد فيها الخير ويبقى، فالخير يبقى في الذات المسلمة، فإذا كانت الغفلة فالنفس اللوامة تصوب، وإن كانت هناك نفس أمارة بالسوء فهناك قوم كثيرون مطمئنون يهدون النفس الأمارة إلى الصواب.
وهكذا لن تخلو أمة محمد في أي عصر من العصور من الخير، أما الأمم الأخرى السابقة فأمرها مختلف؛ فإن الله يرسل لهم الرسل عندما تنطفئ كل شموع الخير في النفوس، ويعم ظلام الفساد فتتدخل السماء، وحين تتدخل السماء يقال: إن السماء قد تدخلت على عوج لتعدله وتقومه.
إذن فإبراهيم عليه السلام جاء حنيفا، أي مائلا عن المائل، وما دام مائلا عن المائل فهو مستقيم، فالحنيفية السمحة هي الاستقامة. وهكذا نفهم قول الحق: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾.
إن إبراهيم هو أبو الأنبياء، ولم تكن اليهودية قد حٌرفت وبدلت، وكذلك النصرانية لكان من المقبول أن يكون اليهود والنصارى على ملة إبراهيم؛ لأن الأديان لا تختلف في أصولها، ولكن قد تختلف في بعض التشريعات المناسبة للعصور،
1526
ولذلك فسيدنا إبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا باعتبار التحريف الذي حدث منهم، أي لا يكون موافقا لهم في عقيدتهم، وكذلك لا يمكن أن يكون نصرانيا للأسباب نفسها، لكنه ﴿كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ أي أنه مائل عن طريق الاعوجاج.
قد يقول قائل: ولماذا لم يقل الله: «إن إبراهيم كان مستقيما» ولماذا جاء بكلمة «حنيفا» التي تدل على العوج؟ ونقول: لو قال: «مستقيما» لظن بعض الناس أنه كان على طريقة أهل زمانه وقد كانوا في عوج وضلال ولهذا يصف الحق إبراهيم بأنه ﴿كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً﴾ وكلمة ﴿مُّسْلِماً﴾ تقتضي «مسلما إليه» وهو الله، أي أنه أسلم زمامه إلى الله، ومُسْلَماً فيه وهو الإيمان بالمنهج.
وعندما أسلم إبراهيم زمامه إلى الله فقد اسلم في كل ما ورد ب «افعل ولا تفعل» وإذا ما طبقنا هذا الاشتقاق على موكب الأنبياء والرسل فسنجد أن آدم عليه السلام كان مسلما، ونوحا عليه السلام كان مسلما، وكل الأنبياء الذين سبقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا مسلمين.
كان كل نبي ورسول من موكب الرسل يلقى زمامه في كل شيء إلى مٌسْلَم إليه؛ وهو الله، ويطبق المنهج الذي نزل إليه، وبذلك كان الإسلام وصفا لكل الأنبياء والمؤمنين بكتب سابقة، إلى أن نزل المنهج الكامل الذي اختتمت به رسالة السماء على محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ب «افعل ولا تفعل» ولم يعد هناك أمر جديد يأتي، ولن يشرع أحد إسلاما لله غير ما نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
لقد اكتملت الغاية من الإسلام، ونزل المنهج بتمامه من الله. واستقر الإسلام كعقيدة مصفاة، وصار الإسلام علما على الأمة المسلمة، أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي التي لا يُستدرك عليها لأنها أمة أسلمت لله في كل ما ورد ونزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لذلك قال الحق: ﴿إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه... ﴾
1527
ولنا أن نلحظ أن كل رسول من الرسل السابقين على سيدنا رسول الله إنما نزل لأمة محددة، فموسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل، وكذلك عيسى عليه السلام، قال تعالى: ﴿وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ﴾ أي رسولا مسلما في حدود تطبيق المنهج الذي جاء به ونزل إلى هؤلاء الرسل، فلما تغير بعض من التشريع وتمت تصفية المنهج الإيماني بالرسالة الخاتمة، وهي رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي عامة لكل البشر فقد آمن بعض من أهل تلك الأمم برسالته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، كما آمن بها من أرسل فيهم سيدنا رسول الله، واستمر موكب الإيمان بالدين الخاتم إلى أن وصل إلينا. وهكذا صارت أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي خاتمة الأمم الإسلامية؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو خاتم الأنبياء والمرسلين.
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين».
وحين يقولون: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أو نصرانيا. إنما أوردوا ذلك لأن إبراهيم عليه السلام فيه أبوة الأنبياء. وهم قد أرادوا أن يستحضروا أصل الخلية الإيمانية في محاولة لأن ينسبوها إلى أنفسهم وكأنهم تناسلوا ان المسألة الإيمانية ليست بالجنس أو الوطن أو الدم، أو أي انتماء آخر غير الانتماء لمنهج الله الواحد، ولذلك فأولى الناس بإبراهيم ليسوا من جاءوا من ذريته، بل إن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه، ونبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد اتبع إبراهيم عليه السلام، لذلك فلا علاقة لإبراهيم بمن جاء من نسله، ممن حرفوا المنهج ولم يواصلوا الإيمان، لقد حسم الله هذه القضية مع إبراهيم عندما قال سبحانه:
1528
﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤].
لقد امتحن الحق إبراهيم بكلمات هي الأوامر والنواهي، فأتمها إبراهيم عليه السلام تماما على أقصى ما يكون من الالتزام، ولم يكن مجرد إتمام يتظاهر بالشكلية، إنما كان إتماما بالشكل والمضمون معا.
والمثال على تمام الأوامر والنواهي بالشكل فقط هو رؤيتنا لمن يتلقى الأمر من الله بأن يصلى خمسة فروض، فيصلي هذه الفروض الخمسة كإجراء شكلي، لكن هناك إنسانا آخر يصلي هذه الفروض الخمسة بحقها في الكمال مضمونا وشكلا، إنه يتم الأوامر الإلهية إتمام يرضى عنه الله.
ولقد أدى إبراهيم عليه السلام الابتلاءات التي جاءت بالكلمات التكليفية من الله على أكمل وجه.
ألم يأمر الله إبراهيم عليه السلام على أن يرفع القواعد من البيت؟ أما كان يكفي إبراهيم عليه السلام لينفذ الأمر برفع بناء الكعبة إلى أقصى ما تطوله يداه؟ إنه لو فعل ذلك لكان قد أدى الأمر، لكن إبراهيم عليه السلام أراد أن يوفي الأمر بإقامة القواعد من البيت تمام الوفاء، فبنى الكعبة بما تطوله يداه، وبما تطوله الحيلة أيضا، فجاء إبراهيم عليه السلام بحجر ليقف من فوقه، ويزيد من طول جدار الكعبة مقدار الحجر، لقد أراد ان يوفي البناء بطاقته في اليدين وبحيلته الابتكارية أيضا، فلم يكن معروفا في ذلك الزمان «السقالات» وغير ذلك من الأدوات التي تساعد الإنسان على الارتفاع عن الأرض إلى أقصى ما يستطيع.
ولو أن إبراهيم عليه السلام قد رفع القواعد من البناء على مقدار ما تطوله يداه؛ لكان قد أدى تكليف الله، لكنه أراد الأداء بإمكاناته الذاتية الواقعية، وأضاف إلى ذلك حيلة من ابتكاره، لذلك جاء بالحجر الذي يقف عليه ليزيد من جدار الكعبة، وهذا ما نعرفه عندما نزور البيت الحرام ب «مقام إبراهيم» فلما أتم إبراهيم الكلمات
1529
هذا الإتمام قال الحق سبحانه لإبراهيم: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ [البقرة: ١٢٤].
إي إنك يا إبراهيم مأمون على أن تكون إماما للناس في دينهم لأنك أديت «افعل ولا تفعل» بتمام وإتقان. ولنر غيرة إبراهيم عليه السلام على منهج ربه، إنه لم يرد أن يستمر المنهج في حياته فقط، ولكنه طلب من الله أن يظل المنهج والإمامة في ذريته، فقال الحق سبحانه على لسان إبراهيم طالبا استمرار الأمانة في ذريته: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: ١٢٤].
إن سيدنا إبراهيم قد امتلأ بالغيرة على المنهج وخاف عليه حتى من بعد موته، لكن الحق سبحانه وتعالى يُعلم الخلق جميعهم من خلال إبراهيم فيقول سبحانه: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤].
أي أن المسألة ليست وراثة، لأنه سيأتي من ذريتك من يكون ظالماً لنفسه ويعدل في المنهج بما يناسب هواه، وهو بذلك لا تتوافر فيه صفات الإمامة. إن الحق يعلمنا قواعد إرث النبوة، إن تلك القواعد تقضي أن يرث الأنبياء من هو قادر على تطبيق المنهج بتمامه دون تحريف، والمثال على ذلك ما علمه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال لسلمان الفارسي: «سلمان منا آل البيت».
إن سيد الخلق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقل لسلمان الفارسي «أنت من العرب» لا. بل نسبه لآل البيت، أي نسبه إلى إرث النبوة بما يتطلبه هذا الإرث
1530
من تطبيق المنهج بتمامه، لقد علم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما علّمه الحق سبحانه لسيدنا إبراهيم عليه السلام عن إرث النبوة، فليس هذا الإرث بالدم، إنما بتطبيق المنهج نصا وروحا، كما تعلم سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مما علّمه له الحق عن نوح عليه السلام، لقد وعد الحق نوحا بأن ينجيه وأهله من الطوفان.
ويرى نوح عليه السلام ابنه مشرفا على الغرق، فيتساءل «ألم يعدني الله ان ينجي أهلي؟» فينادي نوح عليه السلام ربَّه، بما أورده القرآن الكريم حين قال: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين﴾ [هود: ٤٥] فيقول الحق ردا على طلب نوح نجاة ابنه: ﴿قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ [هود: ٤٦].
ولننظر إلى التعليل القرآني لانتفاء الأهلية عن ابن نوح عليه السلام ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ ؟ لماذا؟ ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾. إن الحق لم يقل «إنه عامل غير صالح» - الذاتية ممنوعة - لأن الفعل هو الذي يحاسب به الله؛ فالإيمان ليس نسبا، ولا انتماء لبلد ما، أو انتماء لقوم ما، إنه العمل، فمن يعمل بشرع أي رسول يكون من أهل هذا الرسول، إنَّ النسبة للأنبياء لا تأتي للذات التي تنحدر من نسب النبي، بل يكون الانتساب للأنبياء بالعمل الذي تصنعه الذات.
وفي موقع آخر يعلمنا الحق عن سيدنا إبراهيم موقفا يصور رحمة الخالق بكل خلقه من آمن منهم ومن كفر. لقد طلب إبراهيم عليه السلام سعة الرزق لأهل بيته الذين جعل إقامتهم بمكة، كما جاء في الكتاب الكريم:
1531
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٦].
فهل استجاب الحق لدعوة إبراهيم برزق الذين آمنوا فقط من أهل مكة؟ لا، بل رَزَقَ المؤمن والكافر. وعلّم إبراهيم ذلك حينما قال له: ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير﴾ [البقرة: ١٢٦].
إن الرزق المادي مكفول من الحق لكل الخلق، مؤمنهم وكافرهم، والاقتيات المادي مكفول من قبل الله لأنه هو الذي استدعى المؤمن والكافر إلى هذه الدنيا. أما رزق المنهج فإمر مختلف، إن اتباع المنهج يقتضي التسليم بما جاء به دون تجريف. وهذا المنهج لم يتبعه أحد ممن جاءوا بعد إبراهيم عليه السلام إلا القليل، فمن آمن برسالة موسى عليه السلام دون تحريف هم قلة.
ثم جاء عيسى عليه السلام برسالة تبعد بني إسرائيل عن المادية الصرفة إلى الإيمان بالغيب، لكن رسالة عيسى عليه السلام تم تحريفها أيضا، وعلى ذلك فأولى الناس بإبراهيم عليه السلام هم الذين اتبعوا المنهج الخاتم الصحيح والمصفى لكل ما سبق من رسالات، وهؤلاء هم الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه السلام، والله ولي المؤمنين جميعا من آمن منهم برسالة إبراهيم خليل الرحمن، إيمانا صحيحا كاملا، ومن آمن برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.. بعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ... ﴾
1532
إن المعنى «ودت» هو «تمنت» و «أحبت». ولماذا أحبوا أن يُضلوا المؤمنين؟ لأن المنحرف حين يرى المستقيم، يعرف أنه كمنحرف لم ينجح في أن يضبط حركته على مقتضى التكليف الإيماني ل «افعل» و «لا تفعل»، أما الملتزم المؤمن فقد استطاع أن يضبط نفسه، وساعة يرى غير الملتزم إنسانا آخر ملتزما، فإنه يحتقر نفسه ويقول بينه وبين نفسه حسدا للمؤمن: لماذا وكيف استطاع هذا الملتزم أن يقدر على نفسه؟
ويحاول المنحرف أن يأخذ الملتزم إلى جانب الانحراف، وعندما لا يستطيع جذب الملتزم إلى الانحراف فهو يسخر منه، ويهزأ به، ويحاول أن يحتال عليه ليأخذه إلى جانب الانحراف. ألم يقل الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ [المطففين: ٢٩ - ٣٣].
وهذا ما يحدث الآن عندما يرى أهل الانحراف إنسانا مؤمنا ذا استقامة، فيسخرون منه بكلمات كالتي تسمعها «خذنا على جناحك» أو يحاول النيل من إيمانه وعندما يعود أهل الانحراف إلى أهلهم فهم يروون بتندر كيف سخروا من المؤمنين، وكأنهم يحققون السعادة لهؤلاء الأهل بحكايات السخرية من الإنسان المؤمن، ويطمئن الحق المؤمنين بأن لهم يوما يضحكون فيه من هؤلاء الكفار: ﴿فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ﴾ [المطففين: ٣٤ - ٣٥].
ويسأل الحق أهل الإيمان:
1533
﴿هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: ٣٦].
أي قد عرفتم كيف اجازي بالعقاب أهل الكفر.
لذلك فأولى الناس بإبراهيم هم المؤمنين برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. ولا يفتأ بعض من أهل الكفر من محاولة جذب المؤمنين إلى الضلال. إنهم يحبون ذلك ويتمنونه، ولكن ليس كل ما يوده الإنسان يحدث، فالتمنى هو أن يطلب الإنسان أمرا مستحيلا أو عسير المنال، هم يحبون ذلك ولكن لن يصلوا إلى ما يريدون، يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
إنهم يتمنون إضلال المؤمنين، لكن هل يستطيعون الوصول إلى ذلك؟ لا: والمثال على ذلك هو ما يفعله بعض أهل الكتاب من اليهود عندما ذهبوا إلى معاذ بن جبل وإلى حذيفة الصحابيين الجليلين، وذهبوا أيضا إلى عمار الصحابي الجليل وحاولوا فتنة معاذ وحذيفة وعمار لكنهم لم يستطعوا.
وعلينا أن نعرف أن «الضلال» يأتي على معان متعددة، فقد يأتي الضلال مرة بمعنى الذهاب والفناء في الشيء، مثل قوله الحق: ﴿وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾
[السجدة: ١٠].
لقد تساءل المشركون «أبعد أن نذوب في الأرض وتتفكك عناصرنا الأولية نعود ثانية، ونُبعث من جديد؟». وقد يأتي الضلال مرة أخرى بمعنى عدم اهتداء الإنسان إلى وجه الحق، كما قال الحق وصفا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما رفض عبادة الأصنام وظل يبحث عن المنهج الحق. ﴿وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى﴾ [الضحى: ٧].
1534
أي أنك يا محمد لم يعجبك منهج قريش في عبادة الأصنام، وظللت تبحث عن المنهج الحق، إلى أن هداك الله فأنزل إليك هذا المنهج القويم. لقد كنت ضالا تبحث عن الهداية، فجاءتك النعمة الكاملة من الله.
وهناك لون آخر من الضلال، وهو أن يتعرف الإنسان على المنهج الحق، لكنه ينحرف عنه ويتجه بعيدا عن هذا المنهج مثل قول الحق: ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ﴾.
ونتساءل: كيف يحدث إضلال النفس؟ وتكون الإجابة هي: أن الضال الذي يعرف المنهج وينكره إنما يرتكب إثما، ويزداد هذا الإثم جُرماً بمحاولة الضال إضلال غيره، فهو لم يكتف بضلال ذاته بل يزداد ضلالا بمحاولته إضلال غيره. وهذا القول الكريم قد حل لنا إشكالا في فهم قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ [فاطر: ١٨].
وفي فهم قوله - جل شأنه -: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: ٢٥].
وهكذا نعرف أن الوزر في آية فاطر هو وزر الضلال في الذات والأوزار في سورة النحل هي لإضلال غيرهم فهولاء الضالون لا يكتفون بضلال أنفسهم، بل يزيدون من ضلال انفسهم اوزاراً بإضلال غيرهم فهم بذلك يزدادون ضلالا مضافا إلى أنهم يحملون أوزارهم كاملة. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
1535
إنهم لا يشعرون بالكارثة التي سوف تأتي من هذا الضلال المركب الذي سينالون عليه العقاب. ولو أنهم تعمقوا قليلا في الفهم لتوقفوا عن إضلال غيرهم، ولو بحثوا عن اليقين الحق لتوقفوا عن ضلال أنفسهم.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله... ﴾
1536
إن الحق يسألهم على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تكفرون بآيات الله العجيبة وأنتم تشهدون؟ وهنا قد يسأل سائل هل شهد أهل الكتاب الآيات العجيبة في زمن رسول الله؟
والإجابة هي: ألم يستفتح اليهود على من يقاتلونهم بمجيء نبي قادم؟ إنهم كانوا يدعون الله قائلين: إنا نسألك بحق النبي الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم فكانوا يُنصرون على أعدائهم فلما بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كفروا به بغيا وحسداً قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ [البقرة: ٨٩].
لقد كفروا من أجل السلطة الزمنية. فقد كانوا يريدون الملك والحكم. وهذا عبد الله بن سلام الذي كان يهوديّاً فأسلم قد قال عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد».
1536
إذن فمعرفتهم بنعت رسول الله ووصفه موجودة في آيات التوراة ولقد شهدوا الآيات البينات، لكنهم أنكروا الآيات طمعا في السلطة الزمنية حتى ولو تطلب ذلك أن يُحرِّف بعضهم منهج الله سبحانه وتعالي ويحوّلوا هذا التحريف إلى سلطة زمنية فاسدة كهؤلاء الذين باعوا صكوك الغفران ولذلك قال الحق عن هؤلاء الذين يحرفون منهج الله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩].
إن العذاب هو مصير هؤلاء الدين يحرفون كلام الله ومنهجه.
ويقول الحق سبحانه: ﴿ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل... ﴾
1537
ومعنى «تلبس» هو إدخال شيء في شيء، فنحن عندما نرتدي ملابسنا، إنما ندخل أجسامنا في الملابس، وبهذا يختلف منظر اللابس والملبوس.
وفي مجال الدعوة إلى الله نجد دائما الحق وهو يواجه الباطل، إنهم يخلطون الحق بالباطل فهذه الآية تتحدث عن محاولة من بعض أهل الكتاب لإلباس الحق بالباطل، وقد حدث ذلك عندما حرفوا التوراة والإنجيل وأدخلوا فيها ما لم يأت به موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام، وكانت هذه هي محاولة ضمن محاولات أخرى لإلباس الحق بالباطل، ثم جاءت أكبر المحاولات لإلباس الحق بالباطل وهو
1537
إنكارهم للبشارة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، رغم أنها وردت في كتبهم السماوية.
لقد أعلنوا الإيمان بموسى أو عيسى، ولم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد أنكروا بشارة موسى وعيسى برسالة محمد الخاتمة، وكان ذلك قمة إلباس الحق بالباطل، لأنهم أعلنوا الإيمان برسولين ثم أنكروا الإيمان بالنبي الخاتم وذلك لأنهم كانوا يعلمون أن الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله هو الدين الحق، وكانوا إذا ما خلوا إلى أنفسهم عرفوا ذلك ولكنهم يجحدونه. ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ [النمل: ١٤].
ومع ذلك فهم يحاولون العثور على حيلة ليبتعد بها الناس عن تلك الرسالة الخاتمة، تماديا منهم في الكفر، ونزل قول الحق: ﴿وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ... ﴾
1538
لقد أراد بعض من أهل الكتاب أن يشككوا المسلمين في أمر المنهج، لذلك اصطنعوا تلك الحيلة، فالمؤمنون من العرب وقريش في ذلك الزمن كانوا أميين وكانوا يعرفون أن أهل الكتاب على علم بمناهج السماء، ولم يكن القرآن كله قد نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإذا ما آمن بعض منهم برسالة رسول الله وجه النهار وكفروا به آخر النهار فهذا خلط للحق بالباطل. وفي هذا خداع للمؤمنين.
1538
ولنا أن نعرف أن ﴿وَجْهَ النهار﴾ مقصود به ساعات الصباح والظهر، فالوجه هو أول ما يواجه في أي أمر، ونحن نأخذ ذلك في أمثلة حياتنا اليومية، فنقول عن بائع الفاكهة: «لقد صنع وجها للفاكهة»، أي أنه قد وضع أنضج الثمار في واجهة العربة، وأخفى خلف الثمار الصالحة الناضجة ثمارا أخرى فاسدة. وعندما يفعل التاجر مثل هذا الفعل فمقصده الغش والخداع، لأن الإنسان إذا ما اشترى أي مقدار من هذه الفاكهة فسيجد ربع ما اشترى هو من واجه الفاكهة، والباقي من الثمار الفاسدة.
وكذلك حاول بعض من أهل الكتاب أن يخدعوا المؤمنين بإعلان الإيمان أول النهار ثم إعلان الكفر آخر النهار، والهدف بطبيعة الحال هو إشاعة الشك وزراعة البلبلة في نفوس المؤمنين بخصوص هذا الدين، فقد يقول بعض من الأميين: «لقد اختبر أهل الكتاب هذا الدين الجديد وهم أهل علم بمناهج السماء ولم يجدوه مطابقا لمناهج السماء».
أو أن الآية قد نزلت في مسألة تحويل القبلة إلى الكعبة، فإذا كان الحق سبحانه قد أمر سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فالكافرون من أهل الكتاب أرادوا نقض ذلك، وقالوا: «فلنسمع أول النهار كلام محمد ونتوجه في الصلاة إلى الكعبة ثم نصلي آخر النهار ونجعل قبلتنا بيت المقدس».
وكأن الحق قد أراد بذلك أن يكشف لنا أن كل أساليب الكفر هي من تمام قلة الفطنة وعدم القدرة على حسن التدبر، لقد أرادوا إشعال الحرب النفسية ضد المسلمين، لعل بعضا من المسلمين يتشككون في أمر الدين الجديد، لكنهم دون أن يلحظوا أنهم قد فضحوا أنفسهم، واعترفوا دون قصد منهم بأن الذين آمنوا بالقرآن هم المؤمنون حقا بينما هم قد أخذوا لأنفسهم موقف الكفر الذي هو نقيض للإيمان، قال سبحانه حكاية عنهم: ﴿آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ﴾ فهم قد ارتضوا لأنفسهم الكفر.
لقد أعلن هؤلاء المشككون التصديق بالإسلام؛ وذلك ليعرف الناس عنهم ذلك، ولكونهم أهل كتاب فهم قادرون على الحكم عليه، فإذا ما رجعوا عن
1539
الإسلام من بعد معرفته، فسيقولون: إن رجوعنا ليس بسبب الجهل أو التعصب، إنما بسبب اختبارنا لهذا الدين، فلم نجده مناسبا ولا متوافقا مع ما نزل على رسولنا. وهذا من أساليب الحرب النفسية.
والحق سبحانه وتعالى يكشف ذلك المكر والخداع للذين حاولوا أن يكتموا خداعهم ولعبتهم الماكرة، والتي أرادوا بها التشكيك والخداع. فَيُنزل على رسوله هذا القول الحق: ﴿وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله... ﴾
1540
إن الحق سبحانه يكشف للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وللمؤمنين به من الأميين لعبة إيمان بعض من أهل الكتاب بالإسلام وجه النهار والكفر به آخر النهار، لقد طالب المتآمرون بعضهم بعضا أن يظل الأمر سرا حتى لا يفقد المكر هدفه وهو بلبلة المسلمين من الأميين، ولذلك قال هؤلاء المتآمرون بعضهم لبعض: ﴿وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ أي لا تكشفوا سر هذه الخدعة إلا لمن هو على شاكلتكم، لكن الحق يكشف هذا الأمر كله بنزول هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبلاغه إياها للمؤمنين، وبذلك فسد أمر تلك البلبلة، وارتدت الحرب النفسية إلى صدور من أشعلوها، ويستمر القول الكريم في كشف خديعة هؤلاء البعض من أهل الكتاب فيقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ﴾.
1540
إن الحق سبحانه يكشف فعل الماكرين من أهل الكتاب الذين أرادوا إعلان الإيمان أول النهار كلون من «هدى النفس» لكنه من صميم الضلال والإضلال وذريعة له، ولم يكن هدى من الله؛ لأن هدى الله إنما يوصل الإنسان إلى الغاية التي يريدها الله، وهؤلاء البعض من أهل الكتاب أرادوا بالخديعة أن يجعلوا سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أتباع يؤمنون بالإسلام؛ لقد تواصي هؤلاء القوم من أهل الكتاب بأن يكتموا اتفاقهم على تمثيل الادعاء بالإيمان وجه النهار والكفر به في آخره، وألا يعلنوا ذلك إلا لأهل ديانتهم حتى لا يفقد المكر هدفه، وهو بلبلة المسلمين.
لقد أخذهم الخوف؛ لأن الناس إن أخذوا بدين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأوتوا مثلما أوتي أهل الكتاب من معرفة بالمنهج، بل إن المنهج الذي جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو المنهج الخاتم، وأهل المكر من أهل الكتاب إنما أرادوا أن يحرموا الناس من الإيمان، أو أنهم خافوا أن يدخل المسلمون معهم في المحاجة في أمر الإيمان، وكان كل ذلك من قلة الفطنة التي تصل إلى حد الغباء.
لماذا؟ لأنهم توهموا أن الله لا يعرف باطن ما كتموا وظاهر ما فعلوا، إنهم تناسوا أن الحق يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتطابق ذلك مع سابق فعلهم عندما خرجوا من مصر، وذهبوا إلى التيه أثناء عبور الصحراء، وادعوا أن الله قال لموسى عليه السلام: «علموا بيوتكم أيها الإسرائيليون، لأني سأنزل وأبطش بالبلاد كلها». وكأنهم لو لم يضعوا العلامات على البيوت فلن يعرفها الله، إنه كلام خائب للغاية بل هو منتهى الخيبة والضلال، ويبلغ الحق رسوله الكريم: ﴿قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
وما دام الفضل بيد الله فلن تستطيعوا يا أهل المكر بالمسلمين أن تأخذوا أناسا كما تودون، وبعد ذلك تريدون أن تخدعوهم؛ لأن الفضل حين يؤتيه الله لمن آمن به فلن ينزعه إلا الله.
فالحيلة لن تنزع فضل الإيمان بالله مادام قد أعطاه الله، والله واسع بمعنى أنه قادر على إعطاء الفضل لكل الخلق، ولن ينقص ذلك من فضله شيئا، والحق سبحانه عليم بمن يستحق هذا الفضل لأن قلبه مشغول بربه.
1541
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ... ﴾
1542
إن أحدا ليس له حق على الله؛ فكل لحظة من لحظات الحياة هي فضل من الله، وهو سبحانه يعطي رحمته بالإيمان بمنهجه لمن يشاء وهو صاحب الفضل المطلق.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... ﴾
إنه مطلق الإنصاف الإلهي، فإذا كان الحق قد كشف للرسول بعضا من مكر أهل الكتاب فذلك لا يعني أن هناك حملة على أهل الكتاب وكأنهم كلهم أهل سوء، لا، بل منهم مَنْ يتميز بالأمانة، وهذا القول إنما يؤكد إنصاف الإله المنصف العدل.
1542
إن الحق سبحانه يخاطب النفوس التي يعلمها، فهو يعلم أن دعوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قد نزلت رحمة للناس أجمعين، ويخاطب بها العالم كله بما فيه من أهل الكتاب، وهم الذين يعرفون الآيات والعلامات التي تدل على مجيء رسالة سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومنهم أناس قد جعلوا دعوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بؤرة شعورهم ليدرسوها ويؤمنوا بها. ولو أن الله قد جعل الحملة على كل أهل الكتاب، لقال الذين كفروا في الإيمان برسول الله: «كنا نفكر في أن نؤمن، ونحن نريد أن ننفذ تعاليم الله لنا لكن محمدا يشن حملة على كل أهل الكتاب ونحن منهم».
فساعة يقول الله إن بعضا من أهل الكتاب يتميزون بالأمانة فإن من تراوده فكرة الإسلام يقولون: إن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يتكلم إلا عن نور من ربه، لكن لو عمم القرآن الحكم على الكل، لتساءل الذين ينشغلون برغبة الإيمان بما جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لماذا يعم الحكم الجميع ونحن نسير في الطريق إلى الإيمان؟».
ولهذا يضع الحق القول الفصل في أن منهم أناساً يتجهون إلى الإيمان: ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣].
وفي هذا ما يطمئن الذي شغلوا أنفسهم بدراسة هذا الدين والتفكير في أن يؤمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
لو كان القرآن قد نزل بلعنتهم جميعا لقال الذين يفكرون منهم في الإيمان «نحن لسنا كذلك ولا نستحق اللعنة، فلماذا يأتي محمد بلعنتنا؟».
لذلك نرى القول بأن ﴿وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ العدل المطلق في الإنصاف:
وقد قال بعض المفسرين: إن القرآن يقصد هنا من ﴿أَهْلِ الكتاب﴾ النصارى؛
1543
لأن منهم أصحاب ضمير حي، ونحن نعرف أن المقصود بأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وفي هذا التفسير إنصاف للنصارى فصفة الخير لهم لا ينكرها الله، بل يشيعها في قرآنه الذي يُتلى إلى يوم الدين، وذلك ليصدق أيضا أهل الكتاب أيَّ أمر سيء تنزل فيه آيات من القرآن، لأن القرآن منصف مطلق الإنصاف. فما دام قد قال خصلة الخير فيهم فلا بد أن يكون صادقا عندما يقول الأمور السيئة التي اتصفوا بها.
وعندما يقول الحق سبحانه: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك» فالقنطار هنا للمبالغة في القدر الكبير من المال، وكلمة الأمانة حينما نستعرضها في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ نجد أنها مرة تتعدى بالباء، كمثل هذه الآية ﴿مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ ومرة تتعدى ب «على» :﴿قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ [يوسف: ١١] وقوله الحق ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ [يوسف: ٦٤].
إن مادة الأمانة تأتي متعدية مرة بالباء، ومرة متعدية ب «على».
وكل حرف من هذين الحرفين له حكمة، فالمتكلم هو الله.
إن الأمانة هي شيء يأتمن فيه مؤتمِن على مؤتمَن ولا حجة لصاحب الشيء المؤتَمَن عليه إلا ذمة المؤتمَن فإن كانت العلاقة بينهما محكومة بإيصال أو عقد، أو شهود فهذه ليست أمانة إنما الأمانة هي ما يعطيها انسان لاخر فيما بينهما، وبعد ذلك فالمؤتمن بعد ذلك إما أن يُقِرّبها وإمّا لا يقِرّبها.
وقلنا سابقا: إن على المؤمن الحق أن يحتاط للأمانة، لأن هناك وقتاً تتحمل فيه الأمانة، وهناك وقت آخر تؤدي فيه الأمانة إن طلبها صاحبها.
ومثال تحمل الأمانة كأن يعرض عليك إنسان مبلغا من المال، ويقول: «احفظ
1544
هذا المبلغ أمانة عندك» فتقول له: نعم سأفعل. وتأخذ المبلغ، إن هذا الفعل يسمى «التحمل»، وعندما يأتي صاحب المال ليطلبه فهذا اسمه «الأداء» والكل يضمنون أنفسهم وقت التحمل، وقد تكون النية هكذا بالفعل، ولكن المؤمن الحق لا يأمن ظروف الأغيار، فمن المتحمل أنه عندما يأتي صاحب المال ليطلبه من المؤتمَن يجد المؤمن نفسه وقد انشغل بالأغيار، فقد تكون ظروف الحياة قد داهمته مما دفعه ليتصرف في الأمانة أو أن تكون نفسه قد تحركت، وقالت له: وماذا يحدث لو تصرفت في الأمانة؟ إن المؤمن الحق لا يضمن نفسه وقت الأداء، وإن ضمن نفسه وقت التحمل.
إذن يجب أن نلحظ في الأمانة ملحوظتين هما «الأداء» و «التحمل». والذي يأخذون الأمانة وفي نيتهم أن يؤدوها ضمنوا أنفسهم وقت التحمل، لكنهم لا يضمنون أنفسهم وقت الأداء لذلك فالمؤمن المحتاط يقول لنفسه: ولماذا أعرض نفسي لذلك، فقد يأتي وقت الأداء فلا أستطيع ردّها لصاحبها.
لذلك يقول لصاحب الأمانة: أرجوك ابتعد عني فأنا لن أحمل هذه الأمانة.
إنه خائف من وقت الأداء وذلك ما حدث في أمانة التكليف والاختيار والتي قال عنها الحق سبحانه: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ [الأحزاب: ٧٢].
إن السماء والأرض والجبال طلبوا ألا يكون لهم اختيار وأن يظلوا مقهورين؛ لأنهم لا يضمنون لحظة الأداء، أما الإنسان فلأنه ظلوم جهول فقد قال: «لا، إنني عاقل وسأرتب الأمور» فالإنسان ظلوم لنفسه، وجهول لأنه لم يعرف ماذا يفعل وقت الأداء.
لذلك نرى هنا القول الحق: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ ونجد الأمانة متعدية بالباء، فمعنى الباء - في اللغة - الإلصاق، أي التصق القنطار
1545
بأمانته، فأصبح هناك ارتباط وامتزاج، وإياك ساعة الأداء أن تفصل الأمانة عن القنطار، فساعة يغريك قنطار الذهب ببريقه فعليك أن تلصق الأمانة بالقنطار، وإياك أن يغريك قنطار فتترك أمانتك لأنك إن نظرت إلى القنطار دون أن تنظر إلى الأمانة فهذه هي الخيبة.
أما استعمال «على» مع الأمانة، ف «على» في اللغة تأتي للاستعلاء والتمكن، أي اجعل الأمانة مستعلية على القنطار، وبذلك تصير أمانتك فوق القنطار، فساعة تحدثك نفسك بأن تأخذ القنطار لأنه يدير لك حركة حياتك، ولأنه يخرجك إلى دنيا عريضة مغرية فتذكر عز الأمانة، ولهذا نجد الفقهاء قد قالوا بقطع يد السارق في ربع دينار، وجعلوا دية قطع يد إنسان لم يسرق خمسمائة دينار وتساؤل البعض قائلا:
يد بخمس مئين عسجد وديت مابالها قطعت في ربع دينار
فقال فقيه ردا على ذلك المعترض:
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري
إذن قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ هذا القول جاء بالباء ليلصق الأمانة بما اؤتمن عليه ولا يفصل بينهما أبدا لأنه لو فصل الأمانة وعِزَّها عن القنطار ربما سولت له نفسه أن يأخذ القنطار ويترك الأمانة.
وكذلك عندما تأتي الأمانة متعدية بعلى، تكون الأمانة فوق الشيء المؤتمن عليه، فالأمانة يجب أن تكون مستعلية على الشيء مهما غلت قيمته، ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ أي أن تكون دائم السؤال عن دينارك الذي ائتمنت عليه ذلك الإنسان، وأن تلح في طلب دينارك.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ﴾ وقد قام بعض من بني إسرائيل على عهد رسول الله، يخديعة الأميين من العرب المؤمنين
1546
فأنكروا حقوقهم. والمقصود بالأميين هنا المؤمنون الذين لم يكونوا من أهل الكتاب، أو هم المنسوبون إلى الأم كما قال الحق: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨].
أو أن يكون المقصود «بالأميين» أهل مكة، فقد كانوا يسمونهم كذلك لأنهم منسوبون إلى أم القرى «مكة المكرمة».
من أين جاء أهل الكتاب إذن بهذا الأسلوب المزدوج في معاملة الناس؟ ومن الذي وضع هذا المنهج الذي يقضي بخديعة المؤمنين الأميين؟ وهل الفضائل ومنازل الخلق تختلف في المعاملة من إنسان إلى آخر؟ وهل يقضي الخلق القويم أن يأخذ إنسان الأمانة وينكرها إذا كانت لرجل أمي؟ ويرد الأمانة ويعترف بها إن كانت ليهودي؟ هل يصح أن يقرض إنسان أمواله بالربا لغير اليهود، ويقرض اليهود دون ربا؟ إذن تكون هذه المعاملات مجحفة، هنا فضيلة، وهناك لا فضيلة، لا، إن القضية يجب أن تكون مستوية ومكتملة في كل وقت وكل زمان ولكل إنسان، ولا ينبغي أن تتنوع.
من أين إذن جاءوا بهذا القول وهم أهل كتاب؟ إن هذا ضد منهج الكتاب الذي أنزله الله عليهم بل هو من التحريف والتحوير لقد خدعوا أنفسهم وألصقوا بالتشريع ما ليس فيه، فالكتاب السماوي الذي نزل عليهم ليس به تصنيف البشر صنفين: صنف هم أهل الكتاب ولهم معاملة خاصة، وصنف هم الأميون ولهم معاملة أخرى، وكان عليهم ان يتعلموا من عدالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في معاملتهم.
لقد أرخ لهم رسول الله بالنص المنزل عليه من الله التأريخ الصادق والعادل، في هذا القول الكريم الذي نتناوله بالخواطر إنما يسجل تاريخ اليهودية مع الإسلام. وهذا التأريخ لم يصدر فيه الله حكما واحدا يشملهم جميعا، بل أنصف أصحاب الحق منهم، وإن كانوا على دين اليهودية، وبذلك استقر في أذهان المنصفين منهم أن
1547
الإسلام قد جاء بكل الحق، فلو كان الإسلام قد أصدر حكما واحدا ضد كل اليهود سواء من وقف منهم ضد دعوة رسول الله أو المنصف منهم الذي تراوده فكرة الإيمان بالإسلام، لو كان مثل ذلك الحكم العام الشامل قد صدر لقال المنصفون من اليهود: نحن نفكر في أن نؤمن بالإسلام فكيف يهاجمنا الإسلام هذه المهاجمة؟ لكن الإسلام جاء لينصف فيعطي كل ذي حق حقه.
وهؤلاء هم الذين يؤرخ الله لهم بالقول: ﴿مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ وتلك شهادة على صدق اليقين من هؤلاء، أما الذين طغت عليهم المادة فهؤلاء هم الذين جاء فيهم القول الحكيم: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ وهذا هو التأريخ الصادق لمن طغت عليهم المادة فلا يرد الإنسان منهم ما عليه إلا بعد الملاحقة والمطاردة، وهكذا يبلغنا القرآن التاريخ بصدق.
والعلة في أن الذي يؤتمن على قنطار ويؤديه هو إنسان ملتزم أمامه إله موصوف باسم الحق، ولا يريد الله من عباده إلا أن يواجهوا حركة حياتهم بالحق.
وأكرر هنا مرة أخرى، إن كلمة «الأمانة» ترد في القرآن الكريم مرة وهي متعدية ب «على»، ومرة أخرى وهي متعدية بالباء، لأن الباء تأتي في اللغة لإلصاق شيء بشيء آخر، فكأنك إذا اؤتمنت أيها المسلم فلا بد أن تلتصق بالأمانة حتى تؤديها، وكذلك جاءت الأمانة متعدية ب «على»، أي أنك أيها المؤمن إذا اؤتمنت فعليك أن تستعلي على الشيء الذي اؤتمنت عليه.
فإذا ما اؤتمنت على مائة جنيه مثلا فلا تنظر إلى ما يعود عليك من نفع إذا ما تصرفت في هذا المبلغ، بل يجب أن تستعلي على تلك المنفعة. فإياك أن تغش نفسك أيها المؤمن بفائدة ونفاسة الشيء الذي تختلسه من الأمانة، بل قارن هذا الشيء بالأمانة فستجد أن كفة الأمانة هي الراجحة.
والذين استباحوا خيانة الأمانة من أهل الكتاب، إنما عميت بصيرتهم عن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نال الشهرة بالأمانة سواء قبل الرسالة أو بعدها. وعميت أبصارهم، إن الدين الحق لا يفرق في أداء الأمانة بين صنف من البشر، وصنف آخر؛ فالدين الحق يضم تشريعا من إله خلق الجميع وهكذا نجد أن تشريعهم بالتفرقة في أداء الأمانة هو تشريع من عند أنفسهم، وليس من الرب المتولي شئون خلقه جميعا، ويدحض الحق القضية التي حكموا بوساطتها أن يعاملوا الأميين
1548
معاملة تختلف عن معاملتهم لأهل الكتاب، فقال سبحانه: ﴿ويَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
يعلمون ماذا؟ يعلمون ان قولهم كذب، فهم يعرفون الحكم الصحيح وينحرفون عنه، وياليتهم قالوا: إن ذلك الحكم من عند أنفسهم، لكنهم ينسبون ذلك إلى تعاليم دينهم، وتعاليم الدين - كما قلنا - مأخوذة من الله، وهم بذلك - والعياذ بالله - يفترون على الله كذبا بأنه خلق خلقا ثم صنفهم صنفين: صنفاً تؤدى الأمانة له، وصنفاً لا تؤدى الأمانة له، وهكذا كذبوا على الله وعلموا أنهم كاذبون، وهذا هو الافتراء. وهم أيضا يعلمون العقوبة التي تلحق من يكذب على الله ورغم ذلك كذبوا.
لقد حذف الحق في هذه الآية المفعول به فلم يقل: «يعملون كذا». الحق حين يحذف «المفعول» فهو يريد أن يعمم الفهم ويريد أن يعمم الحركة، إنه سبحانه يريد أن يبلغنا بأن هؤلاء يعلمون أن قولهم هذا كذب، ويعلمون عقوبة ذلك الكذب.. وساعة تأتي قضية منفية ثم يأتي بعدها كلمة «بلى» فإنها تنقض القضية التي سبقتها ومعنى ذلك أنها تُثْبِت ضدها. لقد قالوا:
«ليس علينا في الأميين سبيل» وهذه قضية منفية ب «ليس»، والحق يقول في الآية التالية: ﴿بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾
1549
إن قول الحق في بداية هذه الآية ﴿بلى﴾ إنما جاء لينقض القضية السابقة التي ادعاها أهل الكتاب، وكأن الحق يقول: أيْ عليكم في الأميين سبيل؛ لأن المشرع هو الله، والناس بالنسبة له سبحانه سواء.
وبعد ذلك يأتي قول الحق بقضية عامة:
1549
﴿مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ٧٦]
ما العهد هنا؟ وأي عهد؟
إنه العهد الإيماني الذي ارتضيناه لأنفسنا بأننا آمنا بالله وساعة تؤمن بالإله فمعنى إيمانك به هو حيثية قبولك لكل حكم يصدر منه سبحانه، وأن تلتزم بما يطلبه منك. وإن لم تلتزم بما يطلبه منك كان إيمانك بلا قيمة؛ لأن فائدة الإيمان هو الالتزام. ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى حينما يريد تشريع حكم لمن آمن به ينادي أولا يأيها الذين آمنوا كتب عليكم كذا، إن الحق سبحانه لا ينادي في التكليف كل الناس، إنما ينادي من آمن وكأن سبحانه يقول: «يا من آمن بي إلها، اسمع مني الحكم الذي أريده منك. أنا لا أطلب ممن لم يؤمن بي حكما، إنما أطلب ممن آمن».
وهنا يقول الحق: ﴿مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ وقد يفهم البعض هذا القول بأن من أوفى بعهده الإيماني واتقى الله في أن يجعل كل حركاته مطابقة ل «افعل ولا تفعل» فإن الله يحبه. هذا هو المعنى الذي قد يُفهم للوهلة الأولى، لكن الله لم يقل ذلك، إن «الحب» لا يرجع إلى الذات بل يرجع إلى العمل، لقد قال الحق: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾.
إن الإنسان قد يخطئ ويقول: «لقد أحبني الله، وسأفعل من بعد ذلك ما يحلو لي» ونحن نذكر صاحب هذا القول بأن الله يحب العمل الصالح الذي يؤديه العبد بنية خالصة لله وليس للذات أي قيمة، لذلك قال: ﴿مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾.
إن الذي أوفى بعهده واتقى سيحب الله فيه التقوى، وإياك أن تفهم أن الحب من الله للعبد سيصبح حبا ذاتيا، لكنه حب لوجود الوصف فيه، فاحرص على أن يكون الوصف لك دائما، لتظل في محبوبية الله.
ولذلك نقول: إن الحق سبحانه وتعالى أوضح لنا أن الذات تتناسل من ذات، والذوات عند الله متناسلة من أصل واحد. فالجنس ليس له قيمة، إنما القيمة للعمل الصالح.
1550
وقد ضربنا المثل قديما، وقلنا: إن الحق سبحانه وتعالى حينما وعد نوحا عليه السلام بأن ينجيه من الغرق هو وأهله، ثم فوجئ نوح بأن ابنه من المغرقين، قال سبحانه حكاية عما حدث: ﴿قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين﴾
[هود: ٤٣].
ماذا فعل نوح عليه السلام؟ لقد نادى ربه طالبا نجاة ابنه: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين﴾ [هود: ٤٥] ويعلمنا الله من خلال رده على نوح، أن أهل الأنبياء ليسوا من جاءوا من نسلهم، إنما أهل الأنبياء هم من جاءوا على منهجهم، لذلك قال الحق لنوح عن ابنه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود: ٤٦].
لماذا يكون ابن نوح ليس من أهل نوح؟ ذلك لأن أهل النبوة هم الذين يتبعون منهج النبوة، ولذلك لم يقل الحق لنوح عن ابنه: «إنه عامل غير صالح» لكن الحق سبحانه قال عن ابن نوح: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾.. لقد نسب الحق الأمر إلى العمل.
إذن فالحكمة هي أن الله سبحانه وتعالى في أسلوبه القرآني يوضح لنا أن الله لا يحب شخصا لذاته، إنما لعمله وصفاته فلم يقل: «من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحبه»، لأن «الهاء» هنا ترجع إلى الذات، إن في ذلك إيضاحاً كامل البيان بأن الله يحب عمل العبد لا ذات العبد، فإن حرص العبد على محبوبية الله فذلك يتطلب من العبد أن يظل متبعا لمنهج الله، وبعد ذلك يقول الحق:
1551
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة... ﴾
1552
وساعة نسمع كلمة «شراء وبيع» فلا بد أن نتوقف عندها؛ لنفهم معناها بدقة. ونحن في الريف نرى المقايضات أو المبادلات في الرزق الذي له نفع مباشر، كأن يبادل طرف طرفا آخر، قمحا بقماش، فهذه سلعة يتم مبادلتها بسلعة أخرى، وعلى ذلك فليس هناك شارٍ وبائع، لأن كل من الطرفين قد اشترى وباع. وهنا نسأل: متى يصبح الأمر إذن شراء وبيعا؟
إن الشراء والبيع يحدث عندما نستبدل رزقا مباشرا برزق غير مباشر، ومثال ذلك عندما يشتري الإنسان رغيف خبز بخمسة قروش، إن هذا هو الشراء والبيع، لأن الخمسة قروش هي رزق غير مباشر النفعية؛ لأن النقود لا تشبعك ولا ترويك من عطشك ولا تسترك. والرغيف هو رزق مباشر النفعية لأنه يشبعك ويدفع عنك الجوع وعندما يحب الإنسان أن يشتري شيئا فإن الذي يدفعه في الشراء يسمى ثمنا.
إذن فكيف يشتري الثمن؟
إن الحق يوضح لنا أن الأثمان لا تكون مشتراة أبدا، إنها مُشترى بها، ولذلك تكون أول خيبة في صفقة الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا، إنهم اشتروا الثمن، بينما الثمن لا يُشترى، فالذي يشتري هو السلعة. ويا ليت الثمن الذي اشتروه ثمن له قيمة، لكنه ثمن قليل، ومن هنا جاء تحريم الربا لأن المرابي يعطي الشخص مائة، ويريد أن يسترده مائة وعشرة، ويكون المرابي في هذه المسألة قد جعل النقود سلعة، وهكذا تكون الصفقة خائبة من بدايتها.
إذن فأول خيبة في نفوس الناس الذين يستبدلون الهدى ويأخذون بدلا منه الضلالة، إنهم خاسرون.
1552
﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦].
والحق سبحانه يقول هنا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾. ونعرف أن «الباء» دائما تدخل على المتروك، أي أنهم تركوا عهد الله والأيمان التي حلفوا بها على التصديق بالرسول، وعلى نصرته إذا جاءهم، أنهم اشتروا ذلك بثمن قليل، كيف يحدث ذلك؟ لهذه المسألة واقعة حال، وإن كان المراد عموم الموضوع لا خصوص السبب، فلا يقولن أحد: إن هذه الآية نزلت في الأمر الفلاني فلا شأن لي بها، لا فكل من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا تنطبق عليه هذه الآية.
وواقعة الحال التي نزلت فيها الآية هي أن جماعة في عهد جدب ومجاعة دخلت على كعب بن الأشرف اليهودي يطلبون منه الميرة - أي الطعام والكسوة - فقال لهم: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله؟ قالوا نعم، قال: إنني هممت أن أطعمكم وأن أكسوكم ولكن الله حرمكم خيرا كثيرا وتساءلوا: لماذا حرمنا الله خير الكثير؟ وجاءتهم الإجابة لقد أعلنتم الإيمان بمحمد فلما وجدوا أنفسهم في هذا الموقف، قالوا لكعب بن الأشرف: دعنا فترة لأنه ربما غلبتنا شبهة، فلنراجع فيها أنفسنا.
وعندما مرت الفترة، فضلوا الطعام والكسوة على الإيمان، وقالوا لكعب بن الأشرف: لقد قرأنا في كتبنا الموجودة لدينا خطأ، ومحمد ليس رسولا. فأعطاهم كعب القوت والكسوة. وهؤلاء هم الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وهو الطعام والكسوة. وكل من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا، فهو يطمس حكما من أحكام الله من أجل أن يتظاهر أمام الناس أنه عصري، أو أنه مساير لروح الزمان، أو يزين لأولياء الأمر فعلا من الأفعال لا يرضى عنه الله.
إذن فالذي يفعل مثل ذلك إنما يشتري بآيات الله ثمنا قليلا، وكل من يجعل آية من آيات الله عرضة للبيع من أجل أن يأخذ عنها ثمنا قليلا، وكل من يجعل آية من آيات الله عرضة للبيع من أجل أن يأخذ عنها ثمنا يُعتبر داخلا في هذا النص ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾.
والمقصود هنا بعهد الله، إما أن يكون عهد الفطرة أو العهد الذي أخذه الله على أهل الكتاب بأنهم إن أدركوا بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا بد أن يعلنوا الإيمان به هو العهد الذي جاء به القول الحق: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ
1553
مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: ٨١].
إذن فعندما جاءت صفة تكذيبهم لما أعلنوه من إيمان سابق مقابل الميرة والكسوة، وكان ذلك خيبة كبرى فهم قد اشتروا الثمن، والثمن مع ذلك قليل، ولذلك يقول عنهم الحق:
﴿أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٧٧]
وكلمة ﴿أولئك﴾ تدل على أن الصلة وهي ﴿يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ تُلِحق بهم كل من يتصف بهذه الصفات وتجعل له المصير نفسه. فهذه الآية وإن نزلت في هؤلاء الأشخاص الذين جرت منهم حادثة شراء الطعام والكسوة مقابل النكوص عن الإيمان برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنها تشمل كل متصف بهذه الصفة وكل من كان على هذا اللون في أي عصر، وفي أي دين من الأديان، ويصفهم الحق سبحانه ب ﴿أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ﴾.
وكلمة ﴿خَلاَقَ﴾ وكلمة «خُلق» وكلمة «خليقة» وكلمة «خلق» كلها تدور حول معنى يكاد يكون متقاربا، فالخلق - بضم الخاء واللام - أن توجد صفة في الإنسان تغلب عليه حتى تصير ملكة. فيقال: «فلان عنده خلق الصدق» أو «فلان خلقه الكرم» ومعناه: أن فلانا الأول صار الصدق عنده ملكة ولا يتعب نفسه في أن يكون صادقا بل صار الصدق أمرا طبيعيا فيه، وكذلك وصف فلان الثاني بالكرم أي أن الكرم صار ملكة وسجية عنده.
وهذه الملكة في الأمور المعنوية تساوي الآلية في الأمور الحسية؛ لأننا نعرف أن كل فعل من الأفعال يحتاج إلى دربة ليكون الإنسان متميزا في أدائه، وعلى سبيل المثال، العامل الذي ينسج على آلة يحتاج إلى أن يتدرب على تحريك مكوك الخيط، وأن يتعلم كيف يحرك المكوك بين خيوط النسيج، وبعد ذلك يختلف الخيطان معا لتمسك
1554
بهما حركة المكوك الثانية في ارتدادها، وبذلك يتم النسيج، وحين يتدرب إنسان على هذا العمل فهو يحتاج إلى وقت طويل، ليصل إلى كفاءة الحركة.
في بداية التدريب يكون الأمر صعبا، ويستطيع النساج بعد أن يتقن التدريب أن يجلس أمام آلة النسيج ويداه تحرك المكوك بآلية. لقد صارت المسألة بالنسبة إلى النساج المتدرب آلية.
وسبق أن ضربت المثل بالإنسان الذي يتعلم قيادة السيارة، فالمدرب يعلمه كيف يدير المفتاح، وكيف ينتظر لتسخين المحرك، وكيف يفك مكبح السيارة، ثم كيف يحرك عصا التحكم في اندفاع السيارة، وكيف يوازن بين الضغط على بدال الوقود والضغط على بدال التحكم الفاصل، وكيف يوازن بين سير السيارة بتخفيض السرعة بلمسات خفيفة لبدال المكبح.
وقد يخطئ الإنسان في بداية التعلم ويرتبك، ولكنه بعد تمام التدريب فإنه يعمل بآلية وبدون تفكير، إنه عمل آلي لا يحتاج إلى تفكير، وضربت في السابق مثالا بالصبي الذي يتعلم حياكة الملابس، إنه يأخذ وقتا ليضع الخيط في سم الإبرة، وتقع منه الأخطاء في قياس المسافات المختلفة بين الغرز، لكنه من بعد ذلك يتدرب على فعل هذه الأعمال التي كانت صعبة، ويؤديها بآلية، والعمل الآلي في الأمور المحسة، يقابل الملكة في الأمور المعنوية، فيقال: «إن الصدق عند فلان ملكة» إي أنه إنسان لا يرهُقه أن يكون صادقا.
ونحن أثناء تعليم أبنائنا للنحو - مثلا - نقول لهم: «إن حكم الفاعل الرفع والمفعول به منصوب» وعندما ينطق الابن عبارة ما، فإنه يحاول تطبيق القاعدة أثناء القراءة، وقد ينساها، أو يتلجلج، وعندما يتذكرها فإنه ينطق الكلمات برسمها الصوتي الصحيح، وبعد أن يتم التدريب على القاعدة ويقرأ الابن، فإن أخطاءه تتلاشى، وبذلك يصير النحو ملكة عنده.
وكذلك الخلق، إن الخلق صفة ترسخ في النفس، فتصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة، فيقال: «الصدق له خلق»، و «الكرم له خلق»، و «الشجاعة له خلق» إنها الصفات التي ترسخ في النفس فتصدر عنها الأفعال في يسر وسهولة. والحق سبحانه يقول: ﴿أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة﴾ وقد فسر البعض حرمان أولئك من الخلق بأن هذا الصنف من الناس لا نصيب لهم من الخلق، لأن الخلق
1555
صفة راسخة في الإنسان، والحق يحدد الزمن بأنه ﴿فِي الآخرة﴾.
والآخرة هي الوقت الذي لا يمكن التدارك فيه، فالآخرة هي يوم التقييم الصحيح والنهائي.
إن الإنسان قد لا يكون له نصيب السلوك القويم فيعدل سلوكه حتى يكتسب هذا السلوك القويم في الدنيا لكن الإنسان لا يستطيع في الآخرة أن يجد مجالا للاستدراك، وهذه هي الخيبة القوية.
فالإنسان في الدنيا، قد يقوم بعمل ما ولا يكون له نصيب من أجره أو قد لا نرى نحن الجزاء والنصيب الذي يعطيه له الله ولكن الله يعوضه في الآخرة عن هذا العمل الذي لم يكن له نصيب منه في الدنيا أما من لا خلاق له في الآخرة فكيف يتم التعويض؟ إنّ ذلك أمر مستحيل؟
ويضيف الحق ﴿ولاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وقد يقول قائل: ألم يقل القرآن الكريم في موقع آخر، إن الله يقول للكافرين: ﴿قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨].
فلماذا يقول الحق لهم مرة: ﴿اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾، ومرة أخرى يقول الحق: ﴿لاَ يُكَلِّمُهُمُ الله﴾ ؟. ونجيب على مثل هذا القول: إن الحق لا يكلمهم كلاما ينفعهم، أو أنه سبحانه يكلمهم بواسطة ملائكته، ولكن كيف لا ينظر إليهم الله؟
وساعة نجد أمرا يوجد في الناس وله نظير منسوب لله سبحانه وتعالى ويقوله سبحانه عن نفسه، فلا بد أن نأخذ هذا الأمر في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
إننا في مجالنا البشرى نقول: «فلان لا ينظر إلى فلان» أي أنه لا يوجه عيونه إليه، ويحول حدقتيه عنه، لكن لا يمكن قياس ذلك على الله، لأن الله منزه عن التشبيه ففي الوضع البشرى نجد إنسانا يحب صديقا له فيقبل عليه بالوجه والنظر فيقال: «فتى هو قيد العين» أي أنه شاب عندما تنظر إليه العين فهو يقيد العين
1556
فلا تذهب عنه إلى مكان آخر؛ ففي هذا الشاب محاسن تجعل العين لا تذهب بعيدا عنه. وهكذا نأخذ إقبال العين بالنظر على المنظور أو على المرئي كسمة للاهتمام به، وهذا صحيح في الوضع البشرى.
لكن إذا ما جاء ذلك بالنسبة لله، هنا نأخذ المسألة في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. وهكذا نفهم عدم نظر الله إلى ﴿الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ بأن الله يهملهم، ولا يهتم بهم «لا ينالهم الله برحمته»، فالحق سبحانه منزه عن كل تشبيه، وهكذا الأمر في عدم نظر الحق إليهم، نأخذ الأمر أيضا في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ إن ولي الأمر من البشر عندما يرغب في عقاب أحد رعاياه، لا ينظر إليه ويهمله، فما بالنا بإهمال الحق سبحانه وتعالى؟! إنه إبعاد لهم عن رحمة الله ورضوانه.
ويضيف الحق سبحانه ﴿وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ والتزكية تأتي بمعنى التطهير، أو بمعنى الثناء أو النماء والزيادة فنقول: «فلان زكى فلانا» أي أثنى عليه ويقال أيضا: «فلان زكى فلانا» أي طهره، ومن هذا تكون «الزكاة» التي هي تطهير ونماء.
وعندما يخبرنا الحق سبحانه أنه لا يكلم ذلك الصنف من البشر ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم من أوزارهم، فهذا مقدمة لما أعده لهم بقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فلا بد أن نأخذ قوة الحدث بفاعل الحدث.
وفي حياتنا العادية عندما يقال: «صفع الطفل فلانا الرجل» نفهم بطبيعة الحال أن صفعة الطفل تختلف في قوتها عن صفعة الشاب، وكذلك صفعة الشاب تختلف عن صفعة بطل في الملاكمة. إذن فالحدث يختلف باختلاف فاعله قوة وضعفا على المفعول به الذي هو مناط الحدث، فإذا كان فاعل العذاب هو الله فلا بد أن يكون عذابا
1557
أليما؛ ولا حدود لألمه، أنجانا الله وإياكم منه. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ... ﴾
1558
أي أنهم يلوون ألسنتهم بالكلام الصادر من الله ليحرفوه عن معانيه، أو يَلْوُون ألسنتهم عندما يريدون التعبير عن المعاني. و «اللي» هو الفتل، فنحن عندما نفتل حبلا، ونحاول أن نجدل بين فرعين اثنين من الخيوط، ثم نفتلهم معا لنصنع حبلا، والهدف من الفتل هو أن نضع قوة من شعيرات الخيوط، فهذه الشعيرات لها قوة محدودة، وعندما نفتل هذه الخيوط فإننا نزيد من قوة الخيوط بجدلها معا.
إذن فالفتل المراد به الوصول إلى قوة، وهكذا نرى أنهم يلوون ألسنتهم بكلام يدعون أنه من المنهج المنزل من عند الله، وهذا الكلام ليس من المنهج ولم ينزل من عند الله إنّهم يفعلون ذلك لتقوية مركزهم والتنقيص من مكانة الإسلام والطعن في الرسول كما قالوا من قبل: «راعنا»، لذلك قال الحق مخاطبا المؤمنين: ﴿يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا واسمعوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٠٤].
إن الحق يوضح لنا ألا نعطي لهم فرصة لتحريف كلام الله، فهو سبحانه القائل:
1558
﴿مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: ٤٦].
لقد فضحهم - الحق سبحانه - لنا، وهم يحرفون الكلام عن موضعه، فقد قال الحق هذا القول بمعنى: أن الذي تسمعه لا يضرك لقد سجل الله عليهم أنهم قالوا سمعنا وعصينا كما قاموا بتحريف الكلمة وقالوا: «اسمع غير مسمع» أي «لا سمعت أبدا»، تماما كما أخذوا من قبل قول الله: ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ [الأعراف: ١٦١].
وحرفوا هذا القول: «وَقُولُواْ حِنطَّةٌ»، وهم قد فعلوا ذلك حتى نحسب هذا التحريف من الكتاب، وما هو من الكتاب، أي أنهم يفتلون بعضا من المعاني المستنبطة من الكلمات حتى يوهموا المؤمنين بأن هذه المعاني غير المرادة وغير الصحيحة هي معان مرادة لله، وصحيحة المعنى، إنهم يدعون على المنهج المنزل من السماء ما ليس فيه، ولذلك قال سبحانه: ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ إنهم عندما يلوون ألسنتهم بالكتاب يحرفونه رغبة في التلبيس والتدليس عليكم لتظنوا أنه من الكتاب المنزل من عند الله على رسولهم، إنهم لو فعلوا ذلك فحسب لجاز أن يتوبوا ويرجعوا إلى ربهم ويندموا على ما فعلوا.
أما قولهم بعد ذلك: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ﴾ فهو دليل على أنهم أحدثوا في الكتاب شيئا وأصروا عليه فجاءوا بقولهم: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ﴾ لينفوا عن أنفسهم شبهة أن يُدعى عليهم أنهم حرفوا الكتاب، ولو لم يكونوا قد حرفوا الكتاب أكانت تخطر ببالهم، هذه؟ إن أمرهم جاء من باب (يكاد المريب أن يقول خذوني) إنهم بهذا القول يحتالون على إخفاء أمر حدث منهم.
إن الحق - سبحانه - يؤكد أن الخيانة تلاحقهم فيقول: (وما هو من عند الله)، فهذه الآية الكريمة تفضحهم وتكشف تحريفهم لكتاب الله، يقول سبحانه: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
1559
إنهم يعرفون أن ما يقولونه هو الكذب، والكذب كما عرفنا هو أن تكون النسبة الكلامية غير مطابقة للواقع، فالنسب في الأحداث تأتي على ثلاث حالات:
نسبة واقعة.
نسبة يفكر فيها وهي نسبة ذهنية.
نسبة ينطق بها.
فعندما نعرف إنسانا اسمه محمد، وهو مجتهد بالفعل فهذه نسبة واقعة وإذا خطر ببالك أن تخبر صديقا لك باجتهاد محمد فهذا الخاطر نسبة ذهنية.
وساعة تنطق بهذا الخبر لصديق لك صارت النسبة كلامية. والصدق هو أن تكون النسبة الكلامية لها واقع متسق معها كأن يقول: «محمد مجتهد» ويكون هناك بالفعل من اسمه محمد وهو مجتهد بالفعل، وبهذا تكون أنت الناطق بخبر اجتهاد محمدٍ إنسانا صادقا، أما إن لم يكن هناك من اسمه محمد ومجتهد فالنسبة الكلامية لا تتفق مع النسبة الواقعية، لذلك يصير الخبر كاذبا. والعلماء يفرقون بين الصدق والكذب بهذا المعيار. فالصدق: هو مطابقة الكلام للواقع، والكذب: هو عدم مطابقة الكلام للواقع.
وحاول بعض من الذين يحبون التشكيك أن يقفوا عند سورة المنافقين التي يقول فيها الحق: ﴿إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١].
لقد قال المنافقون: نشهد إنك لرسول الله، وسيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو رسول من عند الله بالفعل، والحق سبحانه يقول: ﴿والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ فهل علمهم كعلم الله؟ لا، لأن الله سبحانه قال: ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾، فكيف يصفهم الحق بأنهم كاذبون مع أنهم شهدوا بما شهد هو به؟
إن الحق لا يكذبهم في أن محمدا رسول الله فهذه قضية صادقة، ولكنه سبحانه قد كذبهم في قضية قالوها وهي: ﴿نَشْهَدُ﴾، لأن قولهم: ﴿نَشْهَدُ﴾ تعني أن يوافق الكلام المنطوق ما يعتقدونه في قلوبهم، وقولهم: ﴿نَشْهَدُ﴾ هو قول لا يتفق مع ما في
1560
قلوبهم، ولذلك صاروا كذابين، فلسان كل منهم لا يوافق ما في قلبه.
إذن فقوله الحق: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، أي إنهم يقولون كلاما ليس له نسبة خارجية تطابقه، وهم يعلمون أنه كذب، حتى لا نقول: إنهم نطقوا بذلك غفلة، لقد تعمدوا الكذب، وهم يعرفون أنهم يقولون الكذب. والدقة تقتضي أننا يجب أن نفرق بين صدق الخبر، وصدق المخبر. صدق الخبر هو أن يطابق الواقع لكن أحيانا يكون المخبر صادقا، والخبر في ذاته كذب، كأن يقول واحد: «إن فلانا يستذكر طول الليل» لأنه شاهد حجرة فلان مضاءة وأنه يفتح كتابا، بينما يكون هذا الفلان غارقا في قراءة رواية ما، إن المخبر الصادق في هذه الحالة، لكن الخبر كاذب.
ولكن في مجال الآية نحن نجد أنهم كاذبون عن عمد، فللسان هو وسيلة بيان ما في النفس:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة... ﴾
1561
ونحن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين ينزل منهجه، فهو ينزله في كتاب، ويقتضي ذلك أن يصطفي سبحانه إنسانا للرسالة، أي أن الرسول يجيء بمنهج ويطبقه على نفسه ويبلغه للناس، الرسول مصطفى من الله ويختلف في مهمته عن
1561
النبي، فالنبي أيضا مصطفى ليطبق المنهج، وهكذا حتى لا يسمع الناس المنهج ككلام فقط ولكن يرونه تطبيقا أيضا، إذن فالرسول واسطة تبليغية ونموذج سلوكي والنبي ليس واسطة تبليغية، بل هو نموذج سلوكي فقط.
إن الحق سبحانه وتعالى يرسل النبي ويرسل الرسول، ولذلك تأتي الآية: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: ٥٢].
هكذا نعرف أن الرسول والنبي كليهما مرسل من عند الله، الرسول مرسل للبلاغ والأسوة، والنبي مرسل للأسوة فقط، لأن هناك بعضا من الأزمنة يكون المنهج موجودا، ولكن حمل النفس على المنهج، هو المفتقد، ومثال ذلك عصرنا الحاضر ان المنهج موجود وكلنا نعلم ما الحلال وما الحرام، لكن خيبة هذا الزمان تأتي من ناحية عدم حمل أنفسنا على المنهج، لذلك فنحن نحتاج إلى أسوة سلوكية، هكذا عرفنا الكتاب، والنبوة، فما هو الحكم إذن؟
لقد جاء الحق بكلمة: «الحكم» هنا ليدلنا على أنه ليس من الضروري أن توجد الحكمة الإيمانية في الرسول أو النبي فقط، بل قد تكون الحكمة من نصيب إنسان من الرعية الإيمانية، وتكون القضية الإيمانية ناضجة في ذهنه، فيقولها لأن الحكمة تقتضي هذا. ألم يذكر الله لنا وصية لقمان لابنه؟ إن وصية لقمان لابنه هي المنهج الديني، وعلى ذلك فمن الممكن أن يأتي إنسان دون رسالة أو نبوة، ولكن المنهج الإيماني ينقدح في ذهنه، فيعظ به ويطبقه، وهذا إيذان من الله على أن المنهج يمكن لأي عقل حين يستقبله أن يقتنع به، فيعمل به ويبلغه.
ولابد لنا أن نؤكد أن من يهبه الله الحكمة في الدعوة لمنهج الله وتطبيق هذا المنهج، لن يضيف للمنهج شيئا، وبحكم صدقة مع الله فهو لن يدعي أنه مبعوث من الله للناس، إنه يكتفي بالدعوة لله وبأن، يكون أسوة حسنة.
1562
لكن لماذا جاءت هذه الآية؟ لقد جاءت هذه الآية بعد جدال نصارى نجران مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة، وأثناء الجدال انضمت إليهم جماعة من اليهود، وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
- بماذا تؤمن وتأمر؟ فأبلغهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأوامر المنهج ونواهيه، وأصول العبادة، ولأن تلك الجماعة كانوا من أهل الكتاب، بعضهم من نصارى نجران والبعض الآخر من يهود المدينة، وكانوا يزيفون أوامر تعبدية ليست من عند الله، ويريدون من الناس طاعة هذه الأوامر، لذلك لم يفطنوا إلى الفارق بين منهج رسول الله صلى الله عليه السلام وأوامره، وبين ما زيفوه هم من أوامر، فمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلب من الناس عبادة الله على ضوء المنهج الذي أنزله عليه الحق سبحانه، أما هم فيطلبون طاعة الناس في أوامر من تزييفهم.
والطاعة - كما نعلم - هي لله وحده في أصول كل الأديان، فإذا ما جاء إنسان بأمر ليس من الله، وطلب من الناس أن يطيعوه فيه، فهذا معناه أن ذلك الإنسان يطلب أن يعبده الناس - والعياذ بالله - لأن طاعة البشر في غير أوامر الله هي شرك بالله. ولهذا تشابهت المواقف على هذا البعض من أهل الكتاب، وظنوا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلب منهم طاعتهم لأوامره هو، كما كانوا يطلبون من الناس بعد تحريفهم للمنهج وقالوا: أتريد أن نعبدك ونتخذك إلها؟
إنهم لم يفطنوا إلى الفارق بين الرسول الأمين على منهج الله، وبين رؤسائهم الذين خالفوا الأحكام واستبدلوها بغيرها، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يطلب منهم طاعته لذاته هو، ولكنه قد طلب منهم الطاعة للمنهج الذي جاء به رسولا وقدوة، واستنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قالوه.
وأنزل الله سبحانه قوله الحق:
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله﴾ [آل عمران: ٧٩]
1563
لقد بلغت بهم الغفلة والشرك أنهم ظنوا أن الله لم يختر رسولا أمينا على المنهج، وظنوا بالله ظن السوء، أو أنهم ظنوا أن الرسول سيحرف المنهج كما حرفوه هم، فتحولوا عن عبادة الله إلى عبادة من بعثه الله رسولا، ولذلك جاء القول الفصل ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله﴾.
وقد ينصرف المعنى أيضا إلى أن بعض صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يُجِلُّونَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكل مؤمن مطلوب منه أن يُجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن يعظمه، ومن فرط حب بعض الصحابة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا له: أنسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، ألا نسجد لك؟
إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يطلب السجود له من أحد، والحق سبحانه هو الذي كلف عباده المؤمنين بتكريم رسوله فقال: ﴿لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣].
إن المطلوب هو التعظيم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لا أن نعطي له أشياء لا تكون إلا لله.
إن تعظيم المسلمين لرسول الله وتكريمهم له هو أن نجعل دعاءه مختلفاً عن دعاء بعضنا بعضا.
والحق في هذه الآية التي نحن في مجال الخواطر عنها وحولها يقول: ﴿ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾.
إن «لكن» هنا للاستدراك، مثلما قلنا من قبل: إن «بلى» تنقض القضية التي قبلها وتثبت بعدها قضية مخالفة لها. إن الحق يستدرك هنا لنفهم أنه ليس لأحد من البشر أن يقول: «كونوا عبادا لي» بعد أن أعطاه الله الكتاب والحكم والنبوة، والقضية التي يتم الاستدراك من أجلها وإثباتها هي: ﴿كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ﴾ وكلمة «رباني»، وكلمة «رب»، وكلمة «ربيون»، وكلمة «ربان»، وكل المادة المكونة من «الراء» و «الباء» تدل على التربية، والولاية، وتعهد المربي، وتدور
1564
حول هذا المعنى. أليس ربان السفينة هو الذي يقود السفينة؟
وكلمة «الرب» توضح المتولي للتربية، إذن فما معنى كلمة «رباني» ؟ إنك إذا أردت أن تنسب إلى «رب» تقول: «ربّي». وإذا أردنا المبالغة في النسبة نضيف لها ألفا ونونا فنقول: «رباني» ولذلك نجد في التعبيرات المعاصرة من يريدون أن ينسبوا أمرا إلى العلم فيقولون: «علماني» وفي ذلك مبالغة في النسبة إلى العلم. والفرق بين «علمي» و «علماني» هو أن العلماني يزعم لنفسه أن كل أموره تمشي على العلم المادي، ونجد أن في «علماني» ألفاً ونوناً زائدين لتأكيد النسبة إلى العلم.
وقد يقول قائل: ولماذا نؤكد الانتساب إلى الله بكلمة «رباني» ؟
ونقول: لأن الكلمة مأخوذة من كلمة رب، وتؤدي إلى معان: منها أن كل ما عنده من حصيلة البلاغ لا بد أن يكون صادرا ومنسوبا إلى الرب؛ لأنه لم يأت بشيء من عنده، أي أنه يأخذ من الله ولا يأخذ من أحد آخر أبدا؛ فهو رباني الأخذ.
وتؤدي الكلمة إلى معنى آخر: إنه حين يقول ويتكلم فإنه يكون متصفا بخلق أنزله رب يربي الناس ليبلغوا الغاية المقصودة منهم، فهو عندما ينقل ما عنده للناس يكون مربيا، ويدبر الأمر للفلاح والصلاح.
يقول الحق - سبحانه -: ﴿بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ إن العلم هو تلقي النص المنهجي. والدراسة هي البحث الفكري في النص المنهجي.
لذلك فنحن في الريف نقول: «ندرس القمح» أي أننا ندرس القمح بألة حادة كالنورج حتى تنفصل حبوب القمح عن «التبن» وتكون نتيجة الدراس هي استخلاص النافع.
. إذن ففيه فرق بين «تعلمون» أي تعلمون غيركم المنهج الصادر من الله وذلك خاضع لتلقي النص، وبين ﴿مَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أي تعملون أفكاركم في الفهم عن النص.
إن الفهم عن النص يحتاج إلى مدارسة، ومعنى المدارسة هو أخذ وعطاء، ويقال: «دارسه» أي أن واحد قد قام بتبادل التدريس مع آخر، ويقال أيضا: «تدارسنا» أي أنني قلت ما عندي وأنت قد قلت ما عندك حتى يمكن أن نستخلص
1565
ونستنبط الحكم الذي يوجد في النص.
وقد يأتي النص محكما، وقد يأتي النص محتملا لأكثر من معنى.
وما دمت قد تعلمت، فلا بد أنك تعرفت على النصوص المحكمة للمنهج. وما دمت قد تدارست، فلا بد أنك قد فهمت من النصوص المحتملة حين مدارستك لأهل الذكر حُسْن استقبال المنهج؛ لذلك يجب أن تكون ربانياً في الأمرين معاً.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً... ﴾
1566
أي أنه ليس لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يأمر الناس باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا. إن من اختصه الله بعلم وكتاب ونبوة لا يمكن أن يقول: اعبدوني، أو اعبدوا الملائكة، أو اعبدوا الأنبياء.
لماذا؟ ويجيب الحق سبحانه: ﴿أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾.
وقوله الحق: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ تدل على أن واقعة القضية وما معها كانت مع مسلمين كأنهم عندما جاءوا وأرادوا أن يعظموا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: نحن نريد أن نعطيك وضعا في التعظيم أكثر من أي كائن ونريد أن نسجد لك. فَوَضَّح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم: أنَّ السجود لا يكون إلا لله.
إذن فالذين تكلموا مسلمون، وكانوا يقصدون بذلك تعظيم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولو أن رسول الله وافقهم لكان معنى ذلك انه يخرجهم عن الإسلام، ولا يتصور أن يصدر هذا عن سيدنا وحبيبنا المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو عن غيره من الأنبياء عليهم السلام.
1566
والحق سبحانه يقول: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ... ﴾
1567
هذه الآية تجعلنا نتعرف على أسباب بعث الحق لموكب الرسل، ونعرف جميعا أن المنهج الأول قد أنزله الله على آدم عليه السلام متضمنا كل ما يجعل الحياة تسير إلى انسجام، وبلّغ آدم أولاده هذا المنهج كما علمهم أمور حياتهم، تماما مثلما يعلم الأب أبناءه ما يخدم أمور حياتهم، كما يقوم بإبلاغ الأبناء مطلوب الدين، والأبناء يبلغون أبناءهم، وتتواصل البلاغ من جيل إلى جيل كي يكتمل وصول المنهج للذرية، ولكن مع توالي الزمن وتتابعه نجد أن بعضا من مطلوبات الدين يتم نسيانها.
إن هذا دليل على أن الناس قد غفلت عن المنهج وهكذا نرى أن الغفلة عن المنهج إنما تتم على مراحل، فبعد بلاغ المنهج نجد إنسانا يغفل عن جزئية، ما في هذا المنهج، وتنبهه نفسه وتلومه على تركه لتلك الجزئية، ونسمي صاحب هذا الموقف بصاحب النفس اللوامة، إنه يفعل السيئة لكن نفسه تعود إلى اليقظة لمنهج الله؛ لأنه يتمتع بوجود خلية المناعة الإيمانية فيه، وهناك إنسان آخر يستمرئ المخالفة للمنهج وتلح عليه نفسه بالمخالفة؛ إنه صاحب النفس الأمارة بالسوء، وتتوالى به دواعي ارتكاب السيئات، ومثل هذا الإنسان يحتاج إلى غيره من خارج نفسه ليلفته إلى الخير.
1567
وماذا يحدث للمجتمع إذا صار افراده جميعا من أصحاب النفس الأمارة بالسوء؟
إن معنى ذلك أن الفساد قد طم، ولا بد من مجيء رسول؛ لأن مراد الحق سبحانه هو هداية الناس، لقد خلقنا سبحانه وله كل صفات الكمال، ولم يضف خلقُنا إليه شيئا. وها هو ذا الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار، إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لم أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا إلى صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياه، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
إن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا وهو من الأزل إلى الأبد، في تمام صفات الكمال ولم يضف له هذا الخلق شيئا، وهو القائل: ﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين﴾ [الذاريات: ٥٧ - ٥٨].
1568
إذن فعندما يشرع لنا الحق أمراً فهو يشرعه لمصلحتنا؛ إنه سبحانه يحب لصنعته أن تظفر بسعادة المنهج؛ لذلك أنزل المنهج «بافعل ولا تفعل» وحين يقول المنهج: «افعل ولا تفعل» فهو لا يريد أن يحدد حرية الحركة على الخلق الا بما يحميهم، إنه يحدد حرية هنا ليحمي حرية هناك. فعندما حرم الله السرقة - على سبيل المثال - فالأمر شامل لكل البشر، فلا يسرق أحدا أحدا.
إن الحق سبحانه حين منع يدَ واحدٍ من السرقة، كان في ذلك منع لملايين الأيدي أن تسرق من هذا الإنسان، وفي هذا حماية لكل البشر من أن يسرق إنسان إنسانا آخر، وفي ذلك كسب لكل إنسان، فساعة تأخذ التشريع لا تأخذه على أنه مطلوب منك، ولكن خذه على أنه مطلوب منك ومطلوب لك أيضا.
ومثال آخر، لقد حرم المنهج على العبد المؤمن أن يمد عينيه إلى محارم غيره، ولم يكن هذا التحريم لعبد واحد، إنما لكل إنسان مؤمن، وبذلك لا تمتد أي عين إلى محارم هذا العبد، لقد جاء الأمر لك بغض البصر عن محارم غيرك وأنت واحد، وكففنا من أجلك ملايين الأبصار كيلا تمتد إلى محارمك.
إذن فكل عبد مؤمن يكسب حياة مطمئنة من وجود التشريع، وكل التشريعات إنما جاءت لصالحنا جميعا، ولذلك كان الحق رحيما بنا لأن رَكْبَ الرسل قد تواصل واستمر في الكون منذ آدم، وإلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمنهج الذي جاء به كل هؤلاء الرسل لا تناقض فيه أبدا، لأن في هذا المنهج مصلحة للخلق، لذلك فلا يمكن أن يكون موكب رسول قد أتى، ليناقض موكب رسول آخر.
لكن ما الذي يأتي بالتناقض بين الأديان والمشرع واحد؟ وكل الناس عيال له؟
إننا نبرئ الرسل من التناقض، وإن حاول البعض أن يصوروا الأمر كذلك فلنعلم أن أتباع الرسل هم الذين يريدون لأنفسهم سلطة زمنية يتحكمون بها في الدنيا، فالذين كانت لهم سلطة زمنية في دين كاليهودية أو النصرانية فعلوا ذلك.
وعندما جاءت النصرانية على اليهودية قال أحبار اليهود: نحن لا نريد النصرانية لماذا؟ لأن السلطة الزمنية كانت في أيديهم، ولو أن هؤلاء الأحبار ظلوا باقين على
1569
ما أنزله الله عليهم من منهج لقَبَّلُوا يدي أي رسول قادم شاكرين له مقدَمَة ومجيئه وقالوا له: ساعدنا على أن نعمق فهمنا لمنهج الله.
. إذن فالخلاف لا يحدث إلا حين توجد أهواء لها سلطات زمنية، وموكب الرسالات من يوم أن خلق الله الإنسان هو منهج متساند لا متعاند.
وحينما يأتي رسول ليجد أناسا غير مؤمنين بإله فالمشكلة تكون سهلة، لأنه سيلفتهم إلى إله واحد، وبالمنهج الذي يريده الله، لكن المشكلة تكون كبيرة مع الجماعة التي لها رسول وهم منسوبون إلى السماء فإذا ما جاء رسول من الله فهو يجيء وهؤلاء الأتباع قد أخذوا من ادعائهم بالانتساب لرسالة رسول سابق سلطة زمنية كما حدث مع اليهود والنصارى، فتعصبوا للدين الذي كانوا عليه متناسين أن كبارهم قد حرفوا المنهج لحساب السلطة الزمنية.
وقد استمر موكب الرسل إلى الخلق ليحمي الله الخلق من سيادة الانحراف واصطفى الله أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الله قد ضمن بقاء الخير في هذه الأمة، فإذا رأيت أناسا بالغوا في الإلحاد فثق أن هناك أناسا زادهم الله في المدد حتى يحدث التوازن؛ لأن الحق هو القائل: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ المفلحون﴾ [آل عمران: ١٠٤].
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ [آل عمران: ١١٠].
1570
إذن فإن امتنع الوازع النفسي في النفس اللوامة عند فرد من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسوف يأتي أناس مسلمون ينبهونه إلى المنهج، والحق سبحانه وتعالى لا يعصم الناس من أن يخطئوا فهو القائل: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ [العصر: ١ - ٣].
إن الحق جاء بكلمة «وتواصوا»، ولم يأتِ بكلمة «وصوا» وذلك لنفهم أن التوصية أمر متبادل بين الجميع، فساعة يوجد إنسان في لحظة ضعف أمام المنهج توجد لحظة قوة عند غيره فيوصيه.
وترد هذه المسألة أيضا إلى الموصى، فقد تأتي له لحظة ضعف أمام المنهج؛ فيجد من يوصيه وهكذا نرى أنه لا يوجد أناس مخصوصون ليوصوا، وآخرون مهمتهم تلقى التوصية، إنما الأمر متبادل بينهم، وهذا هو التكافل الإيماني، والإنسان قد يضعف في مسألة من المسائل فيأتي أخ مؤمن يقول له: ابتعد عن هذا الضعف، إن هذه المسألة تحدث بالتناوب لمقاومة لحظات الأغيار في النفس البشرية؛ لأن لحظات الأغيار لا تجعل الإنسان يثبت على حال، فإذا ما رأينا إنسانا قد ضعف أمام التزام ما فعلينا أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، وأنت أيضا حين تضعف ستجد من أخوتك الإيمانية مَنْ يوصيك.
هذا هو الحال في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أما الأمم السابقة عليها فقد كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، ولذلك كان لا بد أن تتدخل السماء وتأتي برسول جديد ومعه معجزة جديدة تلفت العقول لفتا قسريا إلى أن هناك أشياء تأتي بها المعجزة، وهي خرق ناموس الكون، وفي ذلك لفت من الله للناس إلى مناطق القدرة.
وأخذ الله الميثاق على الأنبياء بأن يبلغ كل نبي قومه هذا البلاغ، انتظروا أن
1571
ترسل إليكم السماء رسلا، وساعة يجيء الرسول المبلغ عن الله منهجه فكونوا معه، وأيدوه.
كان الرسل عليهم جميعا السلام مأمورين أن يضعوا في المنهج. وصلبه أن السماء حينما تتدخل وتأتي برسول جديد فلا بد أن يتبعه أقوامهم، وألا يتعصبوا ضد الرسول القادم، بل يسلمون معه ويرحبون به؛ لأن الرسول إنما يجيء ليعاون الناس على المنهج الصحيح، لكن الأتباع الذين يعشقون السلطة الزمنية تعمدوا التحريف، ومن أجل أن يحمي الحقُّ خلقه من هذا المرض أنزل الميثاق الذي أخذه على النبيين، فقال:
﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: ٨١]
قد يقول قائل: إن هذا القول يصلح عندما يأتي رسول معاصر لرسول مثلما عاصر شعيب سيدنا موسى عليه السلام، وكما عاصر لوط سيدنا إبراهيم عليه السلام، ونقول: هذا يحدث - أيضا - وإن لم تتعاصر الرسل، فالحق سبحانه قد أراد لكل رسول أن يعطي لقومه البلاغ الواضح، وإن لم يتعاصر الرسولان فلا بد أن يعطي الرسول مناعة ضد التعصب، فما داموا قد آمنوا بالرسول واتبعوه فعليهم حسنَ استقبال الرسول القادم من بعد رسولهم، وكان على كل رسول أن يبلغ قومه: كونوا في انتظار أن تتدخل السماء في أي وقت، فإذا تدخلت السماء في أي وقت من الأوقات، وجاءت برسول مصدق لما معكم فإياكم أن تقفوا منه موقف المضارّة، وإياكم أن تقفوا منه موقف العداوة، بل عليكم أن «تنصروه» وهذا قول واضح وجلى ولا لبس فيه. ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾
1572
ونقول في شرح معنى: ﴿رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾.
إن الدين يأتي بقضايا متفق عليها؛ لأن العقائد واحدة، والأخبار واحدة، والقصص واحد، لكن الذي يختلف هو الحكم التشريعي الذي قد يناسب زمنا ولا يناسب زمنا آخر، فإذا جاء الرسول بكتاب مصدق لما معكم في الأمور الدائرة في منهج العقائد، أو منهج القصص فلا بد لكم أن تصدقوه.
لكن اليهود لم يفعلوا ذلك؛ لأن الرسول جاء ليعيد هداية الجماعة التي آمنت بالرسل والتي تؤمن بإله، وكان مجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمنهج الواضح العقيدة والأخبار الصحيحة غير المحرفة والقصص التي تدعم المنهج كما جاء بالتشريع المناسب وكان مجيء النبي الخاتم مزلزلا لمن استمرءوا السلطة الزمنية، فمنهم من أصر على اتباع رسولهم فقط وبالمنهج الذي تم تحريفه ورفضوا اتباع الرسول الجديد، ومنهم جماعة أخرى آمنت، بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكانت هناك جماعة ثالثة تؤمن برسول آخر، والخيبة تأتي نتيجة للتعصب، ولذلك كانت دعوة الإسلام هي لتصفية العقائد، ودعوة لكل متبع لأي رسالة سابقة أن يدرس ويناقش، هل الدين الخاتم قد جاء بما يختلف عن الأديان السابقة في العقائد؟ أو جاء مصدقاً لها؟
لقد جاء الدين الخاتم مصدقا لما سبقه في العقائد والأخبار والقصص وإن اختلف في التشريعات التي تناسب زمنا ولا تناسب زمنا آخر، فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يعصم البشرية من العصبية الهوجاء، والعصبية العمياء التي تنشأ من اتباع رسول لتقف سدا حائلا أمام رسول آخر؛ فالله حين أرسل كل رسول قد أعطاه الأخبار والحقائق وأنه سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي أرسله بأن يكون على استعداد هو والمؤمنون معه لتصديق كل رسول يأتي معاصرا ومصدقا لما معهم، وأن يؤمنوا به، وأن يبلغ كل رسول أمته بضرورة هذا الإيمان.
لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد من الركب الإيماني المتمثل في مواكب الرسل ألا يكون بعضهم لبعض عدوّا، بل عليهم أن يواجهوا أعداء قضية الدين كلها. فالذي يجعل الإلحاد متفشيا في هذا العصر هو أن المنسوبين إلى الأديان السماوية مختلفون، وربما كانت العداوة بينهم وبين بعضهم أقوى من العداوة بينهم وبين
1573
الملحدين والمنكرين لله، وهذا الاختلاف يعطي المجال للملحدين فيقولون: لو كانت هذه الأديان حقا لا تفقوا وما اختلفوا، فما معنى أن يقول أتباع كل رسول إنهم يتبعون رسولا قادما من السماء؟
إن الملحدين يجدون من اختلاف أتباع الديانات السماوية فرصة ليبذروا في الناس بذور الإلحاد، ولا يجدون تكتلا ولا قوة إيمانية لمن يؤمن بالسماء أو بمنهج السماء لكن الحق سبحانه يقول: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين﴾ وهذا يعني أنه سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي ساعة أرسله أنه قد آتاه الكتاب والحكمة، وإنه إذا جاءكم رسول مصدق لهذا الكتاب وتلك الحكمة فعليكم الإيمان به، ولا يكفي إعلان الإيمان فقط، بل لا بد أن يكون النبي ومن معه في نصرة الرسول الجديد نقول: ولو عمل أتباع كل نبيّ بهذا العهد والميثاق لما كان لهؤلاء الملحدين حجة ويضيف سبحانه: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا﴾ والإقرار سيد الأدلة كما يقولون؛ والإصر هو العهد الشديد، ولذلك يقال: «آصره المودة» أي الرابطة الشديدة المعقودة. قال الموكب الإيماني للأنبياء موجهين إقرارهم لله تعالى ﴿أَقْرَرْنَا﴾، فقال الحق سبحانه: ﴿فاشهدوا﴾. والشهادة دائما تقتضي شاهدا ومشهودا عليه ومشهودا به.
وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول للنبيين الذين أخذوا منه العهد والميثاق الحق: ﴿فاشهدوا﴾، إذن فهم في موقف الشاهد، وما المشهود عليه؟ وما المشهود به؟ هل يشهدون على أنفسهم؟
أو يشهد كل نبي على الأنبياء الآخرين؟
أو يشهد أنه قد بلغ أمته هذا القرار الإلهي؟
إن الرسول يشهد على أمته، وأن الأنبياء يشهد بعضهم لبعض.
إذن قد يكون الشاهد نبيا، والمشهود له نبي آخر، والمشهود به أن يؤمنوا بالرسول القادم وينصروه.
1574
وقد يكون الشاهد النبي، والمشهود عليه هي أمته بأنه قد بلغها ضرورة الإيمان بالرسول القادم بمنهج السماء؛ لأن الأمة ما دامت قد آمنت برسول فعليهم مؤازرة هذا الرسول، ومؤازرة مَنْ يأتي من بعده، وذلك حتى لا يتبدد ركب الإيمان ؤمام باطل الإلحاد:
﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين﴾ [آل عمران: ٨١]
ولنرتب الشهادات التي وردت في هذه الآية الكريمة: الأنبياء يشهد بعضهم على بعض، أو الأنبياء يشهدون على أممهم، ثم شهادة الله على الأنبياء.
وما دام الأمر قد جاء بهذا التوثيق فعلينا أن ننبه أنه إذا ما وجدنا دينا سابقا يتعصب أمام دين لاحق، بعد أن يأتي هذا الدين بالمعجزة الدالة على صدق بلاغ ذلك الرسول عن الله فلنعلم أنهم خانوا هذه القضية. وسبب ذلك يرجع إلى أن الله يريد أن يحتفظ للدعوة إلى الإيمان، بانسجام تام، فلا يتعصب رسول لنفسه ولا لقوميته ولا لبيئته، ولا يتعصب أهل رسول لملتهم أو نحلتهم؛ لأنهم جميعا مبلغون عن إله واحد لمنهج واحد، فيجب أن يظل المنهج مترابطا فلا يتعصب كل قوم لنبيهم أو دينهم، وهذا ليكون موكب الرسالات موكبا متلاحما متساندا متعاضدا، فلا حجة من بعد ذلك لنبي، ولا لتابع نبي أن يصادم دعوة أي رسول يأتي، ما دام مصدقا لما بين يديه.
لقد أعلمنا الحق أنه قد عرض شهادة الأنبياء على بعضهم، وشهادة الأنبياء على أممهم، وشهادة الله سبحانه على الجميع، وذلك أوثق العهود وآكدها. ولذلك يزداد موكب الإيمان تآزرا وتلاحما، فلا يأتي مؤمن برسالة من السماء ليصادم مؤمنا آخر برسالة من السماء.. ولندع المصادمة لمن لا يؤمنون برسالة السماء، وحين يتكاتف المؤمنون برسالة السماء يستطيعون الوقوف أمام هؤلاء الملاحدة، وبعد هذا البيان الواضح يقول الحق:
1575
﴿فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون﴾
1576
معنى «تولى» هي مقابل «أقبل». و «أقبل» تعني أنه جاء بوجه عليك. و «تولى» أعرض كما نقول نحن في تعبيراتنا الشائعة: «أعطاني ظهره». ومعنى هذا أنه لم يأبه لي، ولم يقبل علي. إذن فالمراد مِنْ أَخْذ العهدِ أن يُقْبَل الناسُ على ذلك الدين، فالذي يُعرض ويعطي الإيمان الجديد ظهره يتوعده الله ويصفه بقوله: ﴿فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ بعد ماذا؟ إنه التولي بعد أخذ العهد والميثاق على النبيين، وشهادة الأمم بعضها على بعضها، وشهادة الله على الجميع، إذن فلا عذر لأحد. فمن أعطى ظهره للنبي الجديد، فماذا يكون وعيد الله له؟
إن الحق يصفهم بقوله: ﴿فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ أي أن الوعيد هو أن الله يحاسبه حساب الفاسقين، والفسق - كما نعلم - هو الخروج عن منهج الطاعة. والمعاني - كما تعرف - أخذت وضعها من المحسوسات. لأن الأصل في الوعي البشرى هو الشيء المحس أولا، ثم تأتي المعنويات لتأخذ من ألفاظ المحسوسات. والفسق في أصل اللغة هو خروج الرطبة عن قشرتها؛ فالبلح حين يرطب، يكون حجم كل ثمرة قد تناقص عن قشرتها. وحينما يتناقص الحجم الطبيعي عن القشرة تصبح القشرة فضفاضة عليه، وتصبح أي حركة عليه هي فرصة لانفلات الرطبة من قشرتها.
ويقال: «فسقت الرطبة» أي خرجت عن قشرتها. وأَخَذَ الدينُ هذا التعبير وجعله وصفاً لمن يخرج عن منهج الله، فكأن منهج الله يحيط بالإنسان في كل تصرفاته، فإذا ما خرج الإنسان عن منهج الله، كان مثل الرطبة التي خرجت عن قشرتها.
ونحن أمام فسق من نوع أكبر، فهناك فسق صغير، وهناك فسق كبير. وهنا
1576
نسأل أيكون الفسق هنا مجرد خروج عن منهج طاعة الرسول؟ لكن هذا الخروج يوصف به كل عاصٍ، أي أن صاحبه مؤمن بمنهج وفسق جزئيا، إننا نقول عن كل عاصٍ: «إنه فسق» أي أنه مؤمن بمنهج وخرج عن جزئية من هذا المنهج، أما الفسق الذي يتحدث عنه الحق هنا فهو فسق القمة؛ لأنه فسق عن ركب الإيمان كله، فإذا كان الله قد أخذ العهد، وشهد الأنبياء على أممهم، وشهدت الأمم بعضها على بعض، وشهد الله على الجميع، أبعد ذلك تكون هناك فرصة لأن يتولى الإنسان ويعرض؟
ثم لماذا يتولى ويعرض؟ إنه يفعل ذلك لأنه يريد منهجا غير هذا المنهج الذي أنزله الله، فلو كان قد اقتنع بمنهج الله لأقبل على هذا المنهج، أما الذي لم يقتنع فإنه يعرض عن المنهج ويطلب منهجا غيره فأي منهج تريد يا من لا ترضى هذه الشهادة ولا هذا التوثيق؟ خصوصا وأنت تعلم أنه لا يوجد منهج صحيح إلا هذا المنهج، فليس هناك إله آخر يرسل مناهج أخرى.
وهكذا نعرف أنه لا يأتي منهج غير منهج الله، إلا منهج من البشر لبعضهم بعضا، ولنا أن نقول لمن يتبع منهجا غير منهج الله: من الذي جعل إنسانا أولى بأن يتبعه إنسان؟ إن التابع لا بد أن يبحث عمن يتبعه، ولا بد أن يكون الذي يتبعه أعلى منه، لكن أن يتبع إنسان إنسانا آخر في منهج من عنده، فهذا لا يليق، وهو فسق عن منهج الله؛ لأن المساوي لا يتبع مساوياً له أبدا، ومن فضل الله سبحانه أنه جعل المنهج من عنده للناس جميعا حتى لا يتبع إنسان إنسانا آخر. لماذا؟ حتى لا يكون هوى إنسان مسيطرا على مقدرات إنسان آخر، والحق سبحانه لا هوى له. إن كل إنسان يجب أن يكون هواه تابعا لله الذي خلق كل البشر.
وما دام ليس هناك إله آخر فما المنهج الذي يرتضيه الإنسان لنفسه؟
إن المنهج الذي يرتضيه الإنسان لنفسه لو لم يتبع منهج الله هو منهج من وضع البشر، والمنهج الذي يضعه البشر ينبع دائما من الهوى، وما دامت الأهواء قد وجدت، فكل مشرِّع من البشر له هوى، وهذا يؤدي إلى فساد الكون. قال تعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ
1577
بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: ٧١].
فإذا كانوا لا يرضون منهج الله، فأي فسق هم فيه؟ إنه فسق عظيم؛ لأن الله قد أخذ عليهم العهد وعلى أنبيائهم ووثق هذا العهد، أفغير الله يبغون؟ نعم، إنهم يبغون غير الله ومن هو ذلك الغير؟ أهو إله آخر؟ لا، فليس مع الله إله آخر، بل هم قد جعلوا الخلق مقابل الخالق، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾
1578
إنهم ما داموا غير مؤمنين برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي أرسله الله نبيا ورسولا فإن ذلك يكشف رغبتهم في أنهم يريدون منهجا غير منهج الله، وليس أمامهم إذن إلا مناهج البشر النابعة من الأهواء، والتي تقود حتما إلى الضلال، إن الحق سبحانه وتعالى يريد لخلقه أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم، إنه الحق سبحانه وتعالى قد أوضح لنا في منهجه، وقال لنا هذا المنهج: أنتم مستخلفون في الكون، وأنتم أيها الخلفاء في الأرض سادة هذا الكون، سادة يخدمكم الكون كله، وانظروا إلى أجناس الوجود تجدوها في خدمتكم، الحيوان أقل منكم بالفكر. والنبات أقل من الحيوان بالحس. والجماد أقل من النبات.
إذن فأجناس الكون من حيوان ونبات وجماد ترضخ لإرادتك أيها الإنسان، فالنبات يخدم الحيوان والحيوان يخدمك أيها الإنسان، والجماد يخدم الجميع، والعناصر التي نأخذها نحن البشر من الجماد يستفيد منها أيضا النبات والحيوان. إذن فكل جنس في الوجود تراه بعينيك إنما يخدم الأجناس التي تعلوه.
1578
والجماد يخدم النبات.
والجماد والنبات يخدمان الحيوان.
والجماد والنبات والحيوان في خدمة الإنسان وأنت أيها الإنسان تخدم من؟ كان من واجب عقلك أيها الإنسان أن تفكر فيمن ترتبط به ارتباطا يناسب سيادتك على الأجناس الأخرى كان لا بد أن تبحث عمن اعطاك السيادة على الأجناس الأخرى.
هل أنت أيها الإنسان قد سخرت هذه الأجناس بقدرتك وقوتك؟
لا؛ فلست تملك قدرة ذاتية تتيح لك ذلك؟ أما كان يجب عليك أن تفكر ما هي القوة التي سخرت لك ما لا تقدر عليه، فخدمتك حين لا توجد لك قدرة، وخدمتك وأنت نائم تغط في نوم عميق؟ أما كان يجب أن تفكر هذا الفكر؟ إنك أيها الإنسان يجب أن تكون منطقيا مع نفسك، وأن تبحث لك عن سيد يناسب سيادتك على غيرك. والكون لا يوجد فيه سيد عليك؛ لأن الكون محس، فإن جاءك من يحدثك بأن غيبا هو الإله يطلب أن تكون في خدمته فيجب أن تقول: «إن هذا كلامي منطقي بالنسبة لوضعي في الكون» وبعد ذلك انظر إلى الكون، فأنت في الكون لست وحدك بل هناك أجناس أخرى، وكل جنس من الأجناس له قانونه وله مهمته، للحيوان مهمة، وللنبات مهمة، وللجماد مهمة. فهل وجدت جنسا من الأجناس تمرد على مهمته؟ لا.
إن الحصان مثلا، تستخدمه كمطية عليها وسادة من حرير وجلد ولها لجام من فضة لتركبه، وتجد هذه المطية في يوم آخر تحمل سماد الأرض من روث الحيوان وما تأبت، لقد أدت الخدمة لك راكبا، وأدت الخدمة لك ناقلا، وما تمردت عليك أبدا. كل الأجناس - إذن - تؤدي مهمتها كما ينبغي، فاستقام الأمر فيها، وما دام الأمر قد استقام فيها، فبأي شيء استقام؟ إن الله هو الذي خلقها ذللها، قال لها: «كوني في خدمة الإنسان مؤمنا كان أو كافرا» وفي هذا الأمر عدالة الربوبية، فلا تتأخر أو تشذ عن حركتها في خدمة الإنسان.
أرأى أحدكم الشمس مرة قالت: لم يعد الخلق يعجبونني، ولن أشرق عليهم
1579
وسأحتجب اليوم؟! أتمرد الهواء وقال: لا، إن الخلق لم تعد تستحق تنفس الهواء، لذلك لن أمكنهم من الانتفاع بي.
أرأينا المطر امتنع؟ هل استنبت الإنسان أرضا صالحة للزراعة واستعصت عليه؟ لا.. فكل شيء في الوجود يؤدي مهمته تسخيرا وتذليلا.
لذلك يقول الحق: ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ [يس: ٧٢ - ٧٣].
والحق سبحانه وتعالى يطلق بعضا من الحيوان فلا يذلل، ولا يستأنس، وذلك حتى تعلم أيها الإنسان أنك لم تستأنس الجمل بقدرتك فإن كانت لك قدرة مطلقة على الكون فاستأنس بعض ثعابين هذا العالم أو استأنس الأسد. وأنت أيها الإنسان ترى في هذا الكون بعضا من الحيوانات والمخلوقات شاردة مثل الثعابين والحيوانات المتوحشة. بغير استئناس ليدلنا الحق على أن هذا الذي يخدمك لو لم يذلله الله لك لما استطعت أنت بقدرتك أن تذلله، إنه تذليل وتسخير وخضوع لهذه المخلوقات منحه الله تعالى لك أيها الإنسان تفضلا منه - سبحانه - مع عجزك وضعفك.
ولم نجد شيئا نافعا قد عصى الإنسان في الكون، لأن كل الخلق مسخر من الله لخدمة الإنسان كافرا كان أو مؤمنا، وهذا هو عطاء الربوبية، لأن عطاء الربوبية يشمل الخلق جميعا، فالخالق الأكرم هو رب الناس كلهم ويتولى تربيتهم جميعا، ولذلك تستجيب الأجناس من غير الإنسان للإنسان سواء أكان مؤمنا أم كافرا. فإن أحسن الكافر استخدام الأسباب فإن الأسباب تعطيه ولا تعطي المؤمن الذي لا يستخدم الأسباب، أو لا يُحسن استخدامها فهذا هو عطاء الربوبية، والربوبية للجميع. أما عطاء الألوهية فهو «افعل ولا تفعل» وهو عطاء للمؤمنين فقط.
فإذا كانت هذه هي صورة الكون وهو يؤدي مهمته بلا شذوذ فيه، ومنسجم في ذاته انسحاما عجيبا فلنا أن نسأل «من أين جاء الخلل في الكون؟» إن الخلل قد
1580
جاء منك أيها الإنسان. ولهذا فنحن لا نجد فسادا في الكون إلا وللإنسان مدخل فيه، أما مالا مدخل للإنسان فيه فلا فساد فيه أبدا.
أرأيت أحدا قد اشتكى من أن الهواء قصر؟ لا.
لماذا لأن أحدا لا دخل له بمسألة الهواء هذه أبدا، صحيح أننا نتدخل في الهواء بتلويثه بالعادم والفضلات، وصحيح أيضا أن الحق يٌكرم الخلق باكتشافات قد تصلح من هذا الفساد إذن، فحين يتدخل الإنسان فإن الشيء قد يفسد.
لكن هل معنى ذلك ألا نتدخل؟ هل نقف من الكون مكتوفي الأيدي؟ لا، بل يجب أن نتدخل في الكون، ولكن بمنهج الله.
إنك إن تدخلت في الكون بمنهج الله، فكل شيء يسير الكون الذي لا منهج له إلا الخضوع والتسخير، فكما أدت الشمس مهمتها والجماد مهمته، والحيوان مهمته، وأنت أيها الإنسان مطلوب منك أن تؤدي مهمتك، وهي أن تطيع الله، تلك الطاعة التي تتلخص مطلوباته منك في: «افعل كذا ولا تفعل كذا» فإن انتظمت مع المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» تكن قد انسجمت مع الكون.
إن الله سبحانه يزيّل هذه القضية ويختمها باستفهام تنقطع وتنفطر له قلوب المؤمنين:
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: ٨٣]
إن كل شيء في السماوات وفي الأرض قد أسلم لله طوعا أو كرها. وإذا ما تساءلنا، وما معنى «طوعا؟» فالإجابة هي طاعة التسخير، كما قالت السماوات والأرض في النص القرآني الحكيم: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ
1581
أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: ١١].
فكل ما لا تكليف له جاء طائعا مسخرا، وما معنى: «كرها» ؟ إن بعضا من العلماء قد قال: إن «طوعا» تشمل أجناس الملائكة، والجماد، والنبات، والحيوان، فكل منهم يؤدي مهمته بخضوع ولا يعترض أحد منهم ولا يملك أحدهم قدرة على العصيان، وأما عن «كرها» فقد فهم بعض العلماء أنهم الناس الذين يخدمون الناس بالقوة كالعبيد مثلا، ولهؤلاء نقول: لا يصح ولا يستقيم أن نعطي خصوم الإسلام فرصة ليقولوا إن الإسلام قد أكره أحداً من البشر أن يخدم أحدا كرها؛ لأن الحق سبحانه قال: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٦].
فما دام الله لم يكره أحداً على الإيمان به فكيف يكره إنسانا ليخدم إنسانا آخر؟! ولهذا فإننا يجب أن نفهم كرها على وضعها الحقيقي، والحق سبحانه أبلغنا أن هذا الكون كله مسخر له، لأنه سبحانه هو الذي خلقه ولا إله غيره وهذه مسألة مسلم بها، فالكون كله لله، وهو المدبر والقاهر له، قال الحق: ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩١].
