تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب تفسير العز بن عبد السلام
المعروف بـتفسير العز بن عبد السلام
.
لمؤلفه
عز الدين بن عبد السلام
.
المتوفي سنة 660 هـ
سورة الأنعام مكية إلا ثلاث آيات ﴿ قل تعالوا ﴾ [ ١٥١ ] إلى آخر الثلاث، أو مكية إلا آيتين ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ [ ٩١ ] نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف والأخرى ﴿ وهو الذي أنشأ جنات ﴾ [ ١٤١ ] نزلت في معاذ بن جبل، أو ثابت بن قيس، قاله ابن عباس - رضي الله - تعالى عنهما – أو كلها مكية نزلت جملة واحدة معها سبعون ألف ملك، قال وهب :' فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمتها خاتمة هود '.
١ -﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ خبر بمعنى الأمر، وهو أولى من قوله ﴿احمدوا﴾ لما فيه من تعليم اللفظ، ولان البرهان يشهد للخبر دون الأمر. ﴿السموات﴾ جمعها تفخيماً لها، لن الجمع يقتضي التفخيم ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر﴾ [الحجر: ٩] قدّم السموات والظلمات في الذكر لتقدم خلقهما على خلق الأرض والنور.
٢ -﴿من طين﴾ لما كانوا فرعاً لما خلق من الطين جاز أن يقول: ﴿خلقكم من طين﴾﴿أجلا﴾ للحياة إلى الموت، والمسمى: أجل الموت إلى البعث، أو الأول أجل الدنيا، والمسمى: ابتداء ألاخرة، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو الأول: الذي قضاه يوم الذر، والمسمى: حياة الدنيا. ﴿تمترون﴾ تشكون.
٣ -﴿وهو الله﴾ المدبر في السموات، أو هو يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض لأن الملائكة في السماء، والثقلين في الأرض. ﴿ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروآ إن هذآ إلا سحر مبين (٧) وقالوا لولآ أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضى الأمر ثم لا ينظرون (٨) ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون (٩) ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون (١٠) قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين (١١) ﴾
٩ -﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً﴾ لصورناه بصورة رجل، لأنهم لا يقدرون على رؤية الملك على صورته. ﴿مَّا يَلْبِسُونَ﴾ ما يخلطون، أو يشبهون، قال الزجاج: كما يشبهون على ضعفائهم.
429
﴿قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (١٢) وله ما سكن في اليل والنهار وهو السميع العليم (١٣) قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (١٤) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (١٥) من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين (١٦) ﴾
١٤ -﴿فَاطِرِ﴾ خالق ومبتدىء، ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - " كنت لا أدري ما فاطر حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها " أصل الفَطر: الشق، ﴿مِن فُطُورٍ﴾ [الملك: ٣] شقوق. ﴿يُطْعِمُ﴾ يَرْزُق ولا يُرزق. ﴿أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ من هذه الأمة. {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير (١٧) وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير (١٨) قل أي شيء اكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحى إلي هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله ءالهة أخرى قل لآ أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون (١٩) الذين ءاتيناهم
430
الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم الذين خسروآ أنفسهم فهم لا يؤمنون (٢٠) ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بئاياته إنه لا يفلح الظالمون (٢١) }
١٩ -﴿أي شيء﴾ نزلت لما قالوا للرسول ﷺ من يشهد لك بالنبوّة فشهد الله - تعالى - له بالنبوّة، أو أمره أن يشهد عليهم بتبليغ الرسالة، فقال لهم ذلك ليشهده عليهم.
