تفسير سورة الذاريات

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الذاريات
هذه السورة مكية.
ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال ﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ وقال أول هذه بعد القسم :﴿ إنما توعدون لصادق، وإن الدين لواقع ﴾.

ﯤﯥ ﯧﯨ ﯪﯫ ﯭﯮ ﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓ ﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ
سورة الذّاريات
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ٦٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩)
قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤)
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩)
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤)
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
545
الْحُبُكُ: الطَّرَائِقُ، مِثْلُ حُبُكِ الرَّمْلِ وَالْمَاءِ الْقَائِمِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ، وَكَذَلِكَ حُبُكُ الشَّعَرِ آثَارُ تَثَنِّيهِ وَتَكَسُّرِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:
مُكَلَّلٍ بِأُصُولِ النَّجْمِ يَنْسُجُهُ رِيحٌ خَرِيقٌ لِضَاحِي مَائِهِ حُبُكُ
وَالدِّرْعُ مَحْبُوكَةٌ لِأَنَّ حَلْقَهَا مُطْرَقٌ طَرَائِقَ، وَوَاحِدُهَا حَبِيكَةٌ، كَطَرِيقَةٍ وَطُرُقٍ، أَوْ حِبَاكٌ، كَمِثَالٍ وَمُثُلٍ، قَالَ الرَّاجِزُ:
546
وَيُقَالُ: حِبَاكٌ لِلظَّفِيرَةِ الَّتِي يَشُدُّ بِهَا خَطَّارُ الْقَصَبِ بَكَرَهُ، وَهِيَ مُسْتَطِيلَةٌ تُصْنَعُ فِي تَرْحِيبِ الْغَرَّاسَاتِ الْمُصْطَفَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيُّ: حَبَكْتُ الشَّيْءَ: أَحْكَمْتُهُ وَأَحْسَنْتُ عَمَلَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحُبُكُ: تَكَسُّرُ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَحْبُوكُ: الشَّدِيدُ الْخَلْقِ مِنْ فَرَسٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
كَأَنَّمَا حَلَّلَهَا الْحَوَّاكُ طَنْفَسَةً فِي وَشْيِهَا حِبَاكُ
قَدْ غَدَا يَحْمِلُنِي في أنفه لاحق الأيطل محبوك ممر
الهجوم: النَّوْمُ. السِّمَنُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ امْتِلَاءُ الْجَسَدِ بِالشَّحْمِ وَاللَّحْمِ. يُقَالُ: سَمِنَ سِمَنًا فَهُوَ سَمِينٌ، شَذُّوا فِي الْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَالْقِيَاسُ سَمِنَ وَسَمَّنَ. وَقَالُوا: سَامِنٌ، إِذَا حَدَثَ لَهُ السِّمَنُ. الذَّنُوبُ: الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ، قَالَ الرَّاجِزُ:
إِنَّا إِذَا نَازَلَنَا غَرِيبُ لَهُ ذَنُوبٌ وَلَنَا ذَنُوبُ
وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ وَأَنْشَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ:
لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوبُ وَيُطْلَقُ، وَيُرَادُ بِهِ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ فَحَقٌّ لِشَاسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
وَنَسَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لِعَمْرِو بْنِ شَاسٍ، وَهُوَ وَهْمٌ فِي دِيوَانِ عَلْقَمَةَ. وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيُّ أَسَرَ شَاسًا أَخَا عَلْقَمَةَ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ عَلْقَمَةُ، فَمَدَحَهُ بِالْقَصِيدَةِ الَّتِي فِيهَا هَذَا الْبَيْتُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ فِي الْإِنْشَادِ قَالَ الْحَارِثُ: نَعَمْ وَأَذْنَبَهُ، وَقَالَ حَسَّانُ:
لَا يَبْعُدَنَّ رَبِيعَةُ بْنُ مُكَرَّمٍ وَسَقَى الْغَوَادِي قَبْرَهُ بِذَنُوبِ
وَقَالَ آخَرُ:
لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا طَارِقَاتٌ لِكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذَنُوبُ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً، فَالْحامِلاتِ وِقْراً، فَالْجارِياتِ يُسْراً، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً، إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ، وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ، قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ، يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ، ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ، كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا
547
يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ قَالَ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ «١».
وَقَالَ أَوَّلَ هَذِهِ بَعْدَ الْقَسَمِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ.
وَالذَّارِياتِ: الرِّيَاحُ: فَالْحامِلاتِ السَّحَابُ. فَالْجارِياتِ: الْفُلْكُ.
فَالْمُقَسِّماتِ: الْمَلَائِكَةُ، هَذَا تَفْسِيرُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَدْ سَأَلَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: فَالْحامِلاتِ هِيَ السُّفُنُ الْمُوَقَّرَةُ بِالنَّاسِ وَأَمْتَاعِهِمْ. وَقِيلَ: الْحَوَامِلُ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ: الْجَارِيَاتُ: السَّحَابُ بِالرِّيَاحِ.
وَقِيلَ: الْجَوَارِي مِنَ الْكَوَاكِبِ، وَأَدْغَمَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالذَّارِياتِ فِي ذَالِ ذَرْواً، وَذَرْوُهَا: تَفْرِيقُهَا لِلْمَطَرِ أَوْ لِلتُّرَابِ. وقرىء: بفتح الواو وتسمية لِلْمَحْمُولِ بِالْمَصْدَرِ. وَمَعْنَى يُسْراً: جَرْيًا ذَا يُسْرٍ، أَيْ سُهُولَةٍ. فَيُسْرًا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، فَهُوَ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. أَمْراً تُقَسِّمُ الْأُمُورَ مِنَ الْأَمْطَارِ وَالْأَرْزَاقِ وَغَيْرِهَا، فَأَمْرًا مَفْعُولٌ بِهِ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ مَأْمُورَةً، وَمَفْعُولُ الْمُقَسِّمَاتِ مَحْذُوفٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَوَلَّى أَمْرَ الْعِبَادِ جِبْرِيلُ لِلْغِلْظَةِ، وَمِيكَائِيلُ لِلرَّحْمَةِ، وملك الموت لقبض الأرواح، وَإِسْرَافِيلُ لِلنَّفْخِ. وَجَاءَ فِي الْمَلَائِكَةِ: فَالْمُقَسِّمَاتِ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الرِّيَاحُ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهَا تُنْشِئُ السَّحَابَ وَتُقِلُّهُ وَتَصْرِفُهُ وَتَجْرِي فِي الْجَوِّ جَرْيًا سَهْلًا، وَتُقَسِّمُ الْأَمْطَارَ بِتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ. انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ الْمَدْلُولُ مُتَغَايِرًا، فَتَكُونُ أَقْسَامًا مُتَعَاقِبَةً. وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَغَايِرٍ، فَهُوَ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، أَيْ ذَرَتْ أَوَّلَ هُبُوبِهَا التُّرَابَ وَالْحَصْبَاءَ، فَأَقَلَّتِ السَّحَابَ، فَجَرَتْ فِي الْجَوِّ بَاسِطَةً لِلسَّحَابِ، فَقَسَّمَتِ الْمَطَرَ. فَهَذَا كَقَوْلِهِ:
يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الص ابح فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ
أَيِ: الَّذِي صَبَّحَ الْعَدُوَّ فَغَنِمَ مِنْهُمْ، فَآبَ إِلَى قَوْمِهِ سَالِمًا غَانِمًا. وَالْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا، وَهِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ، هِيَ إِنَّما تُوعَدُونَ، وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ تُوعَدُونَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ إِنَّهُ وَعْدُكُمْ أَوْ وَعِيدُكُمْ، إِذْ يَحْتَمِلُ توعدون
(١) سورة ق: ٥٠/ ٤٤.