ومادام هو الواحد وهو الخالق فلن يتمرد أحد على مراده، وكان يجب أن يفهم الإنسان مهمته على أنه هو الوحيد الذي كلفه الله؛ لأن بقية الأجناس لا اختيار لها وهي غير مكلفة كما كلف الله الإنسان ب «افعل» و «لا تفعل» إذن فالتكليف فرع
1582
الإختيار؛ فالمنهج يقول لك: «افعل كذا ولا تفعل كذا» لأن الذي وضعه يعلم أنه قد خلقك صالحا لأن تفعل ما يأمرك به، وصالحا لأن تفعل ما لا يأمرك به.
إن اليد - مثلا - مخلوقة لتتحرك حسب إرادة صاحبها، بدليل أن الإرادة إن شُلت وانقطع الخيط الموصل للإرادة الآمرة إلى الجارحة الفاعلة عندئذ يحاول الإنسان المصاب بذلك - والعياذ بالله - أن يرفع يده فلا يستطيع، فاليد مسخرة لإرادة الإنسان، وإرادتك أيها الإنسان عندما تسير في ضوء منهج الله فإنك توجهها في ضوء «افعل» و «لا تفعل».
وعندما يقال لك مثلا: «لا تضرب بها أحداً» فمعنى ذلك أن اليد صالحة لأن تضرب، وعندما يقال لك: «خذ بيد العاثر» فيدك قادرة على أن تأخذ بيد العاثر، فأنت مخلوق على هيئة الطواعية من جوارحك لإرادتك. ويأتي المنهج ليقول لك: «نفذ الإرادة في كذا ولا تنفذ الإرادة في كذا»..
إذن فالإنسان عندما يتبع المنهج فهو يتفق مع الأشياء المسخرة تمام الاتفاق، ويؤدي كل شيء على خير أداء، لكن متى يختلف الإنسان عن الانسجام عندما لا يطبق المنهج، فيشذ عن الركب في الكون كله، ولتقرأ قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ [الحج: ١٨].
إنها الأجناس كلها ساجدة، الشمس ساجدة، القمر ساجد، والنجوم، والجبال، كل هذه الجمادات ساجدة، وكذلك الشجر والنبات ساجد لله، والحيوان والدواب ساجدة لله، وكثير من الناس سجود، لكن في مقابل هذا الكثير الساجد من البشر، هناك كثير غير ساجد لذلك حق عليه العذاب، ولو أن الإنسان قد أخذ
1583
منهج الله فنفذه لصار كبقية الأجناس، لكن الإنسان اختلف، وقال: «أنا سوف آخذ اختيار تحمل الأمانة، لأني عالم وعاقل» كما جاء في القول الحق:
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ [الأحزاب: ٧٢].
فلو أخذ الإنسان منهج الله في «افعل» و «لا تفعل»، لانسجم الإنسان مع الوجود كله وحين ينسجم الإنسان مع الوجود كله فلن تأتي منه مخالفة أبدا كما لا تأتي مخالفة في الوجود من غير الإنسان، وعند ذلك يصبح الكون مثاليا في الانسجام. ونحن نعرف أن الطموحات العلمية حين تعمل وتُشغل العقل في أمر ما فإنها تريد الخير، ولكنها تعلم شيئا، ويغيب عنها شيء آخر، ولو أخذوا عن الله العليم بكل شيء لصارت الدنيا إلى انسجامها.
إن المخترعين الذين صمموا المحركات التي تتحرك بسائل البنزين قاموا بتسهيل الحركة على الإنسانية، ولكن العادم والمخلفات الناتجة من البنزين صنعت ضررا بالكون، ودليل ذلك ان العلماء الآن يبحثون عن أساليب لمقاومة تلوث البيئة. وعندما كان الوقود هو الحطب لم يكن هناك تلوث للبيئة، لماذا؟ لأن كل عنصر كان يؤدي مهمته، فجزء من احتراق الحطب كان يتحول إلى كربون، وجزء آخر يتحول إلى غازات، وتنصرف كل الأشياء إلى مساراتها.
إن هذا يدلنا على أن الإنسان قد دخل إلى المخترعات المعاصرة بنصف علم. لقد قدّر الإنسان انه يريد تخفيف الحركة، وينقل الأثقال ويختصر المسافات، لكنه لم ينظر إلى البيئة وتلوثها، فنشأ عادم يفسد البيئة، لكن لو كان عند الإنسان القدرة الشاملة على العلم لكان ساعة اختراع هذه المحركات قد بحث عن وضع معادلة لتعدل من فساد العادم.
ولننظر إلى عظمة الحق، إنه يترك للعقل البشري أن يتقدم، ولكن العقل البشري قاصر وينسى من الأشياء ما ينتج عنه الضرر أخيرا. إن الذين
1584
اخترعوا المبيدات الحشرية كانوا يظنون أنهم قاموا بفتح جديد في الكون، وتشاء إرادة الحق ان يقوم بتحريم هذه المبيدات القوم أنفسهم الذين اخترعوها؛ لأنهم وجدوا منها الضرر، لذلك يقول الحق سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً﴾ [الكهف: ١٠٣ - ١٠٥].
إنك أن أردت أن تكمل صنعتك فابحث عن الحسن في ضوء منهج الله، والحق سبحانه يضرب لنا المثل الواضح. إننا نعرف أن عادم صناعتنا ضار كعادم المصانع والسيارات وغيرها، لكن عادم خلق الله في الحيوان نافع، فالإنسان يأخذ روث الحيوان ويصنع منه السماد ليزيد من خصوبة الأرض، والعجيب أن فضلات الحيوان التي تعطي خصوبة للأرض لا نجد فيها شيئا يقزز، ولا نجد لها الرائحة التي توجد في فضلات الإنسان، لماذا؟
لأن الحيوان يأكل على قدر حاجته، إن الحيوان قد يجد أمامه أصنافا كثيرة، مثل الحشيش اليابس، وإذا شبع الحيوان امتنع عن الطعام، ولذلك لا يُخرج فضلات كريهة الرائحة، لكن الإنسان ينوع ويلون ويأكل فوق طاقته ويحث شهيته على الانطلاق والانفلات، إن الحيوان لا اختيار له، ومحكوم بالغريزة ويجد أمامه هذا الذي يؤكل وذلك الذي لا يؤكل فيختار بغريزته المناسب له، وإذا امتلأت البطن لا يأكل؛ لأنه محكوم بالغريزة والتسخير المطلق، لكن الإنسان يتمتع بالاختيار، فأفسد عليه هذا الاختيار وأبعده عن منهج الله وجعله بما لديه من قدرة يتجاوز الاكتفاء بحدود الشبع.
وهكذا نرى بوضوح أن الكون كله أسلم لله طوعا في المسخرات.
وإياك أن تفهم أن هناك إسلاما بالقهر والإكراه. وبعض العلماء قد فاتهم ذلك وهم يعطون
1585
لخصوم الإسلام حجة الإسلام حجة فيقولون: «إن دينكم انتشر بإكراه السيف» ولذلك نقول لهم: لا، إن أحدا لم يسلم كرها أبدا؛ لأن السيف إنما رفع لشيء واحد هو حماية حرية الاختيار. إن السيف قد رُفع ليمنع الإكراه، وليمنع تسلط بعض الناس بقوتهم ليجبروا الناس على عقائدهم فقال لهم السيف: «قفوا عند حدكم، ودعوا الناس أحرارا في اختيار ما يعتقدون»، ودليل ذلك أن البلاد التي فتحها الإسلام تجد فيها غير المسلمين، ولو كان الأمر فتحا بالسيف لما وجدنا ديانات أخرى. غير الإسلام، نجدهم أيضا يتشدقون بذلك ويزيدون «إنكم تفرضون جزية».
ونقول لهم: أنتم تردون على أنفسكم، نحن لم نفرض جزية على المؤمن ولكن الكافر تركناه على كفره، والجزية يدفعها الكافر ليدافع عنه المؤمنون لو أصاب البلاد مكروه.
إذن فكيف نفهم قوله الحق بأن هناك من أسلم كرها؟
نحن نفهمها كالآتي: إن الإنسان هو الذي انقسمت عنده المسائل، وفيه أمور تدخل في فعله ومراداته، وفيه أمور تجدث قهرا عنه، وتحدث له بلا إرادة ولا اختيار، فالإنسان يكون مختارا في الفعل الذي يقع منه، أما الفعل الذي يقع عليه أو فيه فلا دخل له فيه بالاختيار؛ إن أحدا منا لا يختار يوم ميلاده، أو يوم وفاته أو يوم إصابته بالمرض، والإنسان الذكي هو الذي يعرف ذلك ونقول للإنسان الذي لا يعرف أو يتجاهل ذلك: أيها الإنسان دعك من الغباء؛ إن هناك زوايا من حياتك أنت مجبر فيها على أن تكون مسلما لله كرها إنك تسلم لله دون إرادتك في كثير من الأمور التي تقع عليك، ولا تستطيع لها دفعا، فلماذا تقف في الإسلام عند زاوية الاختيار؟
إن المسخرات كلها مسلمة لله، والإنسان فيما يقع فيه أو عليه من أمور لا يستطيع دفعها. هو تسليم لله كرها من الإنسان، وهكذا نرى أن قيادة التسخير فيما ليس لك دخل فيه أيها الإنسان هي مسلمة لله، مثلك في ذلك مثل كل الكائنات، أفلا يجب عليك أن تسلم بكل زوايا حياتك؟ فلو كان هناك إنسان كافر بكل ما فيه من أبعاض فعلى هذا الكافر ألا يسلم بأي شيء من جوارحه؛ هل يستطيع أن يمنعها من أن تؤدي عملها؟
1586
ولنر ما سيحدث له لا بد أن يتوقف عن التنفس؛ لأن التنفس يحدث رغما عنه، لا بد أن يوقف دقات قلبه؛ لأنها تدق رغما عنه. وما دام هناك من يستمرئ الكفر فليحاول أن يجعل كل ما فيه كافرا، ولن يستطيع؛ بل سيجد أنه يحب أمورا ولا تأتي له، ويكره أمورا وتنزل به، ولم يفلت أحد من الإسلام لله، لأن الله قد اختار لكل إنسان يوم الميلاد ويوم الموت، واختار الله للإنسان أن تجري الأحداث فوقه ولا يستطيع دفعها، ويصبح خاضعا رغم أنفه، لذلك قال الحق: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.
إذن ولنأخذ «طوعا» لغير الإنسان، وللمؤمن الذين نفذ تعاليم المنهج، ولنأخذ «كرها» في المسائل التي لا دخل لاختيار الإنسان فيها وتقع عليه وهو يكرهها، ولا يستطيع دفعها، لأن الذي يجريها عليه هو الخالق الفعال لما يريد، وما دامت هناك زاوية من حياتك أيها الإنسان أنت مكره فيها فلماذا تمردت في المسألة الاختيارية؟
كان يجب أن يأخذ الكافر هذه النقطة ويقول للكفر: «لا»، ويتجه إلى الإيمان؛ لأن المؤمن يأخذ هذه النقطة ويقول: أنا أريد أن أنسجم مع الكون كله حتى لا تطغى ملكة على ملكة، ولا تطغى إرادة على إرادة أخرى، وهذه رحمة من الله بالخلق.
وحين يسلم الإنسان منهجه لله فإنه يفعل ما يطلبه المنهج ولا يفعل ما يحرمه المنهج ومن يريد أن يقف في «افعل» و «لا تفعل»، ونقول له: إذا فعلت ما الذي يستفيده الله منك؟ وإذا لم تفعل ما الذي يضر الله منك؟
لا شيء، إن عليك أن تفكر جيدا فالأمر إنما يُرَدّ أو يتمرد عليه إن كان للآمر فيه مصلحة، وحيث إنه لا مصلحة للحق سبحانه وتعالى في مراداته من الخلق إلا إصلاح الخلق ذاته، إذن فمنهج الحق هو لمصلحة الإنسان، وأول ما يصاب به من يقف في منهج الله أنه يصبح ضد نفسه، ولا ينسجم مع الكون، فإن كان هناك من يريد ألا يسلم، فليجرب نفسه بألا يسلم في المقهورات التي هو مقهور عليها، وهذا أمر مستحيل.
ولنقرأ الموقف القرآني بدقة، لنرى أنه الحق بعد القسم وبعد العهد وبعد الإشهاد
1587
عليه، قال لنا: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾. إن من يبغي غير دين الله ليس منطقيا مع نفسه أو مع الكون؛ لأن الكون كله لله بما فيه ومن فيه من السماوات والأرض، وكذلك الإنسان الذي ارتضى منهج الله، وأيضا أسلم الكافر لله فيما ليس له فيه اختيار.
«وأسلم» في هذا السياق القرآني الكريم تعني أنه خضع وسُخر، وقُهر على أن ينفذ، ولكن الحق سبحانه أورد عن السماء والأرض قال: ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]. إن المألوف أن ترضخ السماء والأرض لأمر الله، وعندما «قالتا أتينا طائعين» فقد كسبت السماء والأرض الإسلام لله، فإلى الله كل مرجع فالإنسان - مؤمنا كان أو كافرا - سيعود إلى الله حتما.
وكلمة «يرجعون» التي تأتي في تذييل الآية يمكننا أن نراها في مواقع أخرى من القرآن مرة تأتي مبنية للمفعول وننطقها «يُرجعون» بمعنى أنهم مقهورون على الرجوع إلى الله، ونجدها في مواقع أخرى في القرآن كفعل مبنى للفاعل فننطقها ﴿يُرْجَعُونَ﴾، أي أنهم يريدون الإسراع في العودة إلى الله، وفي هذه الآية نفهم أن الذين يبغون غير دين الله لا يرغبون أن يعودوا إلى الله لذلك يتم إرجاعهم بالقهر، فسبحانه وتعالى يقول:
﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: ١٣].
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: ﴿قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط... ﴾
1588
عندما ننظر إلى هذه الآية بخواطرنا فإننا نجد أن الحق يمزج الرسول والمؤمنين به والمرسل إليهم في الإيمان به، ويتحدث إلى الرسول والمؤمنين كوحدة إيمانية، إن قول الحق: «قل» هو خطاب لمفرد هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمقول: ﴿آمَنَّا﴾ دليل على انسجام الرسول مع الأمة المؤمنة به، فكأن الأمة الإسلامية قد انصهرت في «قل»، وكأن الرسول موجود في ﴿آمَنَّا﴾، وبذلك يتحقق الامتزاج والانسجام بين الرسول وبين المؤمنين به، ويصير خطاب الحق إليهم هو خطاب لوحدة إيمانية واحدة لا انفصام فيها.
وقد جاء الحق بهذا الأسلوب ليوضح لنا أن الرسول لم يأت ليتعالى على أمته، بل جاء ليحمل أعْباءَ هذه الأمة، ولذلك قلنا من قبل: إن للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إيمانين، لقد آمن بالله، وأمن للمؤمنين، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيشفع لنا، لأنه قد أدى مُؤدى يسع أمته كلها، لقد أتم البلاغ وخضع للتكليف بما يسع أمته كلها، ولذلك يقول الحق: ﴿قُلْ آمَنَّا﴾، كان القياس أن يقول: «قل آمنت»، أو أن يقول: ﴿قولوا آمَنَّا﴾. لكن الحق في قرآنه الكريم يضع كل كلمة في موضعها، فتصبح الكلمة جاذبة لمعناها، ويصبح كل معنى عاشقا لكلمته، وقد قال الحق هنا: ﴿قُلْ آمَنَّا﴾ ليتضح لنا أن محمدا رسول ممتزج في أمته، وأمة الإسلام في طواعية لرسولها، والأمر يأتي لرسول الله من الحق سبحانه، والتنفيذ لهذا الأمر يكون من الجميع، وفي هذا إشعار للخصوم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيكون ذا عصبية إيمانية قوية، فلو قال: «قل آمنت» لكان معنى ذلك أن الرسول لن يملك إلا إيمانه فقط، لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمن به قومه، وكثير غيرهم وجاء على يديه فتح مكة كما قال الحق: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً﴾ [النصر: ١ - ٢].
1589
وعندما نقرأ قوله الحق: ﴿قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾ فلنا أن نلتفت إلى أن العلماء لهم وقفة في مسألة الإنزال، فمرة يقول الحق: ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ٤].
ومرة أخرى يقول الحق: ﴿وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٦٤].
وهكذا نجد أن «الإنزال» يأتي مرة متعديا ب «إلى»، ويأتي مرة مرة أخرى متعديا «بعلى». وقال بعض من العلماء: إن الكلام حينما يكون موجها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالحق يقول: «أنزل عليك»، وكأن هؤلاء العلماء - دون قصد منهم - يفصلون بين بلاغ الله للرسول عن البلاغ إلى أمة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يلتفتوا إلى أن الغاية من إنزال المنهج على الرسول هو هداية الأمة.
ونحن نقول: إن علينا ألا نأخذ الأمر بسطحية من أسلوب ظهر لنا؛ ذلك أن هناك أسلوبا خفيَّا، وهو أن «إلى» و «على» إنما تفيدان أن المنهج نزل للأمة والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فمرة يأتي الحق بالنزول متعديا ب «إلى» والخطاب موجه للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كقوله الحق: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ [المائدة: ٨٣].
ومرة يأتي الحق بالنزول متعديا ب «على» والخطاب موجه للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
1590
كقوله الحق: ﴿وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٦٤].
ومرة ثالثة يأتي الحق بالإنزال في حديث إلى المؤمنين: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾ [النساء: ١٤٠].
إنه كتاب منزل من السماء وملحوظ فيه العلو، والغاية من النزول هو مصلحة الأمة، فالإتيان ب (على) يْفيد العلو، ولمصلحة الأمة، «العلية» هنا لتزيد مقام المنهج بالنسبة للمؤمنين فهو قد نزل لمصلحتهم. إذن فالنزول يقتضي «علِّية»، وهو من حيث العلو يأتي ب «على»، ومن حيث الغاية يأتي ب «إلى»، فهو منهج نزل من الحق الأعلى ونزل إلى الرسول وعلى الرسول ليبلغه إلى المؤمنين لمصلحتهم. ولذلك قلنا: إننا إذا رأينا حكما يقيد من حرية الفرد فلا يصح أن نفهم أن الله قد قصد هذا الفرد ليقيد حريته، إنما جاء مثل هذا القيد لقيد الملايين من أجل حرية الفرد، مثال ذلك ساعة يحرم المنهج السرقة على الإنسان، فهو أمر لكل إنسان من الملايين وهو لمصلحة كل إنسان، فالقرآن قد نزل لمصلحتك، ومصلحة المؤمنين جميعا.
وعندما نقرأ قوله الحق: ﴿قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾. فهذا القول يوضح أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
1591
إنما جاء بمنهج يضم صحيح العقائد والقصص والأخبار، وهو يوافق ما جاء في موكب الرسالات من يوم أن خلق الله الأرض وأرسل الرسل. وقد أخذ الله العهد على الأمم والأنبياء من قبل، بأنه إذا جاء رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به، وكذلك أخذ الله على رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يؤمن بالرسل السابقين، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأت ليهدم أديانا، ولكن ليكمل أديانا، وهكذا نرى النص القرآني الجليل:
﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً﴾ [المائدة: ٣].
كأن الأديان السابقة بكل ما جاء فيها من صحيح العقائد، والقصص، والأخبار موجودة في الإسلام، وفوق كل ذلك جاء الإسلام بشرائع تناسب كل زمان ومكان، ولذلك قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديثه الشريف: «إنما مثلى ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بني بنيانا فأحسنه وأجمله وأكمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويقولون ما رأينا أحسن من هذا لولا موضع هذه اللبنة فكنت أنا اللبنة».
إذن فزمام كل الأمر انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد أخذ الله العهد على غيره أن يصدقوه عندما يجيء، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمن وصدق بمن سبق من الرسل، ولم يجيء من بعده شيء يطلب من رسول الله ولا من أمته أن يصدقوه، وقال الحق تذييلا لهذه الآية الكريمة: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.
أي أنه لا يوجد لأتباع أي رسول من الرسل السابقين ما يعطيهم سلطة زمنية، بل المسألة كلها تبدأ من الله، وتنتهي إلى الله. وتلك هي القضية النهائية في موكب
1592
الرسالات. وما دام الإسلام هو ذلك الانقياد الذي يختاره الإنسان لنفسه ليكون منسجما مع نفسه في الإسلام لله، ويكّون انسجاما مع الكون الآخر وما يحتويه من حيوان ونبات وجماد وغيرها في أنه أسلم خضوعا لله، وبذلك يصبح الكون بما فيه الإنسان المؤمن المسلم لله كله مسخَّراً لله سبحانه وتعالى. وما دام الكون بالإنسان قد صار مسخرا لله فلا تضاد في حركة لِتعاند حركة أخرى؛ لأن الذي يهيمن هذه الهيمْنة هو الذي وضع لكل إنسان في مجال حركته في الحياة قانونا يعصمه من أن يصطدم بغيره، وإذا كان البشر قد استطاعوا أن يضعوا لأنفسهم معايير تمنع التصادم في الحركة، ذلك التصادم الذي يؤدي إلى كوارث ومصائب.
مثال ذلك، للنظر إلى السكك الحديدية، ألا يوجد موظف اسمه «المحولجي» ؟ ومعنى هذه الوظيفة هو أن القائم بها يقوم بتحويل القاطرة القادمة من طريق معين إلى مسار محدد حتى لا تدهم قاطرة أخرى جاءت من الطريق نفسه. إن ذلك من فعل الإنسان فيما صنع من قطارات ومواصلات، لقد صنع أيضا وسائل تمنع تصادمها، فما بالنا بالحق - وله المثل الأعلى - وهو الذي خلق الإنسان؟ إنه سبحانه قد وضع المنهج حتى لا تصطدم حركة في الوجود بحركة أخرى.
ولننظر إلى الأشياء التي جاءت بقانون التسخير، والأشياء التي دخلت في ظل الاختيار. أسمعنا أن جملين سارا في طريقين متعارضين واصطدم الجمل بجمل؟ لم يحدث ذلك أبدا، فالجمل يفادي نفسه وما يحمل من الجمل الآخر وما يحمله، لكننا نسمع عن تصادم سيارة مع سيارة، ذلك أن السيارة لا تسير بذاتها بل تسير بقيادة إنسان مختار، وهو الذي يصدم وهو الذي قد تأتي منه في غفلته الكوارث.
إذن فتصادم حركة بحركة إنما ينشأ في الأمور الاختيارية، أو غفلة إنسان عن مهمته، كغفلة «المحولجي» عن عمله في تنظيم مرور القطارات، لكن تصادم حركة في الوجود بحركة أخرى في الوجود هو أمر مستحيل، ولا يحدث أبدا، لأن الأمر الذي ما زال في يد المهيمن الأعلى، مهيمن الأرض والسماء، وهو الله الذي يسير الكون منسجما ويعرفنا بصفاته فيقول: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾
ومعناه: أني أنا القائم بأسبابكم ومدبر أمركم ولا أنام أو تأخذنا سنة أو غفلةاي فناموا أنتم فقد سخرت الوجود كله من أجلكم.
1593
وما دام الأمر في الإسلام هكذا، والوجود ينسجم مع نفسه، فلماذا تشذ أنت أيها الإنسان عن الوجود؟ ولماذا تشِّذُ عن ملكات نفسك؟
لماذا لا تكون منسجما مع الكون؟ إنك إن انسجمت مع نفسك ومع الكون صرت الإنسان السعيد.
وفي عصرنا الحديث نرى ارتقاء العالم ماديا بصورة عالية، بحيث يقع الحدث في أمريكا مثلا فنراه على شاشة التلفزيون فورا، ويركب الإنسان مركبا صاروخيا إلى الفضاء ولكن هل استراح العالم؟ لا، لقد ازداد العالم عناء، وكأنه يكد ذهنه ويرهق العلماء في معاملهم لابتكار أشياء تعطي للعالم مزيدا من القلق والاضطراب وتتصادم وتتعارض. وبذلك صار الكون لا يفرغ أبدا من حرب باردة أو ساخنة.
كل ذلك إنما ينشأ من إدارة أمور العالم بأهواء البشر، فلسنا جميعا مردودون إلى منهج واحد يأمرنا فنأتمر، وينهانا فننتهي، بل كل إنسان يتبع في عمله هواه، لذلك نرى القلق والاضطراب، ونرى الصرخات تملأ الدنيا من أهوال ومصائب، منها مثلا المخدرات هو إنسان غير راضٍ عن واقع حياته، فلا يريد مواجهة حياته، إنما يحاول الهرب منها بالإدمان، ونقول لمثل هذا الإنسان: ليس هذا حلا للمشكلة؛ لأن الإنسان عندما تأتيه مشكلة فهو يحتاج عقلا على عقله ليواجه هذه المشكلة، وأنت بهذا الإدمان إنما تُضَيِّع عقلك، رغم أنك مطالب بأن تأتي بعقل آخر بجانب عقلك لتحل مشكلتك، فالهرب من المشكلة لا يحلها، إنما الهروب غباء وقلة فطنة فالمشكلة زادت تعقيدا ونقول للمجتمعات التي تشكو من مثل هذه البلايا لو أخذتم شرائعكم من منهج الله لكان ذلك حماية لكم من مثل تلك الكوارث.
وهكذا نرى أن كل الابتكارات تُوجه دائما إلى الشر أولا، فإذا لم يوجد لها ميدان شر فإننا نوجهها إلى الخير، ويا ليته خير خالص لوجه الله، لا، إنه خير مجنح ومنحرف عن الخير لأن الذي لا يملك هذا اللون من الاختراعات كالشعوب النامية والعالم الثالث قد جعله المخترعون بوساطة هذه الاكتشافات والاختراعات مستعبدا ومقهورا لهم؛ إنهم جعلوا تقدمهم استعبادا وإذلالا لغيرهم وإن تظاهروا بغير ذلك.
لماذا يحدث كل ذلك؟ لأننا لم نكن منطقيين - كما يجب - مع أنفسنا ولا مع واقع
1594
الأمور النهوضية التي نحن فيها فالطموحات العلمية التي لا حد لها لا يصح أن تسبب لنا كل هذا التعب، بل كان المفروض بعد الوصول إلى تحقيق هذه الطموحات ان نستريح، ولكن لِمَ لم يحدث هذا؟ لأن زمامنا نحن البشر بيد أهوائنا، والأهواء ليست هي اليد الأمينة، إن اليد الأمينة هي شرع الله الذي لم يشرع إلا لمصلحة من خلق، وما دام الإسلام يرسم طريق الأمان مع الخالق والنفس والكون الذي نحياه، بما فيه من الأجناس الأخرى، إذن فالدين عند الله هو الإسلام، وهذه هي النتيجة الحتمية لذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ويتبعها الحق سبحانه بقوله: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ... ﴾
1595
إن الغاية التي تسعد العالم كله هي دين الإسلام، ومن يرد دينا غير ذلك فلن يقبله الله منه. فإن كان هناك من لا يعجبه تقنين السماء ويقول مندهشا: إن في هذا التقنين قسوة؛ إنك تُقطع يد إنسان وتشوهه نرد على مثل هذا القائل: إن سيارة تصدم سيارة تشوه عشرات من البشر داخل السيارتين، أو قطار يصاب بكارثة فيشوه مئات من البشر.
ونحن عندما نبحث عن عدد الأيدي التي تم قطعها في تاريخ الإسلام كله، فلن نجدها إلا أقل كثيرا من عدد المشوهين بالحوادث، وأي ادعاء بالمحافظة على جمال الإنسان مسألة تثير السخرية؛ لأن تقنين قطع يد السارق استقامت به الحياة، بينما الحروب الناتجة عن الهوى شوهت وأفنت المئات والآلاف، إن مثل هذا القول سفسطة، هل معنى تشريع العقوبة أن يحدث الذنب؟ لا، إن تشريع العقوبة يعني تحذير الإنسان من أن يرتكب الذنب.
وعندما نقول لإنسان: «إن قتلت نفسا فسيتولى ولي الأمر قتلك» أليس في ذلك
1595
حفاظ على حياته وحياة الآخرين؟ وحين يحافظ التشريع على حياة فرد واحد فهو يحافظ في الوقت نفسه على حياة كل إنسان، يقول الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٩].
وهكذا يصبح هذا التقنين سليما غاية السلامة، إذن فقول الحق سبحانه: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ يدلنا على أن الذي يشرع تشريعا يناقض ما شرعه الله فكأنه خطأ الله فيما شرع، وكأنه قد قال لله: أنا أكثر حنانا على الخلق منك أيها الإله؛ لأنه قد فاتتك هذه المسألة.
وفي هذا القول فسق عن شرع الله، وعلى الإنسان أن يلتزم الأدب مع خالقه. وليرد كل شيء إلى الله المربي، وحين ترد أيها الإنسان كل شيء إلى ربك فأنت تستريح وتريح، اللهم إلا أن يكون لك مصلحة في الانحراف. فإن كان لك مصلحة في الانحراف فأنت تريد غير ما أراد الله، أما إذا أردت مصلحة الناس فقد شرع الحق ما فيه مصلحة كل الناس؛ لذلك قال الحق: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾.
وقد يقول قائل في قوله تعالى: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ إن هذه العبارة لا تكفي في منحى اطمئنانا إلى جزاء العمل الذي أتقرب به إلى الله، فالله قد يقبل وقد لا يقبل فهو - سبحانه - لا أحد يكرهه على شيء، ونقول له: إنك ستأتي إلى ربك رضيت أو أبيت فما حاجتك إلى هذا القول؟ لو كنت تستطيع، فكن عاقلا ولا تتمرد على أمر ربك، ويقول الحق: ﴿وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾. والخاسر: مأخوذة من «الخسر»، و «الخسر» هو ذهاب رأس المال وضياعه، والآخرة حياة ليس بعدها حياة، ومن الغباء أن يقول قائل: «سوف أتعذب قليلا ثم تنتهي المسألة» لا، إن المسألة لا تنتهي؛ لأن الآخرة حياة دائمة ولا حياة بعدها. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه:
1596
﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَق... ﴾
1597
إننا نرى هنا الأسلوب البديع؛ إن الحق سبحانه يدعونا أن نتعجب من قوم كفروا بعد الإيمان، إنهم لو لم يعلنوا الإيمان من قبل لقلنا: إنهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان، لكن الذي آمن وذاق حلاوة الإيمان كيف يقبل على نفسه أن يذهب إلى الكفر؟ إنه التمرد المركب.
وقد يتساءل إنسان قائلا: مادام الله لم يهدهم، فما ذنبهم؟ نقول له: يجب أن تتذكر ما نكرره دائما، لتتضح القضية في الذهن لأنها قضية شائعة وخاصة عند غير الملتزمين، الذين يقول الواحد منهم: إن الله لم يرد هدايتي، فماذا أفعل أنا؟ إن ذلك استدلال لتبرير الانحراف ومثل هذا القول لا يصدر إلا من المسرف على نفسه، ولا يأتي هذا القول أبدا من طائع لله، إن الذي يقول: «إن المعصية إنما أرادها الله مني، فما ذنبي؟» يجب أن يعرف أن الطاعة من الله، فلماذا لم يقل: «إن الطاعة من الله فلماذا يثيبنا عليها؟ لماذا تغفل أيها العاصي عن ذكر ثواب الطاعة، وتقف عند المعصية وتقول:» إن الله قد كتب على المعصية فلماذا يعذبني؟ «كان يجب أن نقول أيضا:» ما دام قد كتب علي الطاعة فلماذا يعطيني عليها ثوابا؟ «.
إننا نقول لمن يبرر لنفسه الانحراف: إنك تريد أن تأخذ من الطاعة ثوابها، وتريد أن تهرب من عقاب المعصية. وأنت تحتاج إلى أن تفهم الأمر على حقيقته، لقد قلت من قبل: إن»
الهداية «تأتي بمعنيين» هَدَى «أي دل على الطريق الموصلة للغاية المرجوة ولم يصنع شيئا أكثر من ذلك والمثال هو إشارات المرور الصماء؛ إن كل إشارة توضح طريقا معينا وتهدي إليه، وإشارة أخرى توضح طريقا آخر وتهدي إليه. ولا يوجد أحد عند هذه الإشارة يأخذ بيد إنسان ويقول له: أنا سآخذ بيدك وأصلح العربة عندما تقف منك، أو أركب معك لأوصلك إلى غايتك.
1597
إن هذه الإشارة هي هداية فقط، إي أنها دلالة على الطريق الموصلة إلى الغاية المرجوة والله سبحانه وتعالى قد هدى الناس جميعا المؤمن منهم والكافر أيضا، أي دلّهم سبحانه على الطريق الموصل للغاية. وانقسم الناس بعد ذلك إلى قسمين: قسم قبِل هذا المنهج وارتضاه وسار كما يريد الله، وساعة أن راح هذا المؤمن إلى جناب الله وآمن به، فكأن الحق يقول له: إنك آمنت بي وبمنهجي، لذلك ستكون لك جائزة أخرى، وهي أن أعينك وأخفف عليك الأمور، وهذه هي الهداية الثانية التي يعطيها الله جائزة لمن آمن به وارتضى منهجه وتعني» المعونة «، إن الله يعطي عبده المؤمن حلاوة الطاعة، ويجعله مقبلا عليها بنشاط.
إذن فالهداية تكون مرة «دلالة»
وتكون مرة ثانية «معونة» إنني أكرر هذا القول حتى يتضح الأمر في أذهاننا جميعا، ولنذكره دائما، ونقول: مَن يعين الإنسان؟ إن الذي يعينه هو من آمن به، أما من كفر بالله، فلا يعينه الله.
وسبق أن قلت مثلا - وما زلت أضربه -: إن إنسانا ما يسير في طريق ثم التبس عليه الطريق الموصل للغاية كالمسافر إلى الإسكندرية مثلا، وبعد ذلك وجد شرطيا واقفا فسأله: أين الطريق إلى الإسكندرية؟
فيشير الشرطي إلى الطريق الموصل إلى الإسكندرية قائلا للسائل: هذا هو الطريق الصحيح إلى الإسكندرية.
إن الشرطي هنا قد دل هذا الإنسان، لكن عندما يقول السائل للشرطي: «الحمد لله أنني وجدتك هنا لأنك يسرت لي السبيل» فهذا القول يأسر قلب الشرطي، فيزيد من إرشاداته للسائل ويوضح له بالتفصيل الدقيق كيف يصل إلى الطريق، وينبهه إلى أي عقبة قد تعترضه، وإن زاد السائل في شكره للشرطي، فإن ذلك يأسر وجدان الشرطي أكثر، ويتطوع ليركب مع السائل ليوصله إلى الطريق، شارحا له ما يجب أن يتجنبه من عقبات، وبذلك يكون الشرطي قد قدم كل المعونة لمن شكره.
لكن لنفترض أن رجلا آخر سأل الشرطي عن الطريق، فكذب الرجل الشرطي، وفي مثل هذا الموقف يتجاهل الشرطي مثل هذا الرجل، وقد ضربت
1598
هذا المثل للتقريب لا للتشبيه. إن الحق يدل أولا بهداية الدلالة، وقد هدى الله الناس جميعا، أي دلهم على المنهج، فمن ذهب إلى رحابه وآمن به، أعطاه الله هداية ثانية، وهي هداية المعونة والتيسير. ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧].
إن الحق يعطيهم حلاوة الهداية وهي التقوى، كأن الحق يقول للعبد المؤمن: ما دمت قد أقبلت عليَِّ بالإيمان فلك حلاوة الإيمان، أما الذي يكفر، والذي يظلم نفسه بالشرك، فالحق يمنع عنه هداية المعونة؛ لأنه قد رأى هداية الدلالة ولم يؤمن بها. إذن فالاستفهام في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ هو تساؤل يراد به الإنكار والاستبعاد لا عن الهداية الأولى وهي هداية الدلالة، ولكنه عن هداية المعونة، أي: كيف أعين من كفر بي؟
والمقصود بهذا القول هو بعض من أهل الكتاب الذي جاءهم نعت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كتبهم حتى إن عبد الله بن سلام وهو منهم، يقول: لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، ومصداق ذلك ما يقوله الحق سبحانه وتعالى: ﴿الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون﴾
[الأعراف: ١٥٧].
والتعبير القرآني الدقيق لم يقل: يجدون وصفة مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل إنما يقول الحق:
1599
﴿الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧].
كأن الذي يقرأ التوراة والإنجيل يمكنه أن يرى صورة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من دقة الوصف، لقد عرفته التوراة وعرفه الإنجيل معرفة مفصلة وشاملة، مع نطق وقول يؤكد ذلك وهناك فرق بين أن «تعرف» وبين أن «تقول» ؛ فقد يعرف الإنسان ويكتم ما عرف، ولكنهم عرفوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واعترفوا بذلك، فقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا، قال الحق سبحانه: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ [البقرة: ٨٩].
لقد أخذوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل مجيئه نصرة على الكافرين، فقالوا: سيأتي نبي ونتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فماذا فعلوا؟ إن الحق يجيب: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ [البقرة: ٨٩].
إذن هم آمنوا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قبل مجيئه، فلما جاء كفروا به. انظر إلى العدالة من الحق سبحانه وتعالى، حين يريد أن يدلهم على موقف الصدق والحق والكرامة الإيمانية. ﴿قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ [الرعد: ٤٣].
إن الذين عندهم علم الكتاب هم اليهود والنصارى، هؤلاء يشهدون أن محمدا رسول الله، وإن القرآن بعدالته ينصف التوراة والإنجيل وهي الكتب التي بين أيديهم،
1600
﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ﴾ لقد آمنوا به رسولا من منطوق كتبهم، ثم أعلنوها حينما قالوا: «يأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم».
فإذا كانوا قد صنعوا ذلك، فكيف يهديهم الله؟ إنهم ليس لديهم الاستعداد للهداية، ولم يقبلوا على الله بشيء من الحب، لذلك فهو سبحانه لا يعينهم على الهداية ولو أقبلوا على الله لأعانهم قال تعالى: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧].
وهؤلاء لم يهتدوا، فلذلك تركهم الله بدون هداية المعونة، وهذا يوضح لنا معنى القول الحق: ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ [النساء: ٨٨].
إن الذين لم يهتدوا بهداية الدلالة فلم يؤمنوا يضلهم الله أي يتركهم في غيهم وكفرهم، أي أنه ما دام هناك من لم يؤمن بالله فهل يمسك الله بيده ليهديه هداية المعونة؟ لا؛ لأنه إذا لم يؤمن بالأصل وهو هداية الدلالة، فكيف يمنحه الله هداية المعونة؟ وما دام لم يؤمن بالله أكان يصدق التيسيرات التي يمنحها الله له؟ لا. إنه لا يصدقها، ويجب أن تعلم أن هداية الدلالة هداية عامة لكل مخاطب خطابا تكليفيا، وهو الإنسان على إطلاقه، أما هداية المعونة فهي لمن أقبل مؤمنا بالله وكأن الحق يقول له: «أنت آمنت بدلالتي فخذ معونتي» أو «أنت أهل لمعونتي» أو «ستجد التيسير في كل الأمور»، أما الذي كفر فلا يهديه الله..
إن الحق سبحانه لا يعين الكافر؛ لأن المعونة تقتضي ابتداء فعلاً من المُعان، والكافر لم يفعل ما يمكن أن ينال به هذه المعونة، فهو لم يؤمن، لذلك يكون القول الفصل: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ ويكون القول الحق ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ ويكون القول الحق ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾. إن هؤلاء هم
1601
الظالمون الذين ارتكبوا الظلم الأصيل وهو الشرك بالله كما قال الحق: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
والحق عندما يتركهم فإنه يزيدهم ضلالا، ويختم على قلوبهم، فلا يعرفون طريقا إلى الإيمان:
﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَآءَهُمُ البينات والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ [آل عمران: ٨٦].
لقد جاءهم الرسول بالآيات الدالة على صدق رسالته، ولكنهم ظلموا أنفسهم الظلم الكبير العظيم، وهو الشرك بالله، ولكن هل هذه الآية قد نزلت في أهل الكتاب الذين كان عندهم نعت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإشارات وبشارات به؟ أو نزلت من أجل شيء آخر هو أن أناسا آمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم كفروا به؟
إن القول الحق يتناول الفئتين، وينطبق عليهم، سواء أكانوا من أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل من قبل ولم يؤمنوا برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أم من الذين آمنوا برسالة رسول الله ثم كفروا به، كما حدث من بعضهم في عهد الرسول، مثال ذلك طعمة بن أبيرق، وابن الأسلت والحارث بن سويد، هؤلاء أعلنوا الإيمان واتجهوا إلى مكة ومكثوا فيها، تاب منهم واحد وأخذ له أخوه ضمانا عند رسول الله، والباقون لم يتوبوا.
إن القول الحق يتناول الفئتين، وينطبق عليهم جميعا قوله تعالى:
{كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَآءَهُمُ
1602
البينات والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [آل عمران: ٨٦]
ويفصل لنا الحق سبحانه جزاء هؤلاء بقوله الحكيم: ﴿أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ﴾
1603
واللعنة هي الطرد من الرحمة، والله يعلم كل ملعون منهم، وما داموا قد طُرِدوا من رحمة الله فالملائكة وهم المؤمنون بالله إيمان المشهد يرددون اللعنة، والمؤمنون من خلق الله يرددون اللعنة، وكذلك يلعنهم جميع الناس، وكيف يلعنهم كل الناس سواء أكانوا مؤمنين أم كفارا؟ كيف يلعنهم الكافرون؟ إن الكافر عندما يرى إنسانا يرتكب معصية ما فإنه ينزله من نظره ويحتقره وإن لم يكن مؤمنا.
وهَب أن كافرا وجد إنسانا يخرج على المنهج ويفعل معصية ويرتكب جُرماً ألا يلعن الكافر مثل ذلك الإنسان؟ إنه يلعنه لأن الفطرة المركوزة التي فطر الله الناس عليها ترفض ذلك ولا ترتضيه.
وهكذا شاء الحق أن يجعلهم ككفار يتلاعنون فيما بينهم، ونجد أن جميع الناس يلعنونهم كذلك؛ لأنهم قد خرجوا عن منهج الله بالكفر بعد الإيمان، وجرهم ذلك إلى اقتراف الآثام، وهكذا تصبح الملاعنة من الجميع، وهم مع ذلك خالدون في اللعنة قال تعالى:
1603
﴿خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾
1604
ومعنى ﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب﴾ أي أن العذاب يظل دائما أبدا وقد يظن بعض الناس أن الكافر ما دام سيدخل النار ويحترق فسوف ينتهي أمره. لا إنه يغفل قضية ويذكر قضية، إنه يتناسى قول الحق: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [النساء: ٥٦].
إنهم سيذوقون العذاب بأمر من الحق دائما وأبدا، وقد يقول بعضهم: إن العلم قد توصل إلى أن الإنسان تقل حساسيته للألم الناتج من الضرب بالسوط بعد العشرين سوطا الأولى، وهو بذلك ينسى أن العذاب في الآخرة على نمط آخر، إن الله يخلق للمعذب إحساسا جديدا ليظل مستشعرا دائما العذاب، قال الحق: ﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي أن عذابهم مؤكد ولا يتركهم الحق ليستريحوا من عذابهم. وبعد ذلك يقول تعالى: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
والحق سبحانه وتعالى هو الخالق للخلق كلهم، يحب أن يكونوا على ما يود
1604
ويحب؛ لأنهم صنعة الله فهو سبحانه وتعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين
وقد أمر عباده أن يتوبوا إليه توبة نصوحاً أي توبة صادقة خالصة لا رجوع فيها هذه التوبة تتسم بالاقلاع عن الذنب والندم على ما فات والعزم على عدم العودة للذنب مرة أخرى ورد المظالم لأصحابها إن كانت هناك مظالم.
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها».
وهكذا أوجد الحق تشريع التوبة بهدف إصلاح الكون؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة لمن أذنب فإن من غفل عن منهج الله ولو مرة واحدة قد يصير في نظر نفسه ضائعا فاسداً مرتكبا لكل الحماقات، فكأن الله بتشريع التوبة قد ضمن لصاحب الإسراف على نفسه في ذنب أن يعود إلى الله، كما يرحم المجتمع من شرور إنسان فاسد، إذن فتشريع التوبة إنما جاء لصالح الكون، ولصالح الإنسان لينعم بمحبة الله، لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٨٩].
فبرغم كفرهم السابق إلا أن الله برحمته لا يدخلهم في الوعيد؛ لأنهم مطالبون بالتوبة والإصلاح، ومعنى كلمة «أصلح» أنه زاد شيئا صالحا على صلاحه. والكون ليس فيه شيء فاسد. اللهم إلا ما ينشأ عن فعل اختياري من الإنسان وعلى التائب أن يزيد الصلاح في الكون، وهكذا نضمن ألا يجيء التائب إلى الشيء فيفسده؛ لأن من يريد أن يزيد الصالح صلاحا، لن يفسد الشيء الصالح.
وربما كان هؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم في لحظة من لحظات غفلة وعيهم الإيماني ساعة يذكرون الذنب أو الجريرة التي اقترفوها بالنسبة لدينهم، يحاولون أن يجدّوا ويسارعوا في أمر صالح حتى يَجْبُر الله كسر معصيتهم السابقة بطاعتهم اللاحقة.
1605
ولذلك تجد كثيرا من الناس الذين يتحمسون للإصلاح وللخير، هم أناس قد تكون فيهم زاوية من زوايا الإسراف على نفوسهم في شيء، وبعد ذلك يتجهون لعمل الخيرات في مجالات كثيرة جدا، كأن الله يقول لكل منهم: أنت اختلست من محارمي شيئا وأنا سآخذك إلى حلائلي، إنه الحق يجعل من معصية الفرد السابقة سياطا دائمة تلهب ضميره فيتجه إلى الخير، فيتصدق على الفقراء، وربما كان أهل الطاعة الرتيبة ليس في حياتهم مثل هذه السياط.
ولكن الذين أسرفوا على أنفسهم هم الذين تلهبهم تلك السياط، فساعة يرى الواحد منكم إنسانا قد أسرف على نفسه فليدع الله له بالهداية، واعلم تمام العلم أن الله سيُسَخِّر منه ما يفعل به الخير؛ لأن أحدا لن يسرق الكون من خالقه أبدا. وهذا ينطبق على من قال عنهم الله: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ﴾ (وأصلحوا) أي عملوا صلاحات كثيرة لأن حرارة إسرافهم على نفوسهم تلهب ظهورهم دائما، فهم يريدون أن يصنعوا دائما أشياء لاحقة تستر انحرافاتهم السابقة وتذهبها.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ... ﴾
1606
هذه الآية تحدث عن أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم، وازدادوا كفرا، هؤلاء لا تقبل توبتهم وهم الضالون، وقد جاءت مقابلة للآية السابقة، أناس تابوا وأناس لم يتوبوا. لكن كيف يزداد الكفر؟ إنه قد كفر في ذاته، وبعد ذلك كان عائقا لغيره عن أن يؤمن، وهو لا يكتفي بخيبته، بل يحاول أن ينشر خيبته على الآخرين، وفي ذلك ازدياد في الكفر والعياذ بالله، وهذا القول قد نزل في بعض من اليهود الذين آمنوا بالبشارات التي تنبأت بمقدم عيسى عليه السلام، فلما جاء عيسى كفروا به، ولما جاء محمد ازدادوا كفرا.
1606
لقد كفروا بعيسى أولا، ثم ازدادوا كفرا بمحمد وادعوا انهم أبناء الله وأحباؤه، وهؤلاء ليسوا من الذين تابوا. أو أنهم أعلنوا التوبة باللسان، ولم يتوبوا التوبة النصوح، «والراجع في توبته كالمستهزئ بربه». وقانا الله وإياكم هذا المنقلب.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ... ﴾
1607
لقد كفروا، ولقد يقدر الله لهم أن يتوبوا، فماتوا على الكفر، ويريد الله أن يعطينا حكما خاصا بعملهم في الدنيا، وحكما خاصا بما يتلقونه من عذاب في الآخرة، والحكم الخاص بعملهم في الدنيا سببه أن لهم اختيارا، والحكم الخاص بما يتلقونه في الآخرة من عقاب لأنه لا خيار لهم، وهنا للعلماء وقفة، فهل ملء الأرض ذهبا أنهم أنفقوا في حياتهم ملء الأرض ذهبا؟ نقول له: لا ينفعك هذا الإنفاق في أعمال الخير لأن أعمالك حابطة.
هب أن كافرا مات على الكفر وقد أنفق في الخير ملء الأرض ذهبا، نقول له: هذا الإنفاق لا ينفع، مع الخيانة العظمى وهي الكفر، فما دام غير مؤمن بإله، فهو قد أنفق هذا المال من أجل الناس، وصار منفقا على من لا يقدر على أن يجازيه بالخير في الآخرة، لذلك فليس له عند الله شيء، فالذي يعمل عملا، عليه ان يطلب أجرا ممن عمل له، فهل كان الله في بال ذلك الكافر؟ لا؛ لأنه مات على الكفر، لذلك لو أنفق ملء الأرض ذهبا فلن يقبل منه. لقد صنع ذلك الخير وفي باله الناس، والناس يعطونه حقه من الثناء، سواء كان مخترعا أو محسنا أو غير ذلك، إنه ينال أجره من الإنسانية، وينطبق عليه قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «
1607
وفعلت ليقال وقد قيل».
كأن الله يقول له: لم أكن في بالك فلماذا تطلب مني أجرا في الآخرة، لم يكن في بالك أن الملك لي، قال سبحانه: ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦].
وبعض الناس يقول: كيف لا ينال ثواب الآخرة من ملئوا الدنيا بالاكتشافات والابتكارات وخففوا بها آلام الإنسانية؟ ونقول: لقد أعطتهم الإنسانية وخلدت ذكراهم، وأقامت لهم التماثيل والمؤلفات والأعياد والجوائز، لقد عملوا للناس فأعطاهم الناس، فلا بخس في حقوقهم، ذلك أنهم لم يعملوا وفي بالهم الله، وقد صور الحق موقفهم التصوير الرائع فيقول جل شأنه: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب﴾ [النور: ٣٩].
إنه سراب ناتج عن تخيل الماء في الصحراء يتوهمه السائر العطشان في الصحراء نتيجة انعكاسات الضوء، فيظل السائر متجها إلى وهم الماء، إنه يصنع الأمل لنفسه، فإذا جاءه لم يجده شيئا، ويفاجأ بوجود الله، فيندم ويتلقى العذاب، وكذلك لن يقبل منه ملء الأرض ذهبا لو أنفقه في أي خير في الدنيا، وبعد ذلك لن يقبل الله منه ملء الأرض ذهبا، لو افتدى به نفسه في الآخرة، إن كان سيجد ملء الأرض ذهباً وعلى فرض أنه قد وجد ملء الأرض ذهبا، فهل يجد من يقبل ذلك منه؟ لا، إنّه في الحقيقة لن يجد الذهب؛ لأنه في الآخرة لم يعد يملك شيئا: يقول الحق:
1608
﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦].
ويقول سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سواء العذاب يَوْمَ القيامة وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: ٤٧].
﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ أي إن لهؤلاء عذابا أليما؛ لأن كل حدث من الأحداث إنما يأخذ قوته من قوة فاعله، فإذا كان الحدث التعذيبي منسوبا إلى الله وله مطلق القوة والقدرة، لذلك فالعذاب لن يطاق. ولن يجد الظالم من يدرأ عنه هذا العذاب. لأنه لن يجد ناصرا له، ولن يجد شفيعا فلن يأتي أحد ويقول: إن فلانا يتعذب فهيا بنا ننصره، لا يأتي أحد لينصره.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ... ﴾
1609
وتؤدي كل مادة الباء والراء المضعفة إلى معنى «السعة»، ف «البَرّ» أي الواسع والبَرّ أي الأرض المتسعة ومقابله «البحر» وإن قال قائل: «إن البحر أوسع من البر، لأن حجم القارات ليس في حجم البحار والمحيطات التي تفصل بينها:» نقول لمثل هذا القائل «لا، إن حركتك في البر - الأرض - موسعة، وحركتك في البحر مضيقة؛ لأنك لا تتحرك في البحر إلا على شكل خاص، إما أن تتحرك بسفينة أو
1609
حتى على لوح من الخشب، أما حركتك في البر - الأرض - فأنت تمشي أو تركب، تذهب أو تجيء، فمجالك في البر متسع عن مجالك في البحر.
و» البِرّ «هو التقوى، والطاعة، أو هو» الجنة «وكلها معان ملتقية، لأنها تؤدي إلى السعة، فالطاعة تؤدي إلى السعة، وكذلك التقوى، وكذلك الجنة، كلها ملتقية؛ لأن كلها سعة، فأحدهم أخذ معنى الكلمة من مرحلتها الأولى أي بالسبب وهو الطاعة، وبعضهم أخذها من المرحلة الأخيرة أي بالمسبب وهو الجنة، وقد يسأل سائل، لماذا أراد الله أن يجيء بحديث عن النفقة بعد الحديث عن تعذيب الكفار؟ ونقول: إن الحق حين يتكلم عمن يصيبه العذاب الأليم لأنه كفر ومات كافرا، وماله من ناصرين فإن المقابل يأتي إلى الذهن، وهو من آمن وعمل صالحاً، ومات على إيمانه، فله عكس العذاب الأليم وهو النعيم، وسيجد من يأخذ بيده، بينما الكافر لن يجد ناصرين له. إن المؤمن سيجد جزاء الله على الطاعة وهي البر؛ لأن البر هو كل خير، وإن جاء اطلاقه فإنه ينصرف إلى الجزاء من الله وقمته هو الجنة.
وهكذا نرى المقابل لمعاملة الحق للكفار وهو معاملة الحق للمؤمنين، لقد جاء هذا القول في القرآن وهو كلام الله المعجز، وحين يخاطب سبحانه المكلفين بالمنهج. فهو يخاطب بكلامه ملكات إنسانية خلقها هو، إذن فلا بد أن يغذي هذا الكلام كل الملكات المخلوقة لله، فلو كان الخالق للملكات غير المتكلم لكان من الممكن ألا ينسجم الكلام مع الملكات، ولكن الكلام هنا لله الذي خلق، لذلك لا بد أن تنسجم الملكات مع كلام الله.
وفي النفس الإنسانية ملكات متعددة، وهذه الملكات المتعددة متشابكة تشابكا دقيقا فتستطيع حين تخاطب ملكة سمعية أن تحرك مواجيد وجدانية، فإن لم يكن العالم بالملكات عليما بها لما أمكن أن يجيء المنطق موافقا لملكة سمعية، وموافقا لملكات وجدانية قد تتأتى بها طبيعة تداعى المعاني.
و»
تداعى المعاني «هو الخاصية الموجودة في الإنسان، ومعنى» تداعى المعاني «أن الإنسان يستقبل معنى من المعاني فيشير ذلك المعنى إلى معان خبيئة يستدعيها لتحضر في الذهن، فمثلا حين ترى إنسانا تعرفه.
فإن تداعى المعاني يعطيك تاريخك معه
1610
وتاريخه معك، ويصور بخاطرك أيضا صورا عن أهله وأصدقائه، ومعارفه، ويأتي لك تداعى المعاني بالأحداث التي كانت بينك وبينه أو شاهدتها أنت وهذا هو ما نسميه «تداعى المعاني» أي أن المعنى يدعو المعنى.
وحين يخاطب الله سبحانه وتعالى الإنسان، فإنه يخاطب كل ملكة فيه في آن واحد، حتى لا تأخذ ملكة غذاءها، دون ملكة أخرى لا تجد لها غذاء إن كلام الله جاء مستوفيا وكافيا لكل الملكات، ومثال ذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يمنع المشركين من أن يطوفوا بالبيت، وكان المشركون قبل تحريم الله لطوافهم، يطوفون بالبيت، ويأتون من أماكن سحيقة بعيدة ليطوفوا في موسم الحج، وكانوا يأتون بأموالهم لينفقوها على أهل مكة، ويشتروا كل شيء يلزمهم منها، فموسم الحج كان موسما اقتصاديا. وحين يريد الله أن يمنع المشركين من الحج فهو يخاطب المسلمين المقيمين بمكة حتى يحولوا بين المشركين وبين الطواف، وهو سبحانه قد علم - وهو العليم - بما خلق من ملكات، يعلم سبحانه أن ملكة أخرى ستتدخل في هذا الوقت، فيقول: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨].
وعندما ينزل هذا الحكم فلا بد أن تتحرك ملكات في النفس الإنسانية، والحق قد علم أزلا أن ملكة النفعية الاقتصادية عند أهل مكة ستتحرك عند سماع هذا الحكم، بمعنى أن بعضا من المسلمين المقيمين بمكة وقت نزول هذا الحكم قد يقولون: «وإذا كنا نمنع المشركين الذين يفدون علينا بالأموال ليشتروا بضائعنا وموسمهم الاقتصادي هو الذي يعولنا طيلة العام فماذا نصنع إذن؟ إن الله يعلم أنه عند نزول حكم بتحريم البيت على المشركين أن يقربوه فلا بد أن تتحرك في النفس الإنسانية تلك الملكية النفعية، فيقول - سبحانه - عقب ذلك مباشرة: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٢٨].
الخوف من العيلة، أي الخوف من الفقر، وتلك هي عظيمة الكلام الإلهي لأن
1611
رَبّاً يتكلم إن الإنسان حينما يتكلم قد تفوته معان كثيرة، وبعد ذلك قد تحدث ضجة وبلبلة وثورة بين الناس، لكن الحق الأعلى عندما يقول: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ ويتبع ذلك فورا بقوله المطمئن: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ وقد فعل وجبي الحق وجلب إلى البيت الحرام ثمرات كل شيء، وكأنه يقول لنا: لا تعتقدوا أن هذه الثمرات قادمة عن طريق التطوع ولكنها رزق من لدنا، كما جاء في قوله الحق: ﴿وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾
[القصص: ٥٧].
أي أنه ليست هناك حرية لأحد أن يعطي أهل البيت الحرام أو لا يعطي، إنها جباية، لطمأنة الملكية التفعية في النفس، وهو سبحانه يعطي الأمان الاقتصادي الذي يترتب عليه قوام الحياة، وعندما نمعن النظر في آيات القرآن نجد أن هناك آية قد تتقدم وآية قد تتأخر، وآية قد تأتي في الوسط، ونجد أن الآية الوسطى، مرتبطة بتداعي المعاني بالآية التي قبلها، ومرتبطة بتداعي المعاني بالآية التي بعدها، ولذلك لترتوي وتتغذى كل ملكات الإنسان فلا يأتي أمر يوحي بأن هناك ما ينقص النفس البشرية، لنتأمل مثالا لذلك وهو قول الحق: ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير﴾ [المجادلة: ٨].
إن المشركين لم يقولوا لأحد: «إنما قالوا لأنفسهم»، ويكشفهم الحق سبحانه العليم في أخفى خباياهم، ويُظهر ما في أنفسهم، وهو العليم بكل خفايا عباده والكاشف لكل الملكات النفسية في خلقه. وحين يقول الحق سبحانه: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾. فإن الآية تحريض على الإنفاق، وجاءت بعد آية تفيد أن هناك إنفاقا لا يقبله الله في قوله سبحانه:
1612
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ [آل عمران: ٩١].
إذن فهناك لون من النفقة يرفضه الله، وتداعى المعاني في النفس الإنسانية قد يجعل الإنسان يسأل «ما هي إذن النفقة المقبولة؟» لذلك كان لا بد وأن يأتي قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ فإذا كانت هناك نفقة مردودة فهناك أيضا نفقة مقبولة، وهكذا نرى الآية التي تحرص على الإنفاق منسجمة مع ما قبلها. ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، قد يسأل سائل، ولماذا لا ينال الإنسان البر إلا بعد ان ينفق مما يحب؟ وله أن يعرف أن طبيعة النفس الإنسانية هي «الشح» ولهذا جاء في القرآن الكريم: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون﴾ [التغابن: ١٦].
وشح النفس يأتي لأن الإنسان لا يأمن أبدا أن يأتيه العجز من بعد القدرة، لذلك فإنه يحاول إن كان يملك شيئا أن يؤمن العجز المتوهم، فيحافظ على ما عنده من حاجات، ومن هنا جاءت الحيازة والملكية ولم تنشأ هذه الأشياء من أول الخلق، وإنما نشأت من يوم أن ضاقت الأمكنة المُعْطية دون الحاجات، فحين تكون الأمكنة المعطية تسع الحاجات فلا داعي لهذا العجز المتوهم.
لنفترض أن رجلا اشترى صندوقا من البرتقال، ودخل منزله وعندما يحتاج ابن هذا الرجل لبرتقالة أو اثنتين فإنه يأخذ ما يريد، لكن لو أحضر الرجل قليلا من البرتقال فإن زوج الرجل تكون حريصة على أن تقسم البرتقال بين الأولاد حتى لا تترك كل ابن على سجيته بما قد يحرم الآخرين.
وهكذا كان الأمر في بدء استخلاف الله للإنسان في الأرض، فمن أراد الأرض
1613
اخذ، ومن أراد أكل الثمار فهي أمامه، وعندما قلت مُعطيات الحاجات وذلك بضيق الأمكنة المعطية بدأت في الظهور الرغبة في الملكية، وامتياز الأشياء، والحق سبحانه يلفتنا في هذه المسألة وكأنه يقول لنا: إن النفقة لو نظرت إليها نظرة واقعية حقيقية لوجدت أنك أيها العبد مضارب لله في خير الله. ومعنى «مضارب» أي أنك تعمل عند الله بالعقل الذي خلقه لك، وتخطط به، وتعمل عند الله بالطاقة التي خلقها الله، والمادة التي خلقها الله لك تنفعل معها فماذا لك أنت؟
إن كل شيء لله، وأنت مجرد مضارب لا تملك شيئا وما دمت مضاربا أيها العبد، فإعط لله حقه، وحق الله لا يأخذه هو؛ فهو أغنى الأغنياء، إن حق الله يأخذه أخوك غير القادر الذي لا يستطيع أن يتفاعل مع المادة، ولا تظن أيها العبد أن الله حين طلب منك النفقة مما تحب أنه - جل شأنه - قد استكثر عليك ما طلب منك أن تنفقه، إنه ساعة يأخذ منك لأخيك وأنت قادر، إنما يطمئنك أنك إن عجزت فسيأخذ لك من القادرين ذلك هو التأمين في يد الله.
إن الحق يريد أن يحببنا في أن ننفق، لكن الإنسان يحاول أن ينفق مما لا يحب، فيهدي الإنسان الثوب الذي لم يعد صالحا للاستعمال يعطيه لفقير، أو يعطي الحذاء المستهلك لواحد محتاج. لكن الله يأمرنا بأن ننفق مما نحب لذلك انفعل صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما سمعوا هذا النص: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ هذا أبو طلحة حينما يسمعها يقول: يا رسول الله، إن أحب مالي إليّ هو «بيرحاء» فأنا أخرجه في سبيل الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اجعله في أقاربك، فجعله في أقاربه، وهذا زيد بن حارثة يسمع الآية الكريمة فينفعل بها كذلك، وكان عنده فرس اسمه «سَبَل» وكان يحبه، فيقول: يا رسول الله أنت تعلم حبي لفرسي، وأنا أجعله في سبيل الله فأخذه منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجاء بأسامة بن زيد وأركبه الفرس قال زيد: «فوجدت في نفس» أي أنه حزن، وقال زيد: يا رسول الله أنا أردت أن أجعل الفرس في سبيل الله وأنت تعطي الفرس لا بني ليركبه. فقال رسول الله لزيد: «أمَا إنّ الله قبله منك».
وبعد ذلك ينفعل سيدنا أبو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكان عنده إبل، والإبل لها فحل يلقح إناث الإبل، وكان هذا الفحل أحب مال أبي ذر إليه وجاء ضيف إلى أبي ذر
1614
فقال له: إني مشغول، فاخرج إلى إبلي فاختر خيرها لنذبحه لضيافتك. فخرج الضيف، ثم عاد وفي يده ناقة مهزولة، فلما رآها أبو ذر قال: خنتني، قلت لك هات خير الإبل، قال الضيف: يا أبا ذر لقد رأيت خيرها فحلا لك وقدرت يوم حاجتكم إليه. فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي.
إن الصحابي الجليل أبا ذر يعرف أن يوم أن يوضع في الحفرة هو اليوم الجليل الذي يستحق من المرء أن يستعد له.
وسيدنا ابن عمر كان عنده جارية جميلة من فارس، وكان يحبها، فلما سمع الآية، قال: ليس عندي أحب إليّ من هذه الجارية، وأعتقها، وكان من الممكن أن يتزوجها بعد أن أعتقها لكنه قال: لولا أن ذلك يقدح في عتقها لتزوجتها. وسيدنا أبو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يعطينا في مسألة الإنفاق درسا من أروع الدروس المستوعبة للملكة النفسية، فيقول: في المال شركاء ثلاثة: القَدَر لا يستأمرك أن يذهب بخيره وشره من هلك أو موت. أي أن القدر لا يستأذن عبدا في أن يذهب بالمال حيث يريد، فتأتي أي مصيبة فتأخذ المال إلى هلك أو موت. هذا هو الشريك الأول في المال، إنه القَدَر.
والشريك الثاني في المال يوضحه لنا أبو ذر فيقول: إنّه الوارث، ينتظرك إلى أن تضع رأسك، ثم يستاقها وأنت قد سلبت بالموت كل ما تملك في الدنيا وأصبحت من غير أهلها. إن الوارث يقول لنفسه: «فلأستمتع بما ترك لي»، وهذا هو الشريك الثاني في المال.
ويوضح لنا أبو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الشريك الثالث في المال فيقول: والثالث أنت، فإن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن أعجزها، أي إياك أن يغلبك على المال القدر أو الوارث، ينبغي عليك أن تغلب بإنفاق المال في سبيل الله وإلا أخذه منك باقي الشركاء.
إذن لقد انفعل صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالآية حينما نزلت حتى عدا الخير المحبوب منهم إلى غيرهم، وكان جزاء ذلك الجنة. لقد عرفوا قول الحق: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ أي الجنة المترتبة على الطاعة أو
1615
التقوى، أو سعة البركة أو سعة القوة، وكلها معان ملتقية، ولذلك يقول الله في الحديث القدسي: «قد كان العباد يكافِئون في الدنيا بالمعروف وأنا اليوم أكافئ بالجنة».
إن الحق سبحانه الذي يعطي البر ثمنا لنفقة مما تحب يعلم هل أنفقت مما تحب فعلا أو تيممت الخبيث لتنفق منه، فإياك أيها المؤمن أن تخدع نفسك في هذا الأمر، لأن الذي البر ثمنا لنفقه مما تحب يعلم خبايا النفس، لذلك يقول سبحانه: ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾.
وعلم الله شامل، إنه يعلم ما في نيتك، وكيف أنفقت.
ولقد بين الحق سبحانه النفقة المرفوضة حتى ولو كانت ملء الأرض ذهبا، ثم أوضح لنا أن هناك نفقة مقبولة وجزاؤها الجنة، وبذلك نرى التقابل بين النفقتين ولماذا جاء هذا الحديث؟ لقد كذب بعض أهل الكتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مستهل أمر الدعوة وكذبوا البشارة به، والنعت والبشارة جاءا في التوراة والإنجيل، وأنكروا الأوصاف التي ذُكِرت في كتبهم. حدث ذلك مع أنهم قد تورطوا من قبل في إعلان البشارة به ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾.
لقد أراد الله أن يفضحهم في التوراة التي يعتقدون أنها كتابهم وقد حرفوا بعض أحكام الله، وظنوا أن هذه التحريفات ستظل مستورة، لذلك جاء لهم بأحداث ولم ينتبهوا إليها لتقوم الحجة على أنهم قاموا بتحريف التوراة مثلما قلنا من قبل عن الخيبرية التي ارتكبت فاحشة الزنا، وأراد رؤساء اليهود أن يخففوا العقوبة عنها، لأن العقوبة الواردة في التوراة على جريمة الزني هي الرجم وقال هؤلاء الرؤساء: «نذهب إلى محمد، لعل لديه حكما مخففا» فلما ذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وضح لهم أنه الرجم. فقالوا: لا، إنك لم تنصف في حكمك. فبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم إنه يرضى بحكم التوراة التي عندكم وجيء بالتوراة وأمرهم الرسول أن يقرأوا فلما جاءوا إلى آية الرجم أرادوا أن يغفلوها
1616
فقال ابن سلام: إنهم يا رسول الله قد وثبوا وأغفلوا الآية.
وهكذا انتبه الجميع إلى أن رؤساء اليهود أرادوا ان يتخطوا حكما لله موجودا عندهم وأرادوا أن ينكروه، كما فعلوا وأحدثوا في وصف النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومحوا هذا الوصف، ولم يتركوا له أثرا، لكن الله انساهم بعض الأشياء لتكون بينة وآية على رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وعندما أحل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الإبل وألبانها، قالوا: هذه محرمة من أيام إبراهيم ومن قبله من أيام نوح، ولا يمكن أن نقبل تحليلها، فوضح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم أنها ليست محرمة، الله أحلها.
وكان يجب أن يفهموا أن الإبل وألبانها حتى وإن كانت محرمة من قبل إلا أن رسولا قد جاء من عند الله بتشريع له أن ينسخ ما قبله مع أنّ الإبل وألبانها لم تكن محرمة، لذلك أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يحتكم إلى التوراة. وهذه هي العظمة النورانية المحمدية، فلا يمكن أن يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «نحتكم إلى التوراة» إلا وهو واثق أن التوراة إنما تأتي بالحكم الذي يؤيد ما يقول، مع أنه لا يقرأ ولا يكتب. ويحضرون التوراة، فيجدون الكلام مطابقا لما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لذلك قال الله: ﴿كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ... ﴾
1617
وحين يحرم نبي الله يعقوب - إسرائيل - طعاما ما، فهو حر؛ فقد يحرم على نفسه طعاما كنذر، أو كوسيلة علاج أو زهادة، لكن الله لم يحرم عليه شيئا، وما تحتجون به أيها اليهود إنما هو خصوصية لسيدنا يعقوب {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ
1617
إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ} فلماذا تقولون: إن الإبل وألبانها كانت محرمة؟
لقد فعلوا ذلك لأنهم أرادوا أن يستروا على أنفسهم نقيصة لا يحبون أن يُفضحوا بها، وتلك هي النقيصة التي كشفها القرآن بالقول الكريم: ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام: ١٤٦]
إذن فهناك أشياء قد حُرمت على اليهود لأنهم ظلموا، وهذه الآية الكريمة هي التي أوضحت أن الحق قد حرم عليهم هذه الأطعمة لظلمهم. ومعنى: ﴿كُلَّ ذِي ظُفُر﴾ أي القدم التي تكون اصابعها مندمجة ومتصلة، فليست الأصابع منفصلة، ونجدها في الإبل والنعام والأوز، والبط، وهذه كلها تسمى ذوات الظفر ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ يعني الشحم الذي على الظهر. أما «الحوايا» فهي الدهون التي في الأمعاء الغليظة ﴿أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ﴾. أي الشحم الذي يختلط بالعظم إن التحريم هنا لم يكن لأن هذه الأشياء ضارة، ولكن التحريم إنما كان عقابا لهم على ظلمهم لأنفسهم وبغيهم على غيرهم.
وأقول ذلك حتى لا يقول كل راغب في الانفلات من حكم الله ما الضرر في تحريم الأمر الفلاني؟ إن محاولة البحث عن الضرر فيما حرمه الله هي رغبة في الانفلات عن حكم الله. فالتحريم قد يأتي أدبا وتأديبا، ونحن على المستوى البشرى - ولله المثل الأعلى - يمنع الإنسان منا «المصروف» عن ابنه تأديبا، أو يمنع عنه الحلوى، لأن الابن خرج عن طاعة أمه، إذن كان التحريم جزاءً لهم وعقابا قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ
1618
الله كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: ١٦٠ - ١٦١]
وذلك هو الجزاء الذي أراده الله عليهم.
إن التشريع السماوي حينما يأتي لظالم يخرج عن منهج الله فكأنه يقول له ما هو القصد من خروجه عن منهج الله؟ لماذا يظلم؟ لماذا يأخذ الربا؟ لماذا يصد عن سبيل الله؟ لماذا يأكل أموال الناس بالباطل؟ إن الظالم يفعل ذلك حتى يمتع نفسه بشيء أكثر من حقه، لذلك يأتي التشريع السماوي ليفوت عليه حظ المتعة، وكان هذا الحظ من المتعة حقا وحلاًّ له، لكن التشريع يحرمه.
ومثال ذلك القاتل يحرم من ميراث من يقتله؟ لأن القاتل استعجل ما أخره الله وأراد أن يجعل لنفسه المتعة بالميراث، فارتكب جريمة قتل، لذلك يأتي التشريع ليحرمة من الميراث.
كأن التشريع يقول له: «ما دامت نيتك هكذا فأنت محروم من الميراث» والتشريع حين وضع ذلك إنما حمى كل مورث وإلا لكان كل مورث عرضة لتعدى ورثته عليه بالقتل لينتقل إليهم ما يملك، فقال: لا. نحرمة من الميراث وكذلك هنا نجد الظلم بأنواعه المختلفة، الظلم بإنكار الحق والصد عن سبيل الله، وأخذ الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وما دام اليهود قد أدخلوا على أنفسهم أشياء ليست لهم فالتشريع يسلب منهم أشياء كانت حقا لهم.
وكان اليهود في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرغبون ألا يُشاع عنهم هذا الأمر فقالوا: إن هذا الطعام محرم على بني إسرائيل. وبعد ذلك وجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن هذا اللون من الطعام حلال في التوراة، فكشف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الأمر الذي فضحهم.
ولماذا تجيء هذه الآية بعد قوله الحق في الآية السابقة: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ ؟ ونحن نعرف أن آية ﴿لَن تَنَالُواْ البر﴾ قد جاءت بعد آية توضح النفقة غير المقبولة من الله. ولنذكر ما قلناه أولا، عن تداعي المعاني في الملكات
1619
الإنسانية: إن في النفس الإنسانية ملكة تستقبل، فتتحرك ملكة أخرى، وحين يقول الحق: ﴿كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ﴾ فالذين يسمعون هذا سينفعلون انفعالات مختلفة، فالشبعان من الناس لن يلتفت إلى هذه المسألة بانتباه بالغ، ومن عنده بعض الطعام فإن نفسه قد تتحرك إلى ألوان أخرى من الطعام، أما من ليس عنده طعام فلسوف يلتفت بانتباه شديد ليتعرف على الحلال من الطعام والحرام منه.
إذن فقبل أن يأتي الله بالحكم الذي يحلل ويحرم، هذا الحكم الذي يثير عند الجائع شجن الافتقار وشجن ذكر الطعام الذي يسيل له لعابه، إن الحق قبل أن يحرك معدما على غير موجود معه، فإنه يحرك معطيا على موجود معه، لذلك فقبل أن يأتي الحق سبحانه ويذكر الطعام، وقبل أن يُقلب الأمر على النفس الإنسانية التي لا تجد طعاما، نجد الرسول قد نطق قبلها بما أنزله عليه الحق ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾. فبتداعي المعاني في النفس الإنسانية يكون - سبحانه - قد حرك ملكة واجدة ومالكة قبل أن يحرك ملكة معدمة. وهكذا يكون التوازن الذي أراده الله في الكون المخلوق له.
إنه رب يحكم كونه، فلا ينسى شيئا ويذكر شيئا. ﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى،﴾ إن كل شيء في علمه كما قَدّره وهو الخلاق القدير العليم، وهو لا يذكر بعضا من الخلق، وينسى بعضا آخر، فهو قد كتب العدم لحكمة، وأعطى النعمة لحكمة.
لقد جعل الفقير عبرة، ولكنه لم يتركه، وذلك حتى يرى كل إنسان أن القدرة على الكسب ليست إلا عرضا زائلا، فمن الممكن أن يصبح القادر الآن عاجزا بعد دقائق أو ساعات، ومن الممكن أن يصبح القوي ضعيفا، فإذا ما علم القوى أو القادر ذلك فإنه يتحرك إلى إعطاء الآخرين؛ حتى يضمن لنفسه التأمين الإلهي لو صار ضعيفا، فيعطيه الأقوياء، فعندما يأمر الله الأقوياء بأن يعطوا وينفقوا فإن عليهم إن يستجيبوا؛ لأن الواحد منهم لو صار ضعيفا فسوف يأخذ.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ هذا القول قد خدم قضية سبقتها، وهي أنه لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به، ما دام كافرا، إنها نفقة مرفوضة لا اعتبار لها، إنها هدر. ويأتي من بعد ذلك بتحديد النفقة التي ليست هدرا، ثم يفضح اليهود بقضية توجد عندهم في التوراة
1620
ولكنهم كذبوها، وهي قضية تتعرض للطعام، وما دامت القضية تتعرض للطعام فهناك الكثير من الملكات التي يمكن أن تتحرك، فملكات الواجد حين تتحرك فحركتها تكون بأسلوب غير الأسلوب الذي تتحرك به ملكات المعدم. فقيل أن يُحَرِك وجدان المعدم إلى أنه معدم، حتى لا يتلقى ذلك بحسرة، فإنه سبحانه يكون قد عمل رصيدا لهذا المعدم، فيرقق قلب الواجد أولا ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ وبعد ذلك يأتي قوله الحق سبحانه:
﴿كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: ٩٣]
ومعنى كلمة «حل» هو «حلال»، ويقابلها «حرام» وحل هي مصدر، وما دامت مصدرا فلا نقول «هذان حلالان» بل نقول: «هذان حل»، ونقول: «هؤلاء حل» وإن شئت فاقرأ قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: ١٠]
«لا هن» هذه لجماعة النساء، والحل مفرد، وعندما يقول الحق سبحانه: ﴿كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ﴾ فهذا يعني أنه قد حرم بعضا من الطعام على نفسه فهو حر في أن يأخذ أو يترك، أوأنه قد حرمه على نفسه فوافقة الله؛ لأن الناذر حين ينذر شيئا لم يفرضه الله عليه فهو قد ألزم نفسه بالنذر أمام الله.
إن الزمن الذي حرم فيه إسرائيل على نفسه بعضا من الأطعمة هو ﴿مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة﴾ أي أن هذا التحريم لم يحرمه الله، ويأتي الأمر لرسوله الكريم أن يخاطب بني إسرائيل: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ إنه قد كشف سترهم، وعلموا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أن النص الذي
1621
يؤيد صدقه موجود في التوراة، ولهذا لم يأت اليهود بالتوراة، وذلك لعلمهم أن فيها نصا صريحا يصدق ما جاء به رسول الله، ولا يحتمل اللجاجة، أو المجادلة، وما داموا لم يحضروا التوراة فهذا يعني أنهم غير صادقين. ويقول الحق: ﴿فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب... ﴾
1622
إن في هذا القول التحذير الواضح ألا يختلق أحد على الله شيئا لم ينزل به رسول أو كتاب فمن يفتري الكذب على الله لا يظلم إلا نفسه. ويقول الحق بعد ذلك: ﴿قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً... ﴾
يأمر الحق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول: ﴿قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾.
ونعرف أن ملة إبراهيم هي التي سمّت كل المؤمنين بالله المسلمين، والدعوة إلى الإيمان بملة إبراهيم هي لإيضاح أن جوهر الإيمان لا يحتمل الخلاف، فركب الإيمان والرسل والأنبياء هو ركب واحد، وكلمة «اتبعوا» تعني أن هناك مقدما كما أن هناك تابعا. و «الملة» تشمل المعتقدات والتشريعات العامة، كما أن الشريعة تشمل الأحكام، والدين يكون لبيان العقائد.
1622
وقد عرفنا من قبل أن كلمة ﴿حَنِيفاً﴾ تعني الذي يسير على خط مستقيم، ويتبع منهجا قويما ومستويا ونحن نسمى ملتنا «الحنيفية السمحاء» ومع ذلك فالحنف هل ميل في الساقين، اليمين مقوسة إلى اليمين، واليسار مقوسة إلى اليسار، فكيف إذن نقول عن الدين الحق الهادي لمنهج الله وشريعته: إنه حنيف؟
لقد قلنا: إن السماء لا تتدخل بإرسال الرسل إلا حين يعم الفساد، وما دام الفساد قد عم فإن الذي يميل منحرفا عن الفساد هو الذي اهتدى إلى الصراط المستقيم، فالحنيف معناه مائل عن الفساد، فالمائل عن المعوج معتدل، ﴿قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾.
﴿صَدَقَ الله﴾ نعم؛ لأن الصدق هو أن يطابق القول ما وقع فعلا، وحين يتكلم الحق وهو العليم أزلا فما الذي يحدث؟ لا بد أن يوافق الواقع ما يقوله سبحانه وتعالى فليس من المعقول أن يتكلم الله كلاما يأتي على لسان رسول، أو على لسان أتباع الرسول، وبعد ذلك يأتي واقع الحياة فينقض قول الحق ويخالفه، إن الحق العليم أزلا يُنزل من الكلام ما هو في صالح الدعوة إلى منهجه.
إذن فحين يطلق الله قضية من قضايا الإيمان فإنه - سبحانه - عليم أزلا أنها سوف تحدث على وفق ما قال، إن كان الظرف الذي قيلت فيه لا يشجع على استيعابها وفهمها. إن المؤمنين كانوا في أول الأمر مضطهدين، ومرهقين وإن لم يكن للواحد منهم عشيرة تحميه فإنه يهاجر عن البلاد، وإن لم يستطع الهجرة فإنه يُعَذب ويضطهد. وفي هذه الفترة الشديدة القاسية وفي قمة اضطهاد المؤمنين ينزل القول الحق: ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥]
وعندما يسمع سيدنا عمر عليه رضوان الله هذا القول يتساءل: أي جمع هذا؟ إن الواقع لا يساعد على هذا، ثم جاءت بدر، وهزم المؤمنون الجمعَ وولوا الدبر وهذا دليل على أن الله قد أطلق قضية وضمن أنها ستحدث كما قال وكما أخبر، وهذا مطلق الصدق. إن الإنسان يمكنه أن يستبعد الصدق لو أن الذي قال غير الذي
1623
خلق، لكن الذي قال ذلك هو الذي خلق ويخلق ويعلم، فمن أين يأتي التناقض؟ وهذا معنى القول الكريم:
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ [النساء: ٨٢]
إنه قول حق جاء من عند العليم أزلا، ومن العجيب أن أهل الكتاب من يهود ونصارى يتمسحون في سيدنا إبراهيم، فقال بعضهم: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا، وبعضهم قال: إن إبراهيم كان نصرانيا. وكان يجب أن يفهموا أن اليهودية والنصرانية إنما جاءتا من بعد إبراهيم، فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا وهذه الملل قد جاءت من بعده؟ لذلك جاء القرآن الكريم قائلا: ﴿ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: ٦٥]
وقد أوضح الحق بعد ذلك دين إبراهيم عليه السلام: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ [آل عمران: ٦٧]
فكيف يمكن أن يختلقوا على إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ إنه كلام لا يصدر إلا عن قلة فطنة وغفلة بالغة. وعندما يقول الحق عن إبراهيم: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ فهل أهل الكتاب مشركون؟ نعم؛ لأنهم حين يؤمنون بالبنوة لعزير، ويؤمنون بالنبوة لعيسى فهذا إشراك بالله، وأيضا كان العرب عبدة الأصنام يقولون: إنهم على ملة إبراهيم؛ لأن شعائر الحج جاء بها إبراهيم عليه السلام، ولهذا ينزه الحق سبحانه سيدنا إبراهيم عن ذلك، ويقول: ﴿قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ وذلك يدل على أن ملة إبراهيم وما جاء به
1624
موافقة لملة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما جاء به، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام. ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾
1625
لقد عرفنا من قبل كيف كان تداعى المعاني سببا في إرواء الحق لكل ملكات الإنسانية، وقبل هذه الآية التي تتحدث عن بناء البيت الحرام بمكة المكرمة كان هناك حديث عن سيدنا إبراهيم عليه السلام حين قال الحق: ﴿قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ [آل عمران: ٩٥]
وإبراهيم عليه السلام هو أول الأنبياء صلة بالبيت الحرام، وكان رفع قواعد البيت الحرام على يده بعد أن طمر وستر بالطوفان في عهد نوح عليه السلام، فحين يأتي الكلام في رسالة سيدنا إبراهيم عليه السلام فلا بد أن تأتي أكبر حادثة في تاريخ سيدنا إبراهيم، وهي حادثة بناء البيت الحرام، كما أن الحق سبحانه حينما تكلم عن المحاجاة بين المسلمين وعلى رأسهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي يده القرآن، وبين أهل الكتاب وفي أيديهم التوراة المحرفة والإنجيل المحرف أراد سبحانه أن يردنا إلى شيء واحد هو ملة إبراهيم الذي سمانا مسلمين. ومعنى ذلك أن الله يريد منا أن تسيطر قيم السماء على حركة أهل الأرض؛ لأن حركة أهل الأرض إن اتبعت الأهواء تصادمت الحركات، وما دامت الحركات قد تصادمت فإن ما ينتج عنها هو ضياع مجهود الحركة الإنسانية، ويصير هذا المجهود مبددا.
ولكن الإنسان الذي يحمل القيم التي تتركز عقيدة في قلبه - بعد أن يبحثها بفكره - هذا الإنسان له قالب تنفذ به تشريعات الله، ولولا وجود القالب هذا لما استطاع
1625
الإنسان أن يطبق تشريعات الله، ولَمَا استطاع أن يؤدي هذه التشريعات، ولما استطاع أن يطيع الله بجوارحه؛ فالإنسان بغير قالب لا يستطيع أن يؤدي الحركة المطلوبة.
إذن فلا بد للقالب الإنساني - البدن - في التشريع من عملية أخرى وهي أن ينصب القالب ويكون له عمل حين يتوجه إلى بيت واحد لله، وبذلك يصبح للقالب نصيب في العبادة أيضا.
ولهذا كان لا بد أن يوجد للقالب - أيضا - مُتّجَهٌ وهذا المُتجه يحكم القالب نفسه، فكان المؤمن المسلم محكوماً قلبا وقالبا، فحين نأتي للصلاة لنكون في حضرة الله نتحرى أن يكون قالبنا متجها إلى المكان الذي أمرنا الله أن نتوجه إليه، لماذا؟
لأن الحق سبحان وتعالى ساعة يعطي رحمته وبركته وتنزلاته وإشراقاته يريد أن يكون الجسم في وضع مؤهل لاستقبال هذه التجليات؛ ولذلك كان لا بد أن يكون لله بيت يتجه إليه الجميع حتى يعطي للتدين وحدة، فكما أعطى الحق لموكب الرسالات وحدة، فإنه يعطي أيضا وحدة في القالب الإنساني والمتجَه، وكل مكان يعبد الله فيه بالنسبة للإسلام يُعتبر مسجدا، وقد يسر الله الأمر على أمة سيدنا محمد، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
«جعلت لي أرض مسجداً وطهورا».
وكان لقاء الله وعبادته في الديانات السابقة يقتضي مكانا محددا ولكن قد وسع رحمته على أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
إن تراب الأرض طهور، إننا عندما نفتقد الماء الطهور فإن التراب الذي قد يبدو للوهلة السطحية أنه سبب في عدم النظافة قد جعله الله لنا طهورا.
إن الإنسان يمكنه أن يتيمم ويتطهر بالتراب، وكأن الله قد أراد أن يكون لقاء كل فرد من أمة محمد به ميسرا تيسيرا كبيرا. وكل مكان نعبد فيه الله ويسجد فيه المسلم لله يصير مسجدا.
1626
لكن هناك فارقا بين أي مكان نعبد الله فيه والمسجد، فنحن نرى العامل يعبد الله في المصنع والتلميذ يعبد الله في الفصل، والفلاح يعبد الله ويؤدي الفروض في الحقل، ويمكن للسائر في الشارع أن يؤدي صلاته في أي مكان، وأن يزاول عمله بعد ذلك، ولكن حين يُحَيِّز الإنسان مكانا ليكون بيتا لله، فمحظور أن يزاول فيه نشاطا آخر من نشاطات الحياة؛ إنه مكان مُحيز.
إن العبادة كلها مقبولة، ولكن هناك فارقا بين مكان تعمل فيه ومكان تخصصه ليصير مسجدا. فالمسجد هو مكان لا يزاول فيه إلا لقاء الله، لذلك أراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا نستغل هذا الحيز في أي أمر يتعلق بدنيانا، وقد أوضح لنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن الذي يعقد صفقة في المسجد لم يبارك الله فيها، والذي ينشد فيه شيئا ضالا له لن يجده. فقد دعا الرسول ألا يرد الله عليه ضالته.
إن أمور الدنيا يكفيها أن تأخذ من الإنسان كل يوم ثلاثا وعشرين ساعة، فليخصص الإنسان المؤمن ساعة لله وحده، وليخلع كل أغراض الحياة الدنيا كما يخلع النعال على باب المسجد. فليس من حسن الأدب واللياقة أن ينشغل الإنسان بأي شيء غير لقاء الله في الوقت المخصص للقاء الله، وفي المكان المخصص لهذا اللقاء.
فساعة تدخل المسجد ينبغي أن تمنع نفسك من أن يتكلم معك أحد في فضول الكلام ولغوه، وأن تنوي الاعتكاف لتستفيد من وجودك في المسجد. وساعة أن نخصص حيزا ما ليكون مسجدا، فكيف يكون الاتجاه داخل المسجد؟ أيترك الأمر لكل واحد أن يختار له متجها؟
لا، إن المؤمن ملتزم بالاتجاه إلى مكان واحد، هذا المكان الواحد هو بيت لله باختيار الله بينما المساجد الأخرى هي بيوت لله باختيار خلق الله، فبيوت الله باختيار خلق الله متجهها جميعا هو بيت الله الحرام.
وحين تنظر هذه النظرة ستجد العالم متواجها؛ لأن كل عابد سيكون اتجاهه إلى بيت الله مع بقية العابدين لله، فيلتف المؤمنون كلهم حول بيت الله، ويتواجهون، إن وجوهنا كلها تُقابل بعضها بعضا، ولكن ما ضرورة الاتجاه للكعبة؟ والحق سبحانه يقول:
1627
﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١١٥]
نقول: إن هذه الآية تؤيد ما نقوله، فما دام لله المشرق والمغرب، فهذا هو المعنى العام، فالناس أول ما عرفوا الكون تعرفوا على المشرق والمغرب ثم الشمال والجنوب أيضا، وبعد أن توصل العلم إلى تحديد الجهات الفرعية بجانب الجهات الأصلية الأربع المعروفة عرفنا «الشمال الشرقي» و «الشمال الغربي» و «الجنوب الشرقي» و «الجنوب الغربي». إذن فكل المتجهات لله، والاتجاه للكعبة يحقق هذا القول الكريم.
وعندما يتجه إنسان إلى الكعبة فقد يكون الشرق خلفه، ويكون الغرب أمامه، ويتجه إليها إنسان آخر إلى الكعبة، فيتقابل وجهه مع وجه المتجه للكعبة، وثالث يتجه إلى الكعبة، فيكون في زاوية أخرى ناظرا إليها، وهكذا يلتف البشر من الشرق والغرب والشمال والجنوب وكل الجهات الفرعية حول الكعبة.
إذن فقول الحق: ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب﴾ أي جميع الخلق متجه إلى الكعبة، وبذلك لا تكون هناك جهة أولى بالله من جهة أخرى. وأنا لا أريد أن أدخل في متاهة أنّ الكعبة مركز الأرض وأن الأرض خلقت منها؛ لأن الشيء إذا كان مكورا فأي نقطة فيه تكون مركزا للجميع، لذلك فلنترك مثل هذا الكلام، لكن ألا يكفي أن يرجحها أن الله قد اختارها؟ إن ذلك يكفي وزيادة، وبذلك ينتهي الأمر، إنها كذلك؛ لأنها بيت الله باختيار الله، وهذا يكفي.
لقد علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الأشياء التي تقف فيها العقول وليست من صلب العقائد أو الدين لا يصح أن تكون محل خلاف أو جدل. ويقول سيدنا علي كرم الله وجهه عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: سأله رجل، «أذلك أول بيت لله؟» فوضح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن قبله بيوتا، ولكن هو أول بيت وُضِع للناس. هذا إيضاح ان الله قد جعل الكعبة هي أول بيت له يتعبد فيه جنس البشر، وذلك لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾. ولكن إن كانت هناك اجناس سابقة على الجنس البشري فمن المؤكد انه كانت هناك لله بيوت لا نعرفها.
1628
ولذلك فوجود البيت الحرام كبيت لله لا يصطدم مع منطق الناس الذين لا يملكون إلا الثقافة الدينية الضحلة، فساعة أن يسمع الواحد منهم، أن هناك اكتشافا لحفريات من كذا مليون سنة فهو يتساءل قائلا: كيف وآدم لم يمر عليه ملايين السنين؟ لنفترض أن هناك خمسة أجيال لإدريس عليه السلام وثلاثة اجيال لنوح عليه السلام، وأحد عشر جيلاً لابراهيم عليه السلام وثلاثين جيلا لمحمد عليه السلام، وهكذا يكون الوجود البشري محددا بآلاف السنوات لا ملايينها.
لهذا الإنسان نقول: وهل قال لك أحد: إن آدم أول من عَمَرَ الأرض؟ إن الدين لم يقل ذلك، لكن الدين قال: إن آدم هو أول هذا الجنس البشري، ولكنه ليس أول من سكن الأرض، لذلك فليقل العلماء: إن عمر هذه الأرض ملايين السنين ولنسمع جميعا قول الحق تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٩]
إذن فلا مجال لهذا البحث، لذلك قال النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا، بل قبله بيوت».
والحق سبحانه وتعالى يقول ما يوضح أن الجن قد سكنوا الأرض قبلنا: ﴿والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ [الحجر: ٢٧]
ألم يقل الحق سبحانه إن الإنسان خليفة، وردّت عليه الملائكة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠]
1629
إن الذين قالوا ذلك ليسوا من البشر، إذن فكلام الله يؤكد أن الكعبة هي أول بيت وُضع للناس، أي للجنس البشري، ولذلك فلا داعي أن نتكلم في الأشياء التي يقف فيها العقل حتى لا ندخل في متاهة. ولو كان الله قد أراد أن يعلمنا أن الكعبة هي أول بيت في الأرض لقال لنا: «إن أول بيت وضع في الأرض»، ولم يكن قد حدد الجنس الذي وضع البيت من أجله، لكن الحق سبحانه قال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾، ولذلك بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن قبله بيوتا، ولكنه أول بيت وضع للناس. إنه جواب يتسع لكل ما يأتي به العلم.
وحين ننظر إلى القول الحق: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾ ما معنى «أول» ؟ إنه الابتداء، وهل كل ابتداء له انتهاء؟ لا، إن هناك أمورا لها «أول» وليس لها «آخر» ومثال ذلك العدد «واحد» وما بعده ليس له آخر، فآخر ما بعد العدد واحد هو ما يمكن الإنسان أن يحسبه عجزا في التقديرات الدشليونية، ولكن ما بعد الدشليون هناك أعداد أخرى، وكان الإنسان قديما يقف عند الألف، ثم يقول عن المليون «ألف ألف»، وكذلك الجنة لها أول وليس لها آخر.
إذن فأول بيت وضعه الله للناس هو الكعبة. وعندما نرى كلمة «وُضع» نجدها فعلا، ونرى انه قد وُضِع للناس. وما دام هذا البيت قد وضع للناس لذلك فمن اللازم حين تأتي كلمة «ناس» أن يكون هناك «بيت» و «آدم» من الناس، ووالد كل الناس، وكان له بيت وضع له.
وحين يقال: إن البيت قد تم بناؤه قبل آدم فإننا نقول: نعم، لأن آدم من الناس، والله يقول: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس﴾ فلماذا نحرم آدم من أن يكون له بيت عند الله؟ إذن فالبيت موجو من قبل آدم. وبعض الناس تظن أن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى البيت، ولأصحاب هذا الظن نقول: لنفهم القرآن معا، إن مثل هذا القول يناقض القرآن؛ لأن القرآن قد قال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس﴾ وذلك إيضاح أن إبراهيم كان من قبله أناس سابقون له، فكيف لا يكون للناس من قبل إبراهيم بيت؟ ولا يكون للناس من بعد إبراهيم بيت؟
إن الذين كانوا يعيشون قبل مجيء إبراهيم عليه السلام لهم الحقوق نفسها عند الله التي وضعها الله لمن بعد إبراهيم، فلا بد أن الله قد جعل بيته لهم، والنص القرآني
1630
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس﴾ مؤكد ذلك، وما دام قد جاء الفعل مَبْنِيَاَ للمفعول فواضعه غير الناس، ف «وُضِع» هو فعل مبني على مالم يسم فاعله، فمن الذي وضعه؟ هل هم الملائكة؟
قد يصح ذلك وهو أن يكون الملائكة قد تلقوا الأمر من الله بمزاولة هذا البناء ولكن الحق يقول عن هذا البيت إنه: «هدى للعالمين» وهذا يعني أن البيت هدى للملائكة؛ لأنهم عالم، وهذا يعني أن البيت قد وضعه الله من قبل ذلك، إن أحداَ لا يقدر أن يجعل الكون على قدر العقل البشرى، إن على العقل البشري أن يكون في ركاب الكون، وإياك أن تجعل الكون في ركاب عقلك. أما مسألة أن إبراهيم قد بني الكعبة أولاً فهذا عدم فهم للنص القرآني القائل: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾ [البقرة: ١٢٧]
فما هو الرفع؟ إنه إيجاد البُعد الثالث وهو الارتفاع، فالطول والعرض موجودان إذن فهذا دليل على وجود البيت قبل أن يقيم إبراهيم عليه السلام ارتفاع البيت. وهكذا نستنتج أن الذي كان مطموسا هو القاعدة والارتفاع، مع وجود الطول والعرض اللذين يحددان المكان، أما البناء فهو الذي يحدد «المكين» وعندما انهدم البيت الحرام كان الناس يتجهون إلى المكان نفسه. ونحن عندما نصلي في الدور الثالث في الحرم، فإننا نتجه إلى الهواء الموجود من فوق الكعبة، ولو حفرنا نفقا تحت الأرض بألف متر، وأردنا أن نصلي فإننا سنتجه إلى جذر الكعبة، وهكذا نعرف أن جو الكعبة كعبة.
إذن فعمل إبراهيم عليه السلام كان في إيجاد المكين لا المكان، ولنقرأ بالفهم الإيماني ما حدث لإبراهيم عليه السلام. لقد أخذ إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل، وخرج بهما ليضعهما في هذا المكان. «وهاجر» تعرف أن مكونات الحياة هي المياه والهواء والقوت، وهذا المكان لا توجد به حتى المياه، لذلك قالت هاجر سائلة إبراهيم عليه السلام: كيف تتركنا هنا؟ هل أنزلتنا هنا برأيك أم بتوجيه من الله؟
1631
فقال لها إبراهيم عليه السلام: إنه توجيه من الله، لذلك قالت: «لقد اطمأننت، والله لا يضيعنا أبدا».
لم تقلق هاجر لأن إبراهيم اتجه إلى ما أمره الله، وهذا هو الإيمان في قمته، ولو لم يكن الإيمان على هذه الدرجة الرفيعة فأي قلب لأم تترك أب الطفل يذهب بعيدا عنها وتعيش مع ابنها في هذا المكان الذي لا يوجد به طعام أو فيه ماء، فهي لا تؤمن بإبراهيم، ولكنها تؤمن برب إبراهيم وعندما تقرأ القرآن الكريم تجد القول الحق على لسان إبراهيم: ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: ٣٧]
هكذا نعرف أنه ساعة إسكان إبراهيم لذريته كان هناك بيت وأن هذا البيت محرم، وعندما نقرأ عن رفع البيت الحرام نجد أن إبراهيم عليه السلام لم يرفع قواعد البيت بمفرده بل شاركه ابنه إسماعيل عليه السلام. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾ [البقرة: ١٢٧]
هكذا نعلم أن إسماعيل عليه السلام كان قد نضج بصورة تسمح له أن يساعد والده خليل الرحمن في إقامة قواعد البيت الحرام، وهذا يدلنا على أن إسماعيل نشأ طفلا في هذا المكان عندما أسكنه والده إبراهيم عند البيت المحرم، هكذا نتيقن أن البيت المحرم كان موجودا من قبل إبراهيم عليه السلام، وعندما ندقق النظر في معنى كلمة «بكة» التي وردت في هذا القول الكريم: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾ فإننا نعرف أن هناك اسما لمكان البيت الحرام هو «بكة» وهناك اسم آخر هو مكة، وبعض العلماء يقول: إن «الميم» و «الباء» يتعاونان، ونلحظ ذلك
1632
في الإنسان «الأخنف» أو المصاب بزكام، إنه ينطق «الميم» كأنها «باء». والميم و «الباء» حرفان قريبان في النطق، والألفاظ منهما تأتي قريبة المعنى من بعضها.
ولننظر إلى اشتقاق «مكة» واشتقاق «بكة». إننا نقرأ «بكّ المكان» أي ازدحم المكان، وهكذا نعرف من قوله الحق: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾ أي أنه مكان الازدحام الذي يأتي إليه كل الناس وكل الوفود لتزور بيت الله الحرام، ولا أدل على ازدحام البيت الحرام من أن الرجال والنساء يختلط بعضهم ببعض، والإنسان يطوف بالبيت الحرام، ولا يدري أنه يسير وقد يلمس امرأة أثناء الطواف.
و «بكة» هي المكان الذي فيه الطواف والكعبة، أي هي اسم مكان البيت الحرام، «ومكة» اسم البلد كلها الذي يوجد به البيت الحرام. و «مكة» مأخوذة من ماذا؟ إن «مكة» مأخوذة من «مك الفصيل الضرع» أو «امتك الفصيل الضرع»، أي امتص كل ما فيه من لبن، والفصيل كما نعرف هو صغير الإبل أو صغير البقر. وما دام الفصيل قد امتص كل ما في الضرع من لبن فمعنى هذا أنه جائع، ومكة كما نعرف ليس فيها مياه، والناس تجهد وتبالغ في أن تمتص المياه القليلة عندما تجدها في مكة.
وفي كلمة «مباركا» نجد أنها مأخوذة من «الباء والراء والكاف» والمادة كلها تدور حول شيء اسمه الثبات، فهل هو الثبات الجامد، أم الثبات المعطي النامي الذي مهما أخذت منه فإنه ينمو أيضا؟ إننا في حياتنا اليومية نقول: «إن هذا المال فيه بركة مهما صرفت منه فإنه لا ينتهي»، أي أنه ثابت لا يضيع، ويعطي ولا ينفد. وكلمة «بِرْكة» في حياتنا تعني أنها تَجَمعُ الماء تأخذ منها مهما تأخذ فيأتي إليها ماء آخر.
وكلمة «تبارك الله» تعني «ثبت الحق» ولم يزل أزلا ولا يزال هو واحداً أحداً، إنه الثبوت المطلق. وهكذا نجد أن الثبات يأتي في معنى البيت الحرام. إن البيت الحرام مبارك أبدا «كيف» ؟ أليست تضاعف فيه الحسنة؟ وهل هناك بركة أحسن من هذه؟ وهل هناك بركة أفضل من أنه بيت تُجبى إليه ثمرات كل شيء ولا تنقطع؟ فقديما كان الذاهب إلى البيت الحرام يأخذ معه حتى الكفن، ويأخذ الإبرة والخيط، والملح، والآن فإن الزائر لبيت الله الحرام يذهب ليأتي بكماليات
1633
الحياة من هناك. ويقول سبحانه عن هذا البيت الحرام المبارك: إنه ﴿هُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾. ما هو الهدى؟ قلنا: إن الهدى هو الدلالة الموصلة للغاية، ومن يَزُرْ البيت الحرام يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهل اهتدى للجنة أم لا؟ إنه يعرف بزيارة البيت الحرام الطريق إلى الجنة. وحينما ننظر إلى هذه المسألة نجد أن الحق سبحانه وتعالى عندما تكلم عن البيت لم يتكلم إلا عن آية واحدة فيه هي مقام إبراهيم مع أن فيه آيات كثيرة.
قال الحق: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... ﴾
1634
إننا نجد أن صيغة الجمع موجودة في قوله الحق: ﴿فِيهِ آيَاتٌ﴾ و ﴿بَيِّنَاتٌ﴾ وهي وصف الجميع. وبعد ذلك قال الحق: ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ إنه سبحانه لم يذكر إلا مقام إبراهيم بعد الآيات، والمقام آية واحدة، وهذا يدل على أن مقام إبراهيم فيه الآيات البينات، ونحن نقرأ ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ بفتح الميم الأولى في كلمة «مقام» ولا ننطقها «مقام» بضم الميم الأولى لأن المقام بضم الميم تعني مكان إقامة إبراهيم، أما مقام بفتح الميم فمكان القيام، لماذا كان قيام إبراهيم عليه السلام؟
لقد كان إبراهيم يقوم ليرفع قواعد البيت الحرام، وكان إبراهيم يقوم على «حجر». وعندما ننظر إلى مقام إبراهيم فإنك تجد فيه كل الآيات البينات؛ لأن الله طلب من إبراهيم عليه السلام أن يرفع قواعد البيت، وكان يكفيه حين يرفع قواعد البيت أن يعطيه الارتفاع الذي يؤديه طول يديه، وبذلك يكون إبراهيم عليه السلام قد أدى مطلوب الله - كما قلنا من قبل - لكن إبراهيم عليه السلام تعود مع
1634
الله أن يؤدي كل تكليفات الله بعشق وحب وإكمال وإتمام، فقال إبراهيم في نفسه: «ولماذا لا أرفع البيت أكثر مما تطول يداي؟» ولم تكن هناك في ذلك الزمن القديم فكرة «السقالات»، ولم يكن مع إبراهيم عليه السلام إلا ابنه إسماعيل. وأحضر إبراهيم عليه السلام حجرا، ووقف عليه؛ ليرفع القواعد قدر الحجر.
إذن فإبراهيم خليل الرحمن أراد أن ينفذ أمر الله بالرفع للقواعد لا بقدر الاستطالة البدنية فقط، ولكن بقدر الاحتيال على أن يرفع القواعد فوق ما يطلبه الله، وهذا معنى قول الله عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤]
أي أنه أدى مطلوب الله أداء كاملا، ولا أدل على هذا الأداء الكامل من أنه أتى بحجر ليقف عليه ليزيد من ارتفاع البيت قدر هذا الحجر. ونعرف أن الذي ساعده وشاركه في رفع القواعد هو ابنه إسماعيل. ومن أكرمه الله برؤية مقام إبراهيم يجد أن الحجر يسع وقوف إنسان واحد، وهكذا نفهم أن إسماعيل كان يساعد ويناول والده الأحجار، أما مكان الأقدام الموجودة في هذا الحجر، فهذا يعني أن إبراهيم عندما كان يقف ويحمل حجرا من المفروض أن يحمله اثنان فإن هذا يتطلب ثبات القدمين في مكان آمن حتى لا يقع.
فهل يا ترى أن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته ساعة رأى إبراهيم يحتال هذه الحيلة قال لخليله: سأكفيك مؤنة ذلك. وجعل الحق القدمين تغوصان في الحجر غوصا يسندهما حتى لا تقعا.
والذي لا يتسع ذهنه إلى أن الله ألاَنَ لإبراهيم الحجر، نقول له: إن إبراهيم قد احتال، وخاف أن تزل قدمه، فنحت مكانا في الحجر على قدر قدمه حتى تثبت قدمه حين يحمل ويرفع الحجر، وهذه آيات بينات. فخذ ما يتسع ذهنك وفهمك له، إن الله أعان إبراهيم لأنه فكر أن يبني القواعد ويرفعها أكثر مما تطول يداه، وقد مكّن الله له في ذلك وأعانه عليه، ونحن نعلم أن الهداية تكون هداية الدلالة وهداية المعونة.
1635
﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧]
﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾، والآيات هي الأمور العجيبة، وعندما تراها فإنك لا تستطيع أن تنكرها. ودخول البيت يعني الأمن للإنسان الذي يدخله، ونحن نعلم أن البيت قد تم بناؤه في هذا المكان. وهذا المكان تجتمع فيه القبائل، وبين بعض هذه القبائل ثارات ودماء وحروب، لذلك يبيّن الله الوضع الذي بمقتضاه تحقن الدماء ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ لماذا؟ لأنه بيت الرب ولا يصح أن يدخل واحد بيت الرب ويُعاقب حتى ولو كان قد أجرم جرما يوجب الله عليه الحد فيه. ولذلك قال سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب - والده لم أتعرض له.
ولكن يُضَيّق الخناق على المجرم حتى يخرج. وهذا الأمن محدد بأي أمر اقترفه في دنياه، أما من دخله كان آمنا يوم القيامة فالحكم فيه شيء آخر، إنها درجة عالية من فضل الله، والآيات البينات الواضحة في البيت الحرام يراها من زار البيت الحرام، وليحقق الله أمل كل راغب في زيارة البيت الحرام، وأن يكرر الزيارة لمن ذهب وأراد أن يعود للزيارة مرة أخرى. فساعة تدخل البيت الحرام فأنت هنا تتجه إلى مكان في البيت والمقابل لك في الكرة الأرضية يتجه إلى المكان المقابل، إلى أن تصير الاتجاهات مشتملة على الكعبة كلها. ونحن عندما نكون في الكعبة فإننا نوجه وجوهنا إلى المبنى لأننا نراها، ونحن نوجه الوجوه إلى المبنى المقطوع بأنه منها، والحطيم، وهو القوس المبنى حول حجر إسماعيل، هو من الكعبة أيضا، ولكن النفقة قصرت، فجعلوه ليحدد مكان الكعبة، فظل هكذا، فإذا غاب الإنسان عن الكعبة واتجه إليها فإنه يكفي أن يتجه إلى جهتها.
