تفسير سورة الأحزاب

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الأحزاب
هذه السورة مدنية.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة، وهو أنه حكى أنهم يستعجلون الفتح، وهو الفصل بينهم، وأخبر تعالى أنه يوم الفتح لا ينفعهم إيمانهم، فأمره في أول هذه السورة بتقوى الله، ونهاه عن طاعة الكفار والمنافقين فيما أرادوا به.
﴿ إن الله كان عليماً حكيماً ﴾ : عليماً بالصواب من الخطأ، والمصلحة من المفسدة ؛ حكيماً لا يضع الأشياء إلا مواضعها منوطة بالحكمة ؛ أو عليماً حيث أمر بتقواه، وأنها تكون عن صميم القلب، حكيماً حيث نهى عن طاعة الكفار والمنافقين.
وقيل : هي تسلية للرسول، أي عليماً بمن يتقي، حكيماً في هدي من شاء وإضلال من شاء.

ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﰿ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ
سورة الأحزاب
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١ الى ٧٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩)
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤)
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩)
يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٣٧) مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٣٩)
مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٤٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبا
443
الْجَوْفُ: مَعْرُوفُ، وَجَمْعُهُ أَجْوَافٌ. يَثْرِبُ: مَدِينَةُ الرَّسُولِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ:
أَرْضُ الْمَدِينَةِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا. الْحَنْجَرَةُ: رَأْسُ الْغَلْصَمَةِ، وَهِيَ مُنْتَهَى الْحُلْقُومِ وَالْحُلْقُومُ:
مَدْخَلُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. الْأَقْطَارُ: النَّوَاحِي، وَاحِدُهَا قُطْرٌ، وَيُقَالُ: قُتْرٌ بِالتَّاءِ، لُغَةٌ فِيهِ.
عُوِّقَ عَنْ كَذَا: تُثُبِّطَ عَنْهُ. سَلَقَهُ: اجْتَرَأَ عَلَيْهِ وَضَرَبَهُ، وَيُقَالُ: صَلَقَهُ بِالصَّادِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَصَلَقْنَا فِي مُرَادٍ صَلْقَةً وصداء لحقتهم بِالثَّلَلْ وَقِيلَ: سَلَقَهُ: خَاطَبَهُ مُخَاطَبَةً بَلِيغَةً، وَمِنْهُ خَطِيبٌ سَلَّاقٌ وَمِسْلَاقٌ، وَلِسَانٌ سَلَّاقٌ ومسلاق. السحب: النُّذُرُ، وَالشَّيْءُ الَّذِي لَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْتَقِدُ الْوَفَاءَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
448
وَقَالَ جَرِيرٌ:
عَشِيَّةَ فر الحارثون بعيد ما قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القوم هزبر
بِطِخْفَةَ جَالَدْنَا الْمُلُوكَ وَخَيْلُنَا عَشِيَّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ
أَيْ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ الْتُزِمَ الْقِيَامُ بِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْمَوْتُ نَحْبًا. الصَّيَاصِي: الْحُصُونُ، وَاحِدُهَا صِيصَيَةٌ، وَهِيَ كُلُّ مَا يُمْتَنَعُ بِهِ. وَيُقَالُ لقرن الصور وَالظَّبْيِ، وَلِشَوْكَةِ الدِّيكِ، وَهِيَ مِخْلَبُهُ الَّذِي فِي سَاقِهِ لِأَنَّهُ يَتَحَصَّنُ بِهِ. وَالصَّيَاصِي أَيْضًا: شَوْكُ الْحَاكَةِ، وَيُتَّخَذُ مِنْ حَدِيدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ:
كَوَقْعِ الصَّيَاصِي فِي النَّسِيجِ الْمُمَدَّدِ الْأُسْوَةُ: الْقُدْوَةُ، وَتُضَمُّ هَمْزَتُهُ وَتُكْسَرُ، وَيَتَأَسَّى بِفُلَانٍ: يَقْتَدِي بِهِ وَالْأُسْوَةُ مِنَ الِائْتِسَاءِ، كَالْقُدْوَةِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ: اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ. التَّبَرُّجُ، قَالَ اللَّيْثُ: تَبَرَّجَتْ:
أَبْدَتْ مَحَاسِنَهَا مِنْ وَجْهِهَا وَجَسَدِهَا، وَيُرَى مَعَ ذَلِكَ مِنْ عَيْنِهَا حُسْنُ نَظَرٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
تُخْرِجُ مَحَاسِنَهَا مِمَّا تَسْتَدْعِي بِهِ شَهْوَةَ الرِّجَالِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَرَجِ فِي عَيْنِهِ وَفِي أَسْنَانِهِ، بَرَجٌ:
أَيْ سِعَةٌ. الْوَطَرُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَالْأَرَبِ، وَأَنْشَدَ لِلرَّبِيعِ بْنِ أَصْبُغُ:
وَدَّعْنَا قَبْلَ أَنْ نُوَدِّعَهُ لَمَّا قَضَى مِنْ شَبَابِنَا وَطَرَا
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْوَطَرُ: الشَّهْوَةُ وَالْمَحَبَّةُ، يُقَالُ: مَا قَضَيْتُ مِنْ لِقَائِكَ وَطَرًا، أَيْ مَا اسْتَمْتَعْتُ بِكَ حَتَّى تَشْتَهِيَ نَفْسِي وَأَنْشَدَ:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ
الْجِلْبَابُ: ثَوْبٌ أَكْبَرُ مِنَ الْخِمَارِ.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً، وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا، مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً،
449
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً، لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً.
هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ نِدَاءَهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ «١»، هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِمَةِ وَالتَّنْوِيهِ بِمَحَلِّهِ وَفَضِيلَتِهِ، وَجَاءَ نِدَاءُ غَيْرِهِ باسمه، كقوله:
يا آدَمُ «٢»، يا نُوحُ «٣»، يا إِبْراهِيمُ «٤»، يا مُوسى «٥»، يا داوُدُ «٦»، يا عِيسى «٧». وَحَيْثُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ رَسُولُهُ، صَرَّحَ بِاسْمِهِ فَقَالَ:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «٨»، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ «٩»، أَعْلَمَ أَنَّهُ رَسُولُهُ، وَلَقَّنَهُمْ أَنْ يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ. وَحَيْثُ لَمْ يَقْصِدِ الْإِعْلَامَ بِذَلِكَ، جَاءَ اسْمُهُ كَمَا جَاءَ فِي النِّدَاءِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «١٠»، وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ «١١»، النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ «١٢»، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. وَأَمَرَهُ بِالتَّقْوَى لِلْمُتَلَبِّسِ بِهَا، أَمَرَ بِالدَّيْمُومَةِ عَلَيْهَا وَالِازْدِيَادِ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ، وَإِذَا كَانَ هُوَ مَأْمُورًا بِذَلِكَ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِالْأَمْرِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لَهُ لَفْظًا، وَهُوَ لِأُمَّتِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ يُحِبُّ إِسْلَامَ الْيَهُودِ، فَبَايَعَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ عَلَى النِّفَاقِ، وَكَانَ يَلِينُ لَهُمْ جَانِبُهُ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ النَّصَائِحَ فِي طُرُقِ الْمُخَادَعَةِ، وَلِحَلِفِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى ائْتِلَافِهِمْ رُبَّمَا كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُمْ، فَنَزَلَتْ تَحْذِيرًا لَهُ مِنْهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ.
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَأَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ قَدِمُوا فِي الْمُوَادَعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بن أبي، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَالْجَدِّ بْنُ قَيْسٍ فَقَالُوا لَهُ: ارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا وَقُلْ: إِنَّهَا تَشْفَعُ وَتَنْفَعُ، وَنَدَعُكَ وَرَبَّكَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَمُّوا بِقَتْلِهِمْ، فَنَزَلَتْ.
وَنَاسَبَ أَنْ نَهَاهُ عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ، وَهُمُ الْمُتَظَاهِرُونَ بِهِ، وَعَنْ طَاعَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبَطِّنُونَ الْكُفْرَ. فَالسَّبَبَانِ حَاوِيَانِ الطَّائِفَتَيْنِ، أَيْ:
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فِيمَا طَلَبُوا إِلَيْكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ
(١) سورة المائدة: ٥/ ٤١- ٦٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٣٣.
(٣) سورة هود: ١١/ ٣٢.
(٤) سورة هود: ١١/ ٧٦.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ٥٥.
(٦) سورة ص: ٣٨/ ٢٦.
(٧) سورة آل عمران: ٣/ ٥٥.
(٨) سورة الفتح: ٤٨/ ٢٩.
(٩) سورة آل عمران: ٣/ ١٤٤.
(١٠) سورة التوبة: ٩/ ١٢٨.
(١١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٣٠.
(١٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٦.
450
أَهْلَ مَكَّةَ دَعَوْهُ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِهِمْ، وَيُعْطُوهُ شَطْرَ أَمْوَالِهِمْ، وَيُزَوِّجَهُ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ بِنْتَهُ وَخَوَّفَهُ مُنَافِقُو الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ، فَنَزَلَتْ.
وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ الْفَتْحَ، وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمْ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ، فَأَمَرَهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَنَهَاهُ عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا أَرَادُوا بِهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً: عَلِيمًا بِالصَّوَابِ مِنَ الْخَطَأِ، وَالْمَصْلَحَةِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ حَكِيمًا لَا يَضَعُ الْأَشْيَاءَ إِلَّا مَوَاضِعَهَا مَنُوطَةً بِالْحِكْمَةِ أَوْ عَلِيمًا حَيْثُ أَمَرَ بِتَقْوَاهُ، وَأَنَّهَا تَكُونُ عَنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ، حَكِيمًا حَيْثُ نَهَى عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: هِيَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ، أَيْ عَلِيمًا بِمَنْ يَتَّقِي، حَكِيمًا فِي هَدْيِ مَنْ شَاءَ وَإِضْلَالِ مَنْ شَاءَ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَتَرْكِ مَرَاسِيمِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِمَا يَعْمَلُونَ، الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، فَجَازَ فِي الْأُولَى أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعْ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِتَفْوِيضِ أَمْرِهِ إِلَى اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَفى بِاللَّهِ فِي أَوَّلِ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ.
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي فِهْرٍ رَجُلٌ فِيهِمْ يُقَالُ لَهُ: أَبُو مَعْمَرٍ جَمِيلُ بْنُ أَسَدٍ، وَقِيلَ: حُمَيْدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ جُمَحَ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
وَكَيْفَ ثَوَائِي بِالْمَدِينَةِ بعد ما قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ
يَدَّعِي أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ، وَيُقَالُ لَهُ: ذُو الْقَلْبَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أَذْكَى مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَفْهَمُ فَلَمَّا بَلَغَتْهُ هَزِيمَةُ بَدْرٍ طَاشَ لُبُّهُ وَحَدَّثَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِحَدِيثٍ كَالْمُخْتَلِّ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ جَمَاعَةٌ، يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: نَفْسٌ تَأْمُرُنِي وَنَفْسٌ تَنْهَانِي. وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا لَهُ قَلْبَانِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي شَيْءٍ، فَنَزَعَ فِي غَيْرِهِ نَزْعَةً ثُمَّ عَادَ إِلَى شَأْنِهِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْ كُلِّ أَحَدٍ. قِيلَ: وَجْهُ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالتَّقْوَى، كَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ تَقْوَى غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ لَيْسَ لَهُ قَلْبَانِ يَتَّقِي بِأَحَدِهِمَا اللَّهَ وَبِالْآخَرِ غَيْرَهُ، وَهُوَ لَا يَتَّقِي غَيْرَهُ إِلَّا بِصَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ جِهَةِ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ. انْتَهَى، مُلَخَّصًا. وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ قَلْبَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَفْعَلَ أَحَدُهُمَا مِثْلَ مَا يَفْعَلُ الْآخَرُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَحَدِهِمَا، أَوْ غَيْرَهُ، فَيُؤَدِّي إِلَى اتِّصَافِ الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ مُرِيدًا كَارِهًا عَالِمًا ظَانًّا شَاكًّا مُوقِنًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. وَذُكِرَ الْجَوْفُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْجَوْفِ، زِيَادَةً
451
لِلتَّصْوِيرِ وَالتَّجَلِّي لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «١». فَإِذَا سَمِعَ بِذَلِكَ، صَوَّرَ لِنَفْسِهِ جَوْفًا يَشْتَمِلُ عَلَى قَلْبَيْنِ يُسْرِعُ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ.
وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ: لَمْ يَجْعَلْ تَعَالَى الزَّوْجَةَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا أُمًّا، لِأَنَّ الْأُمَّ مَخْدُومَةٌ مَخْفُوضٌ لَهَا جَنَاحُ الذُّلِّ، وَالزَّوْجَةَ مُسْتَخْدَمَةٌ مُتَصَرَّفٌ فِيهَا بِالِاسْتِفْرَاشِ وَغَيْرِهِ كَالْمَمْلُوكِ، وَهُمَا حَالَتَانِ مُتَنَافِيَتَانِ. وَقَرَأَ قَالُونُ وَقُنْبُلٌ: اللَّائِي هُنَا، وَفِي الْمُجَادِلَةِ والطلاق: بالهمز مِنْ غَيْرِ يَاءٍ وَوَرْشٌ: بِيَاءٍ مُخْتَلِسَةِ الْكَسْرَةِ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَدَلًا مِنَ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ بَدَلٌ مَسْمُوعٌ لَا مَقِيسٌ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْهَمْزِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ: تُظاهِرُونَ بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ، وَفِي الْمُجَادِلَةِ: بِالْيَاءِ لِلْغَيْبَةِ، مُضَارِعَ ظَاهَرَ وَبِشَدِّ الظَّاءِ وَالْهَاءِ: الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَبِشَدِّ الظَّاءِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا: ابْنُ عَامِرٍ وَبِتَخْفِيفِهَا وَالْأَلِفِ: حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَوَافَقَ ابْنُ عَامِرٍ الْآخَرِينَ فِي الْمُجَادِلَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ فِيهَا بِشَدِّهَا. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الظَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، مُضَارِعَ أَظْهَرَ وَفِيمَا حَكَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْهُ: بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ، لِحَذْفِهِمْ تَاءَ الْمُطَاوَعَةِ وَشَدِّ الْهَاءِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُظْهِرُونَ، بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَشَدِّ الْهَاءِ، مُضَارِعَ ظَهَّرَ، مُشَدَّدِ الْهَاءِ.
وَقَرَأَ هَارُونُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: تُظْهِرُونَ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْهَاءِ وَسُكُونِ الظَّاءِ، مُضَارِعَ ظَهَرَ، مُخَفَّفِ الْهَاءِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: تَتَظَهَّرُونَ، بِتَاءَيْنِ. فَتِلْكَ تِسْعُ قِرَاءَاتٍ، وَالْمَعْنَى: قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَتِلْكَ الْأَفْعَالُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: لَبَّى الْمُحْرِمُ إِذَا قَالَ لَبَّيْكَ، وَأَفَّفَ إِذَا قَالَ أُفٍّ. وَعُدِّيَ الْفِعْلُ بِمِنْ، لِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَتَجَنَّبُونَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا، كَمَا يَتَجَنَّبُونَ الْمُطَلَّقَةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَبَاعَدَ مِنْهَا بِجِهَةِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ، أَيْ مِنِ امْرَأَتِهِ. لَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى التَّبَاعُدِ، عُدِّيَ بِمِنْ، وَكَنَّوْا عَنِ الْبَطْنِ بِالظَّهْرِ إِبْعَادًا لِمَا يُقَارِبُ الْفَرْجَ، وَلِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ: يَحْرُمُ إِتْيَانُ الْمَرْأَةِ وَظَهْرُهَا لِلسَّمَاءِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: يَجِيءُ الْوَلَدُ إِذْ ذَاكَ أَحْوَلَ، فَبَالَغُوا فِي التَّغْلِيظِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فَشَبَّهَهَا بِالظَّهْرِ، ثُمَّ بَالَغَ فَجَعَلَهَا كَظَهْرِ أُمِّهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مِنْ كَلْبٍ سُبِيَ صَغِيرًا، فَاشْتَرَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ، فَوَهَبَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ أَبُوهُ وَعَمُّهُ بِفِدَائِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ بعثة رسول الله، فَأَعْتَقَهُ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ.
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ الْآيَةَ: وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الإسلام إذا تبنى
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٤٦.
452
الرَّجُلُ وَلَدَ غَيْرِهِ صَارَ يَرِثُهُ. وَأَدْعِيَاءُ: جَمْعُ دَعِيٍّ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، جَاءَ شَاذًّا، وَقِيَاسُهُ فَعْلَى، كَجَرِيحٍ وَجَرْحَى، وَإِنَّمَا هَذَا الْجَمْعُ قِيَاسُ فَعِيلٍ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، نَحْوُ:
تَقِيٍّ وَأَتْقِيَاءَ. شَبَّهُوا أَدْعِيَاءَ بِتَقِيٍّ، فَجَمَعُوهُ جَمْعَهُ شُذُوذًا، كَمَا شَذُّوا فِي جَمْعِ أَسِيرٍ وَقَتِيلٍ فَقَالُوا: أُسَرَاءَ وَقُتَلَاءَ، وَقَدْ سُمِعَ الْمَقِيسُ فِيهِمَا فَقَالُوا: أَسْرَى وَقَتْلَى. وَالْبُنُوَّةُ تَقْتَضِي التَّأَصُّلَ فِي النَّسَبِ، وَالدَّعْوَةُ إِلْصَاقَ عَارِضٍ بِالتَّسْمِيَةِ، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ أَصِيلًا غَيْرَ أَصِيلٍ. ذلِكُمْ: أَيْ دُعَاؤُهُمْ أَبْنَاءَ مُجَرَّدُ قَوْلٍ لَا حَقِيقَةَ لِمَدْلُولِهِ، إِذْ لَا يُوَاطِئُ اللَّفْظُ الِاعْتِقَادَ، إِذْ يُعْلَمُ حَقِيقَةً أَنَّهُ لَيْسَ ابْنَهُ. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ: أَيْ مَا يُوَافِقُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ: أَيْ سَبِيلَ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ، أَوْ سَبِيلَ الشَّرْعِ وَالْإِيمَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَهْدِي مُضَارِعَ هَدَى وَقَتَادَةُ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَشَدِّ الدَّالِ. وأَقْسَطُ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي أَوَاخِرِ الْبَقَرَةِ، وَمَعْنَاهُ:
أَعْدَلُ. وَلَمَّا أَمَرَ بِأَنْ يُدْعَى الْمُتَبَنَّى لِأَبِيهِ إِنْ عُلِمَ قَالُوا: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَمَوالِيكُمْ وَلِذَلِكَ قَالُوا: سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: أَنَا مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ، فَأَنَا أَخُوكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوْلَاكُمْ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَلَوْ عَلِمَ وَاللَّهِ أَبَاهُ حِمَارًا لَانْتَمَى إِلَيْهِ، وَرِجَالُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ فِيهِ: نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ مُتَعَمِّدًا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ، قِيلَ: رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِيمَا كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالْخَطَأِ مَا كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ. وَقِيلَ: فِيمَا سَبَقَ إِلَيْهِ اللِّسَانُ. إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْغَلَطِ، إِنْ كَانَ سَبَقَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ النَّهْيِ، فَجَرَى ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ غَلَطًا، أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّحَنُّنِ وَالشَّفَقَةِ، إِذْ كَثِيرًا مَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِلصَّغِيرِ: يَا بُنَيَّ، كَمَا يَقُولُ لِلْكَبِيرِ: يَا أَبِي، عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ. وما عَطْفٌ عَلَى مَا أَخْطَأْتُمْ، أَيْ وَلَكِنَّ الْجُنَاحَ فِيمَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ مَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ فِيهِ الْجُنَاحَ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لِلْعَامِدِ إِذَا تَابَ، رَحِيماً حَيْثُ رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنِ الْمُخْطِئِ.
وَكَوْنُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: أَيْ أَرْأَفُ بِهِمْ وَأَعْطَفُ عَلَيْهِمْ، إِذْ هُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّجَاةِ، وَأَنْفُسُهُمْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهَلَاكِ. وَمِنْهُ
قَوْلُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا تَقَحُّمَ الْفَرَاشِ».
وَمِنْ حَيْثُ يَنْزِلُ لَهُمْ مَنْزِلَةَ الْأَبِ. وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ: وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، يَعْنِي فِي الدِّينِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ نَبِيٍّ أَبُو أُمَّتِهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ لُوطٍ عَلَيْهِ
453
السَّلَامُ: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي، إِنَّهُ أَرَادَ الْمُؤْمِنَاتِ، أَيْ بَنَاتُهُ فِي الدِّينِ وَلِذَلِكَ جَاءَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «١»، أَيْ فِي الدِّينِ.
وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. واقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ هَلَكَ وَتَرَكَ مَالًا، فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضِيَاعًا فَإِلَيَّ».
قِيلَ: وَأَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ: أَيْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يُقَيِّدْ. فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحُكْمُهُ أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُكْمِهَا، وَحُقُوقُهُ آثَرَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي حَقِّهِ. انْتَهَى. وَلَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: الْمُؤْمِنُونَ أَوْلَى بِالنَّبِيِّ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ: أَيْ مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ فِي التَّوْقِيرِ وَالِاحْتِرَامِ. وَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ: مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِهِنَّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَيْنَ فِيهِ مَجْرَى الْأَجَانِبِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَأَزْواجُهُ:
كُلُّ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَنْ طَلَّقَهَا وَمَنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا. وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ لِمُطَلَّقَةٍ. وَقِيلَ: مَنْ دَخَلَ بِهَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهَا قَطْعًا. وَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ فَارَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَكَحَتْ بَعْدَهُ، فَقَالَتْ لَهُ: وَلِمَ هَذَا، وَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ حِجَابًا، وَلَا سُمِّيتُ لِلْمُسْلِمِينَ أُمًّا؟ فَكَفَّ عَنْهَا. كَانَ أَوَّلًا بِالْمَدِينَةِ، تَوَارُثٌ بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَبِالْهِجْرَةِ، ثُمَّ حَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ أَحَقُّ بِالتَّوَارُثِ مِنَ الْأَخِ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ بِالْهِجْرَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ، أَيْ أَوْلَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ مِنْ هُنَا كَهِيَ فِي: زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِأُولِي الْأَرْحَامِ، أَيِ الْأَقْرِبَاءُ مِنْ هَؤُلَاءِ، بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَرِثَ بَعْضًا مِنَ الْأَجَانِبِ.
انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ قَوْلِهِ: إِلى أَوْلِيائِكُمْ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِهِ، مِنْ قَرِيبٍ وَأَجْنَبِيٍّ، مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، يُحْسِنُ إِلَيْهِ وَيَصِلُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَيُوصِي لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالرُّمَّانِيُّ وَغَيْرُهُ: إِلى أَوْلِيائِكُمْ، مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ.
وَسِيَاقُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُؤْمِنِينَ يُعَضِّدُ هَذَا، لَكِنَّ وِلَايَةَ النَّسَبِ لَا تُدْفَعُ فِي الْكَافِرِ، إِنَّمَا تُدْفَعُ فِي أَنْ تُلْقِيَ إِلَيْهِ بِالْمَوَدَّةِ، كَوَلِيِّ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا هُوَ مِمَّا يُفْهَمُ مِنَ الكلام، أي: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي النَّفْعِ بِمِيرَاثٍ وَغَيْرِهِ. وعدى بإلى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تُوصِلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ، كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا في
(١) سورة الحجرات: ٤٩/ ١٠. [.....]
454
الْآيَتَيْنِ. فِي الْكِتابِ: إِمَّا اللَّوْحُ، وَإِمَّا الْقُرْآنُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. مَسْطُوراً: أَيْ مُثْبَتًا بِالْأَسْطَارِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْخَاتِمَةِ، لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَلَمَّا كَانَ مَا سَبَقَ أَحْكَامٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فِيهَا أَشْيَاءُ مِمَّا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَشْيَاءُ فِي الْإِسْلَامِ نسخت. أتبعه بقوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ: أَيْ فِي تَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَلَسْتُ بِدْعًا فِي تَبْلِيغِكَ عَنِ اللَّهِ. وَالْعَامِلُ فِي إِذْ، قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسْطُورًا، أَيْ مَسْطُورًا فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَحِينَ أَخَذْنَا. وَقِيلَ: الْعَامِلُ: وَاذْكُرْ حِينَ أَخَذْنَا، وَهَذَا الْمِيثَاقُ هُوَ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، لَا مِنْ خَوْفٍ وَلَا طَمَعٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أُخِذَ مِيثَاقُهُمْ بِالتَّبْلِيغِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِتَصْدِيقِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَالْإِعْلَانِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِعْلَانِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَقْتَ اسْتِخْرَاجِ الْبَشَرِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَالذَّرِّ، قَالُوا: فَأَخَذَ اللَّهُ حِينَئِذٍ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ بِالتَّبْلِيغِ وَتَصْدِيقِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَبِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ النُّبُوَّةُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَخُصَّ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي جُمْلَةِ النَّبِيِّينَ. وَقِيلَ: هُمْ أُولُو الْعَزْمِ لِشَرَفِهِمْ وَفَضْلِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقُدِّمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ، وَأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعًا. وَقُدِّمَ نُوحٌ فِي آيَةِ الشُّورَى فِي قَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً «١» الْآيَةَ، لِأَنَّ إِيرَادَهُ عَلَى خِلَافِ. الْإِيرَادِ، فَهُنَاكَ أَوْرَدَهُ عَلَى طَرِيقِ وَصْفِ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالْأَصَالَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: شَرَعَ لَكُمُ الدِّينَ الْأَصِيلَ الَّذِي بُعِثَ عَلَيْهِ نُوحٌ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَبُعِثَ عَلَيْهِ محمد خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْعَهْدِ الْحَدِيثِ، وَبُعِثَ عَلَيْهِ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَشَاهِيرِ.
وَالْمِيثَاقُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَكُرِّرَ لِأَجْلِ صِفَتِهِ. وَالْغِلَظُ: مِنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ، وَاسْتُعِيرَ لِلْمَعْنَى مُبَالَغًا فِي حُرْمَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَثِقَلِ فَرْطِ تَحَمُّلِهِ. وَقِيلَ: الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ: الْيَمِينُ بِاللَّهِ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا حَمَلَهُ. وَاللَّامُ فِي لِيَسْئَلَ، قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الصَّيْرُورَةِ، أَيْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِيَصِيرَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ كَيْ، أَيْ بَعَثْنَا الرُّسُلَ وَأَخَذْنَا عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيقَ فِي التَّبْلِيغِ، لِكَيْ يَجْعَلَ اللَّهُ خَلْقَهُ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً يَسْأَلُهَا عَنْ صِدْقِهَا عَلَى مَعْنَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَتُجِيبُ بِأَنَّهَا قَدْ صَدَقَتِ اللَّهَ فِي إِيمَانِهَا وَجَمِيعِ أَفْعَالِهَا، فَيُثِيبُهَا عَلَى ذَلِكَ وَفِرْقَةً كَفَرَتْ، فَيَنَالُهَا مَا أَعَدَّ لَهَا مِنَ الْعَذَابِ. فَالصَّادِقُونَ عَلَى هَذَا الْمَسْئُولُونَ هُمُ: الْمُؤْمِنُونَ. وَالْهَاءُ فِي صِدْقِهِمْ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ، وَمَفْعُولُ صِدْقِهِمْ محذوف
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ١٣.
455
تَقْدِيرُهُ: عَنْ صِدْقِهِمْ عَهْدَهُ. أَوْ يَكُونُ صِدْقِهِمْ فِي مَعْنَى: تَصْدِيقِهِمْ، وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَنْ تَصْدِيقِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِلصَّادِقِ صَدَقْتَ، كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ. أَوْ لِيَسْأَلَ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِي أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمَهُمْ، حَكَاهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى أَوْ لِيَسْأَلَ عَنِ الْوَفَاءِ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، حَكَاهُ ابْنُ شَجَرَةَ أَوْ لِيَسْأَلَ الْأَنْبِيَاءَ عَنْ تَبْلِيغِهِمُ الرِّسَالَةَ إِلَى قَوْمِهِمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ، أَيْ إِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُسْأَلُونَ، فَكَيْفَ بِمَنْ سِوَاهُمْ؟ وقال مجاهد أيضا: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ، أَرَادَ الْمُؤَدِّينَ عَنِ الرُّسُلِ. انْتَهَى. وَسُؤَالُ الرُّسُلِ تَبْكِيتٌ لِلْكَافِرِينَ بِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١»، وَقَالَ تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ «٢». وَأَعَدَّ:
مَعْطُوفٌ عَلَى أَخَذْنا، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَكَّدَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الدُّعَاءَ إِلَى دِينِهِ لِأَجْلِ إِثَابَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً، أَوْ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَثَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ، قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ مَا أُثِيبَ بِهِ الصَّادِقُونَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَذُكِرَتِ الْعِلَّةُ وَحُذِفَ مِنَ الثَّانِي الْعِلَّةُ، وَذُكِرَ مَا عُوقِبُوا بِهِ. وَكَانَ التَّقْدِيرُ: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، فَأَثَابَهُمْ وَيَسْأَلَ الْكَافِرِينَ عَمَّا أَجَابُوا بِهِ رُسُلَهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ «٣»، وأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «٤»، فَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الثَّانِي، وَمِنَ الثَّانِي مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الْأَوَّلِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ بَلِيغَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ «٥»، وَأَمْعَنَّا الْكَلَامَ هُنَاكَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً، وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ
(١) سورة المائدة: ٥/ ١١٦.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٦.