548
الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعَ وَعَدَ وَمُضَارِعَ أَوْعَدَ، وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعَ أَوْعَدَ لِقَوْلِهِ:
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّخْوِيفُ وَالتَّهْوِيلُ. وَمَعْنَى صِدْقِهِ:
تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ، وَالْمُتَّصِفُ بِالصِّدْقِ حَقِيقَةً هُوَ الْمُخْبِرُ. وَقَالَ تَعَالَى: ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ «١» : أَيْ مَصْدُوقٍ فِيهِ. وَقِيلَ: لَصادِقٌ، وَوَضَعَ اسْمَ الْفَاعِلِ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ وَعِيدٌ مَحْضٌ.
وَإِنَّ الدِّينَ: أَيِ الْجَزَاءَ، لَواقِعٌ: أَيْ صَادِرٌ حَقِيقَةً عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَالظَّاهِرُ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ جِنْسٌ أريد به جميع السموات. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: هِيَ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ. وَقِيلَ: السَّحَابُ الَّذِي يُظِلُّ الْأَرْضَ.
ذاتِ الْحُبُكِ: أَيْ ذَاتِ الْخَلْقِ الْمُسْتَوِي الْجَيِّدِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذاتِ الْحُبُكِ: أَيِ الزِّينَةِ بِالنُّجُومِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذَاتِ الطَّرَائِقِ، يَعْنِي مِنَ الْمَجَرَّةِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَاتِ الشِّدَّةِ، لِقَوْلِهِ: سَبْعاً شِداداً «٢». وَقِيلَ: ذَاتِ الصَّفَاقَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْحُبُكُ بِضَمَّتَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبُو السَّمَّالِ، وَنُعَيْمٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَعِكْرِمَةُ: بِفَتْحِهَا، جَمْعَ حَبْكَةٍ، مِثْلُ: طَرْفَةٍ وَطُرَفٍ. وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ، بِكَسْرِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ، وَالْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ، وَهُوَ تخفيف فعل المكسور هما وَهُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا جمع، لأن فعلا ليس مِنْ أَبْنِيَةِ الْجُمُوعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَعَ إِبِلٍ فِيمَا جَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ على فعل بكسر الفاء وَالْعَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبُو مَالِكٍ:
بِفَتْحِهِمَا. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: فَهُوَ جَمْعُ حَبَكَةٍ، مِثْلَ عَقَبَةٍ وَعَقَبٍ. انْتَهَى. وَالْحَسَنُ أَيْضًا: الْحِبَكِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ أَيْضًا كَالْجُمْهُورِ، فَصَارَتْ قِرَاءَتُهُ خَمْسًا:
الْحُبُكِ الحبك الحبك الحبك الحبك. وَقَرَأَ أَبُو مَالِكٍ أَيْضًا: الْحِبُكِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ، وَذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْحَسَنِ، فَتَصِيرُ لَهُ سِتُّ قِرَاءَاتٍ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَهُوَ عَدِيمُ النَّظِيرِ فِي الْعَرَبِيَّةِ: فِي أَبْنِيَتِهَا وَأَوْزَانِهَا، وَلَا أَدْرِي مَا رَوَاهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
هِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ مُتَوَجِّهَةٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ كَسْرَهَا، ثُمَّ تَوَهَّمَ الْحِبُكِ قِرَاءَةَ الضَّمِّ بَعْدَ أَنْ كَسَرَ الْحَاءَ وَضَمَّ الْبَاءَ، وَهَذَا عَلَى تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هذا البناء. انتهى.
(١) سورة هود: ١١/ ٦٥.
(٢) سورة النبأ: ٧٨/ ١٢.
549
وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ النُّحَاةُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ، وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا اتَّبَعَ فِيهِ حَرَكَةُ الْحَاءِ لِحَرَكَةِ ذَاتِ فِي الْكَسْرَةِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِاللَّامِ السَّاكِنَةِ، لِأَنَّ السَّاكِنَ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ.
وَجَوَابُ الْقَسَمِ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، كَمَا أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ السَّابِقِ يَشْمَلُهُمَا، وَاخْتِلَافُهُمْ كَوْنُهُمْ مُؤْمِنًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابِهِ وَكَافِرًا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: خِطَابٌ لِلْكَفَرَةِ، فَيَقُولُونَ: سَاحِرٌ شَاعِرٌ كَاهِنٌ مَجْنُونٌ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَوْلُ الْكَفَرَةِ لَا يَكُونُ مُسْتَوِيًا، إِنَّمَا يَكُونُ مُتَنَاقِضًا مُخْتَلِفًا. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحَشْرِ، مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشُكُّ فِيهِ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ: إِقْرَارُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَدَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ غَيْرَهُ وَالْأَقْوَالَ الَّتِي يَقُولُونَهَا فِي آلِهَتِهِمْ.
يُؤْفَكُ: أَيْ يُصْرَفُ عَنْهُ، أَيْ عَنِ الْقُرْآنِ والرسول، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. مَنْ أُفِكَ: أَيْ مَنْ صُرِفَ الصَّرْفَ الَّذِي لَا صَرْفَ أَشَدُّ مِنْهُ وَأَعْظَمُ لِقَوْلِهِ: لَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ. وَقِيلَ: مَنْ صُرِفَ فِي سَابِقِ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَأْفُوكٌ عَنِ الْحَقِّ لَا يَرْعَوِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِمَا تُوعَدُونَ، أَوْ لِلَّذِي أَقْسَمَ بِالسَّمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ فِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ فِي وُقُوعِهِ، فَمِنْهُمْ شَاكٌّ وَمِنْهُمْ جَاحِدٌ. ثُمَّ قَالَ: يُؤْفَكُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِأَمْرِ الْقِيَامَةِ مَنْ هُوَ الْمَأْفُوكُ. وَقِيلَ: الْمَأْفُوكُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ، وَعَنْ هُنَا لِلسَّبَبِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، أَيْ يُصْرَفُ بِسَبَبِهِ مَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ بِأَنْ يَقُولَ: هُوَ سِحْرٌ هُوَ كَهَانَةٌ، حَكَاهُ الزَّهْرَاوِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَوْرَدَهُ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِبْدَاءِ مَا هُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ مُخْتَرِعُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يعود على قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، وَالْمَعْنَى: يُصْرَفُ عَنْهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ غَلَبَتْ سَعَادَتُهُ، وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ لِلْكُفَّارِ، إِلَّا أَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِفْكِهِ الصَّرْفُ مِنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ، فَلِذَلِكَ لَا تَجِدُهُ إِلَّا فِي الْمَذْمُومِينَ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: مَنْ أَفَكَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ مَنْ أَفَكَ النَّاسُ عَنْهُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَأْفِكُ عَنْهُ مَنْ أَفَكَ، أَيْ يَصْرِفُ النَّاسَ عَنْهُ مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ فِي نَفْسِهِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: يَأْفِكُ عَنْهُ مَنْ أَفَكَ، أَيْ يَصْرِفُ النَّاسَ عَنْهُ مَنْ هُوَ أفاك كذاب.
