تفسير سورة لقمان

مراح لبيد
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة لقمان
مكية، أربع وثلاثون آية، خمسمائة وثمان وأربعون كلمة، ألفان ومائة وعشرة أحرف
الم (١) قيل: قسم أقسم الله به تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢)، أي هذه السورة آيات القرآن ذي الحكمة هُدىً وَرَحْمَةً بالنصب على الحالية من الآيات، وبالرفع على قراءة حمزة خبران آخران لاسم الإشارة لِلْمُحْسِنِينَ (٣) أي العاملين للحسنات. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يتقنون جميع ما أمروا به فيها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ كلها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)، أي وهم يصدقون بالبعث بعد الموت، فالصلاة ترك التشبه بالسيد، فالله تعالى تجب له العبادة، ولا تجوز عليه العبادة والزكاة تشبه بالسيد، فإنها دفع حاجة الغير والله دافع الحاجات والتشبه لازم على العبد في أمور، كما أن ترك التشبه لازم على العبد في أمور فلا يجلس العبد عند جلوس السيد ولا يتكئ عند اتكائه، وعبد العالم لا يتلبس بلباس الأجناد، وعبد الجندي لا يتلبس بلباس الزهاد، وبهما تتم العبودية. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) أي الناجون من كل مهروب والفائزون بكل مطلوب وَمِنَ النَّاسِ وهو النضر بن الحرث مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي أباطيل الحديث لِيُضِلَّ بذلك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي على دينه الحق الموصل إليه تعالى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، أي ليستمر على ضلاله عن قراءة كتاب الله تعالى الهادي إليه بِغَيْرِ عِلْمٍ أي يشتري بغير علم بحال ما يشتريه وَيَتَّخِذَها هُزُواً. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنصب عطفا على «يضل». والباقون بالرفع عطفا على «يشتري»، والضمير البارز للسبيل وهو دين الإسلام أو للقرآن. أُولئِكَ أي من يشتري ذلك لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) أي ذو إهانة لإهانتهم الحق، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ أي المشتري آياتُنا أي التي هي آيات الكتاب الحكيم وَلَّى مُسْتَكْبِراً أي أعرض عنها مبالغا في التكبر عن الإيمان بها، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي كأنه لم يسمع الآيات كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي مشبها حاله حالا من في أذنيه ثقل مانع من السماع، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) أي فأعلمه يا أشرف الخلق بأن العذاب المفرط في الإيلام لا حق به لا محالة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) أي نعيم جنات ف «لهم» خبر إن، و «جنات» مرفوع على الفاعلية. خالِدِينَ فِيها حال من «جنات النعيم»، أو من ضمير
«لهم»، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعدهم الله جنات النعيم وعدا وحق ذل حقا فهما مصدران مؤكدان الأول: لنفسه، والثاني: لغيره، لأن قوله تعالى: لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ في معنى وعدهم الله جنات النعيم، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما حقا فدل على معنى الثبات أكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنات النعيم. وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء، الْحَكِيمُ (٩) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة. خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ أي بغير دعائم تَرَوْنَها.
فهذا إما راجع للسموات وهو استئناف جيء به للاستشهاد على خلقه تعالى لها، غير معمودة بمشاهدتهم لها كذلك، أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك وإما راجع للعمد وهو صفة له أي بغير عمد مرئية، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت.
قال ابن عباس: هي الجبال الشامخات من أوتاد الأرض، وهي سبعة عشر جبلا منها:
قاف، وأبو قبيس، والجودي، ولبنان، وطور سينين، وثبير، وطور سيناء أخرجه ابن جرير أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميل الأرض بكم وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أي فرق الله في الأرض من كل نوع من أنواع ذي روح، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً وهو المطر فَأَنْبَتْنا فِيها، أي في الأرض بسبب ذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) أي من كل جنس حسن فتحت كل جنس نوعان لأن النبات إما شجر أو غير شجر، فالشجر إما مثمر أو غير مثمر.
هذا أي الأشياء المعدودة خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي أي فأخبروني يا أهل مكة، ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله مما تعبدونه فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق؟! بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) أي بل المشركون في خطأ بيّن وأنتم يا أهل مكة منهم وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ وهو توفيق العمل بالعلم فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة، فمن تعلم شيئا ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيما وإنما يكون مبخوتا ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع، فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال: إنه حكيم لعدم علمه به أولا، بل هو يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس والإنسان إذ علم أمرين أحدهما أهم من الآخر، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وكان حكمة وأن الأهم كان مخالفا للعلم، ولم يكن من الحكمة في شيء قيل: ولقمان هو ابن باعوراء من أولاد آزر، ابن أخت أيوب عليه السلام، وعاش حتى أدرك داود عليه السلام، وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعثه وروي أنه كان نائما في نصف النهار فنودي: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض فتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال: إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم على فسمعا وطاعة فإني أعلم أن الله تعالى إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني. فقالت الملائكة بصوت وهو لا يراهم: يا لقمان هل لك في الحكمة؟ قال: فإن الحاكم يغشاه المظلوم من كل مكان إن عدل نجا وإن أخطأ الطريق
236
أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطى الحكمة، فانتبه وهو يتكلم بها أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ف «أن» مفسرة فإن إيتاء الحكمة في معنى القول، فإن شكر الله تعالى أهم الأشياء وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ،
أي ومن يشكر له تعالى فإنما يشكر لنفسه لأن منفعته مقصورة عليها، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) أي ومن كفر النعمة فالله غير محتاج إلى شكره حتى يتضرر بكفران الكافر، وهو تعالى في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه. وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ثاران. وقيل: أنعم. وقيل: مشكم. وَهُوَ يَعِظُهُ ويبدأ في الوعظ بالأهم يا بُنَيَّ تصغير محبة.
