تفسير سورة الأحزاب

الماوردي
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ وهذا وإن كان معلوماً من حاله ففي أمره به أربعة أوجه :
أحدهما : أن معنى هذا الأمر الإكثار من اتقاء الله في جهاد أعدائه.
الثاني : استدامة التقوى على ما سبق من حاله.
الثالث : أنه خطاب توجه إليه والمراد به غيره من أمته.
الرابع : أنه لنزول هذه الآية سبباً وهو ما روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة ليجددوا خطاب رسول الله ﷺ في عهد بينه وبينهم فنزلوا عند عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس ومعتب بن قشير وائتمروا بينهم وأتوا رسول الله ﷺ فعرضوا عليه أموراً كره جميعها فهمَّ رسول الله ﷺ والمسلمون أن يقتلوهم فأنزل الله :﴿ يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتقِ اللَّهَ ﴾ يعني في نقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدة المشروطة لهم.
﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ﴾ من أهل مكة
. ﴿ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ من أهل المدينة فيما دعوا إليه
. ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما : عليماً بسرائرهم حكيماً بتأخيرهم.
الثاني : عليماً بالمصلحة حكيماً في التدبير.
قوله تعالى :﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَينِ ﴾ فيه ستة أقاويل
: أحدها : أن النبي ﷺ قام يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه إن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم فأنزل الله هذه تكذيباً لهم؛ قاله ابن عباس ويكون معناه ما جعل الله لرجل من جسدين.
الثاني : أن رجلاً من مشركي قريش من بني فهر قال : إن في جوفي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد وكذب فنزلت فيه، قاله مجاهد. ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من عقلين.
الثالث : أن جميل بن معمر ويكنى أبا معمر من بني جُمَح كان أحفظ الناس لما يسمع وكان ذا فهم ودهاء فقالت قريش ما يحفظ جميل ما يحفظ بقلب واحد إن له قلبين فلما كان يوم بدر وهزموا أفلت وفي يديه إحدى نعليه والأخرى في رجليه فلقيه أبو سفيان بشاطىء البحر فاستخبره فأخبره أن قريشا قتلوا وسمى من قتل من أشرافهم، قال له : إنه قد ذهب عقلك فما بال نعليك إحداهما في يدك والأخرى في رجلك؟ قال : ما كنت أظنها إلا في رجلي فظهر لهم حاله فنزلت فيه الآية، قاله السدي ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من فهمين.
الرابع : أن رجلاً كان يقول إن لي نفسين نفساً تأمرني ونفساً تنهاني فنزل ذلك فيه، قاله الحسن ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من نفسين.
الخامس : أنه مثل ضربه الله لزيد بن حارثة حين تبناه النبي ﷺ بعد أن أعتقه فلما نزل تحريم التبنّي منع من ادعائه ولداً ونزل فيه ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنَ قَلْبِينِ ﴾ يقول : ما جعل الله لرجل من أبوين، كذلك لا يكون لزيد أبوين حارثة ومحمد ﷺ، قاله مقاتل بن حيان. وفيه إثبات لمذهب الشافعي في نفي الولد عن أبوين ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من أبوين.
السادس : معناه : أنه لا يكون لرجل قلب مؤمن معنا وقلب كافر علينا لأنه لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب واحد ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من دينين، حكاه النقاش.
﴿ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّلآئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ وهو أن يقول لزوجته أنت عليّ كظهر أمي، فهذا ظهار كانوا في الجاهلية يحرمون به الزوجات ويجعلونهن في التحريم كالأمهات فأبطل الله بذلك أن تصير محرمة كالأم لأنها ليست بأم وأوجب عليه بالظهار منها إذا صار فيه عامداً كفارة ذكرها في سورة المجادلة ومنعه من إصابتها حتى يكفر وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب.
﴿ وَمَا جَعلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ يعني بذلك أدعياء النبي. قال مجاهد كان الرجل في الجاهلية يكون ذليلاً فيأتي ذا القوة والشرف فيقول : أنا ابنك فيقول نعم فإذا قبله واتخذه ابناً أصبح أعز أهله وكان زيد بن حارثة منهم قد تبناه رسول الله ﷺ على ما كان يصنع أهل الجاهلية فلما جاءت هذه الآية أمرهم الله أن يلحقوهم بآبائهم فقال :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ في الإسلام.
356
﴿ ذَلِكُم قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ ﴾ أن امرأته بالظهار أُمُّه وأن دَعيه بالتبني ابنه ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ﴾ في أن الزوجة لا تصير في الظهار أُمّاً والدعيُّ لا يصير بالتبني ابناً.
﴿ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ يعني في إلحاق النسب بالأب، وفي الزوجة أنها لا تصير كالأم.
قوله تعالى :﴿ ادْعُوهُمْ لآبآئِهِمْ ﴾ يعني التبني : قال عبد الله بن عمر ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى :﴿ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ ﴾ قال السدي فدعاه النبي ﷺ إلى حارثة وعرف كل نسبه فأقرّوا به وأثبتوا نسبه.
﴿ هُوَ أَقْسَطُ عِنَد اللهِ ﴾ أي أعدل عند الله قولاً وحكماً.
﴿ فَإِنَ لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَآءَهُمْ فإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : فانسبوهم إلى أسماء إخوانكم ومواليكم مثل عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم وعبد العزيز، قاله مقاتل بن حيان.
الثاني : قولوا أخونا فلان وولينا فلان، قاله يحيى بن سلام. وروى محمد بن المنكدر قال : جلس نفر من أصحاب النبي ﷺ منهم جابر بن عبد الله الأنصاري فتفاخروا بالآباء فجعل كل واحد منهم يقول أنا فلان بن فلان حتى انتهوا إلى سلمان فقال أنا سلمان ابن الإسلام فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال صدق سلمان وأنا عمر بن الإسلام وذلك قوله :﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾.
الثالث : إنه إن لم يُعرف لهم أب ينسبون إليه كانوا إخواناً إن كانوا أحراراً، وموالي إن كانوا عتقاء كما فعل المسلمون فيمن عرفوا نسبه وفيمن لم يعرفوه فإن المقداد بن عمرو كان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث الزهري فرجع إلى أبيه وسفيان بن معمر كانت أمه امرأة معمر في الجاهلية فادعاه ابناً ثم أسلم سفيان وشهد بدراً فنسب إلى أبيه ونسبه في بني زريق من الأنصار. وممن لم يعرف له أب سالم، مولى أبي حذيفة ونسب إلى ولاء أبي حذيفة.
﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأَتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ما أخطأتم قبل النهي وما تعمدت قلوبكم بعد النهي في هذا وغيره، قاله مجاهد.
الثاني : ما أخطأتم به ما سهوتم عنه، وما تعمدمت قلوبكم ما قصدتموه عن عمد، قاله حبيب بن أبي ثابت.
الثالث : ما أخطأتم به أن تدعوه إلى غير أبيه، قاله قتادة.
﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفوراً رَحيماً ﴾ أي غفوراً عما كان في الشرك، رحيماً بقبول التوبة في الإسلام.
357
قوله تعالى :﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه أولى بهم من بعضهم ببعض لإرساله إليهم وفرض طاعته عليهم، وقاله مقاتل بن حيان.
الثاني : أنه أولى بهم فيما رآه له بأنفسهم، قاله عكرمة.
الثالث : أنه كان في الحرف الأول : هو أب لهم. وكان سبب نزولها أن النبي ﷺ لما أراد غزاة تبوك أمرالناس بالخروج فقال قوم منهم نستأذن آباءنا وأمهاتنا فأنزل الله فيهم هذه الآية، حكاه النقاش.
الرابع : أنه أولى بهم في قضاء ديونهم وإسعافهم في نوائبهم على ما رواه عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« مَا مِن مُؤمنٍ إِلاَّ أَنَا أَولَى النَّاس بِهِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ اقْرَأُوا إِن شِئْتُم ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلْتَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَن كَانُوا، وَإِن تَرَكَ دَيناً أَوْ ضِيَاعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ
»
. ﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ يعني من مات عنها رسول الله ﷺ من أزواجه هن كالأمهات في شيئين.
أحدهما : تعظيم حقهن.
الثاني : تحريم نكاحهن. وليس كالأمهات في النفقة والميراث.
واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر على الوجهين :
أحدهما : هن محرم لا يحرم النظر إليهن لتحريم نكاحهن.
الثاني : أن النظر إليهن محرم لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله ﷺ فيهن فكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة فيصير محرماً يستبيح النظر.
وأما اللاتي طلقهن رسول الله ﷺ في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه :
أحدها : تثبت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله ﷺ.
الثاني : لا يثبت لهن ذلك بل هذه كسائر النساء لأن النبي ﷺ قد أثبت عصمتهن وقال : أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة.
الثالث : أن من دخل بها رسول الله ﷺ منهن ثبتت حرمتها ويحرم نكاحها وإن طلقها حفاظاً لحرمته وحراسة لخلوته ومن لم يدخل بها لم يثبت لها هذه الحرمة، وقد همّ عمر بن الخطاب برجم امرأة فارقها النبي ﷺ فنكحت بعده فقالت : لم هذا وما ضرب عليَّ رسول الله ﷺ حجاباً ولا سميت للمؤمنين أماً، فكف عنها.
وإذا كان أزواج النبي ﷺ أمهات المؤمنين فيما ذكرناه فقد اختلف فيهن هل هن أمهات المؤمنات على وجهين :
أحدهما : أنهن أمهات المؤمنين والمؤمنات تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء.
358
الثاني : أن هذا حكم يختص بالرجال المؤمنين دون النساء لاختصاص الحظر والإباحة بالرجال دون النساء. وقد روى الشعبي عن مسروق عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أماه فقالت لست بأم لك أنا أم رجالكم.
﴿ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجرِينَ ﴾.
قيل إنه أراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشاً. وفيه قولان :
أحدهما : أن هذا ناسخ للتوارث بالهجرة حكى سعيد عن قتادة قال كان نزل في الأنفال ﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتهِمْ مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ ﴾ فتوارث المسلمون بالهجرة فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المهاجر المسلم شيئاً ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله ﴿ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾.
الثاني : أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين روى هشام بن عمرو عن أبيه عن الزبير بن العوام قال أنزل فينا خاصة معشر قريش والأنصار لما قدمنا المدينة قدمناه ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخيت أنا كعب بن مالك، فلما كان يوم أُحد قتل كعب بن مالك فجئت فوجدت السلاح قد أثقله فوالله لقد مات ما ورثه غيري حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا.
قوله تعالى :﴿ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : في القرآن، قاله قتادة.
الثاني : في اللوح المحفوظ الذي قضى أحوال خلقه، قاله ابن بحر.
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ يعني أن التوارث بالأنساب أولى من التوارث بمؤاخاة المؤمنين وبهجرة المهاجرين ما لم يختلف بالمتناسبين دين فإن اختلف بينهما الدين فلا توارث بينهما روى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي ﷺ قال :« لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتِينِ
»
. ﴿ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً ﴾ فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه أراد الوصية للمشرك من ذوي الأرحام، قاله قتادة.