وقرىء: يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أَفَنَ بِالنُّونِ فِيهِمَا، أَيْ يُحْرَمُهُ مَنْ حُرِمَ مِنْ أَفَنَ الضَّرْعَ إِذَا نَهَكَهُ حَلْبًا.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ: أَيْ قَتَلَ اللَّهُ الْخَرَّاصِينَ، وَهُمُ الْمُقَدِّرُونَ مَا لَا يَصِحُّ. فِي غَمْرَةٍ: فِي جَهْلٍ يَغْمُرُهُمْ، ساهُونَ: غَافِلُونَ عَنْ مَا أُمِرُوا بِهِ. أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ: أَيْ مَتَى وَقْتُ الْجَزَاءِ؟ سُؤَالُ تَكْذِيبٍ وَاسْتِهْزَاءٍ، وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ فِي قَوْلِهِ: أَيَّانَ
550
مُرْساها
«١»، وأَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، فَيَكُونُ الظَّرْفُ مَحَلًّا لِلْمَصْدَرِ، وَانْتَصَبَ يَوْمَهُمْ بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ كَائِنٌ، أَيِ الْجَزَاءُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ يَوْمُهُمْ، وَالْفَتْحَةُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِإِضَافَتِهِ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْإِسْمِيَّةُ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ والزعفراني. يَوْمَ هُمْ بِالرَّفْعِ، وَإِذَا كَانَ ظَرْفًا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْحَرَكَةُ فِيهِ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ وَحَرَكَةَ بِنَاءٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِضَافَةِ الظَّرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ فِي غَافِرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ «٢». وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: يَوْمُهُمْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمُ الدِّينِ، فَيَكُونُ هُنَا حِكَايَةً مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى الْمَعْنَى، وَيَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ.
وَلَوْ حَكَى لَفْظَ قَوْلِهِمْ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: يَوْمَ نَحْنُ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ: أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا. هذَا الَّذِي: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَدَلًا مِنْ فِتْنَتَكُمْ، أَيْ ذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ. انْتَهَى، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَالِاسْتِقْلَالُ خَيْرٌ مِنَ الْبَدَلِ. وَمَعْنَى تُفْتَنُونَ: تُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَانْتَصَبَ آخِذِينَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ قَابِلِيهِ رَاضِينَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِذِينَ: أَيْ فِي دُنْيَاهُمْ، مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَشَرْعِهِ، فَالْحَالُ مَحْكِيَّةٌ لِتَقَدُّمِهَا فِي الزَّمَانِ عَلَى كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَلِيلًا ظَرْفٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ، أَيْ كَانُوا فِي قَلِيلٍ مِنَ اللَّيْلِ.
وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ كَانُوا يَهْجَعُونَ هُجُوعًا قَلِيلًا، وَمَا زَائِدَةٌ فِي كِلَا الْإِعْرَابَيْنِ. وَفَسَّرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلَا يَدُلُّ لَفْظُ الْآيَةِ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: كَانُوا يُصِيبُونَ مِنَ اللَّيْلِ حَظًّا. وَقَالَ مُطَرِّفٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ: قَلَّ لَيْلَةٌ أَتَتْ عَلَيْهِمْ هُجُوعًا كُلُّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَابَدُوا قِيَامَ اللَّيْلِ لَا يَنَامُونَ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كانُوا قَلِيلًا، أَيْ فِي عَدَدِهِمْ، وَثُمَّ خَبَرُ كَانَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، فَمَا نَافِيَةٌ، وَقَلِيلًا وَقْفٌ حَسَنٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ، وَتَقَدَّمَ مَعْمُولُ الْعَامِلِ الْمَنْفِيِّ بِمَا عَلَى عَامِلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَلَوْ كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَجَاءَ فِي الشِّعْرِ قَوْلُهُ:
إِذَا هِيَ قَامَتْ حَاسِرًا مُشْمَعِلَّةً يَحْسَبُ الْفُؤَادُ رَأْسَهَا مَا تُقَنَّعُ
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٧، وسورة النازعات: ٧٩/ ٤٢.
(٢) سورة غافر: ٤٠/ ١٦. [.....]
551
فَقَدَّمَ رَأْسَهَا عَلَى مَا تُقَنَّعُ، وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِمَا، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِقَلِيلًا، أَيْ كَانُوا قَلِيلًا هُجُوعُهُمْ، وَهُوَ إِعْرَابٌ سَهْلٌ حَسَنٌ، وَأَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي يَهْجَعُونَ فِيهِ، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ. وَمِنَ اللَّيْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَشْغُولُونَ بِالْعِبَادَةِ فِي أَوْقَاتِ الرَّاحَاتِ، وَسُكُونِ الْأَنْفُسِ مِنْ مَشَاقِّ النَّهَارِ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، فِيهِ ظُهُورٌ عَلَى أَنَّ تَهَجُّدَهُمْ يَتَّصِلُ بِالْأَسْحَارِ، فَيَأْخُذُونَ فِي الِاسْتِغْفَارِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ تَقْصِيرٌ وَكَأَنَّهُمْ أَجْرَمُوا فِي تِلْكَ اللَّيَالِي، وَالْأَسْحَارُ مَظَنَّةُ الِاسْتِغْفَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَمْرٍو الضَّحَّاكُ: يَسْتَغْفِرُونَ: يُصَلُّونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَدْعُونَ فِي طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ وَهَذَا الْحَقُّ فِي الْمَالِ هُوَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا تَقَعُ زِيَادَةُ الثَّوَابِ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ. وَقَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هَذَا الْحَقُّ هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَضَعُفَ بِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَفَرْضُ الزَّكَاةِ بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: كَانَ فَرْضًا، ثُمَّ نُسِخَ وَضَعُفَ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشْرَعْ شَيْئًا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ من أخذ الْأَمْوَالِ.
وَالسَّائِلُ: الَّذِي يَسْتَعْطِي، وَالْمَحْرُومُ: لُغَةً الْمَمْنُوعُ مِنَ الشَّيْءِ، قَالَ عَلْقَمَةُ:
وَمُطْعَمُ الْغُنْمِ يَوْمَ الْغُنْمِ مُطْعَمُهُ أَنَّى تَوَجَّهَ وَالْمَحْرُومُ مَحْرُومُ
وَأَمَّا فِي الْآيَةِ، فَالَّذِي يُحْسَبُ غَنِيًّا فَيُحْرَمُ الصَّدَقَةَ لِتَعَفُّفِهِ. وَقِيلَ: الَّذِي تَبْعُدُ مِنْهُ مُمَكِّنَاتُ الرِّزْقِ بَعْدَ قُرْبِهَا مِنْهُ فَيَنَالُهُ الْحِرْمَانُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُحَارِبُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَهْمُ مَالٍ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ الَّذِي أُجِيحَتْ ثَمَرَتُهُ. وَقِيلَ: الَّذِي مَاتَتْ مَاشِيَتُهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز: هُوَ الْكَلْبُ. وَقِيلَ: الَّذِي لَا يُنْمَى لَهُ مَالٌ. وَقِيلَ:
الْمُحَارَفُ الَّذِي لَا يَكَادُ يَكْسِبُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا التَّعْيِينِ، وَيَجْمَعُهَا أَنَّهُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ لِحِرْمَانٍ أَصَابَهُ.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَالْبِسَاطِ لِمَا فَوْقَهَا، وَفِيهَا الْفِجَاجُ لِلسُّلَّاكِ، وَهِيَ مُتَجَزِّئَةٌ مِنْ سَهْلٍ وَوَعْرٍ وَبَحْرٍ وَبَرٍّ، وَقِطَعٍ مُتَجَاوِرَاتٍ مِنْ صلبة ورخوة ومنبتة وسيخة، وَتُلَقَّحُ بِأَنْوَاعِ النَّبَاتِ، وَفِيهَا العيون والمعادن والدواب المنبتة فِي بَحْرِهَا وَبَرِّهَا الْمُخْتَلِفَةُ الْأَشْكَالِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: آيَةٌ عَلَى الْإِفْرَادِ، لِلْمُوقِنِينَ: وَهُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا النَّظَرَ الصَّحِيحَ، وَأَدَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى إِيقَانِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَأَيْقَنُوا لَمْ يَدْخُلْهُمْ رَيْبٌ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ حَالَ ابْتِدَائِهَا وَانْتِقَالِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمَا أَوْدَعَ فِي شَكْلِ الْإِنْسَانِ مِنْ لَطَائِفِ الْحَوَاسِّ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى الْعَقْلِ الَّذِي أُوتِيهِ مِنْ بَدَائِعِ الْعُلُومِ وَغَرِيبِ الصَّنَائِعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ.