(٣) سورة القصص: ٢٨/ ٦٥- ٦٦.
(٤) سورة الإنسان: ٧٦/ ٣١.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ١٧١.
456
لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا، قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا، قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً، يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا.
ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنْ أَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَدِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ أَهِلُ السِّيَرِ، وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْآيَاتِ التي نفسرها.
وإذ معمولة لنعمة، أَيْ إِنْعَامَهُ عَلَيْكُمْ وَقْتَ مَجِيءِ الْجُنُودِ، وَالْجُنُودُ كَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ، قُرَيْشٌ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْأَحَابِيشِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ يَقُودُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَبَنُو أَسَدٍ يَقُودُهُمْ طُلَيْحَةُ، وَغَطَفَانُ يَقُودُهُمْ عُيَيْنَةُ، وَبَنُو عَامِرٍ يَقُودُهُمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَسُلَيْمٌ يَقُودُهُمْ أَبُو الْأَعْوَرِ، وَالْيَهُودُ النَّضِيرُ رُؤَسَاؤُهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَابْنَا أَبِي الْحُقَيْقِ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ سَيِّدُهُمْ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرسول عَهْدٌ، فَنَبَذَهُ بِسَعْيِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ.
وَقِيلَ: فَاجْتَمَعُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَهُمُ الْأَحْزَابُ، وَنَزَلُوا الْمَدِينَةَ، فَحَفَرُوا الخندق بإشارة سليمان، وظهرت للرسول بِهِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْ كَسْرِ الصَّخْرَةِ الَّتِي أَعْوَزَتِ الصَّحَابَةَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، ظَهَرَتْ مَعَ كُلِّ فِرْقَةٍ بُرْقَةٌ، أَرَاهُ اللَّهُ مِنْهَا مَدَائِنَ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا، وَمَدَائِنَ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا، وَمَدَائِنَ الْحَبَشَةِ وَمَا حَوْلَهَا وَبُشِّرَ بِفَتْحِ ذَلِكَ، وَأَقَامَ الذَّرَارِيَّ وَالنِّسَاءَ بِالْآطَامِ، وَخَرَجَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَنَزَلُوا بِظَهْرِ سَلْعٍ، وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ، سَنَةَ خَمْسٍ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: سَنَةَ أَرْبَعٍ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَجُنُودًا، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْجُمْهُورُ: بِالضَّمِّ. بَعَثَ اللَّهُ الصَّبَا لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ، فَأَضَرَّتْ بِهِمْ هَدَمَتْ بُيُوتَهُمْ، وَأَطْفَأَتْ نِيرَانَهُمْ، وَقَطَعَتْ حِبَالَهُمْ، وَأَكْفَأَتْ قُدُورَهُمْ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ مَعَهَا قَرَارٌ. وَبَعَثَ اللَّهُ مَعَ الصَّبَا مَلَائِكَةٌ تُشَدِّدُ الرِّيحَ وَتَفْعَلُ نَحْوَ فِعْلِهَا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ فِي رِوَايَةٍ: لَمْ يَرَوْهَا، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْجُمْهُورُ:
بِتَاءِ الْخِطَابِ. مِنْ فَوْقِكُمْ: مِنْ أَعْلَى الْوَادِي مِنْ قِبَلِ مَشْرِقِ غَطَفَانَ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ: من أسفل الوادي منه قِبَلِ الْمَغْرِبِ، وَقُرَيْشٌ تَحَزَّبُوا وَقَالُوا: نَكُونُ جُمْلَةً حَتَّى
457
نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ فَوْقِكُمْ، يُرِيدُ أَهْلَ نَجْدٍ مَعَ عُيَيْنَةَ بْنِ حصن، ومِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، يُرِيدُ مَكَّةَ وَسَائِرَ تِهَامَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا يُرَادُ مَا يَخْتَصُّ بِبُقْعَةِ الْمَدِينَةِ، أَيْ نَزَلَتْ طَائِفَةٌ فِي أَعْلَى الْمَدِينَةِ، وَطَائِفَةٌ فِي أَسْفَلِهَا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ، أَيْ جَاءُوكُمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذْ جَاءُوكُمْ مُحِيطِينَ بِكُمْ، كَقَوْلِهِ: يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «١»، الْمَعْنَى: يَغْشَاهُمْ مُحِيطًا بِجَمِيعِ أَبْدَانِهِمْ. وَزَيْغُ الْأَبْصَارِ: مَيْلُهَا عَنْ مُسْتَوَى نَظَرِهَا، فِعْلُ الْوَالِهِ الْجَزِعِ. وَقَالَ الفراء: زاغت عن كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمْ تَلْتَفِتْ إِلَّا إِلَى عَدُوِّهَا.
وَبُلُوغُ القلوب الْحَنَاجِرَ: مُبَالَغَةٌ فِي اضْطِرَابِهَا وَوَجِيبِهَا، دُونَ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ مَقَرِّهَا إِلَى الْحَنْجَرَةِ. وَقِيلَ: بَحَّتِ الْقُلُوبُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ، فَيَتَّصِلُ وَجِيبُهَا بِالْحَنْجَرَةِ، فَكَأَنَّهَا بَلَغَتْهَا.
وَقِيلَ: يَجِدُ خُشُونَةً وَقَلْبُهُ يَصْعَدُ عُلُوًّا لِيَنْفَصِلَ، فَالْبُلُوغُ لَيْسَ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: الْقَلْبُ عِنْدَ الْغَضَبِ يَنْدَفِعُ، وَعِنْدَ الْخَوْفِ يَجْتَمِعُ فَيَتَقَلَّصُ بِالْحَنْجَرَةِ. وَقِيلَ: يُفْضِي إِلَى أَنْ يَسُدَّ مَخْرَجَ النَّفَسِ، فَلَا يَقْدِرُ الْمَرْءُ أَنْ يَتَنَفَّسَ، وَيَمُوتُ خَوْفًا، وَمِثْلُهُ: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ «٢».
وَقِيلَ: إِذَا انْتَفَخَتِ الرِّئَةُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَالْغَضَبِ، أَوِ الْغَمِّ الشَّدِيدِ، رَبَتْ وَارْتَفَعَ الْقَلْبُ بِارْتِفَاعِهَا إِلَى رَأْسِ الْحَنْجَرَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لِلْجَبَانِ، انْتَفَخَ سَحْرُهُ. وَالظُّنُونُ: جَمْعٌ لِمَا اخْتَلَفَتْ مُتَعَلِّقَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْقَاسُ عِنْدَ مَنْ جَمَعَ الْمَصْدَرَ إِذَا اخْتَلَفَتْ مُتَعَلِّقَاتُهُ، وَيَنْقَاسُ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَقَدْ جَاءَ الظُّنُونُ جَمْعًا فِي أَشْعَارِهِمْ، أَنْشَدَ أَبُو عَمْرٍو فِي كِتَابِ الْأَلْحَانِ:
إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا
فَظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّصْرِ حَقٌّ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَظْهِرُونَ وَظَنَّ الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ مُضْطَرِبُهُ، وَالْمُنَافِقُونَ أَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ سَيُغْلَبُونَ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَشْمَلُهُمُ الضَّمِيرُ فِي وَتَظُنُّونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: ظَنُّوا ظُنُونًا مُخْتَلِفَةً، ظَنَّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُسْتَأْصَلُونَ، وَظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ يُبْتَلُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ يَكَادُونَ يَضْطَرِبُونَ، وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا الْخُلْفُ لِلْوَعْدِ؟ وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ خَوَاطِرَ خَطَرَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَا يُمْكِنُ الْبَشَرَ دَفْعُهَا. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَعَجَّلُوا وَنَطَقُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الثُّبْتُ الْقُلُوبِ بِاللَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ وَيَفْتِنَهُمْ، فَخَافُوا الزَّلَلَ وَضَعْفَ الِاحْتِمَالِ وَالضِّعَافُ الْقُلُوبِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى حَرْفٍ وَالْمُنَافِقُونَ ظَنُّوا بِاللَّهِ مَا حَكَى عنهم، وكتب: الظنونا والرسولا والسبيلا فِي الْمُصْحَفِ بِالْأَلِفِ، فَحَذَفَهَا حَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَقْفًا ووصلا وابن كثير،
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٥٥.
(٢) سورة غافر: ٤٠/ ١٨.
458
وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: بِحَذْفِهَا وَصْلًا خَاصَّةً وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِإِثْبَاتِهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْحُذَّاقُ أَنْ يُوقَفَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِالْأَلِفِ، وَلَا يُوصَلَ، فَيُحْذَفُ أَوْ يُثْبَتُ، لِأَنَّ حَذْفَهَا مُخَالِفٌ لِمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مَصَاحِفُ الأمصار، ولأن إثباتها في الْوَصْلَ مَعْدُومٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، نَظْمِهِمْ وَنَثْرِهِمْ، لَا فِي اضْطِرَارٍ وَلَا غَيْرِهِ. أَمَّا إِثْبَاتُهَا فِي الْوَقْفِ فَفِيهِ اتِّبَاعُ الرَّسْمِ وَمُوَافَقَتُهُ لِبَعْضِ مَذَاهِبِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ هَذِهِ الْأَلِفَ فِي قَوَافِي أَشْعَارِهِمْ وَفِي تَصَارِيفِهَا، وَالْفَوَاصِلُ فِي الْكَلَامِ كَالْمَصَارِعِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هِيَ رؤوس الْآيِ، تُشَبَّهُ بِالْقَوَافِي مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَقَاطِعَ، كَمَا كانت القوافي مقاطع.
وهُنالِكَ: ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْبَعِيدِ هَذَا أَصْلُهُ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْحِصَارُ وَالْقِتَالُ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْعَامِلُ فِيهِ ابْتُلِيَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
هُنالِكَ ظَرْفُ زَمَانٍ قَالَ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْعَامِلَ فِيهِ وَتَظُنُّونَ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِالْقَوِيِّ، لِأَنَّ الْبَدَاءَةَ لَيْسَتْ مُتَمَكِّنَةً. وَابْتِلَاؤُهُمْ، قَالَ الضَّحَّاكُ: بِالْجُوعِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْحِصَارِ.
وَقِيلَ: بِالصَّبْرِ عَلَى الْإِيمَانِ. وَزُلْزِلُوا، قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: حُرِّكُوا بِالْخَوْفِ. وَقِيلَ زُلْزِلُوا، فَثَبَتُوا وَصَبَرُوا حَتَّى نُصِرُوا. وَقِيلَ: حُرِّكُوا إِلَى الْفِتْنَةِ فَعُصِمُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَزُلْزِلُوا، بِضَمِّ الزَّايِ. وَقَرَأَ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى اللُّؤْلُؤِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِكَسْرِ الزَّايِ، قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو: إِشْمَامُ زَايِ زُلْزِلُوا. انْتَهَى، كَأَنَّهُ يَعْنِي:
إِشْمَامَهَا الْكَسْرَ، وَوَجْهُ الْكَسْرِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَنَّهُ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الزَّايِ الْأُولَى بِحَرَكَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِالسَّاكِنِ، كَمَا يَعْتَدُّ بِهِ مَنْ قَالَ: مِنْتِنٌ، بِكَسْرِ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ التَّاءِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ أَنْتَنَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زِلْزالًا، بِكَسْرِ الزَّايِ وَالْجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى:
بِفَتْحِهَا، وَكَذَا: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَمَصْدَرُ فَعْلَلَ مِنَ الْمُضَاعَفِ يَجُوزُ فِيهِ الْكَسْرُ وَالْفَتْحُ نَحْوُ: قَلْقَلَ قَلْقَالًا. وَقَدْ يُرَادُ بِالْمَفْتُوحِ مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، فَصَلْصَالٌ بِمَعْنَى مُصَلْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضَاعَفٍ، فَمَا سُمِعَ مِنْهُ عَلَى فِعْلَانٍ، مَكْسُورِ الْفَاءِ نَحْوُ: سَرْهَفَهُ سِرْهَافًا.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ: وَهُمُ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِيمَانِ الْمُبْطِنُونَ الْكُفْرَ. وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: هُمْ ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ عَلَى حَرْفٍ، وَالْعَطْفُ دَالٌّ عَلَى التَّغَايُرِ، نُبِّهَ عَلَيْهِمْ عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ.
لَمَّا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّخْرَةَ، وَبَرَقَتْ تِلْكَ الْبَوَارِقُ، وَبَشَّرَ بِفَتْحِ فَارِسَ وَالرُّومِ وَالْيَمَنِ وَالْحَبَشَةِ، قَالَ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أَنْ نَفْتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَكَّةَ، وَنَحْنُ لَا يَقْدِرُ أَحَدُنَا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى
459
الْغَائِطِ، مَا يَعِدُنَا إِلَّا غُرُورًا، أَيْ أَمْرًا يَغُرُّنَا وَيُوقِعُنَا فِيمَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ نَحْوَ ذَلِكَ. وقولهم: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ، إِذْ لَوِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ رَسُولٌ حَقِيقَةً مَا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَالْمَعْنَى: وَرَسُولُهُ عَلَى زَعْمِكُمْ وَزَعْمِهِ، وَفِي مُعَتِّبٍ وَنُظَرَائِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، لَا مُقامَ لَكُمْ فِي حَوْمَةِ الْقِتَالِ وَالْمُمَانَعَةِ، فَارْجِعُوا إِلَى بُيُوتِكُمْ وَمَنَازِلِكُمْ، أَمَرُوهُمْ بِالْهَرَبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: فَارْجِعُوا كُفَّارًا إِلَى دِينِكُمُ الْأَوَّلِ وَأَسْلِمُوهُ إِلَى أَعْدَائِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَالْقَائِلُ لِذَلِكَ عبد الله بن أبي ابْنِ سَلُولَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَنُو مَسْلَمَةَ. وَقَالَ أَوْسُ بْنُ رُومَانَ:
أَوْسُ بن قبطي وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَنُو حَارِثَةَ. وَيُمْكِنُ صِحَّةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ مُنَافِقًا. لَا مُقامَ لَكُمْ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَالْيَمَانِيُّ وَحَفْصٌ: بِضَمِّ الْمِيمِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا، أَيْ لَا مَكَانَ إِقَامَةٍ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ لَا إِقَامَةَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ، وَطَلْحَةُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، وَاحْتَمَلَ أَيْضًا الْمَكَانَ، أَيْ لامكان قِيَامٍ، وَاحْتَمَلَ الْمَصْدَرَ، أَيْ لَا قِيَامَ لَكُمْ. وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ: هُوَ أوس بن قبطي، اسْتَأْذَنَ فِي الدُّخُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ عَنِ اتِّفَاقٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ. يَقُولُونَ: حَالٌ، أَيْ قَائِلِينَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ: أَيْ مُنْكَشِفَةٌ لِلْعَدُوِّ، وَقِيلَ: خَالِيَةٌ لِلسُّرَّاقِ، يُقَالُ: أَعْوَرَ الْمَنْزِلُ: انْكَشَفَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَهُ الشِّدَّةُ الْأُولَى إِذَا الْقَرْنُ أَعْوَرَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَرِيقُ بَنُو حَارِثَةَ، وَهُمْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ، اعْتَذَرُوا بِأَنَّ بُيُوتَهُمْ مُعَرَّضَةٌ لِلْعَدُوِّ، مُمْكَنَةٌ لِلسُّرَّاقِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحْرَزَةٍ وَلَا مُحَصَّنَةٍ، فَاسْتَأْذَنُوهُ لِيُحَصِّنُوهَا ثُمَّ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ الْفِرَارَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبُو طَالُوتَ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: عورة وبعوزة، بِكَسْرِ الْوَاوِ فِيهِمَا وَالْجُمْهُورُ:
بِإِسْكَانِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَخْفِيفُ عَوْرَةٌ وَبِالْكَسْرِ هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: صِحَّةُ الْوَاوِ فِي هَذَا إِشَارَةٌ لِأَنَّهَا مُتَحَرِّكَةٌ قَبْلَهَا فَتْحَةٌ. انْتَهَى. فَيَعْنِي أَنَّهَا تَنْقَلِبُ أَلِفًا، فَيُقَالُ: عَارَةٌ، كَمَا يَقُولُ: رَجُلٌ مَالٌ، أَيْ مُمَوَّلٌ. وَإِذَا كَانَ عَوْرَةٌ اسْمَ فَاعِلٍ، فَهُوَ مِنْ عَوِرَ الَّذِي صَحَّتْ عَيْنُهُ، فَاسْمُ الْفَاعِلِ كَذَلِكَ تَصِحُّ عَيْنُهُ، فَلَا تَكُونُ صِحَّةُ الْعَيْنِ عَلَى هَذَا شُذُوذًا. وَقِيلَ: السُّكُونُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَالْبَيْتُ الْعَوِرُ: هُوَ الْمُنْفَرِدُ الْمُعَرَّضُ
460
لِمَنْ أَرَادَ سُوءًا. وَقَالَ الزَّجَّاجَ: عَوِرَ الْمَكَانُ يَعْوَرُ عَوَرًا وَعَوْرَةً فَهُوَ عَوِرٌ، وَبُيُوتٌ عَوْرَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَعْوَرَ الْمَنْزِلُ: بَدَا مِنْهُ عَوْرَةٌ، وَأَعْوَرَ الْفَارِسُ: كَانَ فِيهِ مَوْضِعُ خَلَلٍ لِلضَّرْبِ وَالطَّعْنِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
مَتَّى تَلْقَهُمْ لَمْ تَلْقَ فِي الْبَيْتِ مُعْوِرًا وَلَا الضَّيْفَ مَسْحُورًا وَلَا الْجَارَ مُرْسِلَا
قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَوْرَةٌ: خَالِيَةٌ مِنَ الرِّجَالِ ضَائِعَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَاصِيَةٌ، يُخْشَى عَلَيْهَا الْعَدُوُّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَصِيرَةُ الْحِيطَانِ، يُخَافُ عَلَيْهَا السُّرَّاقُ. وقال الليث: العورة: سوءة الْإِنْسَانِ، وَكُلُّ أَمْرٍ يُسْتَحَيَا مِنْهُ فَهُوَ عَوْرَةٌ، يُقَالُ: عَوْرَةٌ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَالْجَمْعُ كَالْمَصْدَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعَبْدِ الله ابن أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: مَا الَّذِي يَحْمِلُكُمْ عَلَى قَتْلِ أَنْفُسِكُمْ بِيَدِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ؟ فَارْجِعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ. إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً: مِنَ الدِّينِ، وَقِيلَ: مِنَ الْقَتْلِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَرَجَعَ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالضَّمِيرُ فِي: دُخِلَتْ، الظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى الْبُيُوتِ، إِذْ هُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. قِيلَ: أَوْ عَلَى الْمَدِينَةِ، أَيْ وَلَوْ دَخَلَهَا الْأَحْزَابُ الَّذِينَ يَفِرُّونَ خَوْفًا مِنْهَا وَالثَّالِثُ عَلَى أَهَالِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ. ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ: أَيِ الرِّدَّةَ وَالرُّجُوعَ إِلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ وَمُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ. لَآتَوْها: أَيْ لَجَاءُوا إِلَيْهَا وَفَعَلُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْقَصْرِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: لَآتَوْهَا بِالْمَدِّ، أَيْ لَأَعْطَوْهَا.
وَما تَلَبَّثُوا بِها: وَمَا لَبِثُوا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ ارْتِدَادِهِمْ إِلَّا يَسِيراً، فَإِنَّ اللَّهَ يُهْلِكُهُمْ وَيُخْرِجُهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ دُخِلَتِ الْمَدِينَةُ مِنْ أَقْطَارِهَا، وَاشْتَدَّ الْحَرْبُ الْحَقِيقِيُّ، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ وَالْحَرْبَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَطَارُوا إِلَيْهَا وَأَتَوْهَا مُجِيبِينَ فِيهَا، وَلَمْ يَتَلَبَّثُوا فِي بُيُوتِهِمْ لِحِفْظِهَا إِلَّا يَسِيرًا، قِيلَ: قَدْرُ مَا يَأْخُذُونَ سِلَاحَهُمْ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سئلوا، وقرأ الحسن: سولوا، بِوَاوٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ الْمَضْمُومَةِ، قَالُوا: وَهِيَ مِنْ سال يسال، كخاف يَخَافُ، لُغَةٌ مِنْ سَأَلَ الْمَهْمُوزِ الْعَيْنِ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: هُمَا يَتَسَاوَلَانِ.
انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا الهمز، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سولوا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ فِي ضَرَبَ ضَرْبَ، ثُمَّ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا وَاوًا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي بُؤْسٍ بُوسٌ، بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْأَعْمَشِ: سِيلُوا، بِكَسْرِ السِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، نَحْوُ: قِيلَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: سُوئِلُوا، بِوَاوٍ بَعْدَ السِّينِ الْمَضْمُومَةِ وَيَاءٍ مَكْسُورَةٍ بَدَلًا مِنَ الْهَمْزَةِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ: أَيِ الْقِتَالَ فِي الْعَصَبِيَّةِ، لَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ. وَقَالَ
461
الْحَسَنُ: الْفِتْنَةُ، الشِّرْكُ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ بِهَا عَلَى الْفِتْنَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى المدينة.
وعاهَدُوا: أُجْرِيَ مَجْرَى الْيَمِينِ، وَلِذَلِكَ يَتَلَقَّى بِقَوْلِهِ: لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ. وَجَوَابُ هَذَا الْقَسَمِ جَاءَ عَلَى الْغَيْبَةِ عَنْهُمْ عَلَى الْمَعْنَى: وَلَوْ جَاءَ كَمَا لَفَظُوا بِهِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ:
لَا نُوَلِّي الْأَدْبَارَ. وَالَّذِينَ عَاهَدُوا: بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو مَسْلَمَةَ، وَهُمَا الطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ هَمَّا بِالْفَشَلِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، ثُمَّ تَابُوا وَعَاهَدُوا أَنْ لَا يَفِرُّوا، فَوَقَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ ذَلِكَ الِاسْتِئْذَانُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَاهَدُوا بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَنْ يمنعوه مما يمنعون منهم أَنْفُسَهُمْ.
وَقِيلَ: نَاسٌ غَابُوا عَنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَالُوا: لَئِنْ أَشْهَدَنَا اللَّهُ قِتَالًا لَنُقَاتِلَنَّ مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ: كِنَايَةً عَنِ الْفِرَارِ وَالِانْهِزَامِ، سُئِلُوا مَطْلُوبًا مُقْتَضًى حَتَّى يُوَفَّى بِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ.
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ: خِطَابُ تَوْبِيخٍ وَإِعْلَامٍ أَنَّ الْفِرَارَ لَا يُنْجِي مِنَ الْقَدَرِ، وَأَنَّهُ تَنْقَطِعُ أَعْمَارُهُمْ فِي يسير مِنَ الْمُدَّةِ، وَالْيَسِيرُ: مُدَّةُ الْآجَالِ، قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خيثم:
وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ: إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ، أَوِ الْقَتْلِ، لَا يَنْفَعُكُمُ الْفِرَارُ، لِأَنَّ مَجِيءَ الْأَجَلِ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَإِذَا هُنَا تَقَدَّمَهَا حَرْفُ عَطْفٍ، فَلَا يَتَحَتَّمُ إِعْمَالُهَا، بَلْ يَجُوزُ، وَلِذَلِكَ قَرَأَ بَعْضُهُمْ: وإذا لا يلبثوا خلفك «١» فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، بِحَذْفِ النون. ومعنى خلفك: أَيْ بَعْدَ فِرَاقِهِمْ إِيَّاكَ. وقَلِيلًا: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَمْتِيعًا قَلِيلًا، أَوْ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا. وَمَرَّ بَعْضُ الْمَرْوَانِيَّةِ عَلَى حَائِطٍ مَائِلٍ فَأَسْرَعَ، فَتُلِيَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ: ذَلِكَ الْقَلِيلُ نَطْلُبُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تُمَتَّعُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ وَقُرِئَ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. ومَنْ ذَا: اسْتِفْهَامٌ، رُكِّبَتْ ذَا مَعَ مَنْ وَفِيهِ مَعْنَى النَّفْيُ، أَيْ لَا أَحَدَ يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جُعِلَتِ الرَّحْمَةُ قَرِينَةَ السُّوءِ فِي الْعِصْمَةِ، وَلَا عِصْمَةَ إِلَّا مِنَ السُّوءِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَوْ يُصِيبُكُمْ بِسُوءٍ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً، فَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ وَأُجْرِيَ مَجْرَى قَوْلِهِ:
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا أَوْ حَمْلُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لِمَا فِي الْعِصْمَةِ مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ. انْتَهَى.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ حَذْفُ جُمْلَةٍ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى حَذْفِهَا، وَالثَّانِي هُوَ الْوَجْهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا قُدِّرَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَمْنَعُكُمْ مِنْ مُرَادِ الله. والقائلين لإخوانهم كانوا، أي
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٧٦: وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ... الآية.
462
الْمُنَافِقُونَ، يُثَبِّطُونَ إِخْوَانَهُمْ مِنْ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ مِنْ أَنْصَارِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُونَ: مَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا أَكَلَةَ رَأْسٍ، وَلَوْ كَانُوا لَحْمًا لَالْتَهَمَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، فَخَلُّوهُمْ. وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، كَانُوا يَقُولُونَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: تَعَالَوْا إِلَيْنَا وَكُونُوا مَعَنَا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: انْصَرَفَ رَجُلٌ من عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَوَجَدَ شَقِيقُهُ عِنْدَهُ سَوِيقٌ وَنَبِيذٌ، فَقَالَ: أَنْتَ هَاهُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ؟ فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَيْهِ، فَقَدْ أُحِيطَ بِكَ وَبِصَاحِبِكَ. وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَا يَسْتَقْبِلُهَا مُحَمَّدٌ أَبَدًا، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، وَلَأُخْبِرَنَّهُ بِأَمْرِكَ. فَذَهَبَ لِيُخْبِرَهُ، فَوَجَدَ جِبْرِيلُ قَدْ نَزَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: هِيَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي، ومعتب بن قشير، وَمَنْ رَجَعَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْخَنْدَقِ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَإِذَا جَاءَهُمُ الْمُنَافِقُ قَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ اجْلِسْ وَلَا تَخْرُجْ، وَيَكْتُبُونَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ فِي الْعَسْكَرِ أَنِ ائْتُونَا فَإِنَّا نَنْتَظِرُكُمْ. وَكَانُوا لَا يَأْتُونَ الْعَسْكَرَ إِلَّا أَنْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ إِتْيَانِهِ، فَيَأْتُونَ لِيَرَى النَّاسُ وُجُوهَهُمْ، فَإِذَا غُفِلَ عَنْهُمْ عَادُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَتْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَلُمَّ «١» فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَلُمُّوا إِلَيْنَا، أَيْ قَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَيْنَا، قَالَ: وَهُوَ صَوْتٌ سُمِّيَ بِهِ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ مِثْلُ: احْضُرْ وَاقْرُبْ. انْتَهَى.
وَالَّذِي عَلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ هَلُمَّ لَيْسَ صَوْتًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُرَكَّبٌ مُخْتَلَفٌ فِي أَصْلِ تَرْكِيبِهِ فَقِيلَ: هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ هَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ وَلُمَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقِيلَ: مِنْ هَلْ وَأَمْ، وَالْكَلَامُ عَلَى تَرْجِيحِ الْمُخْتَارِ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: سُمِّيَ بِهِ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ، وَلِذَلِكَ قُدِّرَ هَلُمَّ إِلَيْنا: أَيْ قَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَيْنَا وَالنَّحْوِيُّونَ: أَنَّهُ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ فَالْمُتَعَدِّي كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ «٢» : أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ، وَاللَّازِمُ كَقَوْلِهِ: هَلُمَّ إِلَيْنا، وَأَقْبِلُوا إِلَيْنَا. وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ: أَيِ الْقِتَالَ، إِلَّا قَلِيلًا. يَخْرُجُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، يُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ، وَلَا نَرَاهُمْ يُقَاتِلُونَ إِلَّا شَيْئًا قَلِيلًا إِذَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: مَا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. وَقِلَّتُهُ إِمَّا لِقِصَرِ زَمَانِهِ، وَإِمَّا لِقِلَّةِ عِقَابِهِ، وَإِنَّهُ رِيَاءٌ وَتَلْمِيعٌ لَا تَحْقِيقٌ.