وقرأ حفص بفتح الياء وسكنها ابن كثير، وكسرها الباقون. لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قيل: كان ابنه كافرا فلم يزل به حتى أسلم، ومن وقف على تشرك جعل بالله قسما إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)، لأن الشرك وضع للنفس الشريف، ولأنه وضع العبادة في غير موضعها وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، أي أمرناه بالبر بهما حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي حملته أمه في بطنها تضعف ضعفا فوق ضعف، كلما كبر الولد في بطنها كان أشد عليها وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي وفطامه في تمام عامين- وهي مدة الرضاع عند الشافعي، ومدة الرضاع عند أبي حنيفة ثلاثون شهرا- أَنِ اشْكُرْ لِي بالطاعة لأني المنعم في الحقيقة وَلِوالِدَيْكَ بالتربية، لأنهما سبب لوجودك.
قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) أي إلى الرجوع فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أي أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله، أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع وتقتضيه المروءة، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ بالتوحيد والإخلاص في الطاعة وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وقيل: هو أبو بكر الصديق، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف. وقالوا له: قد صدقت هذا الرجل وآمنت به قال: نعم هو صادق فآمنوا، ثم حملهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أسلموا فهؤلاء لهم سابقة الإسلام بإرشاد أبي بكر رضي الله عنه، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مرجعك أيها الإنسان، ومرجع والديك، ومرجع من أناب فَأُنَبِّئُكُمْ عند رجوعكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) بأن أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر.
يا بُنَيَّ، روى أن ابن لقمان قال: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال: يا بني إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي أن الخصلة من الإساءة والإحسان إن تلك مثلا في الصغر كحبة الخردل.
237
وقرأ نافع مثقال بالرفع وكان تامة وضمير «إنها» للقصة، أي إن الشأن أن يوجد وزن حبة الخردل، فَتَكُنْ أي تلك الخصلة فِي صَخْرَةٍ تحت الأرضين وهي التي عليها الثور، وهي لا في الأرض ولا في السماء أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي يحضرها ويحاسب عليها. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كل خفي خَبِيرٌ (١٦) بكنهه يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ بجميع حدودها وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإحسان، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي القبيح من القول والعمل، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد والمحن، لا سيما بسبب الأمر والنهي إِنَّ ذلِكَ أي الصبر أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) أي من الأمور الواجبة المقطوعة، فلم يرخص في تركه وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تعرض وجهك من الناس تكبرا. ويقال: لا تحقر فقراء المسلمين وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي اختيالا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) فالمختال من يكون به خيلاء، وهو الذي يري الناس عظمة نفسه، وهو التكبر والفخور، من يكون مفتخرا بنفسه، وهو الذي يرى عظمة نفسه وهو التكبر والفخور من يكون مفتخرا بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي توسط في المشي بين الدبيب والإسراع وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي وانقص منه، وهذا إشارة إلى التوسط في الأقوال إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أي إن أقبح أصوات الحيوانات صوت الحمير، أوله صوت قوي وآخره صوت ضعيف. أَلَمْ تَرَوْا أي ألم تعلموا أيها المشركون أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي أن الله جعل لأجلكم ما في السموات من الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والمطر، وما في الأرض من الشجر والدواب منقادا للأمر فإن الكائنات مسخرة لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق. وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي وأتم عليكم نعمة محسوسة معقولة، معروفة لكم، وغير معروفة.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص «نعمة» بفتح العين وبالهاء آخره. والباقون بسكون العين وبتاء منونة آخره. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث، وأبيّ بن خلف وأمية بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الله تعالى وفي صفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل وَلا هُدىً من جهة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) أنزله الله تعالى بل بمجرد التقليد،
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لمن يخاصم اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على نبيه من القرآن، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي قالوا: نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل من آبائنا، وهو عباد الأصنام أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ أي قال الله تعالى أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم فيما هم عليه من الشرك إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) فهم يقتدون بهم وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، أي ومن يفوض إليه تعالى مجامع أموره، ويقبل عليه تعالى بكليته وهو آت بأعماله جامعة بين الحسن الذاتي والوصفي فقد تمسك بحبل لا انقطاع له، وترقى بسببه إلى أعلا المقامات، وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) فيجازيه أحسن الجزاء، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي لا تحزن إذا كفر كافر إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا في
238