الثاني : أنه عنَى الوصية للحلفاء الذي آخى بينهم رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار، قاله مجاهد.
الثالث : أنه أراد الذين آخيتم تأتون إليهم معروفاً، قاله مقاتل بن حيان.
الرابع : أنه عنى وصية الرجل لإخوانه في الدين، قاله السدي.
﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكَتَابِ مَسْطُوراً ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : كان التوارث بالهجرة والمؤاخاة في الكتاب مسطوراً قبل النسخ.
والثاني : كان نسخه بميراث أولي الأرحام في الكتاب مسطوراً قبل التوارث.
الثالث : كان أن لا يرث مسلم كافرا في الكتاب مسطوراً.
وفي ﴿ الْكِتَابِ ﴾ أربعة أوجه :
أحدها : في اللوح المحفوظ، قاله إبراهيم التيمي.
الثاني : في الذكر، قاله مقاتل بن حيان.
الثالث : في التوراة أمر بني اسرائيل أن يصنعوا مثله في بني لاوي بن يعقوب حكاه النقاش.
الرابع : في القرآن، قاله قتادة.
359
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ميثاقهم على قومهم أن يؤمنوا بهم، قاله ابن عباس.
الثاني : ميثاق الأمم على الأنبياء أن يبلغوا الرسالة إليهم، قاله الكلبي.
الثالث : ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً، قاله قتادة.
﴿ وَمِنكَ وَمِن نَّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ سئل عن قول الله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِنَ نُّوحٍ ﴾ قال « كُنتُ أَوَّلَهُم فِي الخَلْقِ وَآخِرَهُم في البَعْثِ
»
. ﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثاقاً غَلِيظاً ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الميثاق الغليظ تبليغ الرسالة.
الثاني : يصدق بعضهم بعضاً.
الثالث : أن يعلنوا أن محمداً رسول الله، ويعلن محمد أنه لا نبي بعده.
وفي ذكر من سمى من الأنبياء مع دخولهم في ذكر النبيين وجهان :
أحدهما : تفضيلاً لهم.
الثاني : لأنهم أصحاب الشرائع.
قوله تعالى :﴿ لِّيَسْأَلَ الصَادِقِينَ عَنَ صِدْقِهِمْ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، حكاه النقاش. الثاني : ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم، حكاه النقاش ابن عيسى.
الثالث : ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم، حكاه ابن شجرة.
الرابع : ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة.
قوله تعالى :﴿ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ قال ابن عباس يعني يوم الأحزاب حين أنعم الله عليهم بالصبر ثُم بالنصر.
﴿ إِذْ جَآءَتْكُم جُنُودٌ ﴾ قال مجاهد : جنود الأحزاب أبو سفيان وعيينة بن حصين وطلحة بن خويلد وأبو الأعور السلمي وبنو قريظة.
﴿ فَأرْسَلْنَا عَلَيِهِمْ رِيحاً ﴾ قال مجاهد : هي الصَّبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم وروى ابن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ :« نُصِرْتُ بِالصّبَا وأُهْلِكَت عَادٌ بِالدَّبُورِ » وكان من دعائه يوم الأحزاب « اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَورَتَنَا وَآمِن رَوْعَتَنَا » فضرب الله وجوه أعدائه بريح الصَبا.
﴿ وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا ﴾ قال مجاهد وقتادة : هم الملائكة
. وفي ما كان منهم أربعة أقاويل :
أحدها : تفريق كلمة المشركين وإقعاد بعضهم عن بعض.
الثاني : إيقاع الرعب في قلوبهم، حكاه ابن شجرة.
الثالث : تقوية نفوس المسلمين من غير أن يقاتلوا معهم وأنها كانت نصرتهم بالزجر حتى جاوزت بهم مسيرة ثلاثة أيام فقال طلحة بن خويلد : إن محمداً قد بدأكم بالسحر فالنجاة النجاة.
﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾ يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو
. قوله تعالى :﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ يعني من فوق الوادي وهو أعلاه من قبل المشرق، جاء منه عوف بن مالك في بني نضر، وعيينة بن حصين في أهل نجد، وطلحة بن خويلد الأسدي في بني أسد.
﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ يعني من بطن الوادي من قبل المغرب أسفل أي تحتاً من النبي ﷺ، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة، ويزيد بن جحش على قريش، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق.
﴿ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : شخصت.
الثاني : مالت :
﴿ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ ﴾ أي زالت عن أماكنها حتى بلغت القلوب الحناجر وهي الحلاقيم واحدها حنجرة. وقيل إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة. وروي عن ابي سعيد الخدري أنه قال يوم الخندق : يا رسول الله ﷺ هل تأمر بشيء تقوله فقد بلغت القلوب الحناجر فقال :« نعم قُولُواْ : اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتَنَا وَآمِنْ رَوْعَتَنَا » قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزموا بها.
﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : فيما وعدوا به من نصر، قاله السدي.
الثاني : أنه اختلاف ظنونهم فظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يُستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون، قاله الحسن.
قوله تعالى :﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : بالحصر، حكاه النقاش.
الثاني : بالجوع فقد أصابهم بالخندق جوع شديد، قاله الضحاك.
الثالث : امتحنوا في الصبر على إيمانهم وتميز المؤمنون عن المنافقين، حكاه ابن شجرة. وحكى ابن عيسى أن ﴿ هُنالِكَ ﴾ للبعد من المكان، وهناك للوسط وهنا للقريب.
﴿ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾ فيه أربعة أوجه
: أحدها : حركوا بالخوف تحريكاً شديداً، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : أنه اضطرابهم عما كانوا عليه فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه.
الثالث : أنه حركهم الأمر بالثبات والصبر، وهو محتمل.
الرابع : هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق، قاله الضحاك.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن المرض النفاق، قاله قتادة.
الثاني : أنه الشرك، قاله الحسن.
﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ حكى السدي أن النبي ﷺ كان يحفر الخندق لحرب الأحزاب فبينا هو يضرب فيه بمعوله إذ وقع المعول على صفاة فطار منها كهيئة الشهاب من نار في السماء، وضرب الثاني فخرج مثل ذلك، وضرب الثالث فخرج مثل ذلك فرأى ذلك سلمان فقال له النبي ﷺ :« رَأَيتَ مَا خَرَجَ فِي كُلّ ضَرْبَةٍ ضَرَبْتَهَا » قال : نعم يا رسول الله فقال له النبي ﷺ :« تُفْتَحُ لَكُمْ بِيضُ المَدَائِنِ وَقُصُورُ الرُّومِ وَمَدَائِنُ اليَمن » قال ففشا ذلك في أصحاب رسول الله ﷺ فتحدثواْ به، فقال رجل من الأنصار يدعى قشير بن معتب. وقال غيره قشير بن عدي الأنصاري من الأوس : وعدنا محمد أن تفتح لنا مدائن اليمن وقصور الروم وبيض المدائن وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلا قتل؟ هذا والله الغرور فأنزل الله هذه الآية.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالت طَّآئِفَةٌ مِّنهُمْ ﴾ يعني من المنافقين قيل إنهم من بني سليم، وقيل إنه من قول أوس بن فيظي ومن وافقه على رأيه، ذكر ذلك يزيد بن رومان، وحكى السدي أنه عبد الله بن أُبي وأصحابه.
﴿ يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مَقُامَ لَكُم فَارْجِعُواْ ﴾ قرأ حفص عن عاصم بضم الميم، والباقون بالفتح. وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : وهو قول الفراء أن المقام بالفتح الثبات على الأمر، وبالضم الثبات في المكان.
الثاني : وهو قول ابن المبارك انه بالفتح المنزل وبالضم الإقامة.
وفي تأويل ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : أي لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب، قاله الحسن.
الثاني : لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى طلب الأمان، قاله الكلبي.
الثالث : لا مقام في مكانكم فارجعوا إلى مساكنكم، قال النقاش.
والمراد بيثرب المدينة وفيه قولان :
أحدهما : أن يثرب هي المدينة، حكاه ابن عيسى.
362
الثاني : أن المدينة في ناحية من يثرب، قاله أبو عبيدة وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال رسول الله ﷺ « مَن قَالَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هَي طَابَةُ » ثلاثة مرات
. ﴿ وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ ﴾ قال السدي : الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة، أحدهما أبو عرابة بن أوس، والآخر أوس بن فيظي. قال الضحاك : ورجع ثمانون رجلاً بغير إذن.
﴿ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قاصية من المدينة نخاف على عورة النساء والصبيان من السبي، قاله قتادة.
الثاني : خالية ليس فيها إلا العورة من النساء، قاله الكلبي والفراء، مأخوذ من قولهم قد اعور الفارس إذا كان فيه موضع خلل للضرب قال الشاعر :
له الشدة الأولى إذا القرن أعورا... الثالث : مكشوفة الحيطان نخاف عليها السراق والطلب، قاله السدي والعرب تقول قد أعور منزلك إذا ذهب ستره وسقط جداره وكل ما كره انكشافه فهو عندهم عورة، وقرأ ابن عباس : إن بيوتنا عَوِرة، بكسر الواو، أي ممكنة العورة.
ثم قال :﴿ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ﴾ تكذيباً لهم فيما ذكروه.
﴿ إِن يُريدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما : فراراً من القتل.
الثاني : من الدِّين. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار من بني حارثة وبني سلمة، همّوا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق وفيهم أنزل الله ﴿ إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أن تَفْشَلاَ ﴾ [ آل عمران : ١٢٢ ] الآية. فلما نزلت هذه الآية قالوا : والله ما سرّنا ما كنا هممنا به إن كان الله ولينا.
363
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ﴾ أي لو دخل على المنافقين من أقطار المدينة ونواحيها.
﴿ ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لأَتَوهَا ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : ما تلبثوا عن الإجابة إلى الفتنة إلا يسيراً، قاله ابن عيسى.
الثاني : ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً حتى يعدموا، قاله السدي.
قوله :﴿ وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ ﴾ الآية، فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم عاهدوه قبل الخندق وبعد بدر، قاله قتادة.
الثاني : قبل نظرهم إلى الأحزاب، حكاه النقاش.
الثالث : قبل قولهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا.
وحكي عن ابن عباس أنهم بنو حارثة.
﴿ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما مسئولاً عنه للجزاء عليه.
الثاني : للوفاء به.
قوله تعالى :﴿ قُل مَن الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّن اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ﴾.
فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إن أراد بكم هزيمة أو أراد بكم نصراً، حكاه النقاش.
الثاني : إن أراد بكم عذاباً، أو أراد بكم خيراً، قاله قتادة.
الثالث : إن أراد بكم قتلاً أو أراد بكم توبة، قاله السدي.