أَشِحَّةً: جَمْعُ شَحِيحٍ، وَهُوَ الْبَخِيلُ، وَهُوَ جَمْعٌ لَا يَنْقَاسُ، وَقِيَاسُهُ فِي الصِّفَةِ الْمُضَعَّفَةِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ فُعَلَاءُ نَحْوَ: خَلِيلٍ وَأَخِلَّاءٍ فَالْقِيَاسُ أَشِحَّاءٌ، وَهُوَ مَسْمُوعٌ أَيْضًا، وَمُتَعَلِّقُ الشُّحِّ بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ بِأَحْوَالِهِمْ، أَوْ بِأَمْوَالِهِمْ فِي النَّفَقَاتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ بِالْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْقَسْمِ، أَقْوَالٌ. وَالصَّوَابُ: أَنْ يَعُمَّ شُحُّهُمْ كُلَّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فِي وَقْتِ الْحَرْبِ، أَضِنَّاءَ بِكُمْ، يَتَرَفْرَفُونَ عَلَيْكُمْ، كَمَا يَفْعَلُ
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٠.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٠.
463
الرجال بِالذَّابِّ عَنِ الْمُنَاضِلِ دُونَهُ عِنْدَ الْخَوْفِ. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، كَمَا يَنْظُرُ الْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ مِنْ مُعَالَجَةِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، حَذَرًا وَخَوَرًا وَلَوَاذًا، فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ وَحِيزَتِ الْغَنَائِمُ وَوَقَعَتِ الْقِسْمَةُ، نَقَلُوا ذَلِكَ الشُّحَّ وَتِلْكَ الضِّنَّةَ وَالرَّفْرَفَةَ عَلَيْكُمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ الْمَالُ وَالْغَنِيمَةُ وَسُوءُ تِلْكَ الْحَالَةِ الْأَوْلَى، وَاجْتَرَءُوا عَلَيْكُمْ وَضَرَبُوكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَقَالُوا:
وَفِّرُوا قِسْمَتَنَا، فَإِنَّا قَدْ شَاهَدْنَاكُمْ وَقَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَبِمَكَانِنَا غَلَبْتُمْ عَدُوَّكُمْ، وَبِنَا نُصِرْتُمْ عَلَيْهِمْ. انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَتَحْمِيلٌ لِلَفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَعَادَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَشِحَّةً، بِالنَّصْبِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَلَى الذَّمِّ، وَأَجَازَ نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ يُعَوِّقُونَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: حَالٌ مِنْ هَلُمَّ إِلَيْنا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَالٌ مِنْ وَلا يَأْتُونَ وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ الْمُعَوِّقِينَ وَقِيلَ: مِنَ الْقائِلِينَ، وَرَدَ الْقَوْلَانِ بِأَنَّ فِيهِمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَمَا هُوَ مِنْ تَمَامِ صِلَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَشِحَّةً، بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هُمْ أَشِحَّةٌ.
فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَتُوُقِّعَ أَنْ يُسْتَأْصَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، لَاذَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ بِكَ يَنْظُرُونَ نَظَرَ الْهَلُوعِ الْمُخْتَلِطِ النَّظَرِ، الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.
وتَدُورُ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ دَائِرَةٌ أَعْيُنُهُمْ. كَالَّذِي: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُشَبَّهٌ، أَيْ دَوَرَانًا كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ. فَبَعْدَ الْكَافِ مَحْذُوفَانِ وَهُمَا: دَوْرَانٌ وَعَيْنٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مِنْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، نَظَرًا كَنَظَرِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِذَا جَاءَ الْخَوْفُ مِنَ الْقِتَالِ، وَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في رؤوسهم، وَتَجُولُ وَتَضْطَرِبُ رَجَاءَ أَنْ يَلُوحَ لَهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: بَسَطُوا أَلْسِنَتَهُمْ فِيكُمْ. قَالَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: فِي أَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَسَبِّهِمْ وَتَنْقِيصِ الشَّرْعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي طَلَبِ الْعَطَاءِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَقِيلَ: السَّلْقُ فِي مُخَادَعَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُرْضِيهِمْ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى جِهَةِ الْمُصَانَعَةِ وَالْمُجَامَلَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَلَقُوكُمْ، بِالسِّينِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالصَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَشِحَّةً بِالرَّفْعِ، أَيْ هُمْ أَشِحَّةٌ وَالْجُمْهُورُ: بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ سَلَقُوكُمْ، وَعَلَى الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الشُّحِّ فِي قَوْلِهِ أَوَّلًا: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: فِي هَذَا: أَشِحَّةً عَلَى مَالِ الْغَنَائِمِ. وَقِيلَ: عَلَى مَالِهِمُ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ. وَقِيلَ: عَلَى الرسول بِظَفَرِهِ.
أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، إِشَارَةٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ: أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَطُّ إِيمَانٌ. وَالْإِحْبَاطُ:
عَدَمُ قَبُولِ أَعْمَالِهِمْ، فَكَانَتْ كَالْمُحْبَطَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَثْبُتُ لِلْمُنَافِقِ عَمَلٌ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ الْإِحْبَاطُ؟ قُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ تَعْلِيمٌ لِمَنْ عَسَى يَظُنُّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ
464
إِيمَانٌ، وَإِنْ لَمْ يُوَاطِئْهُ الْقَلْبُ وَأَنَّ مَا يَعْمَلُهُ الْمُنَافِقُ مِنَ الْأَعْمَالِ يُجْزَى عَلَيْهِ. فَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يُوجَدُ مِنْهُ بَاطِلٌ. انْتَهَى، وَفِي كَلَامِهِ اسْتِعْمَالُ عَسَى صِلَةً لِمَنْ، وَهُوَ لَا يَجُوزَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنِ أَبِيهِ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ بَدْرِيٍّ، نَافَقَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي، فَأَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ ذَلِكَ، أَيِ الْإِحْبَاطُ، أَوْ حَالُهُمْ مِنْ شُحِّهِمْ وَنَظَرِهِمْ، يَسِيرًا لَا يُبَالَى بِهِ، وَلَا لَهُ أَثَرٌ فِي دَفْعِ خَيْرٍ، وَلَا عَلَيْهِ شَرٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى اللَّهِ يَسِيراً، مَعْنَاهُ: أَنَّ أَعْمَالَهُمْ حَقِيقَةٌ بِالْإِحْبَاطِ، تَدْعُو إِلَيْهِ الدَّوَاعِي، وَلَا يُصْرَفُ عَنْهُ صَارِفٌ. انْتَهَى. وَهِيَ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ.
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْحَلُوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كَرَّةً ثَانِيَةً، تَمَنَّوْا لِخَوْفِهِمْ بِمَا مُنُوا بِهِ عِنْدَ الْكَرَّةِ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ فِي الْبَدْوِ مَعَ الْأَعْرَابِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَمُودِ، يَرْحَلُونَ مَنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، يَسْأَلُونَ مَنْ قَدِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَمَّا جَرَى عَلَيْكُمْ مِنْ قِتَالِ الْأَحْزَابِ، يَتَعَرَّفُونَ أَحْوَالَكُمْ بِالِاسْتِخْبَارِ، لَا بِالْمُشَاهَدَةِ، فَرَقًا وَجُبْنًا، وَغَرَضُهُمْ مِنَ الْبَدَاوَةِ أَنْ يَكُونُوا سَالِمِينَ مِنَ الْقِتَالِ، وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ قِتَالٌ لَمْ يُقَاتِلُوا إِلَّا قَلِيلًا، لِعِلَّةٍ وَرِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ. قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: رَمْيًا بِالْحِجَارَةِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بادُونَ، جمع سلامة لباد. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَطَلْحَةُ:
بُدًّى عَلَى وَزْنِ فُعَّلٍ، كفاز وَغُزًّى، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ فِي مُعْتَلِّ اللَّامِ، بَلْ شُبِّهَ بِضَارِبٍ، وَقِيَاسُهُ فُعَلَةٌ، كَقَاضٍ وَقُضَاةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَدَا فِعْلًا مَاضِيًا وَفِي رِوَايَةِ صَاحِبِ الْإِقْلِيدِ: بَدِيٌّ بِوَزْنِ عَدِيٌّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْئَلُونَ، مُضَارِعَ سَأَلَ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو وعاصما والأعمش قرأوا: يَسَالُونَ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، نَحْوُ قَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ «١»، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ فِي شَاذِّهِمَا وَنَقَلَهُمَا صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنِ الْحَسَنِ وَالْأَعْمَشِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَتَادَةُ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَيَعْقُوبُ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا: يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا سَمِعْتَ وَمَاذَا بَلَغَكَ؟ أَوْ يَتَسَاءَلُونَ الْأَعْرَابَ، كَمَا تَقُولُ: تَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ. ثُمَّ سَلَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْهُمْ وَحَقَّرَ شَأْنَهُمْ بِأَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَوْ حَضَرُوا مَا أَغْنَوْا وَمَا قَاتَلُوا إِلَّا قِتَالًا قَلِيلًا. قَالَ: هُوَ قَلِيلٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ رِيَاءٌ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا.
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١١.
465
كَثِيراً، وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ، لِقَوْلِهِ قَبْلُ: وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ، وَقَوْلِهِ بَعْدُ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكُمْ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ. فَكَمَا نَصَرَكُمْ وَوَازَرَكُمْ حَتَّى قَاتَلَ بِنَفْسِهِ عَدُوَّكُمْ، فَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ الْكَرِيمَةُ، وَشُجَّ وَجْهُهُ الْكَرِيمُ، وَقُتِلَ عَمُّهُ، وَأُوذِيَ ضُرُوبًا مِنَ الْإِيذَاءِ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْصُرُوهُ وَتُوَازِرُوهُ، وَلَا تَرْغَبُوا بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا عَنْ مَكَانٍ هُوَ فِيهِ، وَتَبْذُلُوا أَنْفُسَكُمْ دُونَهُ فَمَا حَصَلَ لَكُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا تَفْعَلُونَهُ معه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ النُّصْرَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إن خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ. وَالْيَوْمَ الْآخِرَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: يَوْمَ السياق. وأُسْوَةٌ: اسم كان، ولَكُمْ: الْخَبَرُ، وَيَتَعَلَّقُ فِي رَسُولِ اللَّهِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَكُمْ، أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ جَازَ أَنْ يَكُونَ نعتا لأسوة، أو يتعلق بكان عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ فِي كَانَ وَأَخَوَاتِهَا النَّاقِصَةِ أَنْ تَعْمَلَ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ الْخَبَرُ، ولكم تَبْيِينٌ، أَيْ لَكُمْ، أَعْنِي: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلٌ مِنْ لَكُمْ، كَقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ «١». انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يُبْدَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَا مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، اسْمٌ ظَاهِرٌ فِي بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ وَالْأَخْفَشُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ وَأَمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلًا
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِسْوَةٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَعَاصِمٌ بِضَمِّهَا. وَالرَّجَاءُ: بِمَعْنَى الْأَمَلِ أَوِ الْخَوْفِ.
وَقَرَنَ الرَّجَاءَ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَالْمُؤْتَسِي بِرَسُولِ اللَّهِ، هُوَ الَّذِي يَكُونُ رَاجِيًا ذَاكِرًا. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٧٥.
466
الْمُنَافِقِينَ وَقَوْلَهُمْ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلَهُمْ صدّ مَا قَالَ الْمُنَافِقُونَ. وَكَانَ اللَّهُ وَعَدَهُمْ أَنْ يُزَلْزِلَهُمْ حَتَّى يَسْتَنْصِرُوهُ فِي قَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ «١» الْآيَةَ. فَلَمَّا جَاءَ الْأَحْزَابُ، وَنَهَضَ بِهِمْ لِلْقِتَالِ، وَاضْطَرَبُوا، قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَيْقَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّصْرِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَصْحَابِهِ: «إِنَّ الْأَحْزَابَ سَائِرُونَ إِلَيْكُمْ تِسْعًا أَوْ عَشْرًا»
، أَيْ فِي آخِرِ تِسْعِ لَيَالٍ أَوْ عَشْرٍ.
فَلَمَّا رَأَوْهُمْ قَدْ أَقْبَلُوا لِلْمِيعَادِ قَالُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْوَعْدُ هُوَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ مِمَّا وُعِدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَمَرَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، فَإِنَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُحْضَرُونَ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ سَيُنْصَرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَوُا الْأَحْزَابَ قَالُوا ذَلِكَ، فَسَلَّمُوا لِأَوَّلِ الْأَمْرِ، وَانْتَظَرُوا آخِرَهُ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْخَطْبِ، إِيمَانًا بِاللَّهِ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ، كَقَوْلِكَ: فَتْحَ مَكَّةَ وَفَارِسَ وَالرُّومِ، فَالزِّيَادَةُ فِيمَا يُؤْمَنُ، لَا فِي نَفْسِ الْإِيمَانِ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَمَا زَادُوهُمْ، بِالْوَاوِ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ يَعُودُ عَلَى الْأَحْزَابِ، وَتَقُولُ:
صَدَقْتُ زَيْدًا الْحَدِيثَ، وَصَدَقْتُ زَيْدًا فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ عُدَّتْ صَدَقَ هَذِهِ فِي مَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَأَصْلُهُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُتَّسَعُ فِيهِ فَيُحْذَفُ الْحَرْفُ وَيَصِلُ الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: صَدَقَنِي سن بكره، أي في سِنِّ بَكْرِهِ. فَمَا عَاهَدُوا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ فِيمَا عَاهَدُوا، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: صَدَقُوا اللَّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَدَقَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، كَمَا تَقُولُ: صَدَقَنِي أَخُوكَ إِذَا قَالَ لَكَ الصِّدْقَ، وَكَذَبَكَ أَخُوكَ إِذَا قَالَ لَكَ الْكَذِبَ. وَكَانَ الْمُعَاهَدُ عَلَيْهِ مَصْدُوقًا مَجَازًا، كَأَنَّهُمْ قَالُوا لِلْمُعَاهَدِ عَلَيْهِ:
سَنَفِي لَكَ، وَهُمْ وَافُونَ بِهِ، فَقَدْ صَدَقُوهُ، وَلَوْ كَانُوا نَاكِثِينَ لَكَذَّبُوهُ، وَكَانَ مَكْذُوبًا. وَهَؤُلَاءِ الرِّجَالُ، قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هُمْ أَهْلُ الْعَقَبَةِ السَّبْعُونَ، أَهْلُ الْبَيْعَةِ. وَقَالَ أَنَسٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، فَعَاهَدُوا أَنْ لَا يَتَأَخَّرُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَفَوْا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ رُومَانَ: بَنُو حَارِثَةَ.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَهَذَا تَجَوُّزٌ، لِأَنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ بِالْإِنْسَانِ، فَسُمِّيَ نَحْبًا لِذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَضَى نَحْبَهُ: أَيْ عَهْدَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَذْرَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، يَحْتَمِلُ مَوْتَهُ شَهِيدًا، وَيَحْتَمِلُ وَفَاءَهُ بِنَذْرِهِ مِنَ الثَّبَاتِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَوْصُوفُونَ بِقَضَاءِ النَّحْبِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وفوا
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١٤. [.....]
467
بِعُهُودِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّمَامِ. فَالشُّهَدَاءُ مِنْهُمْ، وَالْعَشَرَةُ الَّذِينَ شهد لهم الرسول بِالْجَنَّةِ، مِنْهُمْ مَنْ حَصَّلَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بِمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، وَيُصَحِّحُ هذا القول رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ سُئِلَ مَنِ الَّذِي قَضَى نَحْبَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ؟ فَدَخَلَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ: هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ: إِذَا فُسِّرَ قَضَاءُ النَّحْبِ بِالشَّهَادَةِ، كَانَ التَّقْدِيرُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشَّهَادَةَ وَإِذَا فُسِّرَ بِالْوَفَاءِ لِعُهُودِ الْإِسْلَامِ، كَانَ التَّقْدِيرُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الْحُصُولَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَنْتَظِرُ يَوْمًا فِيهِ جِهَادٌ، فَيَقْضِي نَحْبَهُ. وَما بَدَّلُوا: لَا الْمُسْتَشْهِدُونَ، وَلَا مَنْ يَنْتَظِرُ.
وَقَدْ ثَبَتَ طَلْحَةُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى أُصِيبَتْ يَدُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْجَبَ طَلْحَةُ»
، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِمَنْ بَدَّلَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ حِينَ وَلَّوُا الْأَدْبَارَ، وَكَانُوا عَاهَدُوا لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ: أَيِ الَّذِينَ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، بِصِدْقِهِمْ:
أَيْ بِسَبَبِ صِدْقِهِمْ. وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ، وَعَذَابُهُمْ مُتَحَتَّمٌ. فَكَيْفَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَهُوَ قَدْ شَاءَ تَعْذِيبَهُمْ إِذَا وَفَوْا عَلَى النِّفَاقِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَعْذِيبُ الْمُنَافِقِينَ ثَمَرَتُهُ إِدَامَتُهُمُ الْإِقَامَةَ عَلَى النِّفَاقِ إِلَى مَوْتِهِمْ، وَالتَّوْبَةُ مُوَازِيَةٌ لِتِلْكَ الْإِقَامَةِ، وَثَمَرَةُ التَّوْبَةِ تَرْكُهُمْ دُونَ عَذَابٍ. فَهُمَا دَرَجَتَانِ: إِقَامَةٌ عَلَى نِفَاقٍ، أَوْ تَوْبَةٌ مِنْهُ. وَعَنْهُمَا ثَمَرَتَانِ: تَعْذِيبٌ، أَوْ رَحْمَةٌ. فَذَكَرَ تَعَالَى، عَلَى جِهَةِ الْإِيجَازِ، وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ، وَوَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ. وَدَلَّ مَا ذَكَرَ عَلَى مَا تُرِكَ ذِكْرُهُ، وَيَدُلُّكَ عَلَى أن معنى قوله: وَيُعَذِّبَ، أَيْ: لِيُدِيمَ عَلَى النِّفَاقِ، قَوْلُهُ: إِنْ شاءَ، وَمُعَادَلَتُهُ بِالتَّوْبَةِ، وَحَذْفُ أَوِ. انْتَهَى. وَكَانَ مَا ذُكِرَ يُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: لِيُقِيمُوا عَلَى النِّفَاقِ، فَيَمُوتُوا عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ فَيُعَذِّبُهُمْ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فَيَرْحَمَهُمْ.
فَحُذِفَ سَبَبُ التَّعْذِيبِ، وَأُثْبِتَ الْمُسَبِّبُ، وَهُوَ التَّعْذِيبُ. وَأُثْبِتَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَحُذِفَ الْمُسَبِّبُ، وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَالْغُفْرَانُ، وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ الْحَسَنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَيُعَذِّبُهُمْ إِنْ شَاءَ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا، وَيَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِذَا تَابُوا. انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ عَذَابِهِمْ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ شَاءَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ حَتْمًا لَا مَحَالَةَ.
وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ، قِيلَ: لَامُ الصَّيْرُورَةِ وَقِيلَ: لَامُ التَّعْلِيلِ، وَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ الْمُنَافِقُونَ كَأَنَّهُمْ قَصَدُوا عَاقِبَةَ السُّوءِ وَأَرَادُوهَا بِتَبْدِيلِهِمْ، كَمَا قَصَدَ الصَّادِقُونَ عَاقِبَةَ الصِّدْقِ بِوَفَائِهِمْ، لِأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَسُوقٌ إِلَى عَاقِبَةٍ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَكَأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي طَلَبِهِمَا وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِهِمَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
الْمَعْنَى: إِنْ شَاءَ يُمِيتُهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ، أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ بِتَقَبُّلِهِمُ الْإِيمَانَ.
468
وَقِيلَ: يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا إِنْ شَاءَ، وَيَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً:
غفورا للحوية، رَحِيمًا بِقَبُولِ التَّوْبَةِ.
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْأَحْزَابَ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ.
بِغَيْظِهِمْ: فَهُوَ حَالٌ، والباء للمصاحبة ولَمْ يَنالُوا: حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِغَيْظِهِمْ، فَيَكُونُ حَالًا مُتَدَاخِلَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ بَيَانًا لِلْأُولَى، أَوِ اسْتِئْنَافًا. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا بَيَانًا لِلْأُولَى، وَلَا لِلِاسْتِئْنَافِ، لِأَنَّهَا تَبْقَى كَالْمُفْلَتَةِ مِمَّا قَبْلَهَا. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، بِإِرْسَالِ الرِّيحِ وَالْجُنُودِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ، بَرَزُوا لِلْقِتَالِ وَدَعَوْا إِلَيْهِ. وَقَتَلَ عَلِيٌّ مِنَ الْكُفَّارِ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ مُبَارَزَةً، حِينَ طَلَبَ عَمْرٌو الْمُبَارَزَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أُوثِرُ قَتْلَكَ لِصُحْبَتِي لِأَبِيكَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَأَنَا أُوثِرُ قَتْلَكَ، فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ مُبَارَزَةً.
وَاقْتَحَمَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ، مِنْ قُرَيْشٍ، الْخَنْدَقَ بِفَرَسِهِ، فَقُتِلَ فِيهِ. وَقُتِلَ مِنَ الْكُفَّارِ أَيْضًا: مُنَبِّهُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعُبَيْدُ بْنُ السَّبَّاقِ. وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ:
مُعَاذٌ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَالطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وَهُمَا مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ، مِنْ بَنِي ذُبْيَانَ بْنِ النَّجَّارِ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ. وَلَمْ تَغْزُ قُرَيْشٌ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَكَفَى اللَّهُ مُدَاوَمَةَ الْقِتَالِ وَعَوْدَتَهُ بِأَنْ هَزَمَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ بِقُوَّتِهِ وَعِزَّتِهِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَلَمْ نُصَلِّ الظُّهْرَ، وَلَا الْعَصْرَ، وَلَا الْمَغْرِبَ، وَلَا الْعِشَاءَ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ، كُفِينَا وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلَالًا، فَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ فَأَحْسَنَهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ كُلُّ صَلَاةٍ بِإِقَامَةٍ.
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ: أَيْ أَعَانُوا قُرَيْشًا وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَحْزَابِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، هُمْ يَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: بَنُو النَّضِيرِ. وَقَذْفُ الرُّعْبِ سَبَبٌ لِإِنْزَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ الْمُسَبِّبَ، لَمَّا كَانَ السُّرُورُ بِإِنْزَالِهِمْ أَكْثَرَ وَالْإِخْبَارُ بِهِ أَهَمَّ قُدِّمَ.
وَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهَا قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ، فَقَالَ: «ذَلِكَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بُعِثَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، يُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ». وَلَمَّا رَجَعَتِ الْأَحْزَابُ، جَاءَ جِبْرِيلُ وَقْتَ الظُّهْرِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَنَادَى فِي النَّاسِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا، فَمُصَلٍّ فِي الطَّرِيقِ
، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّأْكِيدِ وَالِاسْتِعْجَالِ
469
وَمُصَلٍّ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَكُلٌّ مُصِيبٌ. فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَقِيلَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ،
وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ. فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْأَوْسِيِّ، لِحِلْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ، رَجَوْا حُنُوَّهُ عَلَيْهِمْ، فَحَكَمَ أَنْ يُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَيُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالْعِيَالُ وَالْأَمْوَالُ، وَأَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالثِّمَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَتْ لَهُ الْأَنْصَارُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَمْوَالٌ كَمَا لَكُمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرفعة»، ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُمْ، وَخَنْدَقَ لَهُمْ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، وَقَدَّمَهُمْ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَهُمْ مِنْ بَيْنِ ثَمَانِمِائَةٍ إِلَى تِسْعِمِائَةٍ.
وَقِيلَ: كَانُوا سِتَّمِائَةِ مُقَاتِلٍ وسبعمائة أسير. وجيء يحيي بْنِ أَخْطَبَ النَّضِيرِيِّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَدْخَلَهُمْ فِي الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، فَدَخَلَ عِنْدَهُمْ وَفَاءً لَهُمْ، فَتُرِكَ فِيمَنْ تُرِكَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ. فَلَمَّا قَرُبَ، وَعَلَيْهِ حُلَّتَانِ تُفَّاحِيَّتَانِ، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، أَبْصَرَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنَّ من يخذل الله يخذل. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا بَأْسَ أَمْرُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ، وَمِحْنَةٌ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَقَالَ فِيهِ بَعْضُ بَنِي ثَعْلَبَةَ:
لَعَمْرُكَ مَا لَامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ وَلَكِنَّهُ مَنْ يخذل الله يخذل
لا جهد حَتَّى أَبْلَغَ النَّفْسَ عُذْرَهَا وقلقل يبغي الغد كُلَّ مُقَلْقَلِ
وَقَتَلَ مِنْ نِسَائِهِمُ امْرَأَةً، وَهِيَ لُبَابَةُ امْرَأَةُ الْحَكَمِ الْقُرَظِيِّ، كَانَتْ قَدْ طَرَحَتِ الرَّحَى عَلَى خَلَّادِ بْنِ سُوَيْدٍ فَقُتِلَ وَلَمْ يُسْتَشْهَدْ فِي حِصَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ غَيْرُهُ. وَمَاتَ فِي الْحِصَارِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ مِحْصَنٍ، أَخُو عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، وَكَانَ فَتْحُ قُرَيْظَةَ فِي آخِرِ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَأْسِرُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكَسْرِ السِّينِ وأبو حيوة:
بضمها وَالْيَمَانِيُّ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَابْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِي: تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ. وَأَوْرَثَكُمْ: فِيهِ إِشْعَارٌ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أُولَئِكَ الْمَقْتُولِينَ وَمَنْ نَقَلَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَقُدِّمَتْ لِكَثْرَةِ الْمَنْفَعَةِ بِهَا من النخل وَالزَّرْعِ، وَلِأَنَّهُمْ بِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْهَا ثَانِيًا وَأَمْوَالَهُمْ لِيُسْتَعَانَ بِهَا فِي قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْجِهَادِ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ فِي بُيُوتِهِمْ، فَوَقَعَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا ثَالِثًا. وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها: وَعْدٌ صَادِقٌ فِي فَتْحِ الْبِلَادِ، كَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَمَكَّةَ، وَسَائِرِ فُتُوحِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَخْبَرَ تَعَالَى أَنْ قَدْ قَضَى بِذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ الرُّومَ وَفَارِسَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهَا مَكَّةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ خَيْبَرُ وَقِيلَ: الْيَمَنُ وَلَا وَجْهَ لِهَذِهِ التَّخْصِيصَاتِ، وَمِنْ بِدَعِ
470
التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ أَرَادَ نِسَاءَهُمْ. وقرأ الجمهور: تطؤوها، بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَهَا وَاوٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَمْ تَطُوهَا، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، أَبْدَلَ هَمْزَةَ تَطَأُ أَلِفًا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:
إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا فِي مَرَابِضِهَا وَالنَّاسُ لَا يُهْتَدَى مِنْ شَرِّهِمْ أَبَدَا
فَالْتَقَتْ سَاكِنَةٌ مَعَ الْوَاوِ فَحُذِفَتْ، كَقَوْلِكَ: لَمْ تَرَوْهَا. وَخَتَمَ تَعَالَى: هَذِهِ الْآيَةَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْفُتُوحَ الْكَثِيرَةَ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ، فَكَمَا مَلَّكَهُمْ هَذِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمَلِّكَهُمْ غَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً، يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً، يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ أزواجه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَغَايَرْنَ وَأَرَدْنَ زِيَادَةً فِي كِسْوَةٍ وَنَفَقَةٍ، فَنَزَلَتْ. وَلَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَفَرَّقَ عَنْهُ الْأَحْزَابَ وَفَتَحَ عَلَيْهِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، ظَنَّ أَزْوَاجُهُ أَنَّهُ اخْتُصَّ بِنَفَائِسِ الْيَهُودِ وَذَخَائِرِهِمْ، فَقَعَدْنَ حَوْلَهُ وَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَنَاتُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِي الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَالْإِمَاءِ وَالْخَوَلِ، وَنَحْنُ عَلَى مَا تَرَاهُ مِنَ الْفَاقَةِ وَالضِّيقِ. وَآلَمْنَ قَلْبَهُ بِمُطَالَبَتِهِنَّ لَهُ بِتَوْسِعَةِ الْحَالِ، وَأَنْ يُعَامِلَهُنَّ بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْمُلُوكُ وَالْأَكَابِرُ أَزْوَاجَهُمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِنَّ مَا نَزَلَ فِي أَمْرِهِنَّ
وَأَزْوَاجُهُ إِذْ ذَاكَ تِسْعٌ: عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زمعة، وأم سملة بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ.
وَمِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ: مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْخَيْبَرِيَّةُ.
471
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْرَفِيُّ: لَمَّا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ مُلْكِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ، وَأَمَرَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ لِيَظْهَرَ صِدْقُ مُوَافَقَتِهِنَّ، وَكَانَ تَحْتَهُ عَشْرُ نِسَاءٍ، زَادَ الْحِمْيَرِيَّةَ، فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَّا الْحِمْيَرِيَّةَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ، وَبَدَأَ بِهَا، وَكَانَتْ أَحَبَّهُنَّ إِلَيْهِ: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، وَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ». ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهَا الْقُرْآنَ، فَقَالَتْ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، لَا تُخْبِرْ أَزْوَاجَكَ أَنِّي اخْتَرْتُكَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا بَعَثَنِي اللَّهُ مُبَلِّغًا وَلَمْ يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتًا».
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُنَّ إِذَا اخْتَرْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، مَتَّعَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ وَطَلَّقَهُنَّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ الْفِرَاقُ دُونَ أَنْ يُوقِعَهُ هُوَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هِيَ آيَةُ تَخْيِيرٍ، فَإِذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي، فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا.
وَعَنْ عَلِيٍّ: تَكُونُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً
، وَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَقَعَتْ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَثَلَاثٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ ذَهَبُوا إِلَى
أَنَّ الْآيَةَ فِي التَّخْيِيرِ وَالطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، قَالَ هَذَا الْقَائِلُ. وَأَمَّا أَمْرُ الطَّلَاقِ فَمُرْجَأٌ، فَإِنِ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ، نَظَرَ هُوَ كَيْفَ يُسَرِّحُهُنَّ، وَلَيْسَ فِيهَا تَخْيِيرٌ فِي الطَّلَاقِ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، وَهُوَ قَدْ قَالَ: وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، وَلَيْسَ مَعَ بَتِّ الطَّلَاقِ سَرَاحٌ جَمِيلٌ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ عَلَّقَ عَلَى إِرَادَتِهِنَّ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وُقُوعَ التَّمْتِيعِ وَالتَّسْرِيحِ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ كَانَ عَظِيمُ هَمِّكُنَّ وَمَطْلَبِكُنَّ التَّعَمُّقَ فِي الدُّنْيَا وَنَيْلَ نَعِيمِهَا وَزِينَتِهَا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي: فَتَعالَيْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ «١» فِي آلِ عِمْرَانَ. أُمَتِّعْكُنَّ، قِيلَ: الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الطَّلَاقِ وَقِيلَ: مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ «٢» يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، وَفِي تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالتَّسْرِيحُ الْجَمِيلُ إِمَّا فِي دُونِ الْبَيْتِ، أَوْ جَمِيلِ الثَّنَاءِ، وَالْمُعْتَقَدِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ إِنْ كَانَ تَامًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُمَتِّعْكُنَّ، بِالتَّشْدِيدِ مِنْ مَتَّعَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَمْتَعَ. وَمَعْنَى أَعَدَّ: هَيَّأَ وَيَسَّرَ، وَأَوْقَعَ الظَّاهِرَ مَوْقِعَ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٦١.
(٢) سورة البقرة: ٢٣٦.
472
الْمُضْمَرِ تَنْبِيهًا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي تَرَتَّبَ لَهُنَّ بِهِ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ، كأنه قال:
أعدلكن، لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ كَانَ مُحْسِنًا. وَقِرَاءَةُ حُمَيْدٍ الْخَرَّازِ:
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، أَوْ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَيَكُونُ فَتَعالَيْنَ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ، وَلَا يَضُرُّ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا
ثُمَّ نَادَى نساء النبي، لِيَجْعَلْنَ بَالَهُنَّ مِمَّا يُخَاطَبْنَ بِهِ، إِذَا كَانَ أَمْرًا يُجْعَلُ لَهُ الْبَالُ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ الْأَسْوَارِيُّ، وَيَعْقُوبُ: تَأْتِ، بِتَاءِ التَّأْنِيثُ، حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ، حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: كَبِيرَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَا يتوهم أنها الزنا، لِعِصْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالتَّبْيِينِ والزنا مِمَّا يُتَسَتَّرُ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ الْفَاحِشَةُ عَلَى عُقُوقِ الزَّوْجِ وَفَسَادِ عِشْرَتِهِ. وَلَمَّا كَانَ مَكَانُهُنَّ مَهْبِطَ الْوَحْيِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، لَزِمَهُنَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَكَوْنِهِنَّ تحت الرسول أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ غَيْرَهُنَّ، فَضُوعِفَ لَهُنَّ الْأَجْرُ وَالْعَذَابُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ:
يُضاعَفْ، بِأَلِفٍ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْحَسَنُ، وَعِيسَى، وَأَبُو عَمْرٍو: بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ والجحدري، وابن كثير، وأبو عَامِرٍ: بِالنُّونِ وَشَدِّ الْعَيْنِ مَكْسُورَةً وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَخَارِجَةُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالْأَلِفِ وَالنُّونِ وَالْكَسْرِ وَفِرْقَةٌ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالْأَلِفِ وَالْكَسْرِ. وَمَنْ فَتَحَ الْعَيْنَ رَفَعَ الْعَذابُ، وَمَنْ كَسَرَهَا نَصَبَهُ. ضِعْفَيْنِ: أَيْ عَذَابَيْنِ، فَيُضَافُ إِلَى عَذَابِ سَائِرِ النَّاسِ عَذَابٌ آخَرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو عَمْرٍو فِيمَا حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْهُمَا: إِنَّهُ يُضَافُ إِلَى الْعَذَابِ عَذَابَانِ، فَتَكُونُ ثَلَاثَةً. وَكَوْنُ الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ الْعَذَابَ فِي الْفَاحِشَةِ بِإِزَاءِ الْأَجْرِ فِي الطَّاعَةِ. وَكانَ ذلِكَ: أَيْ تَضْعِيفُ الْعَذَابِ عَلَيْهِنَّ، عَلَى اللَّهِ يَسِيراً: أَيِ سَهْلًا، وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ كَوْنَهُنَّ نِسَاءً، مَعَ مُقَارَفَةِ الذَّنْبِ، لَا يُغْنِي عَنْهُنَّ شَيْئًا، وَهُوَ يُغْنِي عَنْهُنَّ، وَهُوَ سَبَبُ مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ.
وَمَنْ يَقْنُتْ: أَيْ يُطِعْ وَيَخْضَعْ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وَبِالْمُوَافَقَةِ لِرَسُولِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَمَنْ يَقْنُتْ بِالْمُذَكَّرِ، حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ، وَتَعْمَلُ بِالتَّاءِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. نُؤْتِها:
بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَالْأَسْوَارِيُّ، وَيَعْقُوبُ، فِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ تَقْنُتْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَبِهَا قَرَأَ ابْنِ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ، وَرَوَاهَا أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ وَنَافِعٍ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: مَا سَمِعْتُ أَنَّ أَحَدًا قَرَأَ: وَمَنْ يَقْنُتْ، إِلَّا بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ،
473
وَابْنُ وَثَّابٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِيَاءٍ مِنْ تَحْتُ فِي ثَلَاثَتِهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ:
وَمَنْ يَقْنُتْ بِالْيَاءِ، حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَيَعْمَلُ بِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ قَالَ فَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ التَّذْكِيرَ أَصْلٌ لَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلتَّأْنِيثِ، وَمَا عَلَّلُوهُ بِهِ قَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا «١». انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خالِصَةٌ فِي الْأَنْعَامِ. وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ: الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ وَعْدٌ دُنْيَاوِيٌّ، أَيْ أَنَّ أَرْزَاقَهَا فِي الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ كَرِيمٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَلَالٌ وَقَصْدٌ، وَبِرِضًا مِنَ اللَّهِ فِي نَيْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْعَذَابُ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ ضِعْفَيْنِ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا، ثُمَّ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ الْأَجْرُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا ضُوعِفَ أَجْرُهُنَّ لِطَلَبِهِنَّ رِضَا رَسُولِ الله، بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَطِيبِ الْمُعَاشَرَةِ والقناعة والتوقر عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ.
يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ: أَيْ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنَ النِّسَاءِ، أَيْ مِنْ نِسَاءِ عَصْرِكَ. وَلَيْسَ النَّفْيُ مُنْصَبًّا عَلَى التَّشْبِيهِ فِي كَوْنِهِنَّ نِسْوَةً. تَقُولُ:
لَيْسَ زَيْدٌ كَآحَادِ النَّاسِ، لَا تُرِيدُ نَفْيَ التَّشْبِيهِ عَنْ كَوْنِهِ إِنْسَانًا، بَلْ فِي وَصْفٍ أَخَصَّ مَوْجُودٍ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَالِمًا، أَوْ عَامِلًا، أَوْ مُصَلِّيًا. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوجَدُ فِيكُنَّ مِنَ التَّمْيِيزِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِكُنَّ، وَهُوَ كَوْنُكُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَزَوْجَاتِ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ. وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فِيكُنَّ، فَكَمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ كَأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ، كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ»
، كَذَلِكَ زَوْجَاتُهُ اللَّاتِي تَشَرَّفْنَ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَحَدٌ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى وَحَدٍ، وَهُوَ الْوَاحِدُ ثُمَّ وُضِعَ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مُسْتَوِيًا فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَمَا وَرَاءَهُ، وَالْمَعْنَى:
لَسْتُنَّ كَجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَمَاعَاتِ النِّسَاءِ، أَيْ إِذَا تَقَصَّيْتَ أُمَّةَ النِّسَاءِ جَمَاعَةً جَمَاعَةً، لَمْ يُوجَدْ مِنْهُنَّ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ تُسَاوِيكُنَّ فِي الْفَضْلِ وَالسَّابِقَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ «٢»، يُرِيدُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ، تَسْوِيَةً بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِي أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: أَحَدٌ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى: وَحَدٍ، وَهُوَ الْوَاحِدُ فَصَحِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ وَضَعَ، إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا وَرَاءَهُ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مَدْلُولُهُ غَيْرُ مَدْلُولِ واحدا، لأن واحد يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اتصف بالوحدة، وأحد الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَعْقِلُ. وَذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ مَادَّتَهُ هَمْزَةٌ وَحَاءٌ وَدَالٌ، وَمَادَّةُ أَحَدٍ بِمَعْنَى وَحَدٍ أَصْلُهُ وَاوٌ وَحَاءٌ وَدَالٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَا مادة ومدلولا.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٣٩.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٥٢.
474
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَسْتُنَّ كَجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ لَسْتُنَّ مَعْنَاهُ: لَيْسَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ، فَهُوَ حُكْمٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ، لَيْسَ حُكْمًا عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ. وَقُلْنَا: إِنَّ مَعْنَى كَأَحَدٍ: كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَأَبْقَيْنَا أَحَدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ مِنَ التَّذْكِيرِ، وَلَمْ نَتَأَوَّلْهُ بِجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ «١»، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي لِلنَّفْيِ الْعَامِّ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَعَمَّ وَصَلُحَتِ الْبَيْنِيَّةُ لِلْعُمُومِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ مَعْطُوفٌ، أَيْ بَيْنَ وَاحِدٍ وَوَاحِدٍ مِنْ رُسُلِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جا سالما أبو حجر إلا لَيَالٍ قَلَائِلُ
أَيْ: لَسْتُنَّ مِثْلَهُنَّ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ اللَّهَ، وَذَلِكَ لَمَّا انْضَافَ مَعَ تَقْوَى اللَّهِ مِنْ صُحْبَةِ الرسول وَعَظِيمِ الْمَحَلِّ مِنْهُ، وَنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي بَيْتِهِنَّ وَفِي حَقِّهِنَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ:
إِنْ أَرَدْتُنَّ التَّقْوَى، وَإِنْ كُنَّ مُتَّقِيَاتٍ. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ: فَلَا تُجِبْنَ بِقَوْلِكُنَّ خَاضِعًا، أَيْ لَيِّنًا خَنِثًا، مِثْلَ كَلَامِ الْمُرِيبَاتِ وَالْمُومِسَاتِ. فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ: أَيْ رِيبَةً وَفُجُورًا. انْتَهَى. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ قَيْدًا فِي كَوْنِهِنَّ لَسْنَ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفًا. وَعَلَى مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، يَكُونُ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ابْتِدَاءَ شَرْطٍ، وَجَوَابُهُ فَلا تَخْضَعْنَ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا حُمِلَ. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ ظَاهِرُ الِاسْتِعْمَالِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: إِنِ اسْتَقْبَلْتُنَّ أَحَدًا، فَلا تَخْضَعْنَ. وَاتَّقَى بِمَعْنَى: اسْتَقْبَلَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ فتناولته واتقتنا باليد
أي: اسْتَقْبَلَتْنَا بِالْيَدِ، وَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى أَبْلَغَ فِي مَدْحِهِنَّ، إِذْ لَمْ يُعَلِّقْ فَضِيلَتَهُنَّ عَلَى التَّقْوَى، وَلَا عَلَّقَ نَهْيَهُنَّ عَنِ الْخُضُوعِ بِهَا، إِذْ هُنَّ مُتَّقِيَاتٌ لِلَّهِ فِي أَنْفُسِهِنَّ، وَالتَّعْلِيقُ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُنَّ لَسْنَ مُتَحَلِّيَاتٍ بِالتَّقْوَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُرَخِّصْنَ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَكَلَّمْنَ بِالرَّفَثِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَكَلَّمْنَ بِمَا يَهْوَى الْمُرِيبُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
الْخُضُوعُ بِالْقَوْلِ مَا يُدْخِلُ فِي الْقَلْبِ الْغَزَلَ. وَقِيلَ: لَا تُلِنَّ لِلرِّجَالِ الْقَوْلَ. أَمَرَ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ خَيْرًا، لَا عَلَى وَجْهٍ يُظْهِرُ فِي الْقَلْبِ عَلَاقَةَ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ اللِّينِ، كما كان
(١) سورة النساء: ٤/ ١٥٢.
475
الْحَالُ عَلَيْهِ فِي نِسَاءِ الْعَرَبِ مِنْ مُكَالَمَةِ الرِّجَالِ بِرَخِيمِ الصَّوْتِ وَلَيِّنِهِ، مِثْلَ كَلَامِ الْمُومِسَاتِ، فَنَهَاهُنَّ عَنْ ذلك، وقال الشاعر:
يتكلم لو تستطيع كلامه لانت له أروى الهضاب الصخر
وَقَالَ آخَرُ:
لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لِأَشْمَطَ رَاهِبٍ عَبَدَ الإله ضرورة المتعبد
لَرَنَا لِرُؤْيَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيثِهَا ولحالها رُشْدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَطْمَعَ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَنَصْبِ الْعَيْنِ، جَوَابًا لِلنَّهْيِ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَابْنُ هُرْمُزَ: بِالْجَزْمِ، فَكُسِرَتِ الْعَيْنُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، نُهِينَ عَنِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ، وَنُهِيَ مَرِيضُ الْقَلْبِ عَنِ الطَّمَعِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَخْضَعْ فَلَا تَطْمَعْ. وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ أَبْلَغُ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْخُضُوعَ بِسَبَبِ الطَّمَعِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: قَرَأَ الْأَعْرَجُ وَعِيسَى: فَيَطْمِعَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَنَقَلَهَا ابْنُ خالويه عن أبي السماء، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَذَكَرَ أَنَّ الْأَعْرَجَ، وَهُوَ ابْنُ هُرْمُزَ، قَرَأَ: فَيُطْمِعَ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتَحَ الْعَيْنَ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ فَيَطْمَعُ هُوَ، أَيِ الخضوع بالقول والذي مَفْعُولٌ، أَوِ الَّذِي فَاعِلٌ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَيَطْمَعُ نَفْسُهُ. وَالْمَرَضُ، قَالَ قَتَادَةُ: النِّفَاقُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْفِسْقُ وَالْغَزَلُ. وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً: وَالْمُحَرَّمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تُنْكِرُهُ الشَّرِيعَةُ وَلَا الْعُقُولُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَرْأَةُ تَنْدُبُ إِذَا خَالَطَتِ الْأَجَانِبَ، عَلَيْهَا بِالْمُصَاهَرَةِ إِلَى الْغِلْظَةِ فِي الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الصَّوْتِ، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْرُوفًا صَحِيحًا، بِلَا هَجَرٍ وَلَا تَمْرِيضٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِيفًا وَقِيلَ: خَشِنًا حَسَنًا وَقِيلَ: مَعْرُوفًا، أَيْ قَوْلًا أُذِنَ لَكُمْ فِيهِ وَقِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَقِرْنَ، بِكَسْرِ الْقَافِ، مِنْ وَقَرَ يَقِرُ إِذَا سَكَنَ وَأَصْلُهُ، أَوْقِرْنَ، مِثْلُ عِدْنَ مِنْ وَعَدَ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ الْهَمْدَانِيُّ، فِي كِتَابِ التِّبْيَانِ، وَجْهًا آخَرَ قَالَ: قَارَّ يَقَارُّ، إِذَا اجْتَمَعَ، وَمِنْهُ الْقَارَّةُ لِاجْتِمَاعِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ عُضَلَ وَالدِّيشِ: اجْتَمِعُوا فَكُونُوا قَارَّةً؟
فَالْمَعْنَى: اجْمَعْنَ أَنْفُسَكُنَّ فِي بُيُوتِكُنَّ. وَقَرْنَ: أَمْرٌ مِنْ قَارَ، كَمَا تَقُولُ: خِفْنَ مِنْ خَافَ أَوْ مِنَ الْقَرَارِ، تَقُولُ: قَرَرْتُ بالمكان، وأصله: وأقررت، حُذِفَتِ الرَّاءُ الثَّانِيَةُ تَخْفِيفًا، كَمَا حَذَفُوا لَامَ ظَلِلْتُ، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْقَافِ فَذَهَبَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أُبْدِلَتِ الرَّاءُ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْقَافِ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ لسكوتها وَسُكُونِ الرَّاءِ
476
بَعْدَهَا. انْتَهَى، وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحْمِيلِ كَعَادَتِهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَنَافِعٌ: بِفَتْحِ الْقَافِ، وَهِيَ لُغَةُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: قَرِرْتُ بِالْمَكَانِ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِفَتْحِ الْقَافِ، حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا، وَأَنْكَرَهَا قَوْمٌ، مِنْهُمُ الْمَازِنِيُّ، وَقَالُوا: بِكَسْرِ الرَّاءِ، مِنْ قَرَّتِ الْعَيْنُ، وَبِفَتْحِهَا مِنَ الْقَرَارِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَاقْرِرْنَ، بِأَلِفِ الْوَصْلِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى قَرِرْتُ، وَأَنَّهُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ مِنَ الْقَرَارِ وَمِنَ الْقِرَّةِ. أَمَرَهُنَّ تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ، وَنَهَاهُنَّ عَنِ التَّبَرُّجِ، وَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّهُ فِعْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ بَكَتْ حَتَّى تَبُلَّ خِمَارَهَا، تَتَذَكَّرُ خُرُوجَهَا أَيَّامَ الْجَمَلِ تَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ. وَقِيلَ لِسَوْدَةَ:
لِمَ لَا تَحُجِّينَ وَتَعْتَمِرِينَ كَمَا يَفْعَلُ إِخْوَانُكِ؟ فَقَالَتْ: قَدْ حَجَجْتُ وَاعْتَمَرْتُ وَأَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَقِرَّ فِي بَيْتِي، فَمَا خَرَجَتْ مِنْ بَابِ حُجْرَتِهَا حَتَّى أُخْرِجَتْ جِنَازَتُهَا.
وَلا تَبَرَّجْنَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: التَّبَرُّجُ: التَّبَخْتُرُ وَالتَّغَنُّجُ وَالتَّكَسُّرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى وَجْهِهَا وَلَا تَشُدُّهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: تُبْدِي مِنْ مَحَاسِنِهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهَا ستره.
والْجاهِلِيَّةِ الْأُولى: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ وَأُخْرَى مُتَأَخِّرَةٌ. فَقِيلَ: هُمَا ابْنَانِ لِآدَمَ، سَكَنَ أَحَدُهُمَا الْجَبَلَ، فَذُكُورُ أَوْلَادِهِ صِبَاحٌ وَإِنَاثُهُمْ قِبَاحٌ وَالْآخَرُ السَّهْلَ، وَأَوْلَادُهُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. فَسَوَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ عِيدًا يَجْتَمِعُ جَمِيعُهُمْ فِيهِ، فَمَالَ ذُكُورُ الْجَبَلِ إِلَى إِنَاثِ السَّهْلِ وَبِالْعَكْسِ، فَكَثُرَتِ الْفَاحِشَةُ، فَهُوَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَهِيَ ثَمَانُمِائَةِ سَنَةٍ، كَانَ الرِّجَالُ صِبَاحًا وَالنِّسَاءُ قِبَاحًا، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَدْعُو الرَّجُلَ إِلَى نَفْسِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى مَا بَيْنَ إِدْرِيسَ وَنُوحٍ، كَانَتْ أَلْفَ سَنَةٍ، تَجْمَعُ الْمَرْأَةُ بَيْنَ زَوْجٍ وَعَشِيقٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: مَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: زَمَنَ نُمْرُوذَ، بَغَايَا يَلْبَسْنَ أَرَقَّ الدُّرُوعِ وَيَمْشِينَ فِي الطُّرُقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى هِيَ الْقَدِيمَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ، وَهِيَ الزَّمَانُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ. كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْبَسُ الدِّرْعَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، فَتَمْشِي وَسَطَ الطَّرِيقِ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَى الرِّجَالِ. وقال أبو العالية: زمن دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، كَانَ لِلْمَرْأَةِ قَمِيصٌ مِنَ الدُّرِّ غَيْرُ مَخِيطِ الْجَانِبَيْنِ، يَظْهَرُ مِنْهُ الْأَكْعَابُ وَالسَّوْأَتَانِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجْمَعُ بَيْنَ زوجها وحلمها، للزوج نصفها الأسفل، وللحلم نِصْفُهَا، يَتَمَتَّعُ بِهِ فِي التَّقْبِيلِ وَالتَّرَشُّفِ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ والسلام. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْأُولَى زَمَنُ إِبْرَاهِيمَ، وَالثَّانِيَةُ زَمَنَ مُحَمَّدٍ، عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَشْبَهُ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْمَعْرُوفُونَ، كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْبَغَايَا.
477
وَإِنَّمَا قِيلَ الْأُولَى، لِأَنَّهُ يُقَالُ لِكُلِّ مُتَقَدِّمٍ وَمُتَقَدِّمَةٍ أَوَّلُ وَأُولَى، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ تَقَدَّمُوا عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ أُولَى، وَهُمْ أَوَّلُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ عُمَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: وَهَلْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ إِلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَلْ كَانَتِ الْأُولَى إِلَّا وَلَهَا آخِرَةٌ؟
فَقَالَ عُمَرُ: لِلَّهِ دَرُّكَ يَا ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُخْرَى مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى جَاهِلِيَّةَ الْكُفْرِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُخْرَى جَاهِلِيَّةَ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: وَلَا يَجِدُكُنَّ بِالتَّبَرُّجِ جَاهِلِيَّةً فِي الْإِسْلَامِ يَتَشَبَّهْنَ بِهَا بِأَهْلِ جَاهِلِيَّةِ الْكُفْرِ. وَيُعَضِّدُهُ مَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: «إِنَّ فِيكَ جَاهِلِيَّةً»، قَالَ: جَاهِلِيَّةُ كُفْرٍ أَمْ إِسْلَامٍ؟ فَقَالَ: «بَلْ جَاهِلِيَّةُ كُفْرٍ».
انْتَهَى.
وَالْمَعْرُوفُ
فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا قَالَ: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»، لِأَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي يَخُصُّهَا، فَأُمِرْنَ بِالنُّقْلَةِ مِنْ سِيرَتِهِنَّ فِيهَا، وَهِيَ مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ مِنْ سِيرَةِ الْكُفْرِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا غَيْرَةَ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ أَمْرُ النِّسَاءِ دُونَ حَجَبَةٍ، وَجَعَلَهَا أَوْلَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَالَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِيَّةٌ أُخْرَى. وَقَدْ مَرَّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: جَاهِلِيٌّ فِي الشُّعَرَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ: سَمِعْتُ، أَيْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى غَيْرِ هَذَا. انْتَهَى.
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ: أَمَرَهُنَّ أَمْرًا خَاصًّا بِالصَّلَاةِ والزكاة، إذ هما عمودا الطَّاعَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِمَا فِي عُمُومِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نَهْيَهُنَّ وَأَمْرَهُنَّ وَوَعْظَهُنَّ إِنَّمَا هُوَ لِإِذْهَابِ الْمَأْثَمِ عَنْهُنَّ وَتَصَوُّنِهُنَّ بِالتَّقْوَى. وَاسْتَعَارَ الرِّجْسَ لِلذُّنُوبِ، وَالطُّهْرَ لِلتَّقْوَى، لِأَنَّ عِرْضَ الْمُقْتَرِفِ لِلْمَعَاصِي يَتَدَنَّسُ بِهَا وَيَتَلَوَّثُ، كَمَا يَتَلَوَّثُ بَدَنُهُ بِالْأَرْجَاسِ. وَأَمَّا الطَّاعَاتُ، فَالْعِرْضُ مَعَهَا نَقِيٌّ مَصُونٌ كَالثَّوْبِ الطَّاهِرِ، وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَنْفِيرٌ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَرْغِيبٌ فِيمَا أَمَرَ بِهِ. وَالرِّجْسُ يَقَعُ عَلَى الْإِثْمِ، وَعَلَى الْعَذَابِ، وَعَلَى النَّجَاسَةِ، وَعَلَى النَّقَائِصِ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ جَمِيعَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الرِّجْسُ هُنَا: الشِّرْكُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْإِثْمُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْفِسْقُ وَقِيلَ: الْمَعَاصِي كُلُّهَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: الشَّكُّ وَقِيلَ: الْبُخْلُ والطبع وَقِيلَ: الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ.
وَانْتَصَبَ أَهْلٌ عَلَى النِّدَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ:
478
بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الْفَضْلَ وَأَكْثَرَ مَا يَكُونُ فِي الْمُتَكَلِّمِ، وَقَوْلُهُ:
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ
وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْبَيْتِ يَشْمَلُهُنَّ وَآبَاءَهُنَّ، غَلَبَ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ فِي الْخِطَابِ فِي:
عَنْكُمُ، وَيُطَهِّرَكُمْ. وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ السَّائِبِ: أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِزَوْجَاتِهِ عليه لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: عَنْكُنَّ وَيُطَهِّرُكُنَّ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيًّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: هُوَ خَاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَن وَالْحُسَيْنِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ أَهْلُهُ وَأَزْوَاجُهُ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَالثَّعْلَبِيُّ: بَنُو هَاشِمٍ الَّذِينَ يُحْرَمُونَ الصَّدَقَةَ آلُ عَبَّاسٍ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُمْ زَوْجَاتُهُ وَأَهْلُهُ، فَلَا تَخْرُجُ الزَّوْجَاتُ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، بَلْ يَظْهَرُ أَنَّهُنَّ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ لِمُلَازَمَتِهِنَّ بَيْتَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ زَوْجَاتِهِ لَا يَخْرُجْنَ عَنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، فَأَهْلُ الْبَيْتِ: زَوْجَاتُهُ وَبِنْتُهُ وَبَنُوهَا وَزَوْجُهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِسَاءَ النبي مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُنَّ أَنَّ بُيُوتَهُنَّ مَهَابِطُ الْوَحْيِ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ لَا يَنْسَيْنَ مَا يُتْلَى فِيهَا مِنَ الْكِتَابِ الْجَامِعِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: وَهُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ بِنَظْمِهِ، وَهُوَ حِكْمَةٌ وَعُلُومٌ وَشَرَائِعُ. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً، حِينَ عَلِمَ مَا يَنْفَعُكُمْ وَيُصْلِحُكُمْ فِي دِينِكُمْ فَأَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ، أَوْ عَلِمَ مَنْ يَصْلُحُ لِنُبُوَّتِهِ وَمَنْ يَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونُوا أَهْلَ بَيْتِهِ، أَوْ حَيْثُ جُعِلَ الْكَلَامُ جَامِعًا بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ. انْتَهَى. وَاتِّصَالُ وَاذْكُرْنَ بِمَا قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ مِنَ الْبَيْتِ، وَمَنْ لَمْ يُدْخِلْهُنَّ قَالَ: هِيَ ابْتِدَاءُ مُخَاطَبَةٍ.