ولذلك نجد الصفوف في الصلاة حول الكعبة تتخذ شكل الدائرة؛ لأن الذين يصلون في داخل الحرم يشاهدونها، أما الذين يصلون خارجها فيكفي أن يتجهوا إلى جهتها ولو طال الصف إلى ألف متر، لذلك فالصف للمصلين خارج الحرم يكون معتدلا، أما في داخل الحرم فالصفوف تأخذ شكل الدائرة لأن أقضى بُعد في الكعبة هو اثنا عشر مترا وربع المتر، ونجد من الآيات العجيبة أنك إذا ما نظرت إلى الحجر الأسود تجد الناس تتهافت على تقبيله، والحجر يمثل أدنى أجناس الكون، ونعلم
1636
جميعا أن الإنسان مستخلف كسيد في الكون، ومن بعده الحيوان أقل منه في الفكر ومسخر، ومن بعد الحيوان يكون جنس النبات، ومن بعد ذلك يأتي جنس الجماد ومنه الحجر.
إننا نرى هذا الإنسان السيد في الكون لا يقبل الله منه النسك القبول التام الحسن إلا إذا قبل الحجر، أو حياه، وهكذا ينقل الحق أعلى الأجناس إلى أدناها. والناس تزدحم حول الحجر، ومن لم يقبل الحجر يحس أنه افتقد شيئا كثيرا، وهكذا ترى استطراقا وسلوكا من الخلق إلى باب الله، فالإنسان المتكبر الذي يتوهم أنه سيد على غيره، يأتي إليه أمر في النسك بتقبيل الحجر أو تحيته بالسلام، وهذا الإنسان برغم أن الحق - سبحانه - يقبل منه أن يحيي الحجر الأسود بالسلام ولم يفرض عليه أن يقبّله ولكنه مع ذلك يحاول أن يقبل الحجر، وهو أدنى الأجناس، لأن الله قد عظمه، وهذا أول كسر لأنف غرور الإنسان، وحتى لا يظن ظان أنها حجرية أو وثنية، يأتي الأمر من الحق برجم حجر آخر.
إذن فالحجرية لا ملحظ لها هنا، فنحن نجد حجرا يُقدس، وحجرا آخر يُرجم. نجد حجرا يقبله الإنسان ويعظمه وحجرا آخر يزدريه ويحقره. وذلك يدل على رضوخنا لإرادة الآمر سبحانه وتعالى فقط، فعندما يأمرنا بأن نعظم حجرا فالمؤمن يؤدي حق التعظيم بالسمع والطاعة، وعندما يأمرنا سبحانه برجم حجر آخر، فالمؤمن يرجم هذا الحجر بالسمع والطاعة لله أيضا، فالذاتية الحجرية لا دخل لها على الإطلاق. وبعض من أصحاب الظن السيء قالوا: إن الإسلام قد استبقى بعض الوثنية.
ولهؤلاء نقول: ولماذا تذكرون تعظيم الحجر الأسود، ولم تذكروا رجم إبليس وهو ثلاثة أحجار؟ لقد عظم المؤمن المؤدي للنسك حجرا واحدا ورجم ثلاثة أحجار، إن المؤمن إنما يطيع أمر الله، فليست للحجر أي ذاتية في النسك أو العبادة. لقد رفعنا الحق من حضيض عبادة الأصنام التي هي عين الكفر، لكنه قال لنا: «قبلوا الحجر الأسود» فقد قبلنا الحجر احتراما لأمر الآمر، وذلك هو منتهى اليقين. لقد نقلنا الحق من مساو إلى مساو، من عبادة الحجر إلى تعظيم وتقديس حجر مثله، لكن الأصنام كانت منتهى الشرك، وتقبيل الحجر الأسود منتهى اليقين. أليست هذه آيات بينات؟
1637
وزمزم التي توجد في حضن الكعبة، أليست آيات بينات؟ إن «هاجر» تترك الكعبة وتروح إلى «الصفا» وتصعد إلى «المروة» بعد أن تضع «إسماعيل» بجانب الكعبة، وتدور بحثا عن المياه. وسعت هاجر سبعة أشواط لعلها ترى طيرا أو تجد إنسانا يعرف طريق المياه لان ابنها يحتاج إلى الشرب، ولو أنها وجدت على الصفا أو المروة مياها في أول سعيها أكانت تجد تصديقا لقولها لإبراهيم عندما جاء بها للإقامة في هذا المكان «إن الله لا يضيعنا» إنها سعت.
وكأن الله يقول لها ولكل إنسان: عليك بالسعي، ولكن لن أعطيك من السعي، إنما أعطيك الماء تحت رجل إسماعيل. إذن فصدقت في قولها: لن يضيعنا الله، لقد جعلها الحق سبحانه تسعى سبعة أشواط، ولا يمكن لامرأة في مثل عمرها أن تقدر على أكثر من ذلك، وهذا يعلمنا أن الإنسان عليه أن يباشر الأسباب، ولكن القلب عليه أن يتعلق بمسبب الأسباب، وهو الله سبحانه، وفي هذا ما يعدل سلوك الناس جميعا. فساعة يرى الإنسان أن البئر مكان قدم إسماعيل وعلى البعد تكون الصفا والمروة، وتسعى بينهما، وبعد ذلك تجد زمزم مكان ضربة قدم إسماعيل، أليس في هذا آيات بينات تهدى الإنسان أن يباشر الأسباب ويأخذ بها، ويتعلق القلب بمسبب الأسباب؟
إن هذا يعطي المؤمن إيمانية التوكل، وهي تختلف عن الكسل و «بلادة التواكل» فإيمانية التوكل هي أن الجوارح تعمل، والقلوب تتوكل، أما الكسل عن الأخذ بالأسباب مع الادعاء بالتوكل فهذه بلادة، ومثل هذا الكسول المتواكل عندما يأتي الأكل أمامه يأكل بنهم وشره، ولو كان صادقا لترك اللقمة تقفز إلى فمه، ولماذا يمضغها إذن؟ لماذا يختار التواكل والكسل، وعدم العمل، ثم يمد يده ليأكل؟ إن هذه هي «صفات التواكل».
إننا نأخذ من سعي «هاجر» وتفجر الماء عبرة، هي الأخذ بأسباب الله، وبعد ذلك فإننا نجد كل إنسان في البيت الحرام مشغولا بنفسه مع ربه، ومن فرط انشغاله يكون غافلا عمّن يكون معه، ولو كان أحب إنسان له فإنه لا يدري به. وساعة تدخل وتنظر إلى الكعبة ينفض من عقلك كل فكر في أي شيء من الأشياء، لا تذكر أولادك أو مالك، لكنك بعد أن تفرغ من المناسك تعود للتفكير في أولادك وعملك، وإلا لو ظل حبك وشوقك وتعلقك ومواجيدك بهذه البقعة لضاق المكان
1638
بالناس جميعا. بعد ذلك يقول الحق سبحانه عن البيت الحرام: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾. وهنا يجب أن نفهم أن هناك فارقا بين أن يكون «الخبر» تاريخا للواقع، وبين أن يكون «الخبر» خبرا تكليفيا فلو كان ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ تاريخا للواقع لتم نقض ذلك بأشياء كثيرة، فقد وجد فيه قوم ولم يأّمَنوا.
ونحن نعرف حادث الاعتداء الأخير الذي حاوله جهيمان منذ سنوات قال الناس: إن جهيمان عندما اعتدى على الناس، لم يستطع حجيج بيت الرحمن أن يكونوا آمنين في البيت وتساءل بعضهم، فكيف قال الحق: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ ؟ بل قال بعض أهل الانحراف: إذن مسألة دخول جهيمان إلى البيت الحرام تجعل ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ ليست صادقة! ولهؤلاء نقول:
إن هناك فرقا بين إخبار الحق بواقع قد حدث، وبين إخبار بتكليف.
إن الإخبار بالواقع كان معناه ألا يدخل أحد البيت الحرام ويهيجه أو يهاجمه أحد أبدا، ولكن الإخبار التكليفي معناه: أن يخبر الله بخبر ويقصد به تكليف خلقه به، والتكليف كما نعرف عرضة لأن يطاع، وعرضة لأن يعصى، فإذا قال الله سبحانه: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ فهذا معناه: يأيها المؤمنون، من دخل البيت الحرام فأمنوه. ونضرب المثل - ولله المثل الأعلى - تقول أنت لولدك: يا بني هذا بيت يفتح للضيوف من دخله يكرم. أهذا يدل على إنجاز الإكرام لكل من دخل هذا البيت وحصوله له بالفعل وأن هذا لا يتخلف أبداً أم أنك قلت الخبر وتريد لولدك أن ينفذه؟
إن هذا خبر يحمل أمرا لابنك هو ضرورة إكرام من يدخل هذا البيت، وتلك الوصية عرضة لتطاع وعرضة لأن تخالف، لذلك فنحن نفهم من قول الحق: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ على أساس أنها أمر تكليفي، عرضة للطاعة وللعصيان، ومثال آخر على ذلك هو قول الله تعالى: ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [النور: ٢٦]
بعض الناس يقول: نجد واقع الحياة غير ذلك، حيث نجد امرأة طيبة تقع
1639
في عصمة رجل غير طيب وتتزوجه. ونجد رجلا طيبا يقع مع امرأة غير طيبة ويتزوجها، فكيف يقول الله ذلك؟ ونحن نرد على أصحاب هذا القول: إن الله لم يقل ذلك تأريخا للواقع. ولكنه أمر تكليفي. أَيْ افعلوا ذلك، وحكمي وتكليفي أن يكون الطيبات للطيبين والطيبون يكونون للطيبات. فإذا امتثل الخلق أمر الحق فعليهم أن يفعلوا ذلك، وإن لم يمتثل بعض الخلق لأمر الحق فإن الواقع بنبيء بحدوث وجود طيبين لغير طيبات أو العكس.
إذن فقول الحق: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ هو خبر يراد به أمر تكليفي، فمن أراد أن يكون صادقا فيما كلفه الله به فليُؤَمن مَن دخل البيت الحرام. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه:
﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾ [آل عمران: ٩٧]
وحين تسمع «ل» و «على»، فافهم أن الفائدة تقع على ما دخلت عليه «اللام»، والتبعة تقع على ما دخلت عليه «على». فحين نقول:: «لفلان عَلَى فلان كذا» فالنفعية لِفلان الأول والتبعة على فلان الثاني. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾. فعلى هذا فالنفعية هنا تكون لله، والتبعة هنا تكون على الناس، لكن لو فطنا إلى سر العبارة لوجدنا أن الله لا ينتفع بشيء من تكليفه لنا، فالحج لله، ولكنه يعود إليك، فما لله عاد إليك، وما عليك عاد لك.
وكل تكليف عليك فأثره لك، فإياك أن تفهم من ذلك القول الكريم: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ أن اللام الأولى للنفعية، وإياك أن تفهم أن «على» هي للتبعة، نعم إن الحج لله، ولكن الفائدة لا تعود إلا عليك، وهو تكليف عليك، وفائدته تعود عليك، فالحق سبحانه وتعالى منزه عن أن يُفيد من حكم من أحكامه، وهو سبحانه حين ينزل حكما تكليفيا فعلى العبد المؤمن أن يعرف أن فائدة الحكم عائدة عليه وعلى حياته، ولله يكون القصد والحج، لا لشيء سواه.
ولماذا يقول الحق: إن على العبد المؤمن أن يحج البيت الحرام؟ لأنه الخالق وهو
1640
خبير وعليم بأن التكليف شاق على النفس، ولكن على المؤمن المكلف حين يجد تكليفا شاقا عليه أن ينظر إلى الفائدة العائدة من هذا الحكم، فإن نظر إلى الفائدة من الحكم وجد أنها تعود عليه، ولذلك يسهل على العبد المؤمن أمر الطاعة. والذي لا يقبل على الطاعة ويهمل الجزاء عليها ويغفل عنه. تكون الطاعة شاقة عليه. والذي يقبل على المعصية ويهمل الجزاء عليها تكون المعصية هينة عليه. ولكن الطائع لو استحضر غاية الطاعة لعلم أنها له لا عليه.
ولو أن العاصي استحضر العذاب على المعصية لعلم أنها عليه لا له؛ فالعاصي قد يحقق لنفسه شهوة، لكنها شهوة عاجلة، أمدها قصير، ولو استحضر العاصي العقوبة على المعصية وقت عملها ما أقدم على معصيته أبدا. ولكن الذين يرتكبون المعصية ينظرون إلى الشهوة الطارئة، ويعزلون جزاء المعصية عنها، ولو أنصفوا أنفسهم، لا يستحضروا العقاب على المعصية في وقت الرغبة في ارتكابها. وحين يستحضرون جزاء المعصية مع المعصية فإن شهوة المعصية تنتهي منهم، وأضرب هذا المثل دائما عن أعنف غرائز الإنسان وهي غريزة الجنس.
هب أن هناك واحدا رأى فتاة جميلة ثم أراد أن ينالها نقول لهذا المتشرد جنسيا: استحضر العذاب على هذا العمل، وإن أخذت هذه الفتاة فتعال لنريك بعينيك ما أعده الله لك حين تتمتع بهذه الفتاة خارجا عن شرع الله، وأوقد له فرنا مسجوراً ومحمّياً، وقُل له: في مثل هذا ستدخل بل وأشد منه إن نلت من الفتاة.
أيقبل هذا المتشرد على ارتكاب تلك المعصية؟ لا؛ فشهوة المعصية تضيع عندما يستحضر العذاب عليها. إن الحق سبحانه يقول: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ والسبيل هو الطريق الموصل للغاية، والطريق الموصل للغاية عادة ما يكون مطروقا، وعندما يتجه الإنسان لأداء فريضة الحج فهو طارق للطريق، أي سيسير عليه، هكذا تعرف أن هناك ثلاثة أشياء:
طارق، وهو من كتب الله عليه الحج وهو المكلف.
وسبيل مطروق.
وغاية، وهي حج البيت.
1641
وما دام الطارق سيسلك طريقا فلا بد أن يكون عنده قدرة على أن يسلك هذا الطريق فكيف تتأتى هذه القدرة؟ إن أول شيء في القدرة هو الزاد، وثاني شيء في القدرة هو المطية التي يركبها، وهكذا نتبين أننا نحتاج إلى زاد وراحلة لطارق الحج.
والسبيل الذي يطرقه، أيكون محفوفا بالمخاطر؟ لا، بل يُفترض أن يكون السبيل آمنا. إذن فالاستطاعة تلزمها ثلاث حاجات، هي: الزاد، والراحلة، وأمن الطريق. والزاد عادة يخص الإنسان نفسه، ولكن ماذا يكون الحال إن كان الإنسان يعول أسرة وصغارا؟
إذا كان الإنسان على هذا الحال فمن الاستطاعة أن يكون قد ترك زادا لمن يعولهم إلى أن يعود. وعلينا أن ننتبه إلى أن الله قال في كل تكليف: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾. ولكنه سبحانه جاء في فريضة الحج بالقول الواضح، بأن الحج لله على الناس وليس لمن أسلموا فقط، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد دعا أهل الكتاب الذين كانوا يتمحكون في إبراهيم عليه السلام أن يحجوا البيت الحرام، فامتنعوا عن الحج، ولو كان الحج للمسلمين المؤمنين برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما عرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على اليهود والنصارى أن يحجوا ليكون ذلك جمعاً لهم على أن يتجه الخلق جميعا إلى بيت الله ويعبدوا إلها واحداً هو ربّ هذا البيت، ولكنهم امتنعوا عن الحج. ولذلك يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيمن لم يحج بدون مرض حابس، أو سلطان جائر، أو فقر وعوز، يقول في الحديث الشريف:
عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا، وذلك أن الله تعالى يقول: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ ».
ولذلك نجد التكليف بالحج قد اتبع مباشرة بقول الحق: ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ فهل يقع من لا يحج بدون مانع قاهر في الكفر؟ هنا يقف العلماء وقفة. العلماء يقولون: نعم إنه يدخل في الكفر، لماذا؟ لأن الكفر عند العلماء نوعان كفر بالله، أو كفر بنعمة
1642
الله، ومثال ذلك قوله - جل شأنه -: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢]
أو هو الكفر، كأن يموت الإنسان يهوديا أو نصرانيا، وهنا نقول: انتبه، لا تأخذ الحكم من زاوية وتترك الزاوية الأخرى. إن المسألة التكليفية يوضحها الحق بقوله: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾. فهل تعارضون في هذا التكليف؟ أو تؤمنون به ولكن لا تنفذونه؟
إن القضية التكليفية الإيمانية هي ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ فهل أنت مؤمن بها أو لا؟ سنجد الإجابة من كل المؤمنين ب «نعم».
ولكن الموقف يختلف مِنْ مؤمن إلى آخر؛ فنحن نجد مؤمنا يحرص على أداء الحكم من الله، وهو الطائع، ونجد مؤمنا آخر قد لا يحرص على أداء الحكم فيصبح عاصيا.
ونجد في هذا الموقف أن الكفر نوعان، هناك من يكفر بحكم الحج، أي من كفر في الاعتقاد بأن لله على الناس حج البيت، وهذا كافر حقا، لكنْ هناك نوع آخر وهو الذي يرتكب معصية الكفران بالنعمة؛ لأن الله أعطاه الاستطاعة من زاد، ومن راحلة، ومن أمن طريق، ومن قدرة على زاد يكفي من يعولهم إلى أن يعود، وهنا كان يجب على مثل هذا الإنسان أن يسعى إلى الحج. لذلك قال بعض العارفين لو أن أحدهم أُخْبِر بأن له ميراثا بمكة لذهب إليه حبواً.
إذن فقوله تعالى: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ هي قضية إيمانية، فمن اعتقدها يبرأ من الكفر، ومن خالفها وأنكرها فهو في الكفر. ومن قام بالحج فهو طائع، ومن لم يفعل وهو مؤمن بالحج فهو عاصٍ.
ولننظر إلى دقة الأداء القرآني حين يقول الحق: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ
1643
العالمين}. قد يقول قائل: ولماذا لم يقل الله: ومن كفر فإن الله غني عنه؟ وقال: ﴿فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾ ؟ ونقول: إنّ الله غنيٌّ عن كل مخلوقاته، وإيّاك أن تفهم أن الذي لم يكفر وآمن، وأدى ما عليه من تكليف، أنه عمل منفعة لله؛ إن الله غني عن الذي أَدّى وعن الذي لم يؤد، إياك أن تظن أن من أدّى قد صنع لله معروفا، أو قدم لله يدا؛ ﴿فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾ عمن لا يفعل، وعمن يفعل. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله... ﴾
1644
وحين تسمع «قل» فهي أمر من الله لرسوله كما قلنا من قبل؛ إنك إذا كلفت إنسانا أن يقول جملة لمن ترسله إليه فهل هذا الإنسان يأتي بالأمر «قل» أو يؤدي الجملة؟ إنه يؤدي الجملة، ومثال ذلك حين تقول لابنك مثلا: «قل لعمك: إن أبي سيأتيك غدا» فابنك يذهب إلى عمه قائلا: «أبي يأتيك غدا».
وقد يقول قائل: ألم يكن يكفي أن يقول الله للرسول: «قل يا محمد» فيبلغنا رسول الله يا أهل الكتاب لم تكفرون؟ كان ذلك يكفي، ولكن الرسول مبلغ الأمر نفسه من الله، فكأنه قال ما تلقاه من الله، والذي تلقاه الرسول من الله هو: ﴿قُلْ ياأهل الكتاب﴾ وهذا يدل على أن الرسول يبلغ حرفيا ما سمعه عن الله وهناك آيات كثيرة في القرآن تبدأ بقول الحق: ﴿ياأهل الكتاب﴾ ولا يأتي فيها قول الحق: «قل». وهناك آيات تأتي مسبوقة ب «قل» «ما الفرق بين الاثنين» ؟
نحن نجد أن الحق مرة يتلطف مع خلقه، فيجعلهم أهلا لخطابه، فيقول: ﴿ياأهل الكتاب﴾ إنه خطاب من الله لهم مباشرة. ومرة يقول لرسوله: قل لهم
1644
يا محمد لأنهم لم يتساموا إلى مرتبة أن يُخاطبوا من الله مباشرة: فإذا ما وجدنا خطابا من الحق للخلق، مرة مسبوقا ب «قل» ومرة أخرى غير مسبوق فلْتعلم أن الحق سبحانه حين يخاطب خلقه الذين خلقهم يتلطف معهم مرة، ويجعلهم أهلا لأن يخاطبهم، ومرة حين يجد منهم اللجاج فإنه يبلغ رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قل لهم.
والمثال على ذلك - ولله المثل الأعلى - في حياتنا، نجد الواحد منا يقول لمن بجانبه: قل لصاحب الصوت العالي أن يصمت. إن هذا القائل قد تَعَالَى عن أن يخاطب هذا الإنسان صاحب الصوت المرتفع فيطلب ممن يجلس بجانبه أن يأمر صاحب الصوت العالي بالسكوت. وحين يجيء الخطاب لأهل الكتاب فنحن نعرف أنهم اليهود أصحاب التوراة، والنصارى أصحاب الإنجيل، وهؤلاء هم من يقول عنهم الحق: ﴿ياأهل الكتاب﴾.
ولم يقل أحد لنا: «يا أهل القرآن» لماذا؟ لأن الحق حين يقول لهم: ﴿ياأهل الكتاب﴾ فنحن نعرف أن الكتاب يُطلق على كل مكتوب، وكفرهم يعارض ما علم الله أنه موجود في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لأنه هو الذي أنزل الكتاب، ويعلم أن ما في الكتاب يدعو إلى الإيمان، ولا يدعو إلى الكفر. وما دام هو الحق الذي نَزَّل الكتاب، وهو الشاهد، فيصبح من الحمق من أهل الكتاب أن يوقعوا أنفسهم في فخ الكفر؛ لأنهم بذلك يكذبون على الله: والله - سبحانه - يسجل عليهم أنهم خالفوا ما هو مكتوب ومنزل عليهم في كتابهم.
إنهم - أهل الكتاب - إن استطاعوا تعمية أهل الأرض فلن يستطيعوا ذلك بالنسبة لخالق الأرض والسماء.
والحق حين يقول: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ فهل نفهم من ذلك أن كفرهم بآيات الله هو سترهم آيات الله سترا أوليا أو أنهم آمنوا بها، ثم كفروا بها؟ لنرى ماذا حدث منهم، لقد كانت البشارات به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكتوبة في التوراة، ومكتوبة في الإنجيل وهم قد آمنوا بها قبل أن يجيء سيدنا رسول الله، فلما جاء رسول الله بالفعل كفروا بها. وفي هذا جاء القول الحكيم: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
1645
عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: ٨٩]
لماذا كفروا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ لأنه زحزح عنهم السلطة الزمنية، فلم تعد لهم السلطة الزمنية التي كانوا يبيعون فيها الجنة ويبيعون فيها رضوان الله ويعملون ما يحقق لهم مصالحهم دون التفات لأحكام الله. وسبق أن قلت: إن قريشا قد امتنعت عن قول: «لا إله إلا الله» وهذا الامتناع دليل على أنها فهمت المراد من «لا إله إلا الله»، فلو كانت مجرد كلمة تقال لقالوها، لكنهم عرفوا وفهموا أنه لا معبود ولا مطاع ولا مشرع، ولا مكلف إلا الله.
إن الحق يقول لأهل الكتاب: ﴿قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً... ﴾
1646
هب أنكم خبتم في ذواتكم، وحملتم وزر ضلالكم؛ فلماذا تحملون وزر إضلالكم للناس؟. كان يكفي أن تحملوا وزر ضلالكم أنتم، لا أن تحملوا أيضا وزر إضلالكم للناس؟
إن الحق - سبحانه - قال: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: ٢٥]
1646
إنه سبحانه قال ذلك مع أنه قد قال: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [فاطر: ١٨]
إن الذي لا يحمل وزرا مع وزره هو الضال الذي لم يُضِل غيره، فهذا يتحمل إثمه فقط. أما الذي يحمل وزر نفسه، ووزر غيره فهو الضال المضل لغيره، وهنا يسألهم الحق سبحانه وتعالى على لسان رسوله: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ﴾.
كأنه يقول لهم ماذا تريدون من الدين الذي يربط العبد بربه؟. إنكم لا تريدونه دينا قيما إنكم تريدون دينا معوجا، والمعوج عن الاستقامة إنما يكون معوجا لِغرض؛ لأن المعوج يطيل المسافة. إنّ الذي يسير في طريق مستقيم ما الذي يدعوه إلى أن ينحرف عن الطريق المستقيم ليطيل على نفسه السبيل؟. إن كان يريد الغاية مباشرة فإنه يفضل الطريق المستقيم. أما الذي ينحرف عن الطريق المستقيم فهو لا ينبغي الغاية المنشودة، بل يطيل على نفسه المسافة، وقد لا يصل إلى الغاية.
والحق يقول: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ وساعة تسمع «عوجا» فإننا قد نسمعها مرة «عوج» بفتح العين. ومرة نسمعها «عوج» بكسر العين. حين نسمعها «عوج» بفتح العين، فالعَوَج هو للشيء الذي له قيام، كالحائط أو الرمح، أما «العِوج» بكسر العين فهو في المعاني والقيم، لذلك يقول لهم الحق عن انحرافهم في المعاني والقيم: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ﴾.
إن الحق يبلغهم: أنتم تبغون الدين عوجا برغم أنكم شهداء على أن ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الحق، إنه جاء مبلغا بالصدق، وكنتم تبشرون برسالة محمد، وكنتم تستفتحون على الذين أشركوا من أهل مكة وتقولون: سيأتي نبي نتبعه ثم نقتلكم معه قتل عاد وإرم. وأنتم - يا أهل الكتاب - شهود على صدق هذا الرسول.
لقد ارتكبوا سلسلة من المعاصي؛ هم ضلوا وجهدوا أن يُضلوا غيرهم. ويا ليت
1647
ذلك يتم عن جهل، ولكنه أمر كان يتم بقصد وعن علم. وبلغت المسألة منهم مبلغ أنهم شهود على الحق. وبرغم ذلك أصروا على الضلال والإضلال. ومعنى «الشهود»، أنهم عرفوا ما قالوا ورأوه رأي العين، فالشهود هو رؤية لشيء تشهده، وليس شيئا سمعته، لذلك يذكرهم الحق سبحانه بقوله: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
إنَّ الرسالة التي جاء بها محمد مبلغا واضحة، وهذا مذكور في كتبكم السماوية. فما الذي يجعلكم - يا أهل الكتاب - لا تلتزمون طريق الحق وأنتم شهود؟ لا بد أنكم قد مستكم شبهة إن الله يغفل عن ذلك، فقال لهم لا: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
وبعد ذلك يأتي قول الحق سبحانه: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾
1648
معنى ذلك أن الله نبّه الفئة المؤمنة إلى أن الذين يكفرون بآيات الله لن يهدأ بالهم ما دمتم أنتم - أيها المؤمنون - على الجادة، وما دمتم مستقيمين، ولن يهدأ للكافرين بآيات الله بال إلا أن يشككوا المؤمنين في دينهم، وأن يبغوها عوجا، وأن يكفروهم من بعد إسلامهم.
وهذه قضية يجب أن ينتبه لها الذين آمنوا؛ لأن الذين يبغون الأمر عوجا قد ضلوا وأضلوا، وهم يشهدون على هذا، ويعلمون أنّ الله غير غافل عما يعملون، فماذا يكون موقف الطائفة المؤمنة؟ إن الحق سبحانه يوضحه بقوله: ﴿ياأيها الذين آمنوا﴾.
1648
إن أهل الكتاب يحاولون أن يصدوا المؤمنين عن سبيل الله، وليس المقصود بالصد، أن هناك من يمنع المؤمنين من الإيمان، لا، بل هي محاولة من أهل الكتاب لإقناع المؤمنين بالرجوع والارتداد عن الإيمان الذي اعتنقوه؛ فالمؤمنون هم الطائفة التي تلتزم بالتكليف من الله، لذلك يحذرهم الحق سبحانه بقوله:
﴿إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب، يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ الحق يحدد قسما من الذين أوتوا الكتاب، وذلك تأريخ بنزاهة وصدق وحق ودون تحامل. كأن الحق سبحانه يبلغنا أن هناك فريقا من أهل الكتاب سيسلكون الطريق السوي، ويجيئون إلى المسلمين أرسالا وجماعات وأفرادا مع الإسلام؛ فالحق لا يتكلم عن كل الذين أوتوا الكتاب. لذلك يقول الحق ﴿إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ إن الحق يؤرخ وهو يحمى الحقيقة، ويقول سبحانه بعد ذلك: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ... ﴾
1649
إنه استعظام وتعجيب من أن يأتي الكفر مرة أخرى من المؤمنين وهم في نعيم المعرفة بالله، فآيات الله تُتلى عليهم، ورسول الله حق ومعهم وفيهم.
ويقول الحق سبحانه للمؤمنين: ﴿إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ إنّ لذلك قصة؛ فقد كان اليهود في المدينة يملكون السلطة الاقتصادية؛ لأنهم يجيدون التعامل في المال، وكل من يريد مالا يذهب إليهم ليقترض منهم بالربا. وكان لليهود أيضا التفوق والتميز العلمي؛ لأنهم يعلمون الكتاب، بينما كان غالبية أهل مكة والمدينة من الأميين الذين لا يعرفون كتابا سماويا. وكذلك كان هناك تميز آخر لليهود
1649
هو خبرتهم بالحرب؛ فلهم قلاع وحصون. هكذا كان لليهود ثلاثة أسباب للتميز:
المال يحقق الزعامة الاقتصادية، والعلم.. بالكتاب وهو تفوق علمي، ثم خبرتهم بفنون الحرب، وكانوا فوق ذلك يحاولون إيجاد الخلاف بين الناس وتعميقه. مثل محاولتهم إثارة العداوات بين الأوس والخزرج. والمتاجرة بذلك حتى تظل الحروب قائمة، وبذلك يضمنون رواج تجارة الأسلحة التي يصنعونها ويمدون بها كل فريق من المتحاربين.
ولما جاء الاسلام وحّد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين الأوس والخزرج وبذلك ضاع منهم التفوق الاقتصادي. وجاء الاسلام بدين وكتاب مهيمن على الكتب، فضاعت من اليهود المنزلة العلمية. وكذلك ضاعت من اليهود المنزلة الحربية؛ فقد رأوا قلة من المؤمنين هزموا الكفار وأنزلوا بهم هزيمة نكراء في بدر، وهكذا ضاع كل سلطان لليهود في المدينة، لذلك أرادوا أن يعيدوا الأمر إلى ما كان عليه قبل أن يجيء الإسلام، فقالوا فلنؤجج ونشعل ما بين الأوس والخزرج من العداوات ونهيجها، وقال شخص اسمه «شأس بن قيس» وقد رأى نور الإيمان يعلو وجوه الأوس والخزرج ويشملهم الانسجام الإيماني. وتوجد بينهم المودة وابتسامات الصفاء، هيَّج ذلك شأس بن قيس وقال: «والله لا بد أن نعيدها جذعة ونرجعهم إلى ما كانوا عليه من أحقاد وعداوات، فلا استقرار لنا ما دامو قد اجتمعوا».
فأرسل فتى من اليهود وجلس بين الأوس والخزرج، ثم تطرق الحديث منه إلى يوم يسمى يوم «بعاث»، وهو اسم يوم من أيام العرب قبل الإسلام، وكان بين الأوس والخزرج، وكان النصر فيه للأوس على الخزرج، وجلس الفتى اليهودي يذكر ويأتي بالشعر الذي قيل في هذا اليوم فهيّج حمية الأوس والخزرج وحدث النزاع، وحصل التفاخر واستيقظ التباغض، وقالوا: «السلاح.. السلاح» وهكذا نجحت المكيدة، ونمى الخبر إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه صحابته، حتى انتهَوْا إلى اجتماع الأوس والخزرج، فوجدوا الحال على أشد درجات الهياج، نزاع، وتباغض، وسلاح محمول، فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أبِدَعْوى الجاهلية وأنا بين أظهركم!!
1650
أي كان من الواجب أن تخجلوا من أنفسكم؛ لأن رسول الله بينكم، وأضاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لقد أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألف بين قلوبكم، فماذا كانت مواقع كلمات الرسول في نفوس القوم؟ لقد دفعتهم كلماته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى إلقاء السلاح، وبكوا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.
وعندما نتأمل ما فعله هؤلاء القوم من اليهود لإشعال الفتنة بين الأوس والخزرج نجد أنهم قد أدركوا طبيعة النزاع القديم بين الأوس والخزرج فأرادوا أن يهيجوا تلك العداوات والأحقاد القديمة، وكذلك نجد أن تهييج المشاعر بين الأوس والخزرج جعل للانفلات بابا فكاد القتال يشتعل، وعندما تكلم فيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هدأت المواجيد، وألقوا السلاح، وندموا على ما فعلوا.
وإذا أردنا أن نرى الأمر بعمق التصور لِمَا حدث فإننا نجد أن إدراك العداوة بين الأوس والخزرج من اليهود هو الذي دفع اليهود لتحريك هذا الإدراك الخاطئ وإحياء الثارات القديمة، ثم كان انفعال الأوس والخزرج بتلك الثارات القديمة قد فتح الباب لحمل السلاح للاقتتال.
وهكذا نجد أن الإدراك للشيء، يمر بثلاث مراتب: أولا: الإحساس بالشيء، ثانيا: انفعال النفس له، ثالثا؛ النزوع السلوكي، وعندما تحدث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أدرك الأوس والخزرج الأمر بطريقة عكسية فألقوا السلاح، وهدأت مواجيد البغضاء، وتركوا الإدراكات الخاطئة.
لقد ذكرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بثلاثة أشياء هي: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية. وألف بين قلوبكم». وقد استقبلوا ذلك بإلقاء السلاح أولا، ثم البكاء ثانيا، وهو أمر حركته المواجيد فيهم ثم تعانقوا أي صححوا الإدراكات ثالثا، وهكذا حدث النزوع بالعكس. ولما حدث ذلك أصاب اليهود الغيظ والخيبة والنكد. وقال المؤرخ لهذه القصة: فما كان يوم في الإسلام أسوأ أولا وأحسن آخراً إلاّ ذلك اليوم.
1651
لقد بدأ اليوم بعبوس، وانتهى بإشراق الطمأنينة، وبعد ذلك وُجدت الخلية التي تكوّن المناعة في نفوس المؤمنين، بعد أن قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك القول: «أبِدَعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذا أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم».
لقد صار هذا القول الكريم مستحضرا عند كل نزع لشيطان، أو كيد لعدو. لقد جعل الحق المناعة ضد فعل الكيد، ونزغ الشيطان عند المؤمنين من الأوس والخزرج، وهكذا نرى أن الله يسخر الكافر حتى في رفعة شأن الإيمان، فلو لم تحدث هذه المسألة ويأتي الرسول صلى الله عليه بمنطقه المؤثر وهو بين القوم ليقول ذلك القول لما أصبح لدى المسلمين هذه المناعة من الارتفاع عن البغضاء فيما بينهم، ولو كان أحد من أتباع الرسول قد قال مثل هذه الكلمة فقد كان من المحتمل أن يحدث هذا الأثر، لكن عندما قالها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد أوجدت المناعة لغيرها من الأحداث التي يأتي وقد لا يكون الرسول موجودا.
ولذلك فأنت أيها المؤمن إن نظرت إلى الكافرين. فإنك تجد عقولهم خائبة. لقد نشروا الإسلام - دون إرادتهم - بمواقفهم الحمقاء، فمثلا حين قالوا: سيأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فما الذي حدث؟
إن الأنصار ساعة أن سمعوا بالدين الجديد قال بعضهم لبعض: اسمعوا يا قوم، إنه الدين الذي بشرتكم به يهود، فقبل أن يسبقونا إليه هيا بنا نسبق نحن اليهود إليه.
لقد كان استعلاء اليهود وتفاخرهم على الأوس والخزرج دافعا للأوس والخزرج على الدخول في الإسلام، وهكذا يجعل الحق سبحانه وتعالى كفر الكافر مؤثرا في تثبيت إيمان المؤمن.
وحين يقول الحق سبحانه: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ نفهم انه استعظام وتعجيب يأتي من الحق. فساعة تسمع: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ فذلك أمر عجيب، لأنه من
1652
المستبعد أن يكفر المؤمنون وكتاب الله يتلى عليهم، ورسول الله فيهم.
ويجيء من بعد ذلك الدعوة إلى الاعتصام بالله، ومعنى الاعتصام: التمسك، ولا يتأتي إلا في علو، فيقال: «اعتصمت بحبل الإيمان» لأن للإنسان ثقلا ذاتيا، هذا الثقل الذاتي إن لم يرفعه سواه، فإنه يقع بالإنسان. وهذا لا ينشأ إلا إذا كان الإنسان معلقا في الجو ويمسك بحبل ولا يوجد من يدفعه إلى أسفل، بل الإنسان بثقله الخاص يهبط إلى الأرض. فمن يعتصم بالله ويمسك بحبل الإيمان فإنه يمنع نفسه من الهُوِيِّ والسقوط.
وهنا نشعر أن الاعتصام بالله هو أن نتبع ما تُلِيَ علينا من الآيات، وما سنه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن فباب الاعتصام هو كتاب الله وسنة رسوله، وكذلك كان وجود الرسول بين أظهرهم هو الأمر الضروري، لأنهم كانوا منغمسين في حمأة الجاهلية، فلا بد أن توجد إشراقة الرسول بينهم حتى تضيء لهم، فيروا أن الله قد أخرجهم من الظلمات إلى النور. ولم يقبض الحق رسوله إلا بعد أن أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا. قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي».
هكذا نرى أن وجود آيات الله، وسنة رسول الله هي العاصم الذي يهدي إلى صراط مستقيم. والهدى كما نعرف هو ما يوصل إلى الغاية المرجوة، فهب أن غايتك أن تذهب إلى مكان معين فالذي يوصلك إلى ذلك المكان هو هدى، وكل ما يدل إنسانا على الموصل للغاية اسمه هدى.
والحق سبحانه وتعالى خلق الخلق جميعا، وجعل بعض الخلق مقهورا، وبعض الخلق مخيرا.
والمقهور من خلق الله هو كافة المخلوقات في الكون ما عدا الإنسان إلا في بعض أموره فإنه مقهور فيها أيضا ولذلك قلنا: إن كل ما عدا الإنسان من خلق الله يؤدي مهمته كما طُلبت منه، فما امتنعت الشمس أن تشرق على الناس يوما، ولا امتنعت الريح أن تهب، ولا امتنعت السماء عن أن تمطر، ولم تقل الأرض للإنسان إنك
1653
تعصي الله فلا أنبت لك، ولا جاء إنسان ليركب الدابة المسخرة فقالت: لا؛ إنك عاصٍ، ولذلك سأحرن فلا أمكنك من ركوب ظهري.
هكذا نرى أن كل شيء ما عدا الإنسان مسخر مقهور للغاية المرجوة منه، وهو خدمة ذلك الإنسان. والإنسان وحده هو الذي له اختيار.. ولذلك يجب أن نتنبه دائما إلى أن الله قد جعل للخلق تسخيرا وتسييرا، وجعل الإجماع في كل الأجناس، ولكن الانقسام جاء عند الإنسان فقال الحق سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ [الحج: ١٨]
إن الجمادات الساجدة المسخرة هي: «الشمس والقمر والنجوم»، والنبات الساجد المسخر هو «الشجر» وكذلك «الدواب» فهي ضمن الكائنات التي عليها حكم الحق بالإجماع، بأنها كلها تسجد خاضعة مسخرة. أما الأنسان فقد قال الحق عنه: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾.
إذن فالانقسام جاء عند من؟ لقد جاء الانقسام عند الإنسان. لماذا؟ لأن الله خلق الإنسان مختارا. ألم يكن من الممكن أن يخلق الإنسان مسخرا كبقية الكائنات؟ أليس التسخير دليلاً على قدرة المسخر، وأن شيئا من خلقه لن يخرج من قدرته هذا صحيح، لكن الحق سبحانه كما أراد أن يثبت القدرة والقهر بالتسخير، أراد أن يثبت المحبوبية بالاختيار. فمن كان مختارا أن يؤمن أو يعصي، ثم اختار أن يؤمن، فهذا الاختيار إنما يثبت به الإنسان المحبوبية لله.
هكذا صنف الله الخلق بين قسم قهري يثبت القدرة، وقسم اختياري يثبت المحبوبية، ولهذا أراد الله للإنسان أن يكون مختارا أن يفعل أو لا يفعل. فلماذا - إذن - لا يفعل الإنسان كل أفعاله وهي منسجمة مع الإيمان؟ لأن للشهوة بريقا سطحيا، وهذا البريق السطحي يجذب الإنسان كما تجذب النارُ الفَرَاش.
1654
عندما يوقد الإنسان ناراً ما في الخلاء فضوؤها يجذب الفَرَاش، ويحترق الفَراش بنيران الضوء؛ فقد جذبه النور وأغراه، ولكنه لم يعرف أن مصرعه في تلك النار.
والحكمة العربية تقول: «رب نفس عشقت مصرعها» كذلك في الشهوات، تتزين الشهوة للإنسان، فتجذبه إليها فيكون فيها مصرع الإنسان.
لكن ما الحماية للإنسان من ذلك؟
إن الحماية هي في منهج الله «افعل». و «لا تفعل» فمن يرد أن ينقذ نفسه من كيد الشيطان وكيد النفس فعليه أن يخضع لمنهج الله في «افعل» و «لا تفعل». وقد قلت قديما: إنه من الحمق أن يصنع صانع صنعةً ما، ثم ينسى أن يضع لها قانون الصيانة. والإنسان في حدود صناعته لا ينسى ذلك، فما بالنا بالحق سبحانه بطلاقة قدرته؟
إن الخالق سبحانه وتعالى قد صنع الإنسان، ووضع الحق سبحانه وتعالى قانون صيانة صنعته في الإنسان فقال جل وعلا: افعل كذا ولا تفعل كذا، فمن أراد أن يعتصم بالحبل المتين فلا يأتي له نزغ شيطان أو كيد عدو ولا هوى نفس. فليعتصم بمنهج الله؛ لأن الله هو الذي خلقه وهو الذي وضع منهجه كقانون لصيانة صنعته، وهو قانون الموجز في «افعل ولا تفعل».
ويقول الحق: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وكلمة الاعتصام أروع ما تكون عندما يكون الإنسان في الهواء معلقا في الفراغ، وهو في أثناء وجوده في الفراغ فإن ثقله الذاتي هو الذين يوقعه ويسقطه، لكن عندما يتمسك الإنسان بمنهج الله فإنه ينقذ نفسه من السقوط والهوى (بضم الهاء وكسر الواو) ومهمة الشيطان أن يزيّن المعصية بالبريق، فتندفع شهوات النفس هائجة إلى المعصية ولذلك يأتي الشيطان يوم القيامة ويأخذ الحجة علينا. يقول الحق: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا
1655
أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: ٢٢]
والسلطان كما نعرف نوعان: النوع الأول هو أن يقهر الشيطانُ الإنسانَ، والشيطان لا قدرة له على ذلك. والنوع الثاني هو أن يقنع الشيطان الإنسان بأن يفعل ذلك الخطأ.
ما الفرق بين الإقناع والقهر في هذا المجال؟
إن القهر هو أن يجبر الشيطان الإنسان على أن يفعل شيئا لا يريده الإنسان. أما الإقناع فهو أن يزين الشيطان الأمر للإنسان فيفعله الإنسان بالاختيار ويعلن الشيطان يوم القيامة: لم يكن لي سلطان أقهرك به أيها الإنسان حتى تعصي الله، لقد زينت لك المعصية أيها الإنسان فاستجبت لي.
إن الشيطان يوم القيامة يقول: ﴿مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ ما معنى «مصرخكم» ؟ إنها مشتقة من «أصرخ»، أي سمع صراخك فأغاثك وأنجدك، فمصرخ: مغيث ومنجد، والشيطان يعلن أنه لن يستطيع نجدة الإنسان، ولا الإنسان بمستطيع أن ينجد الشيطان.
إذن، فثقل النفس البشرية هو ما يوقع الإنسان في الهاوية دون أن يلقيه أحد فيها، ولا إنقاذ للإنسان من الهاوية إلا بالاعتصام بحبل الله. كأن منهج الله هو الحبل الممدود إلينا، فمن يعتصم به ينجو من الهاوية.
وما دمنا نعتصم بحبل الله وهو القرآن المنزل من خالقنا والسنة النبوية المطهرة، وسبحانه يعلم كيد النفس لصاحبها - فلا بد أن يهدينا الله إلى الصراط المستقيم. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه:
1656
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ... ﴾
1657
إن الله قد أعطى المؤمنين المناعة أولا بألا يسمعوا كلام أعداء الدين. وحين نسمع كلمة «اتقوا» فلنفهم أن هناك أشياء تسبب لك التعب والأذى، فعليك أن تجعل بينك وبينها وقاية، ولذلك قال الحق: ﴿واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٣١]
إنه الحق يطلب من الإنسان أن يجعل بينه وبين النار وقاية وحجابا يقيه منها. والحق سبحانه وتعالى حين يقول على سبيل المثال: ﴿واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ [المائدة: ٤]
إي اجعل بينك وبين الله حجابا يقيك من غضبه. وقد يقول قائل: كيف يكون ذلك وأنا كمؤمن أريد أن إعيش في معية الله؟
نقول: إنك تجعل الوقاية لنفسك من صفات جلال الله، وأنت تستظل بصفات الجمال، فالمؤمن الحق هو من يجعل لنفسه وقاية من صفات جلال الله، وهي القهر والجبروت وغيرها، وكذلك النار إنّها من جنود صفات الجلال. فحين يقول الحق: ﴿اتقوا النار﴾ أو ﴿اتقوا الله﴾ فالمعنى واحد. وعندما يسمع إنسان قول الحق سبحانه: ﴿اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ ماذا تعني (حق تقاته) ؟ إن كلمة «حق» - كما نعرف - تعني الشيء الثابت الذي لا يزول ولا يتزحزح، أي لا ينتهي ولا يتذبذب، هذا هو الحق.
إذن ما حق التقي؟ هو أن يكون إيمانك أيها المؤمن إيمانا راسخا لا يغادرك ولا تتذبذب معه، واتقاء الله حق تقاته هو اتباع منهجه، فيطاع الله باتباع المنهج
1657
فلا يعصي، ويُذكر فلا ينسى، ويُشكر ولا يُكفر. وطريق الطاعة يوجد في اتباع المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» ويذكر ولا ينسى؛ لأن العبد قد يطيع الله، وينفذ منهج الله، ولكن النعم التي خلقها الله قد تشغل العبد عن الله، والمنهج يدعوك أن تتذكر في كل نعمة من أنعم بها، وإياك أن تنسيك النعمة المنعم.
ويشكر العبد الله ولا يكفر بالنعم التي وهبها له الله. وما دمت أيها العبد تستقبل كل نعمة وتردها إلى الله وتقول: «ما شاء الله، لا قوة إلا بالله» ولا تكفر بالنعم أي أنك تؤدي حق النعمة، وكل نعمة يؤدي العبد حقها تعني أنها نعمة شكر العبد ربه عليها، ولم يكفر بها.
وقيل في معنى: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي أَنه لا تأخذك في الله لومة لائم، أو أن تقول الحق ولو على نفسك. هذا ما يقال عنه «حق التقى»، أي التقى الحق الذي يعتبر تقى بحق وصدق. وقال العلماء: إن هذه الآية عندما نزلت وسمعها الصحابة، استضعف الصحابة نفوسهم أمام مطلوبها، فقال بعضهم: من يقدر على حق التقى؟ ويقال: إن الله أنزل بعد ذلك: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾
[التغابن: ١٦]
فهل معنى هذا أن الله كلف الناس أولا ما لا يستطيعون، ثم قال من بعد ذلك: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ ؟ لا، إنه الحق سبحانه لا يكلف إلا بما في الوسع، والناس قد تخطئ الفهم لقوله تعالى: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ فيقول العبد: أنا غير مستطيع أن أقوم بذلك التكليف، ويظن هذا العبد أن التكليف يسقط عنه. لا، إن هذا فهم خاطئ؛ إن قوله الحق: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ أي إنك تتقي الله بما كان في استطاعتك من الوسع، فما باستطاعتك أن تقوم به عليك أن تقوم به. فلا يهرب أحد إلى المعنى المناقض ويقول: أنا غير مستطيع؛ لأن الله يعلم حدود استطاعتك.
وساعة تكون غير مستطيع فهو - سبحانه - الذي يخفف.. إنك لا تخفف أنت على نفسك أيها العبد، فالخالق الحق هو الذي يعلم إذا كان الأمر خارجا عن
1658
استطاعتك أو لا، وساعة يكون الأمر خارجاً عن استطاعتك فالله هو الذي يخفف عنك. ولذلك فعلى الإنسان ألا يستخدم القول الحق: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]
في غير موضعه؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يقدر الوسع، ثم يبني التكليف على الوسع. بل عليك أن تفهم أيها الإنسان أن الله هو الذي خلق النفس، وهو الذي أنزل التكليف لوسع النفس، وما دام الخالق للنفس هو الله فهو العليم بوسع النفس حينما قرر لها المنهج. إنه سبحانه الذي كلف، وهو العليم بأن النفس قد وسعت، ولذلك فهو لا يكلف نفسا إلا وسعها. فإن كان سبحانه قد كلف فأعلم أيها العبد أنه سبحانه قد كلف بما في وسعك، وعندما يحدث للإنسان ما يشق عليه أو يمنعه من أداء ما كلف به تامّاً فهو - سبحانه - يضع لنا التخفيف وينزل لنا الرخص. مثال ذلك: المريض أو الذي على سفر، له رخصة الإفطار في رمضان، والمسافر له أن يقصر الصلاة.
إذن فالله سبحانه هو الذي علم حدود وسع النفس التي خلقها، ولذلك لا تقدر وسعك أولا ثم تقدر التكليف عليه، ولكن قدّر التكليف أولا، وقل: ما دام الحق قد كلف فذلك في الوسع. وفي تذييل الآية الكريمة بقوله: ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ نجد أنفسنا أمام نهي عن فعل وهو: عدم الموت إلا والإنسان مسلم.
كيف ذلك؟ أيقول لك أحد: لا تمت؟ إن ذلك الأمر ليس لك فيه اختيار؛ لأنه أمر نازل عليك. فإذا قيل لك: لا تمت، فإنك تتعجب؛ لأن أحدا لا يملك ذلك، ولكن إذا قيل لك: لا تمت إلا وأنت مسلم، فأنت تفكر، وتصل بالتفكير إلى أن الفعل المنهي عنه: لا تمت ليس في قدرة الإنسان؛ ولكن الحال الذي يقع عليه الفعل وهو: إلا وأنت مسلم، في قدرة الإنسان؛ لذلك تقول لنفسك: إن الموت يأتي بغير عمل مني، ولكن كلمة: إلا وأنت مسلم، فهي باستطاعتي، لأن الإسلام يكون باختياري.
صحيح أنك لا تعرف متى يقع عليك الموت؟ ولذلك تحتاط والاحتياط يكون بأن تظل مسلما حتى يصادفك الموت في أي لحظة وأنت مسلم.
1659
إذن.. فقول الله: ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ هو نهي عن الفعل الأول وهو ليس باختيارنا. والحال الذي لنا فيه اختيار هو ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ فكيف نوفق بين الأمرين؟ إن الموت لا اختيار لأحد منا متى يقع عليه، ولذلك نأتي إلى الأمر الذي لنا فيه اختيار، وهو أن نحرص على أن نكون مسلمين، ويظل كل منا متمسكا بأهداب الإسلام، فإن صادف الموت في أي لحظة يكون مسلما وكأن الحق سبحانه يقول لنا: تمسكوا بإسلامكم؛ لأنكم لا تدرون متى يقع عليكم الموت.
وإخفاء الموت عن الإنسان ليس إبهاما كما يظن البعض، لا؛ إنه منتهي البيان الواسع؛ لأن إخفاء الموت، وميعاده عن الإنسان زمنا وحالا، وسنا وسببا، كل ذلك يوضح الموت أوضح بيان. لماذا؟ لأن الله حين استأثر بعلم الموت فالإنسان منا يترقب الموت في أي لحظة وما دام الإنسان مترقبا للموت في أي لحظة فهذا بيان واسع بل هو أوسع بيان. ويقول الحق بعد ذلك: ﴿واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ... ﴾
1660
جاء هذا القول الكريم لينبه كل المؤمنين، من خلال التنبيه للأوس والخزرج، وكأنه يقول: اعلموا أن التفاخر قبل الإسلام كان وبأشياء ليست من الإسلام
1660
في شيء. لكن حين يجيء الإسلام فالتفاخر يكون بالإسلام وحده فإذا ما تغاضى إنسان بما قبل الإسلام بقوله: منا كذا.. ومنا كذا. فهنا يأتي الردّ: لا؛ إن ذلك قبل الإسلام.
وقد حدث أن قال الأوس من بعد الإسلام: «منا خزيمة» فقال واحد من الخزرج: ومنا أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت فقال واحد من الأوس: منا حنظلة ابن الراهب وحنظلة هذا هو غسيل الملائكة، وخزيمة بن ثابت صحابي جليل جعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شهادته بشهادتين؛ لأن خزيمة صاحب إيمان نوراني. ونورانية اليقين هدته إلى الحكم الصواب؛ «فقد اشترى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرسا من أعرابي وذهب ليحضر له الثمن، ولكن الأعرابي أنكر البيع لأن بعض الناس زاده في ثمن الفرس دون علم أن الرسول قد اشتراه فنادى الأعرابي الرسول وقال له إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته.
فقال النبي للرجل:»
ألست قد ابتعته منك «. فقال الرجل هات شاهدا يشهد بذلك. لقد انتهز الرجل فرصة أن النبي ابتاع منه دون وجود أحد في هذا الوقت، وكان سيدنا خزيمة جالسا لحظة مطالبته للنبي بشاهد. فقال سيدنا خزيمة: أنا أشهد يا رسول الله أنك قد بايعته.
ولأن الرجل كاذب، قال لنفسه: لعل خزيمة رآنا وأنا أبيع الفرس للنبّي فسكت الرجل وانصرف، وبعد أن انصرف الرجل نادى الرسول خزيمة. وقال له:»
يا خزيمة بم تشهد ولم تكن معنا؟ «فقال: أنا أصدقك في خبر السماء ولا أصدقك بما تقول؟ أعلم أنك لا تقول إلا حقاً قد آمناك على أفضل من ذلك، على ديننا. فعلم الرسول أن لخزيمة نورانية التصديق وحسن الاستنباط، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» من شهد له خزيمة فحسبه «».
فالأمر الذي يحتاج شاهدين تكفي فيه شهادة خزيمة، وبذلك أعطى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الوسام لخزيمة وجعل شهادته شهادة رجلين، ولنر كيف جمع الله بين الأوس والخزرج في جمع القرآن، قال زيد بن ثابت:
1661
فآليت على نفسي ألاّ أكتب آية إلاّ إذا وجدتها مكتوبة وشهد عليها اثنان، إلاّ آخر التوبة فوجدتها مكتوبة ولم يشهد عليها إلاّ خزيمة، وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قال في خزيمة: «من شهد له خزيمة فحسبه» ولنا أن نعرف أن زيد بن ثابت من الخزرج وأن خزيمة من الأوس. لقد جمعهما الله في جمع القرآن، فنفع الأوسي الخزرجي، وذلك ليدلنا الحق سبحانه دلالة جديدة، وهي أن التفاخر قبل الإسلام كان بغير الإسلام، لكن ساعة يجيء الإسلام فأي واحد من أي جنس ما دام قد أحسن الإسلام، فله أن يفخر به، فإياك يا أوسيّ أن تقول: «منا خزيمة» ؛ فالخزرجي له الفخر بخزيمة أيضا، وليس للخزرجي أن يقول: «منا زيد بن ثابت» فللأوسي أيضا أن يفخر به، لأن كُلاًّ منهما قد جمعه الله بالآخر في القرآن، والإسلام، وهكذا يكون الاعتصام بحبل الله.
يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ إنّ الحرب ظلت مستعرة بين الأوس والخزرج مائة وعشرين عاما مع أن أصل القبيلتين واحد، هما أخوان لأب وأم وعندما جاء الإسلام ألف الله بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا.
وهذا يدلنا على أن كل نزغةِ جارحةٍ من الجوارح لا بد أن يكون وراءها هبة قلب وثورته وهياجه، فاليد لا تصفع أحدا من فراغ، ولكن الصفعة توجد في القلب أولا ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾، إن الحق سبحانه يقول: ﴿وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا﴾ والشفا هي الحافة. ومرة يقال: «شفا» ومرة يقال: «شفة». لقد كانوا على حافة النار، ومن كان على الحافة فهو يوشك أن يقع، فكأن الله يقول: لقد تداركتم بالإسلام، ولولا الإسلام لهويتم في النار.
ويقول سبحانه: ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ وهكذا نرى نعمة الإسلام في الدنيا، فقدرة الإيمان على إنقاذ الإنسان من النار لا تحتاج إلى انتظار بل يستطيع المؤمن أن يراها في الدنيا. ولقد كان العرب قبل الإسلام مؤرقين بالاختلافات، وموزعين بالعصبية، وكل يوم في شقاق. ولما جاء الإسلام صاروا إخوانا، وهذه نعمة عاجلة في الدنيا والدنيا كما نعرف ليست دار جزاء، فما بالك بما يكون في الآخرة وهي دار الجزاء والبقاء.
1662
وقوله الحق: ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ المقصود به أن تظلوا على هدايتكم. لقد خاطبهم الحق: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾ وساعة يطلب التشريع منك ما أنت عليه، فاعلم أن التشريع يريد منك استدامته، فعندما يقول الحق (يا أيها الذين آمنوا) أي مع الإيمان الذي معكم قبل كلامي، جددوا إيمانا بعد كلامي ليستمر لكم الإيمان دائما. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر... ﴾
1663
وكلمة «أمة» تطلق مرة، ويراد بها الجماعة التي تنتسب إلى جنس، كأمة العرب، أو أمة الفرس، أو أمة الروم، ومرة تطلق كلمة «أمة» ويراد بها الملة أي الدين، ومرة ثالثة تطلق كلمة «أمة» ويراد بها الفترة الزمنية كقول الحق: ﴿وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾ [يوسف: ٤٥]
إن الرجل الذي فسر له سيدنا يوسف الرؤيا تذكر سيدَنا يوسف بعد أمة أي بعد فترة من الزمن، ومرة تطلق كلمة «أمة» على الرجل الجامع لصفات الخير. ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين﴾ [النحل: ١٢٠]
لأن خصال الخير ليس من الضروري أن تجتمع في واحد، ولكنها قد تجتمع في عدد من الأفراد فيكون هناك فلان المتميز بالصفة الطيبة، وغيره متصف بصفة أخرى طيبة، وثالث فيه صفة طيبة ثالثة، ومن مجموع الأمة تظهر صورة الكمال، لكن إبراهيم عليه السلام اجتمعت فيه كل خصال الخير المكتمل.
1663
وساعة أن تأتي لإنسان ونَقول له: ليكن منك شجاع فما ذلك؟ إن معناه، أن يجرد الإنسان من نفسه ويخرج منها شخصا شجاعا، وذلك بتدريبها وتعويدها على ذلك حتى يكون الإنسان شجاعا، أو تقول لآخر: ليكن منك كريم، أي أخرج من نفسك رجلا كريما.
وقوله الحق سبحانه: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير﴾.
هذا القول يعني ان يكون منكم أيها المخاطبون أمة تدعو إلى الخير، ومعناه أيضا أن تكونوا جميعا أمة تدعو إلى الخير، وبعض العلماء يرى أن هذا القول يعني: أن تكون منكم جماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ولكنّ هناك فهما أعمق من هذا، وهو أن هذه الآية تأمر بأن تكون كل جماعة المسلمين أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، إي أن هذه الآية تطالب كُلَّ أمة المسلمين بذلك، فلا تختص جماعة منها فقط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل الواجب أن تكون أمة المسلمين كلها آمرة بالمعروف، وناهية عن المنكر، فمن يعرف حكما من الأحكام عليه أن يأمر به.
وهناك من العلماء من قال: إن الذي يأتي المنكر له حكم آخر أيضا وهو أن ينهي غيره عن المنكر، أي أن الإنسان المؤمن مطالب بأمرين: الأول: ألاّ يصنع المنكر، والثاني: أن ينهي عن المنكر. ولذلك إن جاء نصح من إنسان ينهاك عن المنكر، وهو قد فعله، فلا تقل له: أصلح نفسك واتبع أنت ما تنصح به أولا، لا تقل له ذلك حتى لا يقول لك ما قاله الشاعر:
وما آدم في منطق العقل واحد ولكنه عند القياس أوادم
خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي واجن الثمار وخل العود للنار
لكن الأجدر بمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون أول العاملين بقوله حتى لا يدخل في زمرة من قال الله فيهم:
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢ - ٣]
1664
إذن فقوله الحق: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير﴾ أي جردوا من أنفسكم أمة مجتمعة على أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، واستمعوا إلى قوله تعالى: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ [العصر: ١ - ٣]
إن السورة الكريمة توضح العقيدة ومطلوبها وهو الإيمان والعمل الصالح. وبعد ذلك قال الحق: «وتواصوا» ولم يقل «ووصوا» ما معنى «وتواصوا» ؟ أي أن يعرف كل مؤمن انه من الأغيار، وكذلك أخوه المؤمن، وقد يضعف أحَدهما أمام معصية فيصنعها، لكن الآخر غير ضعيف أمام تلك المعصية، لذلك يكون على غير الضعيف توصية الضعيف، وعلى الضعيف أيضا ضرورة الانتباه حتى يتواصى مع غيره. فالإسلام لم يجعل جماعة يوصون غيرهم، وجماعة أخرى تتلقى الوصاية، بل كلنا موص - بكسر الصاد - حينما نجد مَنْ من يضعف أمام معصية. وكلنا موصىً، - بفتح الصاد - حين يكون ضعيفا أمام المعصية؛ فالتواصي يقتضي التفاعل بين جانبين.. فمرة تكون موصيا، ومرة تكون موصىً، وكذلك التواصي بالصبر.
فساعة تحدث كارثة لواحد من المسلمين يأتي أخوه ليصبره، وكذلك إن حدثت كارثة للأخ المسلم يصبره أخوه المسلم، فعندما يحتاج مسلم في وقت ما إلى أن يُصَبَّر، يجد من إخوته من يصبره فالأمة كلها مطالبة: ﴿وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾.
هكذا نفهم معنى قول الحق: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ المفلحون﴾. والدعوة إلى الخير يفسرها الحق بأن يأمر الإنسان بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر.
ويقول الحق: ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أن كلمة ﴿المفلحون﴾ هي كلمة معها دليلها، فالمفلح هو الذي أخذ الصفقة الرابحة. والكلمة مأخوذة، من فلح الأرض. فالذي يفلح الأرض ويحرثها ثم يزرعها يجد الثمرة تجيئه في النهاية، وقد جاء الحق بالمسألة المعنوية من أمر محس. وبعد ذلك يريد الحق أن يعطينا شيئا آخر
1665
فيقول: إياك أن تظن أن المشقة التي تصيبك حين تفعل خيرا لا تعود عليك بالراحة، أو أن النقص الذي تفعل به الخير لا يعود عليك بالكمال، فمثلا الإنسان الذي فلح الأرض وأخرج «كيلة» من القمح وبذرها فيها. هذا الإنسان قد تكون له زوجة حمقاء تقول له: إننا لا نملك إلا أربع «كيلات» من القمح فكيف تأخذ «كيلة» لترميها في الأرض، إن هذه المرأة لا تعرف أن «الكيلة» التي أخذها الزوج هي التي ستأتي بعدد من الأرادب من القمح.
فإياك أن تفهم أن الإسلام يأخذ منك شيئا إلا وهو يريد أن يعطيك أشياء.
إن الفلاح الذي يشقى بالحرث وبالري، وتراه وقد علا جبهته العرق وتراب الأرض وتغوص أقدامه في الطين والمياه، إنك تراه يوم الحصاد وهو فرح مسرور بغلته. أما غيره الذي لم يشُّقَ بالحرث ولم تعل جبهته حبات العرق، فيأتي في هذا اليوم وهو حزين ونادم. فإياك أن تنظر إلى تكاليف الدين على أنها أمور تحرمك النفع، إنّها أمور تربّب لك النفع أي تكثر لك النفع. وإياك أن تظن أن حكما من أحكام الله قد جاء ليجور على حريتك بل جاء ليمنع عنك اعتداء الآخرين.
وقلنا من قبل: إن الشرع حين كلف كل إنسان ألا يسرق مال أحد، فهو تقييد من أجل حفظ أموال الملايين، وهو أمر ضمني لكل الناس ألاَّ يسرقوا شيئا من هذا الإنسان، وهنا نجد الأمان ينتشر بالإيمان بين الجميع.
ولو نظرت إلى ما منع الدين الناس أن يمارسوه معك لعرفت قيمة التكاليف الإيمانية. إن التكليف حين يأمر ألا يمد أحد عيونه إلى محارم جاره، هذا التكليف صادر للناس جميعا حتى يحمي الله لك محارمك من عيون الناس، لقد قََيَّد التكليف حرية الآخرين من أجلك وهم كثيرون، وقيد حريتك من أجل الآخرين وأنت واحد.
إذن فيجب أن نذكر أن كل تكليف يعطي صلاحا وفلاحا، فالأرض تأخذ الحبة وتعطيك سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فلا تنظر إلى ما أخذه التكليف من حريتك، لأنه أخذ لك من حريات الآخرين أيضا. ولا تقل: إن التكليف قد نقص حركتي لنفسي، لأنه سيعطيك ثمرات أكثر مما أفقدك.
1666
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات... ﴾
1667
وهذا القول الحكيم ينهي عن اتباع الهوى الذي يؤدي إلى الفرقة. برغم وضوح آيات الحق سبحانه لهم، لأن لهؤلاء الذين يتبعون الهوى من بعد وضوح قضية الحق سيصليهم الله النار، ولهم عظيم العذاب. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... ﴾
وهنا يجب أن نعلم أن الاسوداد والابيضاض هما من آثار اختلاف البيئات في الدنيا، فالشخص الأسود يزيد الله في تكوينه عن الشخص الأبيض بما يناسب البيئة، لأن المادة الملونة للبشرة في جسده موجودة بقوة، لتعطيه اللون المناسب لمعايشة ظروف البيئة، أما أبيض البشرة فلا يملك جسده القدر الكافي من المادة الملونة، لأن بيئته لا تحتاج مثل هذه المادة الملونة.
إذن فالسواد في الدنيا لصالح المسود، أما في هذه الآية، فهي تتحدث عما سوف نراه في الآخرة حيث يكون السواد والبياض مختلفين، تماما كما تتبدل الأرض غير
1667
الأرض والسموات، غير السموات وكذلك يتبدل أمر السواد والبياض، إنه لن يكون سواداً أو بياضا من أجل البيئات. ولذلك ستتعجب يوم القيامة؛ لأنك قد ترى إنسان كان أسود في الدنيا، وتجده أبيض في الآخرة، وتجد إنسانا آخر كان لونه أبيض في الدنيا ثم صار أسود في الآخرة.
فلا يظن ظان أن الإنسان الأسود في الدنيا مكروه من الله، لا، إن الله يعطي كل واحد ما يناسبه، بدليل أن الله قد أمده باللون الذي يقويه على البيئة التي يحيا فيها. وفي مجالنا البشرى، نحن نعطي المصل لأي إنسان مسافر إلى مكان ما، حتى نحميه من شر مرض في المكان الذي يذهب إليه، كذلك خَلْقُ الله في الأرض فقد أعطى سبحانه لكل إنسان في تكوينه المناعة التي تحفظه؛ فالله لا يكره السواد لأنه حماية للإنسان من البيئة. وهذه المسألة ستتبدل يوم القيامة كما تتبدل الأرض غير الأرض، وتبيض الوجوه المؤمنة، وتسود الوجوه الكافرة.
أو أن البياض والسواد كليهما، أمر اعتباري، بدليل أنك ترى واحدا أبيض ولكن وجهه عليه غبرة ترهقه قترة، وترى واحداً آخر أسود اللون، ولكن نور اليقين يملأ وجهه، وبريق الصلاح يشع منه، وأنت لا تقدر أن تمنع عينيك من أن تديم النظر إليه، ولذلك قال الحق: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣]
أي أن ما في داخل النفس إنما ينضح على قالب الإنسان؛ وتظهره ملامحه، فقد يكون الأسود مضئ الوجه بالبشر والإشراق والتجلي بالجاذبية الآسرة، وقد يكون الإنسان أبيض الوجه لكنه مظلم الروح.
وهكذا نفهم ان اسوداد بشرة إنسان في الدنيا، إنما هو لمساعدة الإنسان على التواؤم مع البيئة، ومثال ذلك سواد العين وبياضها، هل يستطيع أحد أن يقول: إن بياض العين أحسن من سوادها، أو العكس؟. لا؛ لأن كل شيء معد لمهمته.
ومثال آخر: عندما يأتي عامل البناء ليثني عمود الحديد المستقيم؛ ويلويه، فهل
1668
يقال: إن هذا الإنسان قد عوج الحديد؟. لا؛ إنه يريد أن يشكل عود الحديد ليكون صالحا لمهمة معينة. وكذلك الاسوداد أو الابيضاض في الدنيا، إنما أراده الله ليتناسب مع ظروف الحياة في البيئة، أما في الآخرة فالدنيا قد زالت وفنيت، والأرض لن تكون هي الأرض والسماء لن تكون هي السماء؛ فالحق يقول:
﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: ٤٨]
فالمؤمن حين يرى ما أعده الله له من النعيم المقيم يقابل عطاء الله باستشراف نفس وسرور وانبساط، أما الذي يرى مقعده من النار فلا بد أن يكون مظلم الوجه. والحق سبحانه يوجه سؤالا لهؤلاء: ﴿أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ أو كأن هذا أمر يُفاجئ من كان يعرف هؤلاء الناس في الدنيا؛ فقد رأوهم في الدنيا بيض الوجوه، ولكن يرونهم يوم القيامة وعلى وجوههم غبرة سوداء وترهقهم قترة، فيقولون لهم: ﴿أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ ؟. وكأن ذلك هو سمة من يكفر بعد الإيمان. هذه هي سمتهم وعلامتهم في الآخرة أي ما الذي صيركم إلى هذا اللون؟ إنه الكفر بعد الإيمان.
فمن هم الذين كفروا بعد الإيمان؟
هذا يعني أن الإيمان قد سبق ثم طرأ على الإيمان كفر، وماتوا على ذلك الكفر، وهذا قول ينطبق على الذين ارتدوا عن الإسلام مثل ابن الأسلت وغيره، وهؤلاء كفروا بعد الإيمان. أو يكون ﴿أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ يجعلنا نقول: البعدية هنا لا بد أن يكون لها قبلية: ألم يأخذ الله على خلقه عهدا في عالم الذر حين استخرجهم من ظهر آدم؟ وقال سبحانه: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ إنه إقرار إيماني موجود في عالم الذّر، فمن جاء في الواقع لينقض هذه المسألة فقد كفر بعد إيمان. أو أكفرتم بعد إيمانكم بمحمد، بعد أن جاءتكم به البشارات التي
1669
عرفتموها، وقرأتموها في التوراة والإنجيل، وقد تأكدتم أنه قادم لا محالة، وأنه رسول هذه الأمة وخاتم الرسل، وانطبق عليكم قول الحق: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ [البقرة: ٨٩]
إذن فهذا القول، إما أن يكون في المرتدين، وإما أن يكون الكفر في واقع الدنيا بعد الإيمان في عالم الذر عندما أخذ الله العهد على الناس جميعا، أو يكون الكفر بعد الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد جاءت به البشارات في التوراة والإنجيل، أو يكون ذلك من أهل الأهواء الذين أخذوا الدين وجعلوه شيعا، كالفرق التي خرجت عن الإسلام، وهي تدعى الانتساب إليه كالبهائية والقاديانية وغيرها. إن الآية تحتمل كل هذا، وعندما نمعن النظر إلى النص القرآني نجده يستوعب كل هذه المعاني.
وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه أورد فقط: ﴿أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ وهذا قول يختص بالكفار فقط يذوقون العذاب بسبب الكفر، وذلك يعني أن المؤمن بإيمانه سينال ثواب عمله. يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
1670
ولنلاحظ دائما أن الله حين يبين جزاءً لمؤمن على إيمانه وطاعته فسبحانه يقول مرة: ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الأعراف: ٤٢]
1670
ومرة أخرى يقول: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ [النساء: ١٧٥]
ما الفرق بين الاثنين؟ إن الناس في العبادة صنفان: منهم من يعبد الله ويريد نعيم الجنة، فيعطيه الله الجنة جزاء لعبادته ولعمله الصالح. وآخر يعبد الله؛ لأن الله يستحق العبادة ولا تمر الجنة على باله، وهذا ينال ذات الرحمة، إنه ينال لقاء وجه الله.
وما الفرق بين الجنة والرحمة؟ إن الجنة مخلوقة لله، فهي باقية بإبقاء الله لها، ولكن الرحمة باقية ببقاء الله، وهذا ضمان كاف، فمن يرى الله فيه حسن العبادة لذاته - سبحانه - يضع الله في الرحمة.
وقلنا من قبل: إن هناك جنة من الجنات اسمها «عليّون» ليس فيها متعة من المتع التي سمعنا عنها في الجنة، كلحم الطير وغير ذلك، وليس فيها إلا أن ترى الله. وما دام العبد لا يأكل عن جوع في الآخرة، فما الأفضل له، جنة المتع، أو متعة رؤية وجه الله؟
أتتمتع بالنعمة أم بالمنعم؟ لا جدال أن التمتع برؤية المنعم أرقى وأسمى من التمتع بالمتع الأخرى. والدقة الأدائية في القرآن توضح لنا أن الرحمة تكتنف هؤلاء العباد الصالحين، وتحيط بهم، إنهم ظرف للرحمة وداخلون فيها فلا تمسهم الرحمة فقط، ولكن تحيط بهم، وهم خالدون فيها، ويؤكدها الحق بظرفية جديدة بقوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فكأن هناك رحمة يُدخل فيها العباد، ثم يطمئننا على أنها لا تُنزع منا أبدا. ف «فيها» الثانية للخلود، «وفي» الأولى للدخول في الرحمة.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه:
1671
﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق... ﴾
1672
إن آيات الله هي حججه وبراهينه وجزاءاته، فمن اسود وجهه يوم القيامة نال العذاب، ومن ابيض وجهه نال الرحمة وهو فيها خالد ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق﴾، فما الذي يجعل إنسانا لا يخبر بالحق؟ لا بد أن هناك داعيا عند ذلك الإنسان، فلأِنّ الحق يُتبعه، فهو يخبر بغير الحق. لكن هل هناك ما يتعب الخالق؟ لا؛ فسبحانه وتعالى منزه عن ذلك وعن كل نقص أو عيب إذن فلا بد ألاّ يقول إلا الحق، فلا شيء خارج عن ملكه بعد ذلك. يقول سبحانه: ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ﴾. إنه سبحانه ينفي الظلم عن نفسه كما قال: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦]
والحق لا يريد الظلم على إطلاقه من نفسه ومنكم أنتم أيها العباد. وكيف يأتي الظلم؟ إن مظاهر الظلم هي - كما نعرف - أن تأخذ إنسانا بغير جرم.. هذا ظلم. أو ألا تعطي إنسانا مستوى إحسانه.. هذا ظلم. وماذا يفعل من يقوم بالظلم؟ إنه يريد أن يعود الأمر بالنفع له، فإن كان يريد أَخْذَ إنسانٍ بغير جرم فهو يفعل ذلك ليروي حقدا وغلا في نفسه، وقد يلفق لإنسان جرما؛ لأنه يرى أن هذا الإنسان قد يهدده في أي مصلحة من المصالح، وهو يعلم انحرافه فيها، فيعتقله مثلا، أو يضعه في السجن حتى لا يفضحه.
إذن لا يمكن أن يذهب إنسان عن الحق إلى الظلم إلا وهو يريد أن يحقق منفعة أو يدفع عن نفسه ضررا، والله لن يحقق لذاته منفعة بظلم، أو يدفع ضررا يقع من خلقه عليه؛ إنه منزه عن ذلك؛ فهو القاهر فوق عباده. والحديث القدسي يقول: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي. وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا».
1672
والظالم من البشر جاهل. لماذا؟ لأنه قَوَّى الذي ظلمه، ولم يضعفه، فالظالم يظلم ليضعف المظلوم أمامه، فنقول له: أنت غبي، قليل الذكاء؛ لأنك قويته على نفسك وفعلت عكس ما تريد. ولنوضحْ ذلك - ولله المثل الأعلى - نحن جميعا عيال الله، سننتقل إلى دائرة حياتنا اليومية ونرى عيالنا، إن الواحد منا عندما يكون له أولاد، وجاء ولد من الأولاد وظلم أخاه فَقَلْبُ الوالد يكون مع المظلوم، ويحاول الوالد أن يترضّى ابنه المظلوم. إذن فالولد الظالم ضر أخاه ضررا يناسب طفولته، ولكنه أعطاه نفعا يناسب قوة والده، إنه يجهل حقيقة تقويته لأخيه.
وما دمنا جميعا عيال الله فماذا يفعل الله حين يرى سبحانه واحدا من خلقه يظلم آخر من خلقه؟ لا بد أن الحق سيشمل المظلوم برعايته، وهكذا يقوى الظالم المظلومَ، والظالم بذلك يعلن عن غبائه، فلو كان ذكيا، لم ظلم، ولضنّ على عدوه أن يظلمه، ولقال: إنه لا يستأهل أن أظلمه؛ لأنه عن طريق ظلمى له سيعطيه الله مكافأة كبرى، وهي أن يجعله في كنفه ورعايته مباشرة.
وقد نجد واحدا يظلم من أجل نفع عاجل، وينسى هذا الإنسان أنه لن يشرد أبدا ممن خلقه. ونقول لمثل هذا الإنسان: أنت لن تشرد ممن خلقك، ولكنك شردت من المخلوق وداريت نفسك، وحاولت أن تحقق النفع العاجل لنفسك، لكن الخالق قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. وكأن الحق سبحانه يطمئننا بأن ننام ملء جفوننا لأنه سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم.
﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ﴾ لأن الظلم لا ينشأ إلا عن إرادة نفعية بغير حق، أو إرادة الضرر بغير جرم، والله غني عن ذلك، ولذلك نجد الحق يؤكد غناه عن الخلق وأنه مالك للكون كله فيقول: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض... ﴾
1673
إنه مالك الملك، كل شيء له وبه وملكه، وإليه يُرجع كل أمر. ونحن نعلم أن القرآن الكريم قد نزل من عند الله بقراءات متعددة وقد ورد وفي بعضها (تَرجِعُ الأمور) بفتح التاء بالبناء للفاعل، وفي قراءة أخرى: (ترجِعُ الأمور) بضم التاء بالبناء للمفعول، وكذلك (ترجعون) تأتي أيضا بضم التاء وفتحها، وكلها - كما قلنا - قراءات من عند الله.
وعندما يقول الحق: ﴿وَإِلَيْه ترْجَعُونَ﴾ بفتح التاء فمعنى ذلك أننا نعود إليه مختارين؛ لأن المؤمن يُحبُّ ويرغب أنْ يصل إلى الآخرة، لأن عمله طيب في الدنيا، فكأنه يجري ويسارع إلى الآخرة، ومرة يقول تعالى: ﴿وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ﴾ بضم التاء. وهذا ينطبق على الكافر أو العاصي. إنّ كُلاًّ منهما يحاول ألا يذهب إلى الآخر، لكن المسألة ليست بإرادته، إنه مقهور على العودة إلى الآخرة ولذلك نجد التعبير القرآني: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: ١٣]
هناك من يدفعهم إلى النار دفعا. وفي حياتنا - ولله المثل الأعلى - نجد الشرطي يمسك بالمجرم من ملابسة ويدفعه إلى السجن.. ذلك هو الدع. وهكذا يكون قول الحق: ﴿وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ﴾ بضم التاء وفتح الجيم، أي أنه مدفوع بقوة قاهرة إلى النهاية. أما المؤمن الواثق فهو يهرول إلى آخرته مشتاقا لوجه ربه.
وعندما تقرأ ﴿وإلى الله تُرْجَعُ الأمور﴾. قد يقول قائل: ومتى خرجت الأمور منه حتى ترجع إليه؟ ونقول: حين خلق الله الدنيا، خلقها بقهر تسخيري لنفع الإنسان، وجعل فيها أشياء بالأسباب، فإن فعل الإنسان السبب فإنه يأخذ المسبب - بفتح الباء - المشددة، فالشمس تشرق علينا جميعا، والضوء والدفء والحرارة، هي - بأمر الله - للمؤمن والكافر معا، ولم يصدر الله لها أمرا أن تختص المؤمن وحده بمزاياها، والهواء لا يمر على المؤمن وحده، إنما يمر على المؤمن والكافر، وكذلك الماء، والأرض يزرعها الكافر فيأخذ منها الثمار، ويزرعها المؤمن كذلك.
إذن ففي الكون أشياء تسخيرية، وهي التي لا تدخل فيها طاقة الإنسان، وهناك
1674
أشياء سببية، فإن فعلت السبب يأت لك المسبب، والله قد جعل الأسباب للمؤمن والكافر. وعندما يُمَلِّك الله بعض الخلق أسباب الخلق فهو القيوم فوق الجميع، لكن في الآخرة، فلا أسباب ولا مسببات؛ ولذلك يكون الأمر له وحده، اقرأوا جيدا: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦]
إنّ في الدنيا أناسا - بإرادة الله - تملك أسبابا، وتملك عبيدا، وتملك سلطانا؛ لأن الدنيا هي دنيا الأسباب. أما في الآخرة فلا مجال لذلك. لقد بدأت الدنيا بأسبابها مِنَّة منه، ورجعت مِنْهُ إليه ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ ومن يعتز بالسببية نقول له: كن أسير السببية لو كنت تستطيع. ومن يعتز بالقوة لأنها - ظاهرا - سبب للحركة، نقول له: احتفظ بقوتك إن كنت قادرا. ومن يعتز بالملك نقول له: لتحتفظ بالملك لو كنت تستطيع. ولا أحد بقادر على أَنْ يحتفظ بأي شيء، فكل شيء مرده إلى الله، وإن كان في ظاهر الأمر أن بعض الأشياء لك الآن، وفي الآخرة لله يكون كل أمر، ويرجع إليه كل شيء، لقد بدأت به، ورجعت إليه. ويقول الحق بعد ذلك: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر... ﴾
1675
هذه الخيرية لها مواصفات وعناصر: {تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر
1675
وَتُؤْمِنُونَ بالله}. فإن تخلف عنصر من هذه العناصر، انحلت عنكم الخيرية، فالخيرية لكم بأشياء هي: أمر بالمعروف. نهى عن المنكر. إيمان بالله.
وساعة تسمع كلمة «معروف» و «منكر» فإنك تجد أن اللفظ موضوع في المعنى الصحيح، ف «المعروف» هو ما يتعارف الناس عليه ويتفاخرون به، ويَسُرُّ كل إنسان أن يعرف الآخرون عنه. «والمنكر» هو الذي ينكره الناس ويخجلون منه، فمظاهر الخير يحب كل إنسان أن يعرفها الآخرون عنه، ومظاهر الشر ينكرها كل إنسان.
إن مظاهر الخير محبوبة ومحمودة حتى عند المنحرف. فاللص نفسه عندما يوجد في مجلس لا يعرفه فيه أحد، ويسمع أن فلاناً قد سرق فإنه يعلن استنكاره لفعل اللص، إنه أمر منكر، حتى وإن كان هو يفعله. وهكذا تعرف أن «المعروف» و «المنكر» يخضعان لتقدير الفطرة. والفطرة السليمة تأتي للأمور الخيرة، وتجعلها متعارفا عليها بين الناس، وتنكر الفطرة السليمة الأمور المنكرة، حتى ممن يفعلها.
ويورد الله مسألة الإيمان بالله من بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا؟ لأنه من الجائزة أن يوجد إنسان له صفات الأريحية والإنسانية ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويصنع الخير، ويقدم الصدقات، ويقيم مؤسسات رعاية للمحتاجين والعاجزين سواء كانت صحية أو اقتصادية، لكنه يفعل ذلك من زاوية نفسه الإنسانية، لا من زاوية منهج الله، فيكون كل ما يفعله حابطا ولا يُعتَرفُ له بشيء لأنه لم يفعل ذلك في إطار الإيمان بالله، ولذلك فلا تظن أن الذي يصنع الخير دون إيمان بالله؛ فالله يجازي من كان على الإيمان به، وأن يكون الله في بال العبد ساعة يصنع الخير. فمن صنع خيرا من أجل الشهامة والإنسانية والجاه والمركز والسمعة فإنه ينال جزاءه ممن عمل له، ومادام قد صنع ذلك من أجل أن يقال عنه ذلك فقد قيل، وهو ما يبيّنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: «إن أول الناس يُقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملتَ فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت،
1676
ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت في سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقتُ فيها. قال: كذبت ولكنك فعلت ليُقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر فسحب على وجهه ثم أُلقي في النار».
إنه ينال جزاء عمله من قول الناس، لكن الله يجازي في الآخرة من كان الله في باله ساعة أن عمل. لذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين﴾ [فصلت: ٣٣]
إن المؤمن يفعل العمل الصالح، ويعلن أنه يفعل ذلك لأنه من المسلمين، إنه لا يفعل الخير، لأنه شيوعي، أو وجودي، أو إنساني إلخ، فمهما صنع إنسان من الخير، وترك الاعتراف بالله فخيانة الكفر تفسد كل عمل. لأنه جحد وأنكر خالقه وكفر به، والذي يعمل خيرا من أجل أحدٍ فلينل من هذا الأحد جزاء هذا العمل.
وهنا في هذه الآية أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وإيمان بالله. ولكن ما الذي يجعلهم لا يؤمنون بالله وإن عملوا معروفا؟ إنه حرصهم على الجاه الزائف، فلمّا جاء الإسلام، ظن أهل الجاه في الديانات الأخرى أن الإسلام سيسلبهم الجاه والسلطة والمكانة والمنافع التي كانوا يحصلون عليها، وكان من حماقة بعضهم أن باعوا الجنة على الأرض وخافوا على المركز والجاه والمنافع، وكان ذلك من قلة الفطنة، فالحق يقول:
﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ [آل عمران: ١١٠]
1677
فلو آمنوا لظل لهم الجاه والسلطة في ضوء الإيمان بالله، فلا تجارة بالدين، وكانوا سيحصلون على أجرهم مرتين، أجر في الدنيا، وأجر في الآخرة، أو أجر على إيمانهم بنبيهم، وأجر آخر لإيمانهم برسول الله، ولكن هل معنى هذا القول أن أهل الكتاب لم يؤمنوا؟ لا، إن بعضهم قد آمن، فالحق سبحانه وتعالى يؤرخ لهم تأريخا حقيقيا فيقول سبحانه: ﴿مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ وكان القياس أن يأتي وصف بعضهم بالإيمان، وأن يكون غيرهم من أبناء ملتهم كافرين، لأن الإيمان يقابله الكفر، لكن الحق يحدد المعنى المناسب لفعلهم فيقول: ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾.
إن الحق سبحانه وتعالى الذي يتكلم فيورد كل كلمة بمنتهى الدقة، فهناك فرق بين أن تكفر وليس عندك مقدمات الإيمان وأدلته، وأن تكفر وأنت تعرف مقدمات الإيمان كقراءة التوراة والإنجيل.
لقد قرأ أهل الكتاب التوراة والإنجيل ورأوا الآيات البينات وعرفوا البشارات؛ لذلك فهم عندما كفروا برسول الله، فسقوا أيضا مع الكفر. إن الذي كفروا برسول الله من أهل الكتاب هم فاسقون حتى في كفرهم، لأن مقتضى معرفتهم للبشارات والآيات أن يعلنوا الإيمان برسالة رسول الله، فالواحد منهم ليس كافرا عاديا، بل هو فاسق حتى في الكفر؛ لأنه عرف الحق، ثم خرج وفسق عنه.
وما دام الحق قد قال: ﴿مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ إذن ماذا يفعل المؤمن منهم مع الفاسق؟ سيتربص الفاسقون وهم الأكثرية في اليهودية والنصرانية بالأقلية المؤمنة ليوقعوا بهم الأذى والضرر، ويقول الحق سبحانه: ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾
1678
لكن الحق سبحانه يطمئن هذه الأقلية من إضرار الأكثرية بهم فيقول: ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى﴾. أي يا أيتها الأقلية التي آمنت من أهل الكتاب - مثل عبد الله بن سلام الذي أسلُم وترك اليهودية - إياكم أن تظنوا أن الأكثرية الفاسقة قادرة على إنزال العذاب بكم؛ فالحق - سبحانه - يعلن أن محاولة الأكثرية لإنزال الضرر بالأقلية التي آمنت منهم لن يتجاوز الأذى.
ما هو الضرر؟ وما هو الأذى؟
إن الأذى هو الحدث الذي يؤلم ساعة وقوعه ثم ينتهي، أما الضرر فهو أذى يؤلم وقت وقوعه، وتكون له آثار من بعد ذلك، فعندما يصفع الإنسان إنسانا آخر صفعة بسيطة فالصفعة البسيطة تؤلم، وألمها يذهب مباشرة، لكن إذا كانت الصفعة قوية وتتسبب في كدمات وتورم فهذا هو الضرر. إذن فالأذى يؤلم ساعة يُباشر الفعل فقط، وقد يكون الأذى بالكلمة كالاستهزاء، فالفاسق قد يستهزئ بالذي آمن، فينطق بكلمة الكفر أو الفُجْر، هذه الكلمة ليس لها ضرر في ذات المؤمن ولكنها تؤذي سمعه. إن الحق سبحانه يطمئن المؤمنين على أن أهل الكفر لن يضروا المؤمنين إلا الأذى، وهذا أقصى ما في استطاعتهم، وليس لهذا الأذى أثر.
إذن فقول الحق: ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى﴾ يعني أنهم لن يستطيعوا أن ينالوا منكم أبدا اللهم إلا الاستهزاء أو الغمز واللمز، أو إشارة بحركة تؤذي شعور المؤمن، أو تمجد الكفر، وتعظمه أو ينطق كلمة عهر أو فجر لا يوافق عليها الدين، هذا أقصى ما يستطيعه أهل الفسق، وهم لا يملكون الضرر لأهل الإيمان. وبعد ذلك نرى أن واقع الأمر قد سار على هذا المنوال مع الدعوة المحمدية ومع جنود سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد أطلقها الله كلمة: ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى﴾ فصارت الكلمة قانونا. فقد وقعت الوقائع بين جند رسول الله وأهل الفسق، وثبت أن أهل الفسق لم يستطيعوا ضرر أهل الإيمان إلا أذى.
ولننظر إلى ما حدث لبني قينقاع، ولما حدث لبني قريظة، ولما حدث لبني النضير، ولما حدث ليهود خيبر، هل ضروا المؤمنين إلا أذى؟ لقد قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما أغرارا لا علم لهم بالحرب فانتصرت عليهم، فإذا أنت حاربتنا فستعرف مَن الرجال. وكان ذلك مجرد كلام باللسان.
1679
إن التاريخ يحمل لنا ما حدث لهم جميعا، لقد هزمهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وبعد هذا أرادوا أن يرتفعوا عن الأذى إلى الضرر الحقيقي فلم يمكنهم الله؛ لأن الحق يقول: ﴿وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾، فإن أراد أهل الفسق أن يُصَعِّدوا الأذى للمؤمنين ليوقعوا ضررا حقيقيا، فإن الكافرين يولون الأدبار أمام المؤمنين، فهزيمتهم أمر لا مناص منه.
ونحن نعرف في اللغة أن هناك ما نسميه «الشرط» وما نسميه «الجواب» ف «إنْ» حرف شرط تجزم فعل الشرط وجوابه فإنْ كان الفعل من الأفعال الخمسة فإنّنا نحذف النون، لذلك نجد القول الحق: ﴿وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار﴾.
إن ﴿يُقَاتِلُوكُمْ﴾ فعل شرط محذوفه منه النون. و ﴿يُوَلُّوكُمُ الأدبار﴾ أصلها يولونكم الأدبار. وهي جواب شرط حذفت منه النون، وعندما يأتي العطف بعد ذلك، فهل يكون بالرفع أو الجزم؟ إن العادة أن يكون العطف بالجزم!! لكن الحق يعطف بالرفع فيأتي قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾. إنها كسرة إِعْرَابِيّة تجعل الذهن العربي يلتفت إلى أن هناك أمرا جللا، لأن المتكلم هو الله سبحانه. كيف جاءت «النون» ؟
هنا نقف وقفة فَلننطق الآية ككلام البشر: إن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصروا. وهذا القول يكون تأريخا لمعركة واحدة، لكن ما الذي سوف يحدث من بعد ذلك؟ ماذا يحدث عندما يقاتل المؤمنون أهل الكفر والفسق؟ وتكون الإجابة هي: ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ إن هذا القول الحكيم يحمل قضية بعيدة عن الشرط والجزاء، إنها حكم من الله على أهل الفسق بأنهم لا يُنصرون أبدا سواء أقاتلوا أن لم يقاتلوا إنها قضية ثابتة منفصلة، وليست معطوفة على الشرط، فعلة عدم النصر، ليست القتال، ولكنها الكفر.
وإذا دققنا الفهم في العبارة حروفا - بعد أن دققنا فيها الفهم جملا - لوجدنا معنى جديدا، فقد يظن إنسان أن القول كان يفترض أن يتأتى على نحو مغاير، هو «يولوكم الأدبار فلا ينصرون» لأن الذي يأتي بعد ال «فاء» يعطي أنهم لا ينتصرون عليكم في بداية عهدكم، وهذا ما تفيده الفاء لأنها للترتيب والتعقيب. لكن الحق أورد حرف «ثم» وهو يفيد التراخي، وهذا يعني أنهم لا ينتصرون عليكم أيها
1680
المؤمنون حتى لو استعدوا بعد فترة لمعركة يَرُدُّن بها على توليهم الأدبار. إنه حكم تأبيدي، لأن «ثم» تأتي للتعقيب مع التراخي، والفاء تأتي للتعقيب المباشر بدون تراخ. لذلك فعندما نقرأ القرآن نجد وضع الفاء كالآتي: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس: ٢١]
لأن دخول القبر يكون بعد الموت مباشرة، وبعدها يقول الحق: ﴿ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ﴾ [عبس: ٢٢]
فإذا كان هناك تعقيب بعد مدّة زمنية فالحق يأتي ب «ثم» وإذا كان هناك تعقيب فوري بلا مدة يأتي الحق ب «ف». والتعقيب في الآية التي نتناولها يأتي بعد «ثم»، وكأن هذا حكم مستمر من الحق بأن أهل الفسق لن ينتصروا على أهل الإيمان، ولم بعد انتهاء المعركة القائمة الآن بينهم، إنها هزيمة بحكم نهائي، هذا هو القول الفصل: ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ وهو أشد وقعا مما لو جاء «لاَ ينتصرون» لماذا؟ لأن من الممكن ألاّ ينتصر أهل الكفر بذواتهم، ولكن الإيضاح يؤكد أنهم - أهل الكفر - لا ينتصرون لا بذواتهم، ولا يُنصرون بغيرهم أيضا.
إن ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ قضية دائمة فليست المسألة مقصورة على عهد رسول الله فقط، ولكنها ستظل إلى أبد الآبدين.
ومن السطحية في الفهم أن نقول: إن الآية كانت تتطلب أن يكون القول «ثُمَّ لاَ يُنصَرُوا» لأن الاعراب يقتضي ذلك. لكن المعنى اللائق بالمتكلم وهو الحق سبحانه وتعالى الذي يعطي الضمان والاطمئنان للأمة المسلمة أمام خصومها لا بد أن يقول: ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ وهي أكثر دقة حتى من «لاَ ينتصرون» لأن «ينتصرون» فيها مدخلية الأسباب منهم، أما ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ فهي تعني أن لا نصر لهم أبداً، حتى وإن تعصب لأهل الفسق قوم غيرهم وحاولوا أن ينصروهم فلن يستطيعوا ذلك.
فإن رأيتم - أيها المسلمون - نصرا للكافرين عليكم منهم أو بتعصب قوم
1681
لهم فاعلموا أنكم دخلتم معهم على غير منهج الله. وقد يأتي إنسان ويقول: كيف ينتصر علينا اليهود ونحن مسلمون؟ ونقول: هل نحن نتبع الآن منهج وروح الإسلام؟ وماذا عندنا من الإسلام ومن الإيمان؟ هل تحسب نفسك على ربك أثناء هزيمتك؟ وهل دخلت معركتك كمعركة إسلامية؟
لا، لقد انتبهنا إلى كل شيء إلاّ الإسلام. قدمنا الانتماء لعصبية وقومية وعرقية على الإيمان فكيف نطلب نصرا من الله؟ لا يحق لنا أن نطلب نصرة لله إلا إذا دخلنا المعركة ونحن من جند الله. والهزيمة تحدث عندما لا نكون جنداً لله؛ لأن الله ضمن النصر والغلبة لجنوده فقال: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ [الصافات: ١٧٣]
فإذا لم نغلب فتأكدوا أننا لسنا من جنود الله.. ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَآءُوا... ﴾
1682
ونحن نستخدم كلمة «ضرب» في النقود، عندما نقول: ضرب هذا الجنيه في مصر، ومعنى ذلك أن الصانع يقوم بصنع قالب من مادة اكثر صلابة، من المادة التي يصنع منها النقد ويرسم فيها الحفريات التي تبزر الكتاب والصور على وجهي الجنيه،
1682
ثم يصب المادة في ذلك القالَب، وتخضع للقالب فتبرز الكتابة والصور، ولا تتأبي المادة على القالب. كأن «ضُرب» معناها «أُلزم» بالبناء للمجهول فيهما، وكأن المادة المصنوعة تَلْزَمُ القالبَ الذي تصب فيه ولا تتأبى عليه ولا يمكن أن تتشكل إلاّ به.
إذن فالضرب معناه الإلزام والقسر على الفعل. وعندما يقول الحق: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة﴾ أي لزمتهم الذلة لا يستطيعون الانفكاك عنها أبدا، كما لا يستطيع المعدن المضروب نقدا أن ينفك عن القالب الذي صك عليه، وكأن الذلة قبة ضربت عليهم، وقالب لهم، وقول الحق: ﴿أَيْنَ مَا ثقفوا﴾ تفيد أنهم أذلاء أينما وُجدوا في أي مكان. ولكن هناك استثناء لذلك، ما هو؟
إنه قول الحق: ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس﴾ إنهم لا يعانون من الذلة في حالة وجود عهدٍ من الله أو عهد من أناس أقوياء أن يقدموا لهم الحماية: فلما كانوا في عهد الله أولاً وعهد رسوله ساعة دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة وأعطاهم العهد، فكانوا آمنين، ولما خانوا العهد، ولم يُوفوا به؛ ماذا حدث؟ ضُربت عليهم الذلة مرة أخرى.
إذن لقد كانوا في عهد الله آمنين لكنهم خانوا العهد، وانقطع حبل الله عنهم، فهيجوا الهيجة التي عرفناها ونزل بهم ما نزل، وهو ما حدث لبني قينقاع ولبني النضير وبني قريظة ويهود خبير.
إذن فهم قبل ذلك كانوا في عهد مع الله. وأنتم تعرفون أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول ما نزل المدينة بني المسجد وعقد العهد بينه وبين اليهود وعاشوا في اطمئنان إلى أن خانوا العهد، فضربت عليهم الذلة. وطُردوا من المدينة، كما يقول الحق: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس﴾.
لقد أخذوا العهد من الله من خلال من له الولاية على الناس، فالرسول في عهده كان قائما على أمر المسلمين، وكذلك يكون الأمر معهم في ظل القائمين على أمر الإسلام، ويحدث هذا عندما تسير الأمور بمنهج الإسلام.
1683
أما عن حبل الناس فذلك لأنهم لا يملكون أي عزة ذاتية، إنهم دائما في ذلة إلا أن يبتغوا العزة من جانب عهد وحبل من الله، أو من جانب حماية من الناس. ونحن نراهم على هذا الحال في حياتنا المعاصرة، لا بد لهم من العيش في كنف أحد؛ لذلك فعندما حاربنا «إسرائيل» في حرب أكتوبر، انتصرنا عليهم إلى أن تدخلت أمريكا بثقلها العسكري.
فقال رئيس الدولة المصري: «لا جَلْدَ لي أن أحارب أمريكا».
إذن لو كانت الحرب بيننا وبينهم فقط لا نتهت قوتهم؛ فهم بلا عزة ذاتية، وتكون لهم عزة لو كانوا في جانب حبل من الله، أو حبل من الناس. يقول الحق سبحانه عنهم من بعد ذلك: ﴿وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة﴾ ولنا أن نلاحظ أن الذلة له استثناء، فهم ينالون العزة لو كانوا بجانب حبل من الله أو حبل من الناس، أما المسكنة، فلا استثناء فيها، وقد قال الحق عنهم في موضع آخر في القرآن الكريم: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ [البقرة: ٦١]
لأن المسكنة أمر ذاتي في النفس، إنهم مساكين بأمر من الله، أما الذلة فقد يأتي لهم من نيصرهم ويقف بجانبهم؛ فالذلة أمر من خارج، أما المسكنة فهي في ذاتيتهم، وعندما تكون المسكنة ذاتية، فلا إنقاذ لهم منها؛ لأنه لا حبل من الله يأتيهم فينجيهم منها، ولا حبل من الناس يعصمهم من آثارها. ويقول الحق: ﴿وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ وهل رأى أحد منا غضبا أكبر من أن الحق قد قطعهم في الأرض؟ ولنقرأ قول الله: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً﴾ [الأعراف: ١٦٨]
المكان الوحيد الذي آواهم في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الجزيرة العربية في يثرب، واستقروا قليلا، وصارت لهم سيادة علمية؛ لأنهم أهل كتاب، وصارت لهم سيادة اقتصادية، وكذلك سيادة حربية، وهذا المكان الذي أواهم من الشتات في الأرض هو المكان نفسه الذي تمردوا عليه. لقد كان السبب الذي من أجله قد جاءوا إلى يثرب هو ما كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة؛ ففي التوراة
1684
جاء ما يفيد أن نبيا سيأتي في هذا المكان ولا بد أن يتبعوه كالميثاق الذي قلنا عليه من قبل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين﴾ [آل عمران: ٨١]
وهذا الميثاق يقضي بأن يتولى الرسل بلاغ الأمم التي بُعِثوا إليها، وأن يُبلغ أهلُ الإيمان القادمين من بعدهم بأن هناك رسولا قادما من عند الله بالمنهج الكامل. - واليهود - لم يأتوا إلى يثرب إلا على أمل أن يتلقفوا النبي المنتظر ليؤمنوا به، ومن بعد ذلك يكونون حربا على الكافرين بالله، لكن ما الذي حدث؟ إنه سبحانه يخبرنا بما حدث منهم في قوله: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩]
فماذا بعد أن باءوا بغضب من الله. وبعد أن ختم الله قالبهم بالمسكنة؟ وما السبب؟ تكون الإجابة من الحق سبحانه: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ لقد أرسل الله لهم آيات عجيبة ولكنهم كفروا بها، تلك الآيات التي جاءنا ذكر منها في قوله الحق:
﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٧]
كثير من الآيات أرسلها الحق لبني إسرائيل، منها ما جاء في قوله الحق: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٦٣]
1685
ولكنهم تولوا عن الإيمان وأمامهم ضرب موسى عليه السلام الحجر بالعصا فانفجرت منه عيون المياه ليشربوا. ﴿وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة: ٦٠]
وبرغم ذلك فقد قاموا بقتل الأنبياء بغير حق. وادعوا الكذب على أنبيائهم وقتلوهم، وفي شأنهم يقول الحق: ﴿ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ كَاَنَ العصيانُ سبباً لأن تُضرب عليهم الذلة، وأن يبوءوا بغضب من الله، وأن تُضرب عليهم المسكنة، وكل ذلك ناشئ من فعلهم. وهناك فرق بين أن يبدأهم الله بفعل، وبين أن يعاقبهم الله على فعل، وحتى نفهم ذلك فلنقرأ قوله الحق: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً﴾ [النساء: ١٦٠]
لقد حرم الله عليهم الطيبات بظلم منهم لأنفسهم، لأن معنى تحريم الطيبات أن الله حرمهم متعة في طيب، وذلك لأنهم استحلوا متعة في غير طيب؛ لأن مرادات الشارع تأتي على عكس مرادات الخارجين عن أمر الشارع. وكما قلنا من قبل: إنّ الحق سبحانه وتعالى يؤرخ للحق وللواقع ولا يشملهم كلهم بحديث يجمعهم جميعا، فقد كان منهم أناس تراودهم فكرة الإيمان بالرسول، وفكرة الإيمان بالقرآن، ومنهم من آمن فعلا؛ لذلك كان من عدل الله أن يفصل بين الذين يفكرون في الإيمان والمصرين على الكفر. لذلك يقول سبحانه: ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله....﴾
1686
وهذا ما حدث بالفعل، لكن أي آيات لله كانوا يتلونها؟ إنها الآيات المهيمنة، آيات القرآن ولماذا يقول الحق: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ وهل هناك قراءة للقرآن ساعة السجود؟ حتى نعرف تفسير ذلك لا بد لنا أن نعرف أن اليهود لا يصلون العتمة، أي الصلاة في الليل، وحتى يعطيهم الله السمة الإسلامية قال عنهم: ﴿يَسْجُدُونَ﴾ ويُعَرّفَهم بأنهم يقيمون صلاة العتمة، - العشاء - وهي صلاة المسلمين، وما داموا يصلون صلوات المسلمين ويسجدون، إذن فهم مسلمون أو نفهم من قوله: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أن الصلاة عنوان الخضوع، والسجود أقوى سمات الخضوع في الصلاة. ما داموا يصلون فلا بد أنهم يتلون آيات الله آناء الليل وهم يؤدون الصلاة بخشوع كامل. ونعرف أن من حسن العبادة في الإسلام، ومن السنن المعروفة قراءة القرآن ليلا، وصلاة التهجد، وهذه في مدارج العملية الإيمانية التي يدخل بها الإنسان إلى مقام الإحسان.
و ﴿آنَآءَ﴾ جمع «إني» مثلها مثلٍ «أمعاء» جمع «معي». و «آنَآءَ» هي مجموع الأوقات في الليل، وليست في «إني» واحد. فهناك مؤمن يقرأ القرآن في وقت من الليل، ومؤمن آخر يقرأ القرآن في وقت آخر، وكأن المؤمنين يقطعون الليل في قراءة للقرآن، والذي يدخل مع ربه في مقام الإحسان، فهو لا يصلي فقط صلاة العتمة وهي ستأخذ «إنِّي» واحدا، أي وقتا واحدا، ولكنه عندما يصلي في آناء الليل فذلك دليل على أنه يكرر الصلاة، وزاد عن المفترض عليه، وما دام قد زاد عن المفترض، فهو لا يكتفي بتلاوة القرآن لأنه يريد أن يدخل في مقام الإحسان، أي أنه وجد ربه أهلا لأن يصلي له أكثر مما افترض عليه، كأنه قد قال لنفسه: أنت كلفتني يارب بخمس صلوات لكنك يارب تستحق أكثر من ذلك وكأن هذا البعض من أهل الكتاب لم يكتفوا بإعلان الإيمان بالإسلام فقط، ولكنهم دخلوا بثقلهم، فصلوا آناء الليل. وأحبوا أن ينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ [الذاريات: ١٥ - ١٦]
ما معنى «محسن» ؟ إنها وصف للإنسان الذي آمن بربه فعبد الله بأكثر مما افترض
1687
تعبدنا الله بخمس صلوات فنزيدها لتصل إلى عشرين مَثَلاً، ونحن تعبدنا الله بصيام شهر في العام ومنا من يصوم في كل شهر عددا من الأيام.
العام ومنا من يصوم في كل شهر عددا من الأيام.
وتعبدنا بالزكاة بالنصاب، ومنا من يزيد على النصاب، وتعبدنا سبحانه بالحج مرة، ومنا من يزيد عدد مرات الحج. فحين يريد العبد أن يدخل في مقام الإحسان فبابه هو أداء عبادات من جنس ما تعبده الله به؛ فالعبد لا يخترع أو يقترح العبادة التي يعبد بها الله، ولكنه يزيد فيما افترضه الله.