قوله تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ ﴾ يعني المثبطين من المنافقين، قيل إنهم عبد الله بن أُبي وأصحابه.
﴿ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِليْنَا ﴾ فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم المنافقون قالوا للمسلمين ما محمد إلا أكلة رأس وهو هالك ومن معه فهلم إلينا.
الثاني : أنهم اليهود من بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين هلم إلينا أي تعالوا إلينا وفارقوا محمداً فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحداً.
الثالث : ما حكاه ابن زيد أن رجلاً من أصحاب النبي ﷺ انصرف من عند يوم الأحزاب فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف فقال : أنت هكذا ورسول الله ﷺ بين الرماح والسيوف، فقال له أخوه كان من أبيه وأمه. هلّم إليّ قد تُبع بك وبصاحبك أي قد أحيط بك وبصاحبك، فقال له : كذبت والله لأخبرنه بأمرك وذهب إلى رسول الله ﷺ ليخبره فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾.
﴿ وَلاَ يَأْتُونَ البََأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : لا يحضرون القتال إلا كارهين وإن حضروه كانت أيديهم مع المسلمين وقلوبهم مع المشركين قاله قتادة.
الثاني : لا يشهدون القتال إلا رياء وسمعة، قاله السدي، وقد حكي عن الحسن في قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَذْكُرُونَ إلاَّ قَلِيلاً ﴾ إنما قل لأنه كان لغير الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ أَشِحَّةً عَلَيكُمْ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أشحة بالخير، قاله مجاهد.
الثاني : بالقتال معكم، قاله ابن كامل.
الثالث : بالغنائم إذا أصابوها، قاله السدي.
الرابع : أشحة بالنفقة في سبيل الله، قاله قتادة.
﴿ فَإِذَا جَآءَ الْخَوفُ ﴾ فيه قولان
: أحدهما : إذا جاء الخوف من قتال العدو إذا أقبل، قاله السدي.
الثاني : الخوف من النبي ﷺ إذا غلب، قاله ابن شجرة.
﴿ رَأيْتُهُمْ يَنْظُرُونَ إِليَكَ ﴾ خوفاً من القتال على القول الأول، ومن النبي ﷺ على القول الثاني.
﴿ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيهِ مِنَ الْمَوتِ ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما : تدور أعينهم لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة.
الثاني : تدور أعينهم لشدة خوفهم حذراً أن يأتيهم القتل من كل جهة.
﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : أي رفعوا أصواتهم عليكم بألسنة حداد أي شديدة ذربة، ومنه قول النبي ﷺ :« لَعَنَ اللَّهُ السَّالِقَةَ وَالخَارِقَةُ وَالحَالِقَةَ » يعني بالسالقة التي ترفع صوتها بالنياحة والخارقة التي تخرق ثوبها في المصيبة وبالحالقة التي تحلق شعرها.
الثاني : معناه آذوكم بالكلام الشديد. والسلق الأذى، قاله ابن قتيبة. قال الشاعر :
ولقد سلقن هوازنا... بنواهلٍ حتى انحنينا
وقال الخليل : سلقته باللسان إذا أسمعته ما يكره وفي سلقهم بألسنةٍ حداد وجهان :
أحدهما : نزاعاً في الغنيمة، قاله قتادة.
الثاني : جدالاً عن أنفسهم، قاله الحسن.
﴿ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : على قسمة الغنيمة، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : على المال ينفقونه في سبيل الله، قاله السدي.
الثالث : على النبي ﷺ بظفره.
﴿ أَوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ ﴾ يعني بقلوبهم
. ﴿ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ يعني حسناتهم أن يثابوا عليها لأنهم لم يقصدوا وجه الله تعالى بها.
﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : وكان نفاقهم على الله هيناً.
الثاني : وكان إحباط عملهم على الله هيناً.
قوله تعالى :﴿ يَحْسَبُونَ الأَحْزَابِ لَمْ يَذْهَبُواْ ﴾ يعني أن المنافقين يحسبون أبا سفيان وأحزابه من المشركين حين تفرقوا عن رسول الله ﷺ مغلوبين لم يذهبوا عنه وأنهم قريب منهم ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنهم كانواعلى ذلك لبقاء خوفهم وشدة جزعهم.
الثاني : تصنعاً للرياء واستدامة التخوف.
﴿ وَإِنَ يَأْتِ الأَحْزَابُ ﴾ يعني أبا سفيان وأصحابه من المشركين
. ﴿ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعرْابِ ﴾ أي يود المنافقون لو أنهم في البادية مع الأعراب حذراً من القتل وتربصاً للدوائر.
﴿ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ ﴾ أي عن أخبار النبي ﷺ وأصحابه يتحدثون : أما هلك محمد وأصحابه، أما غلب أبو سفيان وأحزابه.
﴿ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : إلا كرهاً.
الثاني : إلا رياءً.
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوُلِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أي مواساة عند القتال، قاله السدي.
الثاني : قدوة حسنة يتبع فيها، والأسوة الحسنة المشاركة في الأمر يقال هو مواسيه بماله إذا جعل له نصيباً.
وفي المراد بذلك وجهان :
أحدهما : الحث على الصبر مع النبي ﷺ في حروبه.
الثاني : التسلية لهم فيما أصابهم فإن النبي ﷺ شُج وكُسِرَت رباعيته وقتل عمه حمزة.
﴿ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر قاله ابن عيسى.
الثاني : لمن كان يرجوا الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، قاله ابن جبير.
﴿ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما : أي استكثر من العمل بطاعته تذكراً لأوامره.
الثاني : أي استكثر من ذكر الله خوفاً من عقابه ورجاء لثوابه واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين :
أحدهما : المنافقون عطفاً عل ما تقدم من خطابهم.
الثاني : المؤمنون لقوله :﴿ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ﴾.
واختلف في هذه الأسوة بالرسول هل هي على الإِيجاب أو على الاستحباب على قولين :
أحدهما : على الإيجاب حتى يقوم دليل علىلاستحباب.
الثاني : على الاستحباب حتى يقول دليل على الإيجاب.
ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأحْزَابِ... ﴾ الآية. فيه قولان :
أحدهما : أن الله وعدهم في سورة البقرة فقال ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ] الآية. فلما رأواْ أحزاب المشركين يوم الخندق ﴿ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ قاله قتادة.
الثاني : ما رواه كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله ﷺ عام ذكرت الأحزاب فقال :« أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةُ عَلَيهَا يَعْنِي قُصُورِ الحِيرَةِ وَمَدَائِنِ كِسرَى فَأبْشِرُوا بِالنَّصْرِ » فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صادق إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ ﴾ الآية.
﴿... إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ فيه قولان
: أحدهما : إلا إيماناً وتسلمياً للقضاء، قاله الحسن.
الثاني : إلا إيماناً بما وعد الله وتسليماً لأمر الله.
قوله تعالى :﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ فيهم قولان
: أحدهما : أنهم بايعوا الله على ألا يفرُّوا، فصدقوا في لقائهم العدو يوم أحد، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : أنهم قوم لم يشهدوا بدراً فعاهدوا الله ألا يتأخروا عن رسول الله ﷺ في حرب يشهدها أو أمر بها، فوفوا بما عاهدوا الله عليه، قاله أنس بن مالك.
﴿ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس ومنه قول بشر بن أبي خازم :
قضى نحب الحياة وكلُّ حي إذا يُدْعى لميتته أجابا
الثاني : فمنهم من قضى عهده قتل أو عاش، ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال أو صدق لقاء، قاله مجاهد.
الثالث : فمنهم من قضى نذره ومنه قول الراعي :
حتى تحنّ إلى ابن أكرمها حسباً وكن منجز النحب
فيكون النحب على التأويل الأول الأجل، وعلى الثاني العهد، وعلى الثالث النذر
. ﴿ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : ما غيروا كما غير المنافقون، قاله ابن زيد.
الثاني : ما بدلوا ما عاهدوا الله عليه من الصبر ولا نكثوا بالفرار، وهذا معنى قول الحسن.
قوله :﴿ لِّيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : الذين صدقوا لما رأواْ الأحزاب ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ الآية.
الثاني : الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قبل فثابوا ولم يغيروا.
﴿ وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : يعذبهم إن شاء ويخرجهم من النفاق إن شاء، قاله قتادة.
الثاني : يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يميتهم على نفاقهم فيعذبهم في الآخرة إن شاء، قاله السدي.
﴿ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ قال السدي يخرجهم من النفاق بالتوبة حتى يموتوا وهم تائبون.
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما : غفرواً بالتوبة رحيماً بالهداية إليها.
الثاني : غفوراً لما قبل التوبة رحيماً لما بعدها.
قوله تعالى :﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَغَيظِهِمْ ﴾ يعني أبا سفيان وجموعه من الأحزاب.
﴿ بِغَيظِهِمْ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : بحقدهم.
الثاني : بغمّهم.
﴿ لَمْ يَنَالُواْ خَيراً ﴾ قال السدي لم يصيبوا من محمد وأصحابه ظفراً ولا مغنماً
. ﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : بعلي بن ابي طالب كرم الله وجهه. حكى سفيان الثوري عن زيد عن مرة قال أقرأنا ابن مسعود هذا الحرف :﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾ بعلي بن أبي طالب.
الثاني : بالريح والملائكة، قاله قتادة والسدي.
﴿ وََكَانَ اللَّهُ قَوِياً ﴾ في سلطانه. ﴿ عَزِيزاً ﴾ في انتقامه.
قوله تعالى :﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْل الْكِتَابِ ﴾ هم بنو قريظة من اليهود ظاهرواْ أبا سفيان ومجموعة من الأحزاب على رسول الله ﷺ أي عاونوه والمظاهرة هي المعاونة. وكان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد فنقضوه فغزاهم بعد ستة عشر يوماً من الخندق قال قتادة نزل عليه جبريل وهو عند زينب بنت جحش يغسل رأسه فقال عفا الله عنك ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة فانهد إلى بني قريظة فإني قد قلعت أوتادهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال فسار إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة حتى نزلوا على التحكيم في أنفسهم.
وفيمن نزلوا على حكمه قولان :
أحدهما : أنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم أن يقتل مقاتلوهم ويسبى ذراريهم وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه : آثرت المهاجرين بالعقار علينا، فقال : إنكم ذوو عقار وليس للمهاجرين فكبّر رسول الله ﷺ وقال « قُضِيَ فِيهِم بِحُكْمِ اللَّهِ » قاله قتادة
. الثاني : أنهم نزلوا على حكم رسول الله ﷺ ولم يحكموا سعداً لكن أرسل رسول الله ﷺ إلى سعد فقال :« أَشِر عَلَيَّ فِيهِم » فقال : لو وليتني أمرهم لقتلت مقاتليهم ولسبيت ذراريهم ولقسمت أموالهم فقال :« وَالَّذِي نَفْسِ بِيَدِهِ لََقَدْ أَشَرتَ عَلَيَّ فِيهِم بِالَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ » وروي ذلك عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن أبيه.