وَاذْكُرْنَ، إِمَّا بِمَعْنَى احْفَظْنَ وَتَذَكَّرْنَهُ، وَإِمَّا اذْكُرْنَهُ لِغَيْرِكُنَّ وَارْوِينَهُ حَتَّى يُنْقَلَ. ومِنْ آياتِ اللَّهِ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْحِكْمَةِ: هِيَ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، غَيْرَ الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِلْآيَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَطِيفاً، تَلْيِينٌ، وَفِي خَبِيراً، تَحْذِيرٌ مَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَا تُتْلَى بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ.
وَرُوِيَ أَنَّ نِسَاءَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرَ اللَّهُ الرِّجَالَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْنَا وَقِيلَ: السَّائِلَةُ أُمُّ سَلَمَةَ. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ فِي نِسَائِهِ مَا نَزَلَ، قَالَ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ: فَمَا نَزَلَ فِينَا شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ
: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ الْآيَةَ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الْعَشَرَةُ
479
تَقَدَّمَ شَرْحُهَا، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالِانْقِيَادِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ بِالتَّصْدِيقِ، ثُمَّ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي بَعْدَهُمَا تَنْدَرِجُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ، وَفِي الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ، ثُمَّ خَتَمَهَا بِخُلَّةِ الْمُرَاقَبَةِ وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ كَثِيرًا. وَلَمْ يَذْكُرْ لِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مُتَعَلِّقًا إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً، نَصَّ عَلَى مُتَعَلِّقِ الْحِفْظِ لِكَوْنِهِ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ وَمَرْكَبَ الشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ، وَعَلَى مُتَعَلِّقِ الذِّكْرِ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ لَفْظُ اللَّهِ، إِذْ هُوَ الْعَلَمُ الْمُحْتَوِي عَلَى جَمِيعِ أَوْصَافِهِ، لِيَتَذَكَّرَ الْمُسْلِمُ مَنْ تَذَكَّرَهُ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحُذِفَ مِنَ الْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرَاتِ الْمَفْعُولُ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْحَافِظَاتِهَا وَالذَّاكِرَاتِهِ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ: غَلَّبَ الذُّكُورَ، فَجَمَعَ الْإِنَاثَ مَعَهُمْ وَأَدْرَجَهُمْ فِي الضَّمِيرِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ لَهُمْ وَلَهُنَّ.
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً، وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا، مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً، مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
قَالَ الْجُمْهُورُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمْ: خَطَبَ الرَّسُولُ لِزَيْدٍ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَبَتْ وَقَالَتْ: لَسْتُ بِنَاكِحَةٍ، فَقَالَ: «بَلَى فَأَنْكِحِيهِ فَقَدْ رَضِيتُهُ لَكِ»، فَأَبَتْ، فَنَزَلَتْ.
وَذَكَرَ أَنَّهَا وَأَخَاهَا عَبْدَ اللَّهِ كَرِهَا ذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ رَضِيَا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهَبَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهِيَ أَوَّلُ امرأة وهبت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم نَفْسَهَا، فَقَالَ: «قَدْ قَبِلْتُكِ وَزَوَّجْتُكِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ»، فَسَخِطَتْ هِيَ وَأَخُوهَا، قَالَا: إِنَّمَا أَرَدْنَاهُ فَزَوَّجَنَا عَبْدَهُ، فَنَزَلَتْ
، وَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تِلْكَ الْأَوْصَافَ السَّابِقَةَ مِنَ
480
الْإِسْلَامِ فَمَا بَعْدَهُ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِمَا صَدَرَ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ أَشَارَ الرسول بِأَمْرٍ وَقَعَ مِنْهُمُ الْإِبَاءُ لَهُ، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ، إِذْ طَاعَتُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَمْرُهُ مِنْ أمره.
والْخِيَرَةُ: مَصْدَرٌ مِنْ تَخَيَّرَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كَالطِّيَرَةِ مِنْ تَطَيَّرَ. وَقُرِئَ: بِسُكُونِ الْيَاءِ، ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَعِيسَى: أَنْ تَكُونَ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَالْكُوفِيُّونَ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَالسُّلَمِيُّ: بِالْيَاءِ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ، يَعُمُّ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، جَاءَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ، مُغَلَّبًا فِيهِ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ مِنَ حَقِّ الضَّمِيرِ أَنْ يُوَحَّدَ، كَمَا تَقُولُ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا. انْتَهَى.
لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ هَذَا عَطْفٌ بِالْوَاوِ، فَلَا يَجُوزُ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ الْحَذْفِ، أَيْ:
مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ إِلَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا، وَتَقُولُ: مَا جَاءَ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو إِلَّا ضَرَبَا خَالِدًا، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا ضَرَبَ إِلَّا عَلَى الْحَذْفِ، كَمَا قُلْنَا.
وَإِذْ تَقُولُ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَجَلُّ النِّعَمِ، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي كان الرسول تَبَنَّاهُ. وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: وَهُوَ عِتْقُهُ، وَتَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ قِصَّتِهِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ. أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ: وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَتَقَدَّمَ أن الرسول كَانَ خَطَبَهَا لَهُ.
وَقِيلَ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِصُحْبَتِكَ وَمَوَدَّتِكَ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِتَبَنِّيهِ. فَجَاءَ زَيْدٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُفَارِقَ صَاحِبَتِي، فَقَالَ:
«أَرَابَكَ مِنْهَا شَيْءٌ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنَّهَا تَعْظُمُ عَلَيَّ لِشَرَفِهَا وَتُؤْذِينِي بِلِسَانِهَا، فَقَالَ:
«أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ»، أَيْ لَا تُطَلِّقْهَا، وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ، «وَاتَّقِ اللَّهَ فِي مُعَاشَرَتِهَا».
فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
وَعَلَّلَ تَزْوِيجَهُ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَنْ يَتَزَوَّجُوا زَوْجَاتِ مَنْ كَانُوا تَبَنَّوْهُ إِذَا فَارِقُوهُنَّ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الزَّوْجَاتِ لَيْسَتْ دَاخِلَاتٍ فِيمَا حَرَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ «١».
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: كَانَ قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ زَيْدًا سَيُطَلِّقُهَا، وَأَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا بِتَزْوِيجِ اللَّهِ إِيَّاهَا. فَلَمَّا شَكَا زَيْدٌ خُلُقَهَا، وَأَنَّهَا لَا تُطِيعُهُ، وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ يُرِيدُ طَلَاقَهَا، قَالَ لَهُ:
«أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ»
، عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ وَالْوَصِيَّةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْفَى فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالطَّلَاقِ.
وَلَمَّا عَلِمَ مِنْ أنه سيطلقها،
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٣.
481
وخشي رسول الله أَنْ يَلْحَقَهُ قَوْلٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَنْ يَتَزَوَّجَ زَيْنَبَ بَعْدَ زَيْدٍ، وَهُوَ مَوْلَاهُ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي شَيْءٍ قَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ بِأَنْ قَالَ: أَمْسِكْ، مع علمه أن يُطَلِّقُ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْخَشْيَةِ، أَيْ فِي كُلِّ حَالٍ. انْتَهَى. وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
، هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، كَالزُّهْرِيِّ، وَبَكْرِ بْنِ الْعَلَاءِ، وَالْقُشَيْرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَتَخْشَى النَّاسَ، إِنَّمَا هُوَ إِرْجَافُ الْمُنَافِقِينَ فِي تزويج نساء الأبناء، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ.
وَلِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ كَلَامٌ فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي النَّقْصَ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، ضَرَبْنَا عَنْهُ صَفْحًا.
وَقِيلَ قَوْلُهُ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ: خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ، فَإِنَّهُ أَخْفَى الْمَيْلَ إِلَيْهَا، وَأَظْهَرَ الرَّغْبَةَ عَنْهَا، لَمَّا تَوَهَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ مِنْ نِسَائِهِ. انْتَهَى.
وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، وَبَعْضُهُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بِمَا فِيهِ غَيْرُ صَوَابٍ مِمَّا جَرَى فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَرْتُ مِنْهُ مَا أَنِصُّهُ. قَالَ: كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَتَحَفَّظُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ وَيَسْتَحْيِي مِنْ إِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ مُتَّسِعٌ وَحَلَالٌ مُطْلَقٌ، لَا مَقَالَ فِيهِ وَلَا عَيْبَ عِنْدَ اللَّهِ. وَرُبَّمَا كَانَ الدُّخُولُ فِي ذَلِكَ الْمُبَاحِ سُلَّمًا إِلَى حُصُولِ وَاجِبَاتٍ، لِعِظَمِ أَثَرِهَا فِي الدِّينِ، وَيَجِلُّ ثَوَابُهَا، وَلَوْ لَمْ يُتَحَفَّظْ مِنْهُ، لَأَطْلَقَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِيهِ أَلْسِنَتَهُمْ، إِلَّا مَنْ أُوتِيَ فَضْلًا وَعِلْمًا وَدِينًا وَنَظَرًا فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَلُبَابِهَا دُونَ قُشُورِهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا طَمِعُوا فِي بُيُوتِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَقَوْا مُرْتَكِزِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ لَا يُدِيمُونَ مُسْتَأْنِسِينَ بِالْحَدِيثِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْذِيهِ قُعُودُهُمْ، وَيُضِيقُ صَدْرَهُ حَدِيثُهُمْ، وَالْحَيَاءُ يَصُدُّهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِانْتِشَارِ حَتَّى نَزَلَتْ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ.
وَلَوْ أَبْرَزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْنُونَ ضَمِيرِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْتَشِرُوا، لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، وَلَكَانَ بَعْضُ الْمَقَالَةِ. فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ، لِأَنَّ طُمُوحَ قَلْبِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَعْضِ مُشْتَهِيَاتِهِ، مِنَ امْرَأَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْقُبْحِ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الشَّرْعِ. وَتَنَاوُلُ الْمُبَاحِ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ بِقَبِيحٍ أَيْضًا، وَهُوَ خِطْبَةُ زَيْنَبَ وَنِكَاحُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِنْزَالِ زَيْدٍ عَنْهَا، وَلَا طَلَبٍ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَرًا عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْزِلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَنِ امْرَأَتِهِ لِصَدِيقِهِ، وَلَا مُسْتَهْجَنًا إِذَا نَزَلَ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا الْآخَرُ. فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ دَخَلُوا المدينة، استهم الْأَنْصَارُ بِكُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ نَزَلَ عَنْ إِحْدَاهُمَا وَأَنْكَحَهَا الْمُهَاجِرَ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ مُبَاحًا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْقُبْحِ، وَلَا
482
مَفْسَدَةٌ وَلَا مَضَرَّةٌ بِزَيْدٍ وَلَا بِأَحَدٍ، بَلْ كَانَ مُسْتَجِرًّا مَصَالِحَ نَاهِيكَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا: أَنَّ بِنْتَ عَمَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أمنت الأئمة وَالضَّيْعَةَ وَنَالَتِ الشَّرَفَ وَعَادَتْ أُمًّا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي قَوْلِهِ: لِكَيْ لَا يَكُونَ الْآيَةَ. انْتَهَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَوْلُهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ فِيهِ وُصُولُ الْفِعْلِ الرَّافِعِ الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلِ إِلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ وَهُمَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
هَوِّنْ عَلَيْكَ ودع عنك نهيا صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ وَذَكَرُوا فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أن على وعن اسْمَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَرْفَيْنِ، لِامْتِنَاعِ فَكَّرَ فِيكَ، وَأَعْنِي بِكَ، بَلْ هَذَا مِمَّا يَكُونُ فِيهِ النَّفْسُ، أَيْ فَكِّرْ فِي نَفْسِكَ، وَأَعْنِي بِنَفْسِكَ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ «١»، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ «٢». وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ: مُسْتَأْنَفٌ، وَتَخْشَى: مَعْطُوفٌ عَلَى وَتُخْفِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاوُ الْحَالِ، أَيْ تَقُولُ لِزَيْدٍ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، مُخْفِيًا فِي نَفْسِكَ إِرَادَةَ أَنْ لَا يُمْسِكَهَا، وَتُخْفِي خَاشِيًا قَالَةَ النَّاسِ، أَوْ وَاوُ الْعَطْفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ قَوْلِكَ: أَمْسِكْ، وَإِخْفَاءِ قَالَةِ، وَخَشْيَةِ النَّاسِ. انْتَهَى. وَلَا يَكُونُ وَتُخْفِي حَالًا عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ وَأَنْتَ تُخْفِي، لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ مُثْبَتٌ، فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْوَاوُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْإِضْمَارِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَلِيلٌ نَادِرٌ، لَا يُبْنَى عَلَى مِثْلِهِ الْقَوَاعِدُ وَمِنْهُ قَوْلِهِمْ: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ، أَيْ وَأَنَا أَصُكُّ عَيْنَهُ. وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ: تَقَدَّمَ إِعْرَابُ نَظِيرِهِ فِي التَّوْبَةِ «٣».
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً: أَيْ حَاجَةً، قِيلَ: وَهُوَ الْجِمَاعُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى أَبُو عِصْمَةَ: نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، بِإِسْنَادٍ رَفَعَهُ إِلَى زَيْنَبَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا كُنْتُ أَمْتَنِعُ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي مِنْهُ. وقيل: إنه مد تَزَوَّجَهَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَرَّمُ ذَلِكَ مِنْهُ حين يريد أن يقربها. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَطَرُ هُنَا: الطَّلَاقُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
زَوَّجْناكَها، بِنُونِ الْعَظَمَةِ
وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَخَوَاهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَأَبُوهُمْ عَلِيٌّ: زَوَّجْتُكَهَا، بِتَاءِ الضَّمِيرِ لِلْمُتَكَلِّمِ.
وَنَفَى تَعَالَى الْحَرَجَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِجْرَاءِ أَزْوَاجِ المتبنين مجرى أزواج البنين فِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ عَلَائِقِ الزَّوَاجِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ: أَيْ مُقْتَضَى أَمْرِ اللَّهِ، أَوْ مُضَمَّنُ أَمْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِلَّا فَالْأَمْرُ
(١) سورة مريم: ١٩/ ٢٥.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ٣٢.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ١٣.
483
قَدِيمٌ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ، وَيَحْتَمِلُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَاحِدَ الْأُمُورِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُفْعَلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَكُونَهُ، مَفْعُولًا: مَكُونًا لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مَثَلٌ لِمَا أَرَادَ كَوْنَهُ مِنْ تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِأَمْرِ اللَّهِ الْمَكُونُ، لِأَنَّهُ مَفْعُولُ يكن. وَلَمَّا نَفَى الْحَرَجَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا ذَكَرَ، وَانْدَرَجَ الرسول فِيهِمْ، إِذْ هُوَ سَيِّدُ الْمُؤْمِنِينَ، نَفَى عَنْهُ الْحَرَجَ بِخُصُوصِهِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ وَالتَّشْرِيفِ، وَنَفَى الْحَرَجَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا بِالِانْدِرَاجِ فِي الْعُمُومِ، وَالْأُخْرَى بِالْخُصُوصِ.
فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، قَالَ الْحَسَنُ: فِيمَا خُصَّ بِهِ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ بِلَا صَدَاقٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِيمَا أَحَلَّ لَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ عَابُوهُ بِكَثْرَةِ النِّكَاحِ وَكَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: سُنَّةَ اللَّهِ: أَيْ فِي الْأَنْبِيَاءِ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ، حَتَّى كَانَ لِسُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثلاثمائة حرة وسبعماية سُرِّيَّةٍ، وَكَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ وَثَلَاثُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْنَبَ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ دَاوُدَ وَبَيْنَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا. وَانْتَصَبَ سُنَّةَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: الْزَمْ أَوْ نَحْوُهُ، أَوْ عَلَى الْإِغْرَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَعَلَيْهِ سُنَّةَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: أَوْ عَلَى الْإِغْرَاءِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ عَامِلَ الِاسْمِ فِي الْإِغْرَاءِ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، وَأَيْضًا فَتَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِ سُنَّةَ اللَّهِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْإِغْرَاءِ، إِذْ لَا يُغْرَى غَائِبٌ. وَمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَلَيْهِ رَجُلًا، لَيْسَنِي لَهُ تَأْوِيلٌ، وَهُوَ مَعَ ذلك نادر. والَّذِينَ خَلَوْا: الْأَنْبِيَاءُ، بِدَلِيلِ وَصْفِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ: أَيْ مَأْمُورَاتُهُ، وَالْكَائِنَاتُ مِنْ أَمْرِهِ، فَهِيَ مَقْدُورَةٌ. وَقَوْلُهُ: قَدَراً: أَيْ ذَا قَدَرٍ، أَوْ عَنْ قَدَرٍ، أَوْ قَضَاءً مَقْضِيًّا وَحُكْمًا مثبوتا.
والَّذِينَ: صفة للذين خَلَوْا، أَوْ مَرْفُوعٌ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِهِمْ، أَوْ عَلَى أَمْدَحُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: الَّذِينَ بَلَّغُوا، جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: رِسَالَةَ اللَّهِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْجُمْهُورُ:
يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ جَمْعًا. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً: أَيْ مُحَاسِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَالْعَقَائِدِ، أَوْ مُحْسِبًا: أَيْ كَافِيًا.
ثُمَّ نَفَى تَعَالَى كَوْنَ رَسُولِهِ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ تَبَنَّاهُ مِنْ حُرْمَةِ الصِّهَارَةِ وَالنِّكَاحِ مَا يَثْبُتُ بَيْنَ الْأَبِ وَوَلَدِهِ. هَذَا مَقْصُودُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، فَيَحْتَاجُ إِلَى الِاحْتِجَاجِ فِي أَمْرِ بَنِيهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مَاتُوا، وَلَا فِي أَمْرِ الْحَسَنِ
484
وَالْحُسَيْنِ بِأَنَّهُمَا كَانَا طِفْلَيْنِ. وَإِضَافَةُ رِجَالِكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ يُخْرِجُ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِيهِ، لِأَنَّهُمْ رِجَالُهُ، لَا رِجَالُ الْمُخَاطِبِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلكِنْ رَسُولَ، بِتَخْفِيفِ لَكِنْ وَنَصْبِ رَسُولَ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ، لِدَلَالَةِ كَانَ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ قِيلَ: أَوْ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى أَبا أَحَدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَكِنَّ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ هُوَ، أَيْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَذْفُ خَبَرِ لَكِنَّ وَأَخَوَاتِهَا جَائِزٌ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَمِمَّا جَاءَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي وَلَكِنَّ زَنْجِيًّا عَظِيمَ الْمَشَافِرِ
أَيْ: أَنْتَ لَا تَعْرِفُ قَرَابَتِي. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بالتخفيف، ورفع ورسوله وخاتم، أَيْ وَلَكِنْ هُوَ رَسُولٌ الله، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَسْتُ الشَّاعِرَ السَّقَّافَ فِيهِمْ وَلَكِنْ مَدَرَةَ الْحَرْبِ الْعَوَالِ
أَيْ: لَكِنْ أَنَا مَدَرَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خاتَمَ، بِكَسْرِ التَّاءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَتَمَهُمْ، أَيْ جَاءَ آخِرَهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا خَاتَمُ أَلْفِ نَبِيٍّ
وَعَنْهُ: أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ
فِي حَدِيثِ وَاللَّبِنَةِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَلْفَاظٌ تَقْتَضِي نَصًّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَالْمَعْنَى أَنْ لَا يَتَنَبَّأَ أَحَدٌ بَعْدَهُ، وَلَا يَرِدُ نُزُولُ عِيسَى آخِرَ الزَّمَانِ، لِأَنَّهُ مِمَّنْ نُبِّئَ قَبْلَهُ، وَيَنْزِلُ عَامِلًا عَلَى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم مُصَلِّيًا إِلَى قِبْلَتِهِ كَأَنَّهُ بَعْضُ أُمَّتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْهِدَايَةِ، مِنْ تَجْوِيزِ الِاحْتِمَالِ فِي أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ، وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِالِاقْتِصَادِ، وَتَطَرَّقَ إِلَى تَرْكِ تَشْوِيشِ عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي خَتْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْهُ، وَاللَّهُ الْهَادِي بِرَحْمَتِهِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْأَعْرَجُ: بِخِلَافٍ وَعَاصِمٌ: بِفَتْحِ التَّاءِ بِمَعْنَى:
أَنَّهُمْ بِهِ خُتِمُوا، فَهُوَ كَالْخَاتَمِ وَالطَّابَعِ لَهُمْ.
وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ لَا تَنْقَطِعُ، أَوْ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، فَهُوَ زِنْدِيقٌ يَجِبُ قَتْلُهُ. وَقَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ ناس، فقلهم الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَ فِي عَصْرِنَا شَخْصٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بِمَدِينَةِ مالقة، فقتله السلطان بْنُ الْأَحْمَرِ، مَلِكُ الْأَنْدَلُسِ بِغَرْنَاطَةَ، وَصُلِبَ إِلَى أَنْ تَنَاثَرَ لَحْمُهُ.
وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً: هَذَا عَامٌّ، وَالْقَصْدُ هُنَا عِلْمُهُ تَعَالَى بِمَا رَآهُ الْأَصْلَحَ لِرَسُولِهِ، وَبِمَا قَدَّرَهُ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَحْمِيدِهِ وَتَقْدِيسِهِ،
485
وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَالذِّكْرُ الْكَثِيرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ لَا يَنْسَاهُ أَبَدًا، أَوِ التَّسْبِيحُ مُنْدَرِجٌ فِي الذِّكْرِ، لَكِنَّهُ خُصَّ بِأَنَّهُ يُنَزِّهُهُ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ، أَوْ مِنْ أَفْضَلِ الْأَذْكَارِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: قُولُوا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ يَقُولُهَا الطَّاهِرُ وَالْجُنُبُ. وبُكْرَةً وَأَصِيلًا:
يقتضيهما اذكروا وسبحوا، وَالنَّصْبُ بِالثَّانِي عَلَى طَرِيقِ الْإِعْمَالِ، وَالْوَقْتَانِ كِنَايَةٌ عَنْ جَمِيعِ الزَّمَانِ، ذِكْرُ الطَّرَفَيْنِ إِشْعَارٌ بِالِاسْتِغْرَاقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ صَلُّوا صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْعِشَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْإِشَارَةُ بِهَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ إِلَى صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ وإكثاره تكثير الطاعات وَالْإِقْبَالِ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ طَاعَةٍ وَكُلَّ خَيْرٍ مِنْ جُمْلَةِ الذِّكْرِ. ثُمَّ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَهِيَ الصَّلَاةُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهَا، تَفْضُلُ الصَّلَاةُ غَيْرَهَا، أَوْ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، لِأَنَّ أَدَاءَهُمَا أَشَقُّ.
وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ، ذَكَرَ إِحْسَانَهُ تَعَالَى بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِمْ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ. قَالَ الْحَسَنُ: يُصَلِّي عَلَيْكُمْ: يَرْحَمُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يَغْفِرُ لَكُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ يُثْنِي عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: يَتَرَأَّفُ بِكُمْ. وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا «١». وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الدُّعَاءُ، وَالْمَعْنَى: هُوَ الَّذِي يَتَرَحَّمُ عَلَيْكُمْ، حَيْثُ يَدْعُوكُمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِإِكْثَارِ الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ، لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى نُورِ الطَّاعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْبَعْثِ. وَمَلائِكَتُهُ: مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَكِنِ فِي يُصَلِّي، فَأَغْنَى الْفَصْلُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَنِ التَّأْكِيدِ، وَصَلَاةُ اللَّهِ غَيْرُ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَيْفَ اشْتَرَكَا فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ؟ وَهُوَ إِرَادَةُ وُصُولِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ. فَاللَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ بِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ إِيصَالَ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، وَمَلَائِكَتُهُ يُرِيدُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلُوا لِكَوْنِهِمْ مُسْتَجَابِي الدَّعْوَةِ، كَأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ الرَّحْمَةَ وَالرَّأْفَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: حَيَّاكَ اللَّهُ: أَيْ أَحْيَاكَ وَأَبْقَاكَ، وَحَيَّيْتُكَ: أَيْ دَعَوْتُ لَكَ بِأَنْ يُحْيِيَكَ اللَّهُ، لِأَنَّكَ لا تكالك عَلَى إِجَابَةِ دَعْوَتِكَ كَأَنَّكَ تُبْقِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ عَمَّرَكَ اللَّهُ وَعَمَّرْتُكَ، وَسَقَاكَ اللَّهُ وَسَقَيْتُكَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ: أَيِ ادْعُوا لَهُ بِأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً: دليل
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٧.
486
عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الرَّحْمَةُ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ، كَأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ اشْتَرَكَتَا فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ أَوْلَى.
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. سَلامٌ: أَيْ تَحِيَّةُ اللَّهِ لَهُمْ. يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، مَرْحَبًا بِعِبَادِي الَّذِينَ أَرْضَوْنِي بِاتِّبَاعِ أَمْرِي، قَالَهُ الرَّقَاشِيُّ.
وَقِيلَ: يُحَيِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَا يَقْبِضُ رُوحَ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يُسَلِّمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِقَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ قَالَ: رَبُّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلَامَ، قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: يَلْقَوْنَهُ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَقِيلَ: سَلَامُ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَوْمَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ، أَيْ سَلِمْنَا وَسَلِمْتَ مِنْ كُلِّ مَخُوفٍ. وَقِيلَ:
تُحَيِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَئِذٍ. وَقِيلَ: هُوَ سَلَامُ مَلَكِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةِ مَعَهُ عَلَيْهِمْ، وَبِشَارَتُهُمْ بِالْجَنَّةِ. وَالتَّحِيَّةُ مَصْدَرٌ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ، إِلَّا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمُحَيِّي وَالْمُحَيَّا، لَا عَلَى جِهَةِ الْعَمَلِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فَاعِلًا مَفْعُولًا، وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِهِ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «١» : أَيْ لِلْحُكْمِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمْ، وَلِيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ التَّحِيَّةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمْ هِيَ سَلَامٌ. وَفَرَّقَ الْمُبَرِّدُ بَيْنَ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ فَقَالَ: التَّحِيَّةُ يَكُونُ ذَلِكَ دُعَاءً، وَالسَّلَامُ مَخْصُوصٌ، وَمِنْهُ: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً «٢». وَالْأَجْرُ الْكَرِيمُ: الْجَنَّةُ، شاهِداً عَلَى مَنْ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ، أَيْ مَفْعُولًا قَوْلُكَ عِنْدَ اللَّهِ، وَشَاهِدًا بِالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ، وَبِتَبْلِيغِ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلَكَ.
وَانْتَصَبَ شاهِداً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، إِذَا كَانَ قَوْلُكَ عِنْدَ اللَّهِ وَقْتَ الْإِرْسَالِ لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ شَاهِدًا عِنْدَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَعِنْدَ أَدَائِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ زَمَانِ الْبَعْثَةِ، وَإِيمَانُ مَنْ آمَنَ وَتَكْذِيبُ مَنْ كَذَّبَ كَانَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ.
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: إِلَى الطَّاعَةِ. بِإِذْنِهِ: أَيْ بِتَسْهِيلِهِ وَتَيْسِيرِهِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةُ الْإِذْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ فُهِمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ دَاعِيًا أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الدُّعَاءِ. وَلَمَّا كَانَ دُعَاءُ الْمُشْرِكِ إِلَى التَّوْحِيدِ صَعْبًا جِدًّا، قِيلَ: بِإِذْنِهِ، أَيْ بتسهيله تعالى. وسِراجاً مُنِيراً: جَلَّى مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ، وَاهْتَدَى بِهِ الضَّالُّونَ، كَمَا يُجَلَّى ظَلَامُ اللَّيْلِ بِالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ. وَيُهْتَدَى بِهِ إِذَا مَدَّ اللَّهُ بِنُورِ نبوته نور
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٧٨.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٧٥.