وهؤلاء الذين آمنوا بالله من أهل الكتاب ويتحدث عنهم القرآن، لقد دخلوا بثقلهم في الإسلام فصلوا آناء الليل وقرءوا القرآن، ودخلوا مقام الإحسان، وأرادوا أن يطبقوا القول الحق: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧]
أي أنهم ما داموا قد صلوا في الليل، وقليلا ما هجعوا فلا بد أنهم قد أدوا الصلاة في آناء كثيرة من الليل. ونحن حين ندخل في مقام الإحسان ونصلي في الليل، ونكون بارزين إلى السماء فلا يفصلنا شيء عنها، وننظر فنجد نجوما لامعة تحت السماء الدنيا، وأهل السماء ينظرون للأرض فيجدون مثلما نجد من النجوم المتلألئة اللامعة في الأرض، ويسألون عنها فيقال لهم: إنها البيوت التي يصلي أهلها آناء الليل وهم يسجدون، وكل بيت فيه هذا يضيء كالنجوم لأهل السماء. ويضيف الحق في صفات هؤلاء: ﴿وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ وهل فرض الله على خلقه بأن يصلوا آناء الليل فلا يهجعون إلا قليلا من الليل؟ لا، ولكن من يريد أن يدخل في مقام الإحسان، فهو يفعل ذلك. أما المسلم العادي فيكتفي بصلاة العشاء، وعندما يأتي الصبح فهو يؤدي الفريضة. لكن من يدخل في مقام الإحسان فقليلا من الليل ما يهجع. وينطبق عليه القول الحق: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ [الذاريات: ١٥ - ١٩]
1688
وهذه دقة البيان القرآني التي توضح مقام الإحسان، فيكون في ما لهم حق للسائل والمحروم، وليس هناك قدر معلوم للمال الذي يخرج، لأن المقام هنا مقام الإحسان الذي يعلو مقام الإيمان، ومقام الإيمان - كما نعرف - قد جاء ذكره في قوله الحق: ﴿والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين﴾ [المعارج: ٢٤ - ٢٦]
فالإنسان في مقام الإيمان قد يقيد الإخراج من ماله بحدود الزكاة أو فوقها قليلا، لكن في مقام الإحسان فلا حدود لما يخرج من المال. وهكذا نعرف أن أهل الكتاب ليسوا سواء؛ فمنهم من دخل الإسلام من باب الإحسان، فقال فيهم الحق: ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾، وكأن الحق بهذا الاستثناء الواضح. ويؤكد لنا أننا لا يصح أن نظن أن أهل الكتاب جميعهم هم الذين جاء فيهم قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ لا؛ فأهل الكتاب ليسوا سواء، ولذلك لا يكون حكم الله منسحبا عليهم جميعا، فمن أهل الكتاب جماعة قائمة بتلاوة القرآن آناء الليل وهم يسجدون، إنهم أمة قائمة، وكلمة «قائم» هي ضد «قاعد»، والقعود غير الجلوس، فالجلوس يكون عن الاضطجاع فيقال: كان مضطجعا فجلس.
لكن عندما نقول: «كان قائما» فإننا نقول فقعد، فالقعود يكون بعد القيام. والقعود في الصلاة مريح، أما القيام فهو غير مريح، ونحن نعرف أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقف في الصلاة حتى تتورم قدماه؛ لأن الثقل كله على القدمين، ولكن عندما نقعد فنحن نوزع الثقل على جملة أعضاء الجسم. وعندما يصفهم الحق: ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾ فمعنى ذلك أنهم أخذوا أمانة أداء الفروض بكل إخلاص، وكانوا يؤدون الصلاة باستدامة وخشوع. ويستمر الحق في وصفهم في الآية التالية: ﴿يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر... ﴾
1689
وهم بالإيمان بالله واليوم الآخر، وبالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إنما يتصفون بالصفات التي أوردها الله صفة لخير أمة أٌخرجت للناس وهي أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد دخل هذا البعض من أهل الكتاب بثقلهم - ومن أول الأمر - في مقام الإحسان، وما داموا قد دخلوا في مقام الإحسان فهم بحق كانوا مستشرفين لظهور النبي الجديد. وبمجرد أن جاء النبي الجديد تلقفوا الخيط وآمنوا برسالته، وصاروا من خير أمة أخرجت للناس. ويكمل الحق سبحانه صفاتهم بقوله: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ وهذا كمثل قوله سبحانه وتعالى في حق المؤمنين: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٣]
ونحن نعرف أن هناك فرقا بين «السرعة» و «العجلة» ف «السرعة» و «العجلة» يلتقيان في تقليل الزمن بالنسبة للحدث، ومثال ذلك أن يقطع إنسان المسافة من مكان إلى مكان في زمن معين، والذي يسرع في قطع المسافة هو الذي يستغرق من الزمن أقل وقت ممكن ولكن هناك اختلاف بين السرعة والعجلة، وأول خلاف بينهما يتضح في المقابل، فمقابل السرعة الإبطاء، ويقال: فلان أسرع، وعلان أبطأ ومقابل «العجلة» هو «الأناة» فيقال: فلان تأنى في اتخاذ القرار. فالسرعة ممدوحة ومقابلها وهو «الإبطاء» مذموم، «والعجلة» مذمومة، ومقابلها هو التأني ممدوح؛ لأن السرعة هي التقدم فيما ينبغي التقدم فيه، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي التقدم فيه، ولذلك قيل في الأمثال: «في العجلة الندامة وفي التأني السلامة» وقال الحق: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [آل عمران: ١٣٣]
1690
وهو سبحانه: هنا يقول ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ أي كلما لمحت لهم بارقة في الخير فهم يسرعون إليها، أي أنهم يتقدمون فيما ينبغي التقدم فيه، إنهم يعلمون أن الإسراع إلى الخير حدث، وكل حدث يقتضي حركة، والحركة تقتضي متحركا والمتحرك يقتضي حياة، فما الذي يضمن للإنسان أن تظل له حياة، لذلك يجب أن تسرع إلى الخيرات، وسيدنا عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه كان ينام القيلولة، وكان حاجبه يمنع الناس من إيقاظ الخليفة، فجاء ابن عمر بن عبد العزيز وقال للحاجب:
أريد أن أدخل على أمير المؤمنين الساعة، فمنعه الحاجب قائلا: إنها ساعة يستريح فيها وهو لا يستريح من الليل أو النهار إلاّ فيها، فدعه ليستريح. وسمع سيدنا عمر بن عبد العزيز الضجة، فسأل الحاجب. قال الحاجب: إنه ابنك، ويريد أن يدخل عليك وأنا أطالبه ألا يدخل حتى تستريح. قال عمر بن عبد العزيز للحاجب: دعه يدخل. فلما دخل الابن على أبيه، قال الابن: يا أبي بلغني أنك ستخرج ضيعة كذا لتقفها في سبيل الله.
قال عمر بن عبد العزيز؛ أفعل إن شاء الله. غدا نبرمها. قال الابن متسائلا: هل يبقيك الله إلى غد؟ فقال عمر بن عبد العزيز وهو يبكي: الحمد لله الذي جعل من أولادي من يعينني على الخير.
لقد أراد الابن من أبيه أن يسارع إلى الخير، فما دامت هبة الخير قد هبَّت عليه فعلى الإنسان أن يأخذ بها؛ لأن الإنسان لا يدري أغيار الأحداث في نفسه، لذلك فعليه أن يسارع إلى اقتناص هبة الخير، وها هو ذا ابن عمر بن عبد العزيز يعين والده على الخير، لكننا في زمننا قد نجد من الأبناء من يطلب الحَجْر على أبيه إن فكر الأب في فعل الخير، متناسين قول الحق: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين﴾.
وهنا يبرز سؤال هو: لأي عمل هم صالحون؟
والإجابة تقتضي قليلا من التأمل، إننا نقول في حياتنا: «إن فلانا رجل صالح» ومقابله «رجل طالح». والإنسان صالح للخلافة، فقد جعل الله آدم وذريته خلفاء في الأرض، والرجل الصالح يرى الشيء الصالح في ذاته فيترك هذا الشيء على ما هو عليه أو يزيده صلاحا. أما الرجل الطالح أو المفسد فهو يأتي إلى الشيء الصالح فيفسده، ولا يفعل صلاحا.
1691
إن الرجل - على سبيل المثال - قد يجد بئرا يأخذ منه الناس الماء، فإن لم يكن من أهل العزم فإنه يتركه على حاله. وإن كان طالحا فقد يردم البئر بالتراب. أما إن كان الرجل من أهل الصلاح والعزم فهو يحاول أن يبدع في خدمة الناس التي تستقي من البئر، فيفكر ليبني خزانا عاليا ويسحب الماء من البئر بآلة رافعة، ويخرج من الخزان أنابيب ويمدها إلى البيوت، فيأخذ الناس المياه وهم في المنازل، إن هذا الرجل قد استخدم فكره في زيادة صلاح البئر.
إذن فكلمة «رجل صالح» تعني أنه صالح لأن يكون خليفة في الأرض وصالح لاستعمار الأرض أي أن يجعلها عامرة، فيترك الصالح في ذاته، أو يزيده صالحا، ويحاول أن يصلح أي أمر غير صالح. الرجل الصالح عندما يعمل فهو يحاول أن يجعل عمله عن عمق علم، فلا يقدم على العمل الذي يعطي سطحية نفع ثم يسبب الضرر من بعد ذلك.
ومثال ذلك حين اخترعوا المبيدات الحشرية ظنوا أنهم تغلبوا على الآفات في الزراعة، لكنهم لم يعرفوا أنهم قد أضروا بالزراعة وبالبيئة أكثر مما أفادوا، لذلك عادوا يقولون: لا تستعملوا هذه المبيدات؛ لأنها ذات أضرار جمة، ولهذا لا بد أن يكون كل عمل قائما على قواعد علمية سليمة، ولنقرأ قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: ٣٦] وقوله سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ [الكهف: ١٠٣ - ١٠٤]
إذن فقد كرم الله من آمن من أهل الكتاب فوصفهم الوصف الحقيقي، فهم يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات، ثم يحكم الحق عليهم حكما عاما بأنهم من الصالحين لعمارة الكون والخلافة في الأرض.
1692
ومن بعد ذلك يضيف الحق: ﴿وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ والله عَلِيمٌ بالمتقين﴾
1693
إنه سبحانه يعطيهم الجزاء العادل، وإن شيئا لا يضيع عنده وهو الحق؛ فالخير الذي يفعلونه لن يُجحد لهم أو يستر عن الناس؛ لأنه سبحانه عليم بالمتقين، فمن الجائز أن يصنع إنسان الأعمال ولا يراها أحد، أما الحق فهو يرى كل عمل، وهو الذي يملك حسن الجزاء. وبعد ذلك يعود الحق لتبيان حال الذين كفروا فيقول: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً... ﴾
يظن الكافرون أن الأموال والأولاد قد تغني من الله، إنهم لا يحسنون التقدير، فالأموال والأولاد هما من مظان الفتنة مصداقا لقوله تعالى: ﴿واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٢٨]
وما دامت الأموال والأولاد فتنة فلا بد أن نفهم الأمر على حقيقته؛ فالفتنة ليست مذمومة في ذاتها؛ لأن معناها اختبار وامتحان، وقد يمر الإنسان بالفتنة، وينجح.
1693
كأن يكون عنده الأموال والأولاد، وهم فتنة بالفعل فلا يغره المال بل إنه استعمله في الخير، والأولاد لم يصيبوه بالغرور بل علمهم حمل منهج الله وجعلهم ينشأون على النماذج السلوكية في الدين، لذلك فساعة يسمع الإنسان أي أمر فيه فتنة فلا يظن أنها أمر سيء بل عليه أن يتذكر أن الفتنة هي اختبار وابتلاء وامتحان، وعلى الإنسان أن ينجح مع هذه الفتنة؛ فالفتنة إنما تضر من يخفق ويضعف عند مواجهتها. والكافرون لا ينجحون في فتنة الأموال والأولاد، بل سوف يأتي يوم لا يملكون فيه هذا المال، ولا أولئك الأولاد، وحتى إن ملكوا المال فلن يشتروا به في الآخرة شيئا، وسيكون كل واحد من أولادهم مشغولا بنفسه، مصداقا لقول الحق: ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور﴾ [لقمان: ٣٣]
إن كل امرئ له يوم القيامة شأن يلهيه عن الآخرين، والكافرون في الدنيا مشغولون بأموالهم وأولادهم وعندما نتأمل قوله: ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ نجد أننا نقول: أغناه عن كذا أي جعله في استغناء فمن هو الغَنيُّ إذن؟ الغني هو من تكون له ذاتية غير محتاجة إلى غيره، فإن كان جائعا فهو لا يأَكل من يد الغير، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «ليس الغني عن كثرة العرض، ولكن الغني غنى النفس».
والمقصود بالعَرَض هو متاع الحياة الدنيا قلّ أو كثر، ومتاع، وعرض الدنيا كالماء المالح، كلما شربت منه ازددت ظمأ. إن الكافر من هؤلاء يخدع نفسه ويغشها، ويغتر بالمال والأولاد وينسى أن الحياة تسير بأمر من يملك الملك كله، إن الكافر يأخذ مسألة الحياة في غير موقعها، فالغرور بالمال والأولاد في الحياة أمر خادع، فالإنسان يستطيع أن يعيش الحياة بلا مال أو أولاد. ومن يغتر بالمال أو الأولاد في الحياة يأتي يوم القيامة ويجد أمواله وأولاده حسرة عليه لماذا؟ لأنه كلما تذكر أن المال والأولاد أبعداه عما يؤهله لهذا الموقف فهو يعاني من الأسى ويقع في الحسرة.
1694
ويقول الحق سبحانه عن هذا المغتر بالمال والأولاد وهو كافر بالله: ﴿وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وهذا مصير يليق بمن يقع في خديعة نفسه بالمال أو الأولاد.
وكيف يكون الإنسان صاحباً للنار؟ لنعرف أولا معنى كلمة «الصاحب»، إن الصاحب هو الملازم؛ فنحن نقول: فلان صاحب فلان أي ملازمه، لكن من أين تبدأ الصحبة؟. إن الذي يبدأ الصحبة هو «فلان» الأول، ل «فلان الثاني» الذي يقبل الصحبة أو يرفضها، وهذا أمر قد نعرفه وقد لا نعرفه، وعن الصحبة مع النار نرى أن الإنسان يلوم نفسه ويؤنبها على أنه اختار النار وصاحبها.
ألسنا نرى في الحياة إنسانا قد ارتكب ذنبا وأصابه ضرر، فيضرب نفسه ويقول: أنا الذي استأهل ما نزل بي وأستحقه، وكذلك الإنسان الكافر يجد نفسه يوم القيامة، وهو يدخل النار، ويقول لنفسه: أنا أستحق ما فعلته بنفسي، وتقول النار لحظتها ردا على سؤال الحق لها: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ [ق: ٣٠]
وفي الآخرة نرى أبعاض الإنسان الكافر وهي تبغض صاحبها، فإذا كان للإنسان ولاية على أبعاضه في الدنيا، وهي خاضعة لإرادته إلا أن هذه الأبعاض تأتي يوم القيامة وصاحبها خاضع لإرادتها. إن الظالم يقول ليده في الدنيا، «اضربي فلانا وشددى الصفعة» فلم تعصه يده في الدنيا؛ لأن الله خلقها خاضعة لإرادته، والظالم لنفسه بالكفر يأمر لسانه أن ينطق كلمة الكفر، فلا يعصاه اللسان في الدنيا، لماذا؟ لأن أبعاضه خاضعة لإرادته في الحياة الدنيا، لكن ذلك الكافر يأتي يوم القيامة وتنعزل عن إرادته، فتتحرر أبعاضه، ولا تكون مرغمة على أن تفعل الأفعال التي لا ترتضيها، وتتمرد الأبعاض على صاحبها، وتشهد عليه. قد يقول قائل: ولكن الأبعاض هي التي تتعذب. نعم، ولكنها تقبل العذاب تكفيرا عما فعلت.
إذن فالصحبة تبدأ من الأبعاض للنار ﴿وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فإن رأينا كفارا يعملون خيرا في الدنيا فليحذر كل منا نفسه قائلا: إياك يا نفس أن
1695
تنخدعي بذلك الخير. لماذا؟ لأن الكافر يعيش كفر القمة، وكل عمل مع كفر القمة هو عمل حابط عند الله، وإن كان غير حابط عند الناس. وبعد ذلك يقول الحق عن هؤلاء الكافرين: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ... ﴾
1696
إن الحق يصف ما ينفقه هؤلاء الكافرون في أثناء الحياة الدنيا وهم بعيدون عن منهج الله إنه - سبحانه - يشبهه بريح فيها صر، أي شدة، فمادة «الصاد والراء» تدل على الشدة والضجة والصخب، ومثال ذلك ما قاله الحق عن إمرأة إبراهيم: ﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ [الذاريات: ٢٩]
إنها أتت وجاءت بضجيج؛ لأنها عجوز وعقيم ويستحيل عادة أن تلد. ومثل قوله الحق: ﴿وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٦]
والريح الصرصر هي التي تحمل الصقيع ولها صوت مسموع.
وقوله الحق: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ أي أن الريح جعلت البرد شائعا وشديدا، فالبرد قد يكون في منطقة لا ريح فيها، ويظل باقيا في منطقته تلك، وعندما تأتي
1696
الريح فإنها تنقل هذا البرد من مكان إلى مكان آخر، فتتسع دائرة الضرر به. وماذا تفعل الريح التي فيها شِدة برد؟ إنها تفعل الكوارث، ويقول عنها الحق: ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ وساعة نسمع كلمة «حرث» فنحن نعرف أنه الزرع، وقد سماه الله حرثاً، ليعرف الإنسان إنه إن لم يحرث فلن يحصد، يقول الحق: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾ [الواقعة: ٦٣ - ٦٥]
كأن الريح العارمة تفسد الحرث، وهو العملية اللازمة للإنبات؛ فالحرث إثارة للأرض، أي جعل الأرض هشة لتنمو فيها الجذور البسيطة، وتقوى على اختراقها، وأخذ الغذاء منها، وهذه الجذور تستطيع - أيضا - من خلال هشاشة الأرض المحروثة أن تأخذ الهواء اللازم للإنبات.
إن الحق سبحانه يريد أن يضرب لنا المثل وهو عن جماعة غير مؤمنين أنفقوا أموالهم في الخير، لكن ذلك لا ينفعهم ولا جدوى منه. مصداقا لقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ وهكذا يكون مصير الإنفاق على نية غير مؤمنة، كهيئة الحرث الذي هبت عليه ريح فيها صوت شديد مصحوب ببرد، فال «صر» فيه الشدة والبرودة والعنف، وحاتم الطائي كريم العرب يقول لعبده:
أوقد؛ فإن الليل ليل قر والريح يا غلام ريح صر
عَلَّ يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفا فأنت حر
إن هذا الرجل الكريم يطلق سراح العبد إذا ما هدى ضيفاّ إلى منزل حاتم الطائي. «والليل القر» : هو الليل الشديد البرودة. و «الريح الصر» : هي
1697
الريح الشديدة المصحوبة بالبرد. ونعرف في قُرَاَنا أن الصقيع ينزل على بعض المزروعات، فيتلفها. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه قد جاء بهذه الآية الكريمة بعد أن أوضح لنا في الآية السابقة عليها أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا ومصيرهم النار، وهو سبحانه يدفع أي شبهة تطرأ على السامع، وهي أن هذه الأموال التي أنفقها الكافرون لعمل الخير، لن تغني عنهم شيئا في الآخرة؛ لأنهم لا يملكونها.
لماذا؟
لأن العمل إنما يراد للثواب عليه، والنية دائما هي التي تحدد الهدف من كل حركة.. فهل كان في نية الكفار حين أنفقوا أموالهم في الخير الذي يعلمه الناس كالمساعدات، وتفريج الكرب، وإنشاء المستشفيات هل كان في بال هؤلاء الكفار رَبُّ هذه النعم، أو كانوا يعملونها طمعا في جاه الدنيا، وتقدير التاريخ وذكر الإنسانية؟
لا شك أنهم كانوا يعملونها للجاه، أو للتاريخ، أو للإنسانية؛ لأنهم لا يؤمنون بما وراء ذلك، فهم لا يؤمنون بوجود إله ولا يؤمنون بوجود يوم آخر يًُحَاسبون فيه على ما قدموا. وقلنا من قبل: إن الذي يعمل عملا فليطلب أجره ممن عمل له، وما داموا قد عملوا للدنيا وذكرها، وجاهها، والفخر فيها، فقد أعطتهم الدنيا كل شيء.
الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلا، وهو الذي يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومعنى المثل: أن يأتي إلى أمر معنوي قد يغيب عن بعض العقول فهمه، فيشخصه ويمثله بأمر حسي يعرفه الجميع، ونحن نعرف أن المحسات هي أصل المعنويات في الفهم. ونعرف أن الطفل أول ما تتفتح إدراكاته يدرك الشيء المحس أولا، ثم بعد ذلك يكوّن من المحسات المعقولات.
فالطفل - على سبيل المثال - يرى نارا فيمسكها فتحرقه، فيتكون عند الطفل اقتناع بأن النار محرقة. ويشرب الطفل عسلا، فيجده حلوا، فيتكون عنده اقتناع بأن العسل حلو الطعم، ويأكل الطفل شيئا مرا كالحنظل، فتتكون عنده قضية معلومة وهي أن هذا الشيء مر الطعم، فكل المعلومات التي يعرفها الإنسان بوسائل
1698
إدراكه المتعددة إنما تأتي من الأمور المحسة أولا.
والأمور المحسة - كما علمنا - وسائلها الحواس الخمس الظاهرة، وهي: العين لترى، والأذن لتسمع، والأنف ليشم، واللسان ليذوق، والأنامل لتلمس، وهكذا نعرف أن كل حاسة ظاهرة لها غاية في الإدراك. والإنسان يتمتع بحواس أخرى ندرك أعمالها، ولكنا لا ندرك أجهزتها أو آلاتها.
مثال ذلك: حاسة البعد وهي أن يعرف الإنسان هل الشيء الذي يراه قريب منه أو بعيد عنه؟ وكذلك حاسة الثقل فيحمل الإنسان الشيء فيعرف مدى ثقله، إنه يدرك ذلك الثقل بحاسة غير الحواس الخمس الظاهرة، هذه الحاسة هي حاسة الثقل يكتشف بها الإنسان أن شيئا أثقل من شيء آخر؛ ذلك أن العضلات التي تحمل الشيء تعرف قدر الجهد المبذول في الحمل. وهناك حاسة أخرى غير ظاهرة هي حاسة «البَين» فيمسك الإنسان القماش بأنامله ليعرف هل سمك هذا القماش أكبر من سمك قماش آخر؟ ولمعرفة سمك الشيء لا بد أن يكون واقعا بين لامسين.
إذن فهناك حواس كثيرة تربي المعاني عندنا؛ فكل الإدراكات بنت الحس، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨]
هذه هي الوسائل للإدراك، وقد أورد سبحانه السمع والأبصار أولا لأنهما الوسيلتان الأساسيتان، وأورد من بعد ذلك «الأفئدة» وهي المختصة بالمعاني والقلبيات وغيرها، فإذا أراد الله أن يضرب مثلا في أمر معنوي قد تختلف فيه العقول فهو سبحانه يأتي بأمر حسيّ تتفق فيه الحواس. ونعلم أن في اللغة أمرا اسمه «التشبيه»، فعندما يجهل إنسان شيئا يقول لمعلمه: شبه لي الأمر الذي أجهله بأمر أعرفه. والإنسان منا قد يسأل صاحبه: أتعرف فلانا؟ فيقول الصاحب: لا أعرفه، فيقول الإنسان منا لصاحبه: إن فلانا الذي لا تعرفه يساوي فلانا في الطول، ويساوي فلانا في اللون. وهكذا ينتقل الإنسان من أمر
1699
لا يعرفه إلى أمر يعرفه. والحق سبحانه يضرب لنا المثل بالأمور الحسية، لنفهم الأمور المعنوية، والله يوضح لنا أن الذين كفروا ساعة تكون لهم آلهة متعددة فملكاتهم تصاب بالاضطراب يقول - سبحانه -: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٢٩]
إنه سبحانه يوضح لنا بالمثل الواضح مصير وحال رجل مملوك لعدد من الشركاء، والشركاء الذين يملكون هذا العبد ليسوا متفقين، بل بينهم نزاع وشقاق، وبطبيعة الحال لا بد أن يكون هذا العبد مرهقا، وهكذا تكون قضية الشرك بالله، إن العبد في مثل هذه الحالة يكون مُشتّتاً وموزع النفس بين الذين يملكونه وهم متشاكسون، أما قضية التوحيد فالحق يشبهها بالقول: ﴿وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ﴾.
وهكذا ينقلنا الحق سبحانه - رحمة بنا - من المعنى العقدي العالي إلى معنى محس من الجميع، لنرى أن الرجل المملوك لسيد واحد يتلقى أوامره من واحد فقط، وكذلك يريد الله في هذه الآية أن يضرب مثلا لمن ينفق شيئا على غير نية إرضاء الله في طاعته، فمهما أنفق هذا الإنسان فإن إنفاقه حابط. ونحن عندما نقرأ أمثال القرآن الكريم علينا ألا نأخذ جزئية فقط، لا، لكن يجب أن نأخذ الجملة كلها لنفهم المثل كله كصورة مؤتلفة مثلما ضرب الله لنا مثلا بالشركاء المتشاكسين الذين يملكون رجلا، فعلينا إذن ألاّ نأخذ المثل بحرفيته، ولكن نأخذ الأمر بمجموع المثل. مثال آخر، يقول الحق سبحانه: ﴿واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً﴾ [الكهف: ٤٥]
فهل الحياة الدنيا كالماء؟ لا، ولكن قصة الحياة كلها، تشبه القصة التي يضربها الحق كمثل، الماء حين ينزل يختلط بالأرض، وبعد ذلك تهتز، فتعطى نباتا، والنبات ينتج الزهر الجميل، وبعد ذلك ينتهي إلى هشيم، هكذا هي الدنيا في
1700
زخرفتها؛ فالبداية مزهرة، فيها نضارة وخضرة وبهجة، ونهاية مؤلمة ومدمرة.
إذن فالحق سبحانه ينقل لنا معنى الحياة الدنيا ويشبهها بالأزهار والنبات ونهايته أن يصبح هشيما تذروه الرياح، وهو ما يقوله في موضع آخر من القرآن الكريم. ﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٢٤]
وعندما نمعن النظر في قوله الحق:
﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١١٧]
نجد في هذه الآية «مشبها» و «مشبها به»، المُشَبَّه هم القوم الذي ينفقون أموالهم بغير نية الله، أي كافرون بالله، والمُشَبَّه به: هو الزرع الذي أصابته الريح وفيها الصر، والنتيجة أنه لا جدوى هنا، ولا هناك.
ولماذا تصيب الريح حرث قوم ظلموا أنفسهم، وهل لا تصيب الريح حرث قوم لم يظلموا أنفسهم؟
إن الذين ظلموا أنفسهم تنزل بهم هذه الكارثة كعقوبة، مثلهم في ذلك مثل أصحاب الجنة الذين يقول فيهم الحق سبحانه: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم﴾ [القلم: ١٧ - ٢٠]
1701
لقد جزاهم الله بظلمهم، ولكن ألا نرى رجلا لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة؟ إننا نرى ذلك في الحياة، والرجل الذي لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة، ويصبر على كارثته، يأخذ الجزاء والثواب من الله، ولعل الله قد أهلك بها مالا كانت الغفلة قد أدخلته في ماله من طريق غير مشروع.
هكذا تكون الكارثة بالنسبة للمؤمن لها ثواب وجزاء، أو تكون تطهيرا للمال. أما الذي ينفق على غير نية الله وهو كافر، فلا ثواب له.
ويذيل الحق الآية بقوله ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ فهو سبحانه لم يظلم الكافرين حين جعل نفقتهم بدون جدوى ولا حصيلة لها عنده، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم، لأنهم أنفقوا النفقة على غير هيئة القبول، وهم الذين صنعوا ذلك عندما ظلموا أنفسهم بالكفر فَحَبطت أعمالهم، وتلك هي عدالة الحق سبحانه وتعالى:
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ... ﴾
1702
حين يخاطب الله المؤمنين ويناديهم بقوله: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ فلتعلم أن ما يجيء بعد ذلك هو تكليف من الحق سبحانه. فساعة ينادي الحق المؤمنين به، فإنه ينادي ليكلف، وهو سبحانه لا يكلف إلا من آمن به، أما حين يدعو غير المؤمن به إلى رحاب الإيمان، فإنه يثير فيه القدرة على التفكير، فيقول له:
فكّر في السماء، فكّر في الأرض، فكّر في مظاهر الكون، حتى تؤمن أن للكون إلها واحدا. فإذا آمن الإنسان بالإله الواحد، فإن الحق سبحانه وتعالى يقول له ما دمت قد آمنت بالإله الواحد، فَتَلَقَّ عن الإله الحكم.
إن الحق حين يقول: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ فهو سبحانه يخاطب بالتكليف المؤمنين به، وهو لا يكلف ب «افعل» و «لا تفعل» إلا من آمن، أما من لم يؤمن فيناديه الله ليدخل في حظيرة الإيمان: ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ فإذا ما دخل الإنسان في حظيرة الإيمان فالحق سبحانه وتعالى يكرم هذا المؤمن بالتكليف ب «افعل» و «لا تفعل» وما دام العبد قد آمن بالإله القادر الحكيم الخالق، القيوم، فليسمع من الإله ما يصلح حياته. ويجيء في بعض الأحيان ما ظاهره أن الله ينادي مؤمنا به، ثم يأمره بالإيمان كقول الحق: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾.
ويتساءل الإنسان كيف ينادي الله مؤمنا به، ثم يأمره بالإيمان؟ وهنا نرى أن المطلوب من كل مؤمن أن يؤدي أفعال الإيمان دائما ويضيف لها ليستمر ركب الإيمان قويا، فالحق حين يطلب من المؤمن أمراً موجودا فيه؛ فلنعلم أن الله يريد من المؤمن الاستدامة على هذا اللون من السلوك الذي يحبه الله، وكأن الحق حين يقول: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ إنما يحمل هذا القول الكريم أمراً بالاستدامة على الإيمان، لأن البشر من الأغيار. ونحن نعرف أن الله أفسح بالاختيار مجالا لقوم آمنوا فارتدوا، فليس الأمر مجرد إعلان الإيمان ثم تنتهي المسألة، لا، إن المطلوب هو استدامة الإيمان.
وحين نقرأ قول الحق: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ فلنفهم أن هناك تكليفا جديدا، وما دام في الأمر تكليف فعنصر الاختيار موجود، إذن فحيثية كل حكم تكليفي من الله له مقدمة هي: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ ولا تبحث أيها المؤمن في علة الحكم،
1703
وتسأل: لماذا كلفتني يارب بهذا الأمر؟ فليس من حقك أيها المؤمن أن تسأل: «لماذا» ما دمت قد آمنت؛ فالحق سبحانه لم يكلف إلا من آمن به، فإذا كنت - أيها المؤمن - قد آمنت بأنه إله صادق قادر حكيم فأمن الله على نفسك، ونفذ مطلوب الله ب «افعل» و «لا تفعل» سواء فهمت العلة أم لم تفهمها.
وسبق أن ضربنا المثل وما زلنا نكرره.
إن المريض الذي يشكو من سوء الهضم بعد تناول الطعام يفكر أن جهازه الهضمي مصاب بعلة، ويفكر في اختيار الطبيب المعالج ويختار طبيبا متخصصا في الجهاز الهضمي، ويذهب إلى هذا الطيب. وهنا ينتهي عمل العقل بالنسبة للمريض؛ فقد اختار طبيبا وقرر الذهاب إليه، والطبيب يجري الفحص الدقيق، ويطلب التحاليل اللازمة إن احتاج الأمر، ويشخص الداء، ثم يكتب الدواء، وحين يكتب الطبيب الدواء للمريض، فإن المريض لا يصح أن يقول للطبيب لن آخذ هذا الدواء إلا إذا أقنعتني بحكمته. بل عليه أن ينفذ كلام الطبيب، وهكذا يطيع المريض الطبيب، وكلاهما مساوٍ للآخر في البشرية، فكيف يكون أدب الإنسان مع خالقه؟ إن كل عمل العقل عند المؤمن هو أن يؤمن بالله، وبعد أن آمنت - أيها المؤمن - بالله حكيما، فَتَلَقَّ عن الله الحكم؛ لأنه مأمون على أن يوجهك لأنك أنت صنعته.
إن الحق يأمر المؤمن بالصلاة، وعلى المؤمن أن يؤديها، ولا يبحث عن علة الصلاة كأنها رياضة مثلا، لا، إن الأمر صادر من الحق بالصلاة، وحين تصلي، فإنك تلتفت إلى أن نفسك قد انشرحت بالصلاة وشعرت بالراحة، فتقول لنفسك: ما أحلى راحة الإيمان؛ هذه هي علة الحكم الإيماني. إن علة الحكم الإيماني يعرفها المؤمن بعد أن ينفذه، ولذلك نجد الحق من فضل كرمه، يقول لنا: ﴿واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٨٢]
فأنت ساعة أن تتقي الله في الحكم، يعطيك العلة، ويعطيك راحة الإيمان، إنك أيها العبد لا تسأل أولا عن الاقتناع بالعلة حتى تنفذ حكما لله، لأن الحق
1704
سبحانه قد يؤجل بعض حيثيات الأحكام لخلقه قرونا طويلة، ومثال ذلك أننا ظللنا لا نعرف علة حكم من الأحكام لمدة أربعة عشر قرنا من الزمان مثل تحريم أكل لحم الخنزير، فهل كان على العباد المؤمنين أن يؤجلوا أكل لحم الخنزير أربعة عشر قرنا إلى أن يمتلكوا معامل للتحليل حتى نعرف المضار التي فيه؟ تلك المضار التي ثبتت معمليا.. لا.
إن العباد المؤمنين لم يؤجلوا تنفيذ الحكم، ولكنهم نفذوه، واكتشف أحفاد الأحفاد أن فيه ضرراً، وهذا يدفعنا إلى تنفيذ كل حكم لا نعرف له علة، إن هذا الحكم له حكمة عند الله قد لا يستطيع عقل الإنسان أن يفهمها، ولكن ستأتي أشياء توضح بعض الأحكام فيما لم يكن يعرفه الإنسان، وتعطينا تلك الإيضاحات الثقة في كل حكم لا تعرف له علة، وتصبح علة كل حكم هي: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾.
إن الحق بهذا القول ينادي كل عبد من عباده: يا من آمنت بي إلها خذ مني هذا التكليف. ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - عندما يقول الطبيب: يا من صدقت أني طبيب لمرضك خذ هذا الدواء وستشفى بإذن الله.
وعندما يزور الإنسان مريضا ويسأله: لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فالمريض يجيب: لقد كتب الطبيب لي هذا الدواء، فما بالنا بتنفيذ أحكام الله؟ إنه يجب أن ننفذها لأن الله قالها، ولذلك فالعاقلون بعمق وجدية يختلفون عن مُدعى العقل بسطحية، هؤلاء العاقلون الجادون يقولون: إن هذا العقل مطية يوصلك إلى باب السلطان ولكن لا يدخل معك عليه. فكأن العقل يوصلك إلى أن تؤمن بالله، ولكنه لا يحشر نفسه فيما ليس له قدرة عليه.
إن الحق سبحانه في هذا التكليف القادم: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ﴾ أي أنكم ما دمتم قد آمنتم، فعليكم الحفاظ على هذا الإيمان بأن تبعدوا عنه نزغ الشيطان وكيد الأعداء. إن نزغ الشيطان وكيد الأعداء إنما يأتي من البطانة التي تتداخل مع الإنسان.
ولنفهم كلمة «بطانة» جيدا، إن بطانة الرجل هم خاصته، أي الناس الذين
1705
يصاحبهم ويجلسون معه ويعرفون أسراره، وكلمة «بطانة» مأخوذة أيضا من بطانة الثوب؛ فنحن عندما نمسك أي قطعة من ثياب نرى أن الثوب خشن، ولذلك فالصانع يضع للثوب الخشن بطانة ناعمة ويختارها كذلك؛ لأنها متصلة بالجسم، والبطانة من الأصدقاء تدخل على الناس بالنعومة وتستميلهم وتستعبدهم. ولذلك نجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الأنصار شعار، والناس دثار».
«والشعار» هو الثوب الذي يلامس شعر الجسد، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُعلي من قيمة الذين استقبلوا الدعوة الإسلامية بمودة وحب. وهكذا نعرف أن كلمة «بطانة» مأخوذة - كما قلنا - من بطانة الثوب، لأنها التي تلتحم بالجسم حتى تحميه؛ فنحن نرتدي الصوف ليعطينا الدفء، ونضع بينه وبين الجسم بطانة لنبعد عن الجسم خشونة الصوف، ويسمون البطانة بالوليجة، أي التي تدخل في حياة الناس، وكل شر في الوجود من هذه البطانة.
إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو معصوم وموحى إليه وله من الصحابة ما يطمح أي عبد مؤمن أن يتخذه قدوة له، هذا الرسول الكريم نجد بعضا من وصفه في حوار بين سيدنا الحسين رضوان الله عليه وأبيه سيدنا علي كرم الله وجهه قال الحسين:
يا أبي قل لي عن مجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال علي كرم الله وجهه:
كان رسول الله لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. وفي الحديث: «كان رسول الله يكثر الذكر».
لماذا؟ لأن الجلوس والقيام هو إبطال حركة بحركة، فمن كان قائما فقعد فقد أدى حركة هي القعود، ومن كان جالسا فقام، فقد أدى حركة هي القيام. وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يذكر الله في كل حركة، شاكرا نعمة الخالق عَزَّ وَجَلَّ، والإنسان منا يستطيع أن يسأل نفسه: كم عضلة يحركها الإنسان حتى يقعد أو يقوم؟
1706
إنها أعداد كبيرة من العضلات تتحرك لتوازن ارتفاع الجسم أو جلوسه، وهي أعداد لا يعرفها الإنسان.
فما الذي جعل هذه الأجهزة الصماء تفهم مراد الإنسان، وبمجرد أن يحاول الإنسان القيام، فإنه يقوم، وبمجرد أن يحاول الإنسان القعود، فإنه يقعد؟ إنك إذا رفعت يدك لا تعرف ما هي العضلات التي تتحرك لترفع اليد، وتلك إدارة عالية يقول عنها الشاعر:
«وفيك انطوى العالم الأكبر»... كأن العالم الكبير قد انطوى وصار في داخلك أنت. إنك إن أردت أن تنام فإنك تنام، وتحب أن تقوم فتقوم. ويبين لك الحق أن أوامرك لعضلاتك وتحكمك في مملكة جسدك، هي من تسخير الله؛ تدرك ذلك حين تنظر حولك فتجد أنه سبحانه قد سلب أحدا غيرك القدرة على رفع الذراع. وإياك أن تظن أن الحركة قد واتتك لمجرد أن لك يدا، لا، إن غيرك قد تكون له يد؛ لكنه لا يستطيع أن يأمرها فتتحرك. وهكذا نعرف أن كل الإرادات في النفس إنما تتحرك بتسخير الحق لها لخدمة الإنسان.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي وعافاني في جسدي وأذِن لي بذكره».
انه يُوجه الإنسان إلى ذكر خالقه عند كل قيام أو قعود، ورسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلمنا أنه عند كل انفعال بكل حركة من الحركات علينا أن نذكر الذي خلقنا وخلق فينا القدرة على الحركة.
وليسأل كل منا نفسه: كم حركة يتطلبها أمر من الإنسان بأن يحك ظهره مثلا؟ إنه عدد غير معروف من الحركات. وهكذا علينا أن نحسن الأدب مع الله بأن نذكره في كل حركة فهو الذي خلق كل إنسان منا صالحا لكل هذه القدرات.
1707
ونعود إلى وصف علي كرم الله وجهه مجلسَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كان لا يجلس ولا يقوم إلا عن ذكر.
ولنتنبه إلى دقة الرسول في التعامل مع البطانة من البشر، فها هو ذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها. ويوطن المكان، أي أن يخصص مكانا لفلان ليجلس فيه، لقد كان الرسول يجلس حيث انتهى به المجلس، وكذلك كان صحابته، فلا أحد يجلس دائما بجانبه حتى لا يأخذ أحد من مكانته عند الرسول فرصة يتخيل معها الآخرون أنه صاحب حظوة؛ فكلهم سواسية ونحن نرى في عصرنا أن هناك من يتخذ لنفسه مكانا في المسجد، وهذا منهي عنه. فعن ابن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: (نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطّن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير).
ويضيف علي كرم الله وجهه في وصف مجلس رسول الله: وكان إذا ذهب إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، «وكان يجلس على الأرض ويأكل على الأرض، يعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك».
أهناك أدب أكثر من هذا؟ إنه الرسول الكريم، يجلس حيث ينتهي به المجلس، لقد أراد أن يضرب لنا المثل حتى تتنوع اللقاءات؛ فاليوم قد يجلس مؤمن بجانب مؤمن من مكان بعيد، وغدا يجلس كلاهما بجانب اثنين جاء كل منهما من مكان آخر، وهكذا تتحقق اندماجية الإيمان بتنوع اللقاءات.
ويقول علي كرم الله وجهه: وكان رسول الله يعطي كل جلسائه نصيبهم من مجلسه حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه.
إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما يعطي نظرة لواحد، فهو ينظر كذلك لكل
1708
واحد في مجلسه، وإن تكلم كلمة إلى ناحية فهو يعطي كلمة أخرى إلى الناحية المقابلة؛ لذلك حتى يعرف كل جليس للرسول أن المؤمنين سواسية، وأنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول إلى الناس كافة؛ وليس رسولا إلى قوم بعينهم، وحتى يعرف كل واحد من جلسائه أنه يجلس إلى رسوله الذي بعثه الله إليه.
هكذا كان سلوك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يعطي القدوة للناس، وحتى يعرف كل إنسان أن التحام الناس بعضهم ببعض؛ قد يسبب لواحد استغلال الالتحام في غير صالح الإيمان.
لذلك يقول الحق سبحانه: يا أيها المؤمنون تنبهوا إلى أنكم في معسكر من غير المؤمنين يقاتلكم ويعاند إيمانكم، وهؤلاء لا يمكن أن يتركوكم على إيمانكم، بل لا بد أن يكيدوا لكم، وهذا الكيد يتجلى في أنهم يدسون لكم أشياء، وينفذون إليكم.
ونعرف جميعا أن الإسلام عندما جاء كان كثير ممن آمن له ارتباطات بمن لم يسلم؛ فهناك القرابة، والصداقة، والإلف القديم والجوار، والأخوة من الرضاعة، لذلك يحذر الحق من هذه المسائل، فلا يقولن مؤمن هذا قريبي، أو هذا صديقي، أو هذا حليفي، أو هذا أخي من الرضاعة، فالإسلام يحقق لكم أخوة إيمانية تفوق كل ذلك، ولهذا فإياكم أن تتخذوا أناسا يتداخلون معكم بالود؛ لأن الشر يأتي من هذا المجال، وإياكم أن تعتقدوا أن فجوة الإيمان والكفر بينكم ستذهب أو تضيق؛ لأن الكفار لن يتورعوا أن يدخلوا عليكم من باب الكيد لكم ولدينكم بكل لون من الألوان، وهم - الكفار - لا يقصرون في هذا أبدا، لذلك يأتي الأمر من الحق:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾، احموا هذا الإيمان فلا تتداخلوا مع غير المؤمنين تداخلا يفسد عليكم أمور دينكم؛ لأنهم لن يهدأوا، لماذا؟ لأن حال هذه البطانة معكم سيكون كما يلي: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ أي لا يقصرون أبدا في الكيد لكم، والخبال: هو الفساد للهيئة المدبرة للجسم وهو العقل، ونحن نسمى اختلال العقل «خبلا».
إن الحق يقول:
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ
1709
قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: ١١٨]
فالمنهي عنه ليس أن تتخذ بطانة من المؤمنين، ولكن المنهي عنه هو أن تتخذ بطانة من غير المؤمنين؛ لأن المؤمن له إيمان يحرسه، أما الكافر فليس له ما يحرسه، والبطانة من غير المؤمنين لا تقصر في لحظة واحدة في أنها تريد للمؤمنين الخبال والفساد، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنهم يحبون العنت والمشقة للمؤمنين ﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ﴾ والحق سبحانه وتعالى لا يريد لنا العنت، وفي هذا يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٠]
أي أنه سبحانه لو أراد، لكلفكم بأمور كثيرة تحمل المشقة، لكن الحق سبحانه يَسّر لكم أيها المؤمنون، لكن أهل الكفر لا يودون إلا الخبال للمؤمنين، ويحبون المشقة لهم.
ومن أين تنشأ المشقة؟ إنك حين تكون مؤمنا فأنت تقوم بما فرضه عليك الدين، وهم يحاولون أن ينفخوا في المؤمن بغير ما يقتضيه هذا الدين، فتتوزع نفس المؤمن، وبهذا النفخ تنقسم ملكات المؤمن على نفسها، وعندما تنقسم الملكات على نفسها فإن القلق والاضطراب يسيطران على الإنسان، فالقلق والاضطراب ينشآن عندما لا تعيش الملكات النفسية في سلام وانسجام.
ونحن نرى ذلك في المجتمعات التي وصلت إلى أرقى حياة اقتصادية وأمورهم المادية ميسرة كلها، فالشيخوخة مُؤَمَّنة، وكذلك التأمينات الصحية والاجتماعية، ودخل الإنسان مرتفع، لكنهم مع ذلك يعيشون في تعب، وترتفع بينهم نسبة الانتحار، وينتشر بينهم الشذوذ، والسبب وراء كل ذلك هو أن ملكاتهم النفسية غير منسجمة، وسلام الملكات النفسية لا يتحقق إلا عندما يؤمن الإنسان، ويطبق
1710
تعاليم ما يؤمن به. فالرجل - على سبيل المثال - حين ينظر إلى حلاله، أي زوجته، ينظر إليها براحة ويشعر باطمئنان؛ لأن ملكاته النفسية منسجمة، أما عندما تتجه عيناه إلى امرأة ليست زوجته، فإنه يراقب كل من حوله حتى يعرف هل هناك من يراه أو لا؟ وهل ضبطه أحد أولا؟ وعندما يضبطه أحد فهو يفزع وتتخبط ملكاته.
لذلك يحذر الحق سبحانه المؤمنين: إياكم من البطانة من غير المؤمنين، لأنهم لايقصرون أبدا ولا يتركون جهدا من الجهود إلا وهم يحاولون فيه أن يدخلوكم في مشقة. والمشقة إنما تنشأ من أن الكافر يحاول أن يجذب المؤمن إلى الانحراف والاضطراب النفسي وتشتت الملكات مستغلا القرابة والصداقة، مطالبا أن يرضيه المؤمن بما يخالف الدين، ولا يستطيع المؤمن التوفيق بين ما يطلبه الدين وما يطلبه الكافر؛ لذلك تنقسم ملكات المؤمن ويحس بالمشقة. والكافرون لا يتركون أي فرصة تأتي بالفساد للمؤمنين إلا انتهزوها واغتنموها.
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾.
وما دامت البغضاء قد بدت من أفواههم فكيف نتخذهم بطانة؟ إنك حين تصنع لنفسك جماعة من غير المؤمنين، فإنها تضم بعضا من المنافقين غير المنسجمين مع أنفسهم. والمنافق له لسان يظهر خلاف ما يبطن. وعندما يذهب المنافق إلى غير المؤمنين فإن لسان المنافق ينقل بالسخرية كلام المؤمن.
هكذا تظهر البغضاء من أفواه المنافقين المذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إنهم لا ينتمون إلى الإيمان ولا ينتمون إلى الكفر، والذي يصل المؤمنين من بغضاء هؤلاء قليل، لأن ما تخفي صدورهم أكبر. وحين تبدوا البغضاء من أفواههم، فإما أن يقولوها أمام منافقين، وإما أن يقولها بعضهم لبعض، فيتبادلوا الاستهزاء والسخرية بالمؤمن، والله أعلم بمن قيل فيه هذا الكلام، ولذلك فعندما يتحدث الكافرون بكلام فيما بينهم فالله يكشفهم ويفضحهم لنا نحن المؤمنين.
إن الله تعالى يكشف بطلاقة علمه كل الخبايا، وكان على الكافرين والمنافقين أن يعلموا أن هناك إلها يرقب عملية الإيمان في المؤمن حتى ينبهه إلى أدق الأشياء، لكنهم كأهل كفر ونفاق في غباء، لقد كان مجرد نزول قول الحق: {قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ
1711
أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} كان ذلك فرصة أمامهم ليدفعوا عن أنفسهم لو كانت صدورهم خالية من الحقد. لكنهم عرفوا ان الله قد علم ما في صدورهم. إن الغيظ الذي في قلوب هؤلاء الجاحدين الحاقدين قد نضح على ألسنتهم، ولكن مَن الذي نقل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحابته ما في صدور الكافرين مما هو أكثر من ذلك؟
إنه الله - جلت قدرته - قد فضحهم بما أنزل من قوله تعالى: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ إذن لم يعد لمن آمن بالله حجة؛ لأن الله أعطاه المناعات القوية لصيانة ذلك الإيمان، وأوضح الحق للمؤمنين أن أعداءهم لن يدخروا وسعا أبدا في إفساد انتمائهم لهذا الدين، فيجب أن ينتبه المؤمنون.
وإذا ما دققنا التأمل في تذييل الآية نجد أن الحق قال: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ إذن، فالآيات المنزلة من الله تعالى توضح ذلك، وقد قلنا من قبل: إن الآيات، إما أن تكون آيات قرآنية، وإما أن تكون آيات كونية، فالقرآن له آيات، والكون له آيات. ولنسمع قول الحق بالنسبة للقرآن: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ١٠١]
وفي مجال الكون يقول الحق سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: ٣٧]
وهكذا نعلم أن الآية هي الشيء العجيب اللافت الذي يجب أنه ننتبه إليه لنأخذ منه دستورا لحياتنا. وعلى ذلك، فالآيات القرآنية تعطي المنهج، والآيات الكونية
1712
تؤيد صدق الآيات المنهجية. ويجب أن تتفطنوا أيها المؤمنون إلى هذه الآيات. والذي يدل على أن المؤمنين قد عقلوا وتفطنوا، أن الآية الأولى بينت أنهم قد نهوا عن أن يتخذوا بطانة من دونهم - أي من غير المؤمنين - وها هي ذي الآية التالية تقول: ﴿هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ... ﴾
1713
وما زال الحديث والكلام عن البطانة، وهو يدل على أن البطانة لم تستطع أن تلوي المؤمنين عن الإيمان، بل إن المؤمنين الذين ذاقوا حلاوة الإيمان حاولوا أن يغيروا من الكافرين. ولم يفلح الكافرون أن يغيروا من المؤمنين، وكذلك لم يفلح الكافرون أيضا أن يسيطروا على أنفسهم، ولم يكن أمام هؤلاء الكافرين إلا النفاق، لذلك قالوا: «آمنا». إن الآية تدلنا على أن المؤمنون قد عقلوا آيات الحق. ولماذا - إذن - جاء الحق بقوله: «تحبونهم ولا يحبونكم» ؟
لقد أحب المؤمنون الكافرين حين شرحوا لهم قضية الحق في منهج الإسلام، وأرادوا المؤمنون أن يجنبوا الكافرين متاعب الكفر في الدنيا والآخرة، وهذا هو الحب الحقيقي، فهل بَادَلَهُم الكافرون الحب؟ لا؛ لأن هؤلاء الكافرون أرادو أخذ المؤمنين إلى الكفر، وهذا دليل عدم المودة. ولم يستطع الكافرون تحقيق هذا المأرب، ولذلك قالوا: «آمنا» ومعنى قولهم: «آمنا» يدلنا على أن موقف المسلمين كان موقفا صُلبا قويا؛ لذلك لم يجد الكافرون بداً من نفاقهم ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا﴾ قالوا ذلك على الرغم من ظهور البغضاء في أفواههم، ولم يكن سلوكهم مطابقا لما يقولون. وهنا بدأ المسلمون في تحجيم وتقليل مودتهم للكافرين؛ ولذلك
1713
قال أهل الكفر: لو استمر الأمر هكذا فسوف يتركنا هؤلاء المسلمون.. وحتى يتجنبوا هذا الموقف ادعوا الإيمان في الظاهر، وينقلب موقفهم إذا خلوا لأنفسهم، ويصور الحق هذا الموقف في قوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ﴾ فما هو العض؟
إن العضَّ لغويا، هو التقاء الفكين على شيء ليقضماه. وما الأنامل؟ إنها أطراف الأصابع، والأنامل فيها شيء من الدقة وشيء من خفة الحركة المأخوذة من خلية النمل، ويسمون الأنامل أيضا البنان، وعملية عض الأنامل عندما نراها نجدها عملية انفعالية قسرية. أي أن الفكر لا يرتبها؛ فليس هناك من يرضي أن يظل مرتكبا لعملية عض أصابعه، فعض الأصبع يسبب الألم، لكن الامتلاء بالغيظ يدفع الإنسان إلى عض الأصابع كمسألة قسرية نتيجة اضطراب وخلل في الانفعال.
ومن أين يجيء الغيظ؟.
لقد جاء الغيظ إلى الكافرين لأنهم لم يستطيعوا أن يزحزحوا المؤمنين قيد شعرة عن منهج الله، بل حدث ما هو العكس، لقد حاول المؤمنون أن يجذبوا الكافرين إلى نور الإيمان، وكان الكافرون يريدون أن يصنعوا من أنفسهم بطانة يدخلون منها إلى المؤمنين لينشروا مفاسدهم؛ ولذلك وقعوا في الغيظ عندما لم يمكنهم المؤمنون من شيء من مرادهم.
إن الإنسان يقع أحيانا فريسة للغيظ حين لا يتمكن من إعلان غضبه على خصمه؛ ولهذا إذا أراد إنسان من أهل الإيمان أن يواجه حسد واحد من خصومه فعليه أن يزيد في فضله على هذا الإنسان، وهنا يزداد هذا الخصم غيظا ومرارة، أيضا نجد أن من تعاليم الإسلام أن الإنسان المؤمن لا يقابل السيئة التي يصنعها فيه آخر بسيئة، وذلك حتى لا يرتكب الذنب نفسه، ولكن يتَبع القول المأثور:
«إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه»
1714
إنهم بإحسان المسلمين إليهم يزدادون خصومة، وغيظا وحقدا على الإسلام وكان المسلمون الأوائل يتصرفون بذلك الأسلوب لقد كانوا جبالا إيمانية راسخة.
فخصوم الإسلام يعصون الله بسوء معاملتهم للمسلمين، لكنْ المسلمون يردون على سوء المعاملة بحسن المعاملة، وساعة يرى خصوم الإسلام أن كيدهم لا يحقق هدفه فإنهم يقعون في بئر وحمأة الغيظ. وعندما يخلون الكافرون لأنفسهم فأول أعمالهم هو عض الأصابع من الغيظ، وهو كما أوضحت نتيجة الانفعال القسري التابع للغضب والعجز عن تحقيق المأرب؛ ذلك أن كل تأثير إدراكي في النفس البشرية إنما يطرق مجالا وجدانيا فيها.
والمجال الوجداني لا بد أن يعبر عن نفسه بعملية نزوعية تظهر بالحركة؛ فالإنسان عندما يسبب لواحد يعرفه لونا من الغضب فهو ينفعل بسرعة ويثور بالكلمات، هذا دليل على طيبة الإنسان الغاضب. أمََّا الذي لا يظهر انفعاله فيجب الحذر منه؛ لأنه يخزن انفعالاته، ويسيطر عليها، فلا تعرف متى تظهر ولا على أية صورة تبدو؛ ولذلك يقول الأثر: «اتقوا غيظ الحليم» فعندما تتجمع انفعالات جديدة فوق انفعالات قديمة متراكمة في قلب الحليم فلا أحد يعرف متى يفيض به الكيل.
إذن فالإدراك ينشأ عنه وجدان، فينفعل الإنسان بالنزوع الحركي. والتشريع الإسلامي لا يريد من الإنسان أن يكون حجرا أصم لا ينفعل، لكنه يطلب من المسلم أن ينفعل انفعالا مهذبا؛ ولذلك يضع الحق للمؤمن منهجا، فيقول سبحانه: ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين﴾ [آل عمران: ١٣٤]
إن القرآن يعترف بأن هناك من الأحداث ما يستدعي غيظ الإنسان، والذي لا يغضب على الإطلاق إنما يسلك طريقا لا يتوافق مع طبيعة البشر السوية، والله يريد من الإنسان أن يكون إنساناً، له عواطفه وشعوره وانفعالاته، ولكن الله المربي الحق يهذب انفعالات هذا الإنسان، ولنا في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القدوة
1715
الحسنة، فحين مات ولده إبراهيم:
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمزج بين العاطفة والإيمان، فالعين تدمع، والقلب يحزن، والإنسان لا يكون أصمَّ أمام الأحداث، إنما على الإنسان أن يكون منفعلا انفعالا مهذبا.
وعندما يعبّر القرآن عن الإنسان السويّ فهو لا يضع المؤمن في قالب حديدي بحيث لا يستطيع أن يتغير فيقول سبحانه: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾
[المائدة: ٥٤]
إذن فيلس المؤمن مطبوعا على الذلة، ولا مطبوعا على العزة، لكنه ينفعل للمواقف المختلفة، فهذا موقف يتطلب ذلة وتواضعا للمؤمنين فيكون المؤمن ذليلا، وهناك موقف آخر يتطلب عزة على الكافرين المتكبرين فيكون المؤمن عزيزا، والحق سبحانه يقول عن المؤمنين: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً﴾ [الفتح: ٢٩]
إن الرحمة ليست خلقا ثابتا، ولا الشدة خلقا ثابتا ولكنَّ المؤمنين ينفعلون للأحداث، فحين يكون المؤمن مع المؤمنين فهو رحيم، وحين يكون في مواجهة الكفار فهو قوي وشديد. والله سبحانه لا يريد المؤمن على قالب واحد متجمد،
1716
لذلك يقول الحق: ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين﴾ [آل عمران: ١٣٤]
وهو سبحانه القائل: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦]
إذن فالحق لم يمنع المؤمن من أن يعاقب أحدا على خطأ، وذلك لأنه خلق الخلق وعليم بهم، ولا يمكن أن يصادم طباعهم، وذلك حتى لا يتهدد المؤمن في إيمانه فيما بعد، فالمؤمن لو ترك حقوقه فإن الكفار سيصولون ويجولون في حقوق المسلمين؛ ولهذا فالمؤمن يتدرب على توقيع العقاب حتى على المؤمن المخطئ، وذلك ليعرف المؤمن كيف يعاقب أي مجترئ على حق من حقوق الله. والمؤمن أيضا مطالب بأن يرتقي بعقابه، فهو إما أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإما أن يرتقي أكثر، ويستمع لقول الحق: ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ [النحل: ١٢٦]
لقد وضع الحق منهج الارتقاء بعد أن أعطى المؤمن الحق في توقيع العقاب قصاصا، وهكذا لم يقسر الله طبع الإنسان ولو أراد سبحانه ذلك لما خلق هذا الطبع إنه سبحانه يوضح لنا أن هناك انفعالا بالغيظ، وأن المؤمن عليه أن يحاول كظم الغيظ أي لا يعبر عن الغيظ نزوعيا، فإن أخرج المؤمن هذا الأمر من قلبه فمعناه أنه قد برئ وشُفِيَ منه وارتقى.
إذن فكظم الغيظ هو ألا يعبر المؤمن عن الغيظ نزوعيا، فإن سبّك أحدٌ فأنت لا تسبّه، وهذا الكظم يعني كتمان الانفعال في القلب، فإذا ارتقى المؤمن أكثر وتجاهل حتى الانفعال بذلك، فإنه يُخرج الغيظ من قلبه، وهو بذلك يرتقي ارتقاء
1717
أعلى، ويصفه الحق بأنه دخول إلى مرتبة الإحسان، فهو القائل: ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ وهكذا يحسن المؤمن إلى المسبب للغيظ بكلمة طيبة.
فماذا يكون موقف الذي تسبب في غيظك أيها المؤمن وأنت قد كظمت الغيظ في المرحلة الأولى وعفوت في المرحلة الثانية وإن أخرجت الانفعال من قلبك، وصلت إلى المرحلة الثالثة وهي التي تمثل قمة الإيمان إنها الإحسان.. ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ لا بد أن يراجع المسبب للغيظ نفسه ويندم على ما فعل.
إن الإسلام لم يتجاهل المشاعر الإنسانية عندما طالب المؤمنين أن يحسنوا لمن أساء إليهم، فالذي يمعن النظر ويدقق الفهم يعرف أن الإسلام قد أعطى المؤمن الحق في الطبع البشرى حين قال: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ ولكنه ارتقى بالمؤمن.
وعندما ننظر إلى هذا الأمر كقضية اقتصادية وتحسبها ب «منه» و «له» فسنجد أنّ المؤمن قد كسب.. ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - ساعة يجد الأب ابنا من أبنائه قام بظلم أخ له فإن قلب الأب يكون مع المظلوم فهب أن إنسانا أساء لعبد من عباد الله فإن الله كربّ مربٍّ يغار له ونحن نعرف أن واحد قال لعارف بالله:
أتحسن لمن أساء إليك؟ فقال العارف بالله: أفلا أحسن لمن جعل الله في جانبي؟
ولنعد الآن إلى غيظ الكافرين من المؤمنين، إن غيظ الكافر ناتج من أن خصمه المؤمن يحب له الإيمان وليس في قلبه ضغينة بينما الكافر يغلي من الحقد، وبسبب هذا الأمر يكاد يفقد صوابه؛ لذلك يقول الحق: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ﴾.
و «خلوا» المقصود بها. أن الكافرين إذا ما أصبحوا في مجتمع كفرى وليس معهم مسلم أعلنوا الغيظ من المؤمنين، ولقد فعلوا هذا الأمر - عض الأنامل من الغيظ - في غيبة الإيمان والمؤمنين بالله، لو كان عند هؤلاء الكافرين ذرة من تعقل لفكروا كيف فضحهم القرآن، وهم الذين ارتكبوا هذا الفعل بعيدا عن المؤمنين؟
1718
ألم يكن لتفكيرهم أن يصل إلى أن هناك ربًّا للمؤمنين يقول الخافيَ من الأمور لرسوله، ويبلغها الرسول للمؤمنين.
لكنهم مع ذلك لم يفهموا هذا الفضح لهم ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ﴾ وهنا ينبغي أنْ نفهم أنَّ هناك أمراً قد يغيظ، ولكن الإنسان قد يجبن أن ينفث غيظه، فإذا غاظك أحد فقد تذهب إليه وتنفعل عليه، أو قد تنفعل على نفسك وذلك هو ما يسمى ب «تحويل النزوع». فالغاضب يمتلئ بطاقة غضبية، ومن يغضب عليه قد يكون قويا وصاحب نفوذ، فيخاف أن ينفعل عليه، فينفث الغاضب طاقة غضبه على نفسه بأن يعض على أنامله، وما دامت المسألة هكذا، فقد قال الحق:
﴿قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ [آل عمران: ١١٩]
ومعنى ذلك أن إغاظة المؤمنين لكم أيها الكافرون ستستمر إلى أن تموتوا من الغيظ؛ لذلك فلا طائل من محاولتكم جذب المؤمنين إلى الكفر: ﴿قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ﴾.
ونحن قد عرفنا أنه ساعة يؤمر الإنسان بشيء ليس في اختياره - لأن الموت ليس في اختيارهم - وأن يختار بينه وبين شيء في اختياره كالغيظ، فمعنى ذلك أن الأمر قد صدر إليه ليظل أسير الأمر الذي يقدر عليه وهو الغيظ حتى يدركه الموت.
وعندما يقول الحق: ﴿مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ﴾ فهذا يعني أن الكافرين لن يستطيعوا الموت، ولكن سيظلون في حالة الغيظ إلى أن يموتوا؛ لأنهم لايعرفون متى يموتون، وهكذا يظلون على حالهم من الغيظ من المؤمنين وما دام الكافرون في حالة غيظ من المؤمنين فهذا دليل على أن المؤمنين يطبقون منهجهم بأسلوب صحيح.
وفي هذه الآية بشارة طيبة للمؤمنين ونذارة مؤلمة للكافرين ﴿قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ إن الحق يعلمنا أنه عليم بذات الصدور، أي بالأمور التي
1719
تطرأ على الفكر، ولم تخرج بعد إلى مجال القول. وهو سبحانه القائل: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ [آل عمران: ١١٨]
وما دام هو الحق العليم بما تخفي الصدور فهو قادر ليس فقط على الجزاء بما يفعلونه من عمل نزوعي ولكنه قادر على أن يجازيهم أيضا بأن يفضح الأعمال غير النزوعية الكامنة في صدروهم، وبعد ذلك يقول سبحانه: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً... ﴾
1720
والقرآن كلام الله وله - سبحانه - الطلاقة التامة والغني الكامل، والعبارات في المعنى الواحد قد تختلف لأن كل مقام له قوله، وسبحانه يحدد بدقة متناهية اللفظ المناسب.. إنه هو سبحانه الذي قال: ﴿إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِلاَّ المصلين الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ﴾ [المعارج: ١٩ - ٢٣]
وهو سبحانه الذي قال:
1720
﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً﴾ [النساء: ٧٩]
إنه جل وعلا يتكلم عن المس في الشر والخير، ومرة يتكلم عما يحدث للإنسان كإصابة في الخير أو في الشر، وفي الآية التي نحن بصدد الخواطر عنها تجد خلافا في الأسلوب فسبحانه يقول: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا﴾ إنه لم يورد الأمر كله مَسًّا، ولم يورده كله «إصابة» إنه كلام رب حكيم وعندما نتمعن في المعنى فإن الواحد منا يقول: هذا كلام لا يقوله إلا رب حكيم.
ولنتعرف الأن على «المس» و «الإصابة» بعض العلماء قال: إن المس والإصابة بمعنى واحد، بدليل قوله الحق: ﴿إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً﴾ [المعارج: ١٩ - ٢١]
ولكننا نقول إن المس هو إيجاد صلة بين الماس والممسوس فإذا مس الرجل امرأته، فنحن نأمره بالوضوء فقط لأنه مجرد التقاء الماس بالممسوس والأمر ليس أكثر من التقاء لا تحدث به الجنابة فلا حاجة للغسل، أما الإصابة فهي التقاء وزيادة؛ فالذي يضرب واحدا صفعة فإنه قد يورم صدغة، فالكف يلتقي بالخد، ويصيب الصدغ، وهكذا نعرف أن هناك فرقا بين المس والإصابة، وحين يقول الحق: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾.
فمعنى ذلك أن الحسنة الواقعة بسيطة، وليست كبيرة إنها مجرد غنيمة أو قليل من الخير.. وفي حياتنا اليومية نجد من يمتلئ غيظا لأن خصمه قد كسب عشرة قروش، وقد يجد من يقول له: لماذا لا تدخر غيظك إلى أن يكسب مائة جنيه مثلا؟ ومثل هذا الغيظ من الحسنة الصغيرة هو دليل على أن أي خير يأتي للمؤمنين إنما يسبب
1721
التعب والكدر للكافرين. فبمجرد مس الخير للمؤمنين يتعب الكافرين فماذا عن أمر السيئة؟
إن الحق يقول: ﴿وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا﴾ إن الكافرين يفرحون لأي سوء يصيب المؤمنين مع أنه كان مقتضي الإنسانية أن ينقلب الحاسد راحما:
وحسبك من حادث بامرئ ترى حاسديه له راحمينا
يعني حسبك من حادث ومصيبة تقع على إنسان أن الذي كان يحسده ينقلب راحما له ويقول: والله أنا حزنت من أجله.
إذن فلمّا تشتد إصابة المؤمنين أكانت تغير من موقف الكافرين؟ لا، كان أهل الكفر يفرحون في أهل الإيمان، وإذا جاء خير أي خير للمؤمنين يحزنون فالحق يقول: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ والحسنة هي أي خير يمسهم مساً خفيفاً، ﴿وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾، فأنت مهما كادوا لك فلن يصيبوك بأذى.
إن المطلوب منك أن تصبر على عداوتهم، وتصبر على شرّهم، وتصبر على فرحهم في المصائب، وتصبر على حزنهم من النعمة تصيبك أو تمسك، اصبر فيكون عندك مناعة؛ وكيدهم لن ينال منك اصبر واتق الله: لتضمن أن يكون الله في جانبك، ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾.
وما الكيد؟ الكيد هو أن تبيت وتحتال على إيقاع الضرر بالغير بحيث يبدو أنه كيدٌ من غيرك، أي تدبر لغيرك لتضره. وأصل الكيد مأخوذ من الكيد والكبد، وهما بمعنى واحد، فما يصيب الكبد يؤلم؛ لأن الكبد هو البضع القوي في الإنسان، إذا أصابه شيء أعيى الإنسان وأعجزه، ويقولون: فلان أصاب كبد الحقيقة أي توصل إلى نقطة القوة في الموضع الذي يحكي عنه.
وما معنى يبيتون؟ قالوا: إن التبييت ليس دليل الشجاعة، وساعة ترى واحداً
1722
يبيت ويمكر فاعرف أنه جبان؛ لأن الشجاع لا يكيد ولا يمكر، إنما يمكر ويكيد الضعيف الذي لا يقدر على المواجهة، فإن تصبروا على مقتضيات عداواتهم وتتقوا الله لا يضركم كيدهم شيئا؛ لأن الله يكون معكم.
ويذيل الحق الآية بالقول الكريم: ﴿إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾. وساعة ترى كلمة «محيط» فهذا يدلك على أنه عالم بكل شيء. والإحاطة: تعني ألا تشرد حاجة منه. وها هي ذي تجربة واقعية في تاريخ الإسلام؛ يقول الحق فيها مؤكدا: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ وعلى كل منا أن يذكر صدق هذه القضية.
1723
إنه في هذه المرة - في غزوة أحد - جاء الكفار بثلاثة آلاف وكان المسلمون قلة، سبعمائة مقاتل فقط، وحتى يبين الحق صدق قضاياه في قوله: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ وليس المقصود هنا الكيد التبييتي بل عملهم العلني، أي واذكر صدق هذه القضية:
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾، والغدوة هي: أول النهار، والرواح: آخر النهار، والأهل: تطلق ويراد بها الزوجة، والمقصود هنا حجرة عائشة؛ لأن الرسول كان فيها في هذا الوقت الذي أراد فيه كفار قريش أن يثأروا لأنفسهم من قتلى بدر وأسراهم، لقد جمعوا حشودهم، فكل موتور من معركة بدر كان له فرسان وله رجال، حتى انهم بعد معركة بدر قال زعيمهم أبو سفيان لأصحابه: قل للنساء لا تبكين قتلاكم فإن البكاء يذهب الحزن، فالدموع يسمونها غسل الحزن، أو ذوب المواجيد، فساعة يبكي إنسان حزين يقول من حوله: دعوه يرتاح.
1723
فلو حزنت النساء وبكين على قتلى بدر لهبطت جذوة الانتقام؛ لذلك قال أبو سفيان: قل لهن لا يبكين. إنه يريد أن يظل الغيظ في مسألة بدر موجوداً إلى أن يأخذوا الثأر. وفعلاً اجتمع معسكر الكفر في ثلاثة آلاف مقاتل عند أحد، وبعد ذلك استشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه المسألة أصحابه وأرسل إلى واحد من أكبر المنافقين هو عبد الله بن أبي بن سلول، وما استدعاه إلا في هذه المعركة، فقال عبد الله بن أبي بن سلول وأكثر الأنصار:
يا رسول الله نحن لم نخرج إلى عدو خارج المدينة إلا نال منا، ولم يدخل علينا عدو إلا نلنا منه، فإنا نرى ألا تخرج إليهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة بالخروج إليهم، وقالوا:
«يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جَبُنا عنهم وضعفنا، ولم يترك أصحاب هذا الرأي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى وافقهم على ما أرادوا»
فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيته فلبس درعه وأخذ سلاحه، وظن الذي ألحوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخروج أنهم قد استكرهوه على ما لا يريد فندموا على ما كان منهم، ولما خرج عليهم قالوا: استكرهناك يا رسول الله ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما ينبغي لنبي لبس لأْمَتَهُ أن يضعها حتى يقاتل».
وخرجوا إلى الحرب، وهذا هو الذي يُذَكِّرُ به القرآن صدقا للقضية التي جاءت في الآية السابقة: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.
1724
اذكر يا محمد:
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ [آل عمران: ١٢١]
و ﴿تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ أي توطن المؤمنين في أماكن للقتال، وبوأت فلانا يعني: وطنته في مكان يبوء إليه أي يرجع، واسمه وطن؛ لأن الوطن يرجع إليه الإنسان.
انظر إلى الدقة الأدائية لقول الحق: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ أي تجعل لهم مباءة ووطنا. وكلمة «مقاعد» أي أماكن للثبات، والحرب كرّ وفرّ وقيام، والذي يحارب يثبته الله في المعركة، فكأنه مُوَطَّنٌ في الميدان، فكأن أمر الرسول إلى المقاتلين يتضمن ألا يلتفت أي منهم إلى موطن آخر غير موطنه الذي ثبته وبوَّأته فيه أي إن هذا هو وطنك الآن؛ لأن مصيرك الإيماني سيكون رهناً به.
إذن فقوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ﴾ أي توطن «المؤمنين» وتقول لهم: إن وطنكم هو مقاعدكم التي ثبتكم بها. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بالرماة؛ وأمّر عليهم «عبد الله بن جبير» وهم يومئذ خمسون رجلا وقال رسول الله لهم: «قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا».
لكنهم لم يقدروا على هذه لأن نفوسهم مالت إلى الغنيمة؛ وشاء الله أن يجعل التجربة في محضر من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: حتى يبين للمؤمنين في كل المعارك التي تلك أن اتباع أمر القائد يجب أن يكون هو الأساس في عملية الجندية. وإنكم إن خالفتم الرسول فلا بد أن تنهزموا.
1725
وقد يقول قائل: الإسلام انهزم في أُحد. ونقول: لا، إن الإسلام انتصر. ولو أن المسلمين انتصروا في «أحد» مع مخالفة الرماة لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أكان يستقيم لرسول الله أمر؟
إذن فقد انهزم المسلمون الذين لم ينفذوا الأمر، وكان لا بد من أن يعيشوا التجربة وهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فحينما هبت ريح النصر على المؤمنين في أول المعركة، ابتدأ المقاتلون في الانشغال بالأسلاب والغنائم، فقال الرماة: سيأخذ الأسلاب غيرنا ويتركوننا ونزلوا ليأخذوا الغنائم، فانتهز خالد بن الوليد وكان على دين قومه انتهز الفرصة وطوقهم وحدث ما حدث وأذيع وفشا في الناس خبر قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانكفأوا وانهزموا فجعل رسول الله يدعو ويقول: «إليّ عباد الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا: يا رسول الله: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين
إن التحقيق التاريخي لمعركة أُحد قد أكد أن المسألة لا تُعتبر هزيمة ولا انتصاراً؛ لأن المعركة كانت لا تزال مائعة.
وبعدها دعا الرسول من كان معه في غزوة أحد إلى الخروج في طلب العدو، وأدركهم في حمراء الأسد وفَرَّ الكافرون. إنّ الله أراد أن يعطي المؤمنين درساً في التزام أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال الحق: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾.
إن الحق يذكر بمسئوليات القائد، الذي يوزع المهام، فهذا جناح أيمن وذاك جناح أيسر، وهذا مقدمة وهذا مؤخرة. ويذيل الحق هذا بقوله: ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ حتى يعرف المؤمنين أنه سبحانه قد شهد أن رسوله قد بوأ المؤمنين مقاعد القتال، وسبحانه «عليم» بما يكون في النيات؛ لأن المسألة في الحرب دفاع عن الإيمان وليست انقياد قوالب، ولكنها انقياد قلوب قبل انقياد القوالب.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا... ﴾
1726
والفشل هو الجبن، والطائفتان هما «بنو حارثة» من الأوس، «وبنو سلمة» من الخزرج، وهؤلاء كانوا الجناح اليمين والجناح اليسار، فجاءوا في الطريق إلى المعركة وسمعوا كلام المنافق ابن سلول، إذ قال لهم: لن يحدث قتال؛ لأنه بمجرد أن يرانا مقاتلو قريش سيهربون.
وقال ابن سلول المنافق للرسول: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم. إلا أن عبد الله ابن حارثة قال: أنشدكم الله وأنشدكم رسول الله وأنشدكم دينكم. فساروا إلى القتال وثبتوا بعد أن همّوا في التراجع.
وما معنى «الهمّ» هنا؟ إن الهم هو تحرك الخاطر نحو عملية ما، وهذا الخاطر يصير في مرحلة ثانية قصداً وعزماً، إذن فالذي حدث منهم هو مجرد هَمّ بخاطر الإنسحاب، لكنهم ثبتوا.
ولماذا ذلك؟ لقد أراد الله بهذا أن يُثبت أن الإسلام منطقي في نظرته إلى الإنسان، فالإنسان تأتيه خواطر كثيرة. لذلك يورد الحق هذه المسألة ليعطينا العلاج. فقال: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ﴾.
وقد قال واحد من الطائفتين: والله ما يسرني أني لم أهم - أي لقد انشرح قلبي لأني هممت - لأني ضمنت أين من الذين قال الله فيهم: ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾، وحسبي ولاية الله. لقد فرح لأنه أخذ الوسام، وهو ولاية الله.
وهكذا نلتقط العبر الموحية من الآيات الكريمات حول غزوة أحُد، ونحن نعلم أن هذه الغزوة التالية لغزوة بدر الكبرى. وغزوة بدر الكبرى انتهت بنصر المسلمين وهم قلة في العدد والعُدة، ففي بدر لم يذهب المسلمون إلى
1727
المعركة ليشهدوا حرباً، وإنما ليصادروا أموال قريش في العِير تعويضاً لأموالهم التي تركوها في مكة. ومع ذلك شاء الله ألاّ يواجهوا العير المحملة ولكن ليواجهوا الفئة ذات الشوكة، وجاء النصر لهم.
ولكن هذا النصر، وإن يكن قد ربّى المهابة للمسلمين في قلوب خصومهم، فإنه قد جمّع همم أعداء الإسلام ليتجمعوا لتسديد ضربة يردون بها اعتبار الكفر؛ ولذلك رأينا رءوس قريش وقد منعت نساءها أن يبكين على قتلاهم؛ لأن البكاء يُريح النفس المتعبة، وهم يريدون أن يظل الحزن مكبوتاً ليصنع مواجيد حقدية تحرك النفس البشرية للأخذ بثأر هؤلاء، هذا من ناحية العاطفة التي يحبون أن تظل مؤججة، ومن ناحية المال فإنهم احتفظوا بمال العير الذي نجا ليكون وسيلة لتدبير معركة يردون فيها اعتبارهم.
وقد حاولوا قبل أحُد أن يفعلوا شيئاً، ولكنهم كانوا يُرَدّون على أعقابهم. فمثلاً قاد أبو سفيان حملة مكونة من مائة، وأراد أن يهاجم بها المدينة فلما نمى خبرها إلى سيدنا رسول الله نهض بصحابته إليهم، فبلغ أبو سفيان خروج رسول الله، ففرّ هارباً وألقى ما عنده من مؤنة في الطريق ليخفف الحمل على الدواب لتسرع في الحركة، ولذلك يسمونها «غزوة السويق» لأنهم تركوا طعامهم من السويق.
كما حاول بعض الكفار أن يُغيروا على المدينة بعد ذلك أكثر من مرة ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يذهب إليهم على رأس مقاتلين فمرة عددهم مائة ومرة مائة وخمسون ومرة مائتان، وفعلاً شتت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شملهم. وكان من خطته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يذهب إلى قوم كان يبلغه أنهم يُريدون أن يتآمروا لغزو المدينة أن يظل في بلدهم وفي معسكرهم وقتا ليس بالقليل.
كل ذلك سبق غزوة أُحد. وبعد ذلك تجمعوا ليجيئوا لغزوة أُحد، وكان ما كان، والآيات التي تعالج هذه الغزوة فيها إيحاءات بما جاء في المعركة، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بوأ للمقاتلين مقاعد للقتال، وأمرهم بالثبات في تلك المواقع لكن بعضا من المقاتلين ترك مكانه، والبعض الآخر همّ بالانسحاب، لكنه ثبت أخيراً، وفرّ كفار قريش. وقد تجلت في هذه المعركة آيات الله الكبيرة.
1728
فحين نصر الله سبحانه وتعالى المسلمين «ببدر» وهم قلة، لم يخرجوا لمعركة وإنما خرجوا لمصادرة عير. وربما ظن أناس أنهم بمجرد نسبتهم إلى الله وإلى الإسلام سينصرون على هذه الوتيرة، ويتركون الأسباب فأراد الله أن يعلمهم أنه لا بد من استنفاد الأسباب، إعداداً لعدة ولعدد، وطاعة لتوجيه قائد.
فلما خالفوا كان ولا بد أن يكون ما كان. والمخالفة لم تنشأ إلا بعد استهلالٍ بالنصر، ولذلك سيجيء فيما بعد ستون آية حول هذه الغزوة؛ لتبين لنا مناط العبرة في كل أطوارها لنستخرج منها العظة والدرس. ونعلم أن المنتصرين عادةً يكون الجو معهم رخاءً. ولكن الكلام هنا عن هزيمة من لا يأخذون بأسباب الله، وهذا أمر يحتاج إلى وقفة، فجاء القرآن هنا ليقص علينا طرفاً من الغزوة لنستخرج منها العبرة والعظة، العبرة الأولى:
أنهّم حينما خرجوا، تخلف المنافقون بقيادة ابن أبَيّ، إذن فالمعركة إنما جاءت لتمحص المؤمنين. والتمحيص يأتي للمؤمن ويعركه عركا، ويبين منه مقدار ما هو عليه من الثبات ومن اليقين، والحق إنما يمحص الفئة المؤمنة لأنها ستكون مأمونة في التاريخ كله إلى أن تقوم الساعة على حماية هذه العقيدة، فلا يمكن أن يتولى هذا الأمر إلا أناس لهم قلوب ثابتة، وجأش قوي عند الشدائد، وهمة دونها زخارف الدنيا كلها.
وبعد ذلك يعالج النفس البشرية في أوضاعها البشرية، فعقائد الإيمان لا تنصب في قلوب المسلمين بمجرد إعلان الإيمان، ولكن كل مناسبة تعطي دفعة من العقيدة يتكون بعد ذلك الأمر العقدي كله. ولذلك يبين لنا الحق أن طائفتين من المؤمنين قد همت بالتراجع، فهم نفوس بشرية، ولكن أنفّذت الطائفتان ذلك الهم أم رجعت وفاءت إلى أمر الله؟ لقد رجعت الطائفتان.
وهكذا رأينا بين الذين أعلنوا إيمانهم فئة نكصت من أول الأمر وفئة خرجت ثم عادت.
لقد تحدثت النفوس ولكن أفراد تلك الفئة لم يقفوا عند حديث النفس بل ثبتوا إلى نهاية الأمر، ومنهم من ثبت إلى الغاية السطحية من الأمر كالرماة الذين رأوا النصر أولا، وهؤلاء من الذين ثبتوا، ما فرّوا أولاً مع ابن أبيّ، وما كانوا من الطائفة التي
1729
همت، ولكنهم كانوا من الذين ثبتوا. لكنهم عند بريق النصر الأول اشتاقوا للغنائم، وخالفوا أمر الرسول، ولنقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين﴾ [آل عمران: ١٥٢]
وبعد ذلك تأتي لقطة أخرى وهي ألا نفتن في أحد من البشر، فخالد بن الوليد بطل معسكر الكفر في أُحد، وهو الذي استغل فرصة نزول الرماة عن أماكنهم، وبعد ذلك طوق جيش المؤمنين، وكان ما كان، من خالد قبل أن يسلم، ألم يكن في غزوة الخندق؟ لقد كان في غزوة الخندق. وكان في غزوات كثيرة غيرها مع جند الشرك، فأين كانت عبقريته في هذه الغزوات؟..
إن عبقرية البشر تتصارع مع عبقرية البشر ولكن لا توجد عبقرية بشرية تستطيع أن تصادر ترتيباً ربانياً، ولذلك لم يظهر دور خالد في معركة الخندق، لقد ظهر دوره في معركة أُحد؛ لأن المقابلين لخالد خالفوا أمر القيادة فبقيت عبقرية بشر لعبقرية بشر، ولكنهم لو ظلوا في حضن المنهج الإلهي في التوجيه لما استطاعت عبقرية خالد أن تطفو على تدبيرات ربه أبدا.
والتحقيق التاريخي لكل العسكريين الذين درسوا معركة أُحد قالوا: لا هزيمة للمسلمين ولا انتصار للكفار؛ لأن النصر يقتضي أن يُجلي فريق فريقاً عن أرض المعركة، ويظل الفريق الغالب في أرض المعركة. فهل قريش ظلت في أرض المعركة أو فرّت؟ لقد فرّت قريش.
ويُفسر النصر أيضاً بأن يؤسر عدد من الطائفة المقابلة، فهل أسرت قريش واحداً من المسلمين؟ لا. ولقد علموا أن المدينة خالية من المؤمنين جميعا وليس فيها إلا من تخلف من المنافقين والضعاف من النساء والأطفال، ولم يؤهلهم فوزهم السطحي لأن
1730
يدخلوا المدينة.
إذن فلا أسروا، ولا أخذوا غنيمة، ولا دخلوا المدينة، ولا ظلوا في أرض المعركة، فكيف تسمي هذا نصراً؟ فلنقل: إن المعركة ماعت. وظل المسلمون في أرض المعركة.
وهنا تتجلّى البطولة الحقة؛ لأننا كما قلنا في حالة النصر يكون الأمر رخاء، حتى من لم يُبْلِ في المعركة بلاءً حسناً ينتهز فرصة النصر ويصول ويجول، ولكن المهزومين والذين أصيب قائدهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وضعف أن يصعد الجبل، حتى أن طلحة بن عبيد الله يطأطئ ظهره لرسول الله ليمتطيه فيصعد على الصخرة.
ورسول الله يسيل منه الدم بعد أن كسرت رباعيته وتأتي حلقتان من حلق المغفر في وجنته، بعد هذا ماذا يكون الأمر؟ حتى لقد أرجف المرجفون وقالوا: إن رسول الله قد قُتل.
وكل هذا هو من التمحيص، فمن يثبت مع هذا، فهو الذي يؤتمن أن يحمل السلاح لنصرة كلمة الله إلى أن تقوم الساعة. ويتفقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بطلاً من أبطال المسلمين كان حوله فلا يجده، إنه «سعد بن الربيع».
يقول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَن رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟» فقال رجل من الأنصار هو أُبَيُّ بن كعب: فذهبت لأتحسسه، فرأيته وقد طُعن سبعين طعنة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية قوس. فلما رآه قال له: رسول الله يقرئك السلام، ويقول لك: كيف تجدك - أي كيف حالك -؟
قال سعد بن الربيع: قل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيا عن أمته، وقل للأنصار ليس لكم عند الله عُذر إن خَلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف. ثم فاضت روحه.
انظروا آخر ما كان منه، حين أُثخن في المعركة فلم يقو على أن يحارب
1731
بنصاله، انتهز بقية الحياة ليحارب بمقاله، ولتصير كلماته دوياً في آذان المسلمين. وليعلم أن هؤلاء الذين أثخنوه جراحاً ما صنعوا فيه إلا أن قربوه إلى لقاء ربه، وأنه ذاهب إلى الجنة. وتلك هي الغاية التي يرجوها كل مؤمن.
ونجد أيضاً أن الذين يعذرهم القرآن في أن يشهدوا معارك الحرب، يتطوعون للمعارك! فمثلا عمرو بن الجموح، كان أعرج، والعرج عذر أقامه الله مع المرض والعمى؛ لأنه سبحانه هو القائل: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١]
وكان لعمرو بن الجموح بنون أربعة مثل الأسْد قد ذهبوا إلى المعركة، ومع ذلك يطلب من رسول الله أن يذهب إلى المعركة ويقول له: يا رسول الله إن بَنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.
فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أمّا أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك. وقال لبنيه: ما عليكم ألاّ تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة، فخرج معه فقتل.
وهذا مؤمن آخر يقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا رسول الله إن ابني الذي استشهد ببدر رأيته في الرؤيا يقول لي: «يا أبت أقبل علينا» فأرجو أن تأذن لي بالقتال في «أحُد» فأن له فقاتل فقتل فصار شهيداً. وتتجلى الروعة الايمانية والنسب الاسلامي في حذيفة بن اليمان، لقد كان ابوه شيخاً كبيراً مسلماً فأخذ سيفه ولحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعل الله يرزقه الشهادة في سبيل الله، فدخل في المعركة ولا يعلم به أحد فقتله المسلمون
1732
ولا يعرفونه، فقال ابنه حذيفة، أبي والله.
فقالوا والله ما عرفناه، وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يؤدي ديته، فقال له حذيفة بن اليمان: وأنا تصدقت بها على المسلمين.
هذه الأحداث التي دارت في المعركة تدلنا على أن غزوة أُحد كان لا بد أن تكون هكذا، لتمحص المؤمنين تمحيصاً يؤهلهم لأن يحملوا كلمة الله ويعلوها في الأرض.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ... ﴾
1733
لقد نقلهم من معركة فيها شبه هزيمة أو عدم انتصار إلى نصر، فكأنه يريد أن يقول: إن الأمر بالنسبة لكم أمر إلهكم الذي يرقبكم ويعينكم ويمدكم ويرعاكم. وإياكم ان تعتمدوا على العدد والعُدة ولكن اعتمدوا على الحق سبحانه وتعالى وعلى ما يريده الحق توجيها لكم، لأن مدد الله إنما يأتي لُمستَقْبل لمدد الله، ولا يأتي المدد لغير مستقبل لمدد الله.
ونعرف أن فيه فرقاً بين الفاعل وبين القابل، فالفاعل شيء والقابل للانفعال بالفعل شيء آخر. وضربنا لذلك مثلاً: بأن الفاعل قد يكون واحداً، ولكن الانفعال يختلف، وحتى نقرب المسألة نقول: كوب الشاي تأتي لتشرب منه فتجده ساخناً فتنفخ فيه ليبرد، وفي الشتاء تصبح لتجد يدك باردة فتنفخ فيها لتدفأ، إنك تنفخ مرة لتبرد كوب الشاي، ومرة تنفخ لتدفئ يدك، إذن فالفاعل واحد وهو النافخ، ولكن القابل للانفعال شيء آخر، ففيه فاعل وفيه قابل، ومثال آخر: إن القرآن كلام الله ولو أنه نزل على الجبال لخرّت خاشعة، ومع ذلك يسمعه أناس،
1733
لا يستر الله عليهم بل يكشفهم لنا ويفضحهم بعظمة ألوهيته: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦]
إنهم لم ينفعلوا بالقرآن، وقولهم: «ماذا قال آنفاً» معناه استهتار بما قيل. ونجد الحق يرد على ذلك بقوله تعالى: ﴿أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦]
إن الفاعل واحد والقابل مختلف. ويتابع الحق بلاغه الحكيم في قوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ إذن فمدد الله لكم إنما يتأتى لمستقبلٍ إيماني، فان لم يوجد المستقبل - بكسر الباء - فلا يوجد المدد. فاذا كنت لا تستطيع ان تستقبل ما ترسله السماء من مدد نقول لك: أصلح جهاز استقبالك؛ لأن جهاز الاستقبال كالمذياع الفاسد، إن الإرسال من الإذاعات مستمر، لكن الذياع الفاسد هو الذي لا يستقبل. إذن فإن كنت تريد أن تستقبل عن الله فلا بد أن يكون جهاز استقبالك سليما. ويوضح الحق ذلك بقوله جل جلاله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ
1734
رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ}
1735
ويبين سبحانه وتعالى كيفية إصلاح جهاز الاستقبال لتلقي مدد الله فيقول: ﴿بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا... ﴾
إن الحق سبحانه وتعالى ضرب المثل بالصبر والتقوى في بدر مع القلة فكان النصر، وهنا في أُحد لم تصبروا؛ فساعة أن رأيتم الغنائم سال لعابكم فلم تصبروا عنها، ولم تتقوا أمر الله المبلغ على لسان رسوله في التزام أماكنكم.. فكيف تكونون أهلاً للمدد؟
إذن من الذي يحدد المدد؟ إن الله هو الذي يعطي المدد، ولكن من الذي يستقبل المدد لينتفع به؟ إنه القادر على الصبر والتقوى.
إذن فالصبر والتقوى هما العُدّة في الحرب. لا تقل عدداً ولا عدة. لذلك قال ربنا لنا: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ﴾ ولم يقل: أعدوا لهم ما تظنون أنه يغلبهم، لا. أنتم تعدون ما في استطاعتكم، وساعة تعدون ما في استطاعتكم وأسبابكم قد انتهت.. فالله هو الذي يكملكم بالنصر.
والبشر في ذواتهم يصنعون هذا، فمثلا - ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد -
1735
لنفترض أنك تاجر كبير. وتأتيك العربات الضخمة محملة بالبضائع، صناديق وطرود كبيرة، وأنت جالس بينما يفرغ العمال البضائع، وجاء عامل لينزل الطرد فغلبه الطرد على عافيته، وتجد نفسك بلا شعور منك ساعة تجده سيقع تهب وتقوم لنصرته ومعاونته، لقد استنفد هذا العامل أسبابه ولم يقدر، فالذي يعنيه الأمر يمد يده إليه، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى. كأنه يقول ابذل وقدّم أسبابك، فإذا ما رأيت أسبابك انتهت والموقف أكبر منك، فاعلم أنه أكبر منك أنت ولكنه ليس أكبر من ربك إنه سبحانه يقول: ﴿وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ... ﴾
1736
فإياك أن تظن أن المدد بالثلاثة آلاف أو الخمسة آلاف، الذين أنزلهم الله وأمدكم بهم أو بالملائكة المدربين على القتال.. إياكم أن تظنوا أن هذا المدد، هو شرط في نصر الله لك. بذاتك أو بالملائكة؛ إنه قادر على أن ينصرك بدون ملائكة، ولكنها بشرى لتؤنس المادة البشرية، فساعة يرى المؤمنين أعداداً كبيرة من المدد، والكفار كانوا متفوقين عليهم في العدد، فإن أسباب المؤمنين تطمئن وتثق بالنصر. إذن فالملائكة مجرد بُشرى، ولكن النصر من عند الله العزيز الذي لا يٌغلب. وكل الأمور تسير بحكمته التي لا تعلوها حكمة أبداً. ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ﴾
وقطع الطرف يتحدد بمعرفة ما هو طرف لماذا؟ فإن كان الطرف هو العدد الكثير فقطع الطرف أن يُقتل بعضه. وإن كان الطرف هو أرضا واسعة فقطع الطرف أن يأخذ من أرضهم. ولذلك يقول الحق سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب﴾ [الرعد: ٤١]
لقد كانت الأرض الكُفْرٍيّة تخسر كل يوم جزءاً منها لينضم هذا الجزء إلى الأرض الإيمانية، هذا بالنسبة لسعة الأرض، وافرض أن الطرف هو المال، فقطع الطرف هنا يكون بأن نأخذ بعض المال كغنائم، ثم هناك المنزلة التي كانت تهابها الجزيرة كلها، كل الجزيرة تهاب قريشاً، وقوافلها التجارية للشمال والجنوب لا تستطيع قبيلة أن تتعرض لها؛ لأن كل القبائل تعرف أنها ستذهب إلى البيت في موسم الحج، فلا توجد قبيلة تتعرض لها لأنها غداً ستذهب إلى قريش، إذن فالسيادة والعظمة كانت لقريش، وساعة تعلم القبائل أن رجال قريش قد كسروا وانهزموا، وأن رحلتهم إلى الشام أصبحت مهددة، فإنهم يبحثون عن فريق آخر يذهبون إليه.
إن قطع الطرف كان على أشكال متعددة، فإن كان طرفَ عددٍ فيقتل بعضهم، وإن كان طرف أرض فبعضها يؤخذ وتذهب إلى أرض إيمانية، وإن كانت عظمة وقهرا تأتهم الهزيمة، وإن كان نفوذاً في الجزيرة فهو يتزلزل ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا﴾.
ولنلحظ أن الحق قد قال: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً﴾ - لم يقل ليستأصل - لأن الله سبحانه وتعالى أبقى على بعض الكفار لأن له في الإيمان دوراً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ممتلئا بالعطف والرحمة والحنان على أمته، وكان يحسن الظن بالله أن يهديهم، ولذلك تعددت آيات القرآن التي تتحدث في هذا الأمر. ها هو ذا الحق يقول: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً﴾ [الكهف: ٦]
1737
وفي موقع آخر بالقرآن الكريم يقول الحق: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٣ - ٤]
والله يقول لرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فإنّما عليك البلاغ» والرسول يحب أن يهتدي إلى الإيمان كل فرد في أمته، فقال الحق: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾
1738
أي ليس لك يا محمد من الأمر شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بتوبتهم، إو يعذبهم، فلا يحزنك ذلك لأنهم ظالمون أي ما عليك يا محمد إلاّ البلاغ فقط. أما هم فقد ظلموا أنفسهم بالكفر. والظلم كما نعرف هو أخذ الحق من ذي الحق وإعطاؤه لغيره. وقمة الظلم هو إضفاء صفة الألوهية على غير الله وهو الشرك. ولذلك يقول الحق: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]
إن الحق يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٢٨]
1738
وهذه مسألة لم تخرج عن ملك الله، لماذا؟ لأن السماوات والأرض وما فيهن ملك لله: قيل أراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد أن خضّب المشركون وجهه بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم - أراد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يدعو عليهم فنهاه الله لعلمه - سبحانه - أن فيهم من يؤمن وأنزل قوله تعالى: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
1739
وبما أننا نتحدث عن ملامح في غزوة أحد أريد أن أقول: «جبل أًُحدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» ؛ لأننا سمعنا بعض العارفين بالله حين تذكر كلمة «أحد» قال: أحد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فتعجب القوم لقول الشيخ عبد الله الزيدان الذي قال ذلك، فما رأى عجبهم قال لهم: ألم يخاطبه رسول الله بقوله: «اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان»، ألم يقل فيه رسول الله: «أحد جبل يحبنا ونحبه» أتريدون أحسن من ذلك في الصحبة! قل: أحد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقلنا سابقاً: إنك إذا وقف عقلك في حاجة فلا تأخذها بمقاييسك أنت، بل خذها بالمقاييس الأعلى. ونحن نقول هذا الكلام لأن العلم الآن يجري ويسعى سعياً حثيثا مسرعاً حول استخراج بعض أسرار الله في الكون، فبين لنا أن الحيوانات لها لغات تتفاهم بها ويحاولون الآن أن يضعوا قاموسا للغة الأسماك. والحق سبحانه وتعالى ذكر لنا حكاية النملة مع سليمان - عليه السلام - فقال:
1739
﴿ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: ١٨]
هذا القول يدل على أنّ نملة خرجت وقامت بعمل (وردية) كي تحافظ على من معها ثم عادت لتتكلم مع أبناء فصيلتها، وسمعها سيدنا سليمان، فتبسم من قولها. إذن العلم يتسابق ويجد وَيُسَارع الآن ليثبت أن لكل جنس في الوجود لغة يتفاهم بها، وكل جنس في الوجود له انفعال، وكل جنس في الوجود له تكاثر، ولذلك قال الحق لنا على لسان سيدنا سليمان: ﴿ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين﴾ [النمل: ١٦]
وكانت هذه خصوصية لسيدنا سليمان عليه السلام، إذن فللطير منطق. وعندما نتسامى ونذهب إلى الجماد نسمع قول الحق سبحانه في آل فرعون وعدم بكاء الجماد عليهم: ﴿كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾ [الدخان: ٢٥ - ٢٩]
هل تبكي السماء والأرض؟ إنه أمر عجيب؛ فالجماد من سماء وأرض لا تتفاهم فقط ولكن لها عواطف أيضاً؛ لأن البكاء إنما ينشأ عن إنفعال عاطفي وجداني.
1740
هذا يعني أن الجمادات لا تتكلم فقط، ولكنها تحس أيضاً. فالأرض تخرج أثقالها، وتحدث أخبارها، كيف؟ ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٥]
والسماء والأرض أتيا إلى الله في منتهى الطاعة والخشوع: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]
إذن فهناك ما هو أكثر من التفاهم، إن لها عواطف مثلك تماما، وكما تحزنك حاجة فالأرض أيضاً تبكي، وما دامت تبكي إذن فلها مقابل بأن يفرح، ويقول الله تعالى عن أرض فرعون: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض﴾ فلو أنها لم تبك مع بعض الناس؛ لما كان لهذا الكلام ميزة.
لذلك قال الإمام علي - كرم الله وجهه -: إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع مصلاه؛ لأنه سيحرم من نعمة الإيمان، ومصعد عمله، موضع في الأرض وموضع في السماء. إذن فلا بد أن نفهم أن لكل شيء شعوراً. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا مات المؤمن استبشرت له بقاع الأرض فليس من بقعة إلا وهي تتمنى أن يدفن فيها».
لماذا نقول هذا الكلام الآن؟ نقول ذلك حتى إذا ثبت بالعلم أن لكل شيء لغة، ولكل شيء في أجناس الكون تفاهما، يقال إن فيه ناساً هبت عليهم نسمات الإيمان فأدركوها وأحسوها من القرآن، فلا يدعي أحد أنه ابتكر من ذات نفسه لأنها في القرآن وإن كنا لا نعرف كيف تأتي.
1741
وهذه المعركة - معركة أُحد - التي أخذت ستين آية، نجد أن الحق تكلم عنها هنا فقال: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ و ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ﴾ وقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾، وبعد ذلك يترك الغزوة في حرارتها ويأتينا بأشياء يضعها هنا، ثم يأتي ليكمل الغزوة. لو أن هذه لقطة من الغزوة وتنتهي ثم يأتي موضوع آخر، لما شغلنا أنفسنا، إنما الغزوة ستأتي فيها ستون آية، فكيف ينهي الكلام في الغزوة ولا يعطينا إلا استهلال الغزوة، وبعد ذلك ينصب القرآن على معانٍ بعيدة عن الغزوة؟ فما الذي يجعله - سبحانه - يترك أمر الغزوة ليقول: ﴿يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَِ﴾ [آل عمران: ١٣٠ - ١٣٨]
لماذا لم يعطنا الحق إلا استهلاك الغزوة وبعد ذلك انصب على قضايا أولها قضية الربا، ما العلاقة بين هذه القضايا وتلك الغزوة؟. وأقول: رحم الله صاحب
1742
الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب فقد استطاع أن يستخلص من هذه النقلة مبادئ إيمانية عقدية لو أن المسلمين في جميع بقاع الأرض جعلوها نصب أعينهم لما كان لأي دولة من دول الكفر غلب علينا.
ونريد أن نفهم هذه اللقطات، ولماذا استهلت بمسألة الربا؟ لأن الذي كان سبباً في الهزيمة أو عدم النصر في معركة أُحد أنهم طمعوا في الغنيمة. والغنيمة مال زائد، والربا فيه طمع في مال زائد.
والقرآن حين يعالج هنا قضية حدثية، والأحداث أغيار تمر وتنتهي، فهو سبحانه يريد أن يستبقي عطاء الحدث ليشيع في غير زمان الحدث، وإلا فالحدث قد يمر بعظاته وعبره وينتهي ولا تكون له فائدة. والنفس حين تمر بالأحداث تكون ملكاتها متفتحة؛ لأن الحدث - كما قال المغفور له الشيخ سيد قطب - يكون ساخناً، فحين يستغل القرآن الحدث قبل أن يبرد فإن القضية التي تتعرض لها الموعظة تتمكن من النفس البشرية. وهو سبحانه لم يرد أن تمر أحداث أُحد بما فيها من العبر والعظات إلا ويستغلها القرآن الكريم ليثبت بها قضايا إيمانية تشيع في غير أزمنة الحدث من الحروب وغيرها لتنتظم أيضاً وقت السلام. فآية الربا هنا كأنما سقطت وسط النصوص التي تتعرض لغزوة أحد.
والسطحيون قد يقولون: ما الذي جعل القرآن ينتقل من الكلام عن أُحد إلى أن يتكلم في الربا مرة ثانية بعد أن تكلم عنه أولاً؟
ونقول: إن القرآن لا يؤرخ الأحداث، وإنما يُريد أن يستغل أحداثاً ليبسط ويوضح ما فيها من المعاني التي تجعل الحدث له عرض وله طول وله عمق؛ لأن كل حدث في الكون يأخذ من الزمن قدر الحدث، والحدث له طول هو قدر من الزمن، يكون ساعة أو ساعتين أو ليلة مثلا، هذا هو طول الحدث.
والأحداث التي يجريها الله لها طول يحدده عمر الحدث الزمني، ولها عرض يعطيها الاتساع، فبعد أن كانت خطاً مستقيماً صارت مساحة، ويجعلها الحق شاملة لأشياء كثيرة، فهو لا يريد للحدث أن يسير كخط مستقيم، بل يريده طريقا واسعاً له
1743
مساحة وله عرض. هذا العرض يعطيه رقعة مساحية تأخذ كثيراً من الأشياء، وهذا أيضا قد ينتهي مع الحدث، لذلك يريد الله أن يعطي للحدث بعداً ثالثاً وهو العمق في التاريخ فيعطي عطاءه، كما نستفيد نحن الآن من عطاء حدث هو غزوة أُحد.
إذن فالحدث له حجم أيضاً، وهذا ما يجعل الناس تقف لتقول: إن صلة الرحم تطيل العمر، والعمر له حد زمني محدد وهو الخط المستقيم له، فهناك واحد يزيد من عرض عمره، فبدلاً من أن ينفع الناس في مجال صغير فهو يعمل وينفع في مجال أوسع، إذن فهو يعطي لعمره مساحة.
وهناك إنسان آخر يريد أن يكون أقوى في العمر، فماذا يعمل؟ إنه يعطي لعمره عمقاً، فبدلاً من أن يعمل لمجرد حياته وينتهي عمره مهما كانت رقعته واسعة، فهو يزيد من عمله الصالح ويترك أثراً من علم أو خير يستمر من بعد حياته كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له».
ولذلك يقول الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: ٢٤ - ٢٥]
هي كلمة طيبة قيلت، لكنّها مثل الشجرة الطيبة؛ لأنها ترسخ في أذن من يسمعها فتصير حركة خاضعة للكلمة، وكلما فعل السامع لهذه الكلمة فعلاً ناتجاً من تأثير هذه الكلمة فإن بعض الثواب يعود إلى من قال هذه الكلمة حتى ولو كان قد مات.
1744
فكأن قائل هذه الكلمة ما زال يعيش، وكأن عمره قد طال بكلمته الطيبة إذن فأعمال الخير التي تحدث من الإنسان ليس معناها أنها تطيل العمر؛ لأن العمر محدود بأجل، ولكنْ هناك إنسان يعطي عمره عرضاً، وآخر يعطيه عمقاً ويظل العطاء منه موصولاً إلى أن تقوم الساعة، فكأنه أعطى لنفسه عمراً خالداً. ويقولون: والذكر للإنسان عمر ثان.
والحق سبحانه وتعالى يوضح الدروس المستفادة من غزوة أُحد، إن أول مخالفة كانت سبباً ليس في الهزيمة، ولكن دعنا نقل: «في عدم إتمام النصر»، لأنهم بدأوا منتصرين، ولم يتم النصر لأنه قد حدثت مخالفة، ودوافع هذه المخالفة انهم ساعة رأوا الغنائم، اندفعوا إليها، إذن فدوافعها هي طلب المال من غير وجه مشروع؛ لأن النبي قال لهم: «انضحوا عنا الخيل ولا نؤتين من قبلكم، الزموا أماكنكم إن كانت النوبة لنا أو علينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم» وبهذا صارت مبارحة المكان أمراً غير مشروع، فتطلع النفس إلى شيء في غير ما أمر به رسول الله يعتبر أمراً غير مشروع والتطلع هنا كان للمال، وهكذا الربا.
وأراد الحق أن تكون سخونة الحدث، والأثر الذي نشأ من الحدث في أن المسلمين لم يتم نصرهم، وتعبوا، وكان مصدر التعب أن قليلاً منهم أحبوا المال الزائد من غير وجهه المشروع. فأراد - سبحانه - أن يكون ذلك مدخلا لبيان الأثر السيء للتعامل بالربا.
إذن فهذه مناسبة في أننا نجد آية الربا هنا وهي توضح الآثار السيئة للطمع في المال الزائد عن طريق غير مشروع، والقرآن فيه الكثير من المواقف التي توضح آثاراً تبدو في ظاهرها غير مترابطة، ولكن النظرة العميقة تؤكد الترابط.
وقلنا من قبل في قول الله تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٣٨ - ٢٣٩]
1745
قد يقول أحد السطحيين: إن الحق سبحانه وتعالى كان يتكلم عن الطلاق قبل هاتين الآيتين فقال سبحانه:
﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٣٧]
ويترك الحق الحديث عن الطلاق ويأمر بالحفاظ على الصلاة بقوله الحكيم: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾.