﴿ مِن صَيَاصِيهِمْ ﴾ من حصونهم قال الشاعر
فأصبحت النسوان عقرى وأصبحت نساء تميم يبتدرْن الصياصيا.
وسميت بذلك لامتناعهم بها، ومنه سميت قرون البقر صياصي لامتناعها بها، وسميت شوكة الديك التي في ساقه صيصية.
﴿ وَقَذَفَ فِي قُُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ قال قتادة بصنيع جبريل بهم
. ﴿ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ﴾ حكى عطية القرظي أنهم عُرضوا على النبي ﷺ يوم بني قريظة فمن كان احتلم أو نبتت عانته قتل، فنظروا إليّ فلم تكن نبتت عانتي فتركت فقيل إنه قتل منهم أربعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله بقوله ﴿ فَرِيقاً تقتلون ﴾ وسبي سبعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله ﴿ وتأسرون فريقاً ﴾ وقال قتادة : قتل أربعمائة وسبى سبعمائة.
﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُم وَأَمْوَالَهُم ﴾ يريد بالأرض النخل والمزارع، وبالدبار المنازل وبالأموال المنقولة.
﴿ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُوهَا ﴾ فيها أربعة أقاويل
: أحدها : أنها مكة، قاله قتادة.
الثاني : خيبر، قاله السدي وابن زيد.
الثالث : فارس والروم، قاله الحسن.
الرابع : ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة، قاله عكرمة.
﴿ وَكَانَ اللَّهُ علََى كُلِّ شَيءٍ قَدِيراً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قديرٌ، قاله ابن اسحاق.
الثاني : على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى، قدير، قاله النقاش.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّها النَبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِن كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا ﴾ الآية.
وهذا أمر من الله لنبيه أن يخبر أزواجه، واختلف أهل التأويل في تخييره لهن على قولين :
أحدهما : خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن واختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق، قاله الحسن وقتادة.
الثاني : أنه خيّرهن بين الطلاق أو المقام معه، وهذا قول عائشة رضي الله عنها وعكرمة والشعبي ومقاتل.
روى عبد الله بن أبي ثورعن ابن عباس قال : قالت عائشة رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير فبدأني أول امرأة من نسائه، فقال :« إنّي ذَاكَرٌ أَمْراً وَلاَ عَلَيك أَلاَّ تَعْمَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبُوَيكِ » وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه قالت : ثم تلا آية التخيير فقالت أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل قولي. وقال سعيد بن جبير : إلا الحميرية فإنها اختارت نفسها.
واختلف في السبب الذي لأجله خير رسول الله ﷺ نساءه على خمسة أقاويل :
أحدها : لأن الله تعالى خير نبيه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة على الدنيا وقال :« اللَّهُمَّ احْيِنِي مِسْكِيناً وَأمِتْنِي مِسْكِينَاً وَاحْشْرْنِي فِي زُمْرَةِ المَساكِين » فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكنَّ على مثل حاله إن كان اختيارهن مثل ما اختاره. حكاه أبو القاسم الصيمري.
الثاني : لأنهن تغايرن عليه، فروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حلف رسول الله ﷺ ليهجرنَنّا شهراً فدخل عليّ بعد صبحة تسعة وعشرين، فقلت يا رسول الله : ألم تكن حلفت لتهجرننا شهراً؟ فقال :« إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا، » ثم خنس الإبهام، ثم قال يا عائشة :« إِنّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَن لاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيري أَبُويكِ » وخشي حداثة سني قلت : وما ذاك؟ قال « أُمِرْتُ أَن أَخَيِّرَكُنَّ
»
. الثالث : أن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع فكان أوّلهن أم سلمة فسألته ستراً معلماً، فلم يقدر عليه، وسألته ميمونة حلة يمانية، وسألته زينب بنت جحش ثوباً مخططاً وهو البرد اليماني، وسألته أم حبيبة ثوباً سحولياً، وسألته حفصة ثوباً من ثياب مصر، وسألته جويرية معجزاً، وسألته سودة قطيفة جبيرية، وكل واحدة منهن طلبت نصيباً إلاّ عائشة لم تطلب شيئاً، فأمر الله تعالى بتخييرهن، حكاه النقاش.
الرابع : لأن أزواجه اجتمعن يوماً فقلن : نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب حتى قال بعضهن : لو كنا عن غير النبي ﷺ إذن لكان لنا شأن وثياب وحلي، فأنزل الله تعالى آية التخيير، حكاه النقاش.
الخامس : لأن الله تعالى صان خلوة نبيه فخيرهن على ألا يتزوجن بعده، فلما أجَبْنَ إلى ذلك أمسكهن. قال مقاتل بن حيان : قاله الحسن وقتادة : وكان تحته يومئذ تسع سوى الحميرية، خمس من قريش : عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة، هؤلاء خمس من قريش، وكان تحته صفية بنت حيي بن أخطب الحميرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. فلما اخترنه والصبر معه على ما يلاقيه من شدة ورخاء عوضهن الله تعالى على صبرهن بأمرهن بأمرين :
371
أحدهما : بأن يجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى :﴿ وَأَزْوَاجُهُ أَمَّهَاتُكُمْ ﴾ تعظيماً لحقوقهن وتأكيداً لحرمتهن.
الثاني : أن حظر عليهن طلاقهن والاستبدال بهن فقال ﴿ لاَ يَحِلُّ لك النِّسَاءُ مِن بَعد... ﴾ الآية. فكان تحريم طلاقهن مستداماً. وأما تحريم التزويج عليهن فقد كان ذلك لما كان النبي ﷺ في شدته وقلة مكنته.
ثم اختلف الناس بعد سعة الدنيا عليه هل أحل الله له النساء على قولين :
أحدهما : أنه كان تحريمه عليهن باقياً لأن الله تعالى جعله جزاء لصبرهن.
الثاني : أن الله تعالى أحل له النساء أن يتزوج عليهن عند اتساع الدنيا عليه، لأن علة التحريم الضيق والشدة، فإذا زالت زال موجبها. قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله ﷺ حتى أحلّ له النساء، يعني اللاتي حظرن عليه، وقيل إن الناسخ لتحريمهن قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ﴾ الآية.
فأما غير رسول الله ﷺ فلا يلزمهم تخيير نسائهم فإن خيروهن فقد اختلف الفقهاء في حكمهن على ثلاثة مذاهب.
أحدها : إن اخترن الزوج فلا فرقة، وإن اخترن أنفسهن كانت تطليقة رجعية. وهذا قول الزهري وعائشة والشافعي.
الثاني : إن اخترن الزوج فهي تطليقة وله الرجعة، وإن اخترن أنفسهن فهي تطليقة بائن والزوج كأحد الخطاب، وهذا قول عليّ رضي الله عنه.
الثالث : إن اخترن الزوج فهي تطليقة والزوج كأحد الخطاب، وإن اخترن أنفسهن فهي ثلاث ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا قول زيد بن ثابت.
372
قوله تعالى :﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ فيها قولان
: أحدهما : الزنى، قاله السدي.
الثاني : النشوز وسوء الخلق، قاله ابن عباس.
﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ فيه قولان
: أحدهما : أنه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قاله قتادة.
الثاني : أنهما عذابان في الدنيا لعظم جرمهن بأذية رسول الله ﷺ.
قال مقاتل : حدّان في الدنيا غير السرقة.
وقال أبو عبيدة والأخفش : الضعفان أن يجعل الواحد ثلاثة، فيكون عليهن ثلاثة حدود لأن ضعف الواحد اثنان فكان ضِعْفا الواحد ثلاثة.
وقال ابن قتيبة : المراد بالضعف المثل فصار المراد بالضعفين المثلين.
وقال آخر : إذا كان ضعف الشيء مثليه وجب بأن يكون ضعفاه أربعة أمثاله.
قال سعيد بن جبير : فجعل عذابهن ضعفين، وجعل على من قذفهن الحد ضعفين.
﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾ أي هيناً
. قوله تعالى :﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنُكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ أي تُطِع الله ورسوله والقنوت الطاعة.
﴿ وَتَعْمَلُ صَالِحاً ﴾ أي فيما بينها وبين ربها
. ﴿ نُؤْتِهَا أَجرَهَا مَرَّتِين ﴾ أي ضعفين، كما كان عذابها ضعفين. وفيه قولان
: أحدهما : أنهما جميعاً في الآخرة.
الثاني : أن أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة.
﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : في الدنيا، لكونه واسعاً حلالاً.
الثاني : في الآخرة وهو الجنة.
﴿ كَرِيماً ﴾ لكرامة صاحبه، قاله قتادة.
قوله تعالى :﴿ يَا نِسَآءَ النَّبِيَّ لَسْتنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النِّسَآءِ ﴾ قال قتادة : من نساء هذه الأمة.
﴿ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ﴾ قال مقاتل : إنكن أحق بالتقوى من سائر النساء
. ﴿ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾ فيه ستة أوجه
: أحدها : معناه فلا ترققن بالقول.
الثاني : فلا ترخصن بالقول، قاله ابن عباس.
الثالث : فلا تُلِن القول، قاله الفراء.
الرابع : لا تتكلمن بالرفث، قاله الحسن. قال متمم.
ولستُ إذا ما أحدث الدهر نوبة عليه بزوّار القرائب أخضعا
الخامس : هو الكلام الذي فيه ما يهوى المريب
. السادس : هو ما يدخل من كلام النساء في قلوب الرجال، قاله ابن زيد.
﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ فيه قولان
: أحدهما : أنه شهوة الزنى والفجور، قاله عكرمة والسدي.
الثاني : أنه النفاق، قاله قتادة. وكان أكثر من تصيبه الحدود في زمان النبي ﷺ المنافقون.
﴿ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : صحيحاً، قاله الكلبي.
الثاني : عفيفاً، قاله الضحاك.
الثالث : جميلاً.
قوله تعالى :﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ قرئت على وجهين :
أحدهما : بفتح القاف، قرأه نافع وعاصم، وتأويلها اقررن في بيوتكن، من القرار في مكان.
الثاني : بكسر القاف : قرأها الباقون، وتأويلها كن أهل وقار وسكينة.
﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ وفي خمسة أوجه
: أحدها : أنه التبختر، قاله ابن أبي نجيح.
الثاني : كانت لهن مشية تكسرٍ وتغنج، فنهاهن عن ذلك، قاله قتادة، ومنه ما روي عن النبي ﷺ أنه قال « المَائِلاَتُ المُمِيلاَتُ : اللاَّئِي يَسْتَمِلْنَ قُلُوبَ الرِّجَالِ إلَيهِنَّ
»
. الثالث : أنه كانت المرأة تمشي بين يدي الرجل، فذلك هو التبرج، قاله مجاهد.
الرابع : هو أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده ليواري قلائدها وعنقها وقرطها، ويبدو ذلك كله منها، فذلك هو التبرج، قال مقاتل بن حيان.