552
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ، لِأَنَّهُ سَبَبَ الْأَقْوَاتِ، وَكُلُّ عَيْنٍ دَائِمَةٍ مِنَ الثَّلْجِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَوَاصِلٌ الْأَحْدَبُ: أَرَادَ الْقَضَاءَ وَالْقَدْرَ، أَيِ الرِّزْقُ عِنْدَ اللَّهِ يَأْتِي بِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَما تُوعَدُونَ: الْجَنَّةُ، أَوْ هِيَ النَّارُ، أَوْ أَمْرُ السَّاعَةِ، أَوْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، أَوْ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، أَقْوَالٌ الْمُرَادُ بِهَا التَّمْثِيلُ لَا التَّعْيِينُ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَرْزَاقُكُمْ عَلَى الْجَمْعِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ إِلَى الدِّينِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ، أَوْ إِلَى الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، أَوْ إِلَى الرِّزْقِ، أَوْ إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْوَالٌ مَنْقُولَةٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِخْبَارِ السَّابِقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ صِدْقِ الْمَوْعُودِ وَوُقُوعِ الْجَزَاءِ، وَكَوْنِهِمْ فِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، وقُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، وَكَيْنُونَةُ الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى مَا وَصَفَ، وَذَكَرَ أَوْصَافَهُمْ وَمَا ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ شُبِّهَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْ نُطْقِ الْإِنْسَانِ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْأَعْمَشُ: بِخِلَافٍ عَنْ ثَلَاثَتِهِمْ. مِثْلُ بِالرَّفْعِ: صِفَةً لِقَوْلِهِ: لَحَقٌّ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْجُمْهُورُ: بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ: هِيَ فَتْحَةُ بِنَاءٍ، وَهُوَ نَعْتٌ كَحَالِهِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ. وَلَمَّا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ بُنِيَ، وَمَا عَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالْإِضَافَةُ هِيَ إِلَى أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: بُنِيَ مِثْلَ، لِأَنَّهُ رُكِّبَ مَعَ مَا، فَصَارَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَمِثْلُهُ: وَيْحَمَا وَهَيَّمَا وَابْنَمَا، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
أَلَا هَيَّمَا مِمَّا لَقِيتُ وَهَيَّمَا وَوَيْحًا لِمَنْ لَمْ يَلْقَ مِنْهُنَّ وَيْحَمَا
قَالَ: فَلَوْلَا الْبِنَاءُ لَكَانَ مُنَوَّنًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فأكرم بنا أو أُمًّا وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا انْتَهَى هَذَا التَّخْرِيجُ. وَابْنَمَا لَيْسَ ابْنًا بُنِيَ مَعَ مَا، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ زِيَادَةِ الْمِيمِ فِيهِ، وَإِتْبَاعِ مَا فِي الْآخِرِ، إِذْ جُعِلَ فِي الْمِيمِ الْإِعْرَابُ. تَقُولُ: هَذَا ابْنَمُ، ورأيت ابْنَمَا، وَمَرَرْتُ بِابْنَمِ، وَلَيْسَتْ مَا فِي الثَّلَاثِ فِي ابْنَمَا مُرَكَّبَةً مَعَ مَا، كما قال: بل الْفَتْحَةُ فِي ابْنَمَا حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَأَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ فِي بِنَاءِ الِاسْمِ مَعَ الْحَرْفِ قَوْلَ الرَّاجِزِ:
أَثَوْرٌ مَا أَصِيدُكُمْ أَوْ ثَوْرَيْنِ أَمْ تِيكُمُ الْجَمَّاءُ ذَاتُ الْقَرْنَيْنِ
وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّهُ لَحَقٌّ حَقًّا مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ، فَحَرَكَتُهُ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ في لَحَقٌّ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ
553
لَحَقٌّ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً، فَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْجَرْمِيُّ وَسِيبَوَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. وَالنُّطْقُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكَلَامِ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فِي تَرْتِيبِ الْمَعَانِي. وَيَقُولُ النَّاسُ: هَذَا حَقٌّ، كَمَا أنك هاهنا وَهَذَا حَقٌّ، كَمَا أَنَّكَ تَرَى وَتَسْمَعُ، وَهَذَا كَمَا فِي الْآيَةِ. وَمَا زَائِدَةٌ بِنَصِّ الْخَلِيلِ، وَلَا يُحْفَظُ حذفها، فتقول: ذا حَقٌّ كَأَنَّكَ هَاهُنَا، وَالْكُوفِيُّونَ يجعلون مثلا محلى، فَيَنْصِبُونَهُ عَلَى الظَّرْفِ، وَيُجِيزُونَ زَيْدٌ مِثْلَكَ بِالنَّصْبِ، فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ فِيهَا مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَمَنْ كَلَامِ بَعْضِ الْأَعْرَابِ: مَنْ ذَا الَّذِي أَغْضَبَ الْخَلِيلَ حَتَّى حَلَفَ، لَمْ يُصَدِّقُوهُ بِقَوْلِهِ حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى الْيَمِينِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ، فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ، قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ، فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ، وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ، وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ، وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ.
هَلْ أَتاكَ: تَقْرِيرٌ لِتَجْتَمِعَ نَفْسُ الْمُخَاطَبِ، كَمَا تَبْدَأُ الْمَرْءَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُحَدِّثَهُ بِعَجِيبٍ، فَتُقَرِّرَهُ هَلْ سَمِعَ ذَلِكَ أَمْ لَا، فَكَأَنَّكَ تَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ لَا. وَيَسْتَطْعِمُكَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ تَفْخِيمٌ لِلْحَدِيثِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِلْمِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا عَرَفَهُ بِالْوَحْيِ، وَضَيْفُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهِ سَوَاءٌ. وَبَدَأَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ قِصَّةِ عَادٍ، هَزْمًا لِلْعَرَبِ، إِذْ كَانَ أَبَاهُمُ الْأَعْلَى، وَلِكَوْنِ الرُّسُلِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَيْهِ جَاءُوا بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، إِذْ كَذَّبُوهُ، فَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْعَرَبِ وَتَهْدِيدٌ وَاتِّعَاظٌ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ. وَوَصَفَهُمْ بِالْمُكْرَمِينَ لِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى
554
فِي الْمَلَائِكَةِ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «١»، قَالَهُ الْحَسَنُ، فَهِيَ صِفَةٌ سَابِقَةٌ فِيهِمْ، أَوْ لِإِكْرَامِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُمْ، إِذْ خَدَمَهُمْ بِنَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ سَارَّةَ وَعَجَّلَ لَهُمُ الْقِرَا. وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ رَفَعَ مَجَالِسَهُمْ فِي صِفَةٍ حَادِثَةٍ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: الْمُكَرَّمِينَ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ ضَيْفَ، لِكَوْنِهِمْ فِي صُورَةِ الضَّيْفِ حَيْثُ أَضَافَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، أَوْ لِحُسْبَانِهِ لِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَدَدِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَإِذْ مَعْمُولَةٌ لِلْمُكْرَمِينَ إِذَا كَانَتْ صِفَةً حَادِثَةً بِفِعْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِلَّا فَبِمَا فِي ضَيْفِ مِنْ مَعْنَى لفعل، أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَنْقُولَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَالُوا سَلَامًا، بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ السَّادِّ مَسَدَّ فِعْلِهِ الْمُسْتَغْنَى بِهِ.