487
الْبَصَائِرِ، كَمَا يَمُدُّ بِنُورِ السِّرَاجِ نُورَ الْأَبْصَارِ. وَوَصَفَهُ بِالْإِنَارَةِ، لِأَنَّ مِنَ السِّرَاجِ مَا لَا يُضِيءُ إِذَا قَلَّ سَلِيطُهُ وَدَقَّتْ فَتِيلَتُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شاهِداً، أَيْ وَذَا سِرَاجٍ مُنِيرٍ، أَيْ كِتَابٍ نَيِّرٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ كَانَ نَصْبًا عَلَى مَعْنَى: وَتَالِيًا سِرَاجًا مُنِيرًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى كَافِ أَرْسَلْناكَ. انْتَهَى. وَلَا يَتَّضِحُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا ذَا سِرَاجٍ مُنِيرٍ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَلَا يُوصَفُ بِالْإِرْسَالِ الْقُرْآنُ، إِنَّمَا يُوصَفُ بِالْإِنْزَالِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا إِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ: وَتَالِيًا، يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا تَالِيًا سِرَاجًا مُنِيرًا، فَفِيهِ عَطْفُ الصِّفَةِ الَّتِي لِلذَّاتِ عَلَى الذَّاتِ، كَقَوْلِكَ:
رَأَيْتُ زَيْدًا وَالْعَالِمَ. إِذَا كَانَ الْعَالِمُ صِفَةً لِزَيْدٍ، وَالْعَطْفُ مُشْعِرٌ بِالتَّغَايُرِ، لَا يَحْسُنُ مِثْلُ هَذَا التَّخْرِيجِ فِي كَلَامِ اللَّهِ، وَثُمَّ حُمِلَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ نَبِيَّهُ شاهِداً إِلَى آخِرِهِ، تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاشْهَدْ وَبَشِّرْ وَأَنْذِرْ وَادْعُ وَانْهَ، ثُمَّ قَالَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ يَظْهَرُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ الثَّوَابُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لِلْعَطَايَا فُضُولٌ وَفَوَاضِلُ، أَوِ الْمَزِيدُ عَلَى الثَّوَابِ. وَإِذَا ذُكِرَ الْمُتَفَضَّلُ بِهِ وَكِبَرُهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالثَّوَابِ؟ أَوْ مَا فُضِّلُوا بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى، أَوِ الْجَنَّةِ وَمَا أُوتُوا فِيهَا، وَيُفَسِّرُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ «١». وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ: نَهْيٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ السَّمَاعِ مِنْهُمْ فِي أَشْيَاءَ كَانُوا يَطْلُبُونَهَا مِمَّا لَا يَجِبُ، وَفِي أَشْيَاءَ يَنْتَصِحُونَ بِهَا وَهِيَ غِشٌّ. وَدَعْ أَذاهُمْ: الظَّاهِرُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ. لَمَّا نَهَى عَنْ طَاعَتِهِمْ، أَمَرَ بِتَرْكِهِ إِذَايَتَهُمْ وَعُقُوبَتَهُمْ، وَنُسِخَ مِنْهُ مَا يَخُصُّ الْكَافِرِينَ بِآيَةِ السَّيْفُ.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْصُرُكَ وَيَخْذُلُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، أَيْ وَدَعْ إِذَايَتَهُمْ إِيَّاكَ، أَيْ مُجَازَاةَ الْإِذَايَةِ مِنْ عِقَابٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى تُؤْمَرَ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مُجَاهِدٍ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٢٢.
488
أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً، لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ وَتَطْلِيقَهُ إِيَّاهَا، وَكَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَاعْتَدَّتْ، وَخَطَبَهَا الرَّسُولُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَعْدَ انْقِضَاءٍ عِدَّتِهَا، بَيَّنَ حَالَ مَنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَأَنَّهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا.
وَمَعْنَى نَكَحْتُمُ: عَقَدْتُمْ عَلَيْهِنَّ. وَسُمِّيَ الْعَقْدُ نِكَاحًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ إِلَيْهِ، كَمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ إِثْمًا لِأَنَّهَا سَبَبٌ لَهُ. قَالُوا: وَلَفْظُ النكاح في كتاب الله لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ مِنْ آدَابِ الْقُرْآنِ كَمَا كَنَّى عَنِ الْوَطْءِ بِالْمُمَاسَّةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْقُرْبَانِ وَالتَّغَشِّي وَالْإِتْيَانِ، قِيلَ:
إِلَّا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «١»، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالْكِتَابِيَّاتُ، وَإِنْ شَارَكَتِ الْمُؤْمِنَاتِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَتَخْصِيصُ الْمُؤْمِنَاتِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطْفَتِهِ إِلَّا الْمُؤْمِنَةَ. وَفَائِدَةُ الْمَجِيءِ بِثُمَّ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا، إِنْ تَزَوَّجَتْ وَطُلِّقَتْ عَلَى الْفَوْرِ، وَلِمَنْ تَأَخَّرَ طَلَاقُهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفَى التَّوَهُّمَ عَمَّنْ عَسَى يَتَوَهَّمُ تَفَاوُتَ الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ مِنَ النِّكَاحِ، وَبَيْنَ أَنْ يَبْعُدَ عَهْدُهَا بِالنِّكَاحِ، وَتَتَرَاخَى بِهَا الْمُدَّةُ فِي حِيَالَةِ الزَّوْجِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا. انْتَهَى. وَاسْتَعْمَلَ صِلَةً لِمَنْ عَسَى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، أَوْ لُوحِظَ فِي ذَلِكَ الْغَالِبُ. فَإِنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ عَلَى امْرَأَةٍ، إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِرَغْبَةٍ، فَيَبْعُدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ الرَّغْبَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالطَّلَاقِ مُهْلَةٌ يَظْهَرُ فِيهَا لِلزَّوْجِ نَأْيُهُ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَا يَصِحُّ طَلَاقُ مَنْ لَمْ يُعْقَدْ عَلَيْهَا عَيْنَهَا أَوْ قَبِيلَتَهَا أَوِ الْبَلَدَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ، مِنْهُمْ مَالِكٌ: يَصِحُّ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسِيسَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَأَنَّهُ إِذَا خَلَا بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، لَا يَعْقِدُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: حُكْمُ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ حُكْمُ الْمَسِيسِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ رَجْعِيَّةً، إِذَا رَاجَعَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، لَا تَتِمُّ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى، وَلَا تَسْتَقْبِلُ عِدَّةً، لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، وبه
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٠. [.....]
489
قَالَ دَاوُدُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: تَمْضِي فِي عِدَّتِهَا عَنْ طَلَاقِهَا الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَبْنِي عَلَى الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الثَّانِيَ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ جُمْهُورِ الْأَمْصَارِ. وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَائِنًا غَيْرَ مَبْتُوتَةٍ، فَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، كَالرَّجْعِيَّةِ فِي قَوْلِ دَاوُدَ، لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، لَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَا اسْتِئْنَافُ عِدَّةِ الثَّانِي، وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَزُفَرُ: لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَتُتِمُّ بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ الْأُولَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُونُسَ: لَهَا مَهْرٌ كَامِلٌ لِلنِّكَاحِ الثَّانِي، وَعِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ، جَعَلُوهَا فِي حُكْمِ الْمَدْخُولِ بِهَا، لِاعْتِدَادِهَا مِنْ مِائَةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْتَدُّونَها، بِتَشْدِيدِ الدَّالِ: افْتَعَلَ مِنَ الْعَدِّ، أَيْ تَسْتَوْفُونَ عَدَدَهَا، مِنْ قَوْلِكَ: عَدَّ الدَّرَاهِمَ فَاعْتَدَّهَا، أَيِ اسْتَوْفَى عَدَدَهَا نَحْوَ قَوْلِكَ: كِلْتُهُ وَاكْتَالَهُ، وَزِنْتُهُ فَاتَّزَنْتُهُ. وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَنَقَلَهَا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ. وَقَالَ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَرَوِيَ عَنِ أَبِي بَرْزَةَ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِتَخْفِيفِ الدَّالِ مِنَ الْعُدْوَانِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَمَا لَكُمْ عِدَّةٌ تَلْزَمُونَهَا عُدْوَانًا وَظُلْمًا لَهُنَّ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَشْهَرُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَتَخْفِيفُ الدَّالِ وَهْمٌ مِنْ أَبِي بَرْزَةَ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِوَهْمٍ، إِذْ قَدْ نَقَلَهَا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي (كِتَابِ اللَّوَامِحِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ)، وَنَقَلَهَا الرَّازِيُّ الْمَذْكُورُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ: هُوَ مِنَ الِاعْتِدَادِ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا التَّضْعِيفَ فَخَفَّفُوهُ.
فَإِنْ جُعِلَتْ مِنَ الِاعْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ الظُّلْمُ ضُعِّفَ، لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ يَتَعَدَّى بِعَلَى. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ يَتَعَدَّى بِعَلَى، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَحْذِفَ عَلَى، وَيَصِلُ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابَةٍ وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلَا الْأَسَى لَقَضَانِي
أَيْ: لَقَضَى عَلَيَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ: تَعْتَدُونَهَا مُخَفَّفًا، أَيْ تَعْتَدُونَ فِيهَا، كَقَوْلِهِ:
وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ. وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِدَاءِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا. انْتَهَى. وَيَعْنِي أَنَّهُ اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ لَمَّا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ وَصَّلَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ الْعِدَّةِ، كَقَوْلِهِ:
وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا أَيْ: شَهِدْنَا فِيهِ. وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ عَلَى، فَالْمَعْنَى: تَعْتَدُونَ عَلَيْهِنَّ فِيهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:
490
بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ كَغَيْرِهِ، وَتَشْدِيدِ الدَّالِ جَمْعًا بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ. وَقَوْلُهُ: فَما لَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ الزَّوْجِ فِيهَا غَالِبٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَهَا الْمُتْعَةُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَمْدُودَةً أَمْ مَفْرُوضًا لَهَا.
وَقِيلَ: يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِمَنْ لَا مُسَمًّى لَهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي فَمَتِّعُوهُنَّ لِلْوُجُوبِ، وَقِيلَ: لِلنَّدْبِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُشَبَّعًا فِي الْمُتْعَةِ فِي الْبَقَرَةِ. والسراج الْجَمِيلُ: هُوَ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ دُونَ أَذًى وَلَا مَنْعِ وَاجِبٍ. وَقِيلَ: أَنْ لَا يُطَالِبَهَا بِمَا آتَاهَا. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى بَعْضَ أَحْكَامِ أَنْكِحَةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأُجُورُ: الْمُهُورُ، لِأَنَّهُ أَجْرٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالْبِضْعِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَجُوزُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ. وَفِي وَصْفِهِنَّ بِ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ، تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لِنَبِيِّهِ الْأَفْضَلَ وَالْأَوْلَى، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْمَهْرِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ، لِيَتَفَصَّى الزَّوْجُ عَنْ عُهْدَةِ الدِّينِ وَشَغْلِ ذِمَّتِهِ بِهِ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِهَا مَجَّانًا دُونَ عِوَضٍ تَسَلَّمَتْهُ، وَالتَّعْجِيلُ كَانَ سُنَّةَ السَّلَفِ، لَا يُعْرَفُ مِنْهُمْ غَيْرُهُ. أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ حِينَ شَكَا حَالَةَ التَّزَوُّجِ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةَ» ؟
وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ بِقَوْلِهِ: مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَسْبِيَّةً، فَمَلَكَهَا مِمَّا غَنَّمَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ كَانَتْ أَحَلَّ وَأَطْيَبَ مِمَّا تُشْتَرَى مِنَ الْجَلَبِ. فَمَا سُبِيَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قِيلَ فِيهِ سَبْيٌ طَيِّبَةٌ، وَمِمَّنْ لَهُ عَهْدٌ قِيلَ فِيهِ سَبْيٌ خَبِيثَةٌ، وَفَيْءُ اللَّهِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الطَّيِّبِ دُونَ الْخَبِيثِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ، مَخْصُوصُ لَفْظَةِ أَزْوَاجِكَ بِمَنْ كَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ، كَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا بِمَهْرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ مَنْ تَزَوَّجَهَا بِمَهْرٍ، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا بِلَا مَهْرٍ، وَجَمِيعُ النِّسَاءِ حَتَّى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ مَمْهُورَةٍ وَرَقِيقَةٍ وَوَاهِبَةٍ نَفْسَهَا مَخْصُوصَةٌ بِهِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ: أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا، ثُمَّ الضَّمِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ يَعُمُّ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ، فَيَنْقَطِعُ مِنَ الْأَوَّلِ وَيَعُودُ عَلَى أَزْوَاجِهِ التِّسْعِ فَقَطْ، وَفِي التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ تَضْيِيقٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَوَّجُ أَيَّ النِّسَاءِ شَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى نِسَائِهِ.
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ بِهَا النِّسَاءُ، إِلَّا مَنْ سُمِّيَ سُرَّ نِسَاؤُهُ بِذَلِكَ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ إِنَّمَا يُعَلِّقُهُ فِي النَّادِرِ، وَبَنَاتُ الْعَمِّ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ يَسِيرٌ. وَمَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُنَّ مَحْصُورٌ عِنْدَ نِسَائِهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ قُرِنَ بِشَرْطِ الْهِجْرَةِ، وَالْوَاجِبُ أَيْضًا مِنَ النِّسَاءِ قَلِيلٌ، فَلِذَلِكَ سُرَّ بِانْحِصَارِ الْأَمْرِ. ثُمَّ مَجِيءُ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ مَجِيءُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ،
491
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَزْوَاجَهُ اللَّوَاتِي تَقَدَّمَ النَّصُّ عَلَيْهِنَّ بِالتَّحْلِيلِ، فَيَأْتِي الْكَلَامُ مُثْبَتًا مُطَّرِدًا أَكْثَرَ مِنَ اطِّرَادِهِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْآخَرِ.
وَبَناتِ عَمِّكَ،
قالت أم هانىء، بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ: خَطَبَنِي رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ فَعَذَرَنِي، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَحَرَّمَتْنِي عَلَيْهِ، لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ مَعَهُ، وَإِنَّمَا كُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ.
وَالتَّخْصِيصُ بِ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، لِأَنَّ مَنْ هَاجَرَ مَعَهُ مِنْ قَرَابَتِهِ غَيْرِ الْمَحَارِمِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ الْمُهَاجِرَاتِ. وَقِيلَ: شَرْطُ الْهِجْرَةِ فِي التَّحْلِيلِ مَنْسُوخٌ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهِجْرَةَ شَرْطٌ فِي إِحْلَالِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَرْطٌ فِي إِحْلَالِ قَرَابَاتِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا:
الِاشْتِرَاكُ فِي الْهِجْرَةِ لَا فِي الصُّحْبَةِ فِيهَا، فَيُقَالُ: دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي وَخَرَجَ مَعِي، أَيْ كَانَ عَمَلُهُ كَعَمَلِي وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنَا فِي الزَّمَانِ. وَلَوْ قُلْتَ: فَرَجَعْنَا مَعًا، اقْتَضَى الْمَعْنَيَانِ الِاشْتِرَاكَ فِي الْفِعْلِ، وَالِاقْتِرَانُ فِي الزَّمَانِ. وَأَفْرَدَ الْعَمَّ وَالْخَالَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ كَذَلِكَ، وَهَذَا حَرْفٌ لُغَوِيٌّ قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْقَاضِي.
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: هِيَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ: هِيَ أُمُّ شَرِيكٍ.
وَقَالَ عُرْوَةُ، وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ، أُمُّ الْمَسَاكِينَ، امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَقَالَ عُرْوَةُ أَيْضًا: هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ. وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ مِنْهُنَّ بِالْهِبَةِ.
وَقِيلَ: الْمُوهِبَاتُ أَرْبَعٌ: مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهَا قَبْلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَامْرَأَتَ، بِالنَّصْبِ إِنْ وَهَبَتْ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ: أَيْ أَحْلَلْنَاهَا لَكَ. إِنْ وَهَبَتْ، إِنْ أَرادَ، فَهُنَا شَرْطَانِ، وَالثَّانِي فِي مَعْنَى الْحَالِ، شَرْطٌ فِي الْإِحْلَالِ هِبَتُهَا نَفْسَهَا، وَفِي الْهِبَةِ إِرَادَةُ اسْتِنْكَاحِ النَّبِيِّ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَحْلَلْنَاهَا لَكَ إِنْ وَهَبَتْ لَكَ نَفْسَهَا، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَسْتَنْكِحَهَا، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ هِيَ قَبُولُهُ الْهِبَةَ وَمَا بِهِ تَتِمُّ، وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ نَظِيرُ الشَّرْطَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ، إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ «١».
وَإِذَا اجْتَمَعَ شَرْطَانِ، فَالثَّانِي شَرْطٌ فِي الْأَوَّلِ، مُتَأَخِّرٌ فِي اللَّفْظِ، مُتَقَدِّمٌ فِي الْوُقُوعِ، مَا لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ، نَحْوَ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ أَوْ طَلَّقْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ. وَاجْتِمَاعُ الشَّرْطَيْنِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي (شَرْحِ التَّسْهِيلِ)، فِي بَابِ الجوازم. وقرأ أبو
(١) سورة هود: ١١/ ٣٤.
492
حَيْوَةَ: وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ: أَيْ أَحْلَلْنَاهَا لَكَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِيسَى، وَسَلَامٌ: أَنْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: لِأَنْ وَهَبَتْ، وَذَلِكَ حُكْمٌ فِي امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، فَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَقِرَاءَةُ الْكَسْرِ اسْتِقْبَالٌ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَهَبُ نَفْسَهَا دُونَ وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِذْ وَهَبَتْ، إِذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى، فَهُوَ فِي امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا.
وَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي النَّبِيِّ، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: خالِصَةً لَكَ، لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ مِمَّا خُصَّ بِهِ وَأُوثِرَ. وَمَجِيئُهُ عَلَى لَفْظِ النَّبِيِّ، لِدَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ الِاخْتِصَاصَ تَكْرِمَةٌ لَهُ لِأَجْلِ النُّبُوَّةِ، وَتَكْرِيرُهُ تَفْخِيمٌ لَهُ وَتَقْرِيرٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْكَرَامَةَ لِنُبُوَّتِهِ. وَاسْتِنْكَاحُهَا: طَلَبُ نِكَاحِهَا وَالرَّغْبَةُ فِيهِ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ التَّزْوِيجَ لَا يَجُوزُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَلَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: يَجُوزُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ لِقَوْلِهِ: اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ، وَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ: أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مُؤَقَّتٌ، وَعَقْدَ النِّكَاحِ مُؤَبَّدٌ، فَتَنَافَيَا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ إِلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إِذَا وُهِبَتْ، فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَهْرٍ، لِأَنَّ رَسُولَ الله وَأُمَّتَهُ سَوَاءٌ فِي الْأَحْكَامِ، إِلَّا فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ:
أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خُصَّ بِمَعْنَى الْهِبَةِ وَلَفْظُهَا جَمِيعًا، لِأَنَّ اللَّفْظَ تَابِعٌ لِلْمَعْنَى، وَالْمُدَّعِي لِلِاشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خالِصَةً، بِالنَّصْبِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، كَ وَعَدَ اللَّهُ «١»، وصِبْغَةَ اللَّهِ «٢»، أَيْ أَخْلَصَ لَكَ إِخْلَاصًا. أَحْلَلْنا لَكَ، خالِصَةً بِمَعْنَى خُلُوصًا، وَيَجِيءُ الْمَصْدَرُ عَلَى فَاعِلٍ وَعَلَى فَاعِلَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَالْفَاعِلُ وَالْفَاعِلَةُ فِي الْمَصَادِرِ عَلَى غَيْرِ عَزِيزِينِ، كَالْخَارِجِ وَالْقَاعِدِ وَالْعَاقِبَةِ وَالْكَاذِبَةِ.
انْتَهَى، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ هُمَا عَزِيزَانِ، وَتَمْثِيلُهُ كَالْخَارِجِ يُشِيرُ إِلَى قول الفرزدق:
ولا خارج مِنْ فِيَّ زُورُ كَلَامٍ وَالْقَاعِدُ إِلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ:
أَقَاعِدًا وَقَدْ سَارَ الرَّكْبُ وَالْكَاذِبَةُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ «٣». وَقَدْ تُتَأَوَّلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَصَادِرَ. وَقُرِئَ: خَالِصَةٌ، بِالرَّفْعِ، فَمَنْ جَعَلَهُ مَصْدَرًا، قَدَّرَهُ ذَلِكَ خُلُوصٌ لَكَ، وَخُلُوصٌ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: خالِصَةً لَكَ مِنْ صِفَةِ الْوَاهِبَةِ نَفْسَهَا لك، فقراءة
(١) سورة النساء: ٤/ ١٢٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٣٨.
(٣) سورة الواقعة: ٥٦/ ٢.
493
النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَيْ أَحْلَلْنَاهَا خَالِصَةً لَكَ، وَالرَّفْعُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ: أَيْ هِيَ خَالِصَةٌ لَكَ، أَيْ هِبَةُ النِّسَاءِ أَنْفُسَهُنَّ مُخْتَصٌّ بِكَ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَهَبَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِغَيْرِكَ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِغَيْرِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامٍ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: خالِصَةً لَكَ يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَصَرُوا عَلَى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي أَثَرِ الْإِحْلَالَاتِ الْأَرْبَعِ مَخْصُوصَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لَهَا قَوْلُهُ: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ مُتَّصِلٌ بِ خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَزْوَاجِ الْإِمَاءِ، وَعَلَى أَيِّ حَدٍّ وَصَفَهُ يَجِبُ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمْ، فَفَرَضَهُ وَعَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي اخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اخْتَصَّهُ بِهِ، فَفَعَلَ.
وَمَعْنَى لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ: أَيْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ ضِيقٌ فِي دِينِكَ، حَيْثُ اخْتَصَصْنَاكَ بِالتَّنْزِيهِ، وَاخْتِصَاصُ مَا هُوَ أَوْلَى وَأَفْضَلُ فِي دُنْيَاكَ، حَيْثُ أَحْلَلْنَا لَكَ أَجْنَاسَ الْمَنْكُوحَاتِ، وَزِدْنَاكَ الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا وَمَنْ جَعَلَ خَالِصَةً نَعْتًا لِلْمَرْأَةِ، فَعَلَى مَذْهَبِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ خَالِصَةٌ لَكَ مِنْ دُونِهِمْ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِكَيْلا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِكَيْلا يَكُونَ، أَيْ بَيَّنَّا هَذَا الْبَيَانَ وَشَرَحْنَا هَذَا الشَّرْحَ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ، وَيُظَنُّ بِكَ أَنَّكَ قَدْ أَثِمْتَ عِنْدَ رَبِّكَ، ثُمَّ آنَسَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ بِغُفْرَانِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَفُوراً لِلْوَاقِعِ فِي الْحَرَجِ إِذَا تَابَ، رَحِيماً بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى عِبَادِهِ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ، مَعْنَاهُ: أَنَّ مَا ذَكَرْنَا فَرْضُكَ وَحُكْمُكَ مَعَ نِسَائِكَ، وَأَمَّا حُكْمُ أُمَّتِكَ فَعِنْدَنَا عِلْمُهُ، وَسَنُبَيِّنُهُ لَهُمْ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِئَلَّا يَحْمِلَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْسَهُ عَلَى مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ لَهُ فِي النِّكَاحِ وَالتَّسَرِّي خَصَائِصَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ، هُوَ أَنْ لَا يُجَاوِزُوا أَرْبَعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ وَالْمَهْرُ. وَقِيلَ: مَا فَرَضْنَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ.
وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، قِيلَ: لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ يَجُوزُ سَبْيُهَا. وَقِيلَ: مَا أَبَحْنَا لَهُمْ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ مَعَ الْأَرْبَعِ الْحَرَائِرِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَالْمَعْنَى: قَدْ عَلِمْنَا إِصْلَاحَ كُلٍّ مِنْكَ وَمِنْ أُمَّتِكَ، وَمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَكَ وَلَهُمْ، فَشَرَعْنَا فِي حَقِّكَ وَحَقِّهِمْ عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمْنَا.
رُوِيَ أَنَّ أَزْوَاجَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَغَايَرْنَ وَابْتَغَيْنَ زِيَادَةَ النَّفَقَةِ، فَهَجَرَهُنَّ شَهْرًا، وَنَزَلَ
494
التَّخْيِيرُ، فَأَشْفَقْنَ أَنْ يُطَلَّقْنَ فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، افْرِضْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ وَمَالِكَ مَا شِئْتَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى تُرْجِي فِي قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ «١»، فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهُنَّ عَائِدٌ عَلَى أَزْوَاجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْإِرْجَاءُ: الْإِيوَاءُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: فِي طَلَاقٍ مِمَّنْ تَشَاءُ مِمَّنْ حَصَلَ فِي عِصْمَتِكَ، وَإِمْسَاكِ مَنْ تَشَاءُ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: فِي تَزَوُّجِ مَنْ تَشَاءُ مِنَ الْوَاهِبَاتِ، وَتَأْخِيرِ مَنْ تَشَاءُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: وَتُقَرِّرُ مَنْ شِئْتَ فِي الْقِسْمَةِ لَهَا، وَتُؤَخِّرُ عَنْكَ مَنْ شِئْتَ، وَتُقَلِّلُ لِمَنْ شِئْتَ، وَتُكْثِرُ لِمَنْ شِئْتَ، لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْنَ أَنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَقَضَاؤُهُ، زَالَتِ الْإِحْنَةُ وَالْغَيْرَةُ عَنْهُنَّ وَرَضِينَ وَقَرَّتْ أَعْيُنُهُنَّ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهُ.
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ: أَيْ وَمَنْ طَلَبْتَهَا مِنَ الْمَعْزُولَاتِ وَمِنَ الْمُفْرَدَاتِ، فَلا جُناحَ عَلَيْكَ فِي رَدِّهَا وَإِيوَائِهَا إِلَيْكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَوْكِيدًا لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ وَمَنْ عَزَلْتَ سَوَاءٌ، لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ. كَمَا تَقُولُ: مَنْ لَقِيَكَ مِمَّنْ لَمْ يَلْقَكَ، جَمِيعُهُمْ لَكَ شَاكِرٌ، تُرِيدُ مَنْ لَقِيَكَ وَمَنْ لَمْ يَلْقَكَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ حَذْفٌ الْمَعْطُوفِ، وَغَرَابَةٌ فِي الدَّلَالَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا التَّرْكِيبِ، وَالرَّاجِحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وقال الحسن: المعنى: من مَاتَ مِنْ نِسَائِكَ اللَّوَاتِي عِنْدَكَ، أَوْ خَلَّيْتَ سَبِيلَهَا، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَنْ تَسْتَبْدِلَ عِوَضَهَا مِنَ اللَّاتِي أَحْلَلْتُ لَكَ، فَلَا تَزْدَادُ عَلَى عِدَّةِ نِسَائِكَ اللَّاتِي عِنْدَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَعْنَى تَتْرُكُ مَضَاجِعَ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُضَاجِعُ مَنْ تَشَاءُ، أَوْ تُطَلِّقُ مَنْ تَشَاءُ وَتُمْسِكُ مَنْ تَشَاءُ، أَوْ لَا تُقَسِّمُ لِأَيَّتِهِنَّ شِئْتَ وَتَقْسِمُ لِمَنْ شِئْتَ، أَوْ تَتْرُكُ مَنْ تَشَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ وَتَتَزَوَّجُ مَنْ شِئْتَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ امْرَأَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا حَتَّى يَدَعَهَا، وَهَذِهِ قِسْمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا هُوَ الْغَرَضُ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ، وَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ. فَإِذَا أَمْسَكَ ضَاجَعَ، أَوْ تَرَكَ وَقَسَمَ، أَوْ لَمْ يَقْسِمْ. وَإِذَا طَلَّقَ وَعَزَلَ، فَإِمَّا أَنْ يُخَلِّيَ الْمَعْزُولَةَ لَا يَتْبَعُهَا، أَوْ يَتْبَعُهَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَرْجَأَ مِنْهُنَّ: سَوْدَةَ، وَجُوَيْرِيَّةَ، وَصَفِيَّةَ، وَمَيْمُونَةَ، وَأُمَّ حَبِيبَةَ. فَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ مَا شَاءَ كَمَا شَاءَ، وَكَانَتْ مِمَّنْ أَوَى إِلَيْهِ: عائشة، وحفصة، وأم سملة، وَزَيْنَبُ، أَرْجَأَ خَمْسًا وَأَوَى أَرْبَعًا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ مَعَ مَا أُطْلِقَ لَهُ وَخُيِّرَ فِيهِ إِلَّا سَوْدَةَ، فَإِنَّهَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِعَائِشَةَ وَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي حَتَّى أُحْشَرَ فِي زُمْرَةِ نِسَائِكَ.
انْتَهَى. ذَلِكَ التَّفْوِيضُ إِلَى مَشِيئَتِكَ أَدْنَى إِلَى قُرَّةِ عُيُونِهِنَّ وَانْتِفَاءِ حزنهن ووجود رضاهن،
(١) سورة براءة (التوبة) : ٩/ ١٠٦.