الخامس : أن تبدي من محاسنها ما أوجب الله تعالى عليها ستره، حكاه النقاش وأصله من برج العين وهو السعة فيها.
وفي ﴿ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ أربعة أقاويل :
أحدها : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله الشعبي وابن أبي نجيح.
الثاني : زمان إبراهيم، قاله مقاتل والكلبي، وكانت المرأة في ذلك الزمان تلبس درعاً مفرجاً ليس عليها غيره وتمشي في الطريق، وكان زمان نمرود.
الثالث : أنه ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما تكون النساء، ورجالهم حسان، وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها، فهو تبرج الجاهلية الأولى : قاله الحسن.
الرابع : أنه ما بين نوح وإدريس. روى عكرمة عن ابن عباس أن الجاهلية الأولى كانت ألف سنة. وفيه قولان :
أحدهما : أنه كانت المرأة في زمانها تجمع زوجاً وخلما، والخلم الصاحب، فتجعل لزوجها النصف الأسفل ولخلمها نصفها الأعلى، ولذلك يقول بعض الخلوم :
فهل لك في البدال أبا خبيب فأرضى بالأكارع والعجُوز
الثاني : وهو مبدأ الفاحشة، وهو أن بطنين من بني آدم كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة، وأن إبليس اتخذ لهم عيداً فاختلط أهل السهل بأهل الجبل فظهرت الفاحشة فيهم، فهو تبرج الجاهلية.
374
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ وفي الرجس ها هنا ستة أقاويل :
أحدها : الإثم، قاله السدي.
الثاني : الشرك، قاله الحسن.
الثالث : الشيطان، قاله ابن زيد.
الرابع : المعاصي.
الخامس : الشك.
السادس : الأقذار.
وفي قوله تعالى ﴿ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ - ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عنى علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، قاله أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم.
الثاني : أنه عنى أزواج النبي ﷺ خاصة، قاله ابن عباس وعكرمة.
الثالث : أنها في الأهل والأزواج، قاله الضحاك.
﴿ وَيُطَهّرَكُمْ تطْهِيراً ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : من الإثم، قاله السدي.
الثاني : من السوء، قاله قتادة.
الثالث : من الذنوب، قاله الكلبي، ومعانيها متقاربة.
وفي تأويل هذه الآية لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه :
أحدها : يذهب عنكم رجس الأهواء والتبرج ويطهركم من دنس الدنيا والميل إليها.
الثاني : يذهب عنكم رجس الغل والحسد، ويطهركم بالتوفيق والهداية.
الثالث : يذهب عنكم رجس البخل والطمع ويطهركم بالسخاء والإيثار، روى أبو ليلى الكندي عن أم سلمة أن هذه الآية نزلت على النبي ﷺ وهو في بيتها على منام له، عليه كساء خيبري.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ ﴾ قال قتادة القرآن.
﴿ وَالْحِكْمَةِ ﴾ فيها وجهان
: أحدهما : السنة، قاله قتادة.
الثاني : الحلال والحرام والحدود، قاله مقاتل.
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ﴾ قال عطية العوفي : لطيفاً باستخراجها خبيراً بموضعها.
375
قوله تعالى :﴿ إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ سبب نزول هذه الآية ما رواه يحيى بن عبد الرحمن عن أم سلمة قالت : يا رسول الله ما للرجال يذكرون في القرآن ولا تذكر النساء؛ فنزلت ﴿ إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ﴾ - الآية وفيها قولان :
أحدهما : يعني بالمسلمين والمسلمات المتذللين والمتذللات. وبالمؤمنين والمؤمنات المصدقين والمصدقات.
الثاني : أنهما في الدين، فعلى هذا في الإسلام والإيمان قولان :
أحدهما : أنهما واحد في المعنى وإن اختلفا في الأسماء.
الثاني : أنهما مختلفان على قولين :
أحدهما : أن الإسلام الإقرار باللسان، والإيمان التصديق به، قاله الكلبي.
الثاني : أن الإسلام هو اسم الدين والإيمان هو التصديق به والعمل عليه.
﴿ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتاتِ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : المطيعين والمطيعات، قاله ابن جبير.
الثاني : الداعين والداعيات.
﴿ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : الصادقين في إيمانهم والصادقات، قاله ابن جبير.
الثاني : في عهودهم.
﴿ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : على أمر الله ونهيه، قاله ابن جبير.
الثاني : في البأساء والضراء.
﴿ والْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : المتواضعين والمتواضعات، قاله ابن جبير.
الثاني : الخائفين والخائفات : قاله يحيى بن سلام وقتادة.
الثالث : المصلين والمصليات، قاله الكلبي.
﴿ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : المتصدقين والمتصدقات بأنفسهم في طاعة الله.
الثاني : بأموالهم. ثم فيه وجهان :
أحدهما : المؤدين الزكوات المفروضات.
الثاني : المتطوعين بأداء النوافل بعد المفروضات، قاله ابن شجرة.
﴿ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : الإمساك عن المعاصي والقبائح.
الثاني : عن الطعام والشراب وهو الصوم الشرعي. وفيه وجهان :
أحدهما : صوم الفرض.
الثاني : شهر رمضان وثلاثة أيامٍ من كل شهر، قاله ابن جبير. وروي عن النبي ﷺ أنه قال :« صَومُ الشَّهْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ يُذْهِبْنَ وَغْرَ الصَّدْرِ
»
. ﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : عن الفواحش.
الثاني : أنه أراد منافذ الجسد كلها فيحفظون أسماعهم عن اللغو والخنا، وأفواههم عن قول الزور وأكل الحرام. وفروجهم عن الفواحش.
﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ فيهم ثلاثة أوجه
: أحدها : باللسان قاله يحيى بن سلام.
الثاني : التالون لكتابه، قاله ابن شجرة.
الثالث : المصلين والمصليات، حكاه النقاش.
﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجَرْاً عَظِيماً ﴾ لعلمهم، قاله ابن جبير، قال قتادة : وكانت هذه الآية أول آية نزلت في النساء فذكرن بخير.
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيرَةُ مِنُ أَمْرِهِمْ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها نزلت في زينب بنت جحش خطبها رسول الله ﷺ لزيد بن حارثة فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله بن جحش وأنهما ولدا عمة رسول الله ﷺ أمهما أميمة بنت عبد المطلب وأن زيداً كان بالأمس عبداً فنزلت هذه الآية فقالت : أمري بيدك يا رسول الله فزوجها به، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. قال مقاتل : ساق إليها عشرة دنانير وستين درهماً وملحفة ودرعاً وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر.
الثاني : أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي ﷺ قال « قَدْ قَبِلْتُ » فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله ﷺ فزّوجنا عبده فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد.
﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ﴾ فيه قولان
: أحدهما : فقد جار جوراً مبيناً، قاله ابن شجرة.
الثاني : فقد أخطأ خطأ طويلاً، قاله السدي ومقاتل.
قوله تعالى :﴿ وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِيّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ﴾ قال قتادة والسدي وسفيان هو زيد بن حارثة وفيه وجهان :
أحدهما : أنعم الله عليه لمحبة رسوله وأنعم الرسول عليه بالتبني.
الثاني : أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه الرسول ﷺ بالعتق.
﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ﴾ يعني زينب بنت جحش، قاله الكلبي، أتى النبي ﷺ منزل زيد زائراً فأبصرها قائمة فأعجبته فقال :« سُبْحَانَ مُقَلّبَ القُلُوبِ » فلما سمعت زينب منه ذلك جلست قال أبو بكر بن زياد : وجاء زيد إلى قوله فذكرت له ذلك فعرف أنها وقعت في نفسه فأتى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها فإن فيها كِبْراً وإنها لتؤذيني بلسانها فقال له رسول الله ﷺ « اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ » وفي قلبه ﷺ غير ذلك.
﴿ وَتُخْفي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أن الذي أخفاه في نفسه ميله إليها.
الثاني : إشارة لطلاقها، قاله ابن جريج.
الثالث : أخفى في نفسه إن طلقها زيد تزوجها.
الرابع : أن الذي أخفاه في نفسه أن الله أعلمه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، قاله الحسن.
﴿ وَتَخْشى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : أن نبي الله خشي قالة الناس، قاله قتادة.
الثاني : أنه خشي أن يبديه للناس فأيّد الله سره، قاله مقاتل بن حيان.
قال الحسن : ما نزلت على النبي ﷺ آية أشد عليه منها.
وقال عمر بن الخطاب : لو كتم رسول الله ﷺ شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية التي أظهرت غيبه.
﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ الوطر الأرب المنتهي وفيه هنا قولان
: أحدهما : أنه الحاجة، قاله مقاتل.
الثاني : أنه الطلاق، قاله قتادة.
قال يحيى بن سلام : فدعا رسول الله ﷺ زيد فقال له « ائْتِ زَينبَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ زَوَّجْنِيهَا » فانطلق زيد فاستفتح الباب فقالت من هذا؟ فقال : زيد قالت : وما حاجة زيد إليّ وقد طلقني؟ فقال إن رسول الله ﷺ أرسلني إليك فقالت : مرحباً برسول الله ﷺ ففتحت له فدخل عليها وهي تبكي فقال زيد : لا أبْكَى الله لَكِ عيناً قد كنت نعمت المرأة إن كنت لتبرين قسمي وتطيعين أمر الله وتشبعين مسرتي فقد أبدلك الله خيراً مني فقالت : من لا أبا لك؟ قال : رسول الله ﷺ فخرت ساجدة لله تعالى قال الضحاك : فتزوجها رسول الله ﷺ وكان يومئذ في عسرة فأصدقها قِرْبَةً وعَبَاءَةً ورحى اليد ووسادة حَشْوُهَا ليف وكانت الوليمة تمراً وسُوَيقاً. قال أنس فجاء رسول الله ﷺ حتى دخل عليها بغير إذن. قال قتادة : فكانت تفخر على نساء النبي ﷺ تقول أنتن زوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني ربُّ العرش تبارك وتعالى.
378
﴿ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً ﴾ حكى ابن سلام أن المشركين قالوا للنبي ﷺ زعمت أن حليلة الابن لا تحل للأب وقد تزوجت حليلة ابنك زيد فقال الله تعالى :﴿ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجلٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ﴾ أي أن زيداً دعيٌّ وليس بابن من الصلب فلم يحرم نكاح زوجته.
﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفعُولاً ﴾ أي كان تزويج النبي ﷺ زينب بنت جحش حكماً لازماً وقضاء واجباً، ومنه قول الشاعر :
379
قوله تعالى :﴿ مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : فيما أحله الله له من تزويج زينب بنت جحش، قاله مقاتل.
الثاني : التي وهبت نفسها للنبي إذ زوجها الله إياه بغير صداق ولكن النبي ﷺ قد تطوع عليها وأعطاها الصداق، قاله الحسن.
الثالث : في أن ينكح من شاء من النساء وإن حرم على أمته أكثر من أربع لأن اليهود عابوه بذلك، قاله الضحاك.