قالَ سَلامٌ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ: عَلَيْكُمْ سَلَامٌ. قَصَدَ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِأَحْسَنَ مِمَّا حَيَّوْهُ أَخْذًا بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ سَلَامًا دُعَاءٌ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ محذوف، أي أَمْرِي سَلَامٌ، وَسَلَامٌ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ قَدْ تَحَصَّلَ مَضْمُونُهَا وَوَقَعَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي سَلَامًا قَالُوا، عَلَى أَنْ يَجْعَلَ سَلَامًا فِي مَعْنَى قَوْلًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ: أَنَّهُمْ قَالُوا تَحِيَّةً وَقَوْلًا مَعْنَاهُ سَلَامًا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَطَلْحَةُ: قَالَ سِلْمٌ، بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى: نَحْنُ سِلْمٌ، أَوْ أَنْتُمْ سِلْمٌ، وقرئا مرفوعين. وقرىء: سَلَامًا قَالُوا سِلْمًا، بِنَصْبِهِمَا وَكَسْرِ سِينِ الثَّانِي وَسُكُونِ لَامِهِ. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَنْكَرَ سَلَامَهُمْ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ وَذَلِكَ الزَّمَانِ. وَقِيلَ: لَا نُمَيِّزُهُمْ وَلَا عَهْدَ لَنَا بِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا سُؤَالَهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، فَعَرِّفُونِي مَنْ أَنْتُمْ. وَقَوْمٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قَدَّرَهُ أَنْتُمْ، وَالَّذِي يُنَاسِبُ حَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَا يُخَاطِبُهُمْ بِذَلِكَ، إِذْ فِيهِ مِنْ عَدَمِ الْإِنْسِ مَا لَا يَخْفَى، بَلْ يَظْهَرُ أَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. وَقَالَ ذَلِكَ مَعَ نَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَغِلْمَانِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ ذَلِكَ الْأَضْيَافُ.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ: أَيْ مَضَى أَثْنَاءَ حَدِيثِهِ، مُخْفِيًا مُضِيَّهُ مُسْتَعْجِلًا فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ: وَمِنْ أَدَبِ الْمُضِيفِ أَنْ يُخْفِيَ أَمْرَهُ، وأن يبادر بالقرى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ الضَّيْفُ، حَذَرًا مِنْ أَنْ يَمْنَعَهُ أَنْ يَجِيءَ بِالضِّيَافَةِ. وَكَوْنُهُ عَطَفَ، فَجَاءَ عَلَى فَرَاغَ يَدُلُّ عَلَى سرعة مجيئه بالقرى، وأنه كان معدا عِنْدَهُ لِمَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ «٢»، وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْعِجْلُ سَابِقًا شَيُّهُ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
كَانَ غَالِبُ مَالِهِ الْبَقَرَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُحْضِرُ لِلضَّيْفِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْكُلُ. وكان عليه الصلاة
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٦.
(٢) سورة هود: ١١/ ٦٩.
555
وَالسَّلَامُ مِضْيَافًا، وَحَسْبُكَ وَقْفٌ لِلضِّيَافَةِ أَوْقَافًا تُمْضِيهَا الْأُمَمُ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهَا وَأَجْنَاسِهَا.
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ: فِيهِ أَدَبُ الْمُضِيفِ مِنْ تَقْرِيبِ الْقِرَا لِمَنْ يَأْكُلُ، وَفِيهِ الْعَرْضُ عَلَى الْأَكْلِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَأْنِيسًا لِلْأَكْلِ، بِخِلَافِ مَنْ قَدَّمَ طَعَامًا وَلَمْ يَحُثَّ عَلَى أَكْلِهِ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّجَمُّلِ، عَسَى أَنْ يَمْتَنِعَ الْحَاضِرُ مِنَ الْأَكْلِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي طِبَاعِ بَعْضِ النَّاسِ. حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ إِذَا لَجَّ الْحَاضِرُ وَتَمَادَى فِي الْأَكْلِ، أَخَذَ مِنْ أَحْسَنِ مَا أَحْضَرَ وَأَجْزَلَهُ، فَيُعْطِيهِ لِغُلَامِهِ بِرَسْمِ رَفْعِهِ لِوَقْتٍ آخَرَ يَخْتَصُّ هُوَ بِأَكْلِهِ. وَقِيلَ:
الْهَمْزَةُ فِي أَلَا لِلْإِنْكَارِ، وَكَأَنَّهُ ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَامْتَنَعُوا مِنَ الْأَكْلِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الْأَكْلِ فَقَالَ: أَلا تَأْكُلُونَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا لَا نَأْكُلُ إِلَّا مَا أَدَّيْنَا ثَمَنَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: وَإِنِّي لَا أُبِيحُهُ لَكُمْ إِلَّا بِثَمَنٍ، قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أَنْ تُسَمُّوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ وَتَحْمَدُوهُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَكْلِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: بِحَقٍّ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا».
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً: أَيْ فَلَمَّا اسْتَمَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْأَكْلِ، أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْلَ الضَّيْفِ أَمَنَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى انْبِسَاطِ نَفْسِهِ، وَلِلطَّعَامِ حُرْمَةٌ وَذِمَامٌ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْهُ وَحْشَةٌ. فَخَشِيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّ امْتِنَاعَهُمْ من أكل طعامهم إِنَّمَا هُوَ لِشَرٍّ يُرِيدُونَهُ، فَقَالُوا لَا تَخَفْ، وَعَرَّفُوهُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ أُرْسِلُوا لِلْعَذَابِ. وَعِلْمُهُمْ بِمَا أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْخَوْفِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ مَلَائِكَتَهُ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، أَوْ بِظُهُورِ أَمَارَتِهِ فِي الْوَجْهِ، فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى الْبَاطِنِ.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ شَدَّادٍ: مَسَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَنَاحِهِ الْعِجْلَ، فَقَامَ يَدْرُجُ حَتَّى لَحِقَ بِأُمِّهِ. بِغُلامٍ عَلِيمٍ: أَيْ سَيَكُونُ عَلِيمًا، وَفِيهِ تَبْشِيرٌ بِحَيَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: عَلِيمٍ نَبِيٍّ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ الْمُبَشَّرَ به هو إسحاق بن سَارَّةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. وَقِيلَ: عَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ مِنْ حَيْثُ بَشَّرُوهُ بِغَيْبٍ، وَوَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بَعْدَ التَّأْنِيسِ وَالْجُلُوسِ، وَكَانَتِ الْبِشَارَةُ بِذَكَرٍ، لِأَنَّهُ أَسَرُّ لِلنَّفْسِ وَأَبْهَجُ، وَوَصَفَهُ بِعَلِيمٍ لِأَنَّهَا الصِّفَةُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ إِلَّا بِالصُّورَةِ الْجَمِيلَةِ وَالْقُوَّةِ.