وبعد ذلك يعود الحق لاستكمال حديث الطلاق والفراق بالموت. ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٤٠]
إنه يتكلم عن الطلاق، والوفاة، ثم ينزل بينهما آية الصلاة، لماذا؟ ليتضح لنا أن المنهج الإسلامي منهج متكامل. إياك أن تقول: إن الطلاق غير الصلاة، غير الوفاة، أبداً، إنه منهج متكامل. ولأنه - سبحانه وتعالى - يريد أن ينبهنا إلى أن الطلاق عملية تأتي والنفس فيها غضب وتأتي والزوج والزوجة وأهل الزوج وأهل الزوجة في كدر، فيقول لهم المنهج: لو كنتم تحسنون الفهم لفزعتم إلى الصلاة حين تواجهكم هذه الأمور التي فيها كدر.
وساعة تكون في كدر قم وتوضأ وصَلِّ، لأن النبي علمنا أنه إذا حَزَبه أمر قام
1746
إلى الصلاة، فساعة تجد الجو المشحون بالتوتر بين الزوج والزوجة وأهلهما قل لهم: المسألة صارت أكبر من حيلنا، فهيا نصل ليساعدنا الله على حل هذه المسائل الصعبة وأنا أتحدى ألا يوجد الله حلاً لمشكلة لجأ فيها المسلم إلى الصلاة قبلها.
وهكذا نفهم أن الحق قال: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى﴾ لأن محافظتكم عليها هي التي ستنهي كل الخلافات؛ لأن الله لايكون في بالكم ساعة ضيقكم وفي ساعة شدتكم فتستسلمون للضيق والشدة وتنسون الصلاة، في الوقت الذي يكون فيه الإنسان أحوج ما يكون إلى الصلاة. إنك في وقت الضيق والشدة عليك أن تذهب إلى ربك، وأقول هذا المثل - ولله المثل الأعلى - إن الولد الذي يضربه أصحابه يذهب إلى أبيه، كذلك زوجتك إذا أغضبتها تذهب إلى أهلها، فكيف لا تذهب إلى ربك وقت شدتك وكربك؟.
وهكذا نجد أن قوله الحق: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى﴾ جاء في المكان الصحيح، وهكذا آية الربا، جاءت في مكانها هنا وخصوصاً أنه تكلم عن الربا أولاً، فتأتي الحادثة وسخونة الحدث وينزل هذا القرآن الكريم. كي يعرف كل من يريد مالاً زائداً على غير ما شرع الله أنّه سيأتي منه البلاء على نفسه وعلى غيره، فالبلاء في أُحد شمل الجميع: الرماة وغير الرماة أيضا.
إذن فكل الدنيا تتعب عندما تخالف منهج الله، والمال الزائد من غير ما شرع الله إن لم يترك فقد آذن الله من يأكله بحرب من الله ومن رسول الله.
1747
والربا زيادة في المال، فهل يؤكل؟ نعم؛ لأن كل المسائل المالية من أجل اللقمة
1747
التي تأكلها، هذا هو الأصل. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «من أصبح منكم آمناً في سِرْبِهِ مُعَافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا».
ونعرف أنه عندما يكون الواحد منا في منطقة ليس فيها رغيف خبز، فلن تنفعه ملكية جبل من الذهب. ﴿لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً﴾ وقوله سبحانه: ﴿أَضْعَافاً﴾ و ﴿مُّضَاعَفَةً﴾ هو كلام اقتصادي على أحدث نظام، فالأضعاف هي: الشيء الزائد بحيث إذا قارنته بالأصل صار الأصل ضعيفاً، فعندما يكون أصل المال مائة - على سبيل المثال - وسيؤخذ عليها عشرون بالمائة كفائدة فيصبح المجموع مائة وعشرين. إذن فالمائة والعشرون تجعل المائة ضعيفة، هذا هو معنى أضعاف.
فماذا عن معنى «مضاعفة» ؟ إننا سنجد أن المائة والعشرين ستصبح رأس مال جديداً، وعندما تمر سنة ستأخذ فائدة على المائة وعلى العشرين أيضا، إذن فالأضعاف ضوعفت أيضاً، وهذا ما يسمى بالربح المركب، وهل معنى هذا أننا نأكله بغير أضعاف مضاعفة؟ ﴿لا؛ لأن الواقع في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان هكذا.
وقد يقول لك واحد: أنا أفهم القرآن وأن المنهي هو الأضعاف المضاعفة، فإذا لم تكن أضعافاً مضاعفة فهل يصح أن تأخذ ربحاً بسيطاً يتمثل في نسبة فائدة على أصل المال فقط؟ ولكن مثل هذا القائل نرده إلى قول الله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾
[البقرة: ٢٧٩]
إن هذا القول الحكيم يوضح أن التوبة تقتضي أن يعود الإنسان إلى حدود رأس ماله ولا يشوب ذلك ربح بسيط أو مركب. وعندما نجد كلمة ﴿أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً﴾ فهي قد جاءت فقط لبيان الواقع الذي كان سائداً في أيامها.
وبعد ذلك يقول الحق تذييلاً للآية: ﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ونقول دائماً
1748
ساعة نرى كلمة «اتقوا» يعني اجعلوا بينكم وبين الله وقاية، وهل تكون الوقاية بينكم وبين الله بكل صفات جماله وجلاله؟ لا، فالوقاية تكون مما يتعب ومما يؤلم ويؤذي، إذن فاتقوا الله يعني: اجعلوا بينكم وبين صفات جلاله من جبروت وقهر وانتقام وقاية، وعندما يقول الحق: ﴿واتقوا الله﴾ فهي مثل قوله: ﴿واتقوا الله﴾، لأن النار جند من جنود صفات الجلال.
وعندما يقول الحق: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ نعرف أن كلمة «الفلاح» هذه تأتي لترغيب المؤمن في منهج الله، وقد جاء الحق بها من الشيء المحس الذي نراه في كل وقت، ونراه لأنه متعلق ببقاء حياتنا، وهو الزرع والفلاحة، أنت تحرث وتبذر وتروي، وبعد ذلك تحصد.
إذن فهو يريد أن يوضح لك أن المتاعب التي في الحرث، والمتاعب التي في البذر، والمتاعب التي في السقى كلها متى ترى نتيجتها؟ أنت ترى النتيجة ساعة الحصاد، فالفلاح يأخذ (كيلتين) من القمح من مخزنه كي يزرع ربع فدان، ولا نقول له: أنت أنقصت المخزن؛ لأنه أنقص المخزن للزيادة، ولذلك فالذي لم ينقص من مخزنه ولم يزرع، يأتي يوم الحصاد يضع يده على خده نادماً ولا ينفع الندم حينئذ}
إن الحق يريد أن يقول لنا: إن المنهج وإن أتعبك، وإن أخذ من حركتك شيئاً كثيراً إلا أنه سيعود عليك بالخير حسب نيتك وإقبالك على العمل، ولقد ضرب لنا الله المثل في قوله:
﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٦١]
هذا أمر واضح، حبة نأخذها منك فتنقص ما عندك، لكنها تعطيك سبعمائة، إذن فساعة تؤخذ منك الحبة لا تقل: إنك نقصت، إنما قَدِّرْ أنك ستزيد قدر كذا. ويعطينا الله ذلك المثل في خلق من خلقه وهو الأرض،
1749
الأرض الصماء، أنت تعطيها حبة فتعطيك سبعمائة. فإذا كان خلق من خلق الله وهو الأرض يعطيك أضعاف أضعاف ما أعطيت. أفلا يعطيك رَبّ هذه الأرض أضعافاً مضاعفة؟ إنه قادر على أجزل العطاء، هذا هو الفَلاحُ على حقيقته، وبعد ذلك فإنه ساعة يتكلم عن الفلاح يقول لك: إنك لن تأخذ الفلاح فقط ولكنك تتقي النار أيضاً.
فيقول الحق سبحانه: ﴿واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾
1750
إذن ففيه مسألتان: سلبٌ لمضرة، وإيجابُ منفعة، إنه يوجب لك منفعة الفلاح ويسلب منك مضرّة النار. ولذلك يقول تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: ١٨٥]
لأنه إذا زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ إن هذا هو الفوز الكبير، وهذا السبب في أن ربنا سبحانه وتعالى ساعة السير على الصراط سيُرينا النار ونمرُّ عليها، لماذا؟ كي نعرف كيف نجانا الإيمان من هذه، وما الوسيلة كي نفلح ونتقي النار؟ إن الوسيلة هي اتباع منهج الله الذي جاء به على لسان رسوله: ﴿وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
و «الرحمة» تتجلى في ألا يوقعك في المتعبة، أما الشفاء فهو أن تقع في المتعبة ثم تزول عنك، لذلك فنحن إذا ما أخذنا المنهج من البدء فسنأخذ الرحمة. ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ﴾ [الإسراء: ٨٢]
إن الشفاء هو إزالة للذنب الذي تورطنا فيه ويكون القرآن علاجاً، والرحمة تتجلى إذا ما أخذنا المنهج في البداية فلا تأتي لنا أية متاعب. ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
والسرعة - كما عرفنا - مقابلها العجلة، إن السرعة هي: التقدم فيما ينبغي، ومعنى أن تتقدم فيما ينبغي: أنك تجعل الحدث يأخذ زمناً أقل، والمثال على ذلك عندما يسرع الإنسان بسيارته من القاهرة إلى الإسكندرية فهو يحاول أن يقطع المائتين والعشرة كيلو مترات في زمن أقل، فبدلاً من أن تأخذ منه ثلاث ساعات في السيارة فهو يسرع كي تأخذ منه ساعتين. إذن فالسرعة هي: التقدم فيما ينبغي، وهي محمودة، وضدها: الإبطاء. فالسرعة محمودة، والإبطاء مذموم.
لكن «العجلة» تقدم فيما لا ينبغي، وهي مذمومة، مقابلها «التأني»، والتأني ممدوح، إذن فالسرعة محمودة، ومقابلها الإبطاء مذموم، والعجلة مذمومة، ومقابلها التأنّي ممدوح، والمثل الشعبي يقول: في التأني السلامة وفي العجلة الندامة.
1751
إن الحق يقول: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي: خذوا المغفرة وخذوا الجنة بسرعة، لأنك لا تعرف كم ستبقى في الدنيا، إياك أن تؤجل عملاً من أعمال الدين أو عملا من أعمال الخير؛ لأنك لا تعرف أتبقى له أم لا. فانتهز فرصة حياتك وخذ المغفرة وخذ الجنة، هذا هو المعنى الذي يأتي فيه الأثر الشائع «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».
الناس تفهمها فهماً يؤدي مطلوباتهم النفسية بمعنى: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً: يعني اجمع الكثير من الدنيا كي يَكفيك حتى يوم القيامة، وليس هذا فهماً صحيحاً لكن الصحيح هو أن ما فاتك من أمر الدنيا اليوم فاعتبر أنك ستعيش طويلاً وتأخذه غداً، أمَّا أمر الآخرة فعليك أن تعجل به.
﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾ ونحن نعرف أن المساحات لها طولّ وعرض، لأن الذي طوله كعرضه يكون مربعاً، إنما الذي عرضه أقل من طوله فنحن نسميه «مستطيلا»، وحين يقول الحق ﴿عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾ نعرف أن العرض هو أقل البعدين، أي أنها أوسع مما نراه، فكأنه شبّه البعد الأقل في الجنة بأوسع البعد لما نعرفه وهو السموات والأرض ملتصقة مع بعضها بعضا فأعطانا أوسع مَمَّا نراه. فإذا كان عرضها أوسع ممَّا نعرف فما طولها؟ أنه حد لا نعرفه نحن.
قد يقول قائل لماذا بيَّن عرضها فقال: ﴿عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾. فأين طولها إذن؟ ونقول: وهل السموات والأرض هي الكون فقط؟ إنّه سبحانه يقول: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض﴾ [البقرة: ٢٥٥]
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما السموات والأرض وما بينهما إلا كحلقة ألقاها ملك في فلاة». أليست هذه من ملك الله؟
وهكذا نرى أن هذه الجنة قد أُعدت للمتقين، ومعنى «أُعدت» أي هيئت وصُنعت وانتهت المسألة! يؤكد ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول:
1752
«عرضت عليّ الجنة ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت».
لماذا؟ لأن الإخبار بالحدث قد يعني أن الحدث غير موجود وسيوجد من بعد ذلك، ولكن الوجود للحدث ينفي أن لا يوجد؛ لأن وجوده صار واقعا، فعندما يقول: «أُعدت» فمعناها أمر قد انتهى الحق من إعداده، ولن يأخذ من خامات الدنيا وينتظر إلى أن ترتقي الدنيا عندكم ويأخذ وسائل وموادّ مما ارتقيتم ليعد بها الجنة، لا.
لقد أخبر سبحانه عنها فقال: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، وأعد سبحانه الجنة كلها ب «كن»، فعندما يقول: «أُعدت» تكون مسألة مفروغاً منها. وما دامت مسألة مفروغاً منها إذن فالمصير إليها أو إلى مقابلها مفروغ منه، والجنة أُعدت للمتقين، فمن هم المتقون؟.
1753
هذه بعض من صفات المتقين ﴿والكاظمين الغيظ﴾ لأن المعركة - معركة أُحد - ستعطينا هذه الصورة أيضاً. فحمزة وهو سيد الشهداء وعم سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُقتل. وليته يُقتل فقط ولكنه مُثِّل به، وأُخِذ بضع منه وهو كبد فلاكته «هند»، وهذا أمر أكثر من القتل. وهذه معناها ضغن دنيء.
وحينما جاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خبر مقتل حمزة وقالوا له: إن «هنداً»
1753
أخذت كبده ومضغتها ثم لفظتها، إذ جعلها الله عَصِيَّة عليها، قال: «ما كان الله ليعذب بعضاً من حمزة في النار» كأنها ستذهب إلى النار، ولو أكلتها لتمثلت في جسمها خلايا، وعندما تدخل النار فكأن بعضاً من حمزة دخل النار، فلا بد أن ربها يجعل نفسها تجيش وتتهيأ للقيء وتلفظ تلك البضعة التي لاكتها من كبد سيد الشهداء.
وقد شبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الحادثة بأنها أفظع ما لقي. إنها مقتل حمزة فقال: «لئن أظفرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم».
وهنا جاء كظم الغيظ ليأخذ ذروة الحدث وقمته عند رسول الله في واحد من أحب البشر إليه وفي أكبر حادث أغضبه، وينزل قول الحق: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ [النحل: ١٢٦]
كي نعرف أن ربنا - جل جلاله - لا ينفعل لأحد؛ لأن الانفعال من الأغيار، وهذا رسوله فأنزل - سبحانه - عليه: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ ويأتي هنا الأمر بكظم الغيظ، وهو سبحانه يأتي بهذا الأمر في مسألة تخص الرسول وفي حدث «أٌحد». وبعد ذلك يُشيعها قضية عامة لتكون في السلم كما كانت في الحرب. وتكون مع الناس دون رسول الله؛ لأنها كانت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
﴿والكاظمين الغيظ﴾ ونعرف أن كل الأمور المعنوية مأخوذة من الحسّيات. وأصل الكظم أن تملأ القِرْبة، والقِرَب - كما نعرف - كان يحملها «السقا» في الماضي، وكانت وعاء نقل الماء عند العرب، وهي من جلد مدبوغ، فإذا مُلئت القربة بالماء شُدّ على رأسها أي رٌُبط رأسها ربطاً محكماً بحيث لا يخرج شيء مَمّا فيها، ويقال عن هذا الفعل: «كظم القربة» أي ملأها وربطها، والقربة لينة وعندما توضع على ظهر واحد أو على ظهر الدابة فمن ليونتها تخرج الماء فتكظم وتربط بإحكام كي لا يخرج منها شيء.
1754
كذلك الغيظ يفعل في النفس البشرية، إنه يهيجها، والله لا يمنع الهياج في النفس لأنه انفعال طبيعي، والانفعالات الطبيعية لو لم يردها الله لمنع أسبابها في التكوين الإنساني.
إنما هو يريدها لأشياء مثلا: الغريزة الجنسية، هو يريدها لبقاء النوع، ويضع من التشريع ما يهذبها فقط، وكذلك انفعال الغيظ، إن الإسلام لا يريد من المؤمن أن يُصَبَّ في قالب من حديد لا عواطف له، لا، هو سبحانه يريد للمؤمن أن ينفعل للأحداث أيضاً، لكن الانفعال المناسب للحدث، الانفعال السامي الانفعال المثمر، ولا يأتي بالانفعال المدمر.
لذلك يقول الحق: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً﴾ [الفتح: ٢٩]
فالمؤمن ليس مطبوعاً على الشدة، ولا على الرحمة، ولكن الموقف هو الذي يصنع عواطف الإنسان، فالحق سبحانه يقول: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ [المائدة: ٥٤]
وهل هناك من هو ذليلٌ عزيزٌ معاً؟ نقول: المنهج الإيماني يجعل المؤمن هكذا، ذلة على أخيه المؤمن وعزة على الكافر. إذن فالإسلام لا يصب المؤمنين في قالب كي لا ينفعلوا في الأحداث.
ومثال آخر: ألم ينفعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين مات ابنه إبراهيم؟ لقد انفعل وبكى وحزن. إن الله لا يريد المؤمن من حجر. بل هو يريد المؤمن أن ينفعل للأحداث ولكن يجعل الانفعال على قدر الحدث، ولذلك قال سيدنا رسول الله عند فراق ابنه: «إن العين تدمع وإن القلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا بفراقك
1755
يا إبراهيم لمحزونون».
ولا نقول لحظة الانفعال ما يسخط الرب. بل انفعال موجّه، والغيظ يحتاج إليه المؤمن حينما يهيج دفاعاً عن منهج الله، ولكن على المؤمن أن يكظمه.. أي لا يجعل الانفعال غالبا على حسن السلوك والتدبير. والكظم - كما قلنا - مأخوذ من أمر محس. مثال ذلك: نحن نعرف أن الإبل أو العجماوات التي لها معدتان، واحدة يُختزن فيها الطعام، وأخرى يتغذى منها مباشرة كالجمل مثلاً، إنه يجتر.
ومعنى: يجتر الجمل أي يسترجع الطعام من المعدة الإضافية ويمضغه، هذا هو الاجترار. فإذا امتنع الجمل عن الاجترار يقال: إن الجمل قد كظم. والحق سبحانه يقول: ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس﴾.
وقلنا: إن هناك فرقاً بين الانفعال في ذاته، فقد يبقى في النفس وتكظمه، ومعنى كظم الانفعال: أن الإنسان يستطيع أن يخرجه إلى حيز النزوع الانفعالي، ولكنّه يكبح جماح هذا الانفعال. أما العفو فهو أن تخرج الغيظ من قلبك، وكأن الأمر لم يحدث، وهذه هي مرتبة ثانية. أما المرتبة الثالثة فهي: أن تنفعل انفعالاً مقابلاً؛ أي أنك لا تقف عند هذا الحد فحسب، بل إنك تستبدل بالإساءة الإحسان إلى من أساء إليك. إذن فهناك ثلاث مراحل: الأولى: كظم الغيظ. والثانية: العفو. والثالثة: أن يتجاوز الإنسان الكظم والعفو بأن يحسن إلى المسئ إليه.
وهذا هو الارتقاء في مراتب اليقين؛ لأنك إن لم تكظم غيظك وتنفعل، فالمقابل لك أيضاً لن يستطيع أن يضبط انفعاله بحيث يساوي انفعالك، ويمتلئ تجاهك بالحدة والغضب، وقد يظل الغيظ نامياً وربما ورّث أجيالا من أبناء وأحفاد.
لكن إذا ما كظمت الغيظ، فقد يخجل الذي أمامك من نفسه وتنتهي المسألة.
﴿والعافين عَنِ الناس﴾ مأخوذة من «عفّى على الأثر» والأثر ما يتركه سير الناس
1756
في الصحراء مثلا، ثم تأتي الريح لتمحو هذا الأثر. ويقول الحق في تذييل الآية: ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾.
وقلنا في فلسفة ذلك: إننا جميعاً صنعة الله، والخلق كلهم عيال الله. وما دمنا كلنا عيال الله فعندما يُسيء واحد لآخر فالله يقف في صف الذي أسيء إليه، ويعطيه من رحمته ومن عفوه ومن حنانه أشياء كثيرة. وهكذا يكون المُساء إليه قد كسب. أليس من واجب المُسَاء إليه أن يُحسِن للمسيء؟.
لكن العقل البشري يفقد ذكاءه في مواقف الغضب؛ فالذي يسيء إلى إنسان يحسبه عدوٍّا. لكن على الواحد منا أن يفهم أن الذي يسيء إليك إنما يجعل الله في جانبك؛ فالذي نالك من إيذائه هو أكثر مما سلبك هذا الإيذاء. هنا يجب أن تكون حسن الإيمان وتعطي المسيء إليك حسنة.
ويضيف الحق من بعد ذلك في صفات أهل الجنة: ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله... ﴾
1757
والفاحشة هي: الذنب الفظيع. فهل معنى ذلك أن الرماة في غزوة أحد حين تركوا مواقعهم، قد خرجوا من الإيمان؟ لا، إنها زلة فقط، لكنها اعتبرت كبيرة من الكبائر لمن أشار على المؤمنين أن ينزلوا، واعتبرت صغيرة لمن حُرّض - بالبناء للمفعول - على أن ينزل من موقعه.
1757
إذن فهو قول مناسب: ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله﴾ وجاء الحق هنا ب «ذكروا الله» كتنبيه لنا إلى أن من يفعل الفاحشة أو يظلم نفسه هو من نسي الله، فلحظة فعل الفاحشة أو ظلم النفس لا يكون الله على بال الإنسان الفاعل للفاحشة أو على بال من ظلم نفسه، والذي يُجرِّئ الإنسان على المعصية ليحقق لنفسه شهوة، أنَّه لم ير الله ولم ير جزاءه وعقابه في الآخرة ماثلا أمامه، ولو تصور هذا لا متنع عن الفاحشة.
وكذلك الذي يهمل في الطاعة أيضاً، لم يذكر الله وعطاءه للمتقين. ولو ذكر الله وعطاءه للمتقين لما تكاسل عن طاعة الله. ولذلك يقول الحق: ﴿ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ﴾ فمن يستغفر لذنبه فقد ذكر الله.
وموقف العلماء من الفاحشة فيه اختلاف. بعض العلماء قال: إنها الكبيرة من الكبائر، وظلم النفس صغيرة من الصغائر. وقال بعض آخر من العلماء: إن الفاحشة هي الزنا؛ لأن القرآن نص عليها، وما دون ذلك هو الصغيرة.
ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا كبيرة مع الاستغفار. ولا صغيرة مع الإصرار».
فلا يجوز للإنسان أن يتجاوز عن أخطائه ويقول: هذه صغيرة وتلك صغيرة لأن الصغيرة مع الصغيرة تصير كبيرة. وحين ننظر إلى قول الله تعالى: ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ﴾ نجد أن الذي فعل الفاحشة ظالم لنفسه أيضا لأنه حقق لنفسه شهوة عارضة، وأبقى على نفسه عذاباً خالداً.
ولماذا لم يقل الحق إذن: والذين ظلموا أنفسهم فقط؟ أي يكون العطف ب «الواو» لا ب «أو» ؛ لأن الحق يريد أن يوضح لنا الاختلاف بين فعل الفاحشة وظلم النفس.
لأن الذي يفعل الفاحشة إنما يحقق لنفسه شهوة أو متعة ولو عاجلة، لكن الذي
1758
يظلم نفسه يذنب الذنب ولا يعود عليه شيء من النفع؛ فالذي يشهد الزور - على سبيل المثال - إنه لا يحقق لنفسه النفع، ولكن النفع يعود للمشهود له زوراً. إن شاهد الزور يظلم نفسه لأنه لبّى حاجة عاجلة لغيره، ولم ينقذ نفسه من عذاب الآخرة. أما الإنسان الذي يرتكب الفاحشة فهو قد أخذ متعة في الدنيا، وبعد ذلك ينال العقاب في الآخرة.
لكن الظالم لنفسه لا يفيد نفسه، بل يضر نفسه؛ فالذي هو شر أن تبيع دينك بدنياك؛ إنك في هذه الحالة قد تأخذ متعة من الدنيا وأمد الدنيا قليل.
والحق لم ينه عن متاع الدنيا، ولكنه قال عنه: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ﴾. وهناك من يبيع دينه بدنيا غيره، وهو لا يأخذ شيئاً ويظلم نفسه.
ويقول الحق: ﴿فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله﴾. ومعنى «ذنب» هو مخالفة لتوجيه منهج. فقد جاء أمر من المنهج ولم ينفذ الأمر. وجاء نهي من المنهج فلم يُلتزم به. ولا يسمى ذَنْباً إلا حين يعرفنا الله الذنوب، ذلك هو تقنين السماء. وفي مجال التقنين البشري نقول: لا تجريم إلا بنص ولا عقوبة إلا بتجريم.
وهذا يعني ضرورة إيضاح ما يعتبر جريمة؛ حتى يمكن أن يحدث العقاب عليها، ولا تكون هناك جريمة إلا بنص عليها. أي أنه يتم النص على الجريمة قبل أن يٌنص على العقوبة، فما بالنا بمنهج الله؟ إنه يعرفنا الذنوب أولاً، وبعد ذلك يحدد العقوبات التي يستحقها مرتكب الذنب.
ولننتبه إلى قول الحق: ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ إذن فالاستغفار ليس أن تردف الذنب بقولك: أستغفر الله لا. إن على الإنسان أن يردف الذنب بقوله: أستغفر الله وأن يصر على ألا يفعل الذنب أبداً.
وليس معنى هذا ألا يقع الذنب منك مرة أخرى؛ إن الذنب قد يقع منك، ولكن ساعة أن تستغفر تصر على عدم العودة، إن الذنب قد يقع، ولكن بشرط ألا
1759
يكون بنيّة مٌسبقة، وتقول لنفسك: سأرتكب الذنب، وأستغفر لنفسي بعد ذلك. إنك بهذا تكون كالمستهزئ بربّك، فضلا على أنك قد تصنع الذنب ولا يمهلك الله لتستغفر. قوله الحق: ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يوضح لنا أنه لا عقوبة إلا تجريم إلا بنص.
إن الحق يعلمنا يعرفنا أولاً ما هو الذنب؟ وما هو العقاب؟ وكيفية الاستغفار؟ ويقول الحق بعد ذلك: ﴿أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾
1760
﴿أولئك﴾ إشارة إلى ما تقدم في قوله سبحانه: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٣]
مع بيان أوصاف المتقين في قوله: ﴿الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين﴾ [آل عمران: ١٣٤]
إنهم ينفقون في السراء نفقة الشكر. وينفقون في الضراء نفقة الذكر والتضرع،
1760
لأن النعمة حين توجد بسرّاء تحتاج إلى شكر لهذه النعمة، والنعمة حين تنفق في الضراء تقتضي ضراعة إلى الله ليزحزح عن المنفق آثار النقمة والضراء. إذن فهم ينفقون سواء أكانوا في عسر، أم كانوا في يسر.
إن كثيراً من الناس ينسيهم اليسر أن الله أنعم عليهم ويظنون أن النعمة قد جاءت عن علم منهم. وبعض الناس تلهيهم النعمة عن أن يحسوا بآلام الغير ويشغلوا بآلام أنفسهم. لكن المؤمنين لا ينسون ربهم أبداً. وأمره بالإنفاق في العسر واليسر. ولذلك قولوا: فلان لا يقبض يده في يوم العرس ولا في يوم الحبس.
وتتتابع أوصاف المتقين: ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ١٣٥]
وفي ذلك لون من تطمين المؤمن على أغيار نفسه، وعلى أنه عندما يستجيب مرة لنزغات الشيطان، فهذه لا تخرجه من حظيرة التقوى، لأن الله جعل ذلك من أوصاف المتقين. فالفاحشة التي تكون من نزغ الشيطان وذكر العباد لله بعدها، واستغفارهم مع الإصرار على عدم العودة، لا تخرجهم أبداً عن وصفهم بأنهم متقون. لأن الحق هو الغفور: ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله﴾.
إنهم قد أُخبروا بذلك، فلم يجرم الحق أحداً إلا بنص، ولم يعاقب إلا بجريمة. وقول الحق سبحانه: ﴿أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ هو إشارة لكل ما سبق. ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل للعاملين بهذا العمل من التقوى قوسين: القوس الأول الذي ابتدأ به هو قوله الحق: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
والقوس الثاني هو الذي أنهى الأمر: ﴿أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾.
1761
فالجنة الأولى التي ذكرها الله إلهاباً للعواطف النفسية لتقبل على ما يؤدي لهذه الجنة، وبعد ذلك ذكر الأوصاف والأصناف وجعل الجنة أجراً. ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾.
والأجر عادة هو ما يأخذه العامل نتيجة العمل. والأجر حين يأخذه العامل نتيجة لعمل يتوقف على تقييم العمل عند صاحب العمل نفسه. فزيادة الأجر ونقصه تقدير من صاحب العمل، وأيضاً تقدير للعامل. فإن طلب أصحاب عمل متعددون عاملاً محدداً فله أن يطلب زيادة وإن لم يطلبه أحد فهو يقبل أول عرض من الأجر نظير أداء العمل.
إذن فالمسألة مسألة حاجة من صاحب عمل، أو حاجة من عامل، وحين ننظر إلى الصفقة في الآخرة نجد أنها بين إله لا يحتاج إلى عملك. ومع أنه لا يحتاج إلى عملك جعل لعملك أجراً.
ما هذه المسألة؟ هو ليس محتاجاً إلى عملك، ويعطيك أجراً على عملك ويقول لك: إن هذا الأجر هو الحد الأدنى، لكن لي أنا أن أضاعف هذا الأجر، ولي أن أتفضل عليك بما فوق الأجر. فكم مرحلة إذن؟ إنها ثلاث مراحل، مع أنه سبحانه لا يستفيد من هذا العمل إلا أنه وضع ثلاث مراتب للأجر.
إذن فالحاجة من جهة واحدة هي جهتك أنت أيها العبد، أنت تحتاج إلى خالقك وهو لا يحتاج إليك، ومع ذلك يعطيك الإله الحق الأجر لا على قدر العمل فقط، ولكن فوق ذلك بكثير. إن الذي تعمل له يوماً من العباد قد يعطيك - على سبيل المثال - ما يكفيك قوت يوم، أو قوت يوم ونصف يوم. ولكنك حين تأخذ الأجر من يد الله فإنه يعطيك أجراً لا تنتهي مدة إنفاقه؛ فهو القائل: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾.
هذا هو الأجر الذي يقال فيه: نعم هذا الأجر؛ لأنه أجر لا يتناسب مع مجهودي، بل يفوق كل ما بذلت من جهد وقادم من جهة لا تحتاج إلى هذا المجهود.
1762
إنه سبحانه متفضل على أولاً. ومتفضل على أخيراً، ليدل الحق سبحانه وتعالى على أنك - أيها العبد - حين تعمل الطاعة يَعود أثر الطاعة على نفسك ومع ذلك فهو يعطيك أجراً على ما فعلت.
وأوضحنا أن هذه الآيات جاءت بين آيات معركة أُحُد إرشاداً واستثمارا للأحداث التي وقعت في أُحُد، حتى إذا عاش الإنسان في تصور الأحداث فالأحداث تكون ساخنة، ويكون التقاط العبرة منها قريباً إلى النفس؛ لأن واقعاً يُحتّمها ويؤكدها. والحق سبحانه وتعالى يقول من بعد ذلك: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا... ﴾
1763
أي أنتم لستم بدعاً في هذه المسألة. و «خلت» تعني «مضت»، أي حصلت واقعا في أزمان سبقت هذا الكلام. وعادة فالأخبار التي يتكلم بها الإنسان مرة تكون خبراً يحتمل الصدق والكذب، لكن هذه المسألة لا تحتاج إلى صدق أو كذب؛ لأن الواقع ليس أمراً مستقبلاً، ولكنه أمر قد سبق، فبمجرد أن يجيء الكلام لا ننتظر واقعا يؤكد صدق الكلام، لأنَّ الواقع قد حدث من قبل، فيقول سبحانه: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾.
والسنن هي الطرق التي يصرف الله بها كونه بما يحقق مصلحة ذلك الكون؛ ليضمن للإنسان - السيد في هذا الكون - ما يحقق مصلحته، ومصلحة الإنسان تتمثل في أن يسود الحق في حياة الإنسان المختار كما ساد الحق في الكون المسيّر قبل الإنسان.
وقد قلنا إن في هذا الكون تسخيراً: أي لا إرادة له، لا إرادة للجماد ولا للنبات.
1763
ولا للحيوان في أن يفعل الخير لك أو لا تفعل. فلم يحدث أن جاء إنسان لأرض صالحة للزراعة، ووضع فيها بذوراً، فلم تنبت الأرض وقالت له: لن أعطيك، ولم تقل الأرض يوماً عن إنسان: إنه كافر فلن أعطى له الرزق.
إن الأرض مسخرة لخدمة الإنسان ما دام يأخذ بأسبابها؛ فهي تؤدي له. والحيوانات أيضا مسخرة لخدمتك لا باختيارك، ولا بقدرة تسخيرك لها، ولكن بتسخير الله لها أن تفعل.
وقلنا: إن الإنسان قد تكون عنده مطية، مثل بعض الفلاحين، فمرة يجعلها صاحبها تحمل أكوام السباخ من روث الحيوان وفضلاته، وبعد ذلك يلوح له أن يخرجها من عملها هذا ويجعلها ركوبة له، ويدللها بالأشياء التي تعرفونها من لجام جميل وسرج أجمل، ويرفهها في حياتها وينظفها.
هل في الحالة الأولى امتنعت المطية عن حمل السباخ أو امتنعت في الحالة الثانية عن حمل الإنسان؟ لا؛ أنت تسيرها مثلما تريد أنت، فليس لها اختيار. ولا نبات له اختيار، ولا جماد له اختيار، ولا الحيوان أيضاً، إنما الاختيار للإنسان.
وقد حكم الله اختيار الإنسان بمقادير يكون الإنسان مسخراً فيها حتى لا يظن أنه استقل بالسيادة فأصبحت له قدرة ذاتية. والحق يحكم الإنسان بأشياء يجعلها قهرية على الإنسان كي يظل في إطار التسخير. ويترك الحق للإنسان أشياء ليبقى له فيها الاختيار. فإذا ما نظرنا إلى الكون وجدنا أن ما لا اختيار فيه لشيء يسير على أحداث نظام ولا تصادم فيه، والذي فيه اختيار للإنسان هو الذي يختل، لماذا؟.
لأن الإنسان قد يختار على غير منهج الذي خَلَق وهو الله - سبحانه وتعالى - فإذا أردت أن يستقيم لك الأمر أيها المختار فاجعل اختيارك في إطار منهج الله.
وحين تجعل اختيارك في إطار منهج الله تكون قد أصبحت سويًّا كبقيّة الأجناس وتسير الأمور معك بانتظام.
وعندما تقارن بين شيء للإنسان فيه اختيار وعمل، وشيء لا اختيار للإنسان فيه
1764
ولا عمل، فأنت تجد أن الشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه مستقيم الأمر، ولا خلاف فيه أبداً، أما الشيء الذي فيه اختيار للإنسان، فأنت تجد فيه الخلاف.
مثال ذلك: لو نظرنا إلى وسيلة مواصلات من الحيوانات كالجمال أو الخيل أو الحمير، فإننا نجدها تسير في طريق واحد، وتتقابل جيئة وذهابا فلا يحدث تصادم بين حمار وحمار، ولا قتل لراكب أحد الحمارين.
إن الحيوانات يتفادى ويتحامى بعضها بعضاً حتى لو كان الراكب نائماً. ومهما كان الطريق مزدحماً فالحيوانات لا تتصادم؛ لأن ذلك من نطاق تسخير الحق للحيوان.
ولننظر إلى الإنسان حين تدخَّل ليصنع وسيلة مواصلات، صنع الإنسان ألوان السيارات، يقودها الإنسان، ومع أن الإنسان هو الذي يقود السيارات، وبرغم ذلك بدأت تأتي المخالفات والمصادمات والحوادث؛ لأن للإنسان يداً في ذلك.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يدلك على أن ما خلق مسخراً بأمر الله وتوجيهه لا يتأتى منه فساد أبداً، إنما يتأتى الفساد مما لك فيه اختيار، فحاول أن تختار في إطار منهج الله. فعندما يقول الحق لك: «افعل كذا ولا تفعل كذا» فعليك أن تصدق وتطيع؛ لأن الحق سبحانه عندما سخر الأشياء للإنسان سارت بانتظام رائع، وأنت أيها العبد عندما تطيع الله فإن الأمور في حياتك تمشي بيسر.
ولذلك قلنا: إن الناس لم تشتك قط أزمة شمس ولم يشتكوا أزمة هواء، لكن لماذا اشتكوا أزمة طعام؟ إن الإنسان له دخل في إنتاج الطعام. فما للإنسان فيه دخل يجب أن يحكمه قانون التكليف من الله: «افعل كذا ولا تفعل كذا».
الكون مخلوق بحق. ومعنى أنه مخلوق بحق أن كل شيء في الوجود يؤدي مهمته كما أرادها الله، وكما سُخِّر من أجله إذا ما قام الإنسان بتنفيذ التكليف فكل شيء يسير بحق. وإن ترك الإنسان التكليف وأخذ باختياره فإنه يصير إلى باطل ونتج ما هو باطل، والكون مبني على الحق.
1765
﴿مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الدخان: ٣٩] إن الحق جعل للكون قضايا ثابتة، فلا شيء يعتدي على شيء آخر أبداً. واختيار الإنسان هو الذي يأتي بمقابل الحق وهو الباطل، ولذلك يصون الله الكون بأن يبين أن الحق يصطدم بالباطل، والباطل يصطدم بالحق لكن الحق يجيء ويبقى، والباطل يزهق ويزول، ويظهر الله لنا ذلك أمام أعيننا يقول تعالى: ﴿وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً﴾ [الإسراء: ٨١]
إذن فقوله سبحانه: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ يعني: اعتبروا بما سبقكم وانظروا إلى اصطدام الباطل بالحق، أدام وبقى اصطدام الباطل بالحق؟ لا؛ لأن الباطل كان زهوقا.
ولذلك نحن نرى أمثلة عملية لذلك لا أقول في مواكب الناس بعضهم مع بعض، ولكن في موكب الباطل مع حق السماء. وحق السماء يمثله الرسل والمناهج التي جاءت من عند الله وكل حق جاء من السماء وجاء من مناهج الله قابلة قوم مبطلون.
لماذا؟ لأن السماء دائماً لا تتدخل إلا حين يشيع الفساد، وما دام الفساد يشيع فإن هناك طائفة منتفعة بالفساد، وهذه الطائفة المنتفعة بالفساد وبالباطل تدافع عنه وبعد ذلك يأتي موكب السماء ليصادم هذا الباطل والفئة المنتصرة للباطل، فتنشأ معركة، فقال الحق حينئذ: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾. قالها الحق لنعرف أن الباطل زهوق، وأن كل معارك أهل الأرض مع منهج السماء قد انتصر فيها الحق. ولذلك تأتي سورة العنكبوت لتبين لنا ذلك، بداية من قوله سبحانه: ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٦ - ٣٧]
1766
هذه هي الصورة الأولى، وتأتي الصورة الثانية: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٨]
إذن فانظروا إلى مساكنهم الباقية لتدلكم على ما حدث لهم. والصورة الثالثة: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِي الأرض وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٩]
وساعة تسمع ﴿وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ﴾. أي كأن هناك حاجة تلاحقهم، والذي يلاحقه شيء فإنه يحاول أن يسبقه، لكنهم لا يستطيعون. وتأتي السنن واضحة بعد ذلك: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٠]
إذن فصراع الحق والباطل قد تقدم ووقع في أمم قد سبقتكم وبقيت لها مساكن، فمن شاء أن يذهب إليها ليتأكد فليذهب، ولا تزال مدائن صالح، ولا تزال هناك آثار عاد، وكل مكان فيه أثر من الآثار. ولذلك يوضح الحق: فإن كنتم تريدون التأكد من ذلك فأنا قد أخبرت، ومن آمن بي فليصدق خبري، ولغير المؤمن ولمن يريد اطمئنان قلبه يقول سبحانه:
1767
﴿فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾ [النحل: ٣٦]
إن الحق سبحانه وتعالى يمثل صراع الحق - وهو الشيء الثابت - مع الباطل، وهذه القضية موجودة حتى فيما لا اختيار له. ويصنعها الحق فيهم، صراعا بين حق وباطل فيما لا اختيار له لمصلحة الإنسان أيضاً. وقد جعل سبحانه الصراع بين الحق والباطل في أشياء ليست من الإنسان ولكنها تخدم الإنسان، وهذه نراها في الأمور المادية. أما في القيم فالحق يقول: ﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال﴾
[الرعد: ١٧]
إنه سبحانه أنزل من السماء ماء فسال في الأودية، والأودية كما نعرفها هي المكان المنحصر بين جبلين، فإذا نزلت الأمطار على الأعالي فإنها تنحدر إلى الأسفل وتسيل في الأودية. والوديان هي محل الخضب؛ لأن الغرين والطمى الذي ينزل من الجبال مع مياه المطر ويترسب ويصير تراباً خصباً يخرج منه الزرع. وكل وادٍ من الوديان يأخذ على قدر سعته، وباقي المياه يبحث له عن مسلك آخر، ولو إلى باطن الأرض، وذلك كان مظهراً مألوفاً في الجزيرة العربية فعندما يأتي السيل فإن الأودية تمتلئ ماءً، كل وادٍ يأخذ على قدر سعته. ﴿فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً﴾ ونحن نراه في الحقول ونسميه «الريم» الذي يطفو على سطح الماء، ما الذي يحدث لهذا الريم؟ إنه يتجمع ويطفو ثم يركن ويميل جانباً. ألم تر القدْر بها لحم تفور؟. إننا نجد الريم قد طفا على السطح. وهذا الريم فيه أشياء خارجة عن عنصر الشيء الموجود في القدر، فإذا ما جاءت حرارة النار أخرجته على السطح، فإما أن يخرجه الإنسان خارج القدر، وإما أن يتركه فيتجمد على الجوانب وينتهي.
1768
ومن أين جاء هذا الزبد؟ إنه يأتي من الأرض والأرض فيها أشياء كثيرة، كجذور النبات وبقايا ما حمله الهواء وتتخلل هذه الأشياء مسام الأرض، هذه الأشياء عندما توجد في المسام، وتأتي الجذور الصغيرة لتنمو فتعوقها عن أخذ غذائها؛ لذلك فعندما ينزل الحق الماء من السماء فإن الماء يجعل هذه الأشياء تطفو على السطح؛ ليجعل هناك منفذاً للجذور الصغيرة.
وينزل الله المطر ليغسل التربة كلها، ويجعل هذه الأشياء تطفو؛ لأنها غثاء، ويطفو الغثاء. وساعة أن يطفو الغثاء فإياك أن تفهم أن ذلك علو، إنه علو إلى انتهاء، كذلك فورة الباطل.
إياك أنن تظن أن الزَبَد له فائدة، أو أنَّ ارتفاع الريم كان علواً على ما في القدر، لا. إنه تطهيرٌ لما في القدر أو الإناء، ولهذا قال الحق: ﴿فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً﴾.
وإن لم تذهب آثار الريم بحركة الماء التموجية فإنها ستذهب بطريقة أو بأخرى. ولننظر إلى الأشياء القذرة التي تلقي في البحر نجد أنها بعد مدة قد خرجت إلى الشاطئ. ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر: ٣١]
إنها تخرج على الشاطيء ويجمعها المكلفون بتنظيف الشاطئ. وإلا كيف تتم صيانة الماء؟ إنه سبحانه يجعل الماء ينظف نفسه بحركته الذاتية. إذن فالماء عندما ينزل سيلاً، فإنه ينقي التربة من العوائق التي تعوق غذاء الجذيرات الصغيرة، وقد لا يكتفي بعضنا بهذا المثل، فيضرب لنا الله مثلاً آخر: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض﴾
1769

[الرعد: ١٧]

ونحن نرى هذه الحكاية عندما يضعون أي معدن في النار، فإن المعدن ينصهر ويصير كالعجينة وتخرج منه فقاقيع ونحن نسميها خبث المعدن وعندما نخرج الخبث من المعدن فانه يصير قوياً إذن فالنار قد صهرت المعدن، وأخرجت منه الخبث الضار فيه، أو الذي يجعله لا يؤدي مهمته بكفاءة عالية، فأنا قد أصنع من الحديد درعاً قوية أو أريد أن أستخرج منه الصلب، وهذه العمليات معناها أننا نصْهر الحديد بالنار لنزيل خبثه ليزداد قوة. وكذلك الذهب والفضة ساعة نريد أن نخلصهما من هذه الآثار فإننا نصهرهما لنخرج منهما الأشياء الخارجة عنهما أي التي تختلط بهما وتشوبهما وهي ليست منهما.
لماذا إذن يا ربيّ هذا التمثيل الحسي في المياه؟ والحلية التي لا تؤدي ضرورة، والمتاع وهو الذي يؤدي ضرورة؟ إنه سبحانه يقول: ﴿كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل﴾.
إن الحق كالماء، والحق كالنار، والماء يحمل الزبد الرابي بعيداً عن مسام الأرض، والنار تخرج الزبد والخَبث من المعادن، وتجعل المعادن خالصة للمنفعة المطلوبة لنا، كذلك يضرب الله الحق والباطل: ﴿فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً﴾.
وجفاءً أي مطروحاً مرمياً، ﴿وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض﴾. ذلك هو صراع الحق والباطل في المبادئ والقيم ويصوره الله في الأمور المادية. ومن العجيب أنه يصوره بمتناقضين ولكنهما متناقضان ويؤديان مهمة واحدة، ماء ونار، فإياك حين ترى شيئاً يناقض شيئاً أن تقول: هذا يناقض ذاك، لا. لأن هذا الشيء مطلوب لمهمة، وذاك الشيء مطلوب لمهمة أخرى.
إذن فقول الحق سبحانه: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ هو لفت لنا إلى صراع الحق مع الباطل، وأن الإنسان قد يرى الباطل مرة وله فورة وعلو، ونقول: هذا إلى جُفاء. وهذه سنة من سنن الحياة. وإن أردتم أن تتأكدوا منهما، فالتفتوا إلى دقة قول الحق تعالى:
﴿فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾.
1770
وهنا ملحظ عام، وملحظ خاص، الملحظ العام: أننا نفهم أن المقصود بذلك السير على الأرض، وتلك هي حدود رؤيتنا، لكن حين يتكلم الله فرؤية الله أشمل فهو الخالق لهذا الكون، ونحن ما زلنا نجهل جزيئات في هذا الكون، ولم نعرف بعضها إلا أخيراً، وخالق الكون هو الذي يعلم كل الخبايا.
نحن نقول: إننا نسير على الأرض؛ لأننا كنا نفهم أن هذه الأرض ليس عليها إلاّ نحن فقط، ثم تبين لنا - بعد أن أخذ العلم حظه - أنه لولا وجود الهواء في الأرض لما صلحت للحياة. ولذلك فعندما تدور الأرض. فالهواء الذي حولها يدور معها ويسمونه الغلاف الجوي إذن فالغلاف الجوي جزء من الأرض وله امتداد كبير، فالإنسان عندما يسير فإنه يسير في الأرض، أما الذي يسير على الأرض فهو الذي يسير فوق الغلاف الجوي، أما السائر على اليابسة، والغلاف الجوي ما زال فوقه فهو يسير في الأرض لا على الأرض.
وما دامت المسألة هي سنن تقدمت، ويريد الله منا أن نعتبر بالسنن المتقدمة، لذلك يقول لنا: ﴿فَسِيرُواْ فِي الأرض﴾ نسير بماذا؟. إما أن نسير بالانتقال، أو نسير بالأفكار؛ لأن الإنسان قد لا يملك القدرة على السير ويترك هذه المهمة للرحالة، والرحالة - مثلاً - هم الذين ذهبوا إلى جنوب الجزيرة، ورأوا وادي الأحقاف ووجدوا أن عاصفة رمل واحدة تطمر قافلة بتمامها.
إذن ففيه عواصف وارت الكثير من الأشياء، فعاصفة واحدة تطمر قافلة. فكم من العواصف قد هبت على مرّ هذه القرون؟ والحق سبحانه يخبرنا بإرم ذات العماد فيقول: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ [الفجر: ٦ - ١٣].
1771
إنه سبحانه يخبرنا أن إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد أي متفوقة على حضارة مصر القديمة. وهي عجيبة وفيها أكثر من عجيبة فأين هي الآن؟.
وما دامت الرمال بعاصفة واحدة - كما قلنا - تطمر قافلة، فكم عاصفة مرت على هذه البلاد؟. ولذلك نجد أننا لا نزال جميعاً إلى الآن حين نريد أن ننقب عن الآثار فلا بد أن نحفر تحت الأرض. لماذا هذا الحفر وقد كانت هذه الآثار فوق الأرض؟ لقد غطتها العواصف الرملية.
والمثال على ذلك: أنَّك تغيب عن بيتك شهراً واحداً وتعود لتجد من التراب الناعم ما يغطي أرض البيت على الرغم من إغلاق النوافذ. فماذا تجد من حجم التراب لو غبت عن بيتك عاماً، أو عامين، أو ثلاثة أعوام، رغم إحكام وإغلاق النوافذ والفتحات بالمطاط وخلافه؟ ولكن التراب الناعم يتسرب ويغطي الأثاث والأرض. وإذا كانت هذه الأمور تحدث في منازلنا فما بالك بالمنطقة التي فيها أعاصير وعواصف رملية؟ هل تطمر المدن أو لا؟
إن المدن والحضارات تطمر تحت الرمال؛ لذلك فعندما ننقب عن الآثار فنحن نحفر في الأرض، وهذا لون من السير في الأرض للرؤية والعظة. وحين يقول الحق: ﴿فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾ فماذا يعني بعاقبة المكذبين؟ حين تكون أمة قد تحضرت حضارة كبيرة يقول عنها الحق: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد﴾ [الفجر: ٦ - ١٢].
إن الذي أقام هذه الحضارات ألا يستطيع أن يجعل لهذه الحضارة ما يصونها؟ كيف يتم القضاء على هذه الحضارات الواسعة واندثارها وذهابها؟.
1772
لا بد أن ذلك يتم بقوة أعلى منها، فهذه الحضارات رغم تقدمها الرهيب لم تستطع أن تحفظ نفسها من الفناء. إنها القوة الأعلى منها، وهكذا نصدق قوله الحق: ﴿فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾. إنه القّيوم الذي يرى كل الخلق، فمن يطغى ويفسد فليلق النهاية نفسها. إذن فقوله سبحانه يحمل كل الصدق:
﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين﴾
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾
1773
انظر إلى الكلمة ﴿هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾ إن البيانات عندما تتأتى تأخذ قوتها وسطوتها وعظمتها من قوة من أصدر البيان؛ أنت ساعة تجد ثورة في مجتمع ما فإننا نسمع كلمة «بيان رقم واحد» تهتز له الدنيا وهو بيان قادم من بشر فما بالنا بالبيان القادم من الله؟
إنه إيضاح من الله: أنا لن آخذكم على غرة ﴿هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ و «الهدى» : كما نعرف هو الطريق الموصل للغاية المرجوة. و «الموعظة» معناها: حمل النفس ترغيباً وترهيباً، لعمل الخير بالترغيب، والبعد عن الشر بالترهيب، تلك هي الموعظة.
وكل هذه الأشياء عندما جاءت في ثنايا آيات أُحُد بعد أن أخذنا منها العبرة والحدث ما زال ساخناً. لذلك فقبل أن يكمل لنا قصة أُحُد استثار النفوس بهذه المسألة، ووضع لنا الأشياء المادية والقيمية؛ لنأخذ بها في حياتنا، وحتى لا تنتهي قصة أُحُد وينصرف الناس عن العظات التي كانت فيها.
1773
وما دامت المسألة هكذا، وكان المقاتلون في سبيل الله هم جنود الحق، وعرفوا ذلك بتأييد الله لهم ورسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينهم. وهو حامل المعجزة الدالة على صدقه؛ لذلك فالذي حدث في معركة أٌحُد لا يصح أن يضعفكم؛ لأنكم تعرفون كيف يسند الله الحق ويقويه. وتعرفون حملة الله على الباطل. وقد أوضحنا لكم السنن والبيان، ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾
1774
والمقصود بقوله: ﴿وَلاَ تَهِنُوا﴾ أي لا تضعفوا، وهي أمر خاص بالمسألة البدنية؛ لأن الجراحات أنهكت الكثيرين في موقعة أُحُد لدرجة أن بعضهم أقعد، ولدرجة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقدر أن يصعد الجبل، وحمله طلحة بن عبيد الله على ظهره ليقوم، لذلك قال الحق: ﴿وَلاَ تَهِنُوا﴾، لأنك عندما تستحضر أنك مؤمن وأن الله لن يخلي بينك وبين جنود الباطل لأنك نصير للحق، والحق من الله وهو الحق لا يسلم نبيه وقومه لأعدائهم فيوم تأتي لك هذه المعاني إياك أن تضعف. والضعف هو نقصان قوة البدن.
﴿وَلاَ تَحْزَنُوا﴾ والحزن مواجيد قلبية، وهم قد حزنوا فقد مات منهم كثير. مات منهم خمسة وسبعون شهيداً، خمسة من المهاجرين، وسبعون من الأنصار، وهذه عملية صعبة وشاقة، وقد حزن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الشهداء، وغضب لمقتل حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال: «لن أُصاب بمثلك أبداً! وما وقفت موقفا قط أغيظ إلىّ من هذا» ثم قال: «لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم مكانك».
فقال الحق: ﴿وَلاَ تَحْزَنُوا﴾ ؛ لماذا؟ لأنك يجب أن تقارن الحدث بالغاية من الحدث.
1774
صحيح أن القتل صعب وإزهاق للنفس، ولكن انظر إلى أين ذهب. وانظر ماذا خلف من بعده. أما هو فقد ذهب إلى حياة عند ربه وهي ليست كالحياة عندكم. إن الحياة عندنا لها مقاييس، والحياة عند ربنا لها مقاييس، فهل مقاييسنا أعلى من مقاييسه؟ لا، حاشا لله.
إذن فإذا نظرت إليه هو فاعلم أنه ذهب لخير مما ترك، فلا تحزن عليه بل تفرح له؛ لأنه ما دامت الغاية ستصل إلى هذه المسألة. إذن فقد قصر له مسافة الحياة، وما دامت الغاية أن يصل إلى رحمة الله وإلى حياة عند الله بكافة معانيها، فهو سعيد بجوار ربه، ونحن في الغايات الدنيوية عندما نريد أن نذهب إلى مكان نُسرّ ممن يعجل لنا الزمن لنصل إلى هذا المكان.
فبدلاً من أن أذهب إلى الإسكندرية ماشياً أذهب راكباً حصاناً أو أذهب راكباً سيارة، والمترفه يذهب راكباً طائرة، فإذا كانت الغاية مرجوَّة ومحببّة إلى النفس، وبعد ذلك يجيء لك حدث يقرب لك المسافة من الغاية، فلماذا تحزن إذن؟ لقد استشهد. إياك أن تقول: إنّ الله حرمني قوته في نصرة الحق، لا. هو أعطى قوة أخرى لكثير من خلقه نصر بهم الحق، إنك عندما تعرف أن إنساناً باع نفسه لله، لا بد أن تعرف أن الغاية عظيمة؛ ولذلك كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في معركة بدر، يقدم أهله؛ لأنه يعرف أنه إن قُتل واحد منهم إلى أين سيذهب، إذن فهو يحب أهله، لكنه يحبهم الحب الكبير، والناس تحب أهلها هنا أيضاً لكن الحب الدنيوي.
﴿وَلاَ تَحْزَنُوا﴾ على ما فاتكم من الغنائم أو لا تحزنوا على ما فاتكم من النصر لماذا؟ وتأتي الإجابة، ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾.. ولذلك جاء مصداق ذلك حينما نادى أبو سفيان فقال: «اعل هبل» أي أن إلههم صار عالياً، فقال الرسول لأصحابه: ألا تردون عليهم؟، قالوا: بماذا نرد قال: قولوا لهم: الله أعلى وأجلّ فقال أبو سفيان: «لنا العزى ولا عزى لكم»، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أجيبوه» قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا الله مولانا لا مولى لكم» ثم قال أبو سفيان: إن موعدكم «بدر» العام المقبل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
1775
لرجل من أصحابه: «قل نعم هو بيننا وبينك موعد»
ف ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ فما دمتم على الإيمان فأنتم الأعلون، وإذا أردتم أن تعرفوا معنى «الأعوان» حقاً، فقارنوا معركة «أُحُد» بمعركة «بدر»، هم قتلوا منكم في أُحُد، وأنتم قتلتم منهم في بدر. ولكنكم أسرتم منهم في بدر، ولم يأسروا منكم أحداً في «أُحُد». وأنتم غنمتم في بدر، ولم يغنموا شيئاً في أُحُد.
وأنتم الأعلون لأن الله حمى مدينتكم مع أنه لا محامية فيها ممن يكون فيه معنى الجندية. كل ذلك وأنتم الأعلون، هذا إذا نظرنا إلى معركة بمعركة. وإن نظرنا إلى المعركة نفسها «أُحُد» وندع بدراً وحدها، في ظل قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ لقد ثبتت تلك القضية لأنكم حينما كنتم مؤمنين - ومن شرط الإيمان اتباع أمر الذي لا ينطق عن الهوى - انتصرتم. وانتصرتم انتصاراً رائعا؛ لأنكم قتلتم في أول جولة للحرب بضعاً وعشرين من صناديدهم وفيهم صاحب الراية. ولكنكم حينما خالفتم أمرالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، تلخلخ الإيمان في قلوبكم.
إذن فالعملية التي حدثت تؤكد صدق ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾. فأنتم علوتم في أول الأمر، وعندما خالفتم الأمر صار لكم ما صار؛ فقد صدقت القضية في قول الله: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾.
وأيضا فإنكم لو نظرتم إلى المعركة نفسها لوجدتم أن عدوّكم لم يبق في أرض المعركة، بل أنتم الذين بقيتم في موضع المعركة. وأين ذهب هو؟ أذهب إلى موقع آخر ينال فيه غلبة ونصرا؟ لم يكن هناك إلا المدينة، والمدينة ليس فيها أحد، ولم يذهب عدوكم إلى هناك، وإنما ذهب ناحية مكة، إذن فهو الذي هرب.
وبعد ذلك ماذا حدث؟ ألم يؤذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الناس ويطلب العدوّ مرهباً له ليظنوا به القوة، وإن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم؟
1776
ولقد خرج رسول الله، مع من؟ أجاء بحامية لم تشهد المعركة؟ لا.
بل قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مناديا المسلمين: «إليّ عباد الله»، فالذين شهدوا المعركة سبعمائة، جرح منهم الكثير وقتل منهم خمسة وسبعون، فمنهم حمزة، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان، وسعد مولى عتبة، هؤلاء خمسة من المهاجرين، والباقي من الأنصار هؤلاء مطروحون من العدد الذي شاهد أول الموقعة، حتى أن رسول الله لم يأخذ بدلاً منهم من المدينة من القوم الذين عرضوا أنفسهم ليكونوا مع الجيش الذي يطارد قريشاً، بل آثر الرسول أن يذهب بمن ذهب معه إلى المعركة أنفسهم، ولم يكن منهم بطبيعة الحال الشهداء أو الجرحى.
لم يقبل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ممن لم يشهد المعركة إلا واحداً. وهو سيدنا جابر بن عبد الله. الذي لم يخرج في معركة أُحُد واعتذر إلى رسول الله بأن أباه عبد الله بن عمرو بن حرام قد خلّفه على بنات له سبع وقال له:
يا بنيّ إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رَجَل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على نفسي فتخلّفْ على أخواتك فتخلف عليهن فقبل رسول الله عذره وأذن له فخرج معه وطاردهم رسول الله ومن معه إلى حمراء الأسد، أما والده عبد الله بن عمرو فقد استشهد في أحُد ومع ذلك فقد طلب من رسول الله على الرغم من استشهاد أبيه أن يخرج إلى حمراء الأسد. وذلك لنعلم أن الله يقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر: ٣١]
هذا وإن واحداً من المشركين الذين كانوا موضع سر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن حلفائه وهو معبد الخزاعي، مَرَّ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أُحد وقال له: يا محمد: أما والله لقد عز علينا ما أصابك، ثم لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
1777
وأصحابه فقال له أبو سفيان: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله، ولم يزل بهم حتى ثنى أبا سفيان ومن معه فولوا وجوههم إلى مكة خائفين مسرعين، وقد ذهب رسول الله إلى حمراء الأسد فلم يجد أحداً فعسكر رسول الله ثلاثة أيام هناك، ومعنى ذلك أنهم هم الذين فروا من المعركة. إذن فأنتم الأعلون، ولكن لا حظوا الشرط ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾. ثم بعد ذلك يُسَلّى الله المؤمنين فيقول: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس... ﴾
1778
وقد تكلمنا - من قبل - عن «المس» وهو: إصابة بدون حس.. أي لمس لكنك لا تحس بحرارة أو نعومة مثلا، إنما «اللمس» هو أن تحس في الشيء حرارة أو نعومة ويحتاج إلى الالتصاق المؤقت، إنما «المس» هو ما لا تكاد تدرك به شيئاً، «والقَرْح» هو: الجراح، وفي لغة أخرى تقول «القُرح» - بضم القاف - وأقول: القٌرح وهو الألم الناشئ من الجراح، كي يكون لفظ معنى.
وأنت قد ترى بعض الألفاظ فتظن أن معناها واحد في الجملة، إلا أن لكل معنى منها ملحظاً، أنت تسمع مثلاً: رأى، ونظر، ولمح، ورمق، ورنا. كل هذه تدل على البصر. لكن لكل لفظ له معنى:
رمق: رأى بمؤخر عينيه، ولمح: أي شاهد من بعد، ورنا: نظر بإطالة، وهكذا.
1778
ويقال أيضاً: جلس، وقعد، فالمعنى العام يكاد يكون واحداً، لكن المعنى الدقيق يوضح أن الجلوس يكون عن اضطجاع. والقعود عن قيام، كان قائماً فقعد، والاثنان ينتهيان إلى وضع واحد، فكذلك «قَرح» و «قُرح» كل لفظ له معنى دقيق.
ويقولون - مثلاً -: إن للأسد أسماء كثيرة، فقال: «الأسد» و «الغضنفر» و «الرئبال» و «الوَرْد» و «القسْورة». وصحيح هذه أسماء للأسد، ولكن لكل اسم معنى محدد، ف «الأسد» هو اللفظ العام والعَلَم على هذا الحيوان، و «الغضنفر» هو الأسد عندما ينفش لبدته، و «الوَرْد» هو حالة الأسد عندما يكون قد مط صلبه، فكل موقف للأسد له معنى خاص به.
وقوله الحق: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ لا حظ أن المتكلم هو الله فافطن جيداً إلى مرارات كلامه. ونعرف أنه في الشرط والجواب، أن الشرط يأتي أولا ثم يأتي الجواب من بعد ذلك مترتبا عليه ونتيجه له، كقولنا «إن تذاكر تنجح» إن النجاح هو جواب لشرط وهو الاستذكار.
وقوله الحق: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ فهل المعنى المراد من هذه الجملة الشرطية أن مس القرح للكافرين الذي حدث في بدر كان كجزاء لمس القرح للمؤمنين في أحد؟ لا، إنه لا يكون أبداً جواباً لشرط؛ لأنه لو كان جواب شرط لقال الحق: إن يمسسكم قرح فسيمس القوم قرح مثله. ولكنه لم يقل ذلك لأن القرح الذي أصاب المشركين في بدر كان أسبق من القرح الذي أصاب المؤمنين في أحد.
وكأن الحق يقول: إن يمسسكم قرح فلا تبتئسوا؛ فقد مس القوم قرح مثله، وليس ذلك جواب الشرط، ولكنه جاء ليُستدل به على جواب الشرط، أي أنه تعليل لجواب الشرط، أقول ذلك حتى لا يتدخل دعيّ من الأدعياء ويتهم القرآن - والعياذ بالله - بما ليس فيه.
إنه - سبحانه - يثبت المؤمنين ويسلّيهم. ومثال ذلك ما نقوله نحن لواحد إذا أصابته كارثة:
1779
إن كان قد حدث لك كذا، فقد حدث لخصمك مثله. إذن فنحن نسليه. والمقصود هنا أن الحق يسلّي المؤمنين: إن يمسسكم قرح فلا تبتئسوا، فليكن عندكم سُلّوٌ ولْتجتازوا هذا الأمر ولترض به نفوسكم؛ لأن القوم قد مسهم قرح مثله.
والأسوة والتسلية، هل تأتي بما وقع بالفعل أم بما سيقع؟. إنها تأتي بما وقع بالفعل، إذن فهي تعلل تعليلاً صحيحاً: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾.
وأطلق الحق سبحانه من بعد ذلك قضية عامة: ﴿وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس﴾. ما معنى المداولة؟ داول أي نقل الشيء من واحد لآخر. ونحن هنا أمام موقعتين؛ غزوة بدر وغزوة أُحٌد. وكان النصر للمسلمين في غزوة بدر بالإجماع، أما غزوة أُحٌد فلم يكن فيها هزيمة بالإجماع ولم يكن فيها نصر.
إذن فقوله الحق: ﴿وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس﴾ أي مع التسليم جدلاً بأن الكفار قد انتصروا - رغم أن هذا لم يحدث - فإننا نقلنا النصر منكم أيها المؤمنون إليهم.
وإياك أن تفوتك هذه الملاحظة، بأن النصر لم ينتقل إليهم إلا بمخالفة منكم أيها المؤمنون. ومعنى مخالفة منكم، أي أنكم طرحتم المنهج، أي أنكم أصبحتم مجرد «ناس» مثلهم.
وما دمتم قد صرتم مجرد ناس بدون منهج مثلهم ومتساوين معهم، فإن النصر لكم يوم، ولهم يوم. ولنلحظ ان الحق لم يقل: إن المداولة بين الناس هي مداولة بين مؤمنين وكافرين.
فإن ظللتم مؤمنين فلا يمكن أن ينتقل النصر إلى الكفار، إنما النصر يكون لكم، انظر ماذا قال: ﴿وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس﴾ ولم يقل بين المؤمنين والكافرين، أي بينكم وبين قريش.
1780
وليس المقصود بالأيام ما هو معروف لدى الناس من أوقات تضم الليل والنهار، ولكن المقصود ب «الأيام» هنا هو أوقات النصر أو أوقات الغلبة. ويقال أيضاً: «يوم فلان على فلان» إذن ﴿وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس﴾ لم تتضمن المداولة بين المؤمنين والكافرين، ولكنها مداولة بين الذين مالت أبصارهم إلى الغنائم فتخلخل إيمانهم، ففازت قريش ظاهرياً. فلو ظللتم على إيمانكم لما حدث ذلك أبداً. لكنكم تخليتم عن منهج ربكم، وبذلك استويتم وتساويتم مع غير المؤمنين، وبذلك تكون الأيام لذلك مرة ولهذا مرة أخرى، إنها مطلق عدالة.
علينا أن نتذكر الشرط السابق، لا لعدم الهزيمة. بل للعلو والنصر:
﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾.
إن الحق سبحانه في مسألة مداولة الأيام ينبه المؤمنين الذين تخلخل إيمانهم: ما دمتم اشتركتم معهم في كونكم مجرد «أناس» فيصبح النصر يوماً لهم ويوماً لكم، والذكي العبقريّ الفطن الذي يحسن التصرف هو من يغلب؛ لأن المعركة هنا تدور بين قوة بشر مقابل قوة البشر.
ما دام المسلمون قد تخلوا عن منهج الله فقد صاروا مجرد بشر في مواجهة بشر. ولذلك قلنا: إنه عندما تخلى الرماة عن إنفاذ أمر القائد الأعلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ظهرت عبقرية خالد بن الوليد على عبقرية المقاتلين المسلمين.
ويجب أن نلحظ في قوله الحق: ﴿وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس﴾ أننا لا يمكن أن نقول: إن مداولة الأيام تكون بين المؤمنين والكافرين، إنما هي بين الناس؛ لأن الناس هم مجموعة الإنسان، فإن تجردوا عن منهج السماء فهم سواسية، وصاحب الحيلة يغلب، أو صاحب القوة يغلب، أو صاحب العدد أو العُدّة يغلب.
ولكن ما الذي يعوض كل تلك الإمكانات ويحقق النصر؟ إنك إن تأخذ الله في جانبك فلن يجرؤ مخلوق أن يكون في مواجهة الحق في معركة. لقد قلنا قديماً وعلينا أن نعيها جيداً: إن الولد الصغير حينما يضطهده زملاؤه فيلجأ إلى حِضن أبيه، عندئذ ينصرف كل منهم إلى حاله، لكن أقرانه يستطيعون أن يهزموه عندما يبتعد
1781
عن أبيه. فما بالنا ونحن عيال الله؟ وكذلك شأن الكفار مع المؤمنين.
إن الكفار قادرون على الانفراد بالمؤمنين حينما يتخلى المؤمنون عن منهج الله؛ لأن الله لن ينصر أناساً ليسوا على منهجه، فلو نصر الله أناساً على غير منهجه فإن ذلك يبطل قضية الإيمان. وعندما نستقرئ القرآن الكريم؛ نجد أن كل خبر عن الإنسان وهو معزول عن المنهج الإلهي هو خبر كله شر.
فسبحانه يقول: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ﴾ [العصر: ١ - ٢]
إن الإنسان على اطلاقه لفي خسر، ولكن من الذي ينجو من الخسران؟ وتأتي الإجابة من الحق فيقول: ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ [العصر: ٣]
وتتأكد القضية في موضع آخر من القرآن الكريم فيقول - سبحانه - ﴿إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِلاَّ المصلين﴾ [المعارج: ١٩ - ٢٢]
إذن كل كلام - في القرآن - عن الإنسان على إطلاقه يأتي من ناحية الشر. وما الذي ينجيه من ذلك؟ إنه المنهج الإلهي.
إذن فقول الحق: ﴿وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس﴾ تحمل تأنيبا ولذعة خفيفة لمن أعلنوا الإيمان ولكنهم تخلفوا عن أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أُحُد.
1782
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾.
ففي وقت النصر نجد حتى الذي لم يشترك في المعركة يريد أن يُدخل نفسه ضِمن المنتصرين.
لكن وقت الهزيمة فالحق يَظهر، والذي يظل في جانب الهزيمة معترفا بأنه شارك في نزولها بالمسلمين وان لم يكن شارك فقد عذر أو لام من كان سببا فيها، وهو مع ذلك يسهم في حمل أوزارها وآثارها الضارة، ويتحمل ويشارك في المسئولية، إنه بذلك يكون صادقا.
وقد يقول قائل: هل الله لا يعلم الذين آمنوا؟ لا، إنه سبحانه وتعالى يعلم الذين آمنوا سواء حدثت معركة أو لم تحدث. لكن علم الله الأزلي الغيبيّ لا نرى نحن به الحُجَّة، ولذلك لا تكون الحجَّة ظاهرة بيننا، ولكن حين يبرزُ علم الله إلى الوجود أمامنا فإنه علم تقوم به الحُجة واضحة على من آمن، وعلى من لم يحسن الإيمان، وذلك حتى لا يدِّعي أحد لنفسه أنه كان سيفعل، لكن الفرصة لم تواته.
وهكذا تأتي المواقف الاختبارية والابتلاءات ليعلم كل منا نفسه وتبرز الحُجة علينا جميعا. إذن: فهناك فرق بين علم الله الأزليّ للأشياء كما سوف تحدث، ولكن لا تقوم به الحُجّة علينا. فقد يدعى البعض أنه لو قامت معركة شديدة فإنهم سوف يصمدون، ولكن عندما تقوم المعركة بالفعل فنحن نرى مَنْ الصّامد ومَنْ هو غير ذلك من المتخاذلين الفارين؟ ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى: نحن في حياتنا العادية نجد أن عميد إحدى الكليات يأتي إلى المدرس ويقول له: نحن نريد أن نعقد امتحانا لنتعرف على المتفوقين من الطلاب، ونمنح كُلا منهم جائزة.
فيرد المدرس: لماذا الامتحان؟ إنني أستطيع أن أقول لك: من هم المتفوقون، وأن أرتبهم لك من الأول ومن الثاني وهكذا.
لكن عميد الكلية يصر على أن يعقد امتحانا حتى لا يكون لأحد حجة، ويختار العميد مدرساً آخر ليضع هذا الامتحان. وتظهر النتيجة ويكون توقع المدرس الأول
1783
هو الصائب، وهكذا يكون تفُوق هؤلاء الطلاب تفوقا بحُجة. وإذا كان ذلك يحدث في المستوى البشري فما بالنا بعلم الله الأزلي المطلق؟
إن الحق بعلمه الأزلي يعلم كل شيء ومُحيط بكل شيء، وهو سبحانه لا يقول لنا: أنا كنت أعلم أنكم لو دخلتم معركة ستفعلون كذا وكذا..
وكان يمكن أن يجادلوا ويدعوا لأنفسهم أشياء ليست فيهم، لكن الحق يضع المعركة وتكون النتيجة مطابقة لما يعلمه الله أزلا. إذن فالتغيير هنا لا يكون في علم الله، لكن التغيير يكون في المعلوم لله، ليس في العالِم بل في المعلوم بحيث نراه حُجة علينا.
ويقول الحق: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ﴾ وساعة تسمع كلمة «يتخذ» هذه؛ اعرف أنها اصطفاء واختيار. وسبحانه يقول: ﴿واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ [النساء: ١٢٥]
أي أنه جل وعلى قد آثر إبراهيم واصطفاه، إذن فالاتخاذ دائما هو أن يَأخذه إلى جانبه لمزية له ورفعة لمكانته.
وحين يقول الحق: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ﴾ فنحن نعرف أن «شهداء» هي جمع شهيد، وكلمة شهيد لها معانٍ متعددة، فالشهيد في القتال هو الذي يُقتل في المعركة، وهذا سيكون حيا ويرزق عند ربه.
وإياك أن تقول: إننا عندما نفتح قبر الشهيد سنجده عظاما وترابا. وهذا يعني أنه سلب الحياة.. لا، إن الله وضح أن الشهيد حيّ عنده، وليس حيا عند البشر. وإذا فتح أحد من الناس القبر على الشهيد فسيراه عظاما وترابا؛ فقد جعل الله سبحانه للشهيد حياة عنده لا عندنا. ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩]
1784
إذن فللشهداء عند ربهم حياة لا نعرف كنهها، ويوم نفتح عليهم قبورهم تصير أمرا مُحسا، ولكن الله نبهنا أن الشهداء أحياء عند ربهم. وعندما نتأمل كلمة «شهداء» نجد أنها تعني أيضا الشهادة على الحق الذي قامت من أجله المعركة، وكل إنسان يُحب الخير لنفسه، فلو لم يعلم هؤلاء أن إقدامهم على ما يؤدي إلى قتلهم خير لهم من بقائهم على حياتهم لما فعلوا.
وبذلك يكون الواحد منهم شاهدا للدعوة وشهيدا عليها. وقد ينصرف المعنى في «شهداء» إلى أنهم بَلَّغوا الدعوة حتى انتهت دماؤهم ويذيل الحق الآية بقوله: ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾.
ومعنى هذا التذييل أن المعركة يجب أن تدور في إطار الحق، ومثلما قلنا: ما دام الناس متخلفين عن المنهج فإن الله لا يظلمهم بل ستدور المعركة صراع بشر لبشر، والقادر من الطرفين هو الذي يغلب. فالحق سبحانه بالرغم من كراهيته للكفر إلا انه لا يُحابي المسلم الذي لا يتمسك بمطلوب الإيمان؛ لذلك قد يغلب الكافر المسلم الذي لا يمسك بمطلوب الإيمان، ولكن إن تمسك المؤمنون بمطلوب الإيمان فالنصر مضمون لهم بأمر الله. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ... ﴾
1785
والتمحيص يختلف عن المحْق، لأن التمحيص هو تطهير الأشياء وتخليصها من العناصر الضارة، أما المحق فهو الذهاب بها كلها. ويقول الحق بعد ذلك: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله... ﴾
إن الإيمان ليس مجرد كلمة تقال هكذا، بل لا بد من تجربة تثبت أنكم فُتِنْتُم ونجحتم في الفتنة، والفتنة هي الامتحان إذن فلا تحسبوا أن المسألة سوف تمر بسهولة ويكتفي منكم أن تقولوا نحن نحمل دعوة الحق، لا. إذا كنتم صادقين في قولكم يلزمكم أن تكونوا أسوة حين يكون الحق ضعيفا؛ فالحق حين يكون قويا فهو لا يحتاج إلى أسوة. بل قضية الإيمان الحق تحتاج إلى الأسوة وقت الضعف. ودخول الحنة له اختبار يجب أن يجتازه المؤمن.
والحق يقول: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين﴾ وعندما نسمع ذلك فعلينا أن نعرف أن الله يعلم علما أزليا من المجاهد ومن الصابر، ولكنه علم لا تقوم به الحُجة على الغير، فإذا حدث له واقع صار حُجة على الغير. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾
وكان القوم الذي فاتهم شرف الاشتراك في بدر قد أرادوا ان يذهبوا مع الرسول للمشاركة في غزوة أُحُد، ويوضح لهم الحق: أكنتم تظنون أن تمنى المعارك وحده يحقق النصر، وهل كنتم تظنون أن كل معركة يدخلها المؤمنون لا بد أن تكون منتصرة؟ وإن كنتم تظنون أن المسألة هي نصر لمجرد التمني، فمعنى ذلك أنكم دخلتم إلى معسكر الإيمان من أجل الفأل واليُمن والنصر، ونحن نريد ان نعرف من الذي يدخل معسكر الإيمان وهو بائع روحه وهو مُحتسب حياته في سبيل الله.
فلو أن الأمر يمر رخاء، لدخل كل واحد إلى معسكر الإيمان، لذلك يقول الحق: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين﴾. فهل ظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون أن يُخرج الحق على الملأ ما علمه
1786
غيبا، وتترجمه الأحداث التي يجريها سبحانه فيصير واقعا وحُجة عليكم، ويبرز الله سبحانه من الذين جاهدوا؛ أي دخلوا في زُمرة الحق، والذين صبروا على الأذى في الحق.
ويقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ أي إن ما كنتم تتمنونه قديما صار أمامكم، فلو أن التمني كان صحيحا لأقبلتم على الموت كما تقبلون على الحياة. ويقول سبحانه من بعد ذلك: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل... ﴾
1787
ونحن نعرف ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اسمه الأول هو «محمد»، وله اسم ثانٍ عرفناه من القرآن وجاء في الإنجيل هو «أحمد» :﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [الصف: ٦]
وقد ورد اسمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مُحمد» في القرآن أربع مرات، و «أحمد» وردت مرة واحدة.
1787
والآية التي نحن بصددها، وهي آية ذكر فيها اسم محمد: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾. ولنقرأ قول الحق: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ [الأحزاب: ٤٠]
وقوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ [محمد: ٢]
وها هو ذا القول الكريم: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً﴾ [الفتح: ٢٩]
والاسم هو ما وُضع عَلَماً على المسَمَّى؛ بحيث إذا ذُكر الاسم جاء إلى الذهن المسمى، فإذا اشترك اثنان في بيئة واحدة في اسم؛ فلا بد من التمييز بينهما بوصف. فإذا كان في أسرة واحدة ولدان اسم كل واحد منهما مُحمد، فلا بد أن نميز بين الاثنين بصفة، وفي الريف نجد من يسمى «مُحمداً الكبير» و «مُحمداً الصغير».
وكلمة «مُحمد» وكلمة «أحمد» مشتركتان في أصل المادة؛ لأنهما من «الحاء والميم والدال» فالمادة هي الحمد، إلا أن التوجيه الاشتقاقي في محمد غير التوجيه في أحمد، لأن الاسم قبل أن يكون علماً إذا خرجت به عن معناه الأصلي، انحل عن معناه الأصلي، وصار علما على الشخص.
1788
ولذلك قد نجد رجلا له جارية سوداء فيسميها «قمرا» وقد يكون للرجل عبد شقي فيسميه: «سعيدا». فإذا صار الاسم علما على شيء فإنه ينتقل من معناه الأصلي ويصير عَلَماً على المسمَّى، لكن الناس حين تُسمى أبناءها تلمح التفاؤل في أن يصير المعنى الأصلي واقعا.
والدميمة التي يسميها صاحبها «قمرا» افتقدت جمال المسمى، ولذلك فهو يريد لها أن تأخذ جمال الاسم.. وكلمة «مُحمد» حين ننظر إليها في الاشتقاق نجد انها ذاتٌ يقع عليها الحَمْد من غيرها، مثلما تقول: فلان مكرَّم أي وقع التكريم من الغير عليه.
وكلمة «أحمد» نجدها ذاتا وقع عليها الحمد لغيرها.
وعندما نقول: مُكرِّم - بضم الميم وفتح الكاف مع تشديد الراء مكسورة - أي وقع التكريم منه لغيره. ونحن عندنا اسمان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، في القرآن وكلاهما من مادة «الحمد» ف «محمد» ملحوظ فيه أن الحمد وقع عليه كثيرا من غيره. لكن لو كان المراد أن الحمد وقع عليه دون الكثرة فيه لكان اسم «محمود» هو الذي يطلق عليه فقط.
أما «أحمد» فقد قلنا إنه ملحوظ فيها أن الحمد وقع منه لغيره. و «أحمد» تتطابق مع أفعل التفضيل فنحن نقول: «فلان كريم وفلان أكرم من فلان». إذن ف «أحمد» أي وقع منه الحمد لغيره كثيرا، فلو كان الحمد قد وقع منه بقدر محدود لقلنا «حامد». إذن ف «أحمد» مبالغة في «حامد» وقع منه الحمد لغيره كثيراً فصار أحمد. و «محمد» مبالغة في «محمود»، وقع عليه الحمد من غيره كثيرا فصار محمداً.
إذن فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جمع له الله بين الأمرين؛ فهو محمد من الله وحامد لله؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جمع الله له بين مقامين: مقام الاصطفاء ومقام المجاهدة، فبالاصطفاء كان «محمدا» و «محمود»، وبالمجاهدة كان «حامدا» و «أحمد». إذن نحن هنا أمام مقامين اثنين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
1789
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنا محمد وأحمد والمقفى والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة».
وسيكون لذلك كلام ونحن نتناول هنا بالخواطر معركة أحُد، فبعد أن انحل القوم من الرماة عن أمره، وحدثت الكرَّة عليهم من المشركين القرسيين، بعد ذلك يتجه الصحابة هنا وهناك ليفروا، ويتكتل المشركون على رسول الله لدرجة أن ابن قمئة يمسك حجرا ويضرب به حضرة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فيكسر رَبَاعِيَّته. وتنغرز في وجنتي الرسول حلقتا المغفر، ويسيل منه الدم، ويحاول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصعد على صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها. وكلها مجاهدات بشرية.
أما كان الله بقادر أن يُجنِّب رسوله كل ذلك؟ إنه سبحانه قادر. ولكن كل ذلك كان تكريما من الله، ولم يرد سبحانه أن يحرم رسوله من لذة المجاهدة، وحتى يعرِّف الله المؤمنين بمحمد نقول: إن الله لم يأت بمحمد ليدلله على خلقه، ولكن ليدُلَّ كُلَّ مؤمن على أن رسول الله حينما حدث له ما حدث قد ذاق المجاهدة؛ فقد فر بعض المقاتلين من المعركة في أحد، وكادت ريح الهزيمة تهب على معسكر الإيمان، ها هو ذا سيدنا أبو عبيدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يذهب إلى رسول الله فيجد حلقتي المغفر في وجنتيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيحاول سيدنا أبو بكر أن يخلع حلقتي المغفر، فيتألم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيقول سيدنا أبو عبيدة:
- إليك يا أبا بكر.
بالله دعني.
ويمسك أبو عبيدة بإحدى الحلقتين وينزعها من وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسقطت ثنيته، ثم نزع الحلقة الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى فكان أبو عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ساقط الثنيتين، وقال فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح». وينزف دمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وسيدتنا فاطمة يلهمها الله أن تأتي بقطعة من حصير وتحرقها، وتأخذ
1790
التراب الباقي من الحريق وتضمد به الجرح. إن الله لم يشأ أن يحرم رسوله لذة المجاهدة.
ويأتي أنس بن النضر ويجد الصحابة وفيهم عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وقد ألقوا ما بأيديهم، فيسألهم أنس: ما يجلسكم؟ فيقولون: قُتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيقول: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم استقبل القوم من المشركين فقاتل حتى قتِل.
هذه كلها مواقف لم تكن تأتي وتظهر إلا بهذه المعركة. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ﴾ أي اسمعوا. هذا محمد وهذه منزلته، هو رسول من الله جاء بعد عيسى بن مريم، وكان من الواجب أن نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مؤكد على بشريته. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ﴾.
وهل انقلب أتباع الرسل السابقين على أعقابهم حينما ماتت رسلهم؟ فكيف تكونون أقل شأنا من هذه الأمم؟ هبوا أن ذلك قد حدث، فلماذا لا يبقى الخير الذي بلغه فيكم رسول الله إلى يوم القيامة؟ الرجل الذي يكون قد صنع خيرا يموت بموته، أيكون قد صنع شيئا؟ لا؛ فالذي يريد أن يصنع خيرا فعليه أن يصنع خيرا يخلفه.
لذلك فالزعامات الفاشلة هي التي يكون الفرد فيها زعيما، ثم يموت ونبحث عن زعيم بعده فلا نجد ونتساءل: لماذا خنق الزعيم أصحابه وزملاءه؟ أكان خائفا منهم؟ ونظل نتمنى أن يكون قد ربَّى الزعيم أناسا، فإذا ما ذهب نجد من يخلفه، فلا يوجد إنسان يضمن حياته؛ لذلك يقول الحق: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾.
وساعة تسمع القول الكريم: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ﴾ فهذا أسلوب اسمه أسلوب
1791
القصر. إنه سبحانه وتعالى يقصر محمدا على الرسالة. فإذا قصر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الرسالة فهذا يعني أن بعض المعاصرين له كانوا يعتقدون أن محمدا أكبر من رسول ولا يموت.
فأوضح الله سبحانه أن محمدا رسول، وقد خلت من قبله الرسل، ولن يخلد الله أحدا.
وهل غاب ذلك عن الذهن؟ نعم كان ذلك يغيب عن الذهن بدليل أنه حتى بعد أن نزلت هذه الآية وصارت قرآنا يُتلى، نجد أن سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكانت له فطرة صافية توافق وحي الله، إنه محدَّث مُلْهَم.
ها هو ذا عمر بن الخطاب حينما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وانتقل إلى رحاب الله يقول: والله ما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم. قال عمر بن الخطاب ذلك من هول الفاجعة ونسي الآية فيأتي سيدنا أبو بكر فيقول: من كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لم يمت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، وتلا قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين﴾. فقال عمر بن الخطاب: «فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ».
ثم إن عمر بعد أن بايع المسلمون أبا بكر بالخلافة قال: أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة، وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله، ولا في عهد عهده إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يَدْبُرنا فاختار الله عَزَّ وَجَلَّ لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا كما هَدِيَ له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهذه تعطينا أمرين اثنين:
الأمر الأول: هو عِشق الصحابة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
1792
والأمر الثاني: هو حاجة إيمان؛ فالعشق لا يستقيم ولا يصح أن يخرجنا عن طور التصور الإيماني؛ فعمر بن الخطاب قال: عندما سمعت أبا بكر يتلو هذه الآية عرفت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت على الأرض.
إذن فقوله سبحانه: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾ يعني لا ترتفعوا به أنتم أيها المؤمنون برسالته فوق ما رفعته أنا.
ومعنى ﴿يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ﴾ أي يَرجع. فهل هذا الرجوع رجوع عن المعركة؟ أو رجوع عن أصل التشريع وأصل الديانة وأصل الرسالة التي جاء بها محمد؟ إن هذا يصح، وذلك يصح. وقوله الحق: ﴿أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ قول واضح، وسبق أن تعرضنا إلى الموت وإلى القتل، وقلنا: إن الموت والقتل مؤداهما واحد، وهو الذهاب بالحياة، إلا أن الذهاب بالحياة مرة يكون بنقض البنية التي لا تسكن الروح فيها إلاّ بمواصفاتها، فإن نقضت البنية ولم تجد الروح المسكن الملائم لها تتركه، لكن الموت على إطلاقه: هو أن تذهب الحياة بدون نقض البنية، فالإنسان يذهب حتف أنفه، أي نجده قد مات وحده.
إذن فنقض البنية يؤدي إلى ذهاب الحياة بالقتل؛ لأن الروح لا تسكن في مادة إلا بمواصفات خاصة، فإذا انتهت هذه المواصفات ذهبت الروح. لكن عندما تذهب الروح بمفردها بدون نقض للبنية فهذا هو الموت لا القتل.
والله سبحانه يقول: ﴿أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ ذلك أنهم أشاعوا أن النبي قد قتل. وكيف يجوز ذلك على الصحابة والله قد قال: ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ [المائدة: ٦٧]
وهنا نقول: هل أنت علمت أن هذه الآية قد نزلت قبل أُحد أو بعدها؟ وهل أنت حسن الظن بأن كل صحابي يكون مستحضرا لكل آيات القرآن في
1793
بؤرة شعوره؟ ألا ترى أنهم عندما سمعوا خبر قتله هربوا، وإذا كان سيدنا عمر قد نسي هذه الآية: ﴿أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ كما أنه يحتمل أن يكون المراد من عصمة الله رسوله من الناس أنه - سبحانه - يحفظه من فتنة الناس وإذلالهم.
هكذا أراد الله أن تمثل لنا معركة أُحد كل الطوائف والأصناف التي تُنسب إلى الإيمان تمثيلا يتضح في موقف ابن أُبيّ حيث انخذل وانقطع عن رسول الله بثلث القوم، ومرحلة أقل منها، تتمثل في طائفتين هَمَّتا، ثم شاء الله أن يربط على قلوبهما فيظلا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولما نشبت المعركة كان للرماة موقف في المعركة الأُحدية.
فحين رأوا النصر أولا ورأوا الغنائم سال لعاب بعضهم على الغنائم، فحصل انشقاق فيهم، فعبد الله بن جبير وهو رئيس الرماة ومعه من القلة يُصر على تنفيذ أمر رسول الله فيقاتل حتى استشهد، واستشهدوا وهؤلاء هم الذين أرادوا الآخرة. بينما كان هناك قوم آخرون أرادوا الغنائم، وحيما أشيع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قُتل فرت البقية الباقية من الرماة وغيرهم من المعركة، ورسول الله ينادي القوم: «إليَّ عباد الله إليّ عباد الله».
كل هذه مصاف إيمانية تمثل لنا كيف يُصفى الله مواقف المنسوبين إليه. وتظهر وتوضح موقف كل واحد، وأنه مفضوح إيمانيا إن وقف موقفا يخالف منهج الله. كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في هذا الوقت - في موقف الإنهاك لقوته البشرية لدرجة أننا قلنا: إنه أراد أن يصعد فلم تَقو مادته البشرية، فطأطأ طلحة ظهره ليصعد النبي عليه، وهو في هذه المرحلة من الإنهاك المادي البشري يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعطيه من القوة في هذا الضعف وفي هذا الإنهاك ما يقف به أمام جبار من جبابرة قريش.
كان هذا الجبار يتهدده.
ولو أن الموقف كان موقف قوة لرسول الله أكان من المعقول أن ينتصر رسول الله على جبار قريش؟
1794
ولكن الله يريد أن يُرينا تأييد الله لرسوله، في موقف إنهاكه وكيف يقف من جبار قريش هذا الموقف، هذا الجبار هو «أبي بن خلف الجمحي» وكانت عنده رَمَكة فيقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذه الرمكة أنا أعلفها كل يوم فَرَقاً من ذرة لأقتلك عليها. فيقول له رسول الله قولة الواثق من أن ربه لن يخذله: «بل أنا أقتلك إن شاء الله».
لم يلتق هذا الرجل مع رسول الله وهو في قوته، ولكنه جاء لرسول الله وهو في هذا الموقف الذي أثخنته فيه الجراح وكسرت رباعيته ودخلت خلقتا المغفر في وجنتيه وسال دمه. وبعد ذلك يأتي إليه هذا الرجل «أبي بن خلف الجمحي» وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟
فيشير إليهم رسول الله أن اسكتوا. إنه - رسول الله - لايريد قوة لقوة، ولكنه علم أن أُبَيّاً قد عرف أن رسول الله منهك فجاء في هذا الوقت، فأخذ رسول الله الحربة، وضرب أبي بن خلف بها فنالت منه، فسقط من على فرسه يخور كما يخور الثور، فقال له أصحابه: «لا بأس عليك يا أُبيّ، ما أجزعك: إنما هو خدش».
وهذا الذي قتله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي اشتد عليه غضب الله تعالى لما رواه ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: «اشتد غضب الله على مَنْ قتله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيده في سبيل الله واشتد غضب الله على قول دَمَوْا وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ».
ولننظر كيف أن الذين عادوا رسول الله صلى عليه وسلم استكبارا وعنادا، ولم
1795
يعادوه عقيدة قلبية، إنهم يعتقدون صدقة، ويعتقدون حُسن بلاغه عن الله، ويتحقق ذلك من قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين﴾ [النمل: ١٤]
فما هو الاستيقان هنا؟ لقد قال أصحاب أبيّ له: ما أجزعك إنما هو خدش فقال أبيّ: والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا جميعا. لكن أصحاب أبي قالوا له مرة أخرى: لا بأس عليك يا أبي إنه خدش بسيط. لكنْ أبي يقول:
- لا والله لقد علمت أنه يقتلني؛ لأنه قال لي بمكة: «أنا قاتلك إن شاء الله» فوالله لو بصق علي لقتلني. فمات وهم قافلون به إلى مكة.
هذا يحدث من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في موقف الضعف والإنهاك، ويشاء له الله أن يقتل جبارا من جبابرة قريش وهو في هذه الحالة.
إن كان ذلك لأدلة تثبت لهم أن البشرية المادية لا علاقة لها مطلقا بمدد النصر من الله؛ فالله يمُد رسوله حتى في وقت الضعف. ومدده سبحانه لرسوله وقت ضعف الرسول هو إعلام بقيوميته سبحانه على جنوده؛ لأنهم لو ظلوا أقوياء لقيل في عرف البشر: أقوياء وغلبوا.
لكن ها هو ذا الرسول يصيب الجبار من قريش في مقتل والرسول ضعيف، وبعد ذلك يعطي الحق سبحانه لرسول الله أشياء إيمانية تزيده ثقه بأنه هو رسول الله، وتزيد المؤمنين ثقة بانه رسول الله. لقد خرج إلى المعركة وهو يعلم بما سيكون فيها؛ لأنه قال: «إني قد رأيت والله خيرا رأيت بقرا تُذبح ورأيت في ذباب سيفي ثَلْمِّا، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة».
1796
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لقد رأيتني يوم أحد وما في الأرض قربى مخلوق غير جبريل عن يميني وطلحة عن يساري».
إذن فالمعركة بكل أحوالها عُرضت عليه، ومع ذلك أقبل رسول الله على المعركة ليستدل من ذلك على أن الله أعطاه المناعة قبل أن يخوض المعركة. هذا ما يتعلق به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد رأى فأول، وأما الذي يتعلق بالناس، فيأتي إلى واحد من قتلى المعركة - وقتلى المعركة، لا يُغسلون؛ لأن الذي يغسل هو من يموت في غير معركة - يأتي الرسول إلى واحد من هؤلاء الشهداء فيقول: «إن صاحبكم لتغسله الملائكة» - يعني حنظلة - المؤمنون يرون أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد خرج عن القاعدة في الشهداء. كيف؟ لقد أخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخبر بعد ذلك.. ولا يُخرج حنظلة عن قانون الشهداء أنه يُغسّل.. ولكن الذي يغسله هم الملائكة.. إن الملائكة تغسل حنظلة.
وبعد أن رجع رسول الله إلى المدينة يسأل أهله ما شأنه.. فيعلم أن حنظلة قد دخل بعروسه.. ثم نودي للمعركة.. فأعجله نداء المعركة.. فذهب إلى المعركة جُنبا.. فذلك غُسْل الملائكة له، لقد تأكد الخبر من زوجة حنظلة.. إذن فهذه شهادة أخرى أن الله سبحانه وتعالى لم يتخل عنهم في أوقات الضعف، وأن تلك العملية كانت عملية مقصودة.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشياء لتؤكد لنفسه أنه رسول الله. ألم نقل سابقاً: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء له صحابته فقالوا يا رسول الله: إن جابر بن عبد الله عليه دين ليهودي وأجل الدين إلى جَزّ التمر وتمُره خَاسَ هذا العام أي فسد من آفةٍ مثلاً فنحب يا رسول الله أن تطلب من اليهودي أن يُنظر جابرا - أي ينتظر عليه ويؤخره إلى وقت آخر - فذهب رسول الله إلى اليهودي وطلب منه أن يُنظر جابرا، فلم يرض اليهودي وقال: لا يا أبا القاسم.
1797
فأعاد عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال اليهودي: لا يا أبا القاسم. فأعاد عليه الرسول مرة ثالثة فقال اليهودي: لا يا أبا القاسم.. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بثقة الإيمان بالله ما معناه: يا جابر اذهب بي إلى بستانك.
وذهب رسول الله فجاس خلال النخل، ثم ذهب إلى عريش جابر الذي يجلس فيه، واضطجع وقال: يا جابر جز واقض. قال جابر: فذهبت فجززت، فإذا ما جززته يؤدي ما عليّ لليهودي ويبقى لي مالم يبق لي وأنا غير مدين. فلما بلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«أشهد أني رسول الله». إن الحق سبحانه يعطي رسوله بينات توضح أنه رسول الله، فاليهودي لم يرض بشفاعة النبي، فيعطي الله رسوله ما يؤكد أنه رسول الله. وهكذا نرى أن الله يعطي رسوله في وقت الضعف الأدلة التي تؤكد له أنه رسول الله. والذي يدل على ذلك هؤلاء الذين أحبوا أن يؤذوه في اسمه. إنّ اسمه مُحمد كما نعرف، و «محمد» أي الممدوح من الكل، وبكثرة، فيأتي خصومه ويريدون أن يهجوه وأن يلعنوه، فيصرفهم الله سبحانه وتعالى حتى عن شتم الاسم لا المسمى فقط.
إن الله أراد أن يصعد العصمة، وأراد - سبحانه - ألا ينالوا بالسباب من اسم رسول الله، فألهم الله خصوم رسول الله أن يسموا المشتوم عندهم «مذمما بدلا من» محمد «. وعندما يريدون اللعن، فهم لا يلعنون الاسم محمداً ولكنهم يسبون الاسم الذي اختاروه وهو» مذمم «، فيضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ عندما سمع ما قالته أم جميل امرأة أبي لهب.
»
مذمما عصينا.. وأمره أبينا.. ودينه قلينا «. وهي تقصد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد حدث أن حمالة الحطب أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها حجر فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا ترى إلا أبا بكر فقالت:
1798
يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الحجر فاه أما والله إني لشاعرة وقالت ما قالت.
ويقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» ألا تعجبون لَما يصرف الله عني من أذى قريش يشتمون مُذَمَّماً ويلعنون مذمما وأنا محمد «.
هكذا نرى من أفواه الحاقدين على رسول الله أنه معصوم بإرادة الله، حتى الاسم أبعده الله عن اللعن، أما المسمى فلن يلعن ولن يشتم.
إن ما حدث في غزوة أحد كان هو التربية الأولى لصحابة رسول الله، والتأكيد على صدق بلاغه عن الله. إن هذه المعركة قد صورت ذلك وجسدته، ولذلك حين نلحظ المعارك التي جاءت بعد هذه المعركة فإننا لا نجد للمؤمنين هزيمة أبدا، لأنهم صُفوا التصفية وربُوا التربية التي جعلت كل واحد منهم عارفا أن الله يعلم ما يخفيه وإن لم يحسن البلاء والجهاد فسيفضح الله ما في نفسه، وسيعلن الله عنه؛ لذلك دخل كل مؤمن منهم المعارك وهو مقبل على الجهاد، كل المعارك بعد أُحد جاءت نصرا وجاءت سلاما.
وهنا يعلمنا الحق أن البقاء على منهج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو النجاة وهو النصر، ويحذرنا سبحانه ألا ينقلب المؤمن على عقبيه، قال لنا: ﴿أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين﴾.
﴿وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ﴾ هي صورة حركية مادية مرئية. وقد حدث ذلك من بعض الصحابة في معركة أحُد، لقد فر البعض وانقلب بعضهم إلى المدينة، ومعنى «انقلب»
أي أعطى ظهره للمعركة بعد أن كان مواجها لعدوه، وهي مثل قوله: ﴿وَلَّوُاْ الأدبار﴾.
1799
ولكن في قوله: ﴿انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ﴾ فيه انقلاب حسي أيضا، وفيها كذلك انقلاب نفسي، وهو الانصراف عن أصل الدين، ولذلك سيعرفنا الحق أن المنافقين بعد حدوث تلك الواقعة وبعد ما فشا وذاع في الناس قتل الرسول كان لهم كلام، وضعاف الإيمان كان لهم كلام آخر؛ فالمنافقون الذين هم أكثر شرا من الكفار قالوا: لو كان نبيَّا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم.
أما الذي آمنوا إيمانا ضعيفا فقالوا: سنذهب إلى ابن أُبَيّ ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. فيقف أنس بن النضر قائلا: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - أي المنافقون - وأعتذر إليك مما يقول هؤلاء - أي ضعاف الإيمان -.
لقد وزعها بالحق؛ فهو يبرأ إلى الله من قول المنافقين الذين قالوا: إنهم سيعودون إلى دينهم القديم، ويعتذر ويستغفر عن ضِعاف الإيمان. ويقول سبحانه: ﴿وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً﴾. لماذا؟ لأن الله أزلاً وقبل أن يخلق شيئا من خلقه له كل صفات الكمال، إذن فأي صفة من صفات الكمال لم تطرأ عليه - سبحانه - من خلقه، إنه - سبحانه - أوجد الكون بما فيه الخلق لأنه قادر، وأوجده لأنه حكيم، وأوجده لأنه عالم، إذن فخلق الخلق لم يزد الله صفة من صفاته، فحين خلقكم وصنعكم أعطى لكم المنهج لتكونوا خلقا سويا. إذن فالمصلحة تعود علينا نحن الخلق، فكان يجب أن تنظروا إلى المناهج التي تأتي من الله على أنه لا نفع فيها لله، ولكن النفع فيها عائد عليكم. ولذلك جاءت الآية من بعد ذلك لتقول: ﴿وَسَيَجْزِي الله الشاكرين﴾ لأن الشكر إنما يؤديه العبد على نعمة، نعمة تمحيص وتعليم وبيان مكانة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ربه. لقد تعلم المؤمنون أن الله يستحق منهم الشكر على هذه النعم.
وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى قضية عامة، القضية العامة للناس جميعا هي: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً... ﴾
1800
وساعة تسمع «ما كان» أي «ما ينبغي». فنحن في حياتنا نقول: ما كان لك أن تضرب زيدا، ونقصد أنه ما ينبغي أن تضرب زيدا. فقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ هذا القول قد يدفع إلى التساؤل: وهل الموت أمر اختياري؟ لا، ولكن تعبير الحق سبحانه له إيحاء؛ لأنك عندما تقول: ما كان لفلان أن يفعل كذا، فهذا معناه أن لفلان أن يختار أن يفعل ذلك أو لا يفعله، وفي قدرة فلان أن يفعل أو لا يفعل. أما عن قدرة الله فلا يمكن أن يقول أحد ذلك.
إننا نفهمه على فرض أن النفس تدفع نفسها إلى موارد التهلكة، فما لها أن تموت إلا أن بأذن الله. فإذا كانت النفس هي التي تدفع نفسها إلى موارد التهلكة، ومع ذلك لا تملك أن تموت، فكيف إذا لم تدفع نفسها إلى موارد التهلكة. إذن فالموت إن أرادته النفس فلن يأتي إلا أن يكون الله قد أذن بذلك. وإننا نجد في واقع الحياة صورا شتى من هذه الصور.
نجد من يضيق ذرعا بهذه الحياة؛ لأن طاقته الإيمانية لا تتسع للبلاء والكد في الدنيا فينتحر، إنه يريد أن يفر مما لا يقدر على دفع أسبابه. أما الذي يملك الطاقة الإيمانية الرحبة فأي شقاء أو بلاء يقابله يقول: إن لي ربا، وما أجراه عليّ ربي فهو المربي الحكيم الذي يعرف مصلحتي أكثر مما أعلم، ولعل هذا البلاء كفارة لي عن ذنب.
وهذا عكس من يفر مما لا يقدر على دفع أسبابه، فيحاول أن يقتل نفسه، وكل منا قد رأى أو سمع عن بعض الذين يريدون ذلك لكن يتم إنقاذهم ويدركهم من ينفذ
1801
مشيئة الله في إنقاذهم، كغسيل المعدة لمن ابتلع أقراصا سامة، أو إطفاء حريق من أشعل في نفسه النار. فالمنتحر يريد لنفسه الموت ولكن الله إذا لم يأذن، فلا يبلغه الله هذا، فقد تجد مُنتحرا يريد أن يطلق على نفسه رصاصة من مسدس فلا تنطلق الرصاصة، أو تجد منتحرا آخر يريد أن يشنق نفسه بحبل معلق في السقف فينقطع الحبل، لماذا؟ لا يقبض الحياة إلا من وَهَب الحياة.
قد يقول قائل: ولكن هناك المقتول الذي يقتله إنسان آخر. وهنا يرد المثل الشعبي: لو صبر القاتل على المقتول لمات بمفرده، إن اللحظة التي تفارق الروح مادة الجسد موقوتة بأجل محدود، فمرة تأتي اللحظة بدون سبب، فيموت الإنسان حتف أنفه، ويقول أصدقاؤه: لقد كان معنا منذ قليل. إنهم ينسون أنه مات لأنه يموت بكتاب مؤجل.
ولذلك نجد إنسانا يسعى إلى عافية الحياة، فيذهب إلى إجراء جراحة ما، وأثناء إجراء الجراحة يموت.
ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حين يقول في ذلك:
في الموت ما أعيا وفي أسبابه كل امرئ رهن بطيِّ كتابه
أسد لعمرك من يموت بظفره عند اللقاء كمن يموت بنابه
إن نام عنك فكل طب نافع أو لم ينم فالطب من أذنابه
إن الكتاب إذا انطوى فقد انتهى الأمر، حتى عندما يلتقي الإنسان بأسد، فيستوي الموت بالناب، كالموت بظفر الأسد. فإن نام الموت عن الإنسان فقد يشفيه من أمراضه قرص دواء أو جرعة ماء. أما إن استيقظ الموت فالطب والعلاج قد يكون ذَنَبَاً أو أداة للموت، والقاتل كل ما فعله أنه نقض بنْية المقتول، وهذا هو ما يعاقب عليه.
إذن فقول الحق: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾ يطلق قضية
1802
عامة. والكتاب المؤجل يطلق مرة على زمن العمر كله، ومرة يطلق على النهاية النهائية منه، والنهاية النهائية هي الموت الحقيقي. فالقاتل حين ينقض بنية القتيل إنما يوافق الأجل المكتوب الذي أراده الله. لكن لماذا نعاقب القاتل إذن؟ نحن نعاقبه لأنه نقض بنية إنسان آخر.
والحق يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾. ولنلحظ قوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ فهي تدلنا على أن الله هو الذي يطلق الإذن. والإذن يكون للملائكة ليقوموا بهذه المسألة، ولذلك نجد القرآن الكريم حين يتعرض لهذه المسألة يسند مرة هذه العملية لله فيقول سبحانه: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: ٤٢]
ومرة أخرى يسند القرآن هذه العملية لِملَكٍ واحد: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [السجدة: ١١]
ومرة يسندها الحق سبحانه إلى رسل من المعاونين لملك الموت: ﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١]
والحق سبحانه وتعالى صادق في كل بلاغ عنه؛ لأن كل أمر يحدد الأجل ليس بمراد الموكَّل بإنهاء الأجل، إنما هو بإذن من الله تعالى الذي يحدد ذلك. وما دام كل أمر قد صدر منه فهو سبحانه الذي يتوفى الأنفس، وبعد ذلك فالملك الذي يتوفى
1803
الأنفس - عزرائيل - له أعوان؛ فهو عندما يتلقى الأمر من الله فهو ينقل الأوامر إلى أعوانه ليباشر كل واحد مهمته. إذن فصيرورة الأمر بالموت نهائيا إلى الله.