قال الطبري : نكح رسول الله خمس عشرة، ودخل بثلاثة عشرة، ومات على تسع، وكان يقسم لثمان.
﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ﴾ السنة الطريقة المعتادة أي ليس على الأنبياء حرج فيما أحل الله لهم كما أحل لداود مثل هذا في نكاح من شاء وفي المرأة التي نظر إليها وتزوجها ونكح مائة امرأة وأحل لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرّية.
﴿ وَكَانَ أَمُرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : فعلاً مفعولاً، قاله الضحاك.
الثاني : قضاء مقضياً وهو قول الجمهور. وكانت زينب إذا أراد رسول الله ﷺ سفراً تصلح طعامه وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر ضي الله عنه وهي أول امرأة حملت على نعش لأن عمر قال حين ماتت : واسوأتاه تحمل أم المؤمنين مكشوفة كما يحمل الرجال فقالت أسماء بنت عميس : يا أمير المؤمنين إني قد كنت شاهدت في بلاد الحبشة شيئاً فيه للمرأة صيانة ووصفته له فأمر بعمله فلما رآه قال : نِعم خباء الظعينة.
قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ يعني زيد بن حارثة فإن المشركين قالوا إن محمد تزوج امرأة ابنه فأكذبه الله بقوله ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُم ﴾ أي لم يكن أباً لزيد.
﴿ وَلكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ ﴾ يعني آخرهم وينزل عيسى فيكون حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً فيقتل الدجال ويكسر الصليب وقد روى نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرجُ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِن ثَلاَثِينَ كُلُّهُم يَزْعَمُ أَنَّهُ نَبِيٌ وَلا نَبِيَّ بَعْدِي » قال مقاتل بن سليمان ولم يجعل محمداً أبا أحد من الرجال لأنه لو جعل له ابناً لجعله نبياً وليس بعده نبي قال الله ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾ فيه قولان
: أحدهما : ذاكروه بالقلب ذكراً مستديماً يؤدي إلى طاعته واجتناب معصيته.
الثاني : اذكروا الله باللسان ذكراً كثيراً، قاله السدي. وروى مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ « مَن عَجَزَ عَنِ اللَّيْلِ أَن يُكَابِدَهُ، وَجَبُنَ عَنِ العَدُوِّ أَن يُجَاهِدَهُ، وَبَخِلَ بِالمَالِ أَن يُنفِقَهُ فَلْيَكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ » وفي ذكره هنا وجهان :
أحدها : الدعاء له والرغبة إليه، قاله ابن جبير.
الثاني : الإقرار له بالربوبية والاعتراف له بالعبودية.
قوله :﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأصِيلاً ﴾ قال قتادة صلاة : الصبح والعصر، قال الأخفش : والأصيل ما بين العصر والليل. وقال الكلبي : الأصيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وفي التسبيح هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه التسبيح الخاص الذي هو التنزيه.
الثاني : أنه الصلاة.
الثالث : أنه الدعاء، قاله جرير.
حتى إذا نزلت عجاجة فتنة عمياء كان كتابها مفعولاً
فلا تنس تسبيح الضُّحى إن يونسا دعا ربه فانتاشه حين سبحا.
قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلآئِكَتُهُ ﴾ فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه ثناؤه، قاله أبو العالية.
الثاني : كرامته، قاله سفيان.
الثالث : رحمته، قاله الحسن.
الرابع : مغفرته، قاله ابن جبير.
وفي صلاة الملائكة قولان :
أحدهما أنه دعاؤهم، قاله أبو العالية.
الثاني : استغفارهم، قاله مقاتل بن حيان.
﴿ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : من الكفر إلى الإيمان، قاله مقاتل.
الثاني : من الضلالة إلى الهدى، قاله عبد الرحمن بن زيد.
الثالث : من النار إلى الجنة.
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً ﴾ قال ابن عباس شاهداً على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار.
قوله :﴿ وَدَاعِياَ إلَى اللَّه بِإِذْنِهِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قاله ابن عباس.
الثاني : إلى طاعة الله، قاله ابن عيسى.
الثالث : إلى الإسلام، قاله النقاش.
وفي قوله :﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : بأمره، قاله ابن عباس.
الثاني : بعمله قاله الحسن.
الثالث : بالقرآن، قاله يحيى بن سلام.
﴿ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ﴾ فيه قولان
: أحدهما : أنه القرآن سراج منير أي مضيء لأنه يُهْتدى به، قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني : أنه الرسول كالسراج المنير في الهداية، قاله ابن شجرة، ومنه قول كعب بن زهير :
إن الرسول لنورُ يستضاءُ به مُهَنّدُ من سيوف الله مَسْلول
قوله :﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : ثواباً عظيماً، قاله الكلبي.
الثاني : أنه الجنة، قاله قتادة والكلبي، وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله ﷺ لما رجع من الحديبية أنزل الله عليه ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ﴾ [ الفتح : ١ ] الآيات فقال المسلمون هنيئاً لك يا رسول الله بما أعطاك الله فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما لنا يا رسول الله؟ فأنزل الله :﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ قال مقاتل يريد بالكافرين من أهل مكة أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور وبالمنافقين من أهل المدينة عبد الله ابن أُبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق اجتمعوا على رسول اله ﷺ فقالوا يا محمد اذكر أن لآلهتنا شفاعة.
فقال الله :﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾ وفيه أوجه :
أحدها : دع ذكر آلهتهم أن لها شفاعة، قاله مقاتل.
الثاني : كف عن أذاهم وقتالهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال، قاله الكلبي.
الثالث : معناه اصبر على أذاهم، قاله قتادة وقطرب.
الرابع : هو قولهم زيد بن محمد وما تكلموا به حين نكح زينب. قاله الضحاك.
قوله تعالى :﴿ إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ... ﴾ الآية. أجمع أهل العلم أن الطلاق إن كان قبل المسيس والخلوة فلا عدة فيه وليس للمطلقة من المهر إلا نصفه إن كان لها مهر سُمِّي ولا رجعة للمطلق ولكنه كأحد الخطاب إن كان طلاقه دون الثلاث. وإن كان ثلاثاً حرمت عليه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. وقال عطاء وجابر بن زيد إذا طلق البكر ثلاثاً [ فهي ] طلقة واحدة وهو خلاف قول الجمهور.
وإن كان الطلاق بعد الخلوة وقبل المسيس ففي وجوب العدة وكمال المهر وثبوت الرجعة قولان :
أحدهما : وهو قول أبي حنيفة أن العدة قد وجبت والمهر قد كمل والرجعة قد ثبتت وأقام الخلوة مقام المسيس إلا أن يكونا في الخلوة مُحرمين أو صائمين أو أحدهما.
والقول الثاني : وهو مذهب الشافعي وهو المعول عليه من أقاويله إنه لا عدة ولا رجعة ولا تستحق من المهر إلا نصفه.
﴿.. فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ معنى فمتعوهن أي متعة الطلاق بدلاً من الصداق لأن المطلقة قبل الدخول إذا كان لها صداق مسمى فليس لها متعة وإن لم يكن لها صداق مسمى فلها بدل نصف المسمى متعة تقول مقام المسمى تختلف باختلاف الإعسار والإيسار وقدرها حماد بنصف مهر المثل وقال أبو عبد الله الزيدي أعلاها خادم وأوسطها ثوب وأقلها ما له ثمن.
فأما المدخول بها ففي استحقاقها المتعة من الصداق قولان :
أحدهما ليس لها مع استكمال الصداق متعة.
الثاني : لها المتعة بالطلاق ولها الصداق بالنكاح.
وفي قوله :﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه دفع المتعة حسب الميسرة والعسرة، قاله ابن عباس.
الثاني : أنه طلاقها طاهراً من غير جماع، قاله قتادة.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ يعني صداقهن وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أحل له لهذه الآية أزواجه الأول اللاتي كن معه قبل نزول هذه الآية قاله مجاهد. وأما إحلال غيرهن فلا لقوله ﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعُدْ ﴾.
الثاني : أنه أحل له بهذه الآية سائر النساء ونسخ به قوله ﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ ﴾.
الثالث : أنه أحل بها من سماه فيها من النساء دون من لم يسمعه من قوله.
﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ يعني الإماء
. ﴿ مِمَّا أَفَّآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾ يعني من الغنيمة فكان من الإماء مارية أم ابنه إبراهيم. ومما أفاء الله عليه صفية وجويرية أعتقهما وتزوج بهما.
﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وبَنَاتِ خَالاَتِكَ ﴾ قاله أُبي بن كعب ثم قال :﴿ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني المسلمات.
الثاني : المهاجرات إلى المدينة. روى أبو صالح عن أم هانىء قالت : نزلت هذه الآية وأراد النبي ﷺ أن يتزوجني فنهي عني لأني لم أهاجر واختلف في الهجرة على قولين :
أحدهما : أنها شرط في إحلال النساء لرسول الله ﷺ من غريبة وقريبة حتى لا يجوز أن ينكح إلا بمهاجرة.
الثاني : أنها شرط في إحلال بنات عمه عماته المذكورات في الآية. وليست شرطاً في إحلال الأجنبيات.
﴿ وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبْتَ نَفْسَهَا للِنَّبِيِّ ﴾ اختلف أهل التأويل هل كان عند النبي صلى لله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها على قولين :
أحدهما : لم تكن عنده امرأة وهبت نفسها له، وهو قول ابن عباس ومجاهد وتأويل من قرأ إن وهبت بالكسر محمول على المستقبل.
الثاني : أنه كانت عنده امرأة وهبت نفسها، وهو قول الجمهور وتأويل من قرأ بالفتح أنه في امرأة بعينها متى وهبت نفسها حل له أن ينكحها، ومن قرأ بالكسر أنه في كل امرأة وهبت نفسها أنه يحل له أن ينحكها.
واختلف في التي وهبت نفسها له على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب، وكانت امرأة صالحة، قاله عروة بن الزبير.
الثاني : أنها خولة بنت حكيم، وهذا قول عائشة رضي الله عنها.
الثالث : أنها ميمونة بنت الحارث، قاله ابن عباس.
الرابع : أنا زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار. قاله الشعبي.
﴿ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونَِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن ينكحها بغير أمر ولي ولا مهر.
وليس ذلك لأحد من المؤمنين، قاله قتادة.
الثاني : أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن لا يلزمه لها صداق وليس ذلك لغيره من المؤمنين، قاله أنس بن مالك وسعيد بن المسيب.
الثالث : أنها خالصة له أن يملك عقد نكاحها بلفظ الهبة وليس ذلك لغيره من المؤمنين، قاله الشافعي.
قوله تعالى :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِم فِي أَزْوَاجِهِمْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فرضنا ألا تتزوج امرأة إلا بولي وشاهدين.
الثاني : فرضنا ألا يتجاوز الرجل أربع نسوة، وهذا قول مجاهد.