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ: أَيْ إِلَى بَيْتِهَا، وَكَانَتْ فِي زَاوِيَةٍ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَتَسْمَعُ كَلَامَهُمْ. وَقِيلَ: فَأَقْبَلَتِ، أَيْ شَرَعَتْ فِي الصِّيَاحِ. قِيلَ: وَجَدَتْ حَرَارَةَ الدَّمِ، فَلَطَمَتْ وَجْهَهَا مِنَ الْحَيَاءِ. وَالصَّرَّةُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ والضحاك وَسُفْيَانُ: الصَّيْحَةُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
556
فَأَلْحَقْنَا بِالْهَادِيَاتِ وَدُونَهُ حَوَاجِرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تُزَيَّلِ
وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: الرَّنَّةُ. قِيلَ: قَالَتْ أُوهْ بِصِيَاحٍ وَتَعَجُّبٍ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ:
الْجَمَاعَةُ، أَيْ مِنَ النِّسْوَةِ تَبَادَرُوا نَظَرًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الصَّرَّةُ: الصَّيْحَةُ وَالْجَمَاعَةُ وَالشِّدَّةُ. فَصَكَّتْ وَجْهَها: أَيْ لَطَمَتْهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَمْرٌ يستهوله وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَهُوَ فِعْلُ النِّسَاءِ إِذَا تَعَجَّبْنَ مِنْ شَيْءٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَسُفْيَانُ: ضَرَبَتْ بِكَفِّهَا جَبْهَتَهَا، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّاسِ حَتَّى الْآنَ. وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ: أي إنا قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا أَنَّهَا عَجُوزٌ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَأَنَّهَا عَقِيمٌ، وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَلِدْ قَطُّ، فَكَيْفَ أَلِدُ؟ تَعَجَّبَتْ مِنْ ذَلِكَ. قالُوا كَذلِكَ: أَيْ مِثْلُ الْقَوْلِ الَّذِي أَخْبَرْنَاكِ بِهِ، قالَ رَبُّكِ: وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِيجَادِ مَا يُسْتَبْعَدُ.
وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهَا: انْظُرِي إِلَى سَقْفِ بَيْتِكِ، فَنَظَرَتْ، فَإِذَا جُذُوعُهُ مُورِقَةٌ مُثْمِرَةٌ.
إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ: أَيْ ذُو الْحِكْمَةِ. الْعَلِيمُ بِالْمَصَالِحِ.
وَلَمَّا عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْزِلُونَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى رُسُلًا، قَالَ فَما خَطْبُكُمْ إِلَى: قَوْمٍ مُجْرِمِينَ: أَيْ ذَوِي جَرَائِمَ، وَهِيَ كِبَارُ الْمَعَاصِي مِنْ كُفْرٍ وَغَيْرِهِ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ: أَيْ لِنُهْلِكَهُمْ بِهَا، حِجارَةً مِنْ طِينٍ: وَهُوَ السِّجِّيلُ، طِينٌ يُطْبَخُ كما طبخ الْآجِرُ حَتَّى يَصِيرَ فِي صَلَابَةٍ كَالْحِجَارَةِ. مُسَوَّمَةً:
مُعَلَّمَةً، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمُ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ: مُعَلَّمَةً أَنَّهَا مِنْ حِجَارَةِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ:
مُعَلَّمَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حِجَارَةِ الدُّنْيَا، لِلْمُسْرِفِينَ: وَهُمُ الْمُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ.
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها: فِي الْقَرْيَةِ الَّتِي حَلَّ الْعَذَابُ بِأَهْلِهَا. غَيْرَ بَيْتٍ: هُوَ بَيْتُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ لُوطٌ وَابْنَتَاهُ فَقَطْ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُمَا مُعْتَزَلِيَّانِ.
وَتَرَكْنا فِيها: أَيْ فِي الْقَرْيَةِ، آيَةً: عَلَامَةً. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَجَرًا كَبِيرًا جِدًّا مَنْضُودًا. وَقِيلَ: مَاءٌ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا عَائِدًا عَلَى الْإِهْلَاكَةِ الَّتِي أُهْلِكُوهَا، فَإِنَّهَا مِنْ أَعَاجِيبِ الْإِهْلَاكِ، بِجَعْلِ أَعَالِي الْقَرْيَةِ أَسَافِلَ وَإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَفِي مُوسى مَعْطُوفٌ عَلَى وَتَرَكْنا فِيها: أَيْ فِي قِصَّةِ مُوسَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي مُوسى يَكُونُ عَطْفًا عَلَى وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ «١».
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٢٠.
557
وَفِي مُوسى، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: أَوْ عَلَى قَوْلِهِ، وَتَرَكْنا فِيها آيَةً «١»، عَلَى مَعْنَى: وَجَعَلْنَا فِي مُوسَى آيَةً، كَقَوْلِهِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا انْتَهَى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِ وَتَرَكْنا، لِأَنَّهُ قَدْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْمَجْرُورِ وَتَرَكْنا.
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ: أَيِ ازْوَرَّ وَأَعْرَضَ، كَمَا قَالَ: وَنَأى بِجانِبِهِ «٢». وَقِيلَ: بِقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِرُكْنِهِ: بِمَجْمُوعِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِقَوْمِهِ. وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ: ظَنَّ أَحَدَهُمَا، أَوْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَالَهُمَا، قَالَ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ «٣»، وقالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «٤»، وَاسْتَشْهَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِقَوْلِ جَرِيرٍ:
أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أَوْ رَبَاحًا عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ وَالْحَشَايَا
وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى جَعْلِ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، إِذْ يَكُونُ قَالَهُمَا، وَأَبْهَمَ عَلَى السامع، فأو للإبهام. وَمُلِيمٌ
: أَيْ أَتَى مِنَ الْمَعَاصِي مَا يُلَامُ عَلَيْهِ. الْعَقِيمَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا، مِنَ الشِّتَاءِ مَطَرٌ، أَوْ لِقَاحُ شَجَرٍ. وَفِي الصَّحِيحِ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ. فَقَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا الصَّبَا، أَوِ الْجَنُوبُ، أَوِ النَّكْبَاءُ، وَهِيَ رِيحٌ بَيْنَ رِيحَيْنِ، نَكَبَتْ عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ، فَسُمِّيَتْ نَكْبَاءَ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِمُعَارَضَتِهِ لِلنَّصِّ الثَّابِتِ
عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا الدَّبُّورُ.
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ: وَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، كَقَوْلِهِ: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها «٥» : أَيْ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَدْمِيرَهُ وَإِهْلَاكَهُ مِنْ نَاسٍ أَوْ دِيَارٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ نَبَاتٍ، لِأَنَّهَا لَمْ يُرِدِ اللَّهُ بِهَا إِهْلَاكَ الْجِبَالِ وَالْآكَامِ وَالصُّخُورِ، وَلَا الْعَالَمِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِنْ قَوْمِ عَادٍ. إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالرَّمِيمُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي يس، وَهُنَا قَالَ السُّدِّيُّ: التُّرَابُ، وَقَتَادَةُ:
الْهَشِيمُ، وَمُجَاهِدٌ: الْبَالِي، وَقُطْرُبٌ: الرَّمَادُ، وَابْنُ عِيسَى: الْمُنْسَحِقُ الَّذِي لَا يَرِمُّ، جَعَلَ الْهَمْزَةَ فِي أَرَمَّ لِلسَّلْبِ. رُوِيَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَمُرُّ بِالنَّاسِ، فِيهِمُ الرَّجُلُ مِنْ قوم عاد، فتنزعه
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٣٧.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٧٣، وسورة فصلت: ٤١/ ٥١.