وصيرورة الأمر بالموت إلى الملائكة ببلاغ من الله، هذا هو الإذن، والإذن يقتضي مأذونا، والمأذون هم ملائكة الموت الذين أذن لهم ملك الموت بذلك، وملك الموت تلقي الإذن من الله سبحانه وتعالى.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ فالذي يريد جزاء الدنيا وهو الذي يطلب جزاء حركته فيها، يأخذها، ولو كان كافرا:
﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً﴾ [الإسراء: ١٨]
ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن الكريم: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠]
وهذا ينهي عملية أن تقول: إن الكفار حالتهم أفضل من حالتنا، الكفار متقدمون؛ ونحن متخلفون. وهل لم تأت فترة كان فيها المؤمنون متقدمين جدا؟ لقد جاءت فترة تقدم فيها المؤمنون، وكانوا متقدمين لألف سنة، وهم الدولة الأولى في العالم. وكان الكفار يسمون زمانهم ودولهم بأنها تحيا في عصور الظلمات. لماذا أنكرتم هذه {؟ لان التاريخ جاء لنا من ناحية هؤلاء وقد شوهوه، ولذلك نقول لهم: نحن كنا متقدمين وأنتم والتاريخ يشهد بذلك.
ولذلك قلنا: يجب على المؤمن بالله أن يكون غيورا على أسباب الله، فلا يدع
1804
أسباب الله للكافر بالله، أيأخذ الكافر بأسباب الله وأنت يا مؤمن بالله تترك الأسباب ليأخذها هو} ؟ لا؛ لأن من يعبد الله أولى بسرِّه في الوجود، فكوننا نتركهم يأخذون الأسرار العلمية ولا ننافسهم في هذا المجال هذا تقصير منا.
﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين﴾ ونلحظ أن الحق قد جاء بلفظ ﴿الشاكرين﴾ مرتين، والقرآن يؤكد هذا المعنى. إنه سبحانه أعطاكم أسبابا فإن كانت الأسباب قد جاءت لكم بمسائل الدنيا فهي تستحق الشكر، وإن كانت ستعطيكم تكليفا مع الأسباب فهذا التكليف سيعطيكم خير الآخرة، وهو أمر يستحق الشكر أيضا.
وبعد هذا الكلام النظري ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾.. يقول ما يؤكد وجوده في موكب الإيمان الذي سبقكم؛ لأن فيه فرقا بين الكلام وبين أن يقع مدلول الكلام، فواقع الكلام سبقكم فيقول: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا... ﴾
1805
﴿وَكَأَيِّن﴾ هذه يقولون: إنها للتكثير، مثل «كم» ؛ فعندما يقول لك إنسان مثلا: لماذا تجافيني؟ فتقول له: كم زرتك؟ إن قولك: «كم زُرتك!» في ظاهرها أنها استفهام، وأنت لا تريد أن تقول له مستفهما كم مرة زرته فيها، بل تقول له: أنت الذي عليك أن تقول - لأنك بقولك ستعترف أني زُرتك كثيرا، فيكون الجواب موافقا لما فعلت. وأنت لا تقول «كم زرتك» إلا وأنت واثق أنه إذا أراد أن يجيب فسيقول: «زرتني كثيرا» ولو كنت لا تثق أنه سيقول: زرتني كثيرا، لَمَا قلتها،
1805
فعندما تقول له: كم زرتك، كم تفضلت عليك، كم واسيتك، كم أكرمتك؟ فإن «كم» تأتي للتكثير، وتأتي مثلها «كأين» إنها للتكثير أيضا، عندما تقول مثلا: «ياما حصل كذا» و «ياما» هذه معناها «كأيِّن».
وقد يسألك صديق: كيف حدثت هذه الحكاية؟ فتقول له: كأي رجل يفعل كذا ويحصل له كذا، اي ان المسأله ليست غريبة، إن قولك: كأي رجل معناها أنها شاعت كثيرا، وعندما تقول: كم مرة زرتك، وكم من مرة زرتك فهذان الاستعمالان صحيحان والمعنى: كثير من نبي قاتل معه مؤمنون برسالته كما حدث وحصل مع رسول الله. وقوله الحق ﴿رِبِّيُّونَ﴾ أي ناس فقهاء فاهمون سبل الحرب، و «ربيون» أيضا تعني أتباعا يقاتلون، و «ربيون» يمكن أن ينصرف معناها إلى أن منهجهم إلهي مثل «الربانيين».
وقول الحق: ﴿فَمَا وَهَنُواْ﴾ أي ما ضعفوا، إذن فهو يريد أن يأتي بالأسوة، وكأنه سبحانه يقول: أنتم لماذا ضعفتم في موقفكم في غزوة أُحُد وأنتم تقاتلون مع رسول الله. لقد كان الأولى بكم أن يكون حماسكم في القتال معه أشد من حماس أي أتباع نبي مع نبيهم؛ لأنه النبي الخاتم الذي سيضع المبدأ الذي ستقوم عليه الساعة، ولن يأتي أحد بعده، فكان يجب أن تتحمسوا؛ فأنتم خير أمة أخرجت للناس، وأنا ادخرتكم لذلك.
إن الحق يعطيهم المثل وفيه تعريض بهم وعتاب لهم، وفي هذا القول تعليم أيضا، فيقول: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ﴾ أي وكثير من الأنبياء ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ﴾ ونستوحي من كلمة ﴿وَهَنُواْ﴾ أي ما ضعفوا. فكأنه قد حدث في القتال ما يضعف، ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ﴾ أي ما حدثت لهم نكسة مثلما حدثت لكم.
﴿وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا﴾. وكل من ﴿وَهَنُواْ﴾ و ﴿ضَعُفُواْ﴾ و ﴿استكانوا﴾ هذه جاءت في موقعها الصحيح؛ لأن «الوهن» بداية الضعف، و «الوهن» محله القلب وهو ينضح على الجوارح ضعفا.
و ﴿استكانوا﴾ ماذا تعني؟ إنها من «سكن». والسكون تقابله الحركة.
1806
والحرب تحتاج إلى حركة، والذي يأتي للحرب فهو يحتاج إلى كرّ وفر. أما الذي لا يتحرك فهذا معناه أنه ليس لديه قدرة على أن يتحرك، وساعة تسمع - الألف والسين والتاء - وتأتي بعدها كلمة، نعلم أن (الألف والسين والتاء) للطلب، «فاسْتَفْهَم» أي طلب أن يفهم، وهي تأتي لطلب المادة التي بعدها. كأن نقول: «استعلم» أي طلب أن يعلم، أو نقول: «استخبر» أي طلب الخبر، و «استكان» يعني طلب له كوْناً أي وجوداً، فكأنهم بلغوا من الوهن ومن الضعف مبلغاً يطلبون فيه أن يكون لهم مجرد وجود؛ لأن الوجود مظهره الحركة، والحركة انتهت، هذا هو معنى ﴿استكانوا﴾.
وما دامت مِن الكون يكون وزنها - مثلما يقول الصرفيون - «استفعل» يعني طلب الكون، وطلب الوجود، وقد يكون وزنها ليس كذلك؛ إذا كانت من سكن، وهي بهذا الاعتبار لا يكون فيها طلب؛ لأن السين ستكون أصلية، فوزنها ليس «استفعل» بل هو «افتعل» ف «استكانوا» هل تعني أنهم طلبوا السكون؟ لا؛ لأنهم كانوا ساكنين، إذن فالأولى أن يكون معناها أنهم طلبوا مجرد الوجود، هذا ما أميل إليه وأرجحه، وقيل في معناها: فما خضعوا وما ذَلوا من الاستكانة: وهي الذلة والخضوع.
﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين﴾ فما يصيب العبد ابتلاء من الله، وفي الحديث: «إذا أحب الله قوما ابتلاهم». وكل ذلك الوهن والضعف، لا يشغلهم عن المعركة، لأنهم لو صبروا على التحمل لأمدهم الله بمدد من عنده؛ لأنه حين تفرغ أسباب الخلق وتنتهي يأتي إمداد الخالق.
ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى بتذييل الآية: ﴿والله يُحِبُّ الصابرين﴾ أي وكفى جزاء عن الصبر أن تكون محبوبا لله؛ لأننا قلنا سابقا: قد نحب الله لنعمه التي أنعمها علينا، ولكن المسألة ليست في أن تحب الله أنت، وإنما في أن تصير بتطبيق
1807
منهجه فيك محبوبا لله. وقد أثر عن بعضهم قوله:
وإلا أَلم تَرَ كثيراً أحَبَّ ولم يُحَبْ؟!!
أنت أحببت للنعم، ولكنك تريد أن تكون محبوبا من الله؛ لأن حبك للنعم لا يكفي، فمثل هذه النعم أخذها الكافر أيضاً، إذن فهناك حاجة أخرى. هناك مقدم وهناك ومؤخر فالمقدم هو نعم الحياة وكل البشر شركاء فيها مؤمنهم وكافرهم، ولكن المؤخر هو جزاء الله في الآخرة وهو الأصل.
إذن، فلو أن الناس فطنوا إلى قول الله: ﴿والله يُحِبُّ الصابرين﴾ لقالوا: كفى بالجزاء عن الصبر أن نكون محبوبين لله، حين أصابهم ما أصابهم. صحيح أن الإصابة لم تصنع فيهم وهناً أو ضعفا أو استكانة، وهذا معناه أن فيهم مُسكة اليقين بالله.
ومُسكة اليقين بالله تجعلهم أهلا لإمداد الله. فليس لك إلا أن تصبر على ما أنت فيه لتعرف مدد الله لك. ومدد الله لك لا يتجلى بحق إلا وقت الضعف؛ لأنك وقت قوتك قد تعمل مثل الذي قيل فيهم: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٤٩]
لكن المؤمنين حين أصابهم ما أصابهم ﴿فَمَا وَهَنُواْ﴾ ؛ لأِنَّهم كانوا متيقظين إلى قضية إيمانية: إن الله لا يسلمك لنفسك إلا حين تغيب عنه، فقالوا: ولماذا حدث لنا هذا؟ لم يقولوا: ربنا انصرنا كي نخرج من الضعف، لا. بل فكروا في الأسباب التي أدت بهم إلى هذا: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا... ﴾
1808
فكأن ما حدث نتيجة لذنب تقدم ففطنوا إلى السبب، كان المفروض أنهم في معركة، وهذه المعركة أجهدتهم وأنهكتهم، صحيح أنهم لم يضعفوا، وكان المفروض أن يقولوا: «يارب انصرنا أولا» لا. بل قالوا: لا بد أن نعرف السبب في النكسة الأولى، السبب في هذه النكسة أن الله لم يسلمني إلى نفس إلا لأني نسيته.
﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا﴾، ﴿ربَّنَا﴾، وانظر لكلمة النداء في ﴿ربَّنَا﴾، كان يمكن أن يقولوا: يا ألله إنما جاءوا بكلمة «ربنا» لماذا؟ لأن علاقة العبد بالربوبية هي قبل علاقته بالألوهية، فالألوهية مكلفة، فمعنى «إله» أي: معبود، وما دام معبودا فله تكليف يطاع فيه، وهذا التكليف يأتي بعد ذلك، هو سبحانه له ربوبيته في الخلق. قبل أن يكلفهم، وما دام الرب هو الذي يتولى التربية، فالأولى أن يقولوا: يارب، إذن قولهم: «ربنا» يعني أنت متولي أمورنا، أنت الذي تربينا.
﴿ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ فكأنه لا شيء يصيبنا إلا بذنب من الغفلة ارتكبناه. ونعرف من كلمة «ذنب» أن الذي يفطن إلى معناه لا يفعلها أبدا، لأن كلمة «ذنب» مأخوذة من مادة «الذَنَب». والذَّنْبُ سيأتي بعده عقوبة. فاللفظ نفسه يوحي بأن شيئا سيأتي، وعندما تتذكر عقاب الذنب فأنت لا تفعله.
﴿اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا﴾ لأن كل معصية تكون تجاوزا عما أَحلَّه الله لك، وزيادة غير مشروعة وإن كانت من نوع ما أحله الله، ولكنها زيادة عن مقومات حياتك، فالله شرع لنا الزواج لنأتي بالأولاد، وعندما نأخذ أكثر من هذا من غير زواج نكون قد أسرفنا، والله أعطانا مالا بقدر حركتنا، فإن طمعنا في مال غيرنا فقد أسرفنا. «وأسرفت» يعني أن تأخذ حاجة ليست ضرورية لقوام حياتك ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول:
1809
﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ [الزمر: ٥٣]
إنه سبحانه يوضح: أنا حللت لك كذا من النساء فما الذي جعل عينيك تزوغ وتميل إلى غير ما أحله الله لك؟ أنا أحللت لك كسب يدك وإن كنت فقيراً فستأخذ صدقة، لماذا أسرفت؟ إذن فكل أمر زائد على الحد المطلوب لبقاء الحياة اسمه «إسراف» ﴿وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾. لقد بدأوا يدخلون في الحق، لكنهم في البداية رَأَوْا الباطل، والباطل هو من أسباب تخلي الحق عن نصرتنا أولا، لكن عندما يغفر سبحانه الذنب ويغفر الإسراف في الأمر نكون أهلاً للمدد وأهلاً لتثبيت الله.
﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ كيف يقول الحق ذلك والمفهوم في المعركة أن الأقدام لا تثبت؟ المعركة تطلب من المقاتل أن يكون صوالاً جوالاً متحركا، إذن فما معنى ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ ؟ إن قول الحق: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ يعني لا تجعلنا نفر من أرض المعركة، ولا نترك أرض المعركة أبدا.
ولذلك قلنا: إن الكفار عندما حدث منهم ما حدث لم يظلوا في ارض المعركة، بل تركوا أرض المعركة وانصرفوا، وهؤلاء المؤمنون ولو أنهم انهزموا إلا أنهم مكثوا في أرض المعركة مدة، وكروا وراء أعدائهم وطاردوهم. وقد اهتدى البشر أخيراً إلى هذا المعنى، ففي فرنسا نيشان يسمونه «نيشان الذبابة» لماذا الذبابة؟ لأن الذبابة إن طردتها عن مكان لا بد أن تعود إليه، فكذلك المفروض على القائد - ما دام انسحب من منطقة - أن يوطن نفسه على العودة إليها، فيعطوه نيشان الذبابة.
فقوله: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ في أي منطقة؟ وفي أي معركة؟ علينا ألا نبرح أماكننا؛ لأننا ساعة أن نبرحها فهذه أول هزيمة، وهذا أمر يُجَرِّئ العدو علينا.
﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾. كلمة ﴿وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ هي حيثية، فما داموا قد قالوا: ﴿وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ فهم إذن
1810
مؤمنون ومؤمنون بحق؛ ولذلك فإن سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول قولته المشهورة: إنكم تنتصرون على عدوكم بطاعة الله، فإن استويتم أنتم وهم في المعصية غلبوكم بعُدتهم وعَددهم.
ولذلك فالإيمان يتطلب أن تنتبهوا إلى موطن الضعف فيكم أولا، والذي استوجب أن يصيبكم ما أصابكم، حقاً إنكم لم تضعفوا، ولم تستكينوا وأصابكم من المعركة شيء من التعب والألم. كأن الحق يوضح لنا أنهم قد تنبهوا فأحسنوا البحث في نفوسهم أولا، لقد تكلموا عن الذنوب وطلبوا المغفرة وتكلموا عن الإسراف على النفس، وبعد ذلك تكلموا عن المعركة. فماذا كان العطاء من الله؟
ويأتينا الجواب في قوله الحق: ﴿فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة... ﴾
1811
أي أن الذي يريد الدنيا فالله يعطيه من الدنيا غنائم وأشياء، ولنا أن نلحظ أن الحق عندما يتكلم هنا عن الدنيا فهو لم يصفها بحُسن أو بشيء، فقط قال: ﴿ثَوَابَ الدنيا﴾، لكن عندما تكلم عن الآخرة فهو يقول: ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة﴾ وهذا هو الجمال الذي يجب أن يُعشق؛ لأن الدنيا مهما طالت فهي متاع وغرور وزخرف زائل، ومهما كنت منعماً فيها فأنت تنتظر حاجة من اثنتين: إما أن تزول عنك النعمة، وإما أن تزول أنت عن النعمة.
ويختم الحق الآية بقوله: ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ وقد أحسنوا حين ناجوا ربهم بعدما أصابهم. إنهم سألوا المغفرة، وسألوا أن يغفر لهم إسرافهم في أمرهم، وأن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على القوم الكافرين؛ لأنهم رأوا أن قوتهم البشرية حين
1811
يتخلى عنهم مدد الله تصبح هباءً لا وزن لها.
﴿فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين﴾ ومثلما قلنا في الصبر: ﴿والله يُحِبُّ الصابرين﴾ كفى بالجزاء على الصبر أن تكون محبوباً لله، كذلك كفى بالجزاء على الإحسان أن تكون محبوبا لله. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُوا... ﴾
1812
وما دمتم مؤمنين وهم كفار فكيف يتأتي منكم أن تطيعوا الكافرين؟ إنكم وهم من أول مرحلة مختلفون؛ أنتم مؤمنون وهم كفار، والكافر والمنافق سيستغل فرصة الضعف في النفس الإيمانية المسلمة، ويحاول أن يتسلل إليها، مثلما قلنا: إن جماعة من المنافقين قالوا: قتل محمد، ولم يعد فينا رسول فلنلجأ إلى دين آبائنا. والمؤمنون الذين أصابتهم لحظة ضعف قالوا: نذهب إلى ابن أبي - المنافق الأول في المدينة - ونطلب منه أن يتوسط لنا عند أبي سفيان ليأخذ لنا الأمان.
ولذلك يقول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ﴾، فإن كان الموقف يحتاج إلى ناصر فلا تطلبوا النصير من الكافرين، ولكن اطلبوه ممن آمنتم به. وينزل القول الحق: ﴿بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين﴾
ألم يقل أبو سفيان: «لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم»، فقال لهم النبي قولوا لهم: الله مولانا ولا مولى لكم، وعندما قال: يوم بيوم، أي يوم أٌحد بيوم بدر، الحرب سجال. فرد عليه عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقال: لا سواء، أي نحن لسنا مثلكم؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فكيف تكون سواء وكيف تكون سجالاً ﴿؟
{بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين﴾
ونفهم قول الحق: ﴿خَيْرُ الناصرين﴾ أي يجوز ان يوجد الله بشراً كافرين أو غير كافرين وينصروكم نصراً سطحياً، لا نقول ان هذا نصر انما النصر الحقيقي هو النصر الذي ياتي من الله، لماذا؟ لأن النصر أول ما يأتي من ناحية الله فاطمئن على أنك خالص ومخلص لله والا ما جاءك نصره، فساعة يأتيك نصر الله فاطمئن على نفسك الايمانية وانك مع الله. وقول الحق: ﴿خَيْرُ الناصرين﴾ دليل على أنه من الممكن أن يكون هناك ناصر في عرف البشر. وقد قال المؤمنون: يارب نحن ضعاف الآن وإن لم نذهب لأحد ليحمينا ماذا نضع؟ فيوضح لهم الحق: كونوا معسكرا إيمانيا أمام معسكر الكفر، وإياكم أن تلجأوا إلى الكافرين بربكم؛ لأنهم غير مأمونين عليكم. وإن كنتم تريدون أن تعرفوا ماذا سأفعل: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾. فإذا ألقى الرعب في قلوب الكافرين فماذا يفيدهم من عَدَدِهم؟} عددهم وأموالهم تصير ملكا لكم وتكون في السَلَب والغنيمة.
وألقى الحق في قلوبهم الرعب بالفعل. فساعة قالوا لأبي سفيان: إن محمداً قادم إليك بجيش كثيف من المدينة، وانضم له مقاتلون لم يحاربوا من قبل، وقادم إليكم في حمراء الأسد. ماذا صنع أبو سفيان وقومه؟ ألقى الله الرعب في قلوبهم وفروا.
وكلمة ﴿سَنُلْقِي﴾ مأخوذة من «الإلقاء» وهو لا يكون إلا لمادة وعين. ويبين لنا القرآن هذا الأمر حين يقول: «فألقى الألواح»، هذه حاجة مادية. قال تعالى: ﴿وَأَلْقَى الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني﴾ [الأعراف: ١٥٠]
إنه أمر مادي.. ونحن نقول: ألقى الحجر. والحق سبحانه يقول: ﴿فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون﴾ [الشعراء: ٤٤]
إنها حبال، أي أمر مادي. وسبحانه وتعالى يقول عن الوحي لأم موسى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ [القصص: ٧]
فالإلقاء أمر مادي، كأن الله يريد أن يجعل المعنى وهو الرعب شائعا، فقال: أنا سأجمع الرعب وأضعه في القلب، ويكون عمله ماديًّا. فإذا ما استقر الرعب في القلب جاء الخَور، وإذا سكن الخور القلب نضح على جميع الجوارح تخاذلا، فيقول: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾ فكأنه مثل لنا الرعب، والرعب أمر معنوي وهو التخوف من كل شيء، فأوضح: بأنه سيأتيهم بالرعب ويلقيه في القلب، فيبقى به ليصنع الخور والخذلان.
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾ انظروا إلى التعابير الصادرة عن الله إنه هنا يأتي ب «نون العظمة»، ﴿سَنُلْقِي﴾ ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى ساعة
1814
يتكلم عن أمر يحتاج إلى فعل فهو سبحانه يأتي ب «نون العظمة» كقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]
ولأن إنزال الذكر عملية عظيمة، فنأتي ب «نون العظمة». لأننا سننزله بقدرة وسننزله بحكمة، وننزله بعلم وننزله ببصر، وننزله بقيومية، وننزله بقبض وننزله ببسط، فقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ فكأن نون العظمة تأتي هنا، لكن ساعة يتكلم سبحانه عن الذات العلية فهو يقول: «إنني أنا الله». لم يقل إننا، ولكن في الإنزال يقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١]
لأن هذه عملية عظيمة جليلة؛ ف «نون العظمة» تأتي فيما يكون من شأنه حدث يٌفعل؛ وهذا الحدث الذي يٌفعل يحتاج لصفات كثيرة، ولذلك قلنا ساعة تبتدئ أيُّ عمل تقول: «بسم الله الرحمن الرحيم» لماذا؟ لأن العمل الذي ستعمله يحتاج إلى قدرة عليه، ويحتاج إلى علم قبل أن تعمله، ويحتاج إلى حكمة، أي أنه يحتاج إلى صفات كثيرة، فأنت تدخل على العمل باسم القادر الذي يُقْدِرُك؛ وباسم العليم الذي يعلمك، وباسم الحكيم الذي يحكمك.
وكل هذه الصفات ستتكاتف في إيراز العمل كي يرحمك حتى في الاستعانة، فلا يقول لك: هات الصفات كلها التي يحتاج إليها فعلك؛ لأن هناك صفات أنت لا تعرفها، فيقول لك: هات الاسم الجامع لكل صفات الكمال. قال: «باسم الله»، وهي تضم كل صفات الكمال.
إذن فأنت تلاحظ انك إذا رأيت «نون العظمة» التي نسميها «نون الجمع» نجد أننا نقول: «نحن» للجماعة. أو للمتكلم الواحد حين يعظم نفسه، ولذلك نلاحظها حتى في قانون البشر، ألم يقولوا في الملكية: «نحن الملك»، وهذه النون بالنسبة لله ليست نون الجماعة. إنما هو «نون العظمة»، العظمة الجامعة لكل صفات الكمال التي يتطلبها أي فعل من الأفعال، لذلك قال سبحانه: {سَنُلْقِي فِي
1815
قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} فكل قلب به كفر يحتاج إلى إلقاء الرعب فيه. إذن فتأتي نون العظمة لتستوعب كل هذه القلوب الكافرة؟.
وهو سبحانه لا يتجنى عليهم بالقاء الرعب، ولكن هم الذين استحقوا أن يلقى في قلوبهم الرعب، لماذا؟ «بما أشركوا». إن الإشراك بالله هو الذي جاء لهم بالرعب؛ لأن الله يفعل، والشركاء لا يفعلون. ولو أن شركاءهم حق لما تخلوا عنهم. فلماذا لم يأتوا بشركائهم لينصروهم؟ لقد جاءهم الرعب لأنهم ليس لهم مولى، ولو كان لهم آلهة قادرة - كما يدعون - لقالوا لتلك الآلهة: رب محمد يعمل معنا هكذا فلماذا لا تقفون له يا أربابنا؟ لكنهم أشركوا بالله ما لا يضر ولا ينفع، بل ضره أقرب من نفعه.
﴿بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ والسلطان هو القوة والحجة والبرهان مأخوذة من مادة «السين واللام والطاء» ونقول: فلان تسلط على فلان، أي أرغمه بقدرته عليه. ويقولون: فلان سليط اللسان، أي قادر أن يسب، إذن فالسلطة هي: القهر، والقوة التي ترغم على الفعل، وفي المعنويات هي الحجة والبرهان، والمؤمنون دائما ذوو سلطان من الله؛ لأنهم إن انتصروا ماديا فذلك سلطان القهر، وإن انهزموا ماديا فعندهم سلطان الحق والدليل؛ ولذلك قلنا سابقا: إن إبليس يأتي يوم القيامة ويقول: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ﴾ [إبراهيم: ٢٢]
وقلنا إن السلطان نوعان: إما قوة تقهرنا على أن نفعل المعصية، وإما برهان ودليل يجعلنا نفعل المعصية.
والفرق بين القوة القاهرة وبين سلطان الدليل هو أن القوة القاهرة تجعلك تفعل وأنت مرغم غير راض عن الفعل. أما سلطان الدليل فيقنعك بأن تفعل؛ فتكون قد فعلت برضاك، فمرة يأتي السلطان بمعنى: قوة تقهرك على أن تفعل الفعل وأنت
1816
مرغم.
إنما قوة الدليل تقنعك أن تفعل، فيأتي الشيطان ليقر على نفسه في الآخرة ويقول: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ أي ليس معي قوة تقهركم على المعصية وليس معي دليل يقنعكم حتى تفعلوا المعصية، لا هذا ولا ذاك، فما الحكاية إذن؟ قال: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾. أي إنكم أطعتموني واستجبتم لدعوتي بلا سلطان قوة أقهركم به على شيء، ولا سلطان دليل أقنعكم به.
ويذيل الحق الآية بقوله: ﴿وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين﴾ أي أن المرجع الذي يأوون إليه هو النار، والمأوى؛ هو الموضع الذي ترجع أنت إليه. وكأن في هذا المرجع ذاتية من الكافر تلقيه على النار فهو - أي الكافر - مأواه ومثواه الذي يرجع إليه. ولذلك يجب أن نفطن إلى قوله الحق في بعض الأساليب: «وإليه تَرجَعون» وقوله: «وإليه تُرجعون». ﴿وَبِئْسَ مثوى الظالمين﴾.. أي مثوى لا مفر بعده أبدا، فكل مثوى من الجائز أننا نرحل عنه، لكن المثوى الذي سيبقى خلودا للظالمين هو النار وهو بئس المثوى. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ... ﴾
1817
ونعرف أن في ﴿صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ﴾ نفعولين: الأول هو ضمير المخاطبين في قوله: ﴿صَدَقَكُمُ﴾، والثاني هو قوله «وَعْد» المضاف إلى الضمير العائد على لفظ الجلالة «الله» فهو - سبحانه - قد أحدث وعداً، والواقع جاء على وفق ما وعد. لقد قال الحق: ﴿إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: ٧]
وقال سبحانه: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ [الصافات: ١٧٣]
والآيتان تؤكدان قضية وعدية، بعد ذلك جاء التطبيق العملي.. فهل وقع الوعد أو لم يقع؟ لقد وقع، ومتى؟ فهل يشير الحق في هذه الآية إلى موقعة بدر؟
﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾. و ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ أي تُذهبون الحس منهم، والحس: هو الحواس الخمس، ومعنى أذهبت حسه يعني أفقدته تلك الحواس. ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ وقد حدث، وتمكنتم منهم؛ تقتلونهم وتأسرونهم، أو الحس: هو الصوت الذي يخرج من الإنسان، وما دام فقد الحس يعني انتهى، ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ فحينما صدقتم لقاءكم لعدوكم على منهج الله صدق الله وعده؛ هذا في بدر.
أما هنا في أُحد فقد جاء فيكم قوله: ﴿حتى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ أي جبنتم. ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ﴾ أمر الرسول ﴿مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ﴾ وهي الغنائم، ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾. كأنه سبحانه يعطينا العبرة من معركتين: معركة فيها صدق وعد الله، وفعلا انتصرتم، وأيضا صدق وعد الله حينما تخليتم
1818
عن أمر الرسول فحدث لكم ما حدث. إذن فالمسألة مبسوطة أمامكم بالتجربة الواقعية، ليس بالكلام النظري وليس بالآيات فقط، بل بالواقع.
أو أن الأمر كله دائر في أُحد، نقول فرضا: هو يدور في أُحد ودع بدرا هذه، حينما دخلتم أيها المسلمون أول الأمر انتصرتم أم لم تنتصروا؟ لقد انتصرتم، وطلحة بن أبي طلحة الذي كان يحمل الراية للكفر قتل هو وبضعة وعشرون، الراية الكافرة قد سقطت في أول المعركة، وحامل الراية يقتل وهذا ما وضحه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر﴾ فجماعة تقول: لنبق في أرض المعركة، وجماعة تقول: ننسحب. ورأيتم الغنائم فحدث منكم كذا وكذا. فتأتي النكسة، ولو لم يحدث ما حدث لكان من حقكم أن تتشككوا في هذا الدين، إذن فما حدث دليل على صدق هذا الدين، وأنكم إن تخليتم عن منهج من مناهج الله فلا بد أن يكون مآلكم الفشل والخيبة والهزيمة.
﴿حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر﴾، فجماعة قالوا: نظل كما أمرنا الرسول، وجماعة قالوا: نذهب إلى الغنائم ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾.. وما دمتم قد تنازعتم وقالت جماعة: لنتمسك بمواقعنا، وقالت جماعة أخرى: لنذهب إلى الغنائم، إذن فالذي أراد مواصلة القتال إنما يريد الآخرة ولم تلهه الغنائم، والقسم الذي أراد الدنيا قال: لنذهب إلى الغنائم.
وفي هذه المسألة قال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: والله ما كنت أعلم أن أحداً من صحابة رسول الله يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أُحد.
أي أنه لم يكن يتصور أن من بين الصحابة من يريد الدنيا، بل كان يظن أنهم جميعا يريدون الآخرة، فلما نزل قول الله: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾ عرف ابن مسعود أن من الصحابة من تتقلب به الأغيار. وذلك لا يقدح فيهم؛ لأنهم رأوا النصر، فظنوا أن المسألة انتهت؛ لقد سقطت راية الكفر، وقتل المؤمنون عددا من صناديد قريش. ولقد عفا الله عن المؤمنين وغفر لهم ما بدر منهم من مخالفة لأمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
1819
﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ نعم لأنكم كنتم مشغولين بقتالهم قبل أن تنظروا إلى الغنائم، فلما نظرتم إلى الغنائم اتجه نظركم إلى مطلوب دنياكم، فانصرفتم عنهم، ولم تجهزوا عليهم ولم تتم لكم هزيمتهم وقهرهم، ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ وابتلاؤكم في هذه الغزوة إنما هو رياضة وتدريب على المنهج، كأنهم غزوة مقصودة للابتلاء، فترون منها كل ما حدث. وبعد ذلك نجحت التجربة، فبعد هذه المعركة لم ينهزم المسلمون في معركة قط.
ولذلك يقولون: الدرس الذي يعلم النصر في الكثير لا يعتبر هزيمة في القليل. والمثال على ذلك: لنفرض أن ولداً من الأولاد رسب سنة، ثم حمل ذلة الرسوب، نجده ينال بسبب ذلك مرتبة متميزة بعد ذلك بين العشرة الأوائل، إذن فالرسوب الأول له كان خيرا.
﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ لأنه كان لكم وجهة نظر أيضا عندما تصورتم أن المعركة انتهت بسقوط راية الكفر ومقتل طلحة بن أبي طلحة ومقتل بعض من الصناديد في معسكر الكفر، فظننتم أن المسألة انتهت، لكن كان يجب أن تذكروا أن الرسول قال لكم: اثبتوا في مراكزكم وأماكنكم حتى لو رأيتمونا نتبع القوم إلى مكة، ولو رأيتموهم يدخلون المدينة.
أيوجد تحذير أكثر من ذلك!؟ ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين﴾ وسبحانه جل وعلا لم يخرجهم من الحظيرة الإيمانية بهذا القول الحكيم. ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ... ﴾
1820
﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ﴾ هنا جاء لهم بلقطة من المعركة، حتى إذا سمع كل واحد منهم هذا الكلام يستحضر الصورة المخزية التي ما كان يصح أن تحدث، ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾، فيه «تَصْعد»، وفيه «تُصعِد» وهنا ﴿تُصْعِدُون﴾ من «أَصْعَد»، و «أًصعد» أي ذهب في الصعيد، والصعيد الأرض المستوية حتى تعينه على سرعة الفِرار. إنما «صَعِدَ» تحتاج إلى أن يكون هناك مكان عالٍ يصعدون إليه. وهم ساعة أرادوا أن يفروا جَرَوْا إلى الأرض السهلة ومَشَوا، فكل منهم لا يريد أن يتعثر هنا أو هناك، إذن فالمناسب لها ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ﴾ والفار لا ينظر هنا أو هناك؛ ليس أمامه إلا الأرض السهلة.
﴿وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ﴾ أي لا تعرجون على شيء، والأهم من ذلك أن هناك تنبيها من القائد الأعظم وهو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي يدعوكم «والرسول يدعوكم في أخراكم» أي يناديكم من مؤخرتكم طالبا منكم العودة إلى ميدان القتال «فأثابكم غما بغم». أنتم غَمَمْتُم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنكم خالفتم أوامره، فوقفكم الله هذا الموقف.
كلمة ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ﴾ كأنه يقول: عاقبكم. ولكنه سبحانه يأتي بها مغلفة بحنان الألوهية ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾. إذن فهي ثواب.. أي أن الحق سبحانه وتعالى بربوبيته وبألوهيته؛ يعلم أن هؤلاء مؤمنون فلم يَقْسُ عليهم، قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ﴾ فكأن ما حدث لكم تخليص حق.
﴿لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ﴾ ولو لم تحدث مسألة الحزن والخزي والذلة لشغلتكم مسألة أنكم فاتتكم الغنائم والنصر، ولظل بالكم في الغنائم؛ لأنها هي السبب في هذا. كأن الغم الذي حدث إنما جاء ليخرج من قلبكم لقطة سيل اللعاب على الغنيمة. وما أصابكم من القتل والهزيمة، ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي أنه سبحانه يقدر ما الذي استولى
1821
عليكم، لأن من الجائز ﴿والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ﴾ أنهم لم يسمعوا النداء من هول المعركة، ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ وهو سبحانه خبير بكل فعل وإحساس. ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية... ﴾
1822
وكلمة ﴿أَنزَلَ﴾ تدل على أن هذا عطاء عُلوي ليس له شأن بالأسباب المادية ولا بالقوانين البشرية؛ لأن النوم عرض من الأعراض التي تطرأ على الأحياء، هذا العرض تستوجبه عمليات كيماوية في نفسك، وهذه العمليات الكيماوية حتى الآن لا يعرفون ما هي، وأقصى ما فُهم منه أنه ردع ذاتي لجسم الإنسان. فكأن الجهاز المتحرك المكون من مخ يعمل، وعين ترى، وأذن تسمع، وحواس وحركة هذا الجهاز له طاقة، ساعة تنتهي منه الطاقة، لا يقول لك: أنت الذي تترك العمل. لا، بل
1822
يقول لك: أنا لم أعد صالحا للعمل. إنه ردع ذاتي، مثلما يريدون أن يصلوا إليه الآن في مجال الآلآت بمجرد فصل تيار الكهرباء آليا عن تلك الآلآت فهي تتوقف.
فالردع الذاتي هو في النوم ويأتيك النعاس. وتبين بالبحث العلمي أن هناك أشياء في الجسم لا تخرج كفضلات. بل تحتاج إلى التعادل والتوازن الكيميائي. ونحن نعلم أن هناك بقايا كنتيجة للحركة، وهناك احتراق للطاقة، وكل حركة فيها احتراق، وبقايا هذا الاحتراق تخرج مرة على هيئة بول ومرة يخرج غائطا ومرة يخرج مخاطاً، وهكذا، إذن كثير من هذه الفضلات هي نتيجة عمليات الاحتراق، لكن هناك أشياء لا نريد لها أن تخرج ولكن نريدها أن تتعادل، فعندما تنام لا يوجد لك حركة وتبتدئ الكيماويات داخل الجسم في التعادل، وهذا هو ما يفعله لك النوم الذي تستوجبه أسبابك المادية.
وصاحب الهم والغم لا ينام أبدا؛ فهو يسهو عن نفسه ويرهق جسمه أكثر وتكون المصيبة كبيرة عليه، وهنا ينزل الحق فضله عليكم بالنوم لأن أسبابكم لا تساعد أيا منكم على أن ينام.
وأنتم تذكرون قديما أننا قلنا: إن الإمام عليًّا كرم الله وجهه لما اشْتُهِرَ بالفتيا، وكلما سألوه عن أمر أفتى فيه، فقالوا: نأتي له بمسألة معقدة ونرى كيف يأتي بالفتيا، وكأنهم نسوا أنه يُفتى لأنه تربى في حضن النبوة، فقد جاءت النبوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسيدنا على مازال صغيرا، أما الصحابة الآخرون فقد جاءت النبوة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم كبار في السن، فهناك معلومات دخلت عندهم من أيام الجاهلية، ولكن سيدنا عليًّا كرم الله وجهه لم تدخل عليه معلومة من معلومات الجاهلية. كل المعلومات التي عنده نبوية، فكل هذا التفاعل ينشأ عنه فُتيا؛ لذلك كان سريعا في الإفتاء.
على سبيل المثال، تأتي له امرأة فتقول: يا ابن أبي طالب كيف يعطونني دينارا من ستمائة؟ مورثي خَلَّفَ ستمائة دينار فأعطوني دينارا واحدا. فقال لها: لعله مات عن زوجة، وعن بنتين، وعن أم، الزوجة تأخذ الثُمن (خمس وسبعين دينارا)
1823
والبنتان تأخذان الثلثين (أربعمائة دينار) وللأم السدس وهو مائة دينار، ولعل له اثنى عشر أخا وأختا واحدة، أشقاء أو لأب، وأنت هذه الأخت وقد بقي من التركة خمسة وعشرون دينارا توزع على الاثني عشر أخا والأخت، فيكون نصيبك دينارا.
كيف عرف ذلك؟ إنها دقة الحساب عند من تعلم في بيت النبوة.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد أن الحق قد أنزل عليهم نعاسا ليؤمنهم فلم ينشأ النوم هنا من حركة الاختيار، ولكن الله أنزله، ومعنى «أنزله» ؛ أنه بعث رحمة جديدة من السماء ليُخرج القوم الذين أصابهم الغم على ما فعلوا مما هم فيه. ولذلك قال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فكان السيف يسقط من أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه.
إذن فهي عملية قسرية. والنعاس حينما ينزل من الحق سبحانه وتعالى يكون عملية إنقاذ من حركة فاتت فرصتها على النفس البشرية فعوضها الله، ولكن القوم الذين نافقوا ماذا كان حالهم؟ لا شك أن الذين جاءوا نفاقا لم يصبهم غم على ما حدث. بل بالعكس، لا بد أن يكون قد أصابهم فرح أو اطمئنان على ما حدث، وهؤلاء لا يكونون أهلا لأن ينزل الله عليهم أمنة النعاس. بل يتركهم الله لذواتهم؛ لأنهم لم يكونوا في حصن الله باتباع منهج الإسلام أو بالاخلاص - على الأقل - لفكرة الإسلام، هؤلاء يسلمهم الله لذواتهم.
إذن فلن يُنزل عليهم أمنة النعاس. وما دام لن ينزل عليهم أمنة النعاس، فقد أصبحوا في قلق، لماذا؟ لأن نفوسهم قد أهمتهم. والإنسان حين يؤمن ويتقبل الإسلام من ربه يكون قد باع نفسه لربه، وما دام قد باع نفسه لربه فالصفقة الإيمانية لابد أن تستمر. وإذا استيقظ المسلم مرة لنفسه نقول له: لقد رجعت في عقد الصفقة. وما دمت قد رجعت في عقد الصفقة فالله الذي كان قد اشتراك يتركك لنفسك، فقوله: ﴿أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ أي خرجوا عن صفقة الإيمان؛ لأن الذي يعقد صفقة بالإيمان مع ربه، هو من قال الله فيه: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ
1824
فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [التوبة: ١١١]
وما دام الله قد اشترى من المؤمن نفسه فيجب على المؤمن ألا تهمه نفسه، فيدخل المعركة بالصفقة الإيمانية، فإذا أهمته نفسه يبدأ القلق، والبلبلة، والاضطراب، وتوهم الأشياء، والشيء الواحد يتوهمه على ألف لون. إذن فنفسه تكون غير مطمئنة، وما دام الإنسان قد شغله هم نفسه حتى لو كان النعاس استجابة لأمر طبيعي من ذات النفس فلا يأتي النعاس أبدا.
ولذلك نجد أن الإمام عليًّا - رضوان الله عنه وكرم الله وجهه - حينما سُئل عن أشد جنود الله؟ بسط يديه وقال: أشد جنود الله عشرة: الجبال الرواسي، والحديد يقطع الجبال، إذن فالحديد أشد من الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته، والسُكر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السُكر، والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله «الهم».
فساعة يدخل الهم على النفس البشرية، هذا أشد جنود الله؛ لأن الهم يدخل على النفس البشرية بألوان متعددة للخطب الواحد، فيتصور أموراً معقدة في أمر واحد، وواقعة على لون واحد، ولكن الهم يجول به في كل لون؛ فهؤلاء قد أهمتهم أنفسهم وما داموا قد أهمتهم أنفسهم فقد خرجوا عن صفقة الإيمان. وما داموا قد خرجوا عن صفقة الإيمان الذي بوساطته اشترى الله من المؤمنين أنفسهم، فالله يتخلى عنهم. وما دام الله قد تخلى عنهم فعليهم مواجهة المصير.
إن القلق والاضطراب يستبدان بهم ويصابون بالفزع من كل شيء. لكن حال الصنف الأول والطائفة الأولى يختلف؛ فالله سبحانه وتعالى يعاملهم معاملة من بقي
1825
في الصفقة الإيمانية وإن كانت نفوسهم البشرية قد فسرت الأحداث تفسيرا خاطئا، فظنوا أن المسألة في المعركة انتهت، فذهبوا لأخذ الغنيمة إن هؤلاء قد احترم الله بقاءهم على الإخلاص للإسلام، وأدبهم على تفسيرهم للأحداث تفسيرا غير حق، فأثابهم غما لما خالفوا فيه، وأنزل عليهم أمنه لإخلاصهم في قضية الإسلام.
﴿وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية﴾ وإذا سمعت كلمة «طائفة» فاعلم أنها جماعة، لكن هذه الجماعة لها مواصفات خاصة هي التي تجمعها على فكرة واحدة كأنهم يطوفون حولها، إنها ليست مطلق جماعة لكنها جماعة تدور حول فكرة واحدة ويأتي القول الحكيم هنا ليبين لك ما قالوه في نفوسهم، وما داموا قد قالوا في نفوسهم، أسمعهم أحد؟ لا، ولكن الله أخبر به، وأخبر بما في نفوسهم جميعا بقول واحد، مما يدل على أنهم يطوفون حول فكرة واحدة فالنضح الوجداني يجعلهم يقولون جملة واحدة هي: ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ وما داموا سيقولون في نفوسهم فمن الذي سمعهم وهم جماعة؟ إنه الله - سبحانه - ﴿والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾.
وأنت إذا قلت «طائفة» تجد أنها في عرف اللفظ «مفرد»، وعندما تجمعها تقول: «طوائف»، لكن هي لفظ مفرد يدل على جمع، فمرة يلحظ المفرد، ومرة يلحظ ما يؤديه المفرد من الجمع. وهذه لا يتنبه إليها إلا البليغ، فيفرق بينها كلفظ مفرد وبين ما تدل عليه كجمع، ولذلك تجد هذا في إعجاز القرآن، فالحق يقول: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾
[الحجرات: ٩] وحينما يقول: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين﴾ فهو هنا يأتي بالخبر، اقتتلتا أو اقتتلوا؟ إنه سبحانه يقول: ﴿اقتتلوا﴾، اللفظة طائفتان لكن الدقة البلاغية لاحظت أن كل طائفة مكونة من جماعة. ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ فماذا
1826
نفعل؟ ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾، فمرة رجع للجماعة ومرة رجع للاثنتين، ففي ساعة الاقتتال لا تقف الطائفة بسيف واحد وتضرب ضربة واحدة، لا، ففي ساعة القتال كل فرد من الطائفة له عمل، إذن فالفردية المكونة للطائفة متعددة.
لكن عندما نصلح هل نأتي بكل فرد من هذه الطائفة وبكل فرد من الطائفة الأخرى أو نأخذ هذه الطائفة ممثلة في رؤوسها والطائفة الأخرى ممثلة في رؤسها ونعقد الصلح بين الطائفتين؟ فدقة القرآن تقول: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ وبعد ذلك يعود الحق للتثنية فيقول: ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ والصُلح يكون بين جماعة ممثلة في قيادة وجماعة أخرى ممثلة في قيادة.
وقوله الحق: ﴿وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ هذا القول يدل على أنها طائفة تدور حول حركة واحدة، ويدل على أن النفاق نفاق متفق عليه، وليس كل واحد منهم ينافق في نفسه، لا إنها طائفة المنافقين، وقد كوَّنوا جماعة، ولهم سياسة مخصوصة، ولهم كلام مخصوص ولهم وحدة قول، تعرفهم من قول الحق ﴿وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية﴾.
ونعرف أن الحق هو الشيء الثابت، وما دام ثابتا فهو لا يتغير، وقضية الحق فيه تكون مطردة، فالله حق، خلق السماوات والأرض، وكل الكون بالحق، أنزل كتابه بالحق، كله حق، فهم يظنون بالله غير الحق مع أنه حق، ونشأ الكون منه بقانون حق، واستمرت سنن الله في الكون بالحق، وهو دائما ينصر الحق، وهم يظنون بالله غير الحق، يقولون: ربنا لم ينصرنا على الرغم من أنه وعدنا بالنصر، وتناسوا العناصر التي جعلها الله أسباباً للنصر، إنها سُنَّة الله وسُنَّة الله تتحقق ولو على أحبابه، لقد خالفوا أمر الرسول، فلا بد أن ينهزموا، فلا مجاملة لأحد، فالذي يخالف لا بد أن يأخذ جزاءه؛ لأن هذا هو الحق.
كان يجب أن يقولوا إن الحق واضح لدرجة أن أحبابه ومعهم رسوله حينما خالفوا
1827
عن أمر الله الذي قاله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طبق الله عليهم سُنته إذن فهي سنة بالحق، لكنهم ظنوا بالله ظن الجاهلية، والمقصود به إما ظن أهل الجاهلية؛ وإمَّا أن تكون الجاهلية عَلَماً على السَّفه كله، وهذا الظن له نضح سلوكي.
﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ أي هل انتصرنا أو ظفرنا أو غلبنا أو أخذنا غنائم؟ أو يكون قولهم: ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾ مقصودا به: أننا خرجنا إلى المعركة بدون رأينا؛ فقد كان من رأينا ألا نخرج وأن نظل في المدينة وعندما يدخلونها علينا نحاربهم. ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ﴾ هم لم يمتلكوا البصيرة الإيمانية ولم يعرفوا لماذا لم ينصرهم الله، هم فهموا أنهم لم ينتصروا؛ لكن في عرف الحق أنه انتصار؛ لماذا؟ لأن المعركة أثبتت أن المبدأ إن خولف فلا نصر، إذن فالإسلام قد انتصر، ولكن الذي انهزم هم المتخاذلون عن منهج الإسلام، وهذا نصر للإسلام في ذاته. ولذلك يجب أن نفرق دائما بين المبدأ الإسلامي والمنسوبين للمبدأ.
إياك أن تأخذ الحكم على المبدأ من المنسوبين للمبدأ، فلا يكون المنسوبون للمبدأ حُجَّة على الحكم في ذاته إلا إذا كانوا ملتزمين به؛ لأن الله حينما شرع ديناً سمّاه الإسلام ليحكم حركة الحياة في الناس فهو قد قنّن وحرّم فيه أفعالاً، وما دام قد قنن وحرم فيه أفعالاً فمعناه أن المؤمنين المسلمين الذين انتسبوا له من الممكن أن يخالفوا بأفعالهم تلك الأحكام، فعندما يقرر الإسلام جلد أو رجم الزاني والزانية، وحينما يشرع الإسلام قطع يد السارق أو السارقة وحين يشرع الإسلام تلك العقوبات للجرائم، فمعنى ذلك أنه من الجائز أن تحدث تلك الجرائم، فإذا ما حدثت فأنت لا تأخذها من واقع مُجَرًَّم لتحكم به على الإسلام، لا تقل إن الإسلام أباح السرقة بل قل: سرق مسلم ووضع الإسلام عقوبة صارمة عليه وهي قطع يده.
﴿يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ وهذه هي الفضيحة لهم، فماذا كانوا يريدون أن يكون لهم؟ كانوا يريدون ألا يخرجوا للمعركة فقالوا: لو كان لنا من الأمر شيء واتبعنا منطقنا، لما جئنا الموقعة هنا وحصل لنا ما حصل، هذه واحدة، أو لو كان لنا شيء من الظفر الذي وعد الله به محمداً وأصحابه ما قتلنا ها هنا، فعلى الرأيين يصح المعنى، فكأنهم أرادوا أن
1828
يعللوا القتل أو الموت بأسباب، ومن الذي قال: إن القتل أو الموت يتعلق بأسباب؟ إن الموت قضية تطرأ لإعدام الحياة، وهي مجهولة السبب ومجهولة الزمان ومجهولة المكان ومجهولة العمر.
إذن فما دامت المسألة مجهولة فلماذا ربطتم بين القتل والموقعة؟ وهل لم تروا إنساناً مات وليس في موقعة؟ ألم تروا إنساناً قد قُتل وليس في موقعة؟ لو أن القتل لا ينشأ إلا في مواقع قتال الحرب لكان لكم أن تقولوا هذا، إنما القتل والموت قضية عامة لها واقع في حياتكم.
هذا الواقع لم يرتبط بأرض، ولم يرتبط بزمان، ولم يرتبط بسن، ولم يرتبط بسبب، وإنما الموت يأتي لأنك تموت، انتهت المسألة.
إذن فهم عندما ربطوا القتل والموت بالموقعة فهم قد خرجوا عن القضية الإيمانية. ولذلك يأتي الرد من الحق بأمر واضح للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ﴾. فكأنك أيها الميت قد تكون أَحْرَص على لقاء الموت من حِرْص الموت عليك. بدليل أننا قلنا: إن الإنسان يكون مريضاً، ويلح على أن تُجري له عملية جراحية فيعتذر الطبيب قائلا: عندي عدد كبير من الجراحات فانتظر شهراً، فيأتي له المريض بوساطة لكي يقبل الطبيب إجراء العملية الجراحية ويلح عليه. ويعلى أجر الطبيب وقد يموت المريض. إذن فهو يلح على الموت أو لا؟ إنه يلح على الموت.
يقول الحق: ﴿لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ﴾ وكلمة «بَرَزَ» تدل على اندفاع حركي، فمعنى: بَرَزَ من الصف؛ يعني أن الصّف له التئام واقعي، والذي يبرُز إنما يقوم بحركة مخالفة للصف، هذه حركة.
﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ والذي يبرز إلى المضجع هو من يخرج من مكان الاستقرار، وإلاّ فكيف يكون الابتلاء لمن يقدر الله سبحانه أن يحملوا معركة الإسلام إلى أن تقوم الساعة إذا لم تكن هذه المسائل؟ لا بد أن يكونوا قوماً قد عركتهم التجربة، مُمحصين بالأحدث حتى لا يكون مأموناً على
1829
حمل السلاح في الإسلام إلا هؤلاء الصفوة المختارة.
فساعة يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخروج، وينتهي إلى أن يخرج إلى أحُد، نجد جماعة يتخاذلون بوساطة ابن أبي، هذه أول تصفية، وبعد ذلك ينقسم الرُماة، وهذه تصفية أخرى، فريق يظل وفريق ينزل للغنائم، وبعد ذلك يُشَاع أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قُتل، هذه تصفية ثالثة.
﴿وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ وكلمة «ذات الصدور» معناها صاحبة الصدور. وفي الصدر يحرص الإنسان على إخفاء الأمر الذي يحب أن يحتفظ به لنفسه بِحرْص كحرص الصاحب على صاحبه، كأن الصدر حريص على ألا يسلم ما فيه، ولكن الله سبحانه وتعالى يفضحهم أمام الناس، ويفضحهم أمام نفوسهم؛ فقد يجوز أن يكونوا مغشوشين في نفوسهم.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ... ﴾
1830
وعندما نقرأ كلمة ﴿استزلهم﴾ نعرف أن (الهمزة والسين والتاء) للطلب، تطلب ما بعدها، مثل: استفهم أي طلب الفهم، استعلم يعني طلب العلم، استقوى يعني طلب القوة، و «اسْتَزَلَّ» يعني طلب الزّلل، ومعنى «الزَّلل» هو العثرة والهفوة، أي أن الإنسان يقع في الغلط، إذن فالشيطان طلب أن يزلوا، ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾، كأن الشيطان لا يجترئ على أن يستزل أحداً ممن آمن إلا إذا صادف فيه
1830
تحللاً من ناحية، لكن الذي ليس عنده تحلل لا يقوى عليه الشيطان، ساعة يأتي الإنسان ويعطي لنفسه شهوة من الشهوات فالشيطان يرقمه ويضع عليه علامة ويقول: هذا ضعيف، هذا نقدر أن نستزِلّه. لكن الذي يراه لا يطاوع نفسه في شيء من التحلل لا يقترب ناحيته أبداً.
ولذلك فالنفس هي مطية الشيطان إلى الذنوب، وفي الحديث الشريف: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وعندما يرى الشيطان واحداً تغلبْه نفسه في حاجة فالشيطان يقول: هذا فيه أمل! وهو الذي يجري منه مجرى الدم كما سبق في الحديث، أما الملتزم الذي ساعة تُحدثه نفسه بشيء ويأبى فالشيطان يخاف منه، إذن فالشيطان لا يستزل إلا الضعيف، ولذلك فالذي يكون ربه على ذِكْر منه دائماً لا يجترئ عليه الشيطان أبداً.
إن الله - سبحانه - قد سمى الشيطان «الوسواسَ الخناس»، إنه يوسوس للناس، لكنه خنَّاس فإذا ذُكر اللهُ يخنِس، أي يتأخر ويختفي ولكنّه ينفرد بك حين يراك مٌنعزلاً عن ربك، لكن حين تكون مع ربك فهو لا يقدر عليك بل يتوارى ويمتنع عن الوسوسة إذا استعذت عليه بالله.
إذن فقوله: ﴿إِنَّمَا استزلهم الشيطان﴾ يعني طلب منهم أن يزلوا نتيجة لأنه عرف أنهم فعلوا أشياء أَبْدَوا وأظهروا فيها ضعفهم، ﴿إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ وكلمة ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾.. كأن قول الله ﴿وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ﴾ أنه لم يأخذهم بكل ما كسبوا؛ لأن ربنا يعفو عن كثير. ﴿إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
﴿عَفَا الله عَنْهُمْ﴾ لماذا؟ عفا عنهم تكريما لمبدأ الإسلام الذي دخلوا فيه بإخلاص، ولكن نفوسهم ضعُفت في شيء، فيُعطيهم عقوبة في هذه ولكنه يعفو عنهم فهذا هو حق الإسلام، ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
1831
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ... ﴾
1832
والضرب في الأرض هو السعي واستنباط فضل الله في الأرض وفي سبيله لإعلاء كلمته، فالذين كفروا يرتبون الموت والقتل والعمليات التي يفارق الإنسان فيها الحياة على ماذا؟ على أنه ضرب في الأرض أو خرج ليقاتل في سبيل الله، وقالوا: لو لم يخرجوا ما حصل لهم هذا ﴿سنرد عليهم، ونقول لهم: كأنكم لم تروا أبداً ميتاً في فراشه. كأنكم لم تروا مقتولا يسقط عليه جدار، أو يصول عليه جمل، أو تصيبه طلقة طائشة، هل كل من يموت أو يقتل يكون ضارباً في الأرض لشيء أو خارجا للجهاد في سبيل الله؟﴾
ّإذن فهذا حُمق في استقراء الواقع، وجاء الحق بذلك ليعطينا صورة من حكمهم على الأشياء، إنه حكم غير مبني على قواعد استقرائية حقيقية. فإذا عرفنا أنهم كفروا نقول: هذه طبيعتهم، لأننا نجد أن حكمهم ليس صحيحا في الأشياء الواضحة، وما دام حكمهم ليس صحيحاً أو حقيقيا في الجزئيات التي تحدث - فإذا عرفتم أنهم كفروا فهذا كلام منطقي بالنسبة لهم - فشأنهم أنهم لا يتثبتون في أحكامهم فلا عجب - إذن - أن كانوا كافرين.
﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ وغُزى: جمع غازٍ، مثل: صُوّم وقُوَّم؛ يعني جمع: صائم
1832
وقائم. ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾. إذن فالله سبحانه وتعالى يصور لهم ما يقولونه ليعذبهم به، كيف؟ لأنهم عندما يقولون: لو كانوا عندنا لكنا منعناهم أن يخرجوا أو يُقتلوا، إذن فنحن السبب.
وهكذا نجد أنهم كلما ذكروا قتلاهم أو موتاهم يعرفون أنهم أخطأوا، وهذه حسرة في قلوبهم، ولو أنهم ردوها إلى الحق الأعلى لكان في ذلك راحة لهم ولَما كانوا قد أدخلوا أنفسهم في متاهة، ويحدُث منهم هذا حتى نعرف غباءهم أيضاً؛ فهم أغبياء في كل حركاتهم وفي استقراء الأحداث الجزئية، وأغبياء في استخراج القضية الإيمانية الكلية، أغبياء في أنهم حشروا أنفسهم وأدخلوها في مسألة ليست من شأنهم، فأراد ربنا سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك حسرة عليهم.
﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ إن القضية الإيمانية هي ﴿والله يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي هو الذي يَهَب الحياة وهو الذي يهب الموت، فلا الضرب في الأرض ولا الخروج في سبيل الله هو السبب في الموت، ولذلك يقول خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربةُ سيف أو طعنة رمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر - أي حتف أنفه - فلا نامت أعين الجبناء.
والشاعر يقول:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مُخْلِدِي؟
أي يا من تمنعني أن أحضر الحرب هل تضمن لي الخلود ودوام البقاء إذا أحجمت عن القتال. ويكمل الشاعر قوله:
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ويختم الحق الآية بقوله: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فكأنهم قد بلغوا من الغباء أنهم لم
1833
يستتروا حتى في المعصية، ولكنهم جعلوها حركة تٌُرى، وهذا القول هنا أقوى من «عليم» ؛ لأن «عليم» تؤدي إلى أن نفهم أنهم يملكون بعضاً من حياء ويسترون الأشياء، ولكن علم الله هو الذي يفضحهم لا، هي صارت حركة واضحة بحيث تُبْصَر. فجاء قوله: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾
1834
والذي يحرص على ألا يخوض المعركة مخافة أن يُقتل، فما الذي يرجح عنده هذا العمل؟ إنه يبتغي الخير بالحياة. وما دام يبتغي الخير بالحياة، إذن فحركته في الحياة في وهمه ستأتيه بخير، فهو يخشى أن يموت ويترك ذلك الخير، إنه لم يمتلك بصيرة إيمانية، ونقول له: الخير في حياتك على قدر حركتك: قوة وعلما وحكمة، أما تمتعك حين تلتقي بالله شهيداً فعلى قدر ما عند الله من فضل ورحمة وهي عطاءات بلا حدود، إذن فأنت ضيعت على نفسك الفرق بين قُدرتك وحِكمتك وعِلمك وحَركتك في الكسب وبين ما يُنسب إلى الله في كل ذلك، ولذلك يقول الحق:
﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾
ولنا أن نلحظ أن قول الحق في الآية الأولى جاء بتقديم القتل على الموت قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ﴾ وجاء في هذه الآية بتقديم الموت على القتل قال - جل شأنه -: ﴿وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ فقدم القتل على الموت في الآية الأولى لأنها جاءت في المقاتلين، والغالب في شأنهم أن من يلقى الله منهم ويفضي إلى ربه يكون بسبب القتل أكثر مما يكون بسبب الموت حتف أنفه، أما هذه الآية فقد جاءت لبيان أن مصير جميع العباد - ومرجعهم يوم القيامة يكون إلى الله - تعالى - وأن أكثرهم تزهق نفسه وتخرج روحه من بدنه بسبب الموت، فلذا قدم الموت هنا على القتل. إذن فكل كلمة وجملة جاءت مناسبة لموقعها. إنه قول الحكيم الخبير.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر... ﴾
إن الآية كما نرى تبدأ بكلام إخباري هو ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾. فكأنه - سبحانه - يريد أن يقول: إن طبيعتك يا محمد طبيعة تتناسب لما يطلب منك في هذه المسألة، هم خالفوك وهم لم يستجيبوا لك حينما قلت: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله إني رسول الله، وهذا شيء يٌحْفِظ ويُغضِب. ولكنه لا يُحفِظ طبيعتك ولا يُغضب سجيتك لأنك مفطور مع أُمّتك على الرحمة. فكأنه يريد أن يُحنن رسول الله على أمته التي أصابته بالغم؛ فقال له: إياك أن تجازيها على هذا؛ لأن طبيعتك أنك رحيم، وطبيعتك أنك لست فظاً، طبيعتك أنك لست غليظ القلب، فلا تخرج عن طبيعتك في هذه المسألة، مثلما تأتي لواحد مثلا وتقول له: أنت طبيعة أخلاقك حسنة، يعني اجعلها حسنة في هذه.
1835
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ أي بأي رحمة أودعت فيك. ساعة تقول: بأي رحمة فأنت تبهم الأمر، وعندما تُبهم الشيء فكأنه شيء عظيم؛ لأن الشيء يُبهم إما لأنه صغير جدا، وإما لأنه كبير جدا، فالشيء إذا كان كبيرا يكون فوق المستوى الإدراكي، وإذا كان صغيرا جدا يكون دون مستوى الإدراك. ولذلك فالأشياء الضخمة جدا نرى منها جانبا ولا نرى الجانب الآخر، والشيء الدقيق جدا لا نراه، ولذلك يقولون: هذا الشيء نكرة، وذلك يدل مرة على التعظيم ويدل مرة على التحقير، ومرة يدل على التكثير، ومرة يدل على التقليل. فإن نظرت إلى أن الإدراك لا يستوعبه لضخامته إذن فهو كثير، وإن رأيت أن الإدراك لا يستوعبه لِلطفه ودِقَّته، وأنه ليس في متناول البصر يكون قليلا أو دقيقا.
إذن فقول الحق: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ أصلها هو: برحمة من الله طُبعت عليها لِنْتَ لهم، و «ما» لماذا جاءت هنا؟ إنك إما أن تأخذها إبهامية.. يعني بأي رحمة فوق مستوى الإدراك، رحمة عظيمة. أو تقول: «فبما رحمة» أي أن «ما» تكون اسما موصولا. وكأن الحق يقول له: فبالرحمة المُودعة من خالقك فيك والتي تُناسب مٌهمتك في الأمة لِنْت لهم، وما دامت تلك طبيعتك فَلِنْ لهم في هذا الأمر واعفُ عنهم واستغفر لهم.
وهذه الآية جاءت عقب أحداث حدثت في أُحد: الحدث الأول: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى ألا يخرج إلى قتال قريش خارج المدينة بل يظل في المدينة، فأشار عليه المحبون للشهادة والمحبون للقتال والمحبون للتعويض عما فاتهم من شرف القتال في «بدر» أن يخرج إليهم، فنزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند رأيهم، ولبس لأمته، فلما أحسوا أنهم أشاروا على رسول الله بما يخالف ما كان قد بدر منه، تراجعوا وقالوا: يا رسول الله إن رأيت ألا نخرج، فقال:
«ما ينبغي لِنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» فما دام قد استعد للحرب انتهى الأمر، هذه أول مسألة وهي مسألة المشورة.
وبعد ذلك تخلف ابن أُبيّ بثُلثُ الجيش وهذه مسألة ثانية، أما المسألة الثالثة فهي مُخالفة الرُماة أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتَرْكهم مواقعهم على الرغم من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
1836
قد حذرهم من ذلك وقال لعبد الله بن جبير الذي أمَّره على الرماة: «أنضح عنا الخيل بالنَّبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك لا نؤتَين من قَبْلك»، ولكنهم خالفوا عن أمر رسول الله. والمسألة الرابعة هي: فِرارهم حينما قيل: قُتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمسألة الخامسة: أنه حين كان يدعوهم؛ فروا لا يلوون على شيء.
كل تلك أحداث كادت تترك في نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آثاراً، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: أنا طبعتك على رحمة تتسع لكل هذه الهفوات، والرحمة مني، وما دامت الرحمة موهوبة مني فلا بد أني جعلت فيك طاقة تتحمل كل مخالفة من أمتك ومن أتباعك. ولا تظن أنك قد أُرسلت إلى ملائكة، إنما أُرسلت إلى بشر خطاءون، البشر من الأغيار، فلهذا اجعل المسألة درساً، وأنا فطرتك على الرحمة، وأنت بذاتك طلبت مني كثيراً من الخير لأمتك، ومن رحمته أن جبريل نادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال فسلم على ثم قال: يا محمد إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا».
فأنا أطلب منك الرحمة التي أودعتُها في قلبك فاستعملتها في كل مجال، وبهذه الرحمة لنت لهم، وبهذه الرحمة التفُّوا حولك، التفوا حولك لأدبك الجم، ولتواضعك الوافر، لجمال خلقك، لبسمتك الحانية، لنظرتك المواسية، لتقديرك لظرف كل واحد حتى إنك إذا وضع أي واحد منهم يده في يدك لم تسحب يدك أنت حتى يسحبها هو، خُلق عالٍ، كل ذلك أنا أجعله حيثية لتتنازل عن كل تلك الهفوات ولْيَسَعها خُلقك وليسعها حلمك، لأنك في دور التربية والتأديب. والتربية والتأديب لا تقتضي أن تغضب لأي بادرة تبدر منهم، وإلا ما كنت مُربيا ولا مُؤدبا.
1837
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ لماذا؟ لأنك تُخرجهم عما ألفوا من أمور الجاهلية.
والذي يخرج واحدا عما ألِف لا يصح أن يَجْمَع عليه إخراجه عما اعتاد بالأسلوب الخشن الفظ؛ لأنه في حاجة إلى التودد وإلى الرحمة، لا تجمع عليه بين أمرين تقبيح فعله، وإخراجه عما ألف واعتاد، ولذلك يقولون للذي ينصح إنسانا، النصح ثقيل؛ لأن النصح معناه تجريم الفعل في المنصوح، فعندما تقول لواحد: لا تفعل هذا، ما معناها؟ معناها أن هذا الفعل سيء، فما دمت تُجِرّم فعله فلا تجمع عليه أمرين، إنك قبحت فِعْله وأخرجته مما أَلِف، وبعد ذلك تنصحه بما يكره لا، إنه في حاجة إلى ملاطفة وملاينة لتستل منه الخصال القبيحة، ونحن نستعمل ذلك في ذوات أنفسنا حين نجد مرضا يحتاج إلى علاج مر، فنغلف العلاج المر في غلاف من السكر بحيث يمر من منطقة الذوق بلا ألم أو نغص، حتى ينزل في المنطقة التي لا تحس بهذه المرارة؛ لأن الإحساس كله في الفم.
فإذا كنتم تفعلون ذلك في الأمور المادية، فلا بد إذن أن نطبق ذلك أيضا في الأمور المعنوية، ولأن النُصح ثقيل فلا تجعله جدلا ولا ترسله جبلا، وخِفة البيان تؤدى عنك بدون إثارة أو استثارة، وبلطف يحمل على التقبل..
بهذا تصل إلى ما تريد، ومثال ذلك حكاية الملك الذي رأى في منامه أن أسنانه كلها وقعت، فجاء للمعبر ليعبر، فقال له: أهلك جميعا يموتون، التعبير لم يُسر منه الملك، فذهب لواحد آخر فقال له: ستكون أطول أهل بيتك عمرا، إنه التعبير نفسه، فما دام أطول أهل بيته عمرا، إذن فسيموتون قبله، هي هي، ولذلك قالوا: الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان.
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ إذن فبالرحمة لِنت لهم وبلين القول تبعوك وألفوك وأحبوك. و «الفظُّ» هو: ماء الكرش، والإبل عندما تجد ماءً فهي تشرب ما يكفيها مدة طويلة، ثم بعد ذلك عندما لا تجد ماء فهي تجتر من الماء المخزون في كرشها وتشرب منه، في موقعة من المواقع لم يجدوا ماء فذبحوا الإبل وأخذوا الماء من كرشها، الماء من كرش الإبل يكون غير مستساغ الطعم، هذا معنى «الفَظّ»، ونظرا لأن هذا يورث غضاضة فسموا: «خشونة القول» فظاظة، والغلظ في القلب هو ما ينشأ عنه الخشونة في الألفاظ.
1838
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾. إنها رحمة طُبِعت عليها يا رسول الله من الحق الذي أرسلك. وبالرحمة لِنت لهم وظهر أثر ذلك في إقبالهم عليك وحُبهم لك؛ لأنك لو كنت على نقيض ذلك لما وجدت أحداً حولك. إذن فالسوابق تثبت أن هذه هي طباعك، وخلقك، هو الرحمة واللين.
وبعد ذلك اعفُ عنهم، وقلنا: إن «العفو» هو: مَحْو الذنب محوا تاماً وهو يختلف عن كظم الغيظ؛ لأن كظم الغيظ يعني أن تكون المسألة موجودة في نفسك أيضا إلا أنك لا تعاقب عليها؛ لأنك كففت جوارحك وصنت لسانك، أما المسألة فما زالت في نفسك، لكن العفو هو أن تمحو المسألة كلها نهائيا، وتأكيدا لذلك العفو فأنت قد تقول: أنا من ناحيتي عفوت.
لا. المسألة لا تتعلق بك وحدك، لأنك لا بد أن تستغفر الله لهم أيضا، فمن الممكن أن يعفو صاحب الذنب، ولكن ربي ورب صاحب الذنب لا يعفو، فيوضح الحق: أنت عفوت فهذا من عندك؛ لكنه يطلب منك أن تستغفر لأجلهم. كي لا يعذبهم الله عما بدر منهم نحوك.
﴿فاعف عَنْهُمْ﴾ هذه خاصة بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.. ﴿واستغفر لَهُمْ﴾ بسبب ما فعلوه، وترتب عليه ما ترتب من هزيمتكم في «أحُد»، وشجك وجرحك، ولا تقل: استشرتهم وطاوعتهم في المشورة، وبعد ذلك حدث ما حدث، فتكره أن تشاورهم، لا تقفل هذا الباب برغم ما حدث نتيجة تلك المشورة وأنَّها لم تكن في صالح المعركة، فالعبرة في هذه المشقة هي أن تكون «أحدُ» معركة التأديب، ومعركة التهذيب، ومعركة التمحيص، إذن فلا ترتب عليها أن تكره المشورة، بل عليك أن تشاورهم دائما، فما دام العفو قد رضيت به نفسك، وما دمت تستغفر لهم ربك، واستغفارك ربك قد تستغفره بعيدا عنهم، وعندما تشاورهم في أي أمر من بعد ذلك فكأن المسألة الأولى انتهت، وما دامت المسألة الأولى قد انتهت، فقد استأنفنا صفحة جديدة، وأخذنا الدرس والعظة التي ستنفعنا في أشياء كثيرة بعد ذلك.
ولذلك تجد بعد هذه المعركة أن الأمور سارت سيرها المنتصر دائما؛ لأن التجربة
1839
والتعليم والتدريب قد أثر وأثمر، لدرجة أن سيدنا أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عندما جاءت حروب الردة، ماذا صنع؟ شاور أصحابه، فقال له بعضهم: لا تفعل. فهل سمع مشورتهم؟ لا. لم يسمع مشورتهم، إنما شاورهم. فلإنقاد المشورة حُكم، ولرد المشورة حكْم، المهم أن تحدث المشورة؛ ونعمل بأفضل الآراء فالمشورة: تلقيح الرأي بآراء متعددة، ولذلك يقول الشاعر:
شاور سواك إذا نابتك نائبة يوما وإن كنت من أهل المشورات
لقد اهتدى الشاعر إلى كيفية تقريب المعنى لنا، فعلى الرغم من أن الإنسان قد يكون من أهل المشورة والناس تأخذ برأيه، فعليه أن يسأل الناس الرأي والمشورة، لماذا؟ ها هو ذا الشاعر يكمل النصيحة:
فالعين تنظر منها مادنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة
إن العين ترى الشيء القريب والشيء البعيد، لكن هذه العين نفسها تعجز عن رؤية نفسها إلا بمرآة، وكذلك شأن المسألة الخاصة بغيرك والتي تعرض عليك، إن عقلك ينظر فيها باستواء ودون انفعال؛ لأنه لا هوى لك، والحق هو الذي يجذبك. لكن مسائلك الخاصة قد يدخل فيها هواك ويُحليها لك ويُحسنها.
إذن فالمشورة في أحُد كانت نتيجتها كما علمتم، وكأن الله يقول لرسوله: إياك أن تأخذ من سابقة المشورة أن المشورة لا تنفع، فتقاطعهم ولا تشاورهم؛ لأنك لن تظل حيا فيهم، وسيأتي وقت يحكمهم بشر مثلهم، وما دام يحكمهم بشر مثلهم فلا تحرمه أن يأخذ آراء غيره، وعندما يأخذ الآراء وتكون أمامه آراء متعددة فهو يستطيع أن يتوصل إلى الحكم الصحيح بحكم الولاية وبحكم أنه الإمام، ويستطيع أن يفاضل ويقول: هذه كذا وهذه كذا، إلا أن يُفوض غيره.
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ وقد عزم رسول الله أيضا على
1840
الحرب ولبس لأمته، أكان يلبس اللأمة - وهي عُدة الحرب - وبعد ذلك يقولون له: لا تخرج فيدعها؟ لا؛ فالمسألة لا تحتمل التردد. ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ وهذه فائدة الإيمان، وفائدة الإيمان: أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل، معادلة جميلة ﴿الجوارح تقول: نزرع، نحرث، نأتي بالبذر الجيد، نروي، نضع سماداً ونفترض أن الصقيع قد يأتي ونخشى على النبات منه فنأتي بقش ونحوه ونُغطيه، كل هذه عمل الجوارح. وبعد ذلك القلوب تتوكل.
فإياك أن تقول: المحصول آتٍ آتٍ لأنني أحسنت أسبابي، لا. لأن فوق الأسباب مُسَبِّبَها. فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل، هذه فائدة الإيمان لأنني مؤمن بإله له طلاقة القدرة، يخلق بأسباب ويخلق بغير أسباب. الأسباب لك يا بشر، أما الذي فوق الأسباب فهو الله، فأنت حين تعمل أخذت بالأسباب، وحين تتوكل ضمنت المسبب وهو الله - سبحانه -.
إذن فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل. إياك أن تظن أن التوكل يعني أن تترك الجوارح بلا عمل، لا، فهذا هو التواكل أو الكسل، إنه التوكل الكاذب، والدليل على كذب من يقول ذلك أنه يحب أن يتوكل فيما فيه مشقة، والسهل لا يتوكل فيه، ونقول للرجل الذي يدعي أنه يتوكل ولا يعمل: أنت لست متوكلا، ولو كنت صادقا في التوكل إياك أن تمد يدك إلى لقمة وتضعها في فمك. كن متوكلا كما تدعي، ودع التوكل يضع لك اللقمة في فمك واترك التوكل ليمضغها لك﴾

وطبعا لن يفعل ذلك، ولهذا نقول له أيضا: إن ادعاءك التوكل هو بلادة حس إيماني وليس توكلا.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ و ﴿عَزَمْتَ﴾ تقتضي عزيمة، والتوكل يقتضي إظهار عجز، فمعنى أني أتوكل على الله أنني استنفدت أسبابي، ولذلك أرجع إلى من عنده قدرة وليس عنده عجز، وهذا هو التوكل المطلق.
1841
وفي حياتنا اليومية نسمع من يقول: أنا وكلت فلانا، أي أنني لا أقدر على هذا الأمر فوكلت فلانا. ومعنى توكيله لفلان انه قد أظهر عجزه عن هذا الأمر. ولهذا ذهب إلى غير عاجز. كذلك التوكل الإيماني، فالتوكل معناه: تسليمك زمام أمورك إلى الحق ثقة بحسن تدبيره، ومن تدبيره أن أعطاك الأسباب فلا ترد يد الله الممدودة بالأسباب ثم تقول له اعمل لي يارب؛ لأننا قلنا في سورة الفاتحة: إن الإنسان يدعو قائلا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]
ومعنى «نستعين» أي نطلب منك المعونة التي نتقن بها العمل. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ... ﴾
1842
الحق يقول هنا: ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾، المؤمنون بمن؟ بالله. وما داموا مؤمنين به فمن إيمانهم به أنه إله قادر حكيم عالم بالمصلحة، ولا يوجد أحسن من أنك توكله.
وعندما نقرأ ﴿إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ فقد نسأل: وما هو المقابل؟ المقابل هو ﴿وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ﴾. إذن فأنت دخلت بالأسباب التي قالها الحق سبحانه وتعالى مُؤتمرا بأمر القيادة السماوية التي مُثلت في الرسول المبلغ عن الله، وقد أخذت عُدتك على قدر استطاعتك، إياك أن تقارن
1842
عَدَدَك بعدد خصمك أو تقارن عُدتك بعُدة خصمك؛ فالله لا يكفيك أن تقابل العدد بالعدد ولا العُدة بالعُدة، وإنما قال: أنت تُعد ما استطعته، لماذا؟ لأن الله يريد أن يصحب ركب الإيمان معونة المؤمن به؛ لأنه لو كانت المسائل قدر بعضها، لكانت قوة لقوة. لكن الله يريد أن يكون العدد قليلا وتكون العدة أقل وأن نعترف ونقول: هذا ما قدرنا عليه يارب. ونثق بأنك يارب ستضع مع العدد القليل مدداً من عندك، فأنت المعين الأعلى، فسبحانك القائل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١] والحق هنا يقول: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ فأنت تضمن نصر الله لك إن كنت قد دخلت على أن تنصره.
كيف نعرف أننا ننصر الله؟ نعرف ذلك عندما تأتي النتيجة بنصرنا، لأنه سبحانه لا يعطي قضية في الكون وبعد ذلك يأتي بالواقع ليكذبها، وإلا فالمسلمون يكونون قد انخدعوا - معاذ الله - لأنه لو جاء الدين بقضية ثم يأتي الواقع ليكذبها، فلا بد أن يقولوا: إن الواقع كذب تلك القضية. لكن الحق قال: ﴿إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ﴾ ويجيء الواقع مؤكدا لهذه القضية، عندئذ نحن لا نصدق في هذه القضية فقط، بل نصدق كل ما غاب عنا، فعندما تظهر جزئية ماديَّة واقعة محسوسة لتثبت لي صدق القرآن في قضية؛ فأنا لا أكتفي بهذه القضية، بل أقول: وكل ما لا أعلمه داخل في إطار هذه القضية.
ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى ترك بعض أسراره في كونه، وهذه الأسرار التي تركها في كونه هي أسرار لا تؤدي ضرورات؛ إن عرفناها فنحن ننتفع بها قليلا في الكماليات، ويترك الحق بعض الأسرار في الكون إلى العقول لتستنبطها، فالشيء الذي كان العقل يقف فيه قديما يصبح باكتشاف أسرار الله مقبولا ومعقولا، كأن الشيء الذي وقف فيه العقل سابقا أثبتت الأيام أنه حق إذن فما لا يُعرف من الأشياء يُؤخذ بهذه القضية أو بما أُخِذَ من الغير.
1843
يقولون - مثلا - اكتشف الميكروب على يد «باستير»، لكن ألم يكن الميكروب موجودا قبل «باستير» ؟ كان الميكروب موجودا، ولم يكن أحد يراه؛ لأن الشيء إذا دق ولطف لا نقدر أن ندركه؛ فليس عندنا الآلة التي تدركه، ولم نكن قد اخترعنا المجهر الذي يكبِّر الأشياء الدقيقة آلاف المرات.
وكذلك اخترع الناس التلسكوب، فبعد أن كان الشيء لا يرى لبعده، أصبح يرى بوساطة التلسكوب، وإن كان الشيء ضئيلا جدا ولا نراه. فقد استطعنا أن نراه بوساطة المجهر المسمى «الميكروسكوب».
و «التلسكوب» يقرب البعيد و «الميكروسكوب» يكبر الصغير فنرى له حركة وحياة، ونجد له مجالا يسبح فيه، وهذا جعلني إذا حدثني القرآن أن لله خلقا غاب عن الحس لا يدرك من جن وملائكة، فلا أُكذب ذلك، لأن هناك أشياء كانت موجودة ولم تدخل تحت حسى ولا إدراكي مع أنها من مادتي، فإذا كانت الأشياء الأخرى من مادة أخرى مثل الملائكة من نور، أو الجن من النار، ويقول لي سبحانه إنهم مخلوقون وموجودون فأنا لا أكذب ما جاء عن الحق؛ لأن هناك أشياء من جنسي كانت موجودة ولم أستطع أن أراها.
إذن فهذه قربت لي المسألة، فعندما يقول الحق: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ فنحن نعرف أن نصر الله مترتب على أن تدخل المعركة وأنت تريد أن تنصر الله، وتنصره بماذا؟ بأنك تحقق كلمته وتجعلها هي العليا، وليس هذا فقط هو المطلوب، بل لتجعل - أيضا - كلمة الذين كفروا السفلى.
﴿وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ﴾ إنه في ظاهر الأمر يكون معنا، لكننا نشعر أنه تخلى عنا، لماذا؟ لأننا نترك بعضا من تعاليم الله، إذن فهو في المظهر العام معكم كمسلمين، ومن معيته لكم أن يؤدبكم على المخالفة فيخذلكم عندما تخالفون عن أمره.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله: ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ وفي الآية السابقة قال سبحانه: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين﴾، والذي لا يتوكل على الله عليه أن يراجع إيمانه.
1844
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة... ﴾
1845
ما معنى «يغٌل» ؟ أولا: «الغلول» هو الأخذ في الخفاء. وهو مأمخوذ من «أغل الجازر» - أي الجزار - أي عندما يسلخ الجلد يأخذ بعض اللحم مع الجلد، ثم يطوي الجلد مخفيا ما أخذه من اللحم، هذا هو الأصل، وأطلق شرعا على الخيانة في الغنائم، ففي هول المعارك قد يجد المقاتل شيئا ثمينا فيأخذ هذا الشيء خفية، وهذا اسمه «الغلول»، وأيضا كلمة «الغِّل في الصدور» أي إخفاء الكراهية، وكل المادة إخفاء.
والحق يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ لماذا؟ لأن من الجائز أن الرماة - في غزوة أحد - ساعة رأوا الغنائم أقبلوا عليها؛ لأن غنائم بدر لم تكن قد قسمت بين كل من اشتركوا في القتال، فالذي كان يعثر على غنيمة كان يأخذها، وكانت بدر أول معركة، وكان الهدف من ذلك تشجيع المقاتلين. وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قد قال: «من قتل قتيلا فله سلبه».
وظن المقاتلون في أحُد أن المسألة ستكون مثل بدر، وظن البعض أن الرسول لن يعطيهم غنائم، فيوضح الحق سبحانه وتعالى: بأن هذه مسألة وتلك مسألة أخرى، فمن يفعل مثل هذا يكون قد غَل. وساعة تسمع: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي أن من طبعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن فطرته وسجيته ألاَّ يتأتى ذلك منه أبدا، لكن من الجائز أن يحدث مثل ذلك من واحد من أمته، إذن فهناك فرق بين امتناع
1845
المؤمن أن يكون غالاً، أي يأخذ لنفسه شيئا من الغنيمة، وامتناع الرسول أن يكون غالاًّ، لأن طبعه وسجيته لا تستقيم مع هذه، لكن الأمر يختلف مع المقاتلين؛ فمن الممكن أن يكون أحدهم كذلك، فسيدنا عمر في معركة الفرس، حينما جاء جماعة بتاج كسرى، والتاج فيه كل النفائس وتلك سمة عظمة الملوك، فقال الفاروق عمر: إن قوما أدوا إلى أميرهم هذا لأمناء. فقد كان من الممكن أنهم يخفونه.
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ وساعة تسمع ﴿وَمَا كَانَ﴾ أي: وما ينبغي ولا يصح أن يكون ذلك الأمر، وبعد ذلك يأتي بالحكم العام فيمكن أن يحدث غلول من أحَدٍ فيقول: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة﴾ فالذي غل في حاجة وخان فيها يأتي بها يوم القيامة كما صورها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حلّه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيرا له رُغاء أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيعَر، ثم رفع يديه حتى رُئيَ بياض إبطيه يقول: اللهم قد بلغت».
إن من يأخذ حراما في خفية يأتي يوم القيامة وهو يحمل البعير أو البقرة أو الشاة مثلا. وآه لو كان ما أخذه حمارا فله نهيق!!
فإذا كان سيأتي بما غل يوم القيامة - فالذي أخذه سيفضحه - ولذلك تسمى «الفاضحة»، و «الطامة». إذن فمن الممكن في الدنيا أن يأخذها خفية ويغُل. لكنه سيأتي في يوم القيامة وهو يحمل ما أخذه على ظهره، ثم يقول مناديا رسول الله: يا محمد.. يا محمد، لأن كل مسلم قد علم واطمأن إلى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رءوف ورحيم وأنه لن يرضى بهذه الحكاية، لكن رسول الله أبلغ عن عقاب من يفعل ذلك في حياته، وعلى كل المؤمنين به ألا يفكروا في الغلول وأخذ الغنيمة خفية.
ولماذا تكون الغنيمة في الحرب شرا؟ لأن المقاتل يعيش أثناء القتال في مهمة أن
1846
تكون كلمة الله هي العليا فكيف يرضى لنفسه بهذه المهانة وهي إخفاء الغنيمة؟ إنه يحارب من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ويجب أن يكون في مستوى ذلك.
وبعد ذلك يأتي الحق بالقضية العامة: ﴿ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾، وهي تشمل الغلول في الغنيمة والغلول في غير الغنيمة، ولنتصور هذه بالنسبة لكل من يخون أمانة أؤتمن عليها، وأنه سيأتي يوم القيامة يحمل عمارة - مثلا - لأنه بناها بغير أمانة أو يحمل أطنانا من سمك لأنه سرقها، أو يحمل أطنانا من الجبن الفاسد التي استوردها. فكل من سرق شيئا سيأتي يوم القيامة وهو يحمله، وإذا كنا نشهد أن الناس لا تطيق أن تفضح بين الخلق، والخلق محدودون لأنهم المعاصرون، فما بالك بالفضيحة التي ستكون لعموم الخلق من أول آدم إلى أن تقوم الساعة. إذن فعلى كل إنسان أن يحرس نفسه لأن المسألة ستنفضح.
﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ وما دام سبحانه سيوفى كل نفس ما كسبت فكل سيأخذ قدر ما فعل، فلا ظلم، فلو ترك الأمر بلا حساب لكان هذا هو الظلم وحاشا لله أن يظلم أحدا، وبعد تلك التهيئة والإيضاح يقول سبحانه: ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير﴾
1847
والحق سبحانه وتعالى حين يطرح بعض القضايا طرح الاستفهام، فهو يطرحها لا ليعلم هو فهو عالم، ولكن ليستنطق السامع، ونطق السامع حجة فوق خبر المخبر، فلو قال: إن الذي يتبع رضوان الله لا يساوي من ذهب إلى سخط الله لكان ذلك إخبارا منه وهو صادق فيما يقول، لكنه سبحانه يريد أن يستنطق عباده بالقضية، ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ﴾ ﴿بَآءَ﴾ أي: رجع ﴿بِسَخَطٍ مِّنَ الله﴾.
1847
لا شك أن كل من يسمع عن الفاروق بين اتباع الرضوان، أو الرجوع بالسخط يقول: إن اتباع الرضوان يرفع درجة الإنسان، والذي يبوء بالسخط يهبط إلى درك الخسران، فالقضية قالها السامع.. فكأن الحق يستنطقنا بالقضية لتكون حجة علينا، والذي يتبع رضوان الله بالطاعة، أيساويه من يرجع إلى سخط الله بالمعصية؟!
أفمن يتبع رضوان الله فلا يغُل في الغنيمة ولا يختان في الأمانة كمن غل في الغنيمة وخان في الأمانة؟
أفمن اتبع رضوان الله بأن استمع لأوامر الله حين استنفره لجهاد العدو، كمن لم يذهب لنداء الله ليكون في جند الله مقاتلا لعدو الله، لا؛ فالذي لا يستجيب لنداء الله هو من يبوء بسخط الله.
و «السخط» هو: إظهار التقبيح، لكن إظهار التقبيح قد لا يؤثر في أناس غليظى الإحساس، لا تنفع فيهم اللعنة أو الشتائم؛ لذلك جاء سبحانه بالحكم: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير﴾ ﴿وَمَأْوَاهُ﴾ أي المكان الذي يأوي ويرجع إليه هو جهنم وبئس المصير. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله... ﴾
1848
﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ أي ينزلون في الآخرة منازل على قدر أعمالهم، فكما ترى الدرجات موصلة إلى المراقي العالية كذلك في الآخرة كل إنسان مُحاسب بعمله، ويأخذ عليه درجة، ولنا أن نلحظ أن الحق يستخدم كلمة ﴿دَرَجَاتٌ﴾ بالنسبة للجنة؛ لأن فيها منازل ورتبا، أما فيما يتعلق بالنار، فيأتي لفظ «دركات»،
1848
فالدركة تنزل، والدرجة ترفع.
﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله﴾ فالله هو العادل الذي ينظر لخلقه جميعا على أنهم خلقه، فلا يعادي أحدا، إنه يحكم القضية في هذه المسألة سواء أكانت لهم أم كانت عليهم، وبعد ذلك يردفها - سبحانه بقوله: ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ ليطمئن هؤلاء على أن الله بصير بما يعملون فلن يضيع عنده عمل حسن، ولن تهدر عنده سيئة بدرت منهم. ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾. ونحن نسمع كلمة «يعمل» وكلمة «يفعل» وكلمة «يقول»، والعمل أهم الأحداث، لأن العمل هو تعلق الجارحة بما نيطت به، فالقلب جارحة عملها النية، واللسان جارحة عملها القول، والأذن جارحة وعملها الاستماع، والعين جارحة وعملها أن تنظر. إذن فكل جارحة من الجوارح لها حدث تنشئه لتؤدي مهمتها في الكائن الإنساني، إذن فكل أداءِ مُهِمّة من جارحة يقال له: «عمل».
لكن «الفعل» هو تعلق كل جارحة غير اللسان بالحدث، أما تعلق اللسان فيكون قولا ومقابله فعل، إذن ففيه قول وفيه فعل وكلاهما «عمل» إذن فالعمل يشمل ويضم القول والفعل معا؛ لأن العمل هو شغل الجارحة بالحدث المطلوب منها، لكن الفعل هو: شغل جارحة غير اللسان بالعمل المطلوب منها، وشغل اللسان بمهمته يسمى: قولا ولا يسمى فعلاً، لماذا؟ لأن الإنسان يتكلم كثيرا، لكن أن يحمل نفسه على أن يعمل ما يتكلمه فهذه عملية أخرى، ولذلك يقول الحق: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢ - ٣]
إذن فالقول مقابله الفعل، والكل عمل ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ قولا أو فعلاً وبعد ذلك يقول الحق سبحانه:
1849
﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة... ﴾
1850
والذي يمن على الآخر هو الذي يعطيه عطية يحتاج إليها هذا الآخذ، فكأن الحق يقول: وهل أنا في حاجة إلى إيمانكم؟ في حاجة إلى إسلامكم؟ أصفة من صفاتي معطلة حتى تأتوا أنتم لتكملوها لي؟ لا، إذن فحين أبعث لكم رسولا رحيما بكم، فالمنة تكون لي وحدي.
﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾.
أكان يبعثه مَلَكا؟ لا. بل بعثه من البشرية؛ كي تكون الأسوة فيه معقولة. فعندما يقول لكل مسلم افعل مثلى، فالمسلم عليه أن يطبق ما يأمره به الرسول، لكن لو كان مَلَكا أكانت تنفع فيه الأسوة؟ لا، فقد يقول لك: افعل مثلى، فتقول له: لا أقدر لأنك مَلَك، ومن يدعي الألوهية لرسول، فهو ينفى عنه الأسوة؛ لأنه عندما يقول: كن مثلي، يمكنك أن تقول: وهل نقدر؟ أنت طبيعتك مختلفة، فهل نصل لذلك؟ ﴿لا نقدر، ولذلك فالذين يقولون بألوهية رسول، إنما يفقدون الأسوة فيه، والمفهوم في الرسول أن يكون أسوة سلوكية، وأن يكون مبلغا عن الله منهجه، وأن يعلن بشريته ويقول: أنا بشر وأستطيع أن أمثل وأطبق المنهج. إذن فهو أسوة سلوكية تطبيقية.
والرسول مبعوث للكل، فلماذا كانت المنة على من آمن فقط﴾
؟ لأنه هو الذي انتفع بهذه الحكاية، لكنَّ الباقين أهدروا حقهم في الأسوة ولذلك تكون المنة على من آمن.
1850
﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين﴾ وما هي المنة؟ المن: الأصل فيه أنه القطع، لكن حين نسمعها نجدها تستعمل في أشياء متقابلة، فمثلا: المن هو العطاء بلا مقابل، والمن هو: تكدير النعمة بالتحدث بها، مثل قوله تعالى: ﴿الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٢]
إذن فالمن الذي نحن بصدده هو العطاء بلا مقابل، ولكن المن قد استعمل في تكدير النعمة بكثرة الكلام فيها، فقد يقول الإنسان لمن يمن عليه: لا أريد النعمة التي تتكلم عنها دائما، إذن فالمن استعمل في النعمة وفي تكدير النعمة، تقول: مَنَّ على فلان إذ أنقذني من ضيق كنت فيه، ويقال: فلان ليس فيه مُنة، أي ليس فيه قوة، وكلها تدور في معنى القطع، فإذا استعمل في النعمة والعطاء نقول: نعم فيها قطع؛ لأن النعمة جاءت لتقطع الحاجة، ففيه حاجة ثم جاء عطاء، والعطاء قطع الحاجة. فاستعملت في معناها.
فإذا جاءت نعمة بعد حاجة والحاجة انقطعت بالنعمة فلا بد أن تأتي بفعل بعدها وهو أن تشكر من أنعم عليك، وخصوصا أنه الله، فالمن يقطع الشكر لأنك إن مننت بالنعمة وأظهرت تفضلك بها على من أسديتها إليه فقد تسببت في أن الآخذ لا يشكرك بل إنه يتضايق من نعمتك وقد يردها عليك.
فإذن: هنا قطع للشكر، فإن قطعت حاجة محتاج فهذا يسمى «نعمة» وإن فخرت بنعمتك عليه حتى كدرتها فقد قطعت ومنعت شكره لك، وهذا يسمى «مَنَّا» أي أذى لأنه يؤذي مشاعر وإحساس الآخذ. وإن قطعت مطلقا اختصت باسم «المنَّة»، يقولون: فلان لا مُنة فيه أي لا قوة عنده تقطع في الأمور، وهنا يقول: ﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين﴾ و «منَّ» هنا بمعنى أعطى نعمة، والنعمة في الدنيا تعطيك على قدر دنياك، و «منة» الله برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعطيني عطاء على قدر الدنيا وعلى امتداد الآخرة، فتكون هذه منة كبيرة.
﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذَْ﴾، و ﴿إِذْ﴾ يعني ساعة أي حين بعث فيهم رسولا
1851
منهم فقد عمل فيهم منة وقدم لهم ومنحهم جميلا كبيرا وأنعم عليهم نعمة، ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً﴾. فإذا كان مطلق بعث رسول كي يهدي الناس إلى منهج الله يكون نعمة فماذا إذا كان الرسول من أنفسهم؟ إن هذه تكون نعمة أخرى لأنه ما دام من أنفسهم؟ إن هذه تكون نعمة أخرى لأنه مادام من أنفسهم ومن رهطهم ومن جماعتهم، هو معروف نسباً وحسباً ومعروف أمانة، فلا يخون، ومعروف صِدقاً فلا يكذب، كل هذه «مِنة» ولم يتعب أحداً في أن يبحث وراءه: أكذب قبل ذلك حتى نعتبر ذلك كذبا؟ أخان قبل ذلك حتى نعتبر ذلك خيانة؟ لا. هل هو من الناس المدعين الذين يريدون أن يقيموا ضوضاء من حولهم؟ لا. بل هو في الحسب والنسب معروف، جده عبد المطلب سيد البطحاء ولا يوجد واحد من أهله تافها.
وعرف الجميع عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمانة منذ صغره، إذن فالمقدمات تجعل الناس لا تجهد نفسها في أن تتحرى عنه أصادق هو أم غير صادق؟ إذن فهو مِنّة، ولذلك حينما بعث الله سيد الخلق إلى الخلق؛ كان هناك أناس بمجرد أن قال لهم: إني رسول الله، آمنوا به، لم يقدم معجزة ولم يقولوا له: ماذا ستقول أو ماذا تعمل؟ بمجرد أن قال: إنه رسول الله صدقوه، فعلى أي حيثية استندوا في التصديق؟ لقد استندوا على الماضي.
لقبتموه أمين القوم في صغر وما الأمين على قول بُمتهم
هاهو ذا سيدنا أبو بكر رضي لله عنه يقول: إن كان قد قال فقد صدق - إذن فالمقدمات التي يعرفونها عنه كانت هي الحجة في تصديق الرسول، وخديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها آمنت به، أقال لها المعجزات والقرآن؟ لا. بل بمجرد أن قال لها: أنا رسول الله. قالت له: صدقت فلا بد أن تكون رسولا، هو نفسه كان يتشكك وهي مؤمنة به، هو نفسه يتساءل: لعل ذلك يكون كذا، وذهبت به خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - إلى ورقة بن نوفل وأوضحت لرسول الله أنّ ما تقوله لا يمكن أن يوقعك في بلية أو خزي أو ذِلةً؛ لأن صفاتك جاءت كمقدمات لهذه النتيجة، وهي أنك رسول كريم «إنك لتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتعين على نوائب
1852
الدهر، والله لا يخزيك الله أبداً»، إنسان بهذه الصفات لا يمكن أن يأتيه شيطان، وتعال نذهب معا لأهل الكتاب الذين لهم علم بهذه المسألة.
كأنها آمنت برسالة رسول الله قبل أن يقول لها ورقة بن نوفل شيئاً.
إذن فقوله: ﴿مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي معروف لهم، فلم يأت لهم بواحد سقط عليهم من السماء، وقال: هذا رسول، لا. إنه رسول ﴿مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، وهذه أول مِنّة، ﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، هذا إذا أخذت المحيط القريب أنه من الرهط ومن القبيلة ومعروف لهم، ﴿مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أو من جنس ونوع العرب، وهذه أيضاً مِنّة، فساعة أن يتكلم سيفهمونه ولا يحتاجون إلى وساطة أو ترجمة، والرسول عندما يأتي ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، يريد أُناسا تفهم عنه، فأوضح لهم: لم أكلفكم لتقولوا ماذا يريد، لا، هو من أنفسكم، وهو إنسان له مواصفاتكم، ولكنهم لفرط عنادهم لم يؤمنوا مصداق ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٤]
إنهم يستكثرون كيف يبعث الله بشراً ويجعله رسولاً، وهذا غباء في الاعتراض، ويأتي الرد الجميل من الله. ﴿قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٥]
أنتم من البشر، فلا بد أن نأتيكم برسول من جنسكم، حتى إذا قال لكم: افعلوا كذا تقولون: نعم؟ لأنه بشر ويعمل ونحن بشر نستطيع أن نعمل مثله.. لكنه لو كان مَلَكاًَ لقال الواحد منكم: وهل أنا أقدر أن أكون كالَمَلك؟ إذن فلا تنفع
1853
هذه الحكاية، وهكذا منّ الله على المؤمنين. إذ بعث فيهم رسولا. ﴿مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، إن أخذتها على أساس أنها قبيلة محدودة ومعروفة فهي منة، وإن أخذتها على أنه من جنس عربي فيكون اللسان واحداً فهي مِنّة، وإن أخذتها من الجنس العام وهو الإنسان فهي مِنّة أيضاً.
وهل اعتبار معنى واحد من المعاني ينقض المعاني الأخرى أو تأتي كلها في سلك واحد؟ إنها معانٍ تأتي كلها في سلك واحد؛ لأن المتكلم هو الله، وما دام المتكلم هو الله فيكون عطاء اللفظ أكثر من عطاء ألفاظ الخلق، ﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، وهناك قراءة - وإن كانت قراءة شاذة - تقول: ﴿مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (بفتح الفاء) أي من أشرفهم لأنه من بني هاشم وهم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب.
وماذا يعمل الرسول؟ يُفهم من قوله: «رسولا» أنه لا يأتي بشيء من عنده، بل هو - مع هذه المنزلة الحسنة بخُلُقه الجميل وماضيه الناصع - هو مع هذا رسول وليس له في الأمر شيء، إذن فمرسله خير منه، فلا تتنبه إلى هذا الرجل العظيم فحسب بل يجب عليك أن تسأل: من أين جاء؟ لا بد أن تلتفت إلى أن الذي بعثه أعظم منه.
﴿رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾، وكلمة ﴿يَتْلُواْ﴾ يعني يقرأ لأن الكلمة تتلو الكلمة، فالذي يقرأ أي ينطق كلمة بعد كلمة، كلمة تالية بعد أخرى ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ وكلمة «الآيات» - كما نعرف - تستعمل للأمور العجيبة؛ اللافتة للنظر، تقول مثلا: فلان آية في الحس. أي حسْنُه لافت للنظر، وتقول: فلان آية في الذكاء، صحيح أن هناك أذكياء كثيرين، لكنه آية في الذكاء.. أي أن هذا الإنسان أمره عجيب في الذكاء، إذن فكلمة «آية» معناها: الأمر العجيب، وهو الذي يقف الإنسان عنده وقفة طويلة ليتأمل في عجائبه.
والآيات نوعان: آيات منظورة في الكون مثل قول الحق: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ
1854
واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: ٣٧]
وكل ظواهر الكون تعتبر أشياء عجيبة. والنوع الثاني: هو آيات القرآن مثل قوله الحق: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ١٠١]
إذن فالآيات هي الأمور العجيبة وهي قسمان: منظور ومقروء، المنظور: كل الكون، والمقروء: هو القرآن، فالقرآن يفسر آيات الكون، وآيات الكون تفسر آيات القرآن، والرسول جاء يتلو آيات القرآن، وكانت عجيبة عليهم، لكن الآيات الأخرى التي في الكون يشاهدونها ويرونها، لقد جاء الرسول بآيات مقروءة ليلفت الناس إلى الآيات المنظورة، وبتلك الآيات المنظورة يكون العجب من دقة خلق الكون؛ فينتهي الإنسان إلى الإيمان بِمَن خلق هذا الكون.
إن الحق يقول عن الرسول: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ والمسألة ليست أنه يتلو الآيات ليعجبوا منها فحسب، لا. فالرسول له مهمة إيمانية تلفت كل سامع للقرآن إلى من خلق ذلك الكون الجميل البديع الذي فيه الآيات العجيبة. ثم يعطي الرسول من بعد ذلك المنهج الذي يناسب جمال الكون، إذن فالرسول ينقل المؤمنين إلى المنهج الذي يُزكي الإنسان وأنت إذا سمعت كلمة ﴿يُزَكِّيهِمْ﴾ فأنت تعرف أنها من الزكاة. والزكاة أول معانيها: التطهير؛ والتنقية؛ والنماء. والآيات التي جاء بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما جاءت لتزكيهم.
وهذا التطهير لمصلحة المُطَهِّر أو المُطَهَّر. إنه لمصلحة المطهِّر التنقية والنماء لمصلحتكم أنتم وهذا لا يشكك في التكليف؛ لأن التكليف لم يأت للمُكلِّف، إنما جاء للمُكلف، وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - فالرجل يكون ميسور الحال وعنده مال وعنده عقارات وأطيان، وبعد ذلك يحب لأولاده أن ينجحوا في المدارس
1855
فيشجعهم قائلا لكل منهم: إن نجحت فسأفعل لك كذا.
هو لا يريد منهم شيئا لنفسه، فعنده النعمة الكافية، هو يريد - فقط - مصلحتهم هم.
إذن فالمكلف لن ينتقع بتكليفنا أبدا، فالتنقية لصالحنا والتطهير لصالحنا والنَّماء لصالحنا - والتزكية هي: تطهير وتنقية ونماء - ولننظر إلى الحالة التي كانت الجاهلية عليها، هل كانت طاهرة؟ هل كانت نقية؟ هل كانت نامية؟ لم يكن بها وصف من تلك الأوصاف، لأنها جاهلية، فكلهم محكومون بالهوى والجبروت والسلطان والقهر، ونعرف أن أول ما يهتم به الإنسان هو أن يستبقى حياته وبعد ذلك يستبقى نوعه، وبعد ذلك يستديم ما حوله، والتزكية شملت كل أمر من هذه الأمور، تزكية في الإنسان نفسه، في ذاته، بدلا من أن يكذب لسانه طهره عن الكذب، بدل أن تمتد عينه إلى محارم غيره طهر عينه من النظر للمحرمات، وبدلا من أن تمتد يده خفية وتسرق فهو لا يفعل ذلك.
والسرقة - كما نعلم حتى عند من يسرق - نقيصة، بدليل أن اللص يتوارى ويحاول أن يسترها وألا يراه أحد، لأنها رذيلة ونقيصة. ويأتي المنهج فيقول له: لا تسرق، ويطهر المنهج حركة جوارح الإنسان في الأرض، ويطهر قلبه من الحقد كي يعيش مرتاحا، وتبقى قوته مصونة للعمل الجاد المثمر، فلِمَ يبدد قوته، ولم يبدد نظراته، ولم يبدد علاقاته بالناس؟
إذن فالمنهج ينمي الإنسان، إنه تطهير وتنقية ونماء له، وبعد ذلك عندما يصاب الإنسان بالعجز وعدم القدرة، فلن يستذله الغير لكي يعطيه لقمة. لقد زكاه المنهج من هذه ونقاه من الذلة وجعل له من مال القادر حقا، والقادر هو الذي يبحث عن الضعيف ليعطيه حقه؛ لأن العاجز عندما يرى كل المؤمنين حوله قادرين يبحثون عنه ليعطوه حقه وليس مجرد صدقة يتصدقون بها عليه حينئذ يقول: أنا لست وحدي في الكون. أنا في الكون بفلان وبفلان، فتكون تنمية له، وما دام الكل يعطيه.
أما عن بقاء النوع فماذا يعني؟ إن الحق يريد طهارة الإنسان والذرية التي تأتي وأن يجعل لها وعاءً شريفا عفيفا، وإطارا لا تشوبه شائبة فجاء المنهج ليزكيكم في كل
1856
شيء يزكي حركات جوارحكم فلا تتجه الحركة إلا لتحقق المطلوب منها عند من خلقها، فالخالق قد أوضح: يا عين حدودك كذا، يا لسان حدودك كذا، يا يد حدودك كذا، يا رِجلُ حدودك كذا، يا قلب حدودك كذا، فالذي خلق كل جارحة هو الذي أعطى لكل منها حدودها فلا تجاوز ولا تهاون ولا إفراط ولا تفريط، فإن خرجت عن غير ما وضع لها في منهج الله فقد خالفت.
وهكذا نرى أن المنهج قد جاء يزكيكم أي يطهركم وينقيكم وينميكم في كل مجال من مجالات الحياة.
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾ وساعة يقول الحق: ﴿الكتاب﴾ فهو يقصد الكتاب المنزل إنه القرآن، والحكمة هي السنة. والحق يقول: ﴿واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٤]
وآيات الله معروفة وهي آيات القرآن، والحكمة هي سُنَّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهنا يقول الحق: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب﴾، إذن فالكتاب هو القرآن، سيتلو عليهم آيات القرآن وبعد ذلك يعلمهم ما جاء في هذا الكتاب. بعض المفسرين قال: لا بد أن نحمل «الكتاب» هنا على معنى آخر غير القرآن، فقالوا: الكتاب يعني الكتابة، وأول عمل زاولوه في الكتابة كتابة المصحف. إذن فالتقى المعنيان، ولذلك في غزوة «بدر» كان يتم فداء الأسرى إما بالمال وإما أن كل أسير يجيد القراءة والكتابة إذا أراد أن يفدي نفسه فعليه أن يقوم بتعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة فقد كانت الأمة أمية يقول سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾ [الجمعة: ٢]
1857
لذلك نجد أن تفسير الكتاب بالكتابة هو المناسب للأمية، أو خذ هذه اللقطة على أساس أن هناك فرقا بين التلاوة والتعليم، التلاوة: يتلو عليهم، أي أن الرسول هو الذي يتلو، والتعليم يكون بأن يتلوا هم القرآن. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾ و «علَّم» أي نقل العلم من مُعَلِم إلى مُعَلَّم.