الثالث : فرضنا عليهم لهن النفقة عليهن والقسم بينهن. قاله بعض الفقهاء.
﴿ وَمَا مَلَكَتُ أَيْمَانُهُمْ ﴾ يعني أن يحللن له من غير عدد محصور ولا قسم مستحق ﴿ لِكَيلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : أنه راجع إلى قوله :﴿ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ﴾ ؛ قال ابن عيسى.
الثاني : إلى قوله :﴿ وَامْرَأةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام.
قوله تعالى :﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : تطلق من تشاء من نسائك وتمسك من تشاء منهن، قاله ابن عباس.
الثاني : تترك نكاح من تشاء وتنكح من تشاء، قاله الحسن.
الثالث : تعزل من شئت من أزواجك فلا تأتيها، وتأتي من شئت من أزواجك فلا تعزلها، قاله مجاهد. ويدل على أن القَسم في هذا التأويل كان ساقطاً عنه.
الرابع : تؤخر من تشاء من أزواجك، وتضم إليك من تشاء منهن، قاله قتادة. وروى منصور عن ابن رزين قال : بلغ بعض نسوة النبي ﷺ أنه يريد أن يخلي سبيلهن، فأتينه فقلن : لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك، فأرجأ منهن نسوة وآوى نسوة فكان ممن أرجأ جويرية وميمونة وأم حبيبة وصفية وسودة. وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما تشاء، وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وكان قسمه في ماله ونفسه فيهن سواء.
﴿ وَمَنِ ابْتَغَيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ﴾ أي من ابتغيت فأويته إليك ممن عزلت أن تؤديه إليك.
﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾ فيهن وجهان
: أحدهما : فلا جناح عليك في من ابتغيت، وفي من عزلت. قاله يحيى بن سلام.
الثاني : فلا جناح في من عزلت أن تؤويه إليك، قاله مجاهد.
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتيتَهُنَّ كُلُهُنَّ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : إذا علمن أنه لا يطلقهن قرت أعينهن ولم يحزن.
الثاني : إذا علمن أنه لا يتزوج عليهن قرت أعينهن ولم يحزن. قاله قتادة.
الثالث : إذا علمن أن هذا من حكم الله تعالى فيهن قَرَّت أعينهن ولم يحزن. قاله قتادة.
الرابع : أنهن علمن أن له ردهن إلى فراشه إذا اعتزلهن قرَّت أعينهن ولم يحزن، قاله مجاهد.
قوله تعالى :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : لا يحل لك نساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهن فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة. قال ابن عباس وقتادة. وهن التسع صار مقصوراً عليهن وممنوعاً من غيرهن.
الثاني : لا يحل لك النساء من بعد الذي أحللنا لك بقولنا ﴿ إِنَّآ أحْلَلْنَا لَكَ أَزَْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَآتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ إلى قوله ﴿ إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ الآية.
وكانت الإباحة بعد نسائه مقصورة على بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته المهاجرات معه، قاله أبي بن كعب.
الثالث : لا يحل لك النساء من غير المسلمات كاليهوديات والنصرانيات والمشركات، ويحل ما سواهن من المسلمات، قاله مجاهد.
﴿ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنَهُنَّ ﴾ فيه ثلاثة أقوايل
: أحدها : ولا أن تبدل بالمسلمات مشركات، قاله مجاهد.
الثاني : لا تطلق زوجاتك لتستبدل بهن من أعجبك حسنهن، قاله الضحاك. وقيل التي أعجبه حسنها أسماء بنت عميس بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها.
الثالث : ولا أن تبدل بأزواجك زوجات غيرك فإن العرب كانوا في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم فيعطي أحدهم زوجته لرجل ويأخذ بها منه زوجته بدلاً منها، قاله ابن زيد.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامُنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤذَنَ لَكُمْ ﴾ سبب نزل هذه الآية ما رواه أبو نضرة عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ مر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون، فكره ذلك وكان إذا كره الشىء عُرف من وجهه فلما كان العَشي خرج فصعد المنبر فتلا هذه الآية.
قوله تعالى :﴿ إِلَى طَعَامِ غَيْرَ نَاظِرينَ إِنَاهُ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : غير منتظرين نضجه، قاله الضحاك ومجاهد.
الثاني : غَيْرَ متوقعين لحينه ووقته، قاله قتادة.
﴿ وَلكِن إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ ﴾ فدل هذا على حظر الدخول بغير إذن
. ﴿ فَإذَا طَعِمْتُمْ فآنتَشِرُواْ ﴾ أي فاخرجوا، فدلّ على أن الدخول للأكل يمنع من المقام بعد الفراغ من الأكل.
﴿ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ... ﴾ روى أبو قلابة عن أنس. قال : لما أهديت إلى رسول الله ﷺ زينبُ بنت جحش وضع طعاماً ودعا قوماً فدخلوا وزينب مع رسول الله ﷺ، فجعلوا يتحدثون وجعل رسول الله ﷺ يخرج ثم يرجع وهم قعود فأنزل الله تعالى :﴿ فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُواْ ﴾.
قوله تعالى :﴿.. فَيَسْتَحْي مِنكُمْ ﴾ يعني النبي ﷺ أن يخبركم.
﴿ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْي مِنَ الْحَقِّ ﴾ أن يأمركم به
. ﴿ وَإذَا سَألْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : حاجة، قاله السدي.
الثاني : صحف القرآن، قاله الضحاك.
الثالث : عارية، قاله مقاتل. ومعانيها متقاربة.
﴿ فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ أمرن وسائر النساء بالحجاب عن أبصار الرجال وأمر الرجال بغض أبصارهم عن النساء.
وفي سبب الحجاب ثلاثة أقاويل :
أحدها ما رواه مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت آكل مع رسول الله ﷺ حيساً في قعب، فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت إصبعه إصبعي فقال عمر لو أُطَاعُ فيكن ما رأتكن عين، فنزلت آيات الحجاب.
الثاني : ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي ﷺ كن يخرجن بالليل إلى المباضع وهي صعيد أفيح يتبرزن فيه، وكان عمر يقول للنبي ﷺ : احجب نساءك يا رسول الله، فلم يكن يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي، وكانت امرأة طويلة فناداها بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة، حرصاً أن ينزل الحجاب قالت : فأنزل الله تعالى الحجاب.
الثالث : ما روى ابن مسعود أن عمر رضي الله عنه أمر نساء النبي ﷺ بالحجاب فقالت زينب بنت جحش : يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزلت الآية :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حَجَابٍ ﴾.
﴿ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهنَّ ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما : أطهر لها من الريبة.
الثاني : أطهر لها من الشهوة.
﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤُذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلآَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ﴾ حكى السدي أن رجلاً من قريش من بني تميم قال عند نزول الحجاب أيحجبنا رسول الله عن بنات عمنا ويتزوج نساءَنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فأنزلت هذه الآية. ولتحريمه تعديهن لزمت نفقاتهن من بيت المال.
واختلف أهل العلم في وجوب العدة عليهن بوفاة رسول الله ﷺ عنهن على وجهين :
أحدهما : لا تجب عليهن العدة لأنها مدة تربص ينتظر بها الإباحة.
الثاني : تجب لأنها عبادة وإن لم تعقبها إباحة.
قوله تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِّي ءَابَآئِهِنَّ وَلآ أَبْنَآئِهِنَّ ﴾ فيه قولان
: أحدهما : لا جناح عليهن في ترك الحجاب. قاله قتادة.
الثاني : في وضع الجلباب، قاله مجاهد.
﴿ وَلاَ إخْوَانِهِنَّ وَلآَ أَبْنَآءِ إخَوَانِهِنَّ وَلآ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ ﴾ قال الشعبي لم يذكر العم لأنها تحل لابنه فيصفها له.
﴿ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : يعني النساء المسلمات دون المشركات، قاله مجاهد.
الثاني : أنه في جميع النساء.
﴿ وَلاَ مَا مَلََكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ فيه قولان
: أحدهما : الإماء دون العبيد، قاله سعيد بن المسيب.
الثاني : أنه عام في الإماء والعبيد. واختلف من قال بهذا فيما أبيح للعبد على قولين :
أحدهما : ما أبيح لذوي المحارم من الآباء والأبناء ما جاوز السرة وانحدر عن الركبة لأنها تحرم عليه كتحريمها عليهم.
الثاني : ما لا يواريه الدرع من ظاهر بدنها، قاله إبراهيم. لأنه العبد وإن حرم في الحال فقد يستباح بالعتق في ثاني حال. وسبب نزول هذه الآية ما حكاه الكلبي أنه لما نزل في آية الحجاب ﴿ وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مَن ورَآءِ حَجَابٍ ﴾ قام الآباء والأبناء وقالوا يا رسول الله نحن لا نكلمهن أيضاً إلا من وراء حجاب، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى :﴿ إنَّ اللَّهَ وَملاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن صلاة الله تعالى عليه ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء، قاله أبو العالية.
الثاني : أن صلاة الله تعالى عليه المغفرة له، وصلاة الملائكة الاستغفار له، قاله سعيد بن جبير.
الثالث : أن صلاة الله تعالى عليه رحمته، وصلاة الملائكة الدعاء له، قاله الحسن، وهو معنى قول عطاء بن أبي رباح.
الرابع : أن صلاتهم عليه أن يباركوا عليه؟ قاله ابن عباس.
﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلَّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله ﷺ ؟ قلت : بلى. قال : سألنا رسول الله ﷺ فقلنا : يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال :« قُولُواْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صلَيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ. اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ
»
. قال أبو العباس ثعلب : معنى قولنا اللهم صل على محمد أي زد محمداً بركة ورحمة، ويجري فيه التأويلات المذكورة.
وقوله تعالى :﴿ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : سلموا لأمره بالطاعة له تسليماً.
الثاني : وسلموا عليه بالدعاء له تسليماً أي سلاماً.
حكى مقاتل قال : لما نزلت هذه الآية قال المسلمون فما لنا يا رسول الله؟ فنزلت ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلآَئِكَتُهُ ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ﴾ فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم أصحاب التصاوير؛ قاله عكرمة.
الثاني : أنهم الذين طعنوا على رسول الله ﷺ حين اتخذ صفية بنت حيي بن أخطب، قاله ابن عباس.
الثالث : أنهم قوم من المنافقين كانوا يكذبون على رسول الله ﷺ ويبهتونه قاله يحيى بن سلام.
وفي قوله :﴿ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه يؤذون أولياء الله.
الثاني : أنه جعل أذى رسوله ﷺ أذى له تشريفاً لمنزلته.
الثالث : هو ما روي عن النبي ﷺ :« يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا كَانَ يَنبَغِي لَهُ أَن يَشْتُمَنِي، وَكَذَّبَنِي وَمَا كَانَ لَهُ أَن يُكَذِّبَنِي فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاي فَقَولُهُ إِنَّ لِيَ وَلَداً وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَولُهُ إنِّي لاَ أَبْعَثُ بَعدَ المَوتِ أَحداً. وَلَعنُة الدُّنْيَا التَّقْتِيلُ وَالجَلاَءُ، وَلَعْنَةُ الآخرَةِ النَّارُ
»
. قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ الآية. فيمن نزلت فيه هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في الزناة وكانوا يمشون فيرون المرأة فيغمزونها؛ قاله الكلبي.