٢٠ -﴿الذين آتيناهم الْكِتَابَ﴾ القرآن، أو التوراة، والإنجيل ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ محمداً ﷺ بصفته في كتبهم، أو يعرفون القرآن الدال على صحة نبوّته. ﴿خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ غبنوها وأهلكوها بالكفر، أو خسروا منازلهم وأزواجهم في الجنة، إذ لكلٍّ منازل وأزواج في الجنة، فإن آمن فهي له، وإن كفر فهي لمن آمن من أهلهم، وهذا معنى ﴿الذين يَرِثُونَ الفردوس﴾ [المؤمنون: ١١]. {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركآؤكم الذين كنتم تزعمون (٢٢) ثم لم تكن فتنتهم إلآ أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (٢٣) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (٢٤) ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قولهم أكنة أن يفقهوه وفي ءاذانهم وقراً وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها حتى إذا جآءوك يجادلونك يقول الذين كفروآ إن هذآ إلآ أساطير الأولين (٢٥) وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلآ أنفسهم وما يشعرون
٢٥ -[ ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ يستمعون قراءة النبي ﷺ في صلاته ليلاً، ليعرفوا مكانه فيؤذوه، فصُرفوا عنه بالنوم وإلقاء الوقر، والأكنة: الأغطية، واحدها كنان، كننت الشيء غطيته، وأكننته في نفسي أخفيته، والوقر: الثقل. ﴿كل آية﴾ كل علامة معجزة لا يؤمنوا بها لحسدهم.
وبغضهم. ﴿يُجَادِلُونَكَ﴾ بقولهم أساطير الأولين التي سطروها في كتبهم، أو قالوا: كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم، قاله ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما.
٢٦ -﴿ينهون﴾ عن اتباع الرسول ﷺ ويتباعدون فراراً منه، أو ينهون عن العمل بالقرآن ويتباعدون عن سماعه لئلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته، أو ينهون عن أذى الرسول ﷺ ويتباعدون عن اتباعه، قال ابن عباس - رضي الله - تعالى - عنهما - نزلت في أبي طالب نهى عن
432
أذى الرسول ﷺ ويتباعد عن الإيمان به مع علمه بصحته، قال:
(ودعوتني وزعمت أنك ناصحي
فلقد صدقت وكنت ثم أمينا)
(وعرضت دينا قد علمت بأنه
من خير أديان البرية دينا)
(لولا الذمامة أو أحاذر سُبَّةً
لوجدتني سمحاً بذاك مبينا)
433
﴿ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بئايات ربنا ونكن من المؤمنين (٢٧) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (٢٨) وقالوآ إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (٢٩) ولو ترى إذ قفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (٣٠) ﴾
٢٨ -﴿مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ﴾ وبال ما أخفوه، أو ما أخفاه بعضهم من بعض، أو بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء. ﴿لَكَاذِبُونَ﴾ فيما أخبروا به من الإيمان لو ردوا، أو خبر مستأنف يعود إلى ما تقدم. ﴿قد خسر الذين كذبوا بلقآء اله حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا سآء ما يزرون (٣١) وما الحياة الدنيآ إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (٣٢) ﴾
٣٢ -﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ ما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو بخلاف العمل للآخرة، أو ما أهل الدنيا إلا أهل لعب ولهو لاشتغالهم بها عما هو أولى منها، أو هم كأهل اللعب لانقطاع لذتهم وفنائها بخلاف الآخرة فإن لذاتها دائمة. {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بئايات الله
434
يجحدون (٣٣) ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جآءك من نبإى المرسلين (٣٤) وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السمآء فتأتيهم بئاية ولو شآء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين (٣٥) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (٣٦) }
٣٣ -﴿لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ﴾ من تكذيبك والكفر بي. ﴿لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ بحجة بل بهتاً وعناداً لا يضرك، [أو] لا يكذبونك لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به، أو لا يكذبونك سراً بل علانية لعداوتهم لك، أو لا يكذبونك لأنك مبلغ وإنما يكذبون ما جئت به.
٣٥ -﴿إِعْرَاضُهُمْ﴾ عن سماع القرآن، أو عن اتباعك. ﴿نَفَقاً﴾ سَرَباً، وهو المسلك النافذ مأخوذ من نافقاء اليربوع ﴿سُلَّماً﴾ مصعداً، أو درجاً، أو سبباً. ﴿فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ﴾ أفضل من آيتك فافعل فحذف الجواب. ﴿مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ لا تجزع في مواطن الصبر فتشبه الجاهلين.
٣٦ -﴿الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ طلباً للحق، أو يعقلون، والاستجابة القبول والجواب يكون قبولاً وغير قبول. ﴿وَالْمَوْتَى﴾ الكفار، أو الذين فقدوا الحياة. {وقالوا لولا نزل عليه ءاية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل ءاية ولكن أكثرهم لا
435
يعلمون (٣٧) وما من دآبة في الأرض ولا طآئر يطير بجناحيه إلآ أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (٣٨) والذين