ويختتم الحق هذه الآية بالقول الكريم: ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ وهناك أساليب تأتي في القرآن فيها «إن» وتجد كل «إن» في موضع لها معنى يختلف عن الآخر، فمثلا تأتي «إن» شرطية، يعني يأتي بعدها فعل شرط وجواب شرط مثل قوله الحق: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ [آل عمران: ١٤٠]
أي إن يمسسكم قرح فلا تيأسوا ولا تبتئسوا. فقد مس القوم قرح مثله، وقوله الحق: ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ﴾ [البقرة: ٢٧١]
إننا هنا نجد أنَّ «إن» شرطية، ففيه شرط وجواب شرط. ومرة تأتي «إن» وبعدها «إلا» :﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ﴾ [المجادلة: ٢]
وهو سبحانه يتكلم هنا عن الذين يظاهرون من نسائهم، أي يقول الرجل لامرأته: أنت علىّ كظهر أمي، إن أمك هي التي ولدتك وامرأتك لم تلدك، فلو كانت أمك لكانت محرمة عليك، ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ﴾، فعندي هنا «إن» وبعدها «إلا» وما دام جاءت «إلا» فالذي بعدها يكون مثبتا، والذي قبلها يكون منفيا، مثل قولنا: «ما قام القوم إلا زيداً» إن زيداً مختلف عنهم.
﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ﴾ أي: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، إذن ف «إن» هنا ليست
1858
شرطية لكنها هنا «إن» النافية وتعرفها بوجود «إلاَّ».
ومرة ثالثة تأتي «إن» لا هي شرطية، ولا هي نافية مثل آيتنا هنا ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾. ونقول: هذه «إنْ» التي هي تخفيف «إنَّ» أي «إنْ» هنا مخففة من الثقيلة ويكون المعنى وإنّ الحال والشأن والقصة والواقع أنهم كانوا في ضلال مبين. ويقول النحاة: اسمها ضمير الشأن - أي الحال والقصة - وهو محذوف.
وما هو الضلال؟ يقولون: ضل فلان الطريق أي مشى في مكان لا يوصله للغاية، أو يوصل إلى ضد الغاية؛ لأن الضلال في الدنيا والأمور المادية قد لا يوصلني لغايتي المرجوة، وقد لا يوصلني لشر منها أو لمقابلها، لكن في الأمر القيمى ماذا يفعل؟ إنه لا يوصلك إلى الغاية المرجوة وهي الجنة فحسب ولكنه يوصل للمقابل وهو النار، هذا هو الضلال المبين، إنه ضلال واضح؛ بدليل أن النقائص التي جاء الإسلام ليطهر الإنسان منها، يحبّ مرتكبها ألا تُعلم عنه وسط الناس، فالسارق يسرق لكن لا يحب أن يعرف الناس أنه لص، والكاذب يكذب لكن لا يحب أن يعرف الناس أنه كذاب، بدليل أنك عندما تقول له: يا كذاب تكون له صاعقة. إذن فالنقيصة تُفعل وصاحبها لا يريد أن يراها أحد أو يُعرف بها.
﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ أي ضلال ظاهر وهو ضلال يعرفه صاحبه بدليل أننا قلنا في قصة سيدنا يوسف؛ حيث نجد في القصة اثنين من الفتيان قد دخلا السجن، وماذا حدث لهما: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ [يوسف: ٣٦]
1859
لقد رأوا في يوسف عليه السلام كأن عنده ميزان الإحسان فهو يعرف الحسن والقبيح، ولأنهما يعرفان ميزان الإحسان فلا بد أن تكون المسائل بالنسبة لهما واضحة. ولماذا لم يقلها واحد منهما من قبل؟
لقد شهدا هذه الشهادة لسيدنا يوسف لأنهما يطلبان الآن مشورته في تأويل الرؤى. كان يوسف عليه السلام مسجونا، ولم ينظر إليه أحد إلا كمسجون. ومن سلوكه معهما في السجن عرفا أنه طيب ومحسن. ولذلك التفتا إليه ورأيا فيه أنه قادر على تأويل رؤيا كل منهما. مثلما قلنا: إن المنحرف نفسه يعرف قيمة الفضيلة، وهكذا نجد أن الفضيلة مسألة ذاتية وليست نسبية، أي أنه حتى المنحرف عن الفضيلة يرى الفضيلة فضيلة.
وبعد ذلك يعود الحق إلى قضية عجيبة، فإذا كان الله سبحانه قد من على المؤمنين بالرسول، ومن أنفسهم، وجاء يتلو عليهم آيات الله، وجاء يزكيهم طهارة ونقاء ونماء، وجاء ليعلمهم الكتاب والحكمة وهي وضع الشيء في موضعه، أو البحث عن أسرار الأشياء كان يجب عليكم - إذن - أنه إذا قال قولة لا تخالفوا عنها أبدا، وعندما يجري على يديه أمر فهو لا يحتاج إلى مناقشة، إذن فما حكايتكم؟
يقول الحق: ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ... ﴾
1860
لماذا تقولون: كيف يهزمنا الكفار؟ لقد حدث لكم ذلك لأنكم خالفتم الرسول الذي منَّ ربكم به عليكم، وآتاكم، وزكاكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة، كان
1860
مقتضى ذلك أن كل ما يقوله الرسول الذي هو بهذه المواصفات أن تطيعوه، ولا يقولن أحدكم: لماذا تحدث هذه الهزيمة؟ ولا يقولن أحد لماذا حكاية أحُد وكيف يهزمنا الكفار؟ إنَّ هذا لا ينسجم مع ما قيل من أن الله مَن عليكم وبعث فيكم رسولا، ثم إن أحُداً ليست مصيبة بادئة، بل مصيبة جاءت بعدما أصبتم من أعدائكم مصيبة، ونلتم منهم ضعف ما نالوا منكم.
فأنتم بدأتم ببدر وأعطاكم الله الخير. أنتم قتلتم سبعين وأسرتم سبعين، وهم قتلوا سبعين ولم يأسروا أحداً في «أُحد»، أنتم أخذتم غنائم في بدر، وهم لم يأخذوا أي غنيمة في أحُد، ما العجيبة في هذه! ﴿كان يجب أن تبحثوا في ذواتكم وفي نفوسكم، هل كنتم منطقيين مع إيمانكم ومع قيادة الرسول لكم﴾ ؟ أيكون منكم ذلك السؤال وهو «أنى هذا»، لأن «أنى» معناها استنكار أنَّ هَذَا يحدث أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله وفينا النبي والوحي وهم مشركون ونقول لكم: وهل كنتم على مستوى الإيمان المطلوب؟ إن مستوى الإيمان المطلوب يقتضي منكم أن تنفذوا ما قاله الرسول، وأنتم لم تكونوا على هذا المستوى، الذي كنتم عليه في بدر.
وساعة تسمع «أو لما» فهناك همزة الاستفهام ثم «واو عطف»، «أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا»، و «لما» هنا هي الحينية، فماذا يكون المعنى، لقد آمنتم بالله إلها وآمنتم بالرسول مبلغا، أحين تصيبكم مصيبة قد أصبتم مثليها تقولون أنى هذا؟
كان المنطق ألا تسألوا هذا السؤال أبدا لأنكم آمنتم بإله عادل له سنن لا تتبدل ولا تتحول. أكان يترك السنن من أجلكم!؟ ﴿سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: ٦٢]
وفي موقع آخر من القرآن يقول سبحانه:
1861
﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً﴾ [فاطر: ٤٣]
فلو أنكم استحضرتم الإيمان بالإله الذي أطلق السنن في الكون ليسوس به أمر ملكه بما يحقق أمر المصلحة لما قلتم هذا وما دمتم قد آمنتم بأن الإله هو الذي صنع تلك السنن فكان الواجب عليكم أن تعلموا أن الإله لن يجاملكم بإبطال سننه من أجل أنكم نُسبتم إليه أولا بأنكم مسلمون، فإنكم إن خالفتم فسنن الله واقعة، وكان يجب أن تفهموا هذا الأمر، وكان يجب ألا تسألوا هذا السؤال، وقد آمنتم بالله إلها له سنن، وآمنتم بالرسول المبلغ عن الله.
أحين تصيبكم مصيبة مع هذا الإيمان قد أصبتم مثليها، وتقولون: أنى هذا؟ أنتم حدث منكم أنكم أصبتم خصومكم، وياليتكم أصبتموهم بمثل ما أصابوكم به بل أنتم مثليها، كان يجب أن تعرضوا عملكم على الموازين الإيمانية؛ فإن عرضتموه على الموازين الإيمانية لم سألتم هذا السؤال: «أنى هذا»..
وساعة تسمع «أنى هذا» فلها معنيان: إما أنها تأتي بمعنى (كيف يحدث هذا) ؟ وإما بمعنى (من أين يحدث هذا) ؟ فإن كانت لأعيان وتحب أن تعرف، مثلما أحب سيدنا زكريا أن يعرف: من أين يأتي الرزق لسيدتنا مريم وهي في المحراب: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧]
1862
أي من أين؟ وتأتي مرة أخرى بمعنى «كيف» :﴿أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ [البقرة: ٢٥٩]
أي كيف يحيي؟ إذن فمرة تكون بمعنى «من أين»، ومرة تكون بمعنى «كيف»، والذين دخلوا معركة أحُد كانوا ينكرون ويستعجلون لعدم انتصارهم.. فأوضح لهم الحق: لو كنتم مستحضرين قضية الإيمان بإله عادل وضع في كونه سننا وهو لن يغير سننه ولن يحولها من أجلكم أنتم، إن عليكم أن تعرفوا أن الله لا يتغير من أجل أحد، ولكن يجب أن تتغيروا أنتم من أجل الله.
﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا﴾ : و «لما» يعني: حين، واسمها: «لما الحينية» و «لما» تكون أيضا من أدوات وعوامل الجزم مثل: لَمْ و «لم» تنفي، و «لمَّا» أيضا تنفي مثل قوله الحق: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤]
أي أن الإيمان لم يدخل قلوبكم بعد. إنما من الجائز أنه قد يدخل بعد ذلك، هذه اسمها «لَما» الجازمة. وهناك «لما» الشرطية مثل قولنا: لما يقوم زيد يحرث كذا، وهذه فيها شرط، وفيها الزمن أي حين يقوم يحدث كذا، مثل قوله الحق: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ﴾ [الصافات: ١٠٣ - ١٠٥]
أي حين أسلم وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أي ناديناه، والواو هنا مقحمة مثلما في قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ أي قال لهم. ومعنى مقحمة.. جيء بها للتوكيد والتقوية أو جاءت الواو هنا لتفيد أن نداء الله لسيدنا إبراهيم جاء مصاحبا لإلقاء ابنه إسماعيل على وجهه ليذبحه.
1863
ف «لمّا» هذه وفي الآية التي نحن بصددها هي «لما الحينية»، أحين تصيبكم أي: أوقت تصيبكم مصيبة قد أصبتم مثليها «قلتم أنى هذا» كان يجب أن تقارنوا لماذا أصَبْتُم في بدر مِنْ عدوكم ضعف ما أصاب منكم، ولماذا أصاب عدوكم منكم يوم أُحُدٍ هذا؟ كان يجب أن تسألوا أنفسكم هذا السؤال؛ لأن الميزان منصوب وموضوع، وما دمتم تغافلتم عن هذا فسيأتي لكم الرد.. قل يا محمد لهم رداً على هذا: ﴿هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾. لقد خالفتم عن أمر الرسول، وما دمتم خالفتم عن أمر الرسول، فلا بد أن يحدث هذا بمقتضى إيمانكم بإله له سنن لا تتحول ولا تتبدل. ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾.
وبعد ذلك تذيل الآية بقوله سبحانه: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. فما موضعها هنا؟ موضعها أنه ما دامت لله سنن، وسنن الله لا تتبدل، والله موصوف بالقدرة الفريدة له فلن يأتي إله آخر ويقول: نبطل هذه السنن. وما دام لا يوجد إله آخر يقول ذلك فهو سبحانه قدير على كل شيء، وهو قدير على أن تظل سننه دائمة، ولا توجد قوة تزحزح هذه القضية؛ لأن السنن وضعها الله. فمن الذي يغيرها؟ إنها لن تتغير إلا بقوة أعلى ومعاذ الله أن تكون هناك قوة أعلى من قوة الله؛ لذلك يوضح سبحانه: أنا قدير على كل شيء وقدير على أن أصون سنني في الكون، فلا تتخلف ولا توجد قوة أخرى تُحوِّل هذه السنن أو تبدلها.
ولا تظنوا أن ما أصابكم جاء فقط لأن السنن لا تتغير، لا، فهذا قد حدث بإذن من الله، فالله أوضح للكون: من يخالف أمري أفعل فيه كذا. إذن فالكون لم يحدث فيه شيء دون علم الله وإذنه.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله... ﴾
1864
أي أنه سبحانه قد جمع المؤمنين وجمع الكافرين في أحُد بإذن منه وبعلمه والنتيجة معروفة عنده، وأنه سيحدث منكم كذا وكذا، إذن فهذا أمرٌ معلوم، أو ﴿بِإِذْنِ الله﴾ أي في السنن التي لا تتخلف، فالمسألة لم تأت بغير علم الله، لا. لقد جاءت بإذن الله ولا تتخلف - تطبيقا - عن أَحَدٍ من خلقه أبداً مهما كانت منزلته.
﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله وَلِيَعْلَمَ المؤمنين﴾ ساعة ترى أمراً أجراه الله ليعلم الذين نافقوا، وليعلم المؤمنين، نعرف أن الله عالم بهم قبل أن تقع الأحداث، ولكن علمه لا يكون حجة على الغير إلا إن حدث منه بالفعل؛ لجواز أن يقول: يارب أنت حاسبتني بعلمك أن هذا سيحدث، لكن ما كنت لأفعله. فيوضح الحق: لا. أنت قد علمته لأنك فعلته وصار واقعاً منك وتقوم به الحجة عليك.
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت كمعلم تقول لواحد من الطلبة: أنت راسب، فيقول لك: لا، لا بد أن تمتحنني. تقول له: أنا أعرف أنك راسب. فيقول لك: أنا لا آخذ بعلمك بل لا بد أن تمتحنني. تقول له: تعال أمتحنك. وتعطيه بعض الأسئلة فيرسب. وهنا يصير علمه برسوبه أمراً واقعاً، وهو كان يعلمه بسبق علم، لكنه الآن لا يقدر أن يجادل لأنه صار واقعا محسوساً.
ويقول الحق: ﴿وَلِيَعْلَمَ المؤمنين﴾ ومنهم الثابت الإيمان الذي لا يتزعزع ويعلم أنه إذا أصابته مصيبة بما قدم لنفسه، هذه المصيبة تزيده إيماناً بإلهه.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ... ﴾
وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ﴾ أي يجعلهم يظهرون وينكشفون أمام الناس، وإلا لو لم تحدث هذه الأحداث فكيف كنت تعرف المنافق؟ سيستر نفسه. لا بد إذن أن تأتي أحداث لتظهره وتفضحه، فالمنافق يراوغ؛ لذلك يأتيه الحق بأحداث ليظهر على حقيقته، وقد كان.
﴿وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا﴾.. وكانت المدينة مهاجمة، وإذا انتصر الكفار فسيدخلون ويسْبون ويأخذون المسلمين أسرى ويفعلون كل منكر!! فقال عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري للمنافقين: اخرجوا وقاتلوا معنا، وإن لم تخرجوا لتقاتلوا معنا.. اخرجوا لتدفعوا عن أنفسكم وعن أموالكم وعن نسائكم؛ لأنهم إذا انتصروا على المسلمين فسيدخلون ويفعلون كذا وكذا، إنه دعاهم إلى القتال على طريق إثارة الحمية والأنفة فيهم وذلك بعد أن يئس من أنهم لم يقاتلوا في سبيل الله، ولما رأى إصرارهم على عدم الخروج قال لهم عبد الله: اذهبوا أعداء الله فسيغني الله رسوله عنكم.
إذن ففيه فرق بين القتال في سبيل الله وبين الدفاع عن النفس فقال ﴿قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا﴾.. أو ادفعوا عنا ولو بتكثير سوادنا وإظهار كثرتنا حتى يظن المشركون أن معنا أناسا كثيرين. ﴿قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾.. وعندما نتابع هذا المنطق في القصة في ذاتها نجد أن «ابن أُبَيّ» كان من رأيه أن يظل رسول الله في المدينة لماذا؟ لأنه قد ثبت بالتجربة أنه إذا جاء قوم ليغيروا على المدينة ودخلوها فأهل المدينة ينتصرون عليهم، وإذا خرج لهم أهل المدينة فهم ينهزمون.
إذن فالقضية واضحة في ذهن ابن أُبَيّْ، فهو لم يرض أن يخرج لأن التجارب أثبتت له أنهم إذا خرجوا عن المدينة ليحاربوا العدو فعدوهم ينتصر عليهم، وإذا ظلوا انتصروا، إذن فهو واثق من نتيجة الخروج، ولكن ما دامت المسألة قد صدرت من رأس النفاق عبد الله بن أبيّ فأنت لا تستطيع أن تحكم أين الحق، فمن الجائز أن آثار
1866
يوم هجرة الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من مكة إلى المدينة هذه الآثار كانت باقية في نفس «ابن أبيّ» ففي ذلك اليوم الذي جاء فيه الرسول إلى المدينة كان هو اليوم الذي كان سيتوج فيه المنافق «ابن أُبَيّْ» ليكون ملكاً على المدينة، فلما جاء الرسول بهذا الحدث الكبير تغير الوضع وصار التاج من غير رأس تلبسه، فهذه قد حملها في نفسه.
﴿قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾ لقد ادّعى ابن أبيّ أن الخروج من المدينة هو كإلقائه إلى التهلكة وليس قتالاً؛ لأن القتال تدخله وعندك مظنة أن تنتصر، إنما هذا إلقاء إلى تهلكة وليس قتالاً، لكن أقال: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾ وهو صادق؟
إن الحق يفضحهم: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾، فقبل ذلك كانوا في نفاق مستور، وما دام النفاق مستوراً فاللسان يقول والقلب ينكر ويجحد، فهم مذبذبون بين ذلك؛ لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، هذه المسألة جعلته قريبا من الكفر الظاهر.
﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾.. إذن فالقلب عمله النية الإيمانية، واللسان قد يقول ولا يفعل ما يقول، ولذلك قلنا: إن المنافق موزع النفس، موزع الملكات، يقول بلسانه كلاما وقلبه فيه إنكار، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم غشاشون، ونفوسهم موزعة.
﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ والقول ضروري بالفم؛ لأن القول يُطلق ويراد به البيان عما في النفس، فتوضيح الإنسان لما في نفسه كتابة، يعتبر قولاً - لغة - ولذلك فالذي يستحي من واحد أن يقول له كلاما فهو يكتبه له في ورقة، فساعة يكتب يكون قد قال، وهؤلاء المنافقون يقولون كلماتهم لا بوساطة كتاب بل بوساطة أفواههم، وهذا تبجح في النفاق، فلو كانوا يستحون لهمسوا به: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ إذن فاللسان لم يتفق مع القلب. فالقلب منعقد ومصر على الكفر - والعياذ بالله - واللسان يتبجح ويعلن الإيمان.
1867
ونعرف أن «الصدق» هو أن يوافق القول الواقع، والواقع في القضية الإيمانية نية في القلب وحركة تُثبت الإيمان، أما المنافقون فلسانهم لا يوافق قلبهم، فلما كان ما في القلب مستورا ثم ظهر إلى الجوارح انكشفوا. وهذا هو السبب في أنهم كانوا أقرب إلى الكفر، ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ وهذا لون من نقص التصوير الإيماني في القلب، كأنهم يعاملون الله كما يعاملون البشر مثلهم.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
1868
فعندما أراد ابن أُبَيٍّ أن يخذل الجيش، وافقه بعض المنافقين ولم يوافقه البعض. هؤلاء الذين خرجوا للقتال والجهاد ولم يوافقوهم ثم قتلوا فرحوا فيهم، وقالوا: لو كانوا أطاعونا ومكثوا في المدينة ولم يخرجوا لما انهزموا ولما قتلوا، وكأن الحق يوضح لنا أسلوبهم؛ لذلك سنأخذهم من منطقهم.. هم قعدوا وقالوا عن إخوانهم الذين قُتلوا في المعركة والذين هم من جماعتهم: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ كأن قولا صدر منهم: «أن اقعدوا» ولكن القوم الآخرين الذين هم أقل نفاقا. لم يطاوعوهم وخرجوا، فحدث لهم ما حدث.
فكيف يرد الله على هذه؟ انظروا إلى الرد الجميل: أنتم تقولون: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾، فكأن طاعتكم كانت وسيلة لسلامتهم من القتل. إذن فأنتم تعرفون طريق السلامة من القتل. والذي يعرف طريق السلامة من القتل هل يعرف طريق السلامة من الموت؟ ولذلك يقول الحق سخرية بهم: ﴿فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ وفي ذلك رد عليهم من كلامهم ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾.
1868
وما دمتم تعرفون وسيلة للسلامة من القتل فاستعملوا هذه الوسيلة في أن تدفعوا عن أنفسكم الموت. وأنتم مع المتقدمين منكم والحاضرين تموتون ولا تستطيعون رد الموت عنكم، إذن فأنتم لا تعرفون طريق السلامة من الموت؛ فكم من مُحارب عاد من الحرب سليما، وكم من هَارب من القتال قد مات وانتهى، وهَبْ أن بعضا من المؤمنين المقاتلين قد قُتل، إن الذي قُتل في المعركة ليس أهون على الله ممن سلم من المعركة، هؤلاء أحب إلى الله وقد عجل الله لقاءهم وأنزلهم المنزل المقرب عنده.
ونعرف أن الحدث إنما يُحمد ويُذم بالنسبة للغاية منه، فكل حدث يُقربك من الغاية يكون محموداً، وكل حدث يُبعِدك عن الغاية يكون غير محمود، فإذا كانت الغاية أن تذهب إلى الاسكندرية مثلا؛ فقد تذهب إليها ماشيا فتحتاج إلى عدة أيام، وقد تذهب إليها راكبا دابة فتحتاج إلى زمن أقل، أو تذهب إليها راكبا عربة فيقل الزمن لساعات، أو تذهب إليها راكبا طائرة فتصلها في نصف الساعة، فكلما كانت الوسيلة قوية كان الزمن قليلا؛ لأننا نعلم أن القوة الفاعلة في النقلة تتناسب مع الزمن تناسبا عكسيا. وكلما زادت القوة قل الزمن، وما دامت غايتي أن أذهب إلى الاسكندرية. فالذي يُعجل لي الزمن ويقلله لأذهب إليها أفضل أم لا؟ إنها الوسيلة الأفضل.
فما دامت الغاية أن تذهب إلى لقاء الله وأن تعيش في جواره ومعيته، فحين يُعجل الله ببعضنا فيأخذهم من أقصر طريق فهذا أفضل بالنسبة لهم أم لا؟ هذا أفضل، وهكذا نرى أن الناس تنظر للموت نظرة حمقاء، إن موت المؤمن الحق الصادق الإيمان إنما يقربه إلى الغاية، فما الذي يُحزنني!
1869
أنتم تخافون الموت، ولكن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا بميتين، لأن حياتهم حياة موصولة؛
إن هناك فارقا كبيرا بين الموت والشهادة، فالذي يقتل شهيدا تكون حياته موصولة، ولن يمر بفترة موتنا نحن، ولنفهم أنهم أحياء عند ربهم، أي بقانونه سبحانه، فلا تُحَكّم قانونك أنت، فأنت - كما قلت - لو فتحت القبر ستجد هؤلاء القتلى مجرد أشلاء. هم عندك أشلاء وأموات في قانونك أنت. لكنهم أحياء عند ربهم يرزقون؟
فالحياة تختلف عن الموت في ماذا؟ إن الإنسان إذا زهقت روحه وفارقت جسده انقطعت حياته، في ظاهر الأمر انتهى ولم يعد ينتفع برزق ولا بأكل؛ لأن الرزق جُعل لاستبقاء الحياة إذن فلا رزق، لكن الله سبحانه يريد أن يعطينا مواصفات تؤكد أن الشهيد حي. ومن ضروريات الحياة أنه يٌرزق أي ينتفع باستبقاء الحياة، وعلينا أن نفهم أن العندية عندك غير العندية عند الله. فالشهيد حي عند ربه ويُرزق عند ربه رزقا يناسب الحياة التي أرادها له ربه. ونعلم أن الرزق هو الخاصية التي توجد للأحياء. وعندما نقرأ قول الله: ﴿أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ قد يقول قائل: من الجائز أنك تأخذ إنسانا وتُبقيه حيا وتعطيه طعاما وشرابا لكن أهو فرح بموقعه؟ لا. لذلك يجب أن ندرك ونعرف أن حياة الشهيد ليست في قبره ولكنها عند ربه وهو فَرِح بموقعه لذلك يقول الحق: ﴿فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
والعدل يتحقق بين البشر بأن كلا منهم يموت. ولكن الفضل أن يعجل الله انقضاء الحياة في الدنيا لمن يُحبهم بالاستشهاد وينقلهم إلى رضوانه ونعيمه {فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن
1870
فَضْلِهِ} وليس هذا فقط، بل إننا نجد الأخوة الإيمانية قد بقيت فيهم وليست كخاصية الأحياء بل أنقى وأبقى من خاصية الأحياء، فالخاصية الإيمانية تقتضي أن يُحب المؤمن لأخيه ما يُحب لنفسه، والشهداء في حياتهم عند ربهم كذلك، مما يدل على أن الحياة التي يحياها الشهداء هي حياة نامية فيها رزق ومواجيد وفرح، وكل شهيد يعتبر أن هذا فضل من الله قد فضله به. ولذلك فالشهيد يستبشر بالذي لم يأت من بعده من إخوانه المؤمنين ويقول: يا ليتهم يأتون ليروا ما نراه.
﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم﴾ :﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾ من البُشرى، والبشرى هي الخبر السّار ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم﴾ ويلحقوا أي يأتوا بعدهم، فالشهداء يقولون: إنهم سيأتون لنا وما داموا سيأتون لنا فنحن نٌحب أن يكونوا معنا في النعيم والخير الذي نحيا فيه. وكل منهم يشعر بالمحبة لأخيه، لأنه يعلم قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه». وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن فضلهم قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا من الحرب. فقال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآيات: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ وما بعدها.
ونعرف أن»
البِشْرَ «عادة هو الفرحة، وهي تبدو عَلَى بشَرة الإنسان، فساعة يكون الإنسان فرحا، فالفرحة تظهر وتُشرق في وجهه ولذلك نُسميها» البشارة «، لأنها تصنع في وجه المُبشَّر شيئا من الفرح مما يعطيه بريقا ولمعانا وجاذبية.
﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي أن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم، فهؤلاء الذين لم يستشهدوا بعد قد يخوضون معركة ما، فيقول الحق على لسان الشهداء لكل منهم: لا تخف لأنك ستذهب لخير في الحياة ﴿أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
1871
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ... ﴾
1872
إن الحق سبحانه لا يضيع أجر هؤلاء الذين قاتلوا في سبيل الله، وها هو ذا سبحانه وتعالى يقول: ﴿الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح... ﴾
انظر إلى المنزلة العالية كي تعلم أن الهزة التي حدثت في أُحُد أعادت ترتيب الذرات الإيمانية في نفوس المؤمنين. ولذلك أراد الله ألا يطول أمد الغم على مَن ندموا بسبب ما وقع منهم، وألا يطول أمد الكفار الذين فرحوا بما أُلحق بالمؤمنين من الضرر في المعركة الأخيرة، هؤلاء المشركون فرحون، وهؤلاء المسلمون في حزن؛ لأننا قلنا: ما داموا مسلمين ومؤمنين فلهم الحق، وإن قَصَّروا فعليهم عقوبة، وسبحانه قد أنزل بهم العقوبة لكن بقي لإسلامهم حق على الله؛ لأنه أجرى تلك الأقدار ليُهذب ويُمحص ويُربي، فلا يطيل أمد الغم على المؤمنين ولا يمد الفرحة للكافرين، فيأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والحالة كما تعلمون هكذا، ويؤذن مؤذنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الناس بطلب قريش قائلا: «لا يخرجن معنا إلا من حضر معنا القتال».
1872
ويخرج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهم بعدد لايزيد على عدد المقاتلين الذين كانوا يواجهونهم حتى لا يقال إنهم جاءوا بمددٍ إضافي، بل بالعكس، فالذين خرجوا لمطاردة الكفار هم الذين بقوا مع الرسول في أُحد، ونقص منهم من قُتل ونقص منهم أيضا كل من أثقلته جراحه. لقد كانوا أقل ممن كانوا في المعركة، وكأن الله يريد أن يبين لنا أن التمحيص قد أدى مطلوبه.
هم في هذه الحالة استجابوا للرسول، كأن المسألة جاءت رد اعتبار لمن شهدوا المعركة؛ حتى لا يضعفوا أمام نفوسهم؛ وحتى لا يجعلوها زلة تطاردهم وتلاحقهم في تاريخهم الطويل، بل يعلمون أن معركة أُحد قد انتهت وعرفوا آثارها.
وبمجرد أذن مؤذن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنداء السابق استجابوا جميعا، ولم يُسمح إلا لجابر بن عبد الله أن يكون إضافة لهم؛ لأنه أبدى العذر في أنه لم يكن مع القوم؛ لأن له أخوات سبعاً من البنات وأمره أبوه أن يمكث مع أخواته لرعايتهن، فسمح له رسول الله.
- وكما قلنا - فإن الله أراد بكل أحداث أُحُدٍ أن يُعيد ترتيب الذرات الإيمانية، وما دامت الذرات الإيمانية قد انتظمت فقد تم إصلاح جهاز الاستقبال عن الله، وفي لحظة واحدة يستجيبون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أنهم يلاحقون الكفار، وذهبوا إلى حمراء الأسد وكان ما كان. وبعد ذلك أرسل الله لهم من جنوده من يُخَذِّلُ هؤلاء القوم الكافرين، ويقول لهم: إن محمدا قد خرج إليكم بجيش كبير.
ونلحظ أن الحق سبحانه يجيء هنا بقوله: ﴿الذين استجابوا﴾ وهي تقابل «من خالفوا» أمر رسول الله وهم الرماة، ﴿الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح﴾.
لقد استجابوا وهم مُرهقون ومُتألمون ومثخنون بالجراح؛ فكل واحد منهم قد
1873
ناله نصيب من إرهاق القتال، ومع ذلك استجابوا لله وللرسول، وكل منهم أصابه القَرح أو القُرح.. يعني الألم أو الجرح، ﴿مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وهم قد أحسنوا في الاستجابة؛ لذلك فلهم الأجر العظيم، ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لأن ما حدث منهم من أمر المخالفة قد أخذوا عليه العُقوبة.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً... ﴾
1874
المسألة ليست ذلك فقط، المسألة أن المنافقين راحوا يُروجون إشاعات كاذبة بأن المشركين قد اسْتَدعوا عددا جديدا من كفار مكة وذلك ليخيفوا المؤمنين، فلم يخف مؤمن واحد ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم﴾ وساعة ترى كلمة «الناس» فاعرف أن الإيمان بعيد عنها، وما داموا «أناسا» فهم يقابلون أناسا آخرين، ومن يغلب فهو يغلب بجهده وشطارته وحسن تصرفه، لكن المؤمن يقابل الكافر، والمؤمن يتلقى المدد من ربه.
قيل: إن الشيطان قد يتمثل على هيئة حشد من الناس ليُرهب المؤمنين، والشيطان من عالم الجن، وعالم الجن يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، وقد أعطاه الله القدرة على أن يتشكل بما يُحب. فله أن يتشكل في إنسان، في حيوان، أو كما يريد، ولكن إذا تشكل فالصورة تحكمه لأنه ارتضى أن يخرج عن واقعه ليتشكل بهيئة أخرى، فإذا ما تشكل على هيئة إنسان، فقانون الإنسان يسري عليه، بحيث
1874
إن كان معك مسدس أو سيف أو خنجر وتمكنت منه وطعنته يموت. وهذا هو ما رحمنا من تخويفهم لنا.
ولذلك تجد أن الشيطان يظهر لمحة خاطفة ثم يختفي، لأنه يخاف أن يكون الإنسان الذي أمامه واعيا بأن الصورة تحكمه، فعندما يتمثل لك بأي شكل تخنقه فيُخنق؛ لذلك يخاف من الإنسان، فلا يظهر إلا في لمحات خاطفة.
ويمكن أن نفهم أيضا قول الحق: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ أن هناك بعضا من الكفار أشاعوا أن أبا سفيان وصحبه قد حشدوا حشودهم، فكلمة «جمعوا» تعطي إيحاء بأنهم جاءوا بمقاتلين آخرين، أو أن فلولهم قد تجمعت، وسواء هذا أو ذاك فهم عندما فروا فروا فلولا، لأن القوم المنهزمين لا يسيرون سيرا منتظما يجمعهم، بل يسير كل واحد منهم حسب سرعته، ويصح أن يتجمعوا ثانية، أو جاءوا بناس آخرين، ولنا أن نلحظ أن الأسلوب يحتمل كل ذلك.
﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم﴾ ومثل هذا القول قد يفت في عضد المؤمنين، لكن التمحيص الإيماني قد صقل معسكر الإيمان فلم يهتموا بهذا الكلام، وهكذا أثمر الدرس الأول، لقد تعلموا أن المخالفة عن أمر الله الممثل في أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مجرد المخالفة تجعل الضعف يسرى في النفس، لكن التثبت والتمسك بأوامر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُعزز الإحساس بالقوة؛ لذلك لم يأبهوا لهذا التهديد بل قالوا: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ فلم يهتموا بالعدد وفهموا أن الإيمان يقتضي أن يقاتلوا الكافرين حتى يُعذبهم الله بأيديهم، وفي هذا درس لكل مُحارب، فعندما تحارب، فأنت إما أن تكون منصورا بإيمانك بالله وإما أن تكون على عكس ذلك:
﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى﴾ [الأنفال: ١٧]
1875
لقد فطنوا إلى أنفسهم، وتغير الترتيب الإيماني في أعماقهم، ونلمس ذلك في أن بعضا من الناس جاءوا يصدونهم ويخذلونهم، فلم يستطيعوا بل زادهم هذا القول إيمانا ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾، لقد فطنوا إلى أن قوة الله هي التي تنصرهم والله حسبهم وكافيهم عن أي عدد من الأعداد وهو نعم الوكيل، ومعنى «الوكيل» أنني عندما أعجز عن أمر أُوَكِّلُ أحدا فهو وكيل عني، وعندما نوكل الله فيما عجزنا عنه فهو نعم الوكيل، لماذا؟ وتأتينا الإجابة: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله﴾، ولقد نصروا بالرعب الذي أنزله الله في قلوب أعدائهم ولم يشتبكوا مع الكفار، فصدق قول الله: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾ [الأنفال: ١٢]
ويأتي الحق من بعد ذلك بما يصدق القضية: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء واتبعوا... ﴾
1876
وهذه القضية يجب أن يستشعرها كل مؤمن يتعرض لتمحيص الحق له، وعلى كل مسلم أن يتذكر تلك التجربة، تجربة أحُد، فليلة واحدة كانت هي الفارق بين يوم معركة أحُد ويوم الخروج لملاحقة الكفار في حمراء الأسد، ليلة واحدة كانت في حضانة الله وفي ذكر لتجربة التمحيص التي مر بها المؤمنون إنها قد فعلت العجب؛ لأنهم حينما طاردوا الكفار، لم يأبهوا لمحاولات الحرب النفسية التي شنها عليهم الأعداء، بل زادهم ذلك إيمانا وقالوا: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾.
1876
إذن فقد تجردوا من نفوسهم ومن حولهم ومن قوتهم ومن عددهم ومن أي شيء إلا أن يقولوا: الله كافينا وهو نعم الوكيل لمن عجز عن إدراك بغيته. لقد عرفوا الأمر المهم، وهو أن يكون كل منهم دائما في حضانة ربه، وقد أخذ صحابة رسول الله وآل بيت رسول الله هذه الجرعة الإيمانية واستنبطوا منها الكثير في حل قضاياهم.
وقول الله سبحانه: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ يُذكرنا بالإمام جعفر الصادق ابن سيدي محمد الباقر بن سيدي علي زين العابدين وكان من أفقه الناس بالقرآن، وكان من أعلمهم في استنباط أسرار الله في القرآن، إنّه كان يجد في قول الحق: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ استنباطا رائعا، فهو يتعجب لأي إنسان أدركه الخوف من أي شيء يخيف، والإنسان لا يخاف إلا أمرا يَنْقُضُ عليه رَتََابَة راحته، ويقلقه ويهدده في سلامه وأمنه واطمئنانه، ويكون لهذا الخوف مصدر معلوم، فإذا ما تعرض المؤمن لمثل هذا الخوف فعليه أن يتذكر قول الحق: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ لأنها قضية نفعت الجيش كله في معركته مع الكفار، فحين يأخذ الفرد هذه الجرعة فهو يستعيد رباطة الجأش. واشتداد القلب فلا يفر عند الفزع.
وينبهنا سيدنا جعفر الصادق إلى هذه القضية لنفزع إليها عند كل ما يُخيفنا فيقول: عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ إنه بنظرته الإيمانية يتعجب لإنسان أدركه الخوف ثم لا يفزع إلى هذا القول الكريم ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾، ثم يستنبط بإشراقاته سر هذا فيقول: لأني سمعت الله بعقبها يقول: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ وانظروا إلى قول سيدنا جعفر الصادق: «فإني سمعت الله بعقبها» هو قرأ بنفسية المؤمن الصادق، فالمؤمن حين يقرأ كلام الله إنما يستحضر أنه يسمع الله يتكلم إنه يقول: فإني سمعت الله بعقبها يقول: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ ولذلك فالحق يقول: ﴿وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٤]
فأنت حين تستمع إلى القرآن فالله هو الذي يتكلم، ومن العيب أن يتكلم ربك في
1877
أذنك ثم تشغل عنه وهو ربك، إذن فعلاج الخوف هو أن تقول من قلبك: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ وأن تقولها بحقّها، فإن قلتها بحقها كفاك الله شرّ ذلك الخوف، لأن الله يقول بعد ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ :﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ انظر إلى النعمة والفضل، إنهما من الله، وقد تصيبك النعمة والفضل ولكن تقدر ذلك في أخريات الأمور، فأوضح الله أن النعمة زادت في أنها غنيمة باردة، ولم يحدث فيها أن مسّنا سوء، إن ذلك هو قمة العطاء ورأسه وسنامه، فإذا قدرته في أخريات الأمور فقد أخطأت التقدير ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ ونتيجة لتلك التجربة النافعة هي أن ﴿اتبعوا رِضْوَانَ الله﴾، وقد نجحت التجربة مع المؤمنين.
ويقول الإمام جعفر الصادق ليكمل العلاج لجوانب النفس البشرية، ويصف الدواء فالنفس البشرية يفزعها ويقلقها ويجعلها مضطربة أن تخاف شرًّا يقع عليها، وعلاج هذا: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾، ويضيف: وعجبت لمن اغتمّ ولم يفزع إلى قول الحق سبحانه: ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧]
و «الغمّ» قلق في النفس، ولكنك لا تدرك أسبابه، فأسبابه مُعقدّة، صدر يضيق، ولذلك تقول: أنا صدري ضيق، أنا متعب ولا أدري لماذا؟ أي لم يمرّ بك الآن أشياء تستوجب هذا، إنما قد تكون حصيلة تفاعلات لأحداث وأمور أنت لا تتذكرها الآن، هذا اسمه «غمّ»، فإذا ما فزع العبد إلى قول الحق سبحانه: ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ فالعبد يقرّ بذنبه ويقول: هذا الغمّ لم يأتني إلا لأنني خرجت عن المنهج، ويذكرنا سيدنا جعفر الصادق بأنه سمع بعدها قول الله: ﴿فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين﴾ [الأنبياء: ٨٨]
والذي قال ذلك هو سيدنا يونس ﴿فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم﴾.
1878
وهذه الاستجابة من الله ليست خاصّية كانت ليونس عليه السلام، لأنه سبحانه قال: ﴿وكذلك نُنجِي المؤمنين﴾ أي أنه باب واسع أدخل الله فيه كل المؤمنين، ويضيف سيدنا جعفر الصادق: وعجبت لمن مُكر به ولم يفزع إلى قول الله: ﴿وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد﴾ [غافر: ٤٤]
فإني سمعت الله بعقبها يقول: ﴿فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ﴾.
ومُكر به معناها بيّت له الشر بحيث يخفى، لأن المكر هو: تبييت من خصمك لشرّ يصيبك، بينما أنت تقف يجانب الحق، فيكون هذا المكر شراً يُبيِّت لخير وحق، وهذا هو المكر السّيء، ويقابله مكر حَسن، ولذلك يقول الحق: ﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣]
إذن فهناك مكرٌ ليس بسيء، كأن يُبيت صاحب الحق لصاحب الشرّ تبييتا يخفى عليه، هذا اسمه مكر خير؛ لأنه محاربة لشرٍّ؛ ولذلك يوضح لنا الله هذا الأمر: افطنوا إلى هذه، فإن كانوا يمكرون ويُبيِّتون، فهم إن بيّتوا على الخلق جميعاً لا يُبيِّتون على الله لأنه سبحانه العليم، الخالق، المُربّي، وإن يُبيّت الله لهم فلن يستطيعوا كشف هذا التبييت، إذن فالله خير الماكرين؛ لأن تبييتهم مكشوف أمام الخالق؛ لذلك فهو مكر ضعيف، أما المكر الحقيقي فهو الذي لا توجد وسيلة تعرفه بها.
ونواصل مع سيدنا جعفر الصادق قوله في علاج النفس البشرية فيقول: وعجبت لمن طلب الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قول الله: ﴿مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله﴾ [الكهف: ٣٩]
فإني سمعت الله يعقبها بقوله:
1879
﴿إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ﴾ [الكهف: ٣٩ - ٤٠]
واستنبط سيدنا جعفر الصادق ذلك من حكاية صاحب الجنة: ﴿ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ﴾ [الكهف: ٣٩ - ٤٠]
إنك حين تقول: ﴿مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله﴾ فإن الدنيا تأتيك مهرولة، لأنك جرّدت نفسك من حولك، ومن قوة حيلتك وأسبابك، وتركت الأمر لله سبحانه وتعالى القادر على كل عطاء.
إذن فالجوانب البشرية في النفس: هي خوف له علاج ووَصْفَة، وهمٌّ له علاج ووصفة، ومكر بك له علاج ووصفة، وطلب دنيا وسعادة لها علاج ووَصْفَة، والوصْفة التي نحن بصددها هنا: ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾.
والنعمة أن يعطيك الله على قدر عملك، والفضل من الله هو أن يزيدك عطاء، ولم يمسس السوء أحداً من المؤمنين الذين طاردوا المقاتلين من قريش، وكان من نتيجة ذلك أنهم جمعوا بين كل ما وهبه الله لهم؛ من نعمة وفضل مع اتباعهم رضوان الله؛ فقد صارت المسألة بالنسبة لهم تجربة مُحسّة ومُجرّبة ﴿واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾.
لقد حاول المنافقون أن يثبطوا المؤمنين عن لقاء كفّار قريش، فيريد الحق أن يكشفهم، ويظهر الدافع إلى مثل ذلك الموقف من المنافقين؛ لذلك قالوا للمؤمنين: ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم﴾
ويظهر الله للمؤمنين حقيقة موقف المنافقين:
1880
﴿إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ... ﴾
1881
إنها صرخة الشيطان الذي يخوِّف أولياءه، ويَصحُّ أن يصرخ الشيطان صرخته وهو يتمثل في صورة بشر، ويصح أن ينزغ الشيطان بصرخته لواحد من البشر فيصرخُ هذا الإنسان بنزغ الشيطان له ﴿إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾.
وعندما نقرأ القرآن بدقة صفائية إيمانية فلا بد أن نفهم عن القرآن بعمق، فمن هم أولياء الشيطان؟ أولياء الشيطان في هذا الموقف، إما كفّار قريش، وإما المنافقون أو هما معا. و ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾ هم أحبابه الذين ينصرون فكرته.
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يُبلّغنا: إنما ذلكم الشيطان الذي قال: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، هذا الشيطان إنما يخوف أولياءه.
وللوهلة الأولى نجد أن الشيطان مُفترض فيه أن يخوّف أعداءه. ونحن هنا أمام شيطان ينزغ بعبارة التخويف، فمن الذي يخاف وممن يخاف؟
المفروض أن يُخيف الشيطانُ أعداءه، هذا هو المنطق.
فنحن في حياتنا العادية نقول: خوّفت فلاناً من فلان، أو خوفت فلاناً فلاناً إذن فالشيطان يحاول هنا أن يتسلط على المؤمنين ويخوفهم من أوليائه الكفار والمنافقين، ونعرف في اللغة أن هناك في بعض المواقف يمكننا أن نحذف حرف الجر ونصل الجملة، ونُسمّيه «مفعولاً منه». مثال ذلك قول الحق: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً﴾ [الأعراف: ١٥٥]
1881
فموسى عليه السلام اختار من قومه سبعين رجلاً.
وعلى ذلك نقرأ قول الحق: ﴿إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ ونفهم منها؛ أن ذلكم الشيطان يخوِّفكم أنتم من أوليائه، لأن حرف الجر في الآية الكريمة محذوف، ويعاضد هذا ويقويه قراءة ابن عباس وابن مسعود: يخوفكم أولياءه، وينبه الحق المؤمنين ألاّ يخافوا من أولياء الشيطان فيقول: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ﴾.
وهذا يوضح لنا أن الشيطان إنما أراد أن يُخوّف المؤمنين من أوليائه وهم المنافقون والكافرون. وبعض المفسرين قال: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ المقصود بهم أن الشيطان يخوّف أولياءه حتى يَجبنوا من القتال، فنزغ فيهم أنهم إن خرجوا للقتال فقد يموتون ولكن إن جاز ذلك القول على المنافقين الذين لم يخرجوا مع الرسول لملاقاة المشركين فكيف يجوز ذلك على الصنف الثاني من أوليائه وهم الكفار؟ إن الكفار قد خرجوا فعلا لقتال المؤمنين. ونفهم من قول الحق: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾ أن أولياء الشيطان ليسوا هم الخائفين ولكنهم هم المخوِّفون: ﴿إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾.
فالحق سبحانه يطلب من المؤمنين أن يصنعوا معادلة ومقارنة، أيخافون أولياء الشيطان، أم يخافون الله؟ ولا بد أن يصلوا إلى الخوف من الله القادر على دحر أولياء الشيطان.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً... ﴾
1882
لقد كان المنافقون في أول المعركة مُختفين ومستورين، ثم ظهرت منهم بادرة الانخذال في أُحُد فكانوا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، ولكنهم من بعد ذلك سارعوا إلى الكفر، فكأن هناك من يلاحقهم بسوط ليتسابقوا إلى الكفر.
وها هو ذا الحق سبحانه قد حدّد عناصر المعركة، أو قوى المعركة، أو ميدان المعركة أو جنود المعركة فينبه رسوله: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ ولم يقل: لن يضروكم شيئا؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحابته المؤمنين ليسوا طرفاً في المسألة، فعداء الذين يسارعون في الكفر هو عداء لله؛ لذلك يقول الحق: ﴿إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾. كأن المعركة ليست مع المؤمنين. ولكنها معركة الكافرين مع الله، وما دامت المعركة مع الله فالمؤمنون جند الله؛ وهم الصورة التي أرادها الله لهزيمة الكافرين: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٤]
فلو كانت معركة الكفر مع المؤمنين بالله فقط لقال الله: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروكم شيئا، لكن المسألة ليست هكذا، لقد أراد معسكر الكفر والنفاق أن يدخل معركة مع الله، ولا توجد قوة قادرة على ذلك، ولهذا يطمئن الله المؤمنين أكثر، ليزدادوا ثباتاً على الإيمان؛ لأن الكل من البشر مؤمنين وكفاراً أغيار، وقد يتحول بعض من البشر المؤمنين الأغيار عن المنهج قليلاً، فعندما تكون المعركة بين بشر وبشر فقد يغلب أحد الطرفين بقوته.
ومن أجل المزيد من الاطمئنان الكامل نقل الله المعركة مع الكفر إلى مسألة أخرى، إنه بجلاله وكماله وجبروته هو الذي يقف ضد معسكر الكفار. والمهم فقط أن يظل المؤمنون في حضانة الله. والرسول كان يحزنه أن يُسارع البعض إلى الكفر. فهل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يعلم أنه إنما جاء مٌبلّغًا فقط؟. إنه يعلم ولكنه كان يحرص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أن يؤمن الناس جميعاً ليذوقوا حلاوة ما جاء به، هذا الحرص هو الذي يدفع الحُزن إلى قلب الرسول، وعندما
1883
يرى واحداً لا يتذوق حلاوة المنهج، فالرسول يأمل أن يذوق الناس كلهم حلاوة الإيمان؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رءوف رحيم بالمؤمنين، بل وبالناس جميعا ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ ودليل ذلك أن جاءه التخيير. «فقد نادى جبريل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:» إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال: يا محمد، إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا» «.
فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يبقى على هؤلاء فقط ولكنه يحرص أيضاً على الأجيال القادمة. وقد كان. وخرج من أولاد كفار قريش صناديد وأبطال وجنود دعوة وشهداء. فَكَان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كما أخبر الله في آيات القرآن - يحزن عندما لا يذوق أحد حلاوة الإيمان، ويقول الحق: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً﴾ [الكهف: ٦]
وفي موقع آخر يقول الحق: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٣ - ٤]
والحق سبحانه وتعالى لا يريد أعناقاً، لكنه يريد قلوباً تأتي له بعامل الاختيار والمحبة، فباستطاعته وهو الخالق الأكرم أن يخلق البشر على هيئة غير قابلة للمعصية، كما خلق الملائكة، إن كل الأجناس تٌسبّح بحمده، إذن فالقرآن يُبيّن حِرصَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يؤمن الناس جميعاً وأن يذوقوا حلاوة اللقاء بربهم،
1884
واتّباع منهج الله وحلاوة التشريع الذي يُسعدهم ويُسعد كل ملكاتهم. فإذا ما جاءت المسائل على غير ما يُحبُّ رسول الله. فها هو ذا قول الله سبحانه: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾.
وهذا دليل على أن الله يريد أن يُبلّغ البشر: أيها الناس إن من فَرْط حُبّ الرسول لكم أنه يحزن من أجل عِصيانكم وأنا الذي أقول له: لا تحزن. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحيم بالأمة كلّها، كما يقول القرآن: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]
ويكفيه موقفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم القيامة، حين تذهب كل أمة إلى رسولها ليردّها، فتأتي الأمم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيُكرمه الله بقبول شفاعته حتى يُعجل الله بالفصل والحساب، وهذه رحمة للعالمين؛ لأنهم من هول الموقف يتمنون الانصراف ولو إلى النار.
ونحن قلنا سابقا: إن الحق سبحانه وتعالى علم انشغال سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمته وبرحمته بهم، فقال له الله - ليريح عواطفه ومواجيده - ما ورد هنا في الحديث الشريف:
فعن عبد الله ابن عمر بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قول الله عَزَّ وَجَلَّ في إبراهيم: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾.
وقول عيسى - عليه السلام - ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾. «فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فسأله، فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل،
1885
اذهب إلى محمد فقل: (إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك) »
ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - له موقف آخر يدل على كمال رحمته بأمته، فقد أنزل الله فيما أنزل من القرآن الكريم - بعد فترة الوحي - قوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى﴾.
انظروا إلى ما ورد عن سيدنا علي في هذه الآية، فقد روِيَ أنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال لأهل العراق: إنكم تقولون: إن أرجى آية في كتاب الله تعالى: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾. قالوا: إنا نقول ذلك قال: ولكنّا - أهل البيت - نقول: إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى﴾. وفي الحديث لما نزلت هذه الآية قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار).
كما روى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة».
وهكذا نرى شغل رسول الله بأمته كأمر واضح موجود في بؤرة شعوره.
إذن فقول الله: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ هو توضيح من الله لرسوله بأنهم لم يسارعوا في الكفر تقصيراً منك، فأنت قد أديت واجبك، ويضيف سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾ ولم يقل سبحانه: إنهم لن يضروك، أو لن يضروا المؤمنين، لا بل لقد جعل سبحانه وتعالى المعركة معه وهو القوى ذو الجبروت إنّه هنا يطمئن المؤمنين.
ويريد الله ألا يجعل للذين يسارعون إلى الكفر حظاً في الآخرة فيقول: {يُرِيدُ الله
1886
أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وما دامت هذه إرادات الله في ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة، أيكون لهم عمل يصادم مرادات ربهم؟ لا.
إنه سبحانه يريد بما شرّع من منهج أن تأتيهم سُنّته، والله يعذّب من يخالف سُنته التي شرعها. لأنه جلت قدرته يطلب من المكلفين أن يطبقوا سنته التي شرعها لهم.
وفرق بين وجود «لام العاقبة» التي تأتي حين يكون في مُراد العبد شيء، ولكن القُدرة الأعلى تريد شيئاً آخر، وهي تختلف عن «لام الإرادة» والتعليل ف «لام الإرادة والتعليل» تتضح في قولنا: ذاكر التلميذ لينجح، لأن علّة المذاكرة هي الرغبة في النجاح، أما «لام العاقبة» فتتضح عندما يقول الأب لابنه: أنا دللتك لترسب آخر العام.
أدللّ الأب ابنه حتى يرسب؟ لا، ولكن الأب يأتي هنا ب «لام العاقبة» أي كان للأب مراد، ولكن قدرة أعلى جاءت على خلاف المراد.
ونوضح المسألة أكثر، فالحق يقول في قصة سيدنا موسى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ [القصص: ٧]
ونحن لا بد أن نتنبه إلى قول الحق: ﴿فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾ والإنسان العادي لو قال لامرأة تحمل رضيعها: إن خفت على ابنك فألقيه في البحر. هذه المرأة لن تُصدّق هذا القائل، لكن أم موسى تلقت هذا الوحي من الله، والتّلقّي من الله لا يُصادمه فكر شيطان ولا فكر بشر، فالإلهام من الله يتجلّى في قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى﴾. وما دام الله هو الذي ألهمها، فإن خاطر الشيطان لا يجيء. ولذلك قامت أم موسى بتنفيذ أمر الله. ويطمئنها الله فقال لها: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ
1887
وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين}.
ويُنبّه سُبحانه أم موسى أنه لن يردّه إليها لمجرد أنه قرة عين، ولكن لأن لموسى أيضاً مُهمّة مع الله. وفي لقطة أخرى يقول الحق عن مسألة الوحي لأم موسى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ [طه: ٣٨ - ٣٩]
والحق هنا في هذه اللقطة يصف وقت تنفيذ العملية التي أوحى بها، ففيه فرق بين التمهيد للعملية قبل أن تقع كما حدث في اللقطة السابقة حيث قال لها الحق: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾. كان ذلك هو الإعداد، ثم جاء وقت التنفيذ، فقال الحق لموسى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى﴾. إنها سلسلة من الأوامر المتلاحقة التي تدل على أن هذه العملية كانت في وقت أخذ جنود فرعون لأطفال بني إسرائيل ليقتلوهم، إنه سبحانه يبين لنا أن جنود الله من الجمادات التي لا تعي تلقت الأمر الإلهي بأن تصون موسى، فكلمة «اقذفيه» تدل على السرعة، وتلقّي «اليم» الأمر من الله بأن موسى عندما يُلقى في البحر، فلا بد أن يلقيه إلى الساحل. ﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل﴾ إنها أوامر للمُسخّر من المخلوقات التي لا تعصى.
لكن كيف تكون أوامر الحق لعدو لله؟ إن الله يدخلها كخاطر مُلحّ في رأس فرعون ليُنفّذ مُراد الله. إن امرأة فرعون تقول له ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: ٩]
لقد دخل أمر الله كخاطر، والتقطه آل فرعون لا ليكون قرة عين لامرأة فرعون، ولكن لأمر مختلف أراده الله.
فهل ساعة الالتقاط كان في بالهم أن يكون موسى عدوّاً
1888
أو قرة عين؟ إنها «لام العاقبة» التي تتضح في قوله: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾. فالإنسان يكون في مُراده شيء، ولكن القدرة الأعلى من الإنسان - وهو الله - تريد شيئاً آخر.
الإنسان في تخطيطه أن يقوم بالعملية لكذا، ولكن القوة الأعلى من الإنسان تريد العملية لهدفٍ آخر، وهي التي أوحت للإنسان أن يقوم بهذه العملية. ويتجلّى ذلك بوضوح في العلة لالتقاط آل فرعون لموسى. كان فرعون يريده قٌرّة عين له، ولكن الله أراده أن يكون عدوّاً لفرعون. وفي هذا المثال توضيح شامل للفرق بين «لام العاقبة» و «لام الإرادة والتعليل» وعندما نرى أحداثاًَ مثل هذه الأحداث فلا نقول: «هذا مراد الله» ولكن فلنقل: (العاقبة فيما فعلوا وأحدثوا خلاف ما خططوا).
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان....﴾
1889
إنهم لن يضروا الرسول وصحابته لأنهم في معيّة الله وهم لن يضروا الله، وفي ذلك طمأنة للمُؤمنين، كأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أيها المؤمنون بي المصدّقون بمحمد إن المعركة مع الكفر ليست معركة المؤمنين مع الكافرين، ولكنها معركة ربكم مع هؤلاء الكافرين وفي هذا اطمئنان كبير.
﴿إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان﴾، و «الاشتراء» صفقة، والصفقة تقتضي «ثمناً» و «مُثمناً». و «الثمن» هنا هو الإيمان، لأن الباء تدخل على المتروك، و «المثمَن» هو الكفر لأنه هو المأخوذ. فهل أخذوا الكفر ودفعوا الإيمان ثمناً له؟
1889
وهل معنى ذلك أن الإيمان كان موجوداً لديهم؟
نعم كان عندهم الإيمان؛ لأن الإيمان القديم هو إيمان الفطرة وإيمان العهد القديم الذي أخذه الله على الذّر قبل أن توجد في الذّر الأغيار والأهواء: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٧٢]
أو على الأقل كان الإيمان والكفر في متناولهم؛ بانضباط قانون الاختيار في النفس البشرية، لكنهم أخذوا الكفر بدل الإيمان. والبدلية واضحة، فقد استبدلوا الكفر بالإيمان، فالباء - كما قلت - دخلت على المتروك. لقد تركوا الإيمان القديم وهو إيمان الذّر، أو تركوا إيمان الفطرة فالحديث الشريف يقول: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه».
لقد انسلوا من الإيمان، ودفهوه ثمنا للكفر، فعندما يأخذ واحد الكفر، فهو قد أخذ الكفر بدلاً من الإيمان وهم ﴿لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لماذا؟ لأننا إن افترضنا أن الدنيا كلها قد آمنت فهذا لن يفيد الله في شيء. والحديث القدسي يقول:
قال الله تعالى: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكُم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على
1890
أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخْيَطُ إذا أُدْخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه».
إذن، فلا الإيمان من البشر يزيد الله شيئاً، ولا الكفر ينقص من الله شيئاً؛ لأن الإنسان قد طرأ على ملك الله، ولم يأت الإنسان في ملك الله بشيء زائد، فالإنسان صنعة الله وخلقه من عناصر ملكه - جلت قدرته - ويستمر الحديث في توضيح أنَّ الحق سبحانه لا يعالج شيئاً بيديه فيأخذ منه زمناً. لا، إنه سبحانه جلّت مشيئته يقول للشيء: كُن؛ فيكون.
وكلمة «كُن» نفسها هي أقصر أمر. إنّ أمره ألطف وأدق من أن يدركه على حقيقته مخلوق. لكن الحق يأتي لنا بالصورة الخفيفة التي تجعل بشريتنا تفهم الأمر. فالذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضرّو الله شيئاً ولهم عذاب أليم. فهم لن يعيشوا بِنَجْوَةٍ وبُعد عن العذاب، بل سيكون لهم العذاب الأليم.
ونحن نجد أن الحق يقول مرة في وصف مثوى الكافرين إنه عذاب أليم، ومرة أخرى لهم عذاب عظيم ومرة عذاب مهين، لماذا؟
لأن العذاب له جهات متعددة، فقد يُوجد عذابٌ مؤلم، ولكن المُعَّذب يتجلد أمام من يُعذبّه ويُظهر أنه ما زال يملك بقيّة من جَلَد، إنه يتألم لكنه يستكبر على الألم، ولذلك قال الشاعر:
1891
فالتجلّد هو نوع من الكبرياء على الواقع. ولذلك يأتي من بعد ذلك قوله الحق إن لأمثال هؤلاء عذاباً مهيناً، أي إنهم سيذوقون الذّل والألم، ولا أحد فيهم يستطيع التجلد. وهذا النوع من العذاب لا يقف فقط عند حدود الألم العادي، ولكنه عذاب عظيم في كمّيته وقدره، وأليم في وقعه. ومهين في إذلال ودكّ النفس البشرية وغُرورها؛ لذلك فعندما نجد أن العذاب الذي أعده الله للكافرين موصوف بأنه «عذاب أليم» ومرة «عذاب عظيم» ومرة «عذاب مهين» فلنعرف أن لكل واحدة معنى، فليست المسألة عبارات تقال هكذا بدون معنى مقصود.
وأريد أن أقف هنا في هذا الحديث عند «لام العاقبة» لأن البعض يحاول أن يخلق منها إشكالات إنّ هؤلاء المتربصين لكلام الله يحاولون النيل منه، وهم لا يبحثون إلا فيما يتوهّمون - جهلاً - أنه نقاط ضعف، وهو سبحانه وتعالى يقول عن الكفار والعياذ بالله وهم في النار: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٧ - ١١٠]
لقد انشغل الكفار بالسّخرية من أهل الإيمان بإشارات أو لمزٍ وغمزٍ أو اتهام بالرجعية أو الدروشة أو مثل ذلك من ألوان السّخرية، لدرجة أنهم نسوا مسألة الإيمان، فما الذي أنساهم ذكر الله؟ لقد أنساهم ذكر الله انشغالهم بالسّخرية من أهل الإيمان.
لقد قضى الكفار وقتهم كله للسّخرية من أهل الإيمان حتى نسوا ولم يتذكروا أن هناك خالقا للكون. وهذا ما يسمى «غاية العاقبة» وليست غاية وعلة للإرادة، لأنهم لم يريدوا نسيان ذكر الله ولكن أمرهم انتهى إلى ذلك.
وسيُعذّب الله الكافرين عذاباً أليماً وعظيماً ومُهيناً. ولكل وصف مراده في النص
1892
حتى يستوعب كل حالات الإهانة من إيلام، فالذي لا يألم بشيء صغير ولا يتحمل الألم القوي سيجد الألم الكبير، وكذلك الذي يتجلد على الألم العظيم، سيجد الألم المهين.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي... ﴾
1893
وعندما نسمع قول الله: «ولا يحسبن» فهو نهي، وقد نهى الله الكافرين عن ماذا؟ إن الكافر عندما يجد نفسه قد أفلت في المعركة من سيف المؤمنين وأن عمره قد طال في الكفر، فهو يظن أن الحق سبحانه وتعالى تركه لخير له؛ لأنه يفهم أن عمره هو أثمن شيء عنده، فما دام قد حوفظ له على عمره فهو الخير. نقول لمثل هذا الكافر: إن العمر زمن، والزمن وعاء الأحداث، إذن فالزمن لذاته لا يُمَجد إلا بالحدث الذي يقع فيه، فإن كان الحدث الذي يقع في الزمن خيراً؛ فالزمن خير. وإن كان الحدث الذي يقع في الزمن شراً، فالزمن شر وما دام هؤلاء كافرين، فلا بد أن كل حركاتهم في الوجود والأحداث التي يقومون بها هي من جنس الشر لا من جنس الخير، لأنهم يسيرون على غير منهج الله. وربما كانوا على منهج المضادة والمضارة لمنهج الله.
وذلك هو الشر. إذن فالله لا يملي لهم بقصد الخير، إنما يملي الله لهم لأنهم ما داموا على الكفر فهم يشغلون أوقات أعمارهم بأحداث شرّية تخالف منهج الله. وكل حدث شرّى له عذابه وجزاؤه. إذن فإطالة العمر لهم شر.
1893
والحق سبحانه يقول: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ﴾ و «يحسَبَنَّ» هي فعل مضارع، والماضي بالنسبة له هو «حسِب» - بكسر السين - ولذلك قال الحق سبحانه في موقع آخر من القرآن الكريم: ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ٢]
إن الماضي هو «حَسِبَ» - بكسر السين - والمضارع «يحسَب» - بفتح السين -. أما حَسَبَ «يحسِب» - بكسر السين - في المضارع وفتحها في الماضي فهي من الحساب والعدد، وهو عدد رقمي مضبوط.
أمر «حَسِبَ» و «يحسَب» فتأتي بمعنى الظن، والظن كما نعرف أمر وهمي، والحق سبحانه يذكرهم أن ظنونهم بأن بقاء حياتهم هو خير لهم ليست حقاً. بل هي حدس وتخمين لا يرقى إلى اليقين.
صحيح أن العمر محسوب بالسنوات؛ لأن العمر طرف للأحداث، والعمر بذاته - مجرداً عن الأحداث - لا يقال إن إطالته خير أو شر، وإنما يقال: إن العمر خير أو شر بالأحداث التي وقعت فيه، والأحداث التي تقع من الكافر تقع على غير منهج إيماني فلا بد أن تكون شراً، حتى ولو فعل ما ظاهره أنه خير فإنه يفعله مضارة لمنهج الله. فلو كانت المسألة بالعملية الرقمية؛ لقلنا: «حسَب» و «يحسِب» - بفتح السين في الماضي وكسر السين في المضارع - لكن هي مسألة وهمية ظنية؛ لذلك نقول «يحسَب» - بفتح السين في المضارع - أي يظن.
وهو سبحانه يقول: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ ما الإملاء؟ الإملاء هو تمديد الوقت وإطالته. ولذلك نجد في القرآن: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيّاً﴾ [مريم: ٤٦]
إنه يأمر سيدنا إبراهيم أن يهجره مدة طويلة. هذا هو معنى ﴿واهجرني مَلِيّاً﴾.
والمقصود هنا أن إطالة أعمارهم بعد أن أفلتوا من سيوف المؤمنين. ليست خيراً لهم ولا يصح أن يظنوا أنها خير لهم، لأن الله إنما يملي لهم؛ {ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ
1894
عَذَابٌ مُّهِينٌ} وهنا نجد «لام العاقبة».
وإياك أن تقول أيها المؤمن: إن الله قد فعل ذلك ليعاقبهم. لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد وضع سننه في الكون ويطبقها على من يخرج على منهجه، فمن يصنع إثما يعاقبه الله عليه ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ فكل ظرف من الزمن يمر عليهم يصنعون فيه أعمالاً آثمة على غير المنهج.
﴿وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ وتأتي كلمة «مهين» وصفاً للعذاب مناسبة تماماً؛ لأن الكافر قد يخرج من المعركة وقد تملكه الزهو والعجب بأن أحداً لم يستطع أن يقطع رقبته بالسيف، ويتيه بالعزة الآثمة، لذلك فالإيلام هنا لا يكفي، لأنه قد يكتم الألم ويتجلد عليه، ولكن العذاب عندما يكون مهيناً فهو العقاب المناسب لمثل هذا الموقف. والمتكلم هنا هو الله، وسبحانه العليم بالمناسب لكل حال.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ... ﴾
1895
وساعة نسمع «ما كان» فلنعرف أن هنا «جحوداً» أي أن هناك من يجحد القضية ويسمونها «لام الجحود». فقبل حادثة أًحُد، كان المنافقون متداخلين
1895
مع المؤمنين. أكان الله يترك الأمر مختلطاً هكذا، ولا يُظهر المنافقين بأحداث تبين مواقعهم الحقة من الإيمان؟ لا، إنه سبحانه وتعالى لا يقبل ذلك؛ حتى لا يظل المنافقون دسيسة في صفوف المؤمنين. وكان لا بد أن تأتي الأحداث لتكشفهم. وجاءت أحداث أُحُد لتهيج الصف المنسوب إلى الإيمان، وتفرزه ليتميز الخبيث من الطيب، مصداقاً لقوله الحق: ﴿فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض﴾ [الرعد: ١٧]
إذن كانت أحداث أُحُد ضرورية.
وقوله الحق: ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين﴾ مقصود بها أن الله لم يكن ليدع المؤمنين ويتركهم عرضة لاختلاط المنافقين بهم بدون أن يتميز المنافقون بشيء من الأشياء، حتى لا تظل المسألة مقصورة على ما يٌعلمه الله لرسوله من أمر المنافقين. فلو علم الله رسوله فقط بأمر المنافقين، ولو أعلن الرسول ذلك للمؤمنين دون اختبار واقعي للمنافقين لكان ذلك مجرد تشخيص نظري للنفاق يأتي من جهة واحدة، وأراد الله أن تأتي حادثة واضحة وتجربة معملية واقعية تبين وتظهر الواقع، وحتى ينكشف المنافقون، وحتى لا يعترض أحد منهم عندما يوصف بأنه منافق، وحتى لا يكون هذا الوصف مجرد كلام من الخصم، بل بفعل ارتكبوه هم عملياً، وبذلك تكون الحجة قوية للغاية.
لقد كان المنافقون أسبق الناس إلى الصفوف الأولى في الصلاة؛ لأن كل منافق منهم أراد أن يَحبك مسألة نفاقه، ويُواريه، فيحرص على ما يندفع المؤمنون إليه، والمنافق كان يعرف أن المؤمنين يتسابقون إلى الصلاة، فهو يسارع ليكون في الصف الأول من الصلاة. ويخبر الله سبحانه وتعالى رسوله: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٠]
1896
أي لولا حظت كلامهم لعرفتهم، مثلهم مثل كل المنافقين في الدنيا، تلاحظ في كلامهم لقطة من نفاق؛ فالمؤمن حين يجلس مع جماعة من المنافقين ويأتي وقت صلاة الظهر ويدعو الأذان إلى الصلاة، تجد المؤمن يقول: فلنقم إلى الصلاة وهنا يسخر المنافق ويقول للمؤمن: لتأخذني على جناحك للجنة يوم القيامة. ومثل هذه الكلمة يكون «لحن القول». أو عندما يدخل مؤمن على جماعة من الناس فيهم منافق، فيستقبل المنافق المؤمن بلهجة من السخرية في التحية، «كيف حالك أيها الشيخ (فلان) » ؟ ومعنى ذلك أنه غير مستريح لوجود المؤمن فيسخر منه.
وذلك من «لحن القول» الذي يظهر به المنافق.
ومثل هذه العمليات عندما يواجهها المؤمن الواعي المستنير الذي يتجلى الله عليه بالإشراقات النورانية، مثل هذه العمليات تكون وقوداً للمؤمن وتزيد من إيمانه؛ لأن المؤمن على منهج الحق، وقادر على نفسه؟ والمنافق لا يقدر على نفسه؛ لذلك يريد أن يسحب المؤمن من عقيدته ليكون معه على النفاق والعياذ بالله.
وعلى المؤمن أن يوطن نفسه على أنه سيواجه منافقين يريدون أن يردوه عن الإيمان، وسيجد أناساً يسخرون منه ويتغامزون عليه، مصداقاً لقوله الحق: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ [المطففين: ٢٩ - ٣٣]
والمنافق أو الكافر قد يقول لأهله: لقد رأيت اليوم شيخاً أو رجل دين أو متدينا فسخرت منه وأهنته ويتندر المنافق بمثل هذا القول في بيئته الفاسدة، ويكشفها الحق لنا بقوله الكريم. ليطمئن المؤمنين، ويعوض كل مؤمن عما يصيبه من أهل النفاق والفساد:
1897
﴿فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: ٣٤ - ٣٦]
فالحق سبحانه يسأل المؤمنين يوم القيامة: هل قدرنا أن نجازي الكفار والمنافقين الذين سخروا منكم؟ فيقولون: نعم يارب العالمين قد جوزوا وأثيبوا على فعلهم أوفي الجزاء وأتمه وأكمله.
إن سخرية المنافقين والكافرين من المؤمنين لها أمد دنيوي ينقضي، ولكن السخرية في الآخرة لا تنقضي أبداً. وعندما نقيسها نحن المؤمنين، نجد أننا الفائزون الرابحون إن شاء الله. فلو ترك أي منافق ليتداخل في أحضان المؤمنين، ولا يظهر ذلك للمؤمنين لكانت المسألة صعبة العلاج، ولهذا يقول الحق للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٠]
والحق لا يكتفي بذلك، لكنه يكشف لنا واقع المنافقين بتجارب معملية حتى لا يقول واحد منهم: لست منافقاً. وعندما يظهر الله المنافق ويكشفه بحادثة مدوية فعليه، ومخجلة تبين أنه منافق، فيكون قد وُصم بالنفاق، لأن كثيراً من الناس الذين يظلون طوال عمرهم ينافقون اعتماداً على أنهم مسلمون في الظاهر لا يتركهم الله، بل لا بد أن يأتي الله لهم بخاطر من الخواطر ويقعوا في فخ اكتشاف المؤمنين لهم حتى يعرفهم المؤمنون ويقيّموهم على حقيقتهم، فسبحانه وتعالى القائل:
﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب﴾.
وكلمة «يذر» تعني «يترك» أو «يدع». والدارسون للنحو يعرفون أن هناك فعلين هما «يذر» و «يدع»، أهملت العرب الفعل الماضي لهما، فهذان الفعلان
1898
ليس لهما فعل ماضٍ. ونستخدمها في صيغة المضارع.
والحق سبحانه لم يكن ليدع المؤمنين على ما هم عليه من الاختلاط واندساس المنافقين بينهم وعدم معرفة المؤمنين للمنافقين؛ لذلك يميز ويظهر الخبيث من الطيب.
فلا يكتفي بإخبار النبي بأمر الخبثاء فقط، ولكنه يكشف الخبثاء بفعل واقعي. فيقول: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ ؛ لأن الله لو أطلعكم على الغيب لتعرفوا المنافقين لأنكروا أنفسهم منكم وستروها عنكم، ولذلك يجري سبحانه الوقائع لتكشف الخبيث من الطيب، وبعد ذلك يوصم المنافق بالنفاق بإقرار نفسه وإقرار فعله.
﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ﴾. إنه جل وعلا يختار من رسله من يشاء ليطلعهم على بعض الغيب حتى يزدادوا ثقة في أن الله لا يتخلّى عنهم، أي يعطي للرسول دلالات على المنافقين، حتى يزداد الرسول ثقة في أن الله لا يتخلّى عنه.
والله برحمته لا يكشف الغيب لكل المؤمنين، فلو اطلع المؤمن على الغيب لفسدت أمور كثيرة في الكون. وَهَبْ أن الله أطلع الإنسان على غيب حياته، فعرف الإنسان ألف حادثة سارة ثم حادثة واحدة مكدرة؛ فإن كدر الإنسان بالحادثة الواحدة المكدرة التي تقع بعد عشرين عاماً يفسد على الإنسان تنعمه بالأحداث السارة.
وإن كان الإنسان يريد أن يطلع على غيب الناس فهل يقبل أن يطلع على غيبه أحد؟ فلماذا تريد أيها الإنسان أن تعرف غيب غيرك؟ أيرضى أي واحد منا أن يعرف الناس غيبه؟ لا. إذن فستر المعلومات عن الناس وجعلها غيباً هي نعمة كبرى.
ومع ذلك فالناس تُلح أن تعرف الغيب. ونرى من يجري على الدجالين والعرافين ومن يدعون كذباً أنهم أولياء لله، وكل ذلك من أجل أن يعرف الواحد بعضاً من الغيب. وهنا نقول: ليست مهارة العارف في أن يقول لك ماذا سيحدث لك في المستقبل، لكنها في أن يقول واحد من هؤلاء المدّعين لمعرفة الغيب: إن حادثاً مكروهاً سيقع لك، وسأمنعه أو أدفعه بعيداً عنك. لا أحد يستطيع دفع قدر الله
1899
ولذلك فلنترك المستقبل إلى أن يقع. لماذا؟ حتى لا يحيا الواحد منا في الهم والحزن قبل أن يقع. إذن فقول الحق: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ هو سنة من الله لأن نظام الملك ينتظم بها ويحتاج إليها.
فكل إنسان له هزات مع نفسه، وقد تأتي له فترة يضعف فيها في شيء من الأشياء، فإذا ما عرف الغير منطقة الضعف في إنسان ما، وعرف هذا الإنسان منطقة الضعف في أخيه، فلسوف يبدو كل الناس في نظر بعضهم بعضا ضعافاً. ومن فضل الله أن أخفى غيب الناس عن الناس. وجعل الله إنساناً ما قوياً فيما لا نعلم، وذلك قويَّا فيما لا نعلم، وبذلك تسير حركة الحياة بانتظامها الذي أراده الله.
﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ﴾ والحق يجتبي من الرسل، أي بعضاً من الرسل - لا كل الرسل - ليطلعهم على الغيب حتى يعطي لهم الأمان بأنهم موصولون بمن أرسلهم، فهو سبحانه لم يرسلهم ليتخلّى عنهم، لا، إنهم موصولون به؛ لذلك يطلعهم على الغيب، وقلنا: إن الغيب أنواع: فمطلق الغيب: هو ما غاب عنك وعن غيرك.
ولكنَّ هناك غيباً غائباً عنك وهو معلوم لغيرك، وهذا ليس غيباً.
مثال ذلك إن ضاعت من أحدكم حافظة نقوده، وسارقها غيب، ومكانها غيب عن صاحبها، لكن الذي سرقها عارف بمكانها، إذن فهذا غيب على المسروق، ولكنه ليس غيباً على السارق. لأنه ليس غيباً مطلقاً، وهذا ما يضحك به الدجالون على السذج من الناس، فبعض من الدجالين والمشعوذين قد يتصلون بالشيطان أو الجن؛ ويقول للمسروق حكاية ما عن الشيء الذي سُرق منه هؤلاء المشعوذون لا يعرفون الغيب؛ لأن الغيب المطلق هو الذي لا يعلمه أحد، فقد استأثر به الله لنفسه.
ومثال آخر: الأشياء الابتكارية التي يكتشفها البشر في الكون، وكانت سراً ولكن الله كشف لهم تلك الأشياء، وقد يتم اكتشافها على يد كفار أيضاً. فهل قال
1900
أحدٌ: إنهم عرفوا غيباً؟ لا؛ لأن لمثل هذا الغيب مقدمات، وهم بحثوا في أسرار الله، ووفقهم سبحانه أن يأخذوا بأسبابه ما داموا قد بذلوا جهداً، والله يعطي الناس - مؤمنهم وكافرهم - أسبابه. وما داموا يأخذون بها فهو يعطيهم المكافأة على ذلك. ولله المثل الأعلى، وسبحانه منزه عن كل تشبيه، أقول لكم هذا المثل للتقريب:
المدرس الذي يعطي تمرين هندسة للتلميذ ليقوم بحله، فهل مجيء الحل غيب. ؟ لا؛ لأن التلميذ يعرف كيف يحل التمرين الهندسي؛ لأن فيه المعطيات التي يتدبر فيها بأسلوب معين فتعطى النتيجة. وما دام التلميذ يخرج بنتيجة لتمرين ما بعد معطيات أخذها، فذلك ليس غيباً.
ولذلك فعلينا أن نفطن إلى أن الغيب هو ما غاب عن الكل، وهذا ما استأثر الله بعلمه وهو الغيب المطلق، وهو سبحانه وتعالى يطلع عليه بعضاً من خلقه من الرسل، وهو سبحانه القائل: ﴿عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦ - ٢٧]
وأما الأمر المخفي في الكون، وكان غيباً على بعض من الخلق ثم يصبح مشهداً لخلق آخرين فلا يقال إنه غيب، وعرفنا ذلك أثناء تناولنا بالخواطر لآية الكرسي: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلي العظيم﴾ [البقرة: ٢٥٥]
1901
إن الحق سبحانه قد نسب هنا الإحاطة للبشر، ولكن بإذن منه، فهو يأذن للسر أن يولد، تماماً كما يوجد للإنسان سلالات ولها أوقات معلومة لميلادها، كذلك أسرار الكون لها ميلاد.
وكل سر في الكون له ميلاد، هذا الميلاد ساعة يأتي ميعاده فإنه يظهر، ويحيط به البشر. فإن كان العباد قد بحثوا عن السر وهم في طريق المقدمات ليصلوا اليه ووافق وصولهم ميعاد ميلاده، يكونوا هم المتكشفين له. وإن لم يحن ميعاد ميلاد هذا السر فلن يتم اكتشافه واذا حان ميلاد السر ولم يوجد عالم معملي يأخذ بالأسباب والمقدمات فالله يخرج هذا السر كمصادفة لواحد من البشر. وحينئذ يقال: إن هذا السر قد ولد مصادفة من غير موعد ولا توقع.
وأسرار الله التي جاءت على أساسها الاكتشافات المعاصرة، كثير منها جاء مصادفة. فالعلماء يكونون بصدد شيء، ويعطيهم الله ميلاد سر آخر. إذن فليس كل اكتشاف ابناً لبحث العلماء في مقدمات ما، ولكن العلماء يشتغلون من أجل هدف ما، فيعطيهم الله اكتشاف أسرار أخرى؛ لأن ميلاد تلك الأسرار قد جاء والناس لم يشتغلوا بها. ويتكرم الله على خلقه ويعطيهم هذه الأسرار من غير توقع ولا مقدمات.
ويستمر سياق الآية ﴿فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وهو سبحانه يخاطب المؤمنين. والحق سبحانه وتعالى إذا خاطب قوماً بوصف، ثم طلب منهم هذا الوصف فما معناه؟. ومثال ذلك قول الحق سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ﴾ [النساء: ١٣٦]
إنهم مؤمنون، والحق قد ناداهم بهذا الوصف. معنى ذلك أنه يطلب منهم الالتزام بمواصفات الإيمان على مر الأزمان لان الايمان هو يقين بموضوعات الايمان في ظرف زمني والأزمان متعاقبة لأن الزمن ظرف غير قارٍ. و «غير قارٍ» تعني أن الحاضر يصير ماضياً، والحاضر كان مستقبلاً من قبل. فالماضي كان في البداية مستقبلاً، ثم صار حاضراً، ثم صار ماضياً. والزمن «ظرف»، ولكنه ظرف غير قار.. أي غير ثابت. لكن المكان ظرف ثابت قار. فكأن الله يخاطبك: إن الزمن الذي مر قبل أن أخاطبك شُغِل بإيمانك، والزمن الذي يجيء أيضاً اشغله بالإيمان.
1902
ّإذن معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم. ﴿وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ولنا أن نتصور عظمة عطاء الحق، فالمنهج الإيماني يعود خيره على من يؤديه، ومع ذلك فالله يعطي أجراً لمن اتبع المنهج. إذن فعندما يضع الحق سبحانه وتعالى منهجاً فإنه قد فعله لصالح البشر وأيضاً يثيبهم عليه، وهو يقول: ﴿فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى﴾ [طه: ١٢٣ - ١٢٤]
إن المتَّبع للمنهج يأخذ نفعه ساعة تأدية هذا المنهج. ويزيد الله فوق ذلك انه سبحانه يعطي المتبع للمنهج أجراً، وهذا محض الفضل، وقلنا من قبل: إن العمر الذي يمده الله للكافرين والمنافقين ليس خيراً. إذن فعلى الناس أن يأخذوا المسائل والأزمنة بتبعات وآثار ونتائج ما يحدث فيها.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة... ﴾
1903
لقد ظن بعض من المنافقين والكفار أن طول العمر ميزة لهم، وها نحن أولاء بصدد قوم آخرين ظنوا أن المال الذي يجمعونه هو الخير فكلما زاد فرحوا. فيقول الحق: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾. فالمال قد جاءهم
1903
من فضل الله، ذلك بأنهم دخلوا الدنيا بغير جيوب. ولا أحد فينا قد رأى كفناً له جيوب. ولا أحد فينا قد رأى قماط طفل وليد له جيوب. فالإنسان يدخل الدنيا بلا جيب، ويخرج بلا جيب. وكل ما يأتي للإنسان هو من فضل الله، فلا أحد قد ابتكر الأشياء التي يأتي منها الرزق. ويمكن أن تبتكر من رزق موجود. فتطور في الوسائل والأسباب وللإنسان جزء من الحركة التي وهبها الله له ليضرب في الأرض، ولكن لا أحد يأتي بأرض من عنده ليزرع فيها، ولا أحد يأتي ببذور من عنده لم تكن موجودة من قبل ويزرعها، ولا أحد يأتي بماء لم يوجد من قبل ليروي به، فالأرض من الله، والبذور عطاء من الله، والماء من رزق الله، وحتى الحركة التي يتحرك بها الإنسان هي من فضل الله.
فبالله لو أراد إنسان أن يحمل الفأس ليضرب في الأرض ضربة، فهل يعرف الإنسان كم عضلة من العضلات تتحرك ليرفع الفأس؟ وكم عضلة تتحرك حين ينزل الفأس؟!!
وعندما يضرب الإنسان الفأس. فهو يضربها في أرض الله. والذي أراد لنفسه فأساً فإنه يذهب إلى الحداد ليصنعها له، لكن هل سأل الإنسان نفسه من أين أتى الحديد؟ وفي هذه قال الحق: ﴿وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد: ٢٥]
إذن فماذا تُوجد أنت أيها الإنسان؟
أنت تأخذ المواد الخام الأولية من عند الله، وتبذل فيها الحركة الممنوحة لك من الله، وأنت لا توجد شيئاً من معدوم؛ بل إنك توجد من موجود، فكل شيء من فضل الله. وأنت أيها الإنسان مضارب في كون الله. فعقلك الذي يفكر، من الذي خلقه؟ إنه الله. وجوارحك التي تنفعل للعقل من الذي خلقها؟ إنه الله.
وجوارحك تنفعل في منفعل هو الأرض، بآلة هي الفأس، ثم ترويها بماء هو
1904
نازل من السماء. فما الذي هو لك أيها الإنسان؟ إن عليك أن تعرف أنه ليس لك شيء في كل ذلك، إنما أنت مضارب لله. فلتعطه حق المضاربة.
والحق سبحانه لايطلب إلا قدراً بسيطاً من نتاج وثمرة الأرض.. إن كانت تروي بماء السماء فعليك عشر نتاجها. وإن كانت الأرض تروي بآلة الطنبور أو الساقية فعليك نصف العشر.
والذي يزرع أرضا فإنه يحرثها في يوم، ويرويها كل أسبوعين.
أما الذي يتاجر في صفقات تجارية فهي تحتاج إلى عمل في كل لحظة، لذلك فإن الحق قدّر الزكاة عليه بمقدار اثنين ونصف بالمائة.
إذن فكلما زادت حركة الإنسان قلل الله قدر الزكاة. وهذه العملية على عكس البشر. فكلما زادت حركته. فإنهم يأخذون منه أكثر!!
والله سبحانه يريد أن توجد الحركة في الكون؛ لأنه إن وجدت الحركة في الكون انتفع الناس وإن لم يقصد التحرك. وبعد ذلك فأين يذهب الذي يأخذه الله منك؟. إنه يعطيه لأخ لك ولغيره. فما دام سبحانه يعطي أخاً لك وزميلاً لك من ثمرة ونتيجة حركتك، ففي هذا اطمئنان وأمان لك، لأن الغير سيعطيك لو صرت عاجزاً غير قادر على الكسب. وفي هذا طمأنينة لأغيار الله فيك. فإن جاءت لك الأغيار فستجد أناساً يساعدونك، وبذلك يتكاتف المجتمع وهذا هو التأمين الاجتماعي في أرقى معانيه. إذن فهذا كله من فضل الله.
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ﴾ إن الذين يبخلون بفضل الله يظنون أن البخل خير لمجرد أنه يكدس عندهم الأموال، وليس ذلك صحيحاً؛ لأن الحق يقول: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة﴾ أي أن ما بخلوا به يصنعه الله طوقاً في رقبة البخيل، وساعة يرى الناس الطوق في رقبة البخيل يقولون: هذا منع حق الله في ماله.
1905
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصور هذه المسألة تصويراً دقيقاً حين يبين لنا أن من يُطلب منه حق الله ولم يؤده، يأتي المال الذي منعه وضن وبخل به يتمثل لصاحبه يوم القيامة «شجاعاً أقرع» وهو ثعبان ضخم، ويطوق رقبته. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول: «أنا مالُك أنا كنزك» ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ إلى آخر الآية «.
إذن فالذي يدخر بخلاً على الله فهو يزيد من الطوق الذي يلتف حول رقبته يوم القيامة.
﴿وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ نعم فلله ميراث السماوات والأرض، ثم يضعها فيمن يشاء، فكل ما في الكون نسبته إلى الله، ويوزعه الله كيفما شاء. إن الإيمان يدعونا ألاّ ننتظر بالصدقة إلى حالة بلوغ الروح الحلقوم، فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال:»
إن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم: «لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» لانه عند وصول الروح الى الحلقوم لا يكون له مال.
قول الحق: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ قضية تجعل القلب يرتجف خوفاً ورعباً، فقد يدلس الإنسان على البشر، فتجد من يتهرب من الضرائب ويصنع تزويراً دفترين للضرائب، واحداً للكسب الصحيح وآخر للخسارة الخاطئة ويكون هذا المتهرب من الضرائب يملك المال ثم ينكر ذلك، هذا الإنسان عليه أن يعرف أن الله خبير بكل ما يعمل. وبعد ذلك يقول الحق: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ... ﴾
1906
روى - في سبب نزول هذه الآية الكريمة: قال سعيد بن جُبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - لما نزل قوله تعالى: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ قالت اليهود: يا محمد افتقر ربك، فسأل عباده القرض؟ فأنزل الله ﴿لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾.
والذين عايشوا الإسلام في المدينة كانوا من اليهود. واليهود كما نعرف كانوا يَدِلون ويفخرون على العالم بأنهم أهل كتاب وعلم ومعرفة، ويدلون على البيئة التي عاشوا فيها أنهم ملوك الاقتصاد كما يقولون الآن عن أنفسهم. كل من يريد شيئاً يأخذه من اليهود. وكانوا يبنون الحصون ويأتون بالأسلحة لتدل على القوة. وجاء الإسلام وأخذ منهم هذه السيادات كلها، ثم تمتعوا بمزايا الإسلام من محافظة على أموالهم وأمنهم وحياتهم.
أكان الإسلام يتركهم هكذا يتمتعون بما يتمتع به المسلمون أمناً واطمئناناً، وسلامة أبدان وسلامة أموال ثم لا يأخذ منهم شيئاً؟ لقد أخذ منهم الإسلام الجزية. فلم يكن من المقبول أن يدفع المسلم الزكاة ويجلس اليهود في المجتمع الإيماني دون أن يدفعوا تكلفة حمايتهم. ولذلك أرسل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيدنا أبو بكر الصديق الى اليهود في المكان الذي يتدارسون فيه فعن ابن عباس قال: دخل ابو بكر الصديق بيت المدراس فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال: أشيع، فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله من عند الله قد جاء بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، إنه
1907
إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنّا غنيَّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فضرب وجه فنحاص ضربا شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدوّ الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين.
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر» ؟ فقال يا رسول الله: إن عدوّا الله قال قولا عظيما، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجَهه فجحد فنحاص ذلك وقال: ما قلت ذلك.
فأنزل الله فيما قال فنحاص ﴿لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾.
هؤلاء لم يفطنوا إلى سر التعبير الجميل في قوله سبحانه: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ [الحديد: ١١]
فإن هذا القول هو احترام من الحق - سبحانه - لحركة الإنسان في التملك. لماذا احترم الله حق الإنسان في التملك؟ هو سبحانه يريد أن يغري المتحرك بزيادة الحركة، ويحمل غير المتحرك على أن يتحرك. فإن طلب سبحانه شيئاً من هذا المال فهو لا يقول للإنسان: أعطي ما أعطيت لك. بل كأنه سبحانه يقول: إنني سأحترم عرقك، وسأحترم حركتك، وسأحترم فكرك، وسأحترم جوارحك وطاقاتك وكل ما فيك، فإن أخذتُ منك شيئاً فلن أقول لك أعطني ما أعطيت لك، لكن أقول لك: أقرضها لي؛ وإن أقرضتها فسوف تقرضها لا لأنتفع بها، ولكنها لأخيك. وقد اقترض من القادر فيما بعد وذلك لك أنت إذا أصابتك الحاجة. لماذا لأنني أنا الله الذي استدعيت خلقي إلى الوجود. وما دمت أنا الله الذي استدعيت الخلق إلى
1908
الوجود فأرزاقهم مطلوبة مني.
إن الواحد من البشر عندما يدعو اثنين من أصدقائه فهو يصنع طعاماً يكفي خمسة أو عشر أشخاص. وما دام الله هو الذي استدعى الخلق إلى الوجود فهو الذي يكفل لهم الرزق. وعندما يكفل لهم الرزق فلا بد أن يتحركوا. وعندما يتحركون فهو سبحانه يضمن آثار الحركة، وذلك حتى ينال كلٌ ما يرضيه، أو على الأقل ما يكفيه من الضروريات.
ولذلك عندما جاءت آثار الحركة من المال وتدخل البشر فيها تأميماً وغير ذلك من الإجراءات قلّت الحركة. لكن الله سبحانه وتعالى يعلم حرص الإنسان على منفعة نفسه فيغريه بذلك حتى يتحرك وسينتفع المجتمع بحركته، سواء قصد الإنسان أو لم يقصد. إذن فحين يقترض الحق سبحانه وتعالى من بعض خلقه لبعض خلقه، فهو سبحانه لا يتراجع فيما وهب. بل يقول جل وعلا: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: ١١]
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نحن البشر قد نضطر إلى هذا الموقف؛ فالواحد منا عندما يعطي أبناءه مصروف اليد، فكل ابن يدخر ما يبقى منه، وبعد ذلك يأتي ظرف لبعض الأبناء يتطلب مالاً ليس في مُكنْة الوالد ساعة يأتي الحدث. فيقول الوالد لأبنائه: أقرضوني ما في «حصّالاتكم»، وسأردها لكم مضاعفة، هو أخذها لأخيهم، لكن لأنه الذي وهب أولاً فلم يرجع في الهبة، لكنه طلبها قرضاً. وعندما يأتي أول الشهر فهو يرد القرض مضاعفاً، فإن كان ذلك ما يحدث في مجال البشر فما بالنا بما يحدث من الخالق الوهاب لعباده؟.
هو سبحانه يقول: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾.
لكن اليهود لم يأخذ المسألة بهذا الفهم، لكنه أخذها بغباء المادة فقال: إن الله فقير ونحن أغنياء. لذلك قال الحق سبحانه: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾.
1909
ولماذا يكتب الله ذلك وهو العالم بكل شيء؟. جاء هذا القول ليدل على التوثيق أيضاً، فعندما يأتي هذا الرجل ليقرأ كتابه يوم القيامة يجدها مكتوبة؛ فالكتابة لتوثيق ما يمكن أن يُنكر - بالبناء للمجهول - فإذا كان العلم من الله فقط فالعبد قد يقول:
إنك يارب الذي تعاقب. فلك أن تقول ما تقول. فإذا ما كان مكتوباً عليهم ليقرأوه. فهذا توثيق لا يمكن إنكاره.
ولم يفهم ذلك اليهودي أن القرض لله هو تلطف من الحق سبحانه وتعالى واستدرار لحنان الإنسان على الإنسان. فقد شاء الحق أن يحترم أثر مجهودك وعرقك أيها الإنسان، فإن وصلت إلى شيء من المال فهو مالك. ولم يقل الله لك: أعط أخاك، فسبحانه وتعالى تلطفاً مع خلقه يقول: أقرضني؛ ليضمن الإنسان أن ما أعطاه إنما هو عند ملئ. لكن أدب بني إسرائيل مع الله مفقود، فقد قالوا من قبل: ﴿وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ [المائدة: ٦٤]
وسبب ذلك إنه أصابتهم سنة وجدب وذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن عباس: «إن الله وسع على اليهود في الدنيا حتى كانوا أكثر الناس مالا، فلما عصوا الله وكفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذبوه ضيّق الله عليهم في زمنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال فنحاص بن عازوراء ومن معه من يهود: يد الله مغلولة فأنزل الله هذه الآية. إنهم قالوا: السماء بخلت علينا ويد الله مغلولة، فلم تعطنا رزقاً. وهكذا كان اجترأوا عليه بكلمة أو على أصحابه باستهزاء، فسبحانه يوضح لرسوله: أنهم لم يصنعوا ذلك معك ولا مع أتباعك،
1910
إن هذا هو موقفهم مني أنا فإذا كان موقفهم وسوء أدبهم وصل بهم إلى أن يجترئوا على الذات المقدسية العليّة، ويقولون: ﴿إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾ ويقولون: ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾. أفتحزن وتأسى على أن يقولوا لك أو لأتباعك أي شيء يسيء إليكم؟
إنها نعمت المواساة من الله لرسوله ونعمت التسلية. ويضيف الحق: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾. لماذا يكتب الله ما قالوا مع أن علمه أزلي لا يُنسى؟ ﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾ [طه: ٥٢]
لقد جاءت كلمة» سنكتب «حتى لا يؤاخذهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنهم فعلوه، ولكن بما كتب عليهم وليقرأوه بأنفسهم، وليكون حجة عليهم، كأن الكتابة ليست كما نظن فقط، ولكنها تسجيل للصوت وللأنفاس، ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطوراً:
﴿اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ [الإسراء: ١٤]
وهذا القول يدل على أنه ساعة يرى الإنسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه، وإذا كنا نحن الآن نسجل على خصومنا أنفاسهم وكلماتهم أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل الأنفاس والأصوات والحركات بحيث إذا قرأها الإنسان ورآها لا يستطيع أن يكابر فيها أو ينكرها؟ ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾ وهم قالوا: ﴿إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾ وهذا معصية في القمة، وتبجح على الذات العلية، ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا الأنبياء الذين أرسلهم الله لهدايتهم؛ لذلك يقول الحق: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾.
وعندما يأتي هذا النبأ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو تسلية له من الحق سبحانه. لقد قالوا في ربك يا محمد ما قالوا، وقتلوا الأنبياء إخوانك، فإذا صنعوا معك ما صنعوا فلا تحزن فسوف يُجازَوْن على ما كتبناه عليهم بشهادة أنفسهم، ونقول: ذوقوا عذاب الحريق. والحريق يصنع إيلاماً إحساسياً في النفس.
1911
والإحساس يختلف من حاسة إلى أخرى، فمرة يكون الإحساس بالبصر، ومرة بالأذن، ومرة بالشم أو باللمس أو بالذوق.
والذوق هو سيد الأحاسيس، فهو لا يضيع من أحد أبداً، فقد نجد إنساناً أعمى، وآخر أصم، أو شخصاً ثالثاً أصيب بالشلل فلا تستطيع يده أن تلمس، وقد يصاب واحد بزكام مستمر فلا يصبح قادراً على الشم، أما الذوق فهو حاسة لا تختفي من أي إنسان، لذلك أن الذوق أمر من داخل الذات؛ لذلك فهو أبلغ في الإيلام. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ١١٢]
انظر إلى التعبير القرآني ﴿فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف﴾. جاء التعبير بالإذاقة، وجاء بشيء لا يذاق وهو اللباس. وهل اللباس يذاق؟ لا، لكنه سبحانه يريد ان ينبه الإنسان إلى أن كل الحواس التي فيه تحس، حتى تلك الحاسة المختفية داخل النفس، إنّ ذلك يَشمل كل جزء في الإنسان.
فالإذاقة تحيط بالإنسان في هذا التصوير البياني القرآني الكريم: ﴿فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف﴾. إذن فهي شدة وقع الإيلام؛ واستيعاب العذاب المؤلم لكل أجزاء الجسم حتى صار الذوق في كل مكان. ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾، والحريق هو النار القوية التي تحرق ومن بعذ ذلك يقول الحق: ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ... ﴾
1912
﴿ذلك﴾ إشارة إلى عذاب الحريق. والحق سبحانه لم يظلمهم، لكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم. ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ فهل معنى ذلك أن كل المعاصي من تقديم اليد؟ إن هناك معصية للعين، ومعصية للسان، ومعصية للرجل، ومعصية للقلب، ولا حصر للمعاصي. فلماذا إذن قال الحق: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ ؟
قال الحق ذلك لأن الأعمال الظاهرة تٌمارس عادة باليد؛ فاليد هي الجارحة التي نفعل بها أكثر أمورنا، وعلى ذلك يكون قول الحق: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ مقصود به: بما قدمتم بأي جارحة من الجوارح.
وبعد ذلك يخبرنا سبحانه: ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ لقد أذاقهم عذاب الحريق نتيجة ما كتبه عليهم؛ من قول وفعل. والقول هو الافتراء باللسان حين قالوا: ﴿إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾. والفعل هو قتلهم الأنبياء. فهم يستحقون ذلك العذاب.
والقضية العامة في الإله وعدالة الإله أنه ليس بظلام للعبيد.
وهنا وقفة لخصوم الإسلام من المستشرقين، هم يقولون: الله يقول في قرآنهم ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾، وكلمة «ظلام» هي مبالغة في كلمة «ظالم»، ففيه «ظالم» وفيه «ظلاّم»، و «الظَّلاّم» هو الذي يظلم ظلماً قوياً ومتكرراً؛ ف «ظلاّم» هي صيغة مبالغة في «ظالم».
وحين نرد عليهم لا بد لنا أن نعرف أن صيغ المبالغة كثيرة، فاللغويون يعرفون أنها: فعّال، فعيل، مفعال، فعول، فَعِل، فظلاَّم مثلها مثل قولنا: «أكَّال»، ومثل قولنا: «قتَّال» بدلاً من أن نقول: «قاتل» فالقاتل يكون قد ارتكب جريمة القتل مرة واحدة، لكن ال «قتَّال» هو من فعل الجريمة مرات كثيرة وصار القتل حرفته. ومثل ذلك «ناهب»، ويقال لمن صار النهب حرفته: «نَهَّاب» أي أنه إن نهب ينهب كثيراً، ويعدد النهب في الناس.
وهذه تسمى صيغة المبالغة. وصيغة المبالغة إن وردت في الإثبات أي في الأمر
1913
الموجب فهي تثبت الأقل، فعندما يقال: «فلان ظلاّم» فالثابت أنه ظالم أيضاً، لأننا ما دمنا قد أثبتنا المبالغة فإننا نثبت الأقل. ومثل ذلك نقول: «فلان علاّم» أو «فلان علاّمة» فمعنى ذلك أن فلاناً هذا عالم. ولكن إذا قلنا: «فلان عالم» فلا يثبت ذلك أنه «علاّمة». فصيغة المبالغة ليس معناها «اسم فاعل» فحسب، إنها أيضاً اسم فاعل مبالغ فيه، لأن الحدث يأتي منه قوياً، أو لأن الحدث متكرر منه ومتعدد. فإذا ما أثبتنا صفة المبالغة فمن باب أولى تثبت صفة غير المبالغة فإذا ما قال واحد: «فلان أكّال» فإنه يثبت لنا أنه آكل، هذا في الإثبات.
والأمر يختلف في النفي. إننا إذا نفينا صفة المبالغة تثبت الصفة التي ليس فيها مبالغة من باب أولى. أما إذا نفيت صفة المبالغة فلا يستلزم ذلك نفي الصفة الأقل.
والتذليل للآية التي نحن بصددها الآن هو ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.
يفهم المستشرقون من هذا القول أنه مجرد نفي للمبالغة في الظلم لكنها لم تنف عنه أنه ظالم ولم يفهم المستشرقون لماذا تكون المبالغة هنا: إن الحق قد قال: إنه ليس بظلاَّم للعبيد، ولم يقل إنه ليس بظلام للعبد. ومعنى ذلك أنه ليس بظلام للعبيد من أول آدم إلى أن تقوم الساعة، فلو ظلم كل هؤلاء - والعياذ بالله - لقال إنه ظلام، حتى ولو ظلم كل واحد أيسر ظلم. لأن الظلم تكرر وذلك بتكرر من ظُلِم وهم العبيد، فإن أريد تكثير الحديث فليفطن الغبي منهم إلى أن الله قال: ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ ولم يقل إنه ليس بظلام للعبد.
وإذا كان الظالم لا بد أن يكون أقوى من المظلوم، أذن فكل ظلم يتم تكييفه بقوة الظالم. فلو كان الله قد أباح لنفسه أن يظلم فلن يكون ظالماً؛ لأن عظم قوته لن يجعله ظالماً بل ظَلاَّما.
فإن أراد الحدث فيكون ظلاماً، وإن أردنا تكراراً للحدث فيكون ظلاماً. وحين يحاول بعض
1914
المستشرقين أن يستدركوا على قول الحق: ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ فهذا الاستدراك يدل على عجز في فهم مرامي الألفاظ في اللغة أو أنّ هؤلاء يعلمون مرامي الألفاظ ويحاولون غش الناس الذين لا يملكون رصيداً لغوياً يفهمون به مرامي الألفاظ. ولكن الله سبحانه وتعالى يُسخر لكتابه من ينبه إلى إظهار إعجازه في آياته.
وبعد أن انتهى الحق من غزوة أُحُد، فهو سبحانه يريد أن يقرر مبادئ يبين فيها معسكرات العداء للإسلام: معسكر أهل الكتاب، ومعسكر مشركي قريش في مكة، ومعسكر المشركين الذين حول المدينة وكانوا يغيرون على المدينة.
فبعد غزوة أُحٌد التي صفّت، وربّت، وامتحنت وابتلت، وعرّفت الناس قضايا الدين، أراد الحق بعدها أن يضع المبادئ.
فأوضح القرآن: أن هؤلاء أعداؤكم؛ تذكروهم جيداً، قالوا في ربكم كذا، ويقولون في رسولكم كذا، وقتلوا أنبياءكم.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار... ﴾
1915
هم يدّعون ذلك ويقولون: ربنا قال لنا هذا في التوراة؛ إياكم أن تؤمنوا برسول
1915
يأتيكم، حتى يأتيكم بمعجزة مُحسة، هذه المعجزة المُحسّة هي أن يقدم الرسول قرباناً فتنزل نار من السماء تأكله.
هذا كان صحيحاً، وكلنا نسمع قصة قابيل وهابيل: ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين﴾ [المائدة: ٢٧ - ٢٨]
ونريد أن نقبل على القرآن ونتدبر: لماذا جاء هذا اللفظ: ﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر﴾ ؟ إن القبول من الله، وهو مسألة سرية عنده، فكيف نعرف نحن أن الله تقبل أو لم يتقبل؟ لا بد أنه الله قد جعل للقبول علامة حسية. ونحن نعرف أن الإنسان قد يعمل عملاً فيقبله الله، ونجد إنساناً آخر قد يعمل عملاً ولا يقبله الله والعياذ بالله، فمن الذي أعلمنا أن الله قد قبل عمل إنسان وقربانه، ولم يقبل عمل الآخر وقربانه؟.
وبما أن القبول سر من أسرار الله إذن فلن نعرف علامة القبول إلا إذا كانت شيئاً مُحساً، بدليل قوله: ﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر﴾. وقال الذي لم يتقبل الله قربانه: ﴿لأَقْتُلَنَّكَ﴾ كأن الذي قبل الله قربانه قد عرف، والذي لم يتقبل الله قربانه قد عرف أيضاً، إذن فلا بد أن هناك أمراً حسياً قد حدث.
وقلنا: إن الله كان يخاطب خلقه على قدر رشد عقولهم حساً ومعنى؛ ولذلك كانت معجزاته سبحانه وتعالى للأنبياء السابقين لرسول الله هي من الأمور المُحسة. فالمعجزة التي آتاها الله لإبراهيم كانت نارا لا تحرق، وعصا سيدنا موسى تنقلب حية، وسيدنا عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله. والمعجزة الحسية لها ميزة أنها تقنع الحواس، ولكنها تنتهي بعد أن تقع لمرة واحدة. لكن المعجزة العقلية التي تناسب رشد الإنسانية، هي المعجزة الباقية،
1916
وحتى تظل معجزة باقية فلا يمكن أن تكون حسية.