الثاني : نزلت في قوم كانوا يؤذون علياً رضي الله عنه، ويكذبون عليه، قاله مقاتل والنقاش.
الثالث : أنها نزلت فيمن تكلم في عائشة وصفوان بن المعطل بالإفك، قاله الضحاك. وروى قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها ذات ليلة فأفزعه ذلك حتى انطلق إلى أبيّ فقال يا أبا المنذر إني قرأت كتاب الله فوقعت مني كل موقع. ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ ﴾ والله إني لأعاقبهم وأضربهم، فقال : إنك لست منهم، إنما أنت مؤدب، إنما أنت معلم.
قوله تعالى :﴿... يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبَهنَّ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن الجلباب الرداء، قاله ابن مسعود والحسن.
الثاني : أنه القناع؛ قاله ابن جبير.
الثالث : أنه كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، قاله قطرب.
وفي إدناء جلابيبهن عليهن قولان :
أحدهما : أن تشده فوق رأسها وتلقيه فوق خمارها حتى لا ترى ثغرة نحرها، قاله عكرمة.
الثاني : أن تغطي وجهها حتى لا تظهر إلا عينها اليسرى، قاله عَبيدة السلماني.
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : ليعرفن من الإماء بالحرية.
الثاني : يعرفن من المتبرجات بالصيانة. قال قتادة : كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالأذى فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء.
قوله :﴿ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الزناة، قاله عكرمة والسدي.
الثاني : أصحاب الفواحش والقبائح، قاله سلمة بن كهيل.
وفي قوله :﴿ لَّئِن لَمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ ﴾ قولان :
أحدهما : عن إيذاء نساء المسلمين قاله الكلبي.
الثاني : عن إظهار ما في قلوبهم من النفاق، قاله الحسن وقتادة.
﴿ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ فيهم ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الذين يكاثرون النساء ويتعرضون لهن، قاله السدي.
الثاني : أنهم الذين يذكرون من الأخبار ما يضعف به قلوب المؤمنين وتقوى به قلوب المشركين قاله قتادة.
الثالث : أن الإرجاف التماس الفتنة، قاله ابن عباس، وسيت الأراجيف لاضطراب الأصواب بها وإفاضة الناس فيها.
﴿ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معناه لنسلطنك عليهم، قاله ابن عباس.
الثاني : لنعلمنك بهم، قاله السدي.
الثالث : لنحملنك على مؤاخذتهم، وهو معنى قول قتادة.
﴿ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً ﴾ قيل بالنفي عنها، وقيل الذي استثناه ما بين قوله لهم اخرجوا وبين خروجهم.
قوله :﴿ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني سنته فيهم أن من أظهر الشرك قتل، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : سنته فيهم أن من زَنَى حُد، وهو معنى قول السدي.
الثالث : سنته فيهم أن من أظهر النفاق أبعد، قاله قتادة.
﴿ ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : يعني تحويلاً وتغييراً، حكاه النقاش.
الثاني : يعني أن من قتل بحق فلا دية له على قاتله، قاله السدي.
قوله :﴿... إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرآءَنَا ﴾ في السادة هنا ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الرؤساء.
الثاني : أنهم الأمراء، قاله أبو أسامة.
الثالث : الأشراف، قاله طاوس.
وفي الكبراء هنا قولان :
أحدهما : أنهم العلماء، قاله طاووس.
الثاني : ذوو الأسنان، وهو مأثور.
﴿ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ ﴾ يعني طريق الإيمان
. وفي قوله الرسولا والسبيلا وجهان :
أحدهما : لأنها مخاطبة يجوز مثل ذلك فيها عند العرب، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : أن الألف للفواصل في رؤوس الآي، قاله ابن عيسى، وقيل إن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من قريش هم المطعمون يوم بدر.
قوله :﴿ رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قاله قتادة.
الثاني : عذاب الكفر وعذاب الإضلال.
﴿ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ﴾ بالباء قراءة عاصم يعني عظيماً وقرأ الباقون بالتاء يعني اللعن على اللعن.
قوله :﴿ يَأَيُّها الَّذِينَ ءَامُنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ أَذَواْ مُوسَى ﴾ معناه لا تؤذوا محمداً فتكونوا كالذين آذواْ موسى.
وفيما آذوا به رسوله محمد ﷺ قولان :
أحدهما : قولهم زيد بن محمد، حكاه النقاش.
الثاني : أن النبي ﷺ قسم قسماً فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أُريد بها وجه الله فذكر ذلك للنبي ﷺ فغضب وقال :« رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فَصَبِرَ » قاله أبو وائل.
وفيما أوذي به موسى عليه السلام ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن رَمَوهُ بالسحر والجنون.
الثاني : ما رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال :« إنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيّاً سَتِيراً لاَ يَكَادُ يُرَى مِن جَسَدِهِ شَيءٌ يَسْتَحَيا مِنُه فآذَاهُ مَن آذَاهُ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ وَقَالُواْ مَا يَسْتَتِرُ إلاَّ مِن عَيبٍ بِجِلْدِهِ أَوْ جِسْمِهِ، إمَّا مِن بَرَصٍ وَإمَّا آدَرٌ أَوْ بِهِ آفَةٌ وَإنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبْرِئَهُ مِمَّا قَالُواْ وَإنَّ مُوسَى خَلاَ يَوماً وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلَى ثَوبِهِ لِيَأْخُذَهُ وَإنَّ الْحَجَرَ عَدَا بثيَابِهِ فَطَلَبَهُ مُوسَى فَانتَهَى إلَى مَلإٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ فَرأَوهُ عُرْيَاناً كَأَحْسَنِ الرِّجالِ خَلْقاً فَبَرَّأَهُ اللَّه مِمَّا قَالُواْ
»
. الثالث : ما رواه ابن عباس عن علي رضي الله عنه أن موسى صعد وهارون الجبل فمات هارون فقال بنو إسرائيل أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حباً فآذوه بذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا به على مجلس بني إسرائيل فتكلمت الملائكة بموته ثم دفنته فما عرف موضع قبره إلا الرخم وأن الله جعله أصم أبكم ومات هارون قبل موسى في التيه ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين.
﴿ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه المقبول، قاله ابن زيد.
الوجه الثاني : لأنه مستجاب الدعوة قاله الحسن.
الثالث : لأنه ما سأل الله شيئاً إلا أعطاه إلى النظر، قاله ابن سنان. قاله قطرب : والوجيه مشتق من الوجه لأنه أرفع الجسد.
قوله :﴿ َوَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ﴾ فيه ستة تأويلات
: أحدها : عدلاً، قاله السدي.
الثاني : صدقاً، قاله قتادة.
الثالث : صواباً، قاله ابن عيسى.
الرابع : هو قول لا إله إلا الله، قاله عكرمة.
الخامس : هو الذي يوافق ظاهره باطنه.
السادس : أنه ما أريد به وجه الله دون غيره.
ويحتمل سابعاً : أن يكون الإصلاح بين المتشاجرين وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض.
﴿ يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ فيه وجهان
: أحدهما : يصلحها بالقبول.
الثاني : بالتوفيق.
قوله :﴿ إنَّا عرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَالِجبَالِ ﴾ فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أن هذه الأمانة هي ما أمر الله سبحانه من طاعته ونهى عن معصيته، قاله أبو العالية.
الثاني : أنها القوانين والأحكام التي أوجبها الله على العباد وهو قريب من الأول، قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وابن جبير.
الثالث : هي ائتمان الرجال والنساء على الفروج، قاله أبي. وقيل إن أول ما خلق الله من آدم الفرج فقال :« يَا آدَمُ هَذِهِ أَمَانَةٌ خَبَّأْتُهَا عِندَكَ فلاَ تَلبِسْها إِلاَّ بِحَقٍ فإن حَفِظْتَهَا حَفِظْتُكَ
»
. الرابع : أنها الأمانات التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها وأولها ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله، وولده حين أراد التوجه إلى أمر ربه فخان قابيل الأمانة في قتل أخيه هابيل، قاله السدي.
الخامس : أن هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال والخلق من الدلائل على ربوبيته أن يظهرونها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها قاله بعض المتكلمين.
وفي عرض هذه الأمانة ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن عرضها هو الأمر بما يجب من حفظها وعظم المأثم في تضييعها. قاله بعض المتكلمين.
الثاني : الأمانة عورضت بالسموات والأرض والجبال فكانت أثقل منها لتغليظ حكمها فلم تستقل بها وضعفت عن حملها، قاله ابن بحر.
الثالث : أن الله عرض حملها ليكون الدخول فيها بعد العلم بها.
واختلف قائلو هذا على وجهين :
أحدهما : أنها عرضت على السموات والأرض والجبال، قاله ابن عباس، ومجاهد.
الثاني : أنها عرضت على أهل السموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة قاله الحسن.
﴿ فَأَبَينَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ يحتمل وجهين
: أحدهما : أَبَينَ أن يحملنها عجزاً وأشفقن منها خوفاً.
الثاني : أبين أن يحملنها حذراً وأَشْفَقْنَ منها تقصيراً.
﴿ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ﴾ فيه قولان
: أحدهما : جميع الناس، قاله ثعلب.
الثاني : أنه آدم ثم انتقلت منه إلى ولده، قاله الحسن. روي عن معمر عن الحسن أن الأمانة لما عرضت على السموات والأرض والجبال قالت : وما فيها؟ قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فقالت : لا. قال مجاهد : فلما خلق الله آدم عرضها عليه قال : وما هي؟ قال :﴿ إن أَحْسَنْتَ آجَرْتُكَ وَإنْ أَسَأْتَ عَذَّبْتُكَ ﴾ قال تحملتها يا رب. قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها إلى أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر.
﴿ إنَّهُ كَنَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ظلوماً لنفسه، جهولاً بربه، قاله الحسن.
الثاني : ظلوماً في خطيئته، جهولاً فيما حَمَّلَ ولده من بعده، قاله الضحاك.
الثالث : ظلوماً لحقها، قاله قتادة. جهولاً بعاقبة أمره، قاله ابن جريج.
قوله :﴿ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه يعذبهم بالشرك والنفاق وهو معنى قول مقاتل.
الثاني : بخيانتهما الأمانة. قال الحسن : هما اللذان ظلماها، واللذان خاناها : المنافق، والمشرك.
﴿ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ أي يتجاوز عنه بأداء الأمانة والوفاء بالميثاق.
﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ لمن تاب من شِرْكه ﴿ رَحِيماً ﴾ بالهداية إلى طاعتهK والله أعلم.
Icon