(٣) سورة الشعراء: ٢٦/ ٣٤.
(٤) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢٧.
(٥) سورة الأحقاف: ٤٦/ ٢٥.
558
مِنْ بَيْنِهِمْ وَتُهْلِكُهُ. تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا كَانَ حِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ صَالِحٌ، أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَالتَّمَتُّعِ إِلَى أَنْ تَأْتِيَ آجَالُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَتَوْا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ تَأَخُّرَ الْعُتُوِّ عَنْ مَا أُمِرُوا بِهِ، فهو مطابق لفظا ووجود. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا الْأَمْرُ بِالتَّمَتُّعِ كَانَ بَعْدَ عَقْرِ النَّاقَةِ، وَالْحِينُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ الَّتِي أُوعِدُوا فِي تَمَامِهَا بِالْعَذَابِ. فَالْعُتُوُّ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ، إِذْ هُوَ غَيْرُ مُرَتَّبٍ فِي الْوُجُودِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الصَّاعِقَةُ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَالْكِسَائِيُّ: الصَّعْقَةُ، وَهِيَ الصَّيْحَةُ هُنَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الصَّاعِقَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَقِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ. وَهُمْ يَنْظُرُونَ: أَيْ فَجْأَةً، وَهُمْ يَنْظُرُونَ بِعُيُونِهِمْ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ: وَكَانَتْ نَهَارًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أُعْلِمُوهُ فِيهَا، وَرَأَوْا عَلَامَاتِهِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَانْتِظَارُ الْعَذَابِ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ، لِقَوْلِهِ: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ «١»، وَنَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْقُدْرَةِ. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ، أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الِانْتِصَارِ: أَيْ فَمَا قَدَرُوا عَلَى الْهَرَبِ، وَلَا كَانُوا مِمَّنْ يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ فَيَدْفَعُ مَا حَلَّ بِهِ. وَقِيلَ: مِنْ قِيامٍ، هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا يَقُومُ بِهِ إِذَا عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى انْتِصَابَ الْقَامَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَقَوْمَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ وَفِي قَوْمِ نُوحٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: بِالنَّصْبِ. قِيلَ: عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي فَأَخَذَتْهُمُ وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى نَبَذْناهُمْ
، لِأَنَّ مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا: فَأَهْلَكْنَاهُمْ.
وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَأَهْلَكْنَا قَوْمَ نُوحٍ، لِدَلَالَةِ مَعْنَى الْكَلَامِ عليه. وقيل:
باذكر مُضْمَرَةً. وَرَوَى عَبْدُ الْوَارِثِ، وَمَحْبُوبٌ، وَالْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَبُو السَّمَّالِ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: وَقَوْمُ نُوحٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٧٨- ٩١، وسورة هود: ١١/ ٦٧- ٩٤، وسورة العنكبوت: ٢٩/ ٣٧.
559
مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.
أَيْ: وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، وَكَذَا وَفَرَشْنَا الْأَرْضَ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِرَفْعِ السَّمَاءِ وَرَفْعِ الْأَرْضِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. بِأَيْدٍ: أَيْ بِقُوَّةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: داوُدَ ذَا الْأَيْدِ «١». وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ: أَيْ بِنَاءَهَا، فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ بَنَيْنَاهَا مُوَسِّعُوهَا، كَقَوْلِهِ: جَاءَ زَيْدٌ وَإِنَّهُ لَمُسْرِعٌ، أَيْ مُسْرِعًا، فَهِيَ بِحَيْثُ أَنَّ الْأَرْضَ وَمَا يُحِيطُ مِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَالنُّقْطَةِ وَسَطَ الدَّائِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ قَرِيبًا مِنْ هَذَا وَهُوَ: أَنَّ الْوُسْعَ رَاجِعٌ إِلَى السَّمَاءِ. وَقِيلَ: لَمُوسِعُونَ قُوَّةً وَقُدْرَةً، أَيْ لَقَادِرُونَ مِنَ الْوُسْعِ، وَهُوَ الطَّاقَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَوْسَعَ الرِّزْقَ بِالْمَطَرِ والماء.
فَنِعْمَ الْماهِدُونَ، وخَلَقْنا زَوْجَيْنِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِشَارَةٌ إِلَى الْمُتَضَادَّاتِ وَالْمُتَقَابِلَاتِ، كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي تُوجِدُ الضِّدَّيْنِ، بِخِلَافِ مَا يُفْعَلُ بِطَبْعِهِ، كَالتَّسْخِينِ وَالتَّبْرِيدِ. وَمَثَّلَ الْحَسَنُ بِأَشْيَاءَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَقَالَ: كُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهَا زَوْجٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى فَرْدٌ لَا مِثْلَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: أَيْ مِنَ الْحَيَوَانِ، خَلَقْنا زَوْجَيْنِ: ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ الْجِنْسُ، وَمَا يَكُونُ تَحْتَ الْجِنْسِ نَوْعَانِ: فَمِنْ كُلِّ جِنْسٍ خَلَقَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْجَوَاهِرِ، مِثْلَ النَّامِي وَالْجَامِدِ. وَمِنَ النَّامِي الْمُدْرِكَ وَالنَّبَاتَ، وَمِنَ الْمُدْرِكِ النَّاطِقَ وَالصَّامِتَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَرْدٌ لَا كَثْرَةَ فِيهِ. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ: أَيْ بِأَنِّي بَانِي السَّمَاءِ وَفَارِشُ الْأَرْضِ وَخَالِقُ الزَّوْجَيْنِ، تَعَالَى أَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجٌ. أَوْ تَذْكُرُونَ أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ حَشْرُ الْأَجْسَادِ وَجَمْعُ الْأَرْوَاحِ. وقرأ أبي: يتذكرون، بِتَاءَيْنِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ. وَقِيلَ: إِرَادَةَ أَنْ تَتَذَكَّرُوا، فَتَعْرِفُوا الْخَالِقَ وَتَعْبُدُوهُ.
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ: أَمْرٌ بِالدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بِلَفْظِ الْفِرَارِ، لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ وَرَاءَ النَّاسِ عِقَابٌ وَعَذَابٌ. وَأَمْرٌ حَقُّهُ أَنْ يُفَرَّ مِنْهُ، فَجُمِعَتْ لَفْظَةُ فَفِرُّوا بَيْنَ التَّحْذِيرِ وَالِاسْتِدْعَاءِ. وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ»
، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَى طَاعَتِهِ وَثَوَابِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ
(١) سورة ص: ٣٨/ ١٧.
560
وَعِقَابِهِ، وَوَحِّدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَكَرَّرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، عِنْدَ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا مَعَ الْعَمَلِ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَفُوزُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً؟ «١» وَالْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ.
انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها فِي مَوْضِعِ هَذِهِ الْآيَةِ.