الدنيا من الكفر والمعاصي بالعقاب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) فلا يخفي عليه سرهم وعلانيتهم فينبئهم بما أضمرته صدورهم نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أي زمانا قليلا مدة حياتهم، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) ثم نردهم في الآخرة إلى عذاب شديد، أي فإنهم لما كذبوا الرسل، ثم تبين لهم الأمر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون ولا يختارون الوقوف بين يدي ربهم بمحضر الأنبياء. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وهذا يصدقك في دعوى الواحدانية، ويبين كذبهم في الإشراك قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ظهور صدقك وكذب مكذبيك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥)، أي ليس لهم علم يمنعك من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلا يستحق العبادة فيهما غيره تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦)، أي الغني عن العالمين، المستحق للحمد، وإن لم يحمده أحد. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، أي ولو كانت الأشجار أقلاما والبحار السبعة من بعد نفاذ البحر المحيط مدادا، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب، فإن العجائب بقوله تعالى: (كن) و «كن» كلمة، وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز كما يقول الشجاع لمن يبارزه: أنا موتك وكما يقال للدواء في حق المريض هذا شفاؤك، ودليل صحة هذا هو أن الله تعالى سمى المسيح: كلمة، لأنه كان أمرا عجيبا لوجوده من غير أب، ولذا قلنا بأن عجائب الله لا نهاية لها دخل فيها كلامه تعالى، فالمخلوق هو الحرف والتركيب هو عجيب. أما الكلمات فهي من صفات الله تعالى، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي كامل القدرة فلا يعجزه شيء حَكِيمٌ (٢٧) أي كامل العلم فلا يخرج عن علمه أمر ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي ما خلقكم وبعثكم إلا كخلق نفس واحدة بعثها في سهولة الحصول، إذ لا يشغله تعالى شأن، لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أي سميع لما يقولون كيف يبعثنا بصير بما يعملون أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم يا أيها الغافل أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل كل واحد منهما في الآخر ويضمه إليه، فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذللهما كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت معلوم في منازل معروفة لهما، وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ في كل وقت من الخير والشر خَبِيرٌ (٢٩). فمن شاهد مثل ذلك الصنع لا يغفل عن كون صانعه محيطا بجلائل أعماله ودقائقه ذلِكَ أي ما ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع، بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي الثابت الوجود وألوهيته، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وبسبب بيان بطلان إلهية ما يعبدونه من غيره تعالى.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص «يدعون» بالغيبة. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أي وبيان أنه تعالى هو العلي في صفاته، الكبير في ذاته، أكبر من كل ما
يتصور،
239
فلا يكون جسما في مكان
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ أي بالريح التي هي بأمر الله، وبإحسانه تعالى في تهيئة أسباب الجري لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ أي ليريكم بإجراء السفينة بنعمته بعض دلائل وحدته وعلمه وقدرته إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر لَآياتٍ عظيمة في ذاتها، كثيرة في عددها لِكُلِّ صَبَّارٍ في الشدة شَكُورٍ (٣١) في الرخاء، فالتكاليف أفعال وتروك، فالتروك: صبر عن المألوف. والأفعال: شكر على المعروف وَإِذا غَشِيَهُمْ أي أحاط بهم مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، أي كالجبال في الارتفاع دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، أي مفردين له تعالى بالدعوة بأن ينجيهم، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، أي مقيم على الطريق المستقيم الذي هو التوحيد، ومنهم من يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ أي كثير الغدر، ولا يكون الغدر إلا من قلة الصبر كَفُورٍ (٣٢) أي مبالغ في كفران نعم الله تعالى. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي يا أهل مكة أطيعوا ربكم وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي لا يقضي فيه والد عن ولده في دفع الآلام، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً في دفع الإهانة، ف «مولود» مبتدأ، و «هو» مبتدأ ثان، و «جاز» خبره. والجملة خبر «مولود».
وقرئ «لا يجزئ» بضم الياء ورفع الهمزة أي لا يغني. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالثواب والعقاب حَقٌّ أي لا يمكن إخلافه أصلا فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فإنها زائلة لوقوع اليوم الذي لا مجازاة بين الوالد وولده بالوعد الحق وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ أي بسبب حلم الله الْغَرُورُ (٣٣) أي الشيطان، أو الدنيا فمن الناس من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها، ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويقول: إنك تحصل بها الآخرة، أو تلتذ بها، ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة، أي كونوا من الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم وقت قيام القيامة وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ إلى محله في إبانه.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعصام بفتح النون وتشديد الزاي. وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ من ذكر أو أنثى، تام أو ناقص وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ كما لا تدري في أي وقت تموت.
روي أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه السلام، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ قال ملك الموت. فقال: كأنه يريدني! فمر الريح أن تحملني وتلقيني ببلاد الهند، ففعل، ثم قال الملك لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجبا منه حيث كنت أمرت بأن أقبض روحه بالهند وهو عندك. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أي مبالغ في العلم بكل شيء خَبِيرٌ (٣٤) أي عالم ببواطن الأشياء كما يعلم ظواهرها.
Icon