إذن فعندما تأتي معجزة خالدة لرسول هو خاتم الرسل، والذي سوف تقوم القيامة على المنهج الذي جاء به هذه المعجزة لا بد أن تكون ذات أمد ممتدّ، والامتداد يناقض الحسيّة؛ لأن الحسّية تظل محصورة فيمن رآها، والذي لم يرها لا يقولها ولا يؤمن بها إلا إذا كان على ثقة عظيمة بمن أخبره بها. وابنا آدم، قابيل وهابيل قرّب كل منهما قربانا.
و «قُربان» مثلها في اللغة مثل «غفران» و «عُدوان» والقُربان هو شيء أو عمل يتقرب به العبد من الله.
وقبول هذا العمل من البر هو سرّ من أسرار الله. فما الذي أدرى هؤلاء أن قربان هابيل قد تقبّله الله ولم يتقبل الله قربان قابيل؟ لا بد أن تكون المسألة حسيّة. ولا بد أن قابيل وهابيل قد اختلفا، ولكن القرآن لم يقل لنا على ماذا اختلفا، إنها دعوى أن واحداً منهما مُقرّب إلى الله أكثر، ولكن بأي شكل؟ لم يظهر القرآن لنا ذلك، ولو كانت المسألة مهمة لأظهرها الله لنا في القرآن الكريم، فلا تقل كان الخلاف على زواج أو غير ذلك. فالذي ظهر لنا من القرآن أن خلافاً قد وقع بينهما أو أنهما قد حكما السماء. ومبدأ تحكيم السماء لا يستطيع أحد أن ينقضه. وكان لكل واحد منهم شُبهة. وعندما قامت الشبهة التي لقابيل ضد الشبهة التي لهابيل، فلا إقناع من صاحب شبهة، ولذلك ذهبا إلى التحكيم.
ونحن في عصرنا الحديث عندما نختلف على شيء فإننا نقول: نجري قرعة. وذلك حتى لا يرضخ إنسان لهوى إنسان آخر، بل يرضخ الاثنان للقدر، فيكتب كل منهما ورقة ثم يتركان ثالثا يجذب إحدى الورقتين. أما هابيل وقابيل فيذكر القرآن الكريم: ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر﴾.
إذن فكل واحد منهما كانت له شبهة، ولا أحد منهما بقادر على إقناع الثاني؛ لذلك قال قابيل بعد أن قبل الله قربان هابيل: ﴿لأَقْتُلَنَّكَ﴾ فماذا قال هابيل؟. قال: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾.
1917
إذن فالذي يتقبل الله منه القربان هو الذي سيُقْتل. والذي يملأه الغيظ هو من لم يتقبل الله قربانه، وهو الذي سوف يَقْتُل. فماذا قال صاحب القربان المقبول: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين﴾ [المائدة: ٢٨]
إذن فهذا أهل لأن يتقبل الله قربانه، لأنه متيقظ الضمير بمنهج السماء، وهذه حيثية لتقبل القربان.
وحتى لا نظن أن الآخر «قابيل» كله شر لمجرد أن الشهوة سيطرت عليه، لكن الحق يظهر لنا أن فيه بعض الخير، ودليل ذلك قول الحق: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين﴾ [المائدة: ٣٠]
وهذا القول يدل على أنه تردد، فلا يقال: «طوّعت الماء»، ولكن يقال «طوّعت الحديد»، فكأن الإيمان كان يعارض النفس، إلا أن النفس قد غلبت وطوّعت له قتل أخيه. وعندما قتل قابيل أخاه وهدأت شرّة الغضب وسُعار الانتقام، رأى أخاه مُلقى في العراء: ﴿فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين﴾ [المائدة: ٣١]
وعلى هذا النسق قال اليهود: إن الله أوصانا ألا نؤمن برسول إلا بعد أن يأتي بمعجزة من المُحسّات.
لماذا قالوا ذلك؟. قالوا ذلك لأن معجزة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الكبرى وهي القرآن الكريم لم تكن من ناحية المحسّات وانتهى عهد الإعجاز بالمحسّات فقط، فرسولنا له معجزات حسية كثيرة، ونظرا لأن هذه ينتهي إعجازها بانقضائها فكان القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة وهو الذي يناسب الرسالة
1918
الخاتمة، فهم طلبوا أن تكون المعجزة بالمحسّات حتى يصنعوا لأنفسهم شبه عذر في أنهم لم يؤمنوا، فقالوا ما أورده القرآن:
﴿الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا﴾.. إلخ.
وعلمنا الحق في هذه الآية أن القربان تأكله النار، ومن هذا نستنبط كيف تقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، لكي نفهم أن القرآن لا يوجد به أمر مكرر. والحق سبحانه يرينا ردوده الإلهية المقنعة الممتعة:
﴿قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ﴾.. إلخ الآية.
لقد جائكم رسل قبل رسول الله بالقربان وأكلته النار ومع ذلك كفرتم. فلو كان كلامكم أيها اليهود صحيحاً، لكنتم آمنتم بالرسل الذين جاءوكم بالقربان الذي أكلته النار. وهكذا يكشف لنا الحق أنهم يكذبون على أنفسهم ويكذبون على رسول الله، وأنها مجرد «مماحكات» ولجاج وتمادٍ في المنازعة والخصومة.
والحق سبحانه يأمر رسوله أن يسأل: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ؟
هو سبحانه يريد أن يضع لنا قضية توضح أن عهد المعجزات الحسيّة وحدها قد انتهى، ورُشد الإنسانية وبلوغ العقل مرتبة الكمال قد بدأ؛ لذلك أتى سبحانه يآية عقلية لتظلّ مع المنهج إلى أن تقوم الساعة. ولو كانت الآية حسيّة لاقتصرت على المعاصر الذي شهدها وتركت من يأتي بعده بغير معجزة ولا برهان. أما مجيء المعجزة عقلية فيستطيع أي واحد مؤمن في عصرنا أن يقول: سيدنا محمد رسول الله وتلك معجزته. ولكن لو كانت المعجزة حسيّة وكانت قربانا ً تأكله النار، فما الذي يصير إليه المؤمن ويستند إليه من بعد ذلك العصر؟
إن الحق يريد أن يعلمنا أن الذي يأتي بالآيات هو سبحانه، وسبحانه لا يأتي بالآيات على وفق أمزجة البشر، ولكنه يأتي بالآيات التي تثبت الدليل؛ لذلك فليس للبشر أن يقترحوا الآية. هو سبحانه الذي يأتي بالآية، وفيها الدليل. لماذا؟
1919
لأن البعض قد قال للرسول: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٠ - ٩٣]
لقد كانت كل هذه آيات حسيّة طلبوها، والله سبحانه وتعالى يرد على ذلك حين قال لرسوله: إن الذي منعه من إرسال مثل هذه الآيات هو تكذيب الأولين بها:
﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون﴾ [الإسراء: ٥٩]
فحتى هؤلاء الذين قالوا: لن نؤمن حتى تأتي بقربان تأكله النار قد جاءهم من قبل من يحمل معجزة القربان الذي تأكله النار، ومع ذلك كذبوا، إذن فالمسألة مماحكة ولجاج في الخصومة. ويُسلّي الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتسلية الله لرسوله هنا تسلية بالنظير والمثل في الرسل. كأن الحق يوضح: إن كانوا قد كذبوك فلا تحزن؛ فقد كذبوا من قبلك رسلاً كثيرين، وأنت لست بِدعاً من الرسل.
1920
ويتسامى الحق سبحانه وتعالى بروح سيدنا رسول الله إلى مرتبة العلو الذي لا يرقى إليه بشر سواه، فيقول: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ [الأنعام: ٣٣]
فالمسألة ليست مسألتك أنت إنهم يعرفون أنك يا محمد صادق لا تكذب أبداً ﴿ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾. أي هذا الأمر ليس خاصا بك بل هو راجع إليّ فلا أحد يقول عنك إنك كذّاب هم يكذبونني، الظالمون يجحدون وينكرون آياتي فالحق سبحانه يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هنا للتسلية ويعطيه الأسوة التي تجعله غير حزين مما يفعله اليهود والمكذبون به فيقول: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات والزبر والكتاب المنير﴾ [آل عمران: ١٨٤]
ونعرف أن الشرط سبب في وجود جوابه. فإذا كان الجواب قد حصل قبل الشرط فما الحال؟. الحق يوضح: إن كذبوك يا محمد فقد كذبوا رسلاً من قبلك. أي أن «جواب الشرط» قد حصل هنا قبل الشرط وهذه عندما يتلقفها واحد من السطحيين أدعياء الإسلام، أو من المستشرقين الذين لا يفهمون مرامي اللغة فمن الممكن أن يقول:
إن الجواب في هذه الآية قد حصل قبل الشرط. وهنا نرد عليه قائلين: أقوله تعالى: ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ..﴾ هو جواب الشرط.. أم هو دليل الجواب؟ لقد جاء الحق بهذه الآية ليقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
فإن كذبوك فلا تحزن، فقد سبقك أن كَذّب قوم رسلَهم، إنها علة لجواب الشرط، كأنه يقول:
فإن كذبوك فلا تحزن. إذن فمعنى ذلك أن المذكور ليس هو الجواب، إنما
1921
هو الحيثية للجواب ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات﴾.. إلخ.
وعندما نقول: «جاءني فلان بكذا» فقد يكون هو الذي أحضره، وقد يكون هو مجرد مصاحب لمن جاء به.
ولنضرب هذا المثل للإيضاح - ولله المثل الأعلى - فلنفترض أن موظفاً أرسله رئيسه بمظروف إلى إنسان آخر، فالموظف هو المصاحب للمظروف.
إذن فالبينات جاءت من الله، لكن هؤلاء الرسل جاءوا مصاحبين ومؤيِّدين بالبينات كي تكون حُجة لهم على صدق بلاغهم عن الله، ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات﴾. أي جاءوا بالآيات الواضحة الدلالة على المراد. والآيات قد تكون لفتاً للآيات الكونية، وقد تكون المعجزات.
ونعلم أن كل رسول من رسل الذين سبقوا سيدنا رسول الله كانت معجزتهم منفصلة عن منهجهم، فالمعجزة شيء وكتاب المنهج شيء آخر. «صحف إبراهيم» فيها المنهج لكنها ليست هي المعجزة؛ فالمعجزة هي الإحراق بالنار والنجاة، وموسى عليه السلام معجزته العصا وتنقلب حية، وانفلاق البحر، لكن كتاب منهجه هو «التوراة»، وعيسى عليه السلام كتاب منهجه «الإنجيل» ومعجزته العلاج وإحياء الموتى بإذن الله، إذن فقد كانت المعجزة منفصلة عن المنهج، إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فإن معجزته القرآن، ومنهجه في القرآن، لماذا؟
لأنه جاء رسولاً يحمل المنهج المكتمل وهو القرآن الكريم، ومع ذلك فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الرسول الخاتم، فلا بد أن تظل المعجزة مع المنهج؛ كي تكون حُجة، إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿جَآءُوا بالبينات﴾ : أي المعجزات الدالات على صدقهم.
﴿والزبر والكتاب المنير﴾ أي الكتب التي جاءت بالمنهج، فهم يحتاجون إلى أمرين اثنين: منهج ومعجزة.
و «البينات» هي المعجزة أي الأمور البينة من عند الله وليست من عند أي واحد
1922
منهم، ثم جاء «المنهج» في ﴿الزبر والكتاب المنير﴾. ومعنى «الزِبْر» : الكتاب، وما دام الشيء قد كُتب فقد «زبره» أي كَتَبَهُ، وهذا دليل على التوثيق أي مكتوب فلا ينطمس ولا يمحى فالزَّبْر الكتابة، و «الزَّبْر» تعني أيضا الوعظ؛ لأنه يمنع الموعوظ أن يصنع ما عظم أي يمتنع عن الخطأ وإتيان الانحراف، و «الزَّبْر» أيضا تعني العقل؛ لأنه يمنع الإنسان من أنْ يرد موارد التهلكة.
والذين يريدون أن يأخذوا العقل فرصة للانطلاق والانفلات، نقول لهم: افهموا معنى كلمة «العقل»، معنى العقل هو التقييد، فالعقل يقيدك أن تفعل أي أمر دون دراسة عواقبه. والعقل من «عَقَلَ» أي ربط، كي يقال هذا، ولا يقال هذا، ويمنع الإنسان أن يفعل الأشياء التي تؤخذ عليه. و «الزبر» أيضاً: تحجير البئر؛ فعندما نحفر البئر ليخرج الماء، لا نتركه. بل نصنع له حافة من الحجر ونبنيه من الداخل بالحجارة. كي لا يُردم بالتراب وكل معاني الزبر ملتقية، فهو يعني: المكتوبات، والمكتوبات لها وصف، إنّها منيرة، وهذه الإنارة معناها أنها تبين للسالك عقبات الطريق وعراقيله، كي لا يتعثر.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يسلّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويوضح له: لا تحزن إن كذبوك؛ فقد كذب رسل من قبلك، والرسل جاءوا بالمنهج وبالمعجزة، وبعد أن يعطي الله للمؤمنين ولرسول الله مناعة ضد ما يذيعه المرجفون من اليهود وضد ما يقولون، وتربية المناعة الإيمانية في النفس تقتضي أن يخبرنا الله على لسان رسوله بما يمكن أن تواجهه الدعوة؛ حتى لا تفجأنا المواجهات ويكشف لنا سبحانه بما سيقولون. وبما سيفعلونه.
ونحن نفعل ذلك في العالم المادي: إذا خفنا من مرض ما كالكوليرا - مثلاً - ماذا نفعل؟ نأخذ الميكروب نفسه ونُضْعِفُه بصورة معينة ثم نحقن به السليم؛ كي نربّي فيه مناعة حتى يستطيع الجسم مقاومة المرض.
ثم بعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى بقضية إيمانية يجب أن تظل على بال المؤمن دائماً. هذه القضية: إن هم كذبوك فتكذيبهم لا إلى خلود؛ لأنهم سينتهون
1923
بالموت، فالقضية معركتها موقوتة، والحساب أخيراً عند الحق سبحانه، ولذلك يقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة... ﴾
1924
ونلاحظ أن كلمة ﴿ذَآئِقَةُ﴾ جاءت أيضاً هنا، ونعرف أن هناك «قتلا» وهناك «موتا»، فالموت معناه أعم وهو: انتهاء الحياة سواء أكان بنقض البنية مثل القتل، أم بغير نقض البنية مثل خروج الروح وزهوقها حتف الأنف، ولذلك فالعلماء الذين يدققون في الألفاظ يقولون: هذا المقتول لو لم يُقتل، أكان يموت؟ نقول: نعم؛ لأن المقتول ميت بأجله، لكن الذي قتله هل كان يعرف ميعاد الأجل؟ لا. إذن فهو يُعاقب على ارتكابه جريمة إزهاق الروح، أمّا المقتول فقد كتب الله عليه أن يفارق الحياة بهذا العمل.
إذن فكل نفس ذائقة الموت إما حتف الأنف وإمّا بالقتل. ولأن الغالب في المقتولين أنهم شهداء، والشهداء أحياء، لكن الكل سيموت. يقول تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ [الزمر: ٦٨]
انظروا إلى دقة العبارة: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي إياكم أن تنتظروا نتيجة إيمانكم في هذه الدنيا، لأنكم إن كنتم ستأخذون على إيمانكم ثوابا في الدنيا
1924
فهذا زمن زائل ينتهي، فثوابكم على الإيمان لا بد أن يكون في الآخرة لكي يكون ثوابا لاينتهي.
ونعرف ما حدث في بيعة العقبة الثانية؛ حينما أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الأنصار عهوداً، قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ لم يقل لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ستنتصرون أو ستملكون الدنيا، بل قال: «الجنة» قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، فلو وعدهم بأي شيء في الدنيا لقال له أي واحد فطن منهم: ما أهونها، لذلك عندما قال واحد لصاحبه: أنا أُحبك قدر الدنيا؛ فقال له: وهل أنا تافه عندك لهذه الدرجة؟ فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إياكم أن تفهموا أن جزاء الإيمان يكون في الدنيا، لأنه لو كان في الدنيا لكان زائلاً ولكان قليلا كجزاء على الإيمان، لأن الإيمان وصل بغير منتهٍ وهو الله، فلا بد أن يكون الجزاء غير منتهٍ وهو الجنة، فقال: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾.. وأخذ أهل اللمح من كلمة «توفون» أن هناك مقدمات؛ لأن معنى «وفيته أجره» أي أعطيته وبقي له حاجة وأكمل له، نعم هو سبحانه يعطيهم حاجات إيمان، ويكفي إشراقة الإيمان في نفس المؤمن، فالجواب لا بد أن يكون متمشياً مع منطق من يسمع هذه الآية؛ فقد يموت من يسمعها بعد قليل في معركة، وما دام قد مات في المعركة فهو لم ير انتصاراً، ولم ير غنائم ولا أي شي، فماذا يكون نصيبه؟ إنه يأخذ نصيبه يوم القيامة «توفون» فمن نال منها شيئاً في الدنيا بالنصر، بالغنائم، بالزهو الإيماني على أنه انتصر على الكفر فهذا بعض الأجر، إنما الوفاء بكامل الأجر سيكون في الآخرة، لأن كلمة التوفية تفيد أن توفية الأجور وتكميلها يكون في يوم القيامة، وأن ما يكون قبل ذلك فهو بعض الأجور التي يستحقها العاملون.
ويقول الحق: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ﴾ عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا إن شئتم: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَاز»
1925
وعندما تقول: زحزحت فلاناً، معناها أنه كان متوقفا برعب، فكيف يحدث ذلك عند النار؟. ونعرف أن النار سببها المعصية، والمعصية كانت لها جاذبية للعصاة، ويأتي الإيمان ليشدهم فتأخذهم جاذبية المعصية، فكذلك يكون الجزاء بالنار. إذن فالنار لها جاذبية لأنها ستكون في حالة غيظ.. ولذلك يقول ربنا: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ﴾ [الملك: ٨]
النار تتميز من الغيظ على الكافرين. وما معنى تميز من الغيظ؟ أما رأيت قِدْراً يفور؟ ساعة يفور القدر فإن بعض الفقاقيع تخرج منه وتنفصل عما في القدر، وهذا «تميز» أي تفترق، والإنسان منا عندما يكون في حالة غيظ تخرج منه أشياء كفقاقيع غليان القدر إنه يرغي ويزبد أي اشتد غضبه، وهذه الفقاقيع تحرق من يقف أمامها أو يلمسها، وهي من شدة الفوران تميز بعضها وانفصل عن القدر، كذلك النار، ولماذا تميز من الغيظ؟ إنها تميز من الغيظ من الكافرين؛ لأنها أصلها مٌسبحة حامدة شاكرة، وبعد ذلك يقول لها الحق: ﴿هَلِ امتلأت﴾ [ق: ٣٠] وتقول ﴿هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ [ق: ٣٠]
وذلك مما يدل على أن كلمة: ﴿تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ﴾ حقيقة؛ ولذلك يبين لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن النار لها جاذبية، فالنار إنما كانت نتيجة المعصية في الدنيا، والمعصية في الدنيا هي التي تجذب العصاة، يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الفراش والجنادب يَقعْن فيها وهو يذبّهُنّ عنها، وأنا آخذ بِحُجُزكم عن النار وأنتم تَفَلّتُون من يدي» انظر إلى التشبيه الجميل - حين توقد ناراً في خلاء فأول مظهر هو أن ترى الفراش والهوامّ والبعوض تأتي على النار، ولذلك يقولون: رُبّ نفس عشقت مصرعها.
لقد جاءت تلك الحشرات على أساس أنها جاءت للنور، إننا نرى ذلك عندما نٌشعِل موقداً في الخلاء فأنت تجد حوله الكثير من هذه الحشرات صرعى، تلك
1926
الحشرات عشقت مصرعها، إنها قد جاءت إلى النور ولكن النار أحرقتها، كذلك الإنسان العاصي يعشق مصرعه؛ لأنه لا يعرف أن هذه الشهوة ستدخله النار.
﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار﴾ أي أن النار لها جاذبية مثل جاذبية المعصية عندما تأخذ الإنسان، ومجرد الزحزحة عن النار، حتى وإن وقف بينهما لا في النار ولا في الجنة فهذا حسن، فما بالك إنْ زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ لقد زال منه عطب وأعطى صالحاً.
وهذه حاجة حسنة، وهذا هو السبب في أن النار مضروب على متنها الصراط الذي سنمر عليه، لماذا؟ حتى يرى المؤمن النار.. وهو ماشٍ على الصراط التي لو لم يكن مؤمناً لنزل فيها، فيقول: الحمد لله الذي نجاني من تلك النار.
﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ﴾ والفوز هو النجاة مما تكره، ولقاء ما تحب، مجرد النجاة مما تكره نعمة، وأن تذهب بعد النجاة مما تكره إلى نعمة، فهذا فوز. ونلحظ في ﴿زُحْزِحَ﴾ أن أحداً غيره قد زحزحه. نعم لأنّ الله تكرّم عليه أولاً في حياته بفيض الإيمان وهو الذي زحزحه عن النار أيضا.
ويذيل الحق الآية بقوله تعالى: ﴿وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور﴾.
وعندما يصف الحق سبحانه الحياة التي نعرفها بأنها «دنيا» ففي ذلك ما يشير إلى أن هناك حياة توصف بأنها «غير دنيا» وغير الدنيا هي «العليا»، ولذلك يقول الحق في آية أخرى: ﴿وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤]
أي هي الحياة التي تستحق أن تُسمّى حياة؛ لأن الدنيا لا يقاس زمانها ببدايتها إلى قيام الساعة، لأن تلك الحياة بالنسبة للكون كله، ولكن لكل فرد في الحياة دنيا ليس عمرها كذلك، وإنما دنيا كل فرد هي مقدار حياته فيها. ومقدار حياته فيها لا يُعلم أهو لحظة أم يومٍ أم شهر أم قرن. وقصارى الأمر أنها محدودة حداً خاصا لكل عمر، وحداً عاماً لكل الأعمار.
1927
والمتعة في الدنيا على قدر حظ الإنسان في المتع، فهي على قدر إمكاناته. فإذا نظرنا إلى الدنيا بهذا المعيار فإن متاعها يعتبر قليلاً، ولهذا لا يصح ولا يستقيم أن يغتر الإنسان بهذه المتعة متذكراً قول الله: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٦ - ٧]
فالغرور إذن أن تلهيك متعة قصيرة الأجل عن متعة عالية لا أمد لانتهائها، فحتى لا يغتر عائش في الدنيا فيلهو بقليلها عن كثير عند الله في الآخرة يجب أن يقارن متعة أجلها محدود وإن طال زمانها بمتعة لا أمد لانتهائها، متعة على قدر إمكاناتك ومتعة على قدر سعة فضل الله؛ لذلك كانت الحياة الدنيا متاع غرور ممن غُرّ بالتافه القليل عن العظيم الجليل.
والله لم يظلم الدنيا فوصفها أنها متاع، ولكن نبهنا إلى أنها ليست المتاع الذي يُغتَرّ به فيلهي عن متاع أبقى، إنه الخلود. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله ولأتباع رسوله قضية تُنشئ فيهم وتؤكد لهم أن الإيمان وحده خير جزاء للمؤمن، وإن لم يتأت له في الدنيا شيء من النعيم، ولذلك أراد أن يوطنهم على أن الذين يدخلون الإيمان، لا يوطِّنون أنفسهم على أن الايمان دائماً منتصر، فلو كان دائماً منتصراً لوطّن كل واحد نفسه عليه ورضيه لأنه يضمن له حياة مطمئنة؛ لذلك كان لا بد أن يوضح لهم: أن هناك ابتلاءات. فالقضية الإيمانية أن تبتلوا، وموقع البلاء في نفوسكم أو في أموالكم، فقال: ﴿لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً... ﴾
1928
والبلاء في المال بماذا؟ بأن تأتي آفة تأكله، وإن وجد يكون فيه بلاء من لون آخر، وهي اختبارك هل تنفق هذا المال في مصارف الخير أو لا تعطيه لمحتاج، فمرة يكون الابتلاء في المال بالإفناء، ومرة في وجود المال ومراقبة كيفية تصرفك فيه، والحق في هذه الآية قدم المال على النفس؛ لأن البلاء في النفس يكون بالقتل، أو بالجرح أو بالمرض. فإن كان القتل فليس كل واحد سيقتل، إنما كل واحد سيأتيه بلاء في ماله.
﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً﴾ هما إذن معسكران للكفر: معسكر اهل الكتاب، ومعسكر المشركين. هذان المعسكران هما اللذان كانا يعاندان الإسلام، والأذى الكثير تمثل في محاولة إيذاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأذى الاستهزاء بالمؤمنين، وأهل الكفر والشرك يقولون للمؤمنين ما يكرهون، فوطّنوا العزم أيها المسلمون أن تستقبلوا ذلك منهم ومن ابتلاءات السماء بالقبول والرضا.
ويخطئ الناس ويظنون أن الابتلاء في ذاته شرّ، لا. إن الإبتلاء مجرد اختبار، والاختبار عرضة أن تنجح فيه وأن ترسب، فإذا قال الله: «لتبلون»، أي سأختبركم - ولله المثل الأعلى - كما يقول المدرس للتلميذ: سأمتحنك «فنبتليك» يعني نختبرك في الامتحان، فهل معنى ذلك أن الابتلاء شرّ أو خير؟. إنه شرّ على من لم يتقن التصرف. فالذي ينجح في البلاء في المال يقول: كله فائت، وقلل الله مسئوليتي، لأنه قد يكون عندي مال ولا أُحسن أداءه في مواقعه الشرعية، فيكون المال عليّ فتنة. فالله قد أخذ مني المال كي لا يدخلني النار، ولذلك قال في سورة «الفجر» :{فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ
1929
وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: ١٥ - ١٦]
فهنا قضيتان اثنتان: الإنسان يأتيه المال فيقول: ربي أكرمني، وهذا أفضل ممن جاء فيه قول الحق: ﴿قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ [القصص: ٧٨]
إذن فالذي نظر إلى المال وظن أنّ الغني إكرام، ونظر إلى الفقر والتضييق وظن انه إهانه، هذا الإنسان لا يفطن إلى الحقيقة، والحقيقة يقولها الحق: «كلا» أي أن هذا الظن غير صادق؛ فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة، ولكن متى يكون المال دليل الكرامة؟ يكون المال دليل كرامة إن جاءك وكنت موفقاً في أن تؤدي مطلوب المال عندك للمحتاج إليه، وإن لم تؤد حق الله فالمال مذلة لك وإهانة، فقد اكون غنياً لا أعطى الحق، فالفقر في هذه الحالة أفضل، ولذلك قال الله للاثنين: «كلا»، وذلك يعني: لا إعطاء المال دليل الكرامة ولا الفقر دليل الإهانة.
وأراد سبحانه أن يدلل على ذلك فقال: ﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ [الفجر: ١٧ - ١٩]
﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم﴾ وما دمتم لا تكرمون اليتيم فكيف يكون المال دليل الكرامة؟ إن المال هنا وزر، وكيف إن سلبه منك يا من لا تكرم اليتيم يكون إهانة؟.. إنه سبحانه قد نزهك أن تكون مهانا، فلا تتحمل مسؤلية المال. إذن فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة.
1930
﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين﴾ وحتى إن كنت لا تمتلك ولا تعطي أفلا تحث من عنده أن يُعطي؟ أنت ضنين حتى بالكلمة، فمعنى تحض على طعام المسكين أي تحث غيرك.. فإذا كنت تضن حتى بالنصح فكيف تقول إن المال كرامة والفقر إهانة؟.. ﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ أي تأكلون الميراث وتجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم دون ان يتحرّى الواحد منكم هل هذا المال حلال أو حرام.. فإذا كانت المسألة هكذا فكيف يكون إيتاء المال تكريماً وكيف يكون الفقر إهانة؟.. لا هذا ولا ذاك.
﴿لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً﴾ والذي يقول هذا الكلام: هو الله، إذن لا بد أن يتحقق - فيارب أنت قلت لنا: إن هذا سيحصل وقولك سيتحقق، فماذا اعطيتنا لنواجه ذلك؟ - اسمعوا العلاج: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور﴾.. تصبر على الإبتلاء في المال، وتصبر على الابتلاء في النفس، وتصبر على أذى المعسكر المخالف من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا، إن صبرت فإن ذلك من عزم الأمور، والعزم هو: القوة المجتمعة على الفعل. فأنت تنوي أن تفعل، وبعد ذلك تعزم يعني تجمع القوة، فقوله: ﴿فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ أي من معزوماتها التي تقتضي الثبات منك، وقوة التجميع والحشد لكل مواهبك لتفعل.
إذن فالمسألة امتحان فيه ابتلاء في المال، وابتلاء في النفس وأذى كثير من الذين أشركوا ومن الذين أوتوا الكتاب، وذلك كله يحتاج إلى صبر، و «الصبر» - كما قلنا - نوعان: «صبر على» و «صبر عن»، ويختلف الصبر باختلاف حرف الجر، صبر عن شهوات نفسه التي تزين للإنسان أن يفعل هذه وهذه، فيصبر عنها والطاعة تكون شاقة على العبد فيصبر عليها، إذن ففي الطاعة يصبر المؤمن على المتاعب، وفي المعصية يصبر عن المغريات.
و ﴿لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ توضح أنه لا يوجد لك غريم واضح في الأمر، فالآفة تأتي للمال أو الآفة تأتي للجسد فيمرض، فليس هنا غريم لك قد تحدد،
1931
ولكن قوله: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً﴾ فهذا تحديد لغريم لك. فساعة ترى هذا الغريم فهو يهيج فيك كوامن الانتقام. فأوضح الحق: إياك أن تمكنهم من أن يجعلوك تنفعل، وأَجِّلْ عملية الغضب، ولا تجعل كل أمر يَسْتَخِفّك. بل كن هادئا، وإياك أن تُسْتَخَفَّ إلا وقت أن تتيقن أنك ستنتصر، ولذلك قال: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور﴾.
واتقوا مثل «اتقوا الله» أي اتقوا صفات الجلال وذلك بأن تضع بينك وبين ما يغضب الله وقاية. «عن أسامة بن زيد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مرّ على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم ابن أُبَيّ، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تُؤْذنا في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا سعد «ألم تسمع إلى ما قاله أبو حباب» ؟ يريد عبد الله بن أبي، قال: كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعفُ عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «.
1932
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ... ﴾
1933
ونعرف - من قبل - أن الله قد أخذ عهداً وميثاقاً على كل الأنبياء أن يؤمنوا برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين﴾ [آل عمران: ٨١]
ونأتي هنا إلى عهد وميثاق آخذه الله على أهل الكتاب الذي آمنوا بأنبيائهم، هذا العهد هو: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾.
فما الذي يبينونه؟ وما الذي يكتمونه؟
وهل هم يكتمون الكتاب؟ نعم لأنهم ينسون بعضا من الكتاب، وما داموا ينسون بعضاً من الكتاب فمعنى ذلك أنهم مشغولون عنه:
1933
﴿فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ [المائدة: ١٤]
والذي لم ينسوه من المنهج، ماذا فعلوا به؟ :﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾ [البقرة: ١٥٩]
لقد كتموا البينات التي أنزلها الله في الكتاب، فالكتم عملية اختيارية، أما النسيان فقد يكون لهم العذر أنهم نسوه، لكنهم يتحملون ذنباً من جهة أخرى، إذ لو كان المنهج على بالهم وكانوا يعيشون بالمنهج لما نسوه. والذي لم ينسوه كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لووا به ألسنتهم وحرّفوه.
وهل اقتصروا على ذلك؟ لا. بل جاءوا بشيء من عندهم وقالوا: هو من عند الله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩]
وقولهم: ﴿هذا مِنْ عِنْدِ الله﴾ ما يصح أن يقال إلا لبلاغ صادق عن الله، وكلمة ﴿لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ لا بد أن توسع مدلولها قليلاً، ولها معنى عام، ونحن نعرف أن الثمن نشتري به، فكيف تشتري أنت الثمن؟ أنت إذا جعلت الثمن سلعة، وما دام الثمن يُجعل سلعة فيكون ذلك أول مخالفة لمنطق المبادلة؛ لأن الأصل في الأثمان أن يُشتري بها، أصل المسألة أنّ نَعْت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان موجوداً عندهم في الكتب ثم أنكروه. ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩]
1934
إذن فقوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ يعني لتبينن أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما هو موجود عندكم دون تغيير أو تحريف، وعندما يبينون أمر الرسول بأوصافه ونعوته فهم يبينون ما جاء حقاً في الكتاب الذي جاءهم من عند الله. وهكذا نجد أن المعاني تلتقي، فإن بينوا الكتاب الذي جاء من عند الله، فالكتاب الذي جاء من عند الله فيه نعت محمد، وهكذا نجد أن معنى تبيين الكتاب، وتبيين نعت رسول الله بالكتاب أمران ملتقيان.
﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ يقال: نبذت الشيء أي طرحته بقوة، وذلك دليل على الكراهية؛ لأن الذي يكره شيئاً يحب أن يقصر أمد وجوده، ومثال ذلك: لنفترض أن واحداً أعطى لآخر حاجة ثم وجدها جمرة تلسعه، ماذا يفعل؟ هو بلا شعور يلقيها بعيداً. والنبذ له جهات، ينبذه يمينه، ينبذه أمامه، ينبذه شماله، أما إذا نبذه خلفه، فهو دليل على أنه ينبذه نبذة لا التفات إليها أبداً، انظر التعبير القرآني ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾.
إن النبذ وحده دليل الكراهية لوجود الشيء الذي يبغضه، إمعان في الكراهية والبغض، فلو رمى إنسان شيئاً أمامه فقد يحن له عندما يراه أو يتذكره، لكن إن رماه وراء ظهره فهذا دليل النبذ والكراهية تماما، ولذلك يقولون: لا تجعلن حاجتي بظهر منك، يعني لا تجعل أمرا أريده منك وراء ظهرك، والحق يقول: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي أنهم جماعة و «ظهور» جمع «ظهر» كأن كل واحد منهم نبذه وراء ظهره. وكأن هناك إجماعاً على هذه الحكاية، وكأنهم اتفقوا على الضلال، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون. والمشتري هنا هو الثمن، والثمن يُشترى به، ولندقق النظر في التعبير القرآني، فهناك واحد يشتري هذا الأمر بأكلة، وآخر يشتري هذه الحكاية بحُلَّة أو لباس، وهناك من يشتريها بحاجة وينتهي، إنما هم يقولون: نريد نقوداً ونشتري بها ما نحب، هذا معنى ﴿واشتروا بِهِ ثَمَناً﴾.
ويعلق الحق على ما يشترونه قائلاً: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ لماذا؟ لأنك قد تظن أن بالمال - وهو الثمن - تستطيع أن تشتري به كل شيء، ولكن النقود لا تنفع الإنسان كما تنفعه الحاجة المباشرة؛ لأننا قلنا سابقاً: هب أن إنساناً في مكان صحراوي ومعه جبل
1935
من ذهب وليس معه كوب ماء، صحيح أن المال يأتي بالأشياء، إنما قد يوجد شيء تافه من الأشياء يغني ما لا يغنيه المال ولا الذهب، فيكون كوب الماء مثلاً بالدنيا كلها، ولا يساويه أي مال ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواَ....﴾
1936
والحسبان للأمر أن يظنه السامع دون حقيقته، والأمور التي يظنها السامع تسير أولاً على ضوء الشيء الواضح دون التدبر لما وراء واجهات الأشياء، فالذين يفرحون بنا أتوا نوعان: نوع يفرح بما أتاه مناهضاً لدعوة الحق كالمنافقين الذين فرحوا بأنهم غشوا المؤمنين، وتظاهروا بالإيمان فعاملهم المؤمنون بحق الأخوة الإيمانية، حدث هذا قبل أن يكشف الحق هؤلاء المنافقين للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وللمؤمنين بعد ذلك.
ونوع آخر يفرح لما آتاه وجاء به مناصراً لدعوة الحق فالفرح الأول - وهو فرح المنافقين - والفرح الثاني مشروع. ولذلك يقول الحق: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ [يونس: ٥٨]
إذن فلم ينه الله عن مطلق الفرح ولكن ليفرحوا بفضل الله. إنه سبحانه قد نهى عن نوع من الفرح في مسألة قارون:
1936
﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين﴾ [القصص: ٧٦]
وهكذا نجد آيات تنهى عن الفرح وآيات تثبت للمؤمنين الفرح، وتأمرهم به. إذن فالفرح في ذاته ليس ممقوتاً، ولكن الممقوت بعض دواعي ذلك الفرح، فدواعيه عند المؤمن أن يفرح بنصر الله، وأن يفرح بإعلاء كلمة الحق، وهذه دواع مشروعة. ودواعيه الممنوعة أن يفرح بأن يقف أمام مبدأ من مبادئ الله ليدحض ذلك المبدأ وهذا ما يفرح به الكافر ولكن الفرح الحقيقي هو الفرح الذي لا يعقبه ندم، ففرح المؤمن موصول إلى أن تقوم الساعة، وموصول بعد ان تقوم الساعة. ولكن فرح الكافر والمنافق وأهل الكتاب الذين يصورون الله على غير حقيقته فرح موقوت وممقوت، إذن فذلك لا يعتبر فرحاً؛ لأن الندم بعد الفرح يعطى عاقبة شر؛ لأن النادم يتحسر دائما على فعله فهو في غم وحزن.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطي للمؤمن مناعة، إنكم أيها المؤمنون تواجهون معسكرات تعاديكم. هذه المعسكرات ستفرح بما أتته ضدكم فيجب ألا يفتّ ذلك في عضدكم، ولا تحسبنهم إن فعلوا ذلك بمنجاة من العذاب، وما دام فرحهم سيؤدي بهم إلى العذاب فهو فرح أحمق.
وماذا صنع الذين جاء فيهم القول: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ﴾ يحتمل أن يكون المراد هم أهل الكتاب الذين كتموا نعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأن الآية السابقة تقول: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ ماذا فعل هؤلاء إذن؟ لقد كتموا أوصاف رسول الله ونعته الموجود في كتبهم وفرحوا بما كتموا، وبعد ذلك أحبوا أن يحمدوا بما فعلوا من الذين على طريقتهم في الكفر والضلال.
إن الإنسان قد يأتي الذنب ولكنّه يندم بعد أن يفعله، ولكنه حين يسترسل فيفرح بما فعل فذلك ذنب آخر، وهكذا صار إتيان العمل ذنباً، والفرح به ذنباً آخر؛ لأنه لو ندم على ما فعله لكان الندم دليلا على التوبة، أما أن يأتي العمل وبعد ذلك يفرح به
1937
ثم بعد ذلك الأشد؛ فيحب أن يُحمد بما لم يفعل، فذلك من تمام الحمق، إنه جرم وذنب مركب من فعل آثم، ففرح به، فحب لحمد على شيء لم يفعله.
أكان يجب أن يُحمد بما فعل أو بما لم يفعل؟ بما لم يفعل لأنه خلع على أمره غير الحق، وإذا قال قائل: إنها نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله فالقول محتمل؛ لأن هؤلاء تخلفوا عن الحرب مع رسول الله وفرحوا بأن متاعب السفر ومتاعب الجهاد لم تنلهم، وبعد ذلك اعتذروا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اعتذارات كاذبة ولو ندموا لكان خيراً لهم، ولم يتضح للمسلمين كذبهم فحمدوا لهم ذلك الاعتذار، إنهم قد أتوا الذنب، وفرحوا بأنهم أتوه، ونجوا من مغارم الحرب، وبعد ذلك فرحوا أيضاً بأنهم أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلو، لأن اعتذارهم كان نفاقاً، سواء كان هذا أو ذاك فالآية على إطلاقها: للذين يفرحون بما أتوا من مناهضة الحق وذلك فعل، والفرح به ذنب آخر، والرغبة في الحمد عليه شيء ثالث، إذن فالذنب مركب، فهم يسترون الأمر ويبينون نقيضه كي نحمدهم ونشكرهم، والحق سبحانه وتعالى يعطي لهذا دستوراً إيمانياً لمطلق الحياة.
﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ﴾ وهل المنعي عليهم أنهم يحبون أن يحمدوا؟ أو المنعي عليهم والمأخوذون به أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؟ إن المنعي عليهم انهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ لأن الإنسان إن أحب أن يُمدح بما فعل فلا مانع، والقرآن حين يعالج نفساً بشرية خلقها الله بملكات، فهو يعلم مطلوبات الملكات، بعض الملكات قد تحتاج إلى شيء فلا يتجاوز الله هذا الشيء، إن الإنسان مطبوع على حب الثناء من الغير، لأن حب الثناء يثبت له وجوداً ثانيا، ووجودك الثاني هو أن تعبر عن نفسك بعملك الذي يكون مبعث الثناء عليك، والناس لا تثني على وجودك، لكنها تثني على فعلك.
وما دام الإنسان يحب الثناء فسيغريه ذلك بأن يعمل ما يُثني به عليه، وما دام يٌغرى بما يُثني عليه فسيعمل بإتقان أكثر، وساعة يعمل فإن المحيط به ينتفع من عمله، والله يريد إشاعة النفع فلا يمنع سبحانه حب الثناء كي يزيد في الطاقة الفاعلة للأشياء؛ لأنه لو حرّم ذلك الثناء فلن يعمل إلا من كانت ملكاته سوية، وسيفقد
1938
المجتمع طاقات من كانت ملكاته قليلة، فصاحب الملكات القليلة يريد أن يمدح، فلا مانع من مدحه ليزيد من العمل، ويُمدح مرة ثانية، وتستفيد الناس، والذي ينتظر الثناء من الناس تنزل منزلته ومرتبته عن مرتبة من انتظر التقدير من الله، فهو الذي جنى على نفسه في ذلك.
لكن لا بد أن نمدحه كي يعمل بما فيه من غريزة حب الثناء فنكون قد زدنا من عدد طاقات العاملين.
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما عرض لهذه القضية، وهي قضية تزكية الصالح وتجريم الطالح الفاسد في قصة «ذي القرنين» يقول تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ [الكهف: ٨٣ - ٨٤]
كي تعلم أن الممَكّنَ لا يُمَكّنُ بذاته وإنما هو ممكن بمن مَكّنَهُ، فلو كان عنده تفكير إيماني، لما أغرته الأسباب أن يتمرد؛ لأن الإيمان يعلمه أن الأسباب ليست ذاتية. ومن أجل أن يثبت الله أن الأسباب غير ذاتية فهو ينزع الملك ممن يشاء، ويهب الملك من يشاء، نقول له: لو كان الأسباب ذاتية فتمسك بها، لكن الأسباب هبة من الله ﴿وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ وحين يأتيه الله الأسباب فالأسباب أنواع: سبب مباشر للفعل، وسبب متقدم على السبب المباشر، فإنت إذا ارتديت ثوباً جميلاً، فوراء ذلك أنك أتيت بالقماش الذي نسجه النساج، والنساج استطاع إتقان عمله بعد أن قام الغزّال بغزل القطن، والقطن نتج لأن فلاحاً بذر البذور ورعي الأرض بالحرث والرى. فأنت إن نظرت إلى الأسباب المباشرة المتلاحقة فانظر إلى نهاية الأسباب، وستصل إلى شيء لا سبب له إلا المسبب الأعلى وهو الله - جلت قدرته -.
وسلسل أي شيء في الوجود ستجد أنك أخيراً أمام سبب خلقه الله مثال ذلك النور الكهربائي الذي تتمتع أنت به. ستجد أن المعمل قام بصنع الزجاج الخاص بالمصابيح الكهربائية، ونوع من المصانع يصنع الأسلاك الموجودة بالمصباح، وستنتهي إلى شيء موجود لا يوجد فيه بشر، فتصل إلى الحق سبحانه وتعالى.
1939
أنت مثلاً جالس على الكرسي. وقد تقول: لقد صنعه النجار والنجار جاء بالخشب من البائع، والبائع جاء بالخشب من الغابة، فمن أين جاء الخشب إلى الغابة؟ تقول: لا أعرف، أما إذا كان عندك الحس الإيماني فأنت تقول: أوجده الله. وحين تنتهي الأسباب وسلسلتها نجد الله الخالق ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ فعندما أعطاه الله الأسباب جاء هو بالوسائط فقط، إذن فالأصل كله من الله.
ويتابع الحق: ﴿حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ هذا في عين الناظر فقط، فأنت حين تركب البحر ثم ترى الشمس عند الغروب تغطس في البحر، وعندما تذهب للمنطقة التي غطست الشمس فيها تجد الشمس موجودة؛ لأنها لا تغيب أبدا، إنما ﴿تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ أي فوجد الشمس في نظره عند غروبها عنه كأنها تغرب في مكان به عين ذات ماء حار وطين أسود.
ويتابع الحق: ﴿وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾.
والناس تفهم أن هذا تخيير، يعني إما أن تعذبهم، وإما تُحسن إلى من كنت تعذبهم، لكن الدقة والتمعن يوضحان لنا أن الحق قد أعطى تفويضاً لذي القرنين، بقوله: ﴿إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ فَفَهمَ ذو القرنين عن الله التفويض، ولم يأخذ التفويض وافترى، بل قال: ﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ وليس هذا هو العذاب الذي يستحقه، لا، نحن سنعذبه في دنيانا كي لا يستشرى فيها الشرّ. وفوق ذلك سيعذبه الله عذاباً آخر ﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً﴾ إنه أولاً لم يصف عذابه بنكر، إنما وصف عذاب الله فقال: ﴿فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً﴾، لأن عذاب البشر للبشر على قدر البشر، لكن عذاب الله يتناسب مع قدرة الله، فهل لنا طاقة بهذا العذاب والعياذ بالله؟ ليس لنا طاقة به، وماذا عن موقف ذي القرنين من الذي آمن؟ إنه موقف مختلف.
يقول الحق: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا
1940
يُسْراً} هو يجازيه بالحسنى ويعطيه المكافآت ويكرمه، وعندما يتساءل من يحب الثناء قائلاً: لماذا كرّم هذا؟ ويرى أسباب التكريم فيقول لنفسه لأصنعنَّ مثله كي أكرّم. ولذلك تجد الشباب يتهافت حتى يلعب بكرة القدم لماذا؟ لأنهم يجدون من يضع هدفاً في كرة القدم يكرّم، فيقول: أنا أريد أن أضع هدفاً.
هذا وإن ديننا الحنيف يدعونا إلى أن نشكر من قدم خيرا أو أسدى معروفا حفزاً للهمم وتشجيعا لبذل الطاقات وفي الأثر: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» إذن فحب الثناء من طبيعة الإنسان، ولكي تُغزى الناس بأن يعملوا لا بد أن تأتي لهم بأعمال تستوعب طاقاتهم المتعددة، أما إذا اقتصر إتقان العمل على من لا يحبون الثناء، فسنقلل الأيدي التي تفعل، ولذلك تجد العمل حيث توجد المكافأة التشجيعية التي يأخذها من يستحقها ويقابلها من التجريم والعقوبة لمن يهمل في عمله، فلا يمنح رئيس عمل مكافأة لمن عملوا على هواهم، بل عليه أن يمنحها لمن أدى عمله بإتقان. وحين يعلم الناس أنه لا يجازي بالخير ولا يكّرم بالقول إلا من فعل فعلاً حقيقياً فالكل يفعل فعلاً حقيقياً، لكن عندما تجد الناس أن المكافآت لا يأخذها أحد إلا بالتزلف وبالنفاق وبالأشياء غير المشروعة فسيفعلون ذلك، وهكذا تأتي الخيبة.
وهكذا تجد أن قوله الحق: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ﴾.
إن هذا القول يضع أساساً ودستوراً إيمانياً لمطلق الحياة، وعلاقة الحاكم بالمحكومين وعلاقة الفرد بنفسه وبمن حوله. وعلاقة الإنسان بالعمل الصالح أو بالذنوب؛ فإن الإنسان إذا ما أتى ذنباً، فربما يكون قد نفَّس عن نفسه بارتكاب الذنب، لكن بعد ما تهدأ شِرّة المعصية يجب عليه أن ينتبه فيندم ولا يفرح.
هذه أول مرحلة. ولا يتمادى في ارتكاب الذنب، أما إذا تمادى وخلع على فعله النقيض وادّعى أنه قد أتى فعلاً حسناً حتى يناله مدح بدلاً من أن يناله ذم فذلك ذنب مركب، ويحشره الله ضمن من قال فيهم: ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب﴾.
والمفازة هي المكان الذي يظن الإنسان أن فيه نجاته، أي أن في هذا المكان فوزاً
1941
له، ويطلقون كلمة «مفازة» على الصحراء إطلاقا تفاؤلياً، ولا يسمونها «مهلكة» لأن الذي كان يجوبها يهلك فسموها «مفازة» تفاؤلاً بأن الذي يسلكها يفوز، أو أن الصحراء أرض مكشوفة، وما دام الإنسان قد وصل إلى أرض مكشوفة فلن يصادف ما يخافه من حيوانات شرسة أو من وافدات ضارة كالحيّات، أو من عدو راصد، وفي ذلك فوز له، لأنه تجنب هذه المخاطر، إنه إن سار في الجبال والوديان فمن الممكن أن تستر عنه الوحوش المفترسة أو الهوام أو تستر عنه الذين يتتبعونه فلا يتوقاهم وقد يصيبونه بالأذى، فإذا ما ذهب إلى الأرض المكشوفة نجا من كل هذا لأنه ينأى ويبتعد عنهم، وتكون التسمية على حقيقتها، ومن يرى أن الصحراء مهلكة فليعرف أنها سميت «مفازة» تفاؤلاً، كما يسمون اللديغ الذي يلدغه الثعبان ب «السليم».
ونحن في أعرافنا العادية نتفاءل فنضع للشيء اسما ضد مسماه تفاؤلاً بالاسم، مثال ذلك: إذا كنت في ضيافة إنسان وقدم شراباً. قهوة مثلاً، وبعد أن نشرب القهوة يأتي الخادم فيقول من قدم لك القهوة لخادمه: تعال «خذ المملوء» ولا يقول: «خذ الفارغ» وهذا لون من التفاؤل.
﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هم يظنون أنهم بمفازة من العذاب برغم أنهم لا يؤمنون بالحق، ولا يؤمنون بسيطرة الحق على كل أحوالهم وكل أمورهم فهم يظنون أن انتصارهم في معركة الدنيا لا هزيمة بعده، ولكن الحق بعد هذه الآية قال: ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات....﴾
1942
إنه سبحانه حكم فيما يملك ولا أحد يستطيع أن يخرج من ملكه، وما دام لله ملك السماوات والأرض، فحين يقول: ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فهذا الوعيد سيتحقق؛ لأن أحداً لا يفلت منه، ولذلك يقول أهل الكشف وأهل اللماحية وأهل الفيض: اجعل طاعتك لمن لا تستغنىعنه، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
إذن ف ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ تدل على أن الله حين يوعد فهو - سبحانه - قادر على إنفاذ ما أوعد به، ولن يفلت أحد منه أبدا. وهذه تؤكد المعنى. فإذا ما سُرّ أعداء الدين في فورة توهم الفوز، فالمؤمن يفطن إلى النهاية وماذا ستكون؟ ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى قال: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾ [المسد: ١ - ٥].
وهذه السورة قد نزلت في عمّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكانت هذه السورة دليلاً من أدلة الإيمان بصدق الرسول في البلاغ عن الله، لأن أبا لهب كان كافراً، وكان هناك كفرة كثيرون سواه، ألم يكن عمر بن الخطاب منهم؟ ألم يكن خالد بن الوليد منهم؟ ألم يكن عكرمة بن أبي جهل منهم؟ ألم يكن صفوان منهم؟ كل هؤلاء كانوا كفاراً وآمنوا، فمن الذي كان يدري محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه بعد أن يقول: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾ من كان يدري محمداً بعد أن يقول هذا ويكون قرآناً يُتلى ويحفظه الكثير من المؤمنين، وبعد ذلك كله من كان يدريه أن أبا لهب يأتي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقد يضيف: إن كان محمد يقول: إنني سأصلى ناراً ذات لهب فهأنذا قد آمنت، مَن كان يدريه أنه لن يفعل، مثلما فعل ابن الخطاب، وكما فعل عمرو بن العاص. إن الذي أخبر محمداً يعلم أن أبا لهب لن يختار الإيمان أبداً، فيسجلها القرآن على
1945
نفسه، وبعد ذلك يموت أبو لهب كافرا.
وكأن الله يريد أن يؤكد هذا فيوضح لك: إياك أن تظن أن ذلك الوعيد يتخلف؛ لأنى أنا «أحد صمد»، ولا أحد يعارضنى في هذا الحكم؛ لذلك يقول في سورة الإخلاص: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١ - ٢].
فما دام «هو الله أحد» فيكون ما قاله أولاً لن ينقضه إله آخر، وستظل قولته دائمة أبداً.
إذن فقول الحق سبحانه بعد قوله: ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ يوضح لنا أنه قد ضم هذا الوعيد إلى تلك الحقيقة الإيمانية الجديدة: ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ وجاء بالقوسين؛ لأن السماء تُظِل، والأرض تُقِل، فكل منا محصور بين مملوكين لله، وما دام كل منا محصوراً بين مملوكين لله، فأين تذهبون؟ ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ وقد يكون هناك المَلِك الذي لا قدرة له أن يحكم، فيوضح سبحانه؛ لا، إن لله المُلْكَ وله القدرة.
﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ثم يأتي بعد ذلك إلى تصور إيماني آخر ليحققه في النفوس بعد المقدمات التي أثبتت صدق الله فيما قال بواقع الحياة:
1946
سبحانه يريد أن يبني التصور الإيماني على جذور ثابتة في النفس البشرية، لأن الإنسان الذي يفاجأ بهذا الكون، وفيه سماء بهذا الشكل: بلا عمد، وتحتها الكواكب، وأرض مستقرة، بالله ألا يفكر فيمن صنع هذا؟ والله لو أن واحدا
1946
استيقظ من نومه ووجد سرادقا قد نصب في الميدان ليلا لوقف ليسأل: ما الحكاية؟ فما بالنا بواحد فتح عينيه فوجد هذا الكون المنتظم الذي يعطيه أسباب الحياة؟
ولذلك يجيء في سورة أخرى ليشرح هذه القضية شرحا يجلى لنا قضية الإيمان بالفكر الإنساني، فلا ننتظر الواعظ فقط الذي يأتينا بالرسالة والنبوة ليدل على المنهج المراد لمن خلق، بل تحتم علينا أن نتنبه بالفطرة إلى من خلق، لأننا قلنا من قبل: لو أن إنساناً وقعت به طائرة في صحراء، ولم يجد فيها ماء ولا شجراً ولا أناسا ولأنه مجهد غلبه النوم، فاستيقظ فوجد مائدة عليها أطايب الطعام، بالله قبل أن يمد يده لينتفع بها، ألا يجول فكره فيمن صنع هذه؟ إن دهشته من الحدث تجعله يفكر فيمن جاء بها قبلما يذوق الطعام، رغم أنه جوعان، فكذلك الناس الذين فتحوا عيونهم فوجدوا هذا الكون العجيب، وبعد ذلك لم يدَّع أحد منهم أنه خلقه، ولو كان أحد قد ادعى أنه خلقه.. لكانت المسألة تسهل، لكن أحداً لم يدع صنعه. هذا الكون الذي نراه جميعا بانتظامه الرائعِ، وقوانينه الثابتة. هل قال أحد: إنني صنعته؟ لا إذن فالذي قال: إنني صنعته تَسْلم له الدعوة، حتى يأتي واحداً آخر يقول: أنا الذي صنعته. لم يحدث هذا قط برغم وجود الملاحدة والمفترين على الله، ولذلك جاء قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض﴾ [النمل: ٦٠].
كأن الحق يقول: إن لم أكن أنا الذي خلقت فمن الذي خلق إذن؟ ولم يجرؤ أحد على أن ينسب الكون لنفسه؛ لأن الكفار والملاحدة لا يستطيعون خلق شيء تافه من عدم. ومثال ذلك كوب الماء الذي تركه الله ولم يخلقه على الصورة التي هو عليها، كي يصنعوه ليفهموا أن كل شيء تم بخلقه - سبحانه - كوب الماء هذا شيء تافه أترف الحياة، وقبل أن تتم صناعة الكوب كنا نشرب ولم يكن هناك شجر يطرح ويثمر أكواباً بل صنعه إنسان أراد أن يترف الحياة، فإذا كان هذا الشيء الصغير له صانع جال في نواحي علوم شتَّى وفي المادة، ثم نظر إلى الأرض حتى وجد المادة التي عندما تُصهر تعطي هذه الشفافية واللمعان، فجرب في عناصر الأرض فلم يجد إلا الرمل.
1947
واكتشف هذه المادة ومزجها بمواد أخرى لصهرها وإذابتها واحتاجت صناعة الكوب إلى معامل وعلماء، كل هذا من أجل الكوب الصغير الذي قد تستغني عنه، انظر ما يحتاجه لصنعه؟ احتاج طاقات جالت في جميع مواد الأرض، وإمكانات صناعية وأناساً يضعون معادلات كيماوية، فما بالنا بالأشياء الأصلية وكم تحتاج؟
إن كل صنعة تحتاج على قدرها، ولم يقل أحد: إنني صنعتها، فيقول الحق: من الذي صنع كل هذا؟ وساعة يطرح سؤالاً فهو لا يريد أن يجعل القضية إخبارية منه، وهو القادر أن يقول: أنا الذي خلق السماء والأرض؟ فماذا يفعل المسئول؟ إنه يتخبط في إجابته ثم في النهاية لا يجد إلا الله.
وكأن السائل لا يطرح هذا السؤال إلا إذا وثق أن الإجابة لا تكون إلا على وفق ما يريد ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ﴾ وجاء هنا بالحاجة المباشرة.. ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ أي أنها تسرّ النظر بما فيها من خضرة ونضارة، وطراوة، وظل، وأزهار، وثمار، ولم يختصر الأمر فيقول: «لتأكلوا منها» لأن الذي يأكل هو الذي يملك فقط، لكن جمال المنظر لا يحجزه أحد عن كل من يرى، ويستمتع بما يراه. وكل منا عندما يرى بستاناً جميلاً يسره منظره، صحيح أنك لا تمد يدك لتأكل منه لأنه ليس ملكك، لكن هل يمنعك أحد أن تمتع به نظرك. وأن تمتع أنفك برائحته الجميلة؟ لا.
وهكذا جاء الحق بالنعمة الشائعة لمن يملك ولمن لا يملك فقال: «ذات بهجة» ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يمتن بالأشياء يوضح لك: إياك أن تفهم أن الغرض من هذه المسألة أن تأكلها لتملأ بها بطنك فقط؛ لأن هناك أشياء جميلة لا ننتفع بها أكلاً، فهناك ألوان من الشجر ليس له ثمرة لكن لابد أن له عملاً؛ فورقه الجميل قد يفيد في الظل وما يشيعه من رائحة تعطر الجو، وبه خشب نحتاج إليه، وبجانب هذا نجد أشجاراً لها ثمار جميلة ننتفع بها.
ولذلك يقول الحق: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً
1948
نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: ٩٩].
وسبحانه يستفهم من الإنسان «ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون».
بسطحية راح أحد المستشرقين يردد: أيَنْعَى الله على الخلق ويعيب عليهم أن يعدلوا؟ ذلك أنه لم يفهم المعنى الصحيح، فالعدل هنا بمعنى العدول عن الحق أو الميل عنه. ويقول: ﴿أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [النمل: ٦١].
إنه سبحانه الذي خلق الأرض ومن خلالها الأنهار وجعل فيها الجبال الرواسي، ويوضح الحق سبب وجود الجبال الرواسي في موقع آخر من القرآن الكريم:
﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ﴾ [فصلت: ١٠].
فلماذا باركت يا الله؟ بارك الله في الجبال وقدر فيها أقواتها، فالقوت هو ما يُنتفع به في استبقاء الحياة. ونعرف أن القوت يؤخذ من الزرع، والزرع ينمو دائماً في
1949
الأرض الخصبة، وخصوبة الأرض تكون في الوديان، والوادي هو المكان الذي يكون بين جبلين. ولماذا يكون الوادي خصباً بين جبلين؟ لأن المطر حين ينزل من السماء، إنما ينزل على الجبال، والجبال كما تعرف معرضة لعوامل التعرية، فالحرارة تأتي بعد البرودة، والحرارة تجعل الأرض تمتد والبرودة، تقبض المادة، وما بين القبض والبسط يحدث للجبال التشقق السطحي. وعندما ينزل المطر فهو يجرف هذه التشققات، فتنزل من قمة الجبل بقوة الدفع لتصير جسيمات ناعمة، ونسميها نحن الغِرْين أو الطمى، كالذي كان يأتي لنا من الحبشة، والذي أحدث خصوبة وادي النيل.
إذن فالجبال هي مخازن الأقوات. ومن فضل الله أن جعل الجبال صلبة، فلو أنها كانت هشة من أول الأمر، لكان سيلٌ واحد من المطر كفيلاً بإزالتها كلها، ولجعل الأرض سطحاً واحداً، ولا انتفع البشر بنصف متر من الخصوبة. وبعد ذلك يأتي الجدب. ونعلم أن الحق جعل مع التكاثر الإنساني تكاثراً لأسباب القوت، فكيف يكثر الحق سبحانه من القوت؟
نحن نرى أن للجبال قمة ولها قاعدة، وبين كل جبل وجبل يوجد الوادي، ونعرف أن ضيق الوادي يكون في أدناه، واتساع الوادي في أعلاه، والجبل عكس الوادي. فضيق الجبل يكون في القمة واتساعه في القاعدة أي أن قمة الجبل أقل اتساعا من قاعدته. وعندما ينزل الغرين بوساطة المطر من الجبل فهو ينزل إلى الوادي، فيرفع من مستوى سطح الوادي، وتتسع مساحة الوادي. وكلما نزل المطر على الجبال اتسعت مساحة الوديان التي بين الجبال؛ لأن المطر يحمل معه أجزاء من الجبال وهو ما يسمى بالغرين. وعندما يشاء الحق سبحانه إيذان النهاية، تتفتت كل الجبال ويقول للساعة: قومي الآن «.
وهو يقول: ﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
وفي موقع آخر يقول الحق:
1950
﴿مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ﴾ [الرحمن: ١٩ - ٢٠].
الماء له استطراق فسلكه الله ينابيع في الأرض، فالإنسان يحفر في مكان من الأرض فيجد الماء عذباً، وفي موقع آخر يدق الإنسان الأرض ويحفرها ليجد الماء ولكنه مالح. لماذا إذن لم يتسرب الماء المالح إلى الماء العذب وكلاهما تحت الأرض؟ إذن لا بد أن للماء المالح مسارب تختلف عن مسارب الماء العذب ولا يطغي أحد على الآخر.
لماذا؟ لأننا نجد أن الماء العذب يأتي من أعلى. ونجد دائماً منابع الأنهار عالية وتصب في البحر. والحق لم يجعل منسوب الماء المالح أعلى من منسوب الماء العذب، حتى لا يطغى الماء المالح على الماء العذب، لأنه سبحانه يريد أن يرتوي الناس من الظمأ بالماء، ويريد للزرع أن ينمو، وأن يتجه الفائض من الماء العذب إلى مخزن الماء سواء في بطن الأرض أو في البحار، وتأتي من بعد ذلك عملية التبخير فيتصاعد الماء بخاراً ليصير سحاباً، ثم يمطر من بعد ذلك ماء عذباً. والقدر الذي خلقه الله من الماء أزلاً، هو. هو، لا يزيد ولا ينقص.
فالإنسان إذا كان قد شرب أطناناً من الماء طَوال حياته، فهل ظلت تلك الأطنان في جسد الإنسان أو أن تلك الأطنان قد خرجت في فضلات الإنسان؟ إن الإنسان لا يختزن إلا الموجود فيه الآن من الماء. والجسم الإنساني به حوالي تسعين بالمائة من مكوناته من الماء، وبعد ذلك يموت الإنسان فيتبخر منه الماء وتنزل بقية العناصر للأرض. إذن فكمية المياه. واحدة، ولكنها تخضع لدورة أرادها الله.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: ٦٢].
1951
ومعنى المضطر هو الإنسان الذي استنفد أسباب بشريته ولم يدرك ما يحفظ به حياته ولذلك يقول الحق:
﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [يونس: ١٢].
وكذلك يقول الحق في موضع آخر بالقرآن الكريم: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً﴾ [الإسراء: ٦٧].
ذلك أنه عندما يصاب الإنسان بحادث جسيم، فهو لا يكذب على نفسه، حتى الكافر بالله عندما يجد أن كل الأسباب المادية التي أمامه لا تنفعه فهو يلجأ ويعترف بأنّ هناك إلهاً واحداً خالقاً. فيقول: يا رب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل: ٦٢ - ٦٤].
1952
كل هذه الآيات تؤكد قول الحق سبحانه وتعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب﴾ [آل عمران: ١٩٠]
إنها ظواهر كونية. واختلاف الليل والنهار يعني أن هناك شيئاً آخر أو يأتي بعد شيء آخر. إذن فاختلاف الليل والنهار له معنيان: فمجيء الليل بعد النهار يعني اختلافهما أي كل منهما خليفة للآخر.
والزمن يمثل ذلك.
واختلاف آخر يتمثل في أن النهار منير، والليل مظلم، والنهار محل حركة، والليل محل سكون. فاختلاف الليل والنهار ليس آية فقط ولكنه آيات لكثيرين.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنّ الفرد أعجز من أن يستنبط كل ما في الآيات، ولكن على كل واحد منكم أنتم البشر أن يستنبط آية، وكل إنسان يستنبط آية ينتفع بها هو وغيره من الناس وهكذا.
إنها آيات يتوزع استنباطها على الخلق الذين يملكون البصيرة والأخذ بأسباب الله ليشيع الحق الاستنباط من أسرار الله لكل خلق الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة، وليبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة، وليبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل بالنعمة عن المنعم بالنعمة؛ لأن لله إمداداً حين خلق من عَدَم، وإمداداً حين أمدّ من عُدم، وإمداداً آخر حينما يلقى على نعمته شيئاً من البركة، فالذي أخذ نعمة الله التي سبقت وجوده، وبعد ذلك غفل عن الحق سبحانه وتعالى فإن النعمة تعطيه، لكنها لا تكون مصحوبة بالبركة.
ومعنى البركة أن يكون الشيء الحاصل والمستنبط من حركتك لا يأتي منه لك ولا للناس إلى الخير. فقد يعطيك الله بالأسباب والمسببات. لكن الله لا يعطيك البركة إذا أخذت النعمة وتركت المنعم. فلو أنك عند كل شيء ذكرت الله لأخذت النعمة والبركة. فحين ترى لك شيئاً تحبه عليك أن تقول: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله».
1953
إنَّه ليس من شغلك ولا من عملك. ولكنها مشيئة الله وقوته سبحانه.
ولذلك يقولون: إنك إذا رأيت أي نعمة لك في مال أو ولد أو خُلق أو هندام تقول حين تراها: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» فأنت لا ترى فيها سوءاً أبداً؛ لأنك رددتها إلى مَن خلقها، فضمنت صيانة الله لها بذلك الرد، والذي يحرسها هو الكلمة الواضحة «ما شاء الله لا قوة إلا بالله».
ولذلك نرى في قوله تبارك وتعالى: ﴿واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾ [الكهف: ٣٢ - ٣٦].
فماذا قال له صاحبه؟ ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لكنا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً﴾
[الكهف: ٣٧ - ٤٠].
1954
فكان يجب ألا يغتر الإنسان بوجود النعمة وأن يعزوها وينسبها ويردها إلى المنعم وهذا يوضح لنا معنى قول الحق:
﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧].
فقد تعطيكم الأسباب مسبباتها، ولكن لا زيادة عن المسببات بالتفضل منه سبحانه بالبركة، بل ربما كانت فجيعة لصاحبها، فتعطيه الأسباب ثم ينزع العطاء فتكون حسرة عليك.
إذن فمَنْ هم أولو الألباب؟
تكون إجابة الحق: ﴿الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً... ﴾.
1955
إنهم يقولون:
﴿رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً﴾ لأنك حق، وخلقت السماوات والأرض بالحق، ووضعت لها نواميسها وقوانينها بالحق، فيجب أن نستقبل النعمة التي خلقتها لنا بالحق. فإن استقبلها بعض الناس بغير الحق، فإنها تكون وبالاً عليهم. ويقال: إن المؤمن الصادق في بني إسرائيل قبل رسالة عيسى عليه السلام كان إذا عبد الله بإخلاص ثلاثين سنة فإن غمامة تظله حيث سار. فكانوا عندما يرون واحداً من هؤلاء يسير تظلله غمامة، فهم يعرفون أنه عبد الله بإخلاص ثلاثين عاماً.
1955
وعَبَدَ واحد منهم الله ثلاثين سنة ولم ير السحابة تظلله، فشكا ذلك لأمه فقالت له: لعل شيئا فَرطَ منك. فقال لها: يا أماه لا أذكر. فقالت له: لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تفكر. فقال لها: لعل ذلك حدث. فقالت: الذي يأتيك من ذاك. وهذه القصة تذكرنا بضرورة التفكير في الله دائماً.
ويروى عن سيدنا الإمام عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرم الله وجهه - أنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إذا استيقظ في الليل، استاك، ثم نظر إلى السماء.
إذن فالنظر إلى السماء هو النظر إلى العلو. والنظر إلى الأرض أيضاً هو تأمل في حكمة الخالق، لكن النظرة إلى السماء تجعل الإنسان يفطن إلى علو الخالق. ولذلك فالعربي الذي استلقى على ظهره نائماً، واستيقظ ففطن إلى لون السماء الأزرق البديع، والنجوم تتلألأ فيها فقال: أشهد أن لَكِ رباً وخالقاً، اللهم اغفر لي. ولقد عرف الرجل متى يدعو الله وكيف يدعو، لذلك غفر الله له.
وفيما روت كتب السيرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه جاء ليلة ونام، وكانت ليلة عائشة رضوان الله عليها. قالت عائشة لعبد الله بن عمر رضوان الله عليه. فنام بجوارى حتى مس جلدي جلده، ثم قال: «يا عائشة هل تأذنين لي الليلة في عبادة ربي»
لقد استأذن منها رسول الله في حقها لأن الليلة ليلتها. وأضافت عائشة: يا رسول الله أنا أحب قربك وأحب هواك، وقد أذِنتُ لَكَ.
لقد احتاطت الاحتياط الجميل، فهى تحب الرسول، وتقول: «وأنا أحب قربك» وهذا القول له معنى جميل، وحدث أن قال بعض المتنطعين على دين الله: إن رسول الله كان كبير السن بفارق كبير بينه وبين عائشة، وقولها ذلك إنما عن زهد فيه.
1956
لكنها عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - ردت على ذلك من قبل أن يقال. فقالت: يا رسول الله أنا أحب قربك وأحب هواك وقد أذنت لك. وهذا درس يعطيه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى نتعلم كيف نعامل أهلنا، حتى ولو كان الأمر الذي يشغلنا عنهم هو العبادة، وهو لا يريد أن ينشغل المؤمن عن رعاية أهله بعد أداء ما عليه من فروض، حتى ولو كان عبادة إلا بعد استئذان الأهل.
لماذا؟ لأن الله طلب من الزوجة في العبادة غير المفروضة ألا تتطوع حتى تستأذن زوجها. فالزوجة إن صلت تطوعاً، أو صامت تطوعاً لا بد أن تستأذن زوجها، فإن أذن لها، فبها، وإن لم يأذن فليس لها أن تقوم بهذه العبادة غير المفروضة.
يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خيركم.. خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»
لأن الزوج حين يقرب زوجته فهو يريد أن يعفها عن التطلعات البشرية؛ لذلك فعندما تريد الزوجة أن تأخذ وقتها وخصوصا إن كان لها ضرائر، فهذا الوقت حق لها. فإن أراده الزوج للعبادة غير المفروضة فعليه أن يستأذنها. وقد تكون الحالة النفسية للمرأة في عدم وجود ضرائر أكثر قدرة على قبول استئذان الزوج لها ليتفرغ للعبادة. ولذلك فأنت ترى من أهل الفتوى الإيضاح الناجح لمثل هذا الأمر.
لقد ذهبت امرأة تشكو زوجها لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وكان مضمون الشكوى أن زوجها لا يقربها، وكان مع عمر صحابي جليل. فقال له عمر ابن الخطاب: افتها. فقال الصحابي للزوج: يا هذا سنفرض أنك تزوجت أربعاً، فلزوجتك إذن ليلة بعد كل ثلاث ليال. وإذا كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد استأذن عائشة في عبادة ربه، فهذا معناه درس للأزواج أن يحسنوا معاملة الأهل إحساناً لا يجعل للمرأة تطلعا.
لكننا نجد أناساًَ لا يستأذنون أهلهم لا في العبادة، ولا حتى في سهرات المعصية. وهذا ما يفسد البيوت والأسر. إن ما يفسد البيوت أن يكون الزوج مشغولا عن الزوجة، ويذهب إلى أصحابه في المقهى أو في مكان آخر. ولا يهتم بأفراد أسرته.
1957
لماذا لا يذهب إلى منزلة ليؤانس أهله؟ وليشبع رغبتهم ويجلس مع زوجته وأهله وأولاده وبذلك تطمئن الزوجة أن رجلها معها وليس في مكان آخر، وذلك حتى تستقر الأمور. إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستأذن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فتأذن له. قالت عائشة رضوان الله عليها:
«فقام إلى قربة فتوضأ ثم قام فبكى ثم قرأ فبكى، ثم أثنى على الله وحمده فبكى، حتى ابتلت الأرض، ثم جاء بلال، فقال: يا رسول الله صلاة الغداة. فرآه يبكي. فقال: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال رسول الله: أفلا أكون عبدا شكورا.. يا بلال لقد نزل علي الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد
1958
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[آل عمران: ١٩٠ - ٢٠٠].
وأضاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها».
هذا ما جاء عن سيدنا رسول الله في أواخر سورة آل عمران، تلك الأواخر التي تبدأ بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار﴾.
إن في تلك الآيات المنهج والاستدلال، واصطحاب الحق سبحانه وتعالى وذكره على كل حال من القيام والقعود وعلى الجنب. إن الحق يقول: ﴿الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
ها نحن أولاء نرى أن مطلوب أولى الألباب هو أن يذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم. وقال بعض العلماء في تفسير قول الحق: ﴿الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ﴾ إن المقصود بذلك هو الصلاة، فمن لا يستطيع الصلاة قائماً يصلي قاعدا.. ومن لا يستطيع الصلاة قاعدا فليصل مضطجعا.
1959
ونقول لهؤلاء العلماء: لقد خصصتهم هذا المعنى حيث المقام للتعميم، لماذا لأن القرآن لا يتعارض مع بعضه، بل يفسر بعضه بعضا، والحق يقول عند صلاة الخوف: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾
[النساء: ١٠٢].
وحتى لا يظن المؤمن أن الفروض الخمسة هي التي يذكر فيها الله فقط قال سبحانه: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ [النساء: ١٠٣].
أي إنه حصلت الصلاة أولا، وحصلت الصلاة ثانيا، كأن ذكر الله أمر متصل واجب في الصلاة، وفي غيرها، وبعدها يتفكر المؤمنون في خلق السماوات والأرض ويعترفون أنه سبحانه لم يخلق هذا باطلاً. ويكون المطلوب أن يقولوا:
﴿سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩١].
1960
لماذا؟ لأن كل هذا الذكر لا يوفي حق ربنا علينا.. لذلك قالوا: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ... ﴾.
1961
إنها العظمة، فهم لا يذكرون عذاب من يدخل النار، ولكنهم يذكرون خزي الله لمن دخل النار. وكأن الخزي مرتبة أشر من عذاب النار، فمن الذي أعطانا كل هذا الفضل، إنه - سبحانه - أعطانا توفيقا لذكره، وتوفيقاً لنتفكر في خلق السماوات والأرض، فهل يصح أن نقابله بكفران النعمة؟ وما الذي يحدث بهؤلاء الذين يدخلون النار؟
إنه الخزي والعياذ بالله. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أي وليس لهم أنصار يمنعون عنهم عذاب النار.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي... ﴾
فكأن الإنسان بقلبه وفكره قبل أن يجيء له الرسول يجب أن يتنبه إلى ما في الكون
1961
من آيات، وعليه أن يستشرف أن وراء الكون قوة، ولكن هذه القوة مبهمة في ذهنه. ما هي؟ إنه يرى الكون العجيب فيقول لنفسه: من المستحيل أن يكون هذا الكون بلا خالق. إن وراءه قوة لها حكمة ولها قدرة. هذا قصارى ما يصل إليه العقل ولكن أيستطيع العقل أن يدرك أن القوة اسمها الله؟ أيستطيع العقل أن يدرك ماذا تطلب القوة منه؟
لا. إذن لابد من رسول يبلغ عن تلك القوة. ولذلك قلنا: إن تلك هي الزلة التي وقع فيها الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة هم الذين بحثوا وراء المادة. ونحن نعلم أن العلم ينقسم إلى قمسين، قسم مادي قائم على التجربة، وقسم ميتا فيزيقى يبحث فيما وراء المادة. وهذا العلم متاهة الفلاسفة، وهو المضلة التي لم تلتق فيها مدرسة بمدرسة، ولا تمليذ في مدرسة مع تلميذ آخر في مدرسة.
لماذا لم يلتقوا؟ لأنهم يبحثون وراء المادة. وما وراء المادة غيب. والغيب لا يدخل المعمل. لكن المادة تدخل المعمل. والمعمل عندما يعطي نتائج تحليلات لا يجامل في هذه النتائج. فالذي يدخل التجربة العلمية في المعمل بنزاهة فالمعمل يعطيه. والذي يدخل بغير نزاهة لا تعطيه المعامل شيئا.
ولذلك نقول دائما: إننا لا نجد في العلوم المادية فارقا بين علم شيوعي روسي، وعلم أمريكي رأسمالي، فلا توجد كيمياء رأسمالية أو كيمياء شيوعية ولا توجد كهرباء روسية وأخرى أمريكية. إنها كيمياء واحدة، وكهرباء واحدة لأنها ابنة المعمل وبنت التجربة المادية.
ومن العجيب الذي لا يفطن له الخلق المغرورون من هؤلاء أننا نجد العلم المادي ابن التجربة والمعمل والمادة الصماء التي لا تجامل يحاول كل معسكر أن يسرقه من غيره، ونجد الجواسيس يسافرون من معسكر إلى معسكر ليسرقوا تصميمات الطائرات والصواريخ. وأن بعضهم يتلصص على بعض حتى يعرفوا العلم المادي.
لكن ماذا عن علم الأهواء والنظريات؟ إننا نجد أن كل طرف يقيم جدارا حتى لا يخترق علم الأهواء المجتمع.
1962
هم يقيمون الحواجز في الأهواء، ولكن في العلم المادي يتحولون إلى لصوص. فلماذا لا يأخذون الأهواء مع العلم المادي؟ إن كل معسكر حريص على العداء مع مذاهب الغير في الحكم والاجتماع والاقتصاد. لكنهم في العلم المادي يسرق بعضهم بعضا؛ لأن المذاهب النظرية تتبع الأهواء، لكن العلم المادي - كما قلنا - يتبع الحقيقة المعملية التي لا تجامل.
إذن فساعة يفكر الإنسان بعقله لابد أن يقول: إن وراء خلق الكون قوة خارقة. وقد عرفها العربي بفطرته فقال: البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟!!
إنه دليل فطري، يدلك على وجود القوة، لكن ما اسم هذه القوة؟ لا نعرف.
إذن فالأذن تستشرف إلى من يدلها على اسم هذه القوة. فإذا جاء واحد وقال: أنا مُرْسَلٌ من ناحية هذه القوة، وأنَّ اسمها الله، كان من المفروض أن تتهافت الناس عليه؛ لأنه سيحل لها اللغز الذي يشغلهم، لذلك فالمؤمنون يقولون: ﴿رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ [آل عمران: ١٩٣].
كأن ذهن كل واحد فيهم كان مشغولا بضرورة التعرف على الخالق. وبعد ذلك. ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [آل عمران: ١٩٢].
فأول حاجة فكروا فيها هي درء المفسدة؛ لأن أفاضل الناس يتهمون أنفسهم بالتقصير دائما؛ لذلك قالوا: ﴿رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾.
وعندما ننظر إلى معطيات القرآن نجد أن «الذنب» شيء، و «السيئة» شيء آخر. فالذنب يحتاج إلى غفران، والسيئة تحتاج إلى تكفير، على سبيل المثال «كفارة اليمين» تكون واجبة إذا ما أقسم المؤمن يمينا وحنث فيه، وهذا التكفير هو المقابل
1963
للحنث في اليمين، أما الأشياء التي تتعلق بالمعصية بين العبد وربه فهي الذنب، والسيئة هي الأمر الذي يخالف منهج الله مع عباد الله. فحين تفعل المعصية في أمر بينك وبين الله. فأنت لم تسيء إلى الله، فمن أنت أيها الإنسان من منزلة الله؟ لكنك بالمعصية تذنب، والذنب تأتي بعده العقوبة. أما مخالفة منهج الله مع عباد الله فهي. سيئة؛ لأنك بها تكون قد أسأت.
لذلك فالمؤمنون قالوا: ﴿رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾.
ومن الذي هداهم إلى معرفة أن هناك فرقا بين الذنب والسيئة؟ وأن الذنب يحتاج إلى غفران، وأن السيئة تحتاج إلى تكفير؟ إنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حامل الرسالة من الله. وهو الذي علمنا الفرق بين الذنب والسيئة. فقد كان جالساً بين أصحابه فأخذته سِنَةٌ من النوم، ثم استيقظ فضحك.
فعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله: أعط أخاك مظلمته. قال يا رب: لم يبق من حسناتي شيء، قال: يا رب يحمل عني من أوزاري. وفاضت عينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى أن يُتَحَمَّل عنهم من أوزارهم. فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا؟ لأي صِدّيقٍ هذا؟ لأي شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن. قال: يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت. قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب قد عفوت عنه، قال: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يُصلح بين المؤمنين يوم القيامة».
1964
هذا هو معنى التكفير أي أن نتحمل؛ لذلك نقول في الدعاء كما عُلِّمْنَا: «اللهم ما كان لك منها فاغفره لي، وما كان لعبادك فتحمله عني». أي أن العبد يطلب أن يراضي الحق عباده من عنده، وما عنده لا ينفد أبدا.
والعباد المؤمنون يقولون: ﴿رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار﴾ أي اختم لنا سبحانك هذا الختام مع الأبرار. ومن بعد ذلك يأتي قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا....﴾.
1965
أي ربنا أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك، ولتسمع قول الحق استجابة لهم: ﴿فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي....﴾.
ولْنر اللفتة الجميلة في الاستجابة: «فاستجاب لهم ربهم أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض» لقد كانوا يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ويخشون الدخول إلى النار. ودعوا الله بغفران الذنوب وتكفير السيئات. ودعوا الله أن يأتيهم ويعطيهم ما وعدهم به على ألسنة الرسل.
لم يقل الحق سبحانه: استجبت لكم، لكنه جعل الاستجابة هي قبول العمل فقال: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى﴾ فليست الحكاية كلاما يقال، إنما يريد الله أن تدخل هذه المسائل في حيز التطبيق والنزوع العملي؛ فالمسألة ليست بالتمني فقط، فقد وضع سبحانه الشرط الواضح وهو العمل، فمن يريد استجابة الحق فلابد له من العمل. إن التفكر في بديع صنع الله لا يغني عن العمل؛ لأن الحق سبحانه يريد التفكر فيه وأنت تعمل في أسبابه. فأسباب الحق لا تشغلك عنه ﴿فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب﴾ [آل عمران: ١٩٥].
فالذين هاجروا من بلادهم ومن أهلهم ومن أوطانهم ومن أحبابهم، دون إكراه فهجرتهم هذه هي نزع وجودي، وانتقال من مكان إلى مكان جديد وكان ذلك في سبيل الله أي، فالذين هاجروا وخرجوا بجزء من إرادتهم، وكذلك الذين أخرجوا من ديارهم، وقاتلوا في سبيل الله وتحملوا الإيذاء وقُتلوا - هؤلاء - ينالون التكفير عن السيئات ويدخلون الجنة.
لقد جاء الحق هنا بالعملية التي تتضح فيها الأسوة الإيمانية؛ لأن الإنسان ينشغل بماله وأهله ووطنه وباستبقاء الحياة، فإذا ما ضحى الإنسان بهذا كله في سبيل الثبات
1966
على كلمة الله أولا، وإعلاء كلمة الله ونشرها ثانيا. فالمؤمن من هؤلاء لم يكتف بنفسه بل جاهد في سبيل الله لتنتقل الحياة بحلاوتها إلى غيره، وبذلك يكون قد أحب لغيره ما أحبه لنفسه.
نخرج من كل هذا برؤية واضحة هي أن الفكر وحده لا يكفي وإذا قال واحد: إن إيماني حسن فلا تأخذني بالمسائل الشكلية، نرد عليه قائلين: إن الله ليس في حاجة إلى ذلك، ولكنه يطلب منك أن تعمر الكون بحركتك، وأبرك الحركات وأفضلها أن ترسخ منهج الله في الأرض؛ لأنك إن رسخت منهج الله في الأرض، أدمت للوجود جماله.
ومن بعد ذلك يقول الحق: ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ... ﴾.
1967
وإذا ما سمعنا كلمة ﴿تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد﴾ فاعلم أن التقلب يحتاج إلى قدرة على الحركة. والقدرة على الحركة تكون في مكان الإنسان وبلاده، فإذا اتسعت قدرتك على الحركة وانتقلت إلى بلد آخر، فعندئذ يقال عن هذا الإنسان: «فلان نشاطه واسع» أي أن البيئة التي تحيا فيها ليست على قدرة قدرته، بل إن قدرته أكبر من بيئته، لذلك فإنه يخرج من بلده. وكان ذلك يحدث، فكفار قريش كانوا يرحلون من بلدهم في رحلات خارجها. لذلك قال الحق:
﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد﴾ [آل عمران: ١٩٦].
والتقلب كما عرفنا ينشأ عن: قدرة وحركة واتساع طموح. وسبحانه يريد أن يبين لنا أن زخارف الحياة قد تأتي لغير المؤمنين. إن كل زخرف هو متاع الحياة الدنيا وهو مرتبط بعمر الإنسان في الوجود. ومهما أخذوا فقد أخذوا زينة الحياة وغرورها؛
1967
فسبحانه هو القائل: ﴿وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور﴾ [آل عمران: ١٨٥].
إنها حياة لها نهاية. أما الذي يريد أن يُصَعِّدَ النعمة ويصعد النفع فهو يفعل العمل من أجل حياة لا تنتهي. والكافرون قد يأخذون العاجلة المنتهية، ولكن المؤمنين يأخذون الآجلة التي لا تنتهي.
وحين نقارن بين طالب الدنيا وطالب الآخرة، نرى أن الصفقة تستحق أن نناقشها من نواحيها وهي كما يلي: لا تقس عمر الدنيا بالنسبة لذاتها، ولكن قس عمرها بالنسبة لعمر الفرد في الحياة؛ لأن عمر الدنيا عند كل فرد هو مدة بقائه فيها، فهب أن الدنيا دامت لغيري، فمالي ولها، إن عمر الدنيا قصير بالنسبة لبقاء الإنسان فيها، وإياك أن تقارنها بقولك: إن الدنيا سوف تبقي لملايين السنين؛ لأنها ستظل ملايين السنين لملايين الخلق غيرك، وعمر الدنيا بالنسبة لك هو عمرك فيها، وعمرك فيها محدود، وهذا على فرض أن الإنسان سيعيش متوسط الأعمار. فما بالك وعمرك فيها مظنون؛ لأن الموت يأتي بلا سن ولا يرتبط بسبب أو بزمان. ولذلك فالإنسان لا يضمن متوسط الأعمار. وعمر الآخرة متيقن وهو إلى خلود.
إذن فعمر الإنسان في الدنيا مظنون وعمره في الآخرة متيقن، والدنيا محدودة، وفي الآخرة خلود، ونعيمك في الدنيا منوط بقدرتك على تصور النعمة وإمكاناتها. ولكن نعيمك في الآخرة على قدر عظمة رَبّك وعطائه العميم؛ لذلك قال الحق عنها: إنها متاع الغرور. ولم يأت الله لها باسم أقل من اسم الدنيا، فهل هناك اسم أقل وأحقر من هذا؟ إن الذين يغترون بما يناله الخارجون عن منهج الله من تقلبهم في البلاد عليهم أن يتذكروا أن كل ذلك إلى زوال وضياع. وعلينا أن نقارن التقلب في البلاد بما أعده الله لنا في الآخرة. وساعة تقارن هذه المقارنة تكون المقارنة سليمة..
ولذلك يتابع الحق قوله عن تقلب الذين كفروا في البلاد:
1968
﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ... ﴾
1969
والمهد هو المكان الذي ينام فيه الطفل. ومعنى ذلك أن الحق يقلب فيهم في جهنم كما يريد، لأنه لا قدرة لهم على أي شيء، شأنهم في ذلك شأن الطفل، يزال ملازما لفراشه ومهده حتى يقلبه ويحركه غيره. ويأتي المقابل لهؤلاء وهم المؤمنون فيقول:
﴿لَكِنِ الذين اتقوا... ﴾.
والنزل هو المكان الذي يعد لنزول الضيف، والنزل حينما تقيمه قدرات بشرية تتراوح حسب إمكانات البشر وفي إحدى السفريات نزلنا في فندق فاخر فقال لي زملائي وإخواني:
هذا لون من العظمة البشرية.
قلت لهم: هذا ما أعده البشر للبشر، فكيف بما أعده الله للمؤمنين؟
وعندما ترى تقلب الكفار في البلاد فاعلم أنهم لن يأمنوا أن يأخذهم الله في تقلبهم، وفي ذلك يقول:
1969
﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون﴾ [الأنعام: ٤٧].
ويقول - سبحانه -: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ﴾ [الأنعام: ٤٦].
والكافر من هؤلاء يتملكه الغرور، وهو يتقلب فيأتيه عذاب الله بغتة. والعذاب يأتي مرة بغتة، ومرة أخرى جهرة. إنه يأتي بغتة حتى يكون الإنسان متوقعا له في أي لحظة ويأتي جهرة حتى يرعب الإنسان ويخيفه قبل أن يقع. ولذلك يقول الحق: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٥].
فالموت إن جاءهم بغتة فقد لا يشعرون بهوله إلا لحظة وقوعه، ولكن حينما يأتيهم الموت وهم ينظرون، فهم يرونه وهم في فزع ورعب.
والحق يقول من بعد ذلك: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن... ﴾.
1970
والحق سبحانه وتعالى يؤرخ للإيمان تأريخا صادقا أمينا، فالقرآن لم يتحامل على أهل الكتاب لأنهم عاندوا رسول الله وواجهوا دعوته وصنعوا معه كل ما يمكن أن يحبط الدعوة ويقضي عليها.
إن القرآن يقول: في شأن بعض منهم منصفا لهم: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله﴾ وهذا اسمه - كما قلنا - صيانة الاحتمال. فساعة يقول الحق: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله﴾، ساعة ينزل هذا الكلام، فيسمعه بعض من أهل الكتاب الذين انشغلوا في أعماقهم بتصديق الرسول، ويعرضون قضية الإيمان على نفوسهم، فإذا ما كانوا كذلك ماذا يكون موقفهم وهم الذين يفكرون في أمر الإيمان بما جاء به محمد؟ إنهم عندئذ يقولون لأنفسهم: هذه مسألة في أعماقنا، فمن الذي أطلع محمداً عليها؟ إن ذلك دليل على أن محمداً لا ينطق عن الهوى، وأن الله يعلمه بما في نفوسنا مما لم يبرز إلى حيز الوجود، وما دام الحق يخبره بما لم يخرج إلى حيز الوجود فلابد أنه صادق. فإن كانت الآية قد قيلت بعد أن آمنوا فلن يكون لها هذا الوقع.
إذن فلابد أن هذا القول تبشير بأن كثيراً من أهل الكتاب يفكرون في تصديق الرسول الله في البلاغ من الله، وهم بصدد أن يؤمنوا. فقول الله ذلك يجعل العملية الإيمانية في نفوسهم مصدقة، لأنهم يقولون: إنّ الرسول الذي يقول ذلك هو مبلغ عن إله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ... ﴾.
هذه الآية هي ختام سورة آل عمران. وسورة آل عمران جاءت بعد سورة البقرة. والسورتان تشتركان معاً في قضية عقدية أولى، وهي الإيمان بالله والتصديق بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما جاء به من عند الله خاتما للرسالات ومهيمناً عليها. ولذلك تكلم الحق عن قضية الإيمان وقضية الهدى وقضية الكتاب، ثم تعرض الحق لرواسب ديانات سابقة تحولت عن منهج الله إلى أهواء البشر، فجادل في سورة البقرة اليهود، وجادل في سورة آل عمران النصارى.
وبعد ذلك عرض قضية إيمانية تتعلق بموقف المسلمين المؤمنين بالله وبتصديق رسوله في معترك الحياة، وعرض معركة من المعارك ابتلى فيها المؤمنون ابتلاءً شديداً، ثم عرض للقضية الإيمانية حين يثوب المؤمن المتخاذل إلى منهج ربه. وبعد أن ينتهي من هذه، يقول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ أي ما من آمنتم بما تقدم إيماناً بالله، وتصديقاً بكتابه، وتصديقاً برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتمحيصاً للحق مع اليهود، وتمحيصاً للحق مع أهل الكتاب جميعاً، تمحيصاً لا جدلياً نظرياً، ولكن واقعيا في معركة من أهم معارك الإسلام وهي معركة أحد، فيا من آمنتم بالله إيمانا صادقا صافيا، استمعوا إليّ يا من آمنتم بي «اصبروا» وهذا أمر، و «وَصَابِرُواْ» أمر ثان، و «رَابِطُواْ» أمر ثالث، و «واتقوا الله» أمر رابع.
إنها رابعة أوامر، والغاية من هذه الأوامر هي ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ إذن فمن عشق الفلاح فعليه أن ينفذ هذه الأربعة: اصبر، صابر، رابط، اتق الله، لعلك تفلح.
والحق سبحانه وتعالى حين يعبر عن الفلاح إنما يعبر بأمر مشهود مُحس للناس جميعاً، لم يقل لك: افعل ذلك لتنجح أو لتفوز. إنما جاء بكلمة «الفلاح». و «الفلاح» كما قلنا: مأخوذ من فلح الأرض. وفلح الأرض هو شقها لتتعرض للهواء، ولتكون سهلة هينة تحت الجذير البسيط الخارج من البذرة، فإذا فلحت الأرض بهذه المشقة حرثاً وبذراً وتعهداً بالري ماذا يحدث لك من الأرض؟ إنها تؤتيك خيراً مادياً مشهوداً ملحوظا.
إذن فقد ضرب الله المثل في المعنويات بالأمر المحُس الذي يباشره الناس جميعا، وأي فَلاَح هذا الذي يقصده الحق سبحانه وتعالى؟ إنه فلاح الدنيا
1970
وفلاح الآخرة؛ فلاح الدنيا بأن تنتصروا على خصومكم، وأن تعيشوا معيشة آمنة مستقرة رغدة، وفلاح الآخرة أن تأخذوا حظكم من الخلود في النعيم المقيم، ومادام سبحانه يقول: اصبروا فلابد أن يكون هذا إيذانا بأن فيه مشقة، فالإيمان يؤدي إلى الجنة، والجنة محفوفة بالمكاره؛ لذلك لابد أن تكون فيه مشقات.
وإذا نظرت إلى تلك المشقات تجدها في ذات النفس منفصلة عن المجتمع تارة، وتجدها في ذات النفس مع المجتمع تارة أخرى، أما في ذات النفس مفصولة عن المجتمع، فإن الصبر يقتضي أن تصبر على تنفيذ أمر الله في فعل الطاعات وعلى تحمل الألم منه في ترك المعاصي وإن كان ذلك يمنعك عن لذة شهوة تحبها فإنك تصبر عن تلك الشهوة التي تلح عليك، فمجاهدة المؤمن أن يصبر عن الشهوات التي نهى الله عنها، والأشياء التي تصيب الإنسان يصبر عليها، فالمصيبة في النفس يصبر عليها، والأشياء التي يصبر عنها من النواهي هي الشهوات والمتع التي يحرمها الله.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إنني خلقتك وأعلم منازعة نفسك إلى الشهوة، لأنك تحبها فاصبر عنها، والأمور التي في الطاعة إن فعلتها ستورثك مشقة في ذاتك، اصبر عليها، إذن ففي الأوامر صبر على تنفيذها، وفي المناهي صبر عن إيقاعها، هذه كلها في الذات، وبعد ذلك إذا تعدت المسألة من الذاتية إلى المحيط الخارجي فالحق يقول: ﴿والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون﴾ [البقرة: ١٧٧].
يقول: «صابرين في»، فعندنا «صابر على»، و «صابر عن» و «صابر في»، «والصابرين في البأساء» التي تقع عليهم من المجتمع الخارج عنهم، وكيف تصيبهم البأساء من المجتمع الخارج عنهم؟ نعم، لأن منهج الحق إنما يجيء ليصوب الخطأ في حركة المجتمع. والخطأ في حركة المجتمع إنما يستفيد منه أناس وهم يحرصون جاهدين أن يصدوا من يريدون تثبيت منهج الله، إذن فهم لا يقصرون في إيذائهم، وفي السخرية منهم، وفي إتعابهم وفي حربهم، وهذا صبر في البأساء
1973
والضراء وحين البأس، وإذا كان عدوك الذي جئت لتدحض منهجه الباطل بمنهجك الحق صابرك وصابر أيضاً على إيذائك، فعليك أن تصابره.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن «اصبر» غير «صابر» فاصبر هو أمر في نفسك ستصبر عليه، ولكن هب أن خصمك صبر أيضاً على إيذائك، وصار عنده جلد ليقف أمامك هنا،
الحق يأمرك هنا بأن تصابره، أي إذا كان عدوك يصبر قليلا فعليك أنت أن تقوى على الصبر عليه، أي أن تجيء بصبر فوق الصبر الذي يعارضك، وكل مادة «فاعل» هكذا.
مثال ذلك: عندما تقول: فلان نافس فلانا. والمنافسة تكون بين اثنين يحتاجان ويقصدان غاية، وكل واحد يريد أن يصل إليها، والذي يريد أن يصل إليها يريد أن يصل بحرص، فإن كان معاندك يحرص عليها بخطوة فاحرص عليها أنت بخطوتين، هذه هي المنافسة؛ فالمنافسة مغالبة على الفوز، والحق يقول: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون﴾ [المطففين: ٢٦] والأصل فيها هو: إطالة النفس حين يغطس الإنسان في الماء، وسيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أتنافسني؟ أي عرض عليه أن ينزلا معا تحت الماء، ويرى مَن منهما أطول نفسا.
إذن فالفطن الكيّس هو من يتمرس على هذا العمل ولا ينزل إلى الماء في نفس متردد، بل يأخذ كمية من الهواء بشهيق يتسع له تجويف صدره كله ليكون عنده حصيلة يستطيع بها أن يمكث في الماء أطول مدة من الثاني، أما الذي يغطس وليس عنده هذه الحصيلة، فسيأخذ مقدار شهيق وزفير فقط «فنافسني» تعني أن نغطس في الماء معا لنرى من منا أطول نفسا. أي أنه قادر على أن يحتفظ بكمية من الهواء تستطيع أن تؤدي وظيفة حياته مدة طويلة، ولا يمكن أن يتأتى هذا إلا إذا أخذت شهيقاً يملأ الصدر حتى إنك لا تقدر أن تزيد، ولذلك فالطبيب عندما يريد أن يفحص حالة الرئة يقول للمريض: خذ نفساً طويلاً، لأنه يريد أن يرى المريض وقدرته.
إذن فالمصابرة تعني إن كان خصمك يصابرك فأنت تصبر وهو يصبر، فتصبر أنت
1974
أكثر، ولهذا تحتاج المسألة إلى أن يتكاتف المجتمع كله على المصابرة، ولذلك جاء قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ [العصر: ١ - ٣].
أي أنك إذا رأيت أخا من إخوانك المؤمنين يخور ويضعف في مصابرته فتحثه على المصابرة وقل له: إياك أن تخور، لماذا؟ لأن النفس البشرية من الأغيار، وقد يأتي لها حدث يقوى عليها، فالمؤمن الذي ليس عنده هذه الأغيار ينفخ بالعزيمة فيمن يخور فقال الحق: «تواصوا»، ولم يقل: جماعة يوصون جماعة، لا. «فالتواصي» أن تكون أنت مرة موصِياً، ومرة مُوصىً، فساعة لا يكون عندك ضعف الأغيار فَوصِّ، وساعة يكون عندك ضعف الأغيار تُوَصىَّ، فكل واحد موصٍ في وقت، ومُوصىً في وقت آخر، ولا نتواصى هذه التوصية على الصبر إلا إذا كنا تواصينا أولا على الحق الذي من أجله نشأت المعركة بين صابر وصابر.
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وعرفنا الصبر، وعرفنا المصابرة، فما هو الرباط؟ هو أن تشعر عدوك بأنك مستعد دائما للقائه، هذا هو معنى الرباط. والحق يقول: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠].
إنها خيل مربوطة للجهاد في سبيل الله مستعدة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «خيركم ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها».
أي أن نكون مستعدين قبل وقوع الهجوم، وساعة تأتي الأمور الداهمة ننطلق لمواجهتها. ولكن يكون استعدادنا من قبل الأمر الداهم، ولذلك حين يكون عدوك
1975
عالما بأنك مرابط له ومستعد للحركة في أي وقت يرهبك ويخافك، أما إذا كنت في استرخاء وغفلة؛ فإنه يدهمك، فإلى أن تستعد يكون قد أخذ منك الجولة الأولى، إذن فما فائدة الرباط؟
فائدة الرباط أن يُعلم أنك لم تغفل عن عدوك وأنك لن تترك العدة والاستعداد له إلى أن يأتي بالمداهمة، ولكن تكون أنت مستعدّاً لها في كل وقت، والرباط لا يكون فقط أن ترابط بالخيل للعدو المهاجم هجوما ماديا، بل المرابطة تعني: الإعداد لكل ما يمكن أن يَرُدَّ عن الحق صيحة الباطل، فمن المرابطة أن تعد الناشئة الإسلامية لوافدات الإلحاد قبل أن تفد، لماذا؟
لأن المسألة ليست كلها غزواً بخيل وسلاح وعُدَد، فقد يكون الغزو بالفكر الذي يتسرب إلى النفوس من حيث لا تشعر، فإذن لابد أن تكون أيضاً في الرباط الذي يمد المؤمن بقدرة وطاقة المواجهة بحيث إذا جاءت قضية من قضايا الإلحاد التي قد تفد على المؤمنين، يكون عند كل واحد منهم الحصانة ضدها والقدرة على مواجهتها.
لقد قلنا: إن آفة المناهج العلمية أنهم أخذوا مناهجهم عن الغرب، فدرسوا التاريخ كما يدرسه الغرب، ودرسوا الطبيعة كما يدرسها الغرب ونسوا أن لنا دينا يحمينا من كل هذه الأشياء، فعندما يأتيني رجل التاريخ بمنهجه من الغرب، ويقول: إن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت حقوق الإنسان، هنا يجب أن تكون عندنا مناعة وترابط، ونقول له: في أي سنة نشأت الثورة الفرنسية؟
لقد نشأت منذ سنوات قليلة، قد تزيد أو تنقص علىلمائتي سنة، وأنتم تجهلون أن الدين الإسلامي جاء منذ أربعة عشر قرنا بحقوق الإنسان، واقرأوا القرآن. فلو أن كل تلميذ حين يسمع أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت حقوق الإنسان، يقول لهم: لا، أنت تعلم أن ذلك حدث في القرن السابع عشر لكن لماذا لا تلتفت إلى أنه منذ أربعة عشر قرنا جاء الإسلام بهذا المبدأ والتفت إلى الإساءة في استعمال الحق، فإذا كنت تجهل تشريع الله فلا يصح أن يؤدي بك هذا الجهل إلى طمس معالم الحق في منهج الله.
1976
وإذا قال دارس للطبيعة: إن الطبيعة أمدت الحيوان الفلاني باللون الذي يناسب البيئة التي يعيش فيها حتى لا يفتك به عدوه وهو بذلك يضلله، نقول له: إن الطبيعة لا تمد، الطبيعة ممدة من الله، لا تقل: إن الطبيعة أمدت. إذن فالرباط لا يكون بقوة عسكرية فحسب بل بالقوة العلمية أيضا، فخصوم الإسلام قد يئسوا من أن ينتصروا على الإسلام بقوة عسكرية بعد أن كتلوا كل قواهم في الحروب الصليبية، ولم يبق لهم إلا أن يَدخلوا علينا من خلال مناهجهم ومن خلال المستشرقين هناك، والمستغربين منا فينقلوا لنا ثقافات أجنبية بعيدة عن منهجنا، وهم معذورون لأنهم لا يعلمون منهج الله في دين الله، إذن فالرباط لابد أن يكون أيضاً في رباط الأفكار، ورباط العلم المادي.
إن خصوم الإسلام يدخلون على الناس من مداخل متعددة فيجب أن ننبه النشء إليها، يقولون: أوروبا ارتقت حضاريا وأنتم يا مسلمون تخلفتم.
نقول لهم: هل كان التخلف مقارنا للإسلام؟ لقد كانت الدولة الإسلامية هي الدولة الحضارية الأولى في العالم لمدة ألف سنة، وأوروبا التي تتشدقون بحضارتها كانت تعيش في العصور المظلمة. إن هؤلاء لم يعرفوا تاريخنا أو هم يتكلمون لأناس لا يعرفون تاريخهم.
إذن فالمرابطة أن توضح أمور دينك توضيحا يقف أمام أي وافدة قبل أن تفد بالعدوان المسلح، ويجب أن تقف لغزو الأفكار ولهدم المبادئ، ولذلك قال الحق: «اصبروا». و «صابروا». و «رابطوا»، وجماع كل ذلك «الصبر على» و «الصبر عن» و «الصبر في»، والمصابرة للعدو والتواصي بالصبر، والرباط بمعنييه المادي والمعنوي، أي بالأمور المادية والأمور المعنوية القيمية، ويختم الحق الآية بقوله: ﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
ونعرف أنه حين قال لك: «اتق الله» تساوي أن يقول لك: «اتق النار» فمعنى «اتقو الله» : أي اجعلوا بينكم وبين غضب ربكم وقاية. ما هي الوقاية؟ أن تطيع، وما هي الطاعة؟ أن تنفذ ما أمر، وأن تنتهي عما نهى. فالذي يفسر التقوى بأنها الطاعة نقول له: نعم لأنها الوسيلة إلى وقايتك من غضب الله وعذابه، فالذي
1977
يفسرها بهذا يفسرها بالوسيلة، والذي يفسرها بالأخرى يفسرها بالغاية، فعندما يقال لك: اتق الله، أي اجعل بينك وبين النار التي هي من جنود الله وقاية، أي اجعل بينك وبين غضب الله وقاية، وإذا قال لك: اتَّقِ الله يعني أطعه في أمره وفي نهيه، فما هي الوسيلة لاتقاء النار واتقاء غضب الله؟ إنها الطاعة، فمرة تفسر التقوى بالوسيلة ومرة تفسر بالغاية.
وقلنا في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ إن الفلاح إما أن يكون في الدنيا وإما أن يكون في الآخرة في الدنيا: بأن ترتفع كلمة الحق وكلمة الإيمان وتنتصروا ولا أحد يذلكم ولا يجعلكم أحد تابعين له. هذا لون من الفلاح، ولكن على فرض أنهم فلحوا وضعفتم أنتم، في فترة من الزمن فثقوا أنكم تعملون لفلاح آخر هو فلاح الآخرة، وإلا فالذين يخاطبون بهذه الآية قبل أن يدركوا نصرا للإسلام على أعدائه، يفسرون الفلاح بماذا؟ الذين جاهدوا وتعبوا وعاشوا مضطهدين لا استقرار في حياتهم، وبعد ذلك ماتوا قبل أن يمكن للإسلام، كيف يكون فلاحهم؟ إن فلاحهم في الآخرة، ولذلك تجد الاحتياط في قصة أهل الكهف: ﴿وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً﴾ [الكهف: ١٩ - ٢٠].
ونلحظ في هذه القصة قوله الحق: ﴿يَرْجُمُوكُمْ﴾ هذه واحدة، ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً﴾.
إن كانوا يرجمونكم فسينتصرون عليكم في الدنيا، إنما ستأخذون الآخرة، وإن
1978
ردوكم إلى دينهم، فلن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة، إذن فعناصر الفلاح المرادة للإنسان، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا إنّ عناصر الفلاح أن ننفذ أوامر الله في قوله: ﴿اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
1979
ردوكم إلى دينهم، فلن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة، إذن فعناصر الفلاح المرادة للإنسان، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا إنّ عناصر الفلاح أن ننفذ أوامر الله في قوله: ﴿اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
1981
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وتجلّدي للشامتين أُريهمو أني لِرَيْب الدهر لا أتضعضعُ