كَذلِكَ: أَيْ أَمْرُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ عِنْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، مِثْلُ الْأَمْرِ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ. ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ: أَوْ لِلتَّفْصِيلِ، أَيْ قَالَ بَعْضٌ سَاحِرٌ، وَقَالَ بَعْضٌ مَجْنُونٌ، وَقَالَ بَعْضٌ كِلَاهُمَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقُولُوا عَنْهُ إِنَّهُ سَاحِرٌ، بَلْ قَالُوا بِهِ جِنَّةٌ، فَجَمَعُوا فِي الضَّمِيرِ وَدَلَّتْ أَوْ عَلَى التَّفْصِيلِ؟ أَتَواصَوْا بِهِ: أَيْ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَهُوَ تَوْقِيفٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ تَوَارُدِ نُفُوسِ الْكَفَرَةِ عَلَى تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ، مَعَ افْتِرَاقِ أَزْمَانِهِمْ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ: أَيْ لَمْ يَتَوَاصَوْا بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، بَلْ جَمَعَتْهُمْ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ كَوْنُهُمْ طُغَاةً، فَهُمْ مُسْتَعْلُونَ فِي الْأَرْضِ، مُفْسِدُونَ فِيهَا عَاتُونَ.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ: أَيْ أَعْرِضْ عَنِ الَّذِينَ كَرَّرْتَ عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ، فَلَمْ يُجِيبُوا. فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ: إِذْ قَدْ بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ. وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ: تُؤَثِّرُ فِيهِمْ وَفِيمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يُؤْمِنَ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ مِنِ الْمُوَادَعَةِ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: لَمَّا نَزَلَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، حَزِنَ الْمُسْلِمُونَ وَظَنُّوا أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّوَلِّي عَنِ الْجَمِيعِ، وَأَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، نَزَلَتْ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
، فَسُرُّوا بِذَلِكَ. إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: أَيْ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ الطَّائِعِينَ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَسُفْيَانُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ،
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».
وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: إِلَّا لِأَمْرِهِمْ بِعِبَادَتِي، وَلِيُقِرُّوا لِي بِالْعِبَادَةِ.
فَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: لِيَعْبُدُونِ، إِذِ الْعِبَادَةُ هِيَ مُضَمَّنُ الْأَمْرِ، فَعَلَى هَذَا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَامٌّ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المعنى: إِلَّا مُعَدِّينَ لِيَعْبُدُونِ، وَكَأَنَّ الْآيَةَ تَعْدِيدُ نِعَمِهِ، أَيْ خلقت لهم حواس وَعُقُولًا وَأَجْسَامًا مُنْقَادَةً، نَحْوَ: الْعِبَادَةِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا مخلوق لكذا،
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٨.
561
وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ، كَمَا تَقُولُ: الْقَلَمُ مَبْرِيٌّ لِأَنْ يُكْتَبَ بِهِ، وَهُوَ قَدْ يُكْتَبُ بِهِ وَقَدْ لَا يُكْتَبُ بِهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ، وَلَمْ أُرِدْ مِنْ جَمِيعِهِمْ إِلَّا إِيَّاهَا. فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ مُرِيدًا لِلْعِبَادَةِ مِنْهُمْ، لَكَانُوا كُلُّهُمْ عُبَّادًا. قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ مُخْتَارِينَ لِلْعِبَادَةِ لَا مُضْطَرِّينَ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ مُمَكَّنِينَ، فَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ تَرْكَ الْعِبَادَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُرِيدًا لَهَا، وَلَوْ أَرَادَهَا عَلَى الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ لَوُجِدَتْ مِنْ جَمِيعِهِمْ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ: لِيَعْرِفُونِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لِأَحْمِلَهُمْ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِلَّا لِلْعِبَادَةِ، قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ.
وَقِيلَ: إِلَّا لِيَذِلُّوا لِقَضَائِي. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ، فَالْمُؤْمِنُ يُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْكَافِرُ فِي الشِّدَّةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لِيُطِيعُونِ، فَأُثِيبَ الْعَابِدَ، وَأُعَاقِبَ الْجَاحِدَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: إِلَّا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ: أَيْ أَنْ يَرْزُقُوا أَنْفُسَهُمْ وَلَا غَيْرَهُمْ. وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ: أَيْ أَنْ يُطْعِمُوا خَلْقِي، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى الضَّمِيرِ تَجُوزُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أَنْ يُطْعِمُونِ: أَنْ يَنْفَعُونِ، فَذَكَرَ جُزْءًا مِنَ الْمَنَافِعِ وَجَعَلَهُ دَالًّا عَلَى الْجَمِيعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ إِنَّ شَأْنِي مَعَ عِبَادِي لَيْسَ كَشَأْنِ السَّادَةِ مَعَ عَبِيدِهِمْ، لِأَنَّ مُلَّاكَ الْعَبِيدِ إِنَّمَا يَمْلِكُونَهُمْ لِيَسْتَعِينُوا فِي تَحْصِيلِ مَعَايِشِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ بِهِمْ فَإِمَّا مُجَهَّزٌ فِي تِجَارَةٍ يَبْغِي رِبْحًا، أَوْ مُرَتَّبٌ فِي فِلَاحَةٍ لِيَقْتُلَ أَرْضًا، أَوْ مُسَلَّمٌ فِي حِرْفَةٍ لِيَنْتَفِعَ بِأُجْرَتِهِ، أَوْ مُحْتَطِبٌ، أَوْ مُحْتَشٌّ، أَوْ مُسْتَقٍ، أَوْ طَابِخٌ، أَوْ خَابِزٌ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمِهَنِ الَّتِي تُصْرَفُ فِي أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ وَأَبْوَابِ الرِّزْقِ. فَأَمَّا مَالِكُ مُلَّاكِ الْعَبِيدِ فَقَالَ لَهُمْ: اشْتَغِلُوا بِمَا يُسْعِدُكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَكُمْ فِي تَحْصِيلِ رِزْقِي وَلَا رِزْقِكُمْ، وَأَنَا غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ مَرَافِقِكُمْ، وَمُتَفَضِّلٌ عَلَيْكُمْ بِرِزْقِكُمْ وَبِمَا يُصْلِحُكُمْ وَيُعَيِّشُكُمْ مِنْ عِنْدِي، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي. انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَخَطَابَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: الرَّزَّاقُ، كَمَا قَرَأَ:
وَفِي السماء رازقكم: اسْمُ فَاعِلٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حُمَيْدٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ وَثَّابٍ:
الْمَتِينُ بِالْجَرِّ، صِفَةً لِلْقُوَّةِ عَلَى مَعْنَى الِاقْتِدَارِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ كَأَنَّهُ قَالَ: ذُو الْأَيْدِ، وَأَجَازَ أَبُو الْفَتْحِ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لَذُو وَخُفِضَ عَلَى الْجِوَارِ، كَقَوْلِهِمْ: هَذَا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ.
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، ذَنُوبًا: أَيْ حَظًّا وَنَصِيبًا، مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ: مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ
562
فِي الْإِهْلَاكِ وَالْعَذَابِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: سَجْلًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِثْلَ سَجْلِ أَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الذَّنُوبُ: الدَّلْوُ الْمَلْأَى مَاءً، وَلَا يُقَالُ لَهَا ذَنُوبٌ وَهِيَ فَارِغَةٌ وَجَمْعُهَا الْعَدَدُ، وَفِي الْكَثِيرِ ذَنَائِبُ. وَالذَّنُوبُ: الْفَرَسُ الطَّوِيلُ الذَّنَبِ، وَالذَّنُوبُ: النَّصِيبُ، وَالذَّنُوبُ: لَحْمٌ أَسْفَلَ الْمَتْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ يَوْمٌ ذَنُوبٌ: أَيْ طَوِيلُ الشَّرِّ لَا يَنْقَضِي. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ، قِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يُوعَدُونَ: أَيْ بِهِ، أَوْ يُوعَدُونَهُ.
563
Icon