495
إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ التَّفْوِيضَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَحَالَةُ كُلٍّ مِنْهُنَّ كَحَالَةِ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنْ قَرَّتِ الْعَيْنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: يُقِرَّ مِنْ أَقَرَّ أَعْيُنَهُنَّ بِالنَّصْبِ، وَفَاعِلُ تُقِرَّ ضَمِيرُ الْخِطَابِ، أَيْ أَنْتَ. وَقُرِئَ: تُقَرَّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَأَعْيُنُهُنَّ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُلُّهُنَّ بِالرَّفْعِ، تَأْكِيدًا لِنُونِ يَرْضَيْنَ وَأَبُو إياس حوبة بن عائد: بِالنَّصْبِ تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ النَّصْبِ فِي آتَيْتَهُنَّ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ: عَامٌّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِشَارَةُ به هاهنا إِلَى مَا فِي قَلْبِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَحَبَّةِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعُبَيْدَةُ: مَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْهُنَّ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَفَوَّضَ إِلَى مَشِيئَةِ رَسُولِهِ، وَبَعَثَ عَلَى تَوَاطُؤِ قُلُوبِهِنَّ، وَالتَّصَافِي بَيْنَهُنَّ، وَالتَّوَافُقِ عَلَى طَلَبِ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا فِيهِ طِيبُ نَفْسِهِ. انْتَهَى.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ، حَلِيماً: يَصْفَحُ عَمَّا يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْمَسْئُولِ، إِذْ هِيَ مِمَّا لَا يَمْلِكُ غَالِبًا.
وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَهُنَّ فِي الْقِسْمَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ شَيْئًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ، ضَبْطًا لِنَفْسِهِ وَأَخْذًا بِالْفَضْلِ، غَيْرَ مَا جَرَى لِسَوْدَةَ
مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَمَاعَةٍ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. ومن بَعْدُ الْمَحْذُوفُ مِنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقَالَ أُبَيٌّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ: وَمِنْ بَعْدِ اللَّوَاتِي أَحْلَلْنَا لَكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ. فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لَا تَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ النِّسَاءِ اللَّاتِي نُصَّ عَلَيْهِنَّ أَنَّهُنَّ يَحْلِلْنَ لَكَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ: لَا أَعْرَابِيَّةً، وَلَا عَرَبِيَّةً، وَلَا كِتَابِيَّةً، وَلَا أَمَةً بِنِكَاحٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: مِنْ بَعْدُ، لِأَنَّ التِّسْعَ نصاب رسول الله مِنَ الْأَزْوَاجِ، كَمَا أَنَّ الْأَرْبَعَ نِصَابُ أُمَّتِهِ مِنْهُنَّ. قَالَ: لَمَّا خُيِّرْنَ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، جَازَاهُنَّ اللَّهُ أَنْ حَظَرَ عَلَيْهِ النِّسَاءَ غَيْرَهُنَّ وَتَبْدِيلَهُنَّ، وَنَسَخَ بِذَلِكَ مَا أَبَاحَهُ لَهُ قَبْلُ مِنَ التَّوْسِعَةِ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: مِنْ بَعْدُ، أَيْ مِنْ بَعْدِ إِبَاحَةِ النِّسَاءِ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَا تَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ غَيْرُ الْمُسْلِمَاتِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ. وَكَذَلِكَ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ: أَيْ بِالْمُسْلِمَاتِ مِنْ أَزْوَاجٍ يَهُودِيَّاتٍ وَنَصْرَانِيَّاتٍ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ، هُوَ مِنَ الْبَدَلِ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. كَانَ يَقُولُ الرَّجُلُ: بَادِلْنِي بِامْرَأَتِكَ وَأُبَادِلُكَ بِامْرَأَتِي، فَيَنْزِلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ امْرَأَتِهِ لِلْآخَرِ. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَمَا فَعَلَتِ الْعَرَبُ قَطُّ هَذَا. وَمَا
496
رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ. مَنْ هَذِهِ الْحُمَيْرَاءُ؟ فَقَالَ: «عَائِشَةُ»، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ شِئْتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَرَبِ جَمَالًا وَنَسَبًا
، فَلَيْسَ بِتَبْدِيلٍ، وَلَا أَرَادَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا احْتَقَرَ عَائِشَةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ صَبِيَّةً. وَمِنْ فِي مِنْ أَزْواجٍ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَفَائِدَتُهُ اسْتِغْرَاقُ جِنْسِ الْأَزْوَاجِ بِالتَّحْرِيمِ. وَقِيلَ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي النَّاسِخِ فَقِيلَ: بِالسُّنَّةِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا مَاتَ حَتَّى حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ
، وَقِيلَ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الْآيَةَ. قَالَ هِبَةُ اللَّهِ الضَّرِيرُ:
فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَاسِخٌ تَقَدَّمَ الْمَنْسُوخَ سِوَى هَذَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَلَامُهُ يَضْعُفُ مِنْ جِهَاتٍ. انْتَهَى. وَقِيلَ: قَوْلُهُ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الْآيَةَ، فَتَرْتِيبُ النُّزُولِ لَيْسَ عَلَى تَرْتِيبِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلَانِ:
إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.
وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ، قِيلَ: مِنْهُنَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ، امْرَأَةُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَالْجُمْلَةُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي تَبَدَّلَ، لَا مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَزْواجٍ، لِأَنَّهُ مُوغِلٌ فِي التَّنْكِيرِ، وَتَقْدِيرُهُ:
مَفْرُوضًا إِعْجَابُكَ لَهُنَّ وَتَقَدَّمَ لَنَا فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَوْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّبَدُّلَ، وَهِيَ حَالَةُ الْإِعْجَابِ بِالْحُسْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا اللَّفْظِ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ، دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إِلَى مَنْ يُرِيدُ زَوَاجَهَا. انْتَهَى. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ.
إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ: أَيْ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَكَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً وَاقِعَةً عَلَى الْجِنْسِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ، يُخْتَارُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ النِّسَاءُ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنَّ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً، فَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَوَّلِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مِلْكُ الْيَمِينِ، وَمِلْكُ بِمَعْنَى:
مَمْلُوكٍ، فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى مَمْلُوكٍ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْمَصْدَرِ، فَيَكُونُ الرَّفْعُ هُوَ أَرْجَحُ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يَتَحَتَّمُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً، بَلِ الْحِجَازُ تَنْصِبُ وَتَمِيمٌ تُبْدِلُ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى، يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ النَّصْبُ مُتَحَتِّمًا حَيْثُ كَانَ الْمُسْتَثْنَى لَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ
497
عَلَيْهِ نَحْوُ: مَا زَادَ الْمَالَ إِلَّا النَّقْصُ، فَلَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّقْصِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ:
اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: بِمَعْنَى مَمْلُوكٍ فَنَاقَضَ. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً: أَيْ رَاقِبًا، أَوْ مُرَاقِبًا، وَمَعْنَاهُ: حَافِظٌ وَشَاهِدٌ وَمُطَّلِعٌ، وَهُوَ تَحْذِيرٌ عَنْ مُجَاوَزَةِ حُدُودِهِ وَتَخَطِّي حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً، إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.
فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، وَقَامَ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ قَامَ، وَقَعَدَ ثَلَاثَةٌ، فَجَاءَ فَدَخَلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، فَرَجَعَ وَأَنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا، وَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، وَذَهَبْتُ أَدْخُلُ، فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ نَاسٌ يَتَحَيَّنُونَ طَعَامَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ قَبْلَ الطَّعَامِ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ، وَكَانَ يَتَأَذَّى بِهِمْ، فَنَزَلَتْ.
وَأَمَّا سَبَبُ الْحِجَابِ،
فَعُمَرُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إن نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَارُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَعِمَ مَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَمَعَهُمْ عَائِشَةُ، فَمَسَّتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَ عَائِشَةَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ.
وَلَمَّا كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ، لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ كَانَ عَنْ إِذْنٍ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، بل لَا يَجُوزُ دُخُولُ بُيُوتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا بِإِذْنٍ، سَوَاءٌ كَانَ لِطَعَامٍ أَمْ لِغَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ النَّهْيُ إِلَّا بِإِذْنٍ إِلَى طَعَامٍ، وَهُوَ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِجِهَةِ الْأَوْلَى. وبُيُوتَ: جَمْعٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ فِي
498
بَيْتٍ وَاحِدٍ خَاصٍّ يَعُمُّ جميع بيوته. وإِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ فِي مَعْنَى الظَّرْفِ تَقْدِيرُهُ: وَقْتَ أن يؤذن لكم، وغَيْرَ ناظِرِينَ: حَالٌ مِنْ لَا تَدْخُلُوا، أَوْقَعَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْوَقْتِ وَالْحَالِ مَعًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا وَقْتَ الْإِذْنِ، وَلَا تَدْخُلُوهَا إِلَّا غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ فِي مَعْنَى الظَّرْفِ وَتَقْدِيرُهُ:
وَقْتَ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَأَنَّهُ أَوْقَعَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْوَقْتِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ لَا تَكُونُ فِي مَعْنَى الظَّرْفِ. تَقُولُ: أَجِيئُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ وَقُدُومَ الْحَاجِّ، وَلَا يَجُوزُ: أَجِيئُكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ وَلَا أَنْ يَقْدِمَ الْحَاجُّ. وَإِمَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ عَلَى الْوَقْتِ وَالْحَالِ مَعًا، فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَقَعُ بَعْدُ إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا الْمُسْتَثْنَى، أَوِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ صِفَةُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ: وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، أَجَازَا:
مَا ذَهَبَ الْقَوْمُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمْعَةِ رَاحِلِينَ عَنَّا، فَيَجُوزُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْحَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِلَّا بِأَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ «١»، أَوْ لِلْحَالِ، أَيْ مَصْحُوبِينَ بِالْإِذْنِ. وَأَمَّا غَيْرَ ناظِرِينَ، كَمَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «٢». أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، دَلَّ عَلَيْهِ لَا تَدْخُلُوا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَرْسَلْنَاهُمْ قَوْلُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا. وَمَعْنَى غَيْرَ ناظِرِينَ فَحَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ادْخُلُوا بِالْإِذْنِ غَيْرَ نَاظِرِينَ. كَمَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ، أَيْ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ وَقْتَهُ، أَيْ وَقْتَ اسْتِوَائِهِ وَتَهْيِئَتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غَيْرَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالْكَسْرِ، صِفَةً لِطَعَامٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ، لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ، فَمِنْ حَقِّ ضَمِيرِ مَا هُوَ لَهُ أن يبرز من إِلَى اللَّفْظِ، فَيُقَالُ: غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ أَنْتُمْ، كَقَوْلِهِ: هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارَبَتْهُ هِيَ. انْتَهَى. وَحَذْفُ هَذَا الضَّمِيرِ جائز عند الْكُوفِيِّينَ إِذَا لَمْ يُلْبِسْ وَأَنَى الطَّعَامِ إِدْرَاكُهُ، يُقَالُ: أَنَى الطَّعَامُ أَنًى، كَقَوْلِهِ: قَلَاهُ قَلًى، وَقِيلَ: وَقْتُهُ، أَيْ غَيْرَ نَاظِرِينَ سَاعَةَ أَكْلِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَاهُ مفردا والأعمش: إناءه، بِمَدَّةٍ بَعْدَ النُّونِ. وَرَتَّبَ تَعَالَى الدُّخُولَ عَلَى أَنْ يُدْعَوْا، فَلَا يُقَدِّمُونَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ حِينَ يُدْعَوْا، ثُمَّ أَمَرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِذَا طَعِمُوا. وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ: مَعْطُوفٌ عَلَى ناظِرِينَ، فَهُوَ مَجْرُورٌ أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى غَيْرَ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ، أَيْ لَا تَدْخُلُوهَا لَا نَاظِرِينَ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ. وَقِيلَ: ثَمَّ حَالٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ لَا تَدْخُلُوهَا أَجْمَعِينَ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ، فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ. وَاللَّامُ فِي لِحَدِيثٍ إِمَّا لَامُ الْعِلَّةِ، نُهُوا أَنْ يُطِيلُوا الْجُلُوسَ يَسْتَأْنِسُ
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٥٧.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٤، وسورة النحل: ١٦/ ٤٤.
499
بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لِأَجْلِ حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ، بِهِ أَوِ اللَّامُ الْمُقَوِّيَةُ لِطَلَبِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ، فَنُهُوا أَنْ يَسْتَأْنِسُوا حَدِيثَ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَاسْتِئْنَاسُهُ: تَسَمُّعُهُ وَتَوَحُّشُهُ.
إِنَّ ذلِكُمْ: أَيِ انْتِظَارَكُمْ وَاسْتِئْنَاسَكُمْ، يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ: أَيْ مِنْ إِنْهَاضِكُمْ مِنَ الْبُيُوتِ، أَوْ مِنْ إِخْرَاجِكُمْ مِنْهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ:
يَعْنِي أَنَّ إِخْرَاجَكُمْ حَقٌّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْحَيَاءُ مِمَّا يمنع الحي مِنْ بَعْضِ الْأَفْعَالِ، قِيلَ: لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ بِمَعْنَى: لَا يَمْتَنِعُ، وَجَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ. وَعَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: حَسْبُكَ فِي الثُّقَلَاءِ، أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْتَمِلْهُمْ. وَقُرِئَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنَ يَدَيْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ فَقَالَ: هُنَا أَدَبٌ أَدَّبَ اللَّهُ بِهِ الثُّقَلَاءَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: فيستحيي بكسر الحاء، مضارع استحا، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ.
وَاخْتَلَفُوا مَا الْمَحْذُوفُ، أَعَيْنُ الْكَلِمَةِ أَمْ لَامُهَا؟ فَإِنْ كَانَ الْعَيْنَ فَوَزْنُهَا يَسْتَفِلُ، وَإِنْ كَانَ اللَّامَ فَوَزْنُهَا يَسْتَفِعُ، وَالتَّرْجِيحُ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِيَاءَيْنِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، وَالْمَتَاعُ عَامٌّ فِي مَا يُمْكِنُ أَنْ يُطْلَبَ عَلَى عُرْفِ السُّكْنَى وَالْمُجَاوَرَةِ مِنَ الْمَوَاعِينِ وَسَائِرِ الْمَرَافِقِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا. ذلِكُمْ، أَيِ السُّؤَالُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، أَطْهَرُ: يُرِيدُ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَخْطُرُ لِلرِّجَالِ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءِ فِي أَمْرِ الرِّجَالِ، إِذِ الرُّؤْيَةُ سَبَبُ التَّعَلُّقِ وَالْفِتْنَةِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَالْمَرْءُ مَا دَامَ ذاعين يُقَلِّبُهَا فِي أَعْيُنِ الْعِينِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا سَاءَ مُهْجَتَهُ لَا مَرْحَبًا بِانْتِفَاعٍ جَاءَ بِالضَّرَرِ
وَذُكِرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: أَنُنْهَى أَنْ نُكَلِّمَ بَنَاتِ عَمِّنَا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ؟ لَئِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ لَأَتَزَوَّجَنَّ فُلَانَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَبَعْضُ الصَّحَابَةِ: وَفُلَانَةُ عَائِشَةُ. وَحَكَى مَكِّيٌّ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ عَلَى طَلْحَةَ فَإِنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ مِنْهُ. وَفِي التَّحْرِيرِ أَنَّهُ طَلْحَةُ، فَنَزَلَتْ: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، فَتَابَ وَأَعْتَقَ رَقَبَةً، وَحَمَلَ عَلَى عَشَرَةِ أَبْعِرَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَحَجَّ مَاشِيًا.
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: حِينَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُمَّ سَلَمَةَ بَعْدَهُ، أَيْ بَعْدَ سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ بَعْدَ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ: مَا بَالُ مُحَمَّدٍ يَتَزَوَّجُ نِسَاءَنَا؟ وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ لَأَجَلْنَا السِّهَامَ عَلَى نِسَائِهِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ ثُمَّ رَجَعَتْ، تَزَوَّجَ عكرمة ابن أَبِي جَهْلٍ قُتَيْلَةَ بِنْتَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا.
فَصَعُبَ ذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَلِقَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مهلا يا خليفة يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ
500
نِسَائِهِ، إِنَّهُ لَمْ يَبْنِ بِهَا، وَلَا أَرْخَى عَلَيْهَا حِجَابًا، وَقَدْ أَبَانَتْهَا مِنْهُ رِدَّتُهَا مَعَ قَوْمِهَا. فَسَكَنَ أَبُو بَكْرٍ، وَذَهَبَ عُمَرُ إِلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ جِنَازَةَ زَيْنَبَ إِلَّا ذُو مَحْرَمٍ عَنْهَا، مُرَاعَاةً لِلْحِجَابِ، فَدَلَّتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ عَلَى سَتْرِهَا فِي النَّعْشِ فِي الْقُبَّةِ، وَأَعْلَمَتْهُ أَنَّهَا رَأَتْ ذَلِكَ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ، وَمَنَعَهُ عُمَرُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ صُنِعَ ذَلِكَ فِي جِنَازَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ: عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُتَأَذَّى بِهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا:
خَاصٌّ بَعْدَ عَامٍّ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَعْظَمَ الْأَذَى، فَحَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَ أَزْوَاجِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. إِنَّ ذلِكُمْ: أَيْ إِذَايَتَهُ وَنِكَاحَ أَزْوَاجِهِ، كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً: وَهَذَا مِنْ إِعْلَامِ تَعْظِيمِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، وَإِيجَابِهِ حُرْمَتَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَإِعْلَامِهِ بِذَلِكَ مِمَّا طَيَّبَ بِهِ نَفْسَهُ، فَإِنَّ نَحْوَ هَذَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تُفْرِطُ غَيْرَتُهُ عَلَى حُرْمَتِهِ حَتَّى يَتَمَنَّى لَهَا الْمَوْتَ، لِئَلَّا تُنْكَحَ مِنْ بَعْدِهِ، وَخُصُوصًا الْعَرَبَ، فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ غَيْرَةً. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ أن بعض الفتيان قبّل جَارِيَةً كَانَ يُحِبُّهَا فِي حِكَايَةٍ قَالَ: تَصَوُّرًا لِمَا عَسَى أَنْ يَتَّفِقَ مِنْ بَقَائِهَا بَعْدَهُ، وَحُصُولِهَا تَحْتَ يَدِ غَيْرِهِ. انْتَهَى. فَقَالَ لِمَا عَسَى، فَجَعَلَ عَسَى صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، وَقَدْ كَثُرَ مِنْهُ هَذَا وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَعَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ فِي هَدِيرِ الثُّلُثِ يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَةِ، فَعَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَمَلًا يُلَاحِظُ ذَلِكَ. إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ: وَعِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ التَّعَرُّضُ بِهِ فِي الْآيَةِ مِمَّنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ أَطْهَرُ، وَمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا، فَقِيلَ: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ، أَوْ تُخْفُوهُ فِي صُدُورِكُمْ، مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ، فَاللَّهُ يَعْلَمُهُ، فَيُجَازِي عَلَيْهِ. وَقَالَ: شَيْئاً، لِيَدْخُلَ فِيهِ مَا يُؤْذِيهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ نِكَاحِهِنَّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ صَالِحٌ لِكُلِّ بَادٍ وَخَافٍ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ قَالَ: الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ والأقارب، أو نحن يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْضًا، نُكَلِّمُهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَنَزَلَتْ
: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ: أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِنَّ. قَالَ قَتَادَةُ: فِي تَرْكِ الْحِجَابِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي وَضْعِ الْجِلْبَابِ وَإِبْدَاءِ الزِّينَةِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:
لَمْ يَذْكُرِ الْعَمَّ وَالْخَالَ، وَإِنْ كَانَا مِنَ الْمَحَارِمِ، لِئَلَّا يَصِفَا لِلْأَبْنَاءِ، وَلَيْسُوا مِنَ الْمَحَارِمِ. وَقَدْ كَرِهَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ أَنْ تَضَعَ الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا عِنْدَ عَمِّهَا أَوْ خَالِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْوَالِدَيْنِ، وَقَدْ جَاءَتْ تَسْمِيَةُ الْعَمِّ أَبًا. وَذُكِرَ هُنَا بَعْضُ الْمَحَارِمِ، وَالْجَمِيعُ فِي سُورَةِ النُّورِ. وَدَخَلَ فِي: وَلا نِسائِهِنَّ، الْأُمَّهَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَسَائِرُ الْقُرُبَاتِ، وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِنَّ مِنَ الْمُتَطَرِّفَاتِ لَهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ جَمِيعَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَتَخْصِيصُ الْإِضَافَةِ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَيْمَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَهْلِ دِينِهِنَّ، وَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ. وَالظَّاهِرُ
501
مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، دُخُولُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ دُونَ مَا مِلْكِ غَيْرِهِنَّ. وَقِيلَ:
مَخْصُوصٌ بِالْإِمَاءِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْعَبِيدِ مِمَّنْ فِي مُلْكِهِنَّ أَوْ مُلْكِ غَيْرِهِنَّ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يُبَاحُ لِعَبْدِهَا النَّظَرُ إِلَى مَا يُوَارِيهِ الدِّرْعُ مِنْ ظَاهِرِ بَدَنِهَا، وَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ الْمَكَاتَبِ مَا يُؤَدِّي، فَقَدْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبِ الْحِجَابِ دُونَهُ، وَفَعَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ مَعَ مُكَاتَبِهَا نَبْهَانَ.
وَاتَّقِينَ اللَّهَ: أَمْرٌ بِالتَّقْوَى وَخُرُوجٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، أَيْ وَاتَّقِينَ اللَّهَ فِيمَا أُمِرْتُنَّ بِهِ مِنَ الِاحْتِجَابِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ الْوَحْيَ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ جُمْلَةً حُذِفَتْ تَقْدِيرُهُ: اقْتَصِرْنَ عَلَى هَذَا، وَاتَّقِينَ اللَّهَ فِيهِ أَنْ تَتَعَدَّيْنَهُ إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ تَوَعَّدَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً، مِنَ السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَظَاهِرِ الْحِجَابِ وَبَاطِنِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
شَهِيداً: لَا تَتَفَاوَتُ الْأَحْوَالُ فِي عِلْمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَلائِكَتَهُ نَصْبًا وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: رَفْعًا. فَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ غَيْرَ الْفَرَّاءِ هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ إِنَّ، وَالْفَرَّاءُ يَشْتَرِطُ خَفَاءَ إِعْرَابِ اسْمِ إِنَّ. وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هُوَ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ، أَيْ يُصَلِّي عَلَى النبي، وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَيْفِيَّةِ اجْتِمَاعِ الصَّلَاتَيْنِ فِي قَوْلِهِ:
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ. فَالضَّمِيرُ فِي يُصَلُّونَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ يُصَلِّي وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ، فِرَارًا مِنَ اشْتِرَاكِ الضَّمِيرِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: سنة. وإذا كَانَتِ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً فَقِيلَ:
كُلَّمَا جَرَى ذِكْرُهُ قِيلَ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مَرَّةً. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ، كَمَا رَحِمْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةٌ وَنَقْصٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ في الَّذِينَ طَعَنُوا عَلَيْهِ حِينَ اتَّخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجًا.
انْتَهَى. وَالطَّعْنُ فِي تَأْمِيرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ إِيذَاءَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِيذَاءَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِعْلُ مَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَإِنْكَارُ النُّبُوَّةِ وَمُخَالَفَةُ الشَّرْعِ، وَمَا يُصِيبُونَ بِهِ الرَّسُولَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى. وَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَذَى حَقِيقَةً فِي حَقِّ اللَّهِ، فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ، وَقِيلَ: فِي أَذَى
502
اللَّهِ، هُوَ قَوْلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ «١»، وثالِثُ ثَلاثَةٍ «٢»، والْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «٣»، والملائكة بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْأَصْنَامُ شُرَكَاؤُهُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ:
فِعْلُ أَصْحَابِ التَّصَاوِيرِ الَّذِينَ يُزَوِّرُونَ خَلْقًا مِثْلَ خَلْقِ اللَّهِ، وَقِيلَ: فِي أَذَى رَسُولِ اللَّهِ قَوْلُهُمْ: سَاحِرٌ شَاعِرٌ كَاهِنٌ مَجْنُونٌ، وَقِيلَ: كَسْرُ رَبَاعِيَتِهِ وَشَجُّ وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَأَطْلَقَ إِيذَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، لِأَنَّ إِيذَاءَهُمَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ حَقٍّ، بِخِلَافِ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِ، فَقَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ. وَمَعْنَى بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا: بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَاسْتِحْقَاقِ أَذًى.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يُؤْذُونَ عَلِيًّا، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَيُسْمِعُونَهُ
وَقِيلَ: فِي الَّذِينَ أَفِكُوا عَلَى عَائِشَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ: فِي زُنَاةٍ كَانُوا يَتْبَعُونَ النِّسَاءَ وَهُنَّ كَارِهَاتٌ وَقِيلَ: فِي عُمَرَ، رَأَى مِنَ الرِّيبَةِ عَلَى جَارِيَةٍ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ مَا كَرِهَ، فَضَرَبَهَا، فأذوي أَهْلُ عُمَرَ بِاللِّسَانِ، فَنَزَلَتْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَوْمًا لِأُبَيٍّ: قَرَأْتُ الْبَارِحَةَ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ فَفَزِعْتُ مِنْهَا، وَإِنِّي لَأَضْرِبُهُمْ وَأَنْهَرُهُمْ، فَقَالَ لَهُ: لَسْتَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ وَمُقَوِّمٌ.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا، مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً، إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً، خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا، وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً، إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها
(١) سورة المائدة: ٥/ ٦٤.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٧٣.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٣٠.
503
وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
كَانَ دَأْبُ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ تَخْرُجَ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ مَكْشُوفَتَيِ الْوَجْهِ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ، وَكَانَ الزُّنَاةُ يَتَعَرَّضُونَ إِذَا خَرَجْنَ بِاللَّيْلِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِنَّ فِي النَّخِيلِ وَالْغِيطَانِ لِلْإِمَاءِ، وَرُبَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْحُرَّةِ بِعِلَّةِ الْأَمَةِ، يَقُولُونَ: حَسِبْنَاهَا أَمَةً، فَأُمِرْنَ أَنْ يُخَالِفْنَ بِزِيِّهِنَّ عَنْ زِيِّ الْإِمَاءِ، بِلُبْسِ الْأَرْدِيَةِ والملاحف، وستر الرؤوس وَالْوُجُوهِ، لِيَحْتَشِمْنَ وَيُهَبْنَ، فَلَا يُطْمَعُ فِيهِنَّ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ قَوْمٌ يَجْلِسُونَ عَلَى الصُّعُدَاتِ لِرُؤْيَةِ النِّسَاءِ وَمُعَارَضَتِهِنَّ وَمُرَاوَدَتِهِنَّ، فَنَزَلَتْ.
قِيلَ: وَالْجَلَابِيبُ: الْأَرْدِيَةُ الَّتِي تَسْتُرُ مِنْ فَوْقَ إِلَى أَسْفَلَ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْمَقَانِعُ وَقِيلَ: الْمَلَاحِفُ، وَقِيلَ: الْجِلْبَابُ: كُلُّ ثَوْبٍ تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثِيَابِهَا، وَقِيلَ: كُلُّ مَا تَسْتَتِرُ بِهِ مِنْ كِسَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ:
تَجَلْبَبْتُ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ جِلْبَابًا وَقِيلَ: الْجِلْبَابُ أَكْبَرُ مِنَ الْخِمَارِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تُلْقِي جَانِبَ الْجِلْبَابِ عَلَى غَيْرِهَا ولا يرى. وقال أبو عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، حِينَ سُئِلَ عن ذلك فقال: أن تَضَعَ رِدَاءَهَا فَوْقَ الْحَاجِبِ، ثُمَّ تُدِيرُهُ حَتَّى تَضَعَهُ عَلَى أَنْفِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تُغَطِّي إِحْدَى عَيْنَيْهَا وَجَبْهَتَهَا وَالشِّقَّ الْآخَرَ إِلَّا الْعَيْنَ. انْتَهَى. وَكَذَا عَادَةُ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، لَا يَظْهَرُ مِنَ الْمَرْأَةِ إِلَّا عَيْنُهَا الْوَاحِدَةُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَتَقَنَّعْنَ بِمَلَاحِفِهِنَّ مُنْضَمَّةً عَلَيْهِنَّ، أَرَادَ بِالِانْضِمَامِ مَعْنَى: الْإِدْنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: وَذَلِكَ أَنْ تَلْوِيَهُ فَوْقَ الْجَبِينِ وَتَشُدَّهُ، ثُمَّ تَعْطِفَهُ عَلَى الْأَنْفِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ عَيْنَاهَا، لَكِنَّهُ يَسْتُرُ الصَّدْرَ وَمُعْظَمَ الْوَجْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يَشْمَلُ الْحَرَائِرَ وَالْإِمَاءَ، وَالْفِتْنَةُ بِالْإِمَاءِ أَكْثَرُ، لِكَثْرَةِ تَصَرُّفِهِنَّ بِخِلَافِ الْحَرَائِرِ، فَيَحْتَاجُ إِخْرَاجُهُنَّ مِنْ عُمُومِ النِّسَاءِ إلى دليل واضح. ومن فِي: مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ لِلتَّبْعِيضِ، وعَلَيْهِنَّ:
شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَجْسَادِهِنَّ، أَوْ عَلَيْهِنَّ: عَلَى وُجُوهِهِنَّ، لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَبْدُو مِنْهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ الْوَجْهُ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ: لِتَسَتُّرِهِنَّ بِالْعِفَّةِ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُنَّ، وَلَا يُلْقَيْنَ بِمَا يَكْرَهْنَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ فِي غَايَةِ التَّسَتُّرِ وَالِانْضِمَامِ، لَمْ يُقْدَمْ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْمُتَبَرِّجَةِ، فَإِنَّهَا مَطْمُوعٌ فِيهَا. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً: تَأْنِيسٌ لِلنِّسَاءِ فِي تَرْكِ الِاسْتِتَارِ قَبْلَ أَنْ يؤمر بِذَلِكَ.
504
وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالْمُجَاهِرَ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ حَالَ الْمُسِرِّ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُظْهِرُ الْحَقَّ وَيُضْمِرُ النِّفَاقَ. وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْذُونَ ثَلَاثَةً، بِاعْتِبَارِ إِذَايَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةً: مُنَافِقٌ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَمُرْجِفٌ. فَالْمُنَافِقُ يُؤْذِي سِرًّا، وَالثَّانِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ بِاتِّبَاعِ نِسَائِهِ، وَالثَّالِثُ يُرْجِفُ بِالرَّسُولِ، يَقُولُ: غُلِبَ، سَيُخْرَجُ مِنَ الْمَدِينَةِ، سَيُؤْخَذُ، هُزِمَتْ سَرَايَاهُ. وَظَاهِرُ الْعَطْفِ التَّغَايُرُ بِالشَّخْصِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ عَنْ عَدَاوَتِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، وَالْفَسَقَةُ عَنْ فُجُورِهِمْ، وَالْمُرْجِفُونَ عَمَّا يَقُولُونَ مِنْ أَخْبَارِ السُّوءِ وَيُشِيعُونَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّغَايُرُ بِالْوَصْفِ، فَيَكُونُ وَاحِدًا بِالشَّخْصِ ثَلَاثَةً بِالْوَصْفِ. كَمَا جَاءَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، فَذَكَرَ أَوْصَافًا عَشَرَةً، وَالْمَوْصُوفُ بِهَا وَاحِدٌ، وَنَصَّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِشِدَّةِ ضَرَرِهِمَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، هو العزل وحب الزنا، وَمِنْهُ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَرَضُ: النِّفَاقُ، وَمَنْ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ آذَوْا عُمَرَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْمُرْجِفُونَ: مُلْتَمِسُو الْفِتَنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الَّذِينَ يُؤْذُونَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيهَامِ الْقَتْلِ وَالْهَزِيمَةِ. لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: أَيْ لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَنَحْرُسُنَّكَ بِهِمْ.
ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها: أَيْ فِي الْمَدِينَةِ، وثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَنُغْرِيَنَّكَ، وَلَمْ يَكُنِ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ عَنِ الْإِغْرَاءِ، بَلْ كَوْنُهُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ أبلغ. وكان العطف بثم، لِأَنَّ الْجَلَاءَ عَنِ الْوَطَنِ كَانَ أَعْظَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمِيعِ مَا أُصِيبُوا بِهِ، فَتَرَاخَتْ حَالَةُ الْجَلَاءِ عَنْ حَالَةِ الْإِغْرَاءِ. إِلَّا قَلِيلًا: أَيْ جِوَارًا قَلِيلًا، أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا، أَوْ عَدَدًا قَلِيلًا، وَهَذَا الْأَخِيرُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَنْطُوقِ، وَهُوَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي يُجاوِرُونَكَ، أَوْ يَنْتَصِبُ قَلِيلًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ إِلَّا قَلِيلِينَ، وَالْأَوَّلُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ يُجاوِرُونَكَ، وَالثَّانِي مِنَ الزَّمَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِ يُجاوِرُونَكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُضْطَرُّونَ إِلَى طَلَبِ الْجَلَاءِ عَنِ الْمَدِينَةِ خَوْفَ الْقَتْلِ. وَانْتَصَبَ مَلْعُونِينَ عَلَى الذَّمِّ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَلِيلًا، قَالَ: هُوَ مِنْ إِقْلَاءِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ وَأَجَازَ هُوَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُجاوِرُونَكَ، قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ: يَنْتَفُونَ من المدينة ملعونين، فَلَا يُقَدِّرُ لَا يُجاوِرُونَكَ، فَقَدَّرَ يَنْتَفُونَ حَسَنٌ هَذَا. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْحَوْفِيُّ، وَتَبِعَهُمَا أَبُو الْبَقَاءِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي
505
لَا يُجاوِرُونَكَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا نَصُّهُ مَلْعُونِينَ، نُصِبَ عَلَى الشَّتْمِ أَوِ الْحَالِ، أَيْ لَا يُجَاوِرُونَكَ، إِلَّا مَلْعُونِينَ. دَخَلَ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الظَّرْفِ وَالْحَالِ مَعًا، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْتَصِبَ مِنْ أُخِذُوا، لِأَنَّ مَا بَعْدَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي مَجِيءِ الْحَالِ مِمَّا قبل إلا مذكورة بعد ما اسْتَثْنَى بِإِلَّا، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَبًّا عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ جُمْهُورَ الْبَصْرِيِّينَ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَجْوِيزُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، فَالْبَدَلُ بِالْمُشْتَقِّ قَلِيلٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: لِأَنَّ مَا بَعْدَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، فَلَيْسَ هَذَا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ شَيْئَانِ: فِعْلُ الشَّرْطِ وَالْجَوَابُ. فَأَمَّا فِعْلُ الشَّرْطِ، فَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَى الْكَلِمَةِ، أَجَازَ زَيْدٌ أَنْ يَضْرِبَ اضْرِبْهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ فَقَدْ أَجَازَ أَيْضًا تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ نَحْوُ: إِنْ يُقِمْ زَيْدٌ عَمْرًا يُضْرَبْ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى: أَيْنَما ثُقِفُوا: أُخِذُوا مَلْعُونِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَلْعُونِينَ صِفَةً لِقَلِيلٍ، أَيْ إِلَّا قَلِيلِينَ مَلْعُونِينَ، وَيَكُونُ قَلِيلًا مُسْتَثْنًى مِنَ الْوَاوِ فِي لَا يُجَاوِرُونَكَ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ صِفَةٌ أَيْضًا، أَيْ مَقْهُورِينَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِمْ. وَمَعْنَى ثُقِفُوا: حُصِرُوا وَظَفِرَ بِهِمْ، وَمَعْنَى أُخِذُوا: أُسِرُوا، وَالْأَخِيذُ: الْأَسِيرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُتِّلُوا، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَفِرْقَةٌ: بِتَخْفِيفِهَا، فَيَكُونُ تَقْتِيلًا مَصْدَرًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الْمَصْدَرِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ انْتَهَوْا عَمَّا كَانُوا يُؤْذُونَ بِهِ الرسول وَالْمُؤْمِنِينَ، وَتَسَتَّرَ جَمِيعُهُمْ، وَكَفُّوا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ مَا وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِغْرَاءُ وَالْجَلَاءُ وَالْأَخْذُ وَالْقَتْلُ.
وَقِيلَ: لَمْ يَمْتَثِلُوا لِلِانْتِهَاءِ جُمْلَةً، وَلَا نُفِّذَ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ كَامِلًا. أَلَا تَرَى إِلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَنَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ؟ وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْتَهِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ، وَلَمْ يُنَفِّذِ اللَّهُ الْوَعِيدَ عَلَيْهِمْ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِإِنْفَاذِ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ مَفْرُوضًا وَمَشْرُوطًا بِالْمَشِيئَةِ.
سُنَّةَ اللَّهِ: مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، أَيْ سَنَّ اللَّهُ فِي الَّذِينَ يُنَافِقُونَ الْأَنْبِيَاءَ أَنْ يُقْتَلُوا حَيْثُمَا ظُفِرَ بِهِمْ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: كَمَا قُتِلَ أَهْلُ بَدْرٍ وَأُسِرُوا، فَالَّذِينَ خَلَوْا يَشْمَلُ أَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نَافَقُوا، وَمَنْ قتل يوم بدر. يَسْئَلُكَ النَّاسُ: أَيِ الْمُشْرِكُونَ، عَنْ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، اسْتِعْجَالًا عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ، وَالْيَهُودُ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ، إِذْ كَانَتْ مُعَمًّى وَقْتُهَا فِي التَّوْرَاةِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِأَنْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، إِذْ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا مَلَكًا وَلَا نَبِيًّا. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ مُهَانُونَ مَقْتُولُونَ، بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَما يُدْرِيكَ:
506
مَا اسْتِفْهَامٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يُدْرِيكَ بِهَا؟ وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ مَا يُدْرِيكَ بِهَا أَحَدٌ. لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً: بَيَّنَ قُرْبَ السَّاعَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُمْتَحَنِ، وَتَهْدِيدٌ لِلْمُسْتَعْجِلِ. وَانْتَصَبَ قَرِيبًا عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ فِي زَمَانٍ قَرِيبٍ، إِذِ اسْتِعْمَالُهُ ظَرْفًا كَثِيرٌ، وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا غَيْرَ ظَرْفٍ، تَقُولُ: أَنَّ قَرِيبًا مِنْكَ زَيْدٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ شَيْئًا قَرِيبًا، أَوْ تَكُونَ السَّاعَةُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، فَذَكَّرَ قَرِيبًا عَلَى الْمَعْنَى. أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَعَلَّ قِيَامَ السَّاعَةِ، فَلُوحِظَ السَّاعَةُ فِي تَكُونُ فَأُنِّثَ، وَلُوحِظَ الْمُضَافُ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ قِيَامُ فِي قَرِيبًا فَذُكِّرَ.
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ يَوْمَ بِقَوْلِهِ: لَا يَجِدُونَ، وَيَكُونُ يَقُولُونَ اسْتِئْنَافٌ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ، أَوْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِمْ: وَلا نَصِيراً. وَيَنْتَصِبُ يَوْمَ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أي اذكر ويقولون حَالٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُقَلَّبُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالْحَسَنُ، وَعِيسَى، وأبو جعفر الرواسي: بِفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ تَتَقَلَّبُ وَحَكَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ: نُقَلِّبُ بِالنُّونِ، وُجُوهَهُمْ بِالنَّصْبِ.
وَحَكَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ أَيْضًا وَخَارِجَةَ. زَادَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَنَّهَا قِرَاءَةُ عِيسَى الْبَصْرِيِّ. وَقَرَأَ عِيسَى الْكُوفِيُّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ بَدَلَ النُّونِ تَاءٌ، وَفَاعِلُ تُقَلَّبُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى سَعِيراً، وَعَلَى جَهَنَّمَ أُسْنِدَ إِلَيْهِمَا اتِّسَاعًا. وَقِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ: تَتَقَلَّبُ بِتَاءَيْنِ، وَتَقْلِيبُ الْوُجُوهِ فِي النَّارِ: تَحَرُّكُهَا فِي الْجِهَاتِ، أَوْ تَغَيُّرُهَا عَنْ هَيْئَاتِهَا، أَوْ إِلْقَاؤُهَا فِي النَّارِ مَنْكُوسَةً.
وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْوَجْهُ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ، فَإِذَا قُلِّبَ فِي النَّارِ كَانَ تَقْلِيبُ مَا سِوَاهُ أَوْلَى. وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَتَمَنِّيهُمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ، وَتَشَكِّيهِمْ مِنْ كُبَرَائِهِمْ لَا يُجْدِي.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سادَتَنا، جَمْعًا عَلَى وَزْنِ فَعَلَاتٍ، أَصْلُهُ سُوَدَةٌ، وَهُوَ شَاذٌّ فِي جَمْعِ فَيْعِلٍ، فَإِنْ جُعِلَتْ جَمْعَ سَائِدٍ قَرُبَ مِنَ الْقِيَاسِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّلَمِيُّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْعَامَّةُ فِي الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ: سَادَاتِنَا عَلَى الْجَمْعِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَهُوَ لَا يَنْقَاسُ، كَسُوقَاتِ وَمُوَالِيَاتِ بَنِي هَاشِمٍ وَسَادَتُهُمْ، رُؤَسَاءُ الْكُفْرِ الَّذِينَ لَقَّنُوهُمُ الْكُفْرَ وَزَيَّنُوهُ لَهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: سَادَتُنَا: رُؤَسَاؤُنَا. وَقَالَ طَاوُسٌ: أَشْرَافُنَا وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: أُمَرَاؤُنَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَسَلْسَلَ قَوْمٌ سَادَةٌ ثُمَّ زَادَةٌ يُبْدُونَ أَهْلَ الْجَمْعِ يَوْمَ الْمُحَصَّبِ
وَيُقَالُ: ضَلَّ السَّبِيلَ، وَضَلَّ عَنِ السَّبِيلِ. فَإِذَا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ تَعَدَّى لِاثْنَيْنِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلِفِ في الرسولا والسبيلا فِي قَوْلِهِ: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.
507
وَلَمَّا لَمْ يُجْدِ تَمَنِّيهِمُ الْإِيمَانَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا قَامَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي تَشَكِّيهِمْ مِمَّنْ أَضَلَّهُمْ، دَعَوْا عَلَى سَادَاتِهِمْ. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ: ضِعْفًا عَلَى ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَضِعْفًا عَلَى إِضْلَالِ مَنْ أَضَلُّوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَثِيرًا بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ. وَقَرَأَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَالْأَعْرَجُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِالْبَاءِ. كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ، وَمَا سُمِعَ فِيهِ مِنْ قَالَةِ بَعْضِ النَّاسِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَدِيثُ الْإِفْكِ عَلَى أَنَّهُ مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتَ.
وَفِي حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لِقَسْمٍ قسمه رسول الله: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَغَضِبَ وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَخِي مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ. وَإِذَايَةُ مُوسَى قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ أَبْرَصُ وَآدَرُ، وَأَنَّهُ حَسَدَ أَخَاهُ هَارُونَ وَقَتَلَهُ.
أَوْ حَدِيثُ الْمُومِسَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِأَنْ تَقُولَ: إِنَّ مُوسَى زَنَى بِهَا، أَوْ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَالْجُنُونِ، أَقْوَالٌ.
مِمَّا قالُوا: أَيْ مِنْ وَصْمِ مَا قَالُوا، وما مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ: الظرف معمول لوجيها، أَيْ ذَا وَجْهٍ وَمَنْزِلَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، تُمِيطُ عَنْهُ الْأَذَى وَتَدْفَعُ التُّهَمَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَيْوَةَ: عَبْدٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، لِلَّهِ جَرٌّ بِلَامِ الجر، وعبدا خبر كان، ووجيها صِفَةً لَهُ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنَ شَنَبُوذَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ، عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَجِيهاً:
مَقْبُولًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، مَا سَأَلَ شَيْئًا إِلَّا أُعْطِيَ، إِلَّا الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ قُطْرُبٌ: رَفِيعَ الْقَدْرِ وَقِيلَ: وَجَاهَتُهُ أَنَّهُ كَلَّمَهُ وَلَقَّبَهُ كَلِيمَ اللَّهِ. وَالسَّدِيدُ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُنَا صَوَابًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ، وَقَتَادَةُ: سَدِيدًا فِي شَأْنِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ وَالرَّسُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: مَا يُوَافِقُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ وَقِيلَ: مَا هُوَ إِصْلَاحٌ مِنْ تَسْدِيدِ السَّهْمِ لِيُصِيبَ الْغَرَضَ وَقِيلَ: السَّدِيدُ يَعُمُّ الْخَيْرَاتِ. وَرُتِّبَ عَلَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ: صَلَاحُ الْأَعْمَالِ وَغُفْرَانُ الذُّنُوبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَرِّرَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا. بُنِيَتْ تِلْكَ عَلَى النَّهْيِ عما يؤدي به رسول الله وَهَذِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ، لِيَتَرَادَفَ عَلَيْهِمُ النَّهْيُ وَالْأَمْرُ، مَعَ إِتْبَاعِ النَّهْيِ مَا يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى، وَإِتْبَاعِ الْأَمْرِ الْوَعْدَ الْبَلِيغَ، فَيَقْوَى الصَّارِفُ عَنِ الْأَذَى وَالدَّاعِي إِلَى تَرْكِهِ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ: لَمَّا أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا أَرْشَدَ مِنْ تَرْكِ الْأَذَى وَاتِّقَاءِ اللَّهِ وَسَدَادِ الْقَوْلِ، وَرَتَّبَ عَلَى الطَّاعَةِ مَا رَتَّبَ، بَيَّنَ أَنَّ مَا كُلِّفَهُ الْإِنْسَانُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: إِنَّا
508
«عَرَضْنَا الْأَمانَةَ
، تعظيما الأمر التَّكْلِيفِ وَالْأَمَانَةُ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا كُلُّ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَشَأْنِ دِينٍ وَدُنْيَا. وَالشَّرْعُ كُلُّهُ أَمَانَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، ولذلك قال أبي زين كَعْبٍ:
مِنَ الْأَمَانَةِ أَنِ اؤْتُمِنَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: غُسْلُ الْجَنَابَةِ أَمَانَةٌ، وَالظَّاهِرُ عَرْضُ الْأَمَانَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعِظَامِ، وَهِيَ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، فَتُثَابُ إِنْ أَحْسَنَتْ، وَتُعَاقَبُ إِنْ أَسَاءَتْ، فَأَبَتْ وَأَشْفَقَتْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِإِدْرَاكِ خِلْقَةِ اللَّهِ فِيهَا، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، إِذْ قَدْ سَبَّحَ الْحَصَى فِي كَفِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَحَنَّ الْجِذْعُ إِلَيْهِ، وَكَلَّمَتْهُ الذِّرَاعُ، فَيَكُونُ هَذَا الْعَرْضُ وَالْإِبَاءُ حَقِيقَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُعْطِيَتِ الْجَمَادَاتُ فَهْمًا وَتَمْيِيزًا، فَخُيِّرَتْ فِي الْحَمْلِ، وَذَكَرَ الْجِبَالَ، مع أنها من الْأَرْضِ، لِزِيَادَةِ قُوَّتِهَا وَصَلَابَتِهَا، تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
عُرِضَتْ بِمَسْمَعٍ مِنْ آدم، عليه الصلاة والسلام، وَأُسْمِعَ مِنَ الْجَمَادَاتِ الْإِبَاءَ لِيَتَحَقَّقَ الْعَرْضُ عَلَيْهِ، فَيَتَجَاسَرَ عَلَى الْحَمْلِ غَيْرُهُ، وَيَظْهَرَ فَضْلُهُ عَلَى الْخَلَائِقِ، حِرْصًا عَلَى الْعُبُودِيَّةِ، وَتَشْرِيفًا عَلَى الْبَرِيَّةِ بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ، فَقِيلَ: مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، أَيْ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وقيل: سن بَابِ التَّمْثِيلِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أن ما كلفه الإنسان بَلَغَ مِنْ عِظَمِهِ وَثِقَلِ مَحْمَلِهِ أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى أَعْظَمِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرَامِ وَأَقْوَاهُ وَأَشَدِّهِ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ وَيَسْتَقِلَّ بِهِ، فَأَبَى مَحْمَلَهُ وَالِاسْتِقْلَالَ بِهِ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ضَعْفِهِ وَرَخَاوَةِ قُوَّتِهِ. إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا، حَيْثُ حَمَلَ الْأَمَانَةَ، ثُمَّ لَمْ يَفِ بِهَا. وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ إِلَّا عَلَى طُرُقِهِمْ وَأَسَالِيبِهِمْ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَوْ قِيلَ لِلشَّحْمِ أَيْنَ تَذْهَبُ لَقِيلَ: أُسَوِّي الْعِوَجَ. وَكَمْ لَهُمْ مِنْ أَمْثَالٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ! وَتَصَوُّرُ مَقَالَةِ الشَّحْمِ مُحَالٌ، وَلَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ السِّمَنَ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا يَحْسُنُ قُبْحُهُ، كَمَا أَنَّ الْعَجَفَ مِمَّا يَقْبَحُ حُسْنُهُ فَصَوَّرَ أَثَرَ السِّمَنِ فِيهِ تَصْوِيرًا هُوَ أَوْقَعُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَهِيَ بِهِ آنَسُ، وَلَهُ أَقْبَلُ، وَعَلَى حَقِيقَتِهِ أَوْقَفُ وَكَذَلِكَ تَصْوِيرُ عِظَمِ الْأَمَانَةِ وَصُعُوبَةِ أَمْرِهَا وَثِقَلِ مَحْمَلِهَا وَالْوَفَاءِ بِهَا.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ عُلِمَ وَجْهُ التَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِمْ لِلَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ: أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى، لِأَنَّهُ مَثَّلَتْ حَالَ تَمَيُّلِهِ وَتَرَجُّحِهِ بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ، وَتَرْكُهُ الْمُضِيَّ عَلَى إِحْدَاهُمَا بِحَالِ مَنْ يَتَرَدَّى فِي ذَهَابِهِ، فَلَا يَجْمَعُ رِجْلَيْهِ لِلْمُضِيِّ فِي وَجْهِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُمَثِّلِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ شَيْءٌ مُسْتَقِيمٌ دَاخِلٌ تَحْتَ الصِّحَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا فِي الْآيَةِ.
فَإِنَّ عَرْضَ الْأَمَانَةِ عَلَى الْجَمَادِ، وَإِبَاءَهُ وَإِشْفَاقَهُ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَكَيْفَ صَحَّ
509
بِهَا التَّمْثِيلُ عَلَى الْمُحَالِ؟ وَمَا مِثَالُ هَذَا إِلَّا أَنْ تُشَبِّهَ شَيْئًا، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ. قُلْتُ:
الْمُمَثَّلُ بِهِ فِي الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: لَوْ قِيلَ لِلشَّحْمِ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَفِي نَظَائِرِهِ مَفْرُوضٌ، وَالْمَفْرُوضُ أَنْ يَتَخَيَّلَ فِي الذِّهْنِ. كَمَا أَنَّ الْمُحَقِّقَاتِ مَثَّلَتْ حَالَ التَّكْلِيفِ فِي صُعُوبَتِهِ وَثِقَلِ مَحْمَلِهِ بِحَالِ الْمَفْرُوضِ، لَوْ عرضت على السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها. انْتَهَى.
وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعِظَامَ قَدِ انْقَادَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ انْقِيَادَ مِثْلِهَا، وَهُوَ مَا تَأْتِي مِنَ الْجَمَادَاتِ، حَيْثُ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى مَشِيئَتِهِ إِيجَادًا وَتَكْوِينًا وَتَسْوِيَةً عَلَى هَيْئَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْكَالٍ مُتَنَوِّعَةٍ. كَمَا قَالَ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «١». وَأَمَّا الْإِنْسَانُ، فَلَمْ يَكُنْ حَالُهُ فِيمَا يَصِحُّ مِنْهُ مِنَ الِانْقِيَادِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَهُوَ حَيَوَانٌ صَالِحٌ لِلتَّكْلِيفِ، مِثْلَ حَالِ تِلْكَ الْجَمَادَاتِ فِيمَا يَصِحُّ مِنْهَا وَيَلِيقُ بِهَا مِنَ الِانْقِيَادِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ: الطَّاعَةُ، لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْوُجُودِ. كَمَا أَنَّ الْأَمَانَةَ لَازِمَةٌ لِلْأَدَاءِ، وَعَرْضُهَا عَلَى الْجَمَادَاتِ وَإِبَاؤُهَا وَإِشْفَاقُهَا مَجَازٌ. وَحَمْلُ الْأَمَانَةِ مِنْ قَوْلِكَ: فُلَانٌ حَامِلٌ لِلْأَمَانَةِ وَمُحْتَمِلٌ لَهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّيهَا إِلَى صَاحِبِهَا حَتَّى تَزُولَ عَنْ ذِمَّتِهِ وَيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَتِهَا، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ كَأَنَّهَا رَاكِبَةٌ لِلْمُؤْتَمَنِ عَلَيْهَا، وَهُوَ حَامِلٌ لَهَا. أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ؟ وَلِي عَلَيْهِ حَقٌّ؟ فَأَبَيْنَ أَنْ لَا يُؤَدُّونَهَا، وَأَبَى الْإِنْسَانُ أَنْ لَا يَكُونَ مُحْتَمِلًا لَهَا لَا يُؤَدِّيهَا. ثُمَّ وَصَفَهُ بِالظُّلْمِ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَبِالْجَهْلِ لِخَطَئِهِ مَا يُسْعِدُهُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ وَهُوَ أَدَاؤُهَا. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ حَذْفٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ مِنَ الْمَجَازِ، أَيْ إِذَا قَايَسْنَا ثقل الأمانة بقوة السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، رَأَيْتُهُمَا أَنَّهُمَا لَا تُطِيقُهَا، وَأَنَّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ، لَأَبَتْهَا وَأَشْفَقَتْ عَنْهَا فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: إِنَّا عَرَضْنَا الْآيَةَ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: «عَرَضْتُ الْحِمْلَ عَلَى الْبَعِيرِ فَأَبَاهُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ بِذَلِكَ مُقَارَنَةَ قُوَّتِهِ بِثِقَلِ الْحِمْلِ، فَرَأَيْتُهَا تُقَصِّرُ عَنْهُ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ بَحْرٍ» مَعْنَى عَرَضْنَا: عَارَضْنَاهَا وَقَابَلْنَاهَا بِهَا. فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها: أَيْ قَصَّرْنَ وَنَقَصْنَ عَنْهَا، كَمَا تَقُولُ: أَبَتِ الصَّنْجَةُ أَنْ تَحْمِلَ مَا قَابَلَهَا. وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْتَزَمَ الْقِيَامَ بِحَقِّهَا، وَالْإِنْسَانُ آدَمُ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ ظَلُومٌ نَفْسَهُ، جَهُولٌ بِقَدْرِ مَا دَخَلَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا تَمَّ لَهُ يَوْمٌ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ:
وَحَمَلَهَا مَعْنَاهُ: خَانَ فِيهَا، وَالْإِنْسَانُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ وَالْعَاصِي عَلَى قَدْرِهِ. وقال ابن مسعود،
(١) سورة فصلت: ٤١/ ١١.
510
وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: ابْنُ آدَمَ قَابِيلُ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ، وَكَانَ قَدْ تَحَمَّلَ لِأَبِيهِ أَمَانَةً أَنْ يَحْفَظَ الْأَهْلَ بَعْدَهُ، وَكَانَ آدَمُ مُسَافِرًا عَنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَرْضُ الْأَمَانَةِ: وَضْعُ شَوَاهِدِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْمَصْنُوعَاتِ: وَالْحَمْلُ: الْخِيَانَةُ، كَمَا تَقُولُ: حَمَلَ خُفِّي وَاحْتَمَلَهُ، أَيْ ذَهَبَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدِّي أَمَانَةً وَتَحْمِلُ أُخْرَى أخرجتك الْوَدَائِعُ
انْتَهَى. وَلَيْسَ وَتَحْمِلُ أُخْرَى نَصًّا فِي الذَّهَابِ بِهَا، بَلْ يَحْتَمِلُ لِأَنَّكَ تَتَحَمَّلُ أُخْرَى، فَتُؤَدِّي وَاحِدَةً وَتَتَحَمَّلُ أُخْرَى، فَلَا تَزَالُ دَائِمًا ذَا أَمَانَاتٍ، فَتَخْرُجُ إِذْ ذَاكَ.
وَاللَّامُ فِي لِيُعَذِّبَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهَا لِأَنْ يُعَذَّبَ، لَكِنَّهُ حَمَلَهَا فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ نَافَقَ وَأَشْرَكَ، وَيَتُوبَ عَلَى مَنْ آمَنَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَامُ التَّعْلِيلِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ نَتِيجَةَ حَمْلِ الْأَمَانَةِ الْعَذَابُ، كَمَا أَنَّ التَّأْدِيبَ فِي: ضَرَبْتُهُ لِلتَّأْدِيبِ، نَتِيجَةَ الضَّرْبِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَيَتُوبُ، يَعْنِي بِالرَّفْعِ، بِجَعْلِ الْعِلَّةِ قَاصِرَةً عَلَى فِعْلِ الحامل، ويبتدىء وَيَتُوبُ. وَمَعْنَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ حَامِلَ الْأَمَانَةِ وَيَتُوبَ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْمِلْهَا، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ فِي وَكَانَ ذَلِكَ نَوْعَانِ مِنْ عَذَابِ الْقِتَالِ. انْتَهَى.
وَذَهَبَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ أَنَّ الْحَسَنَ قَرَأَ وَيَتُوبُ بِالرَّفْعِ.
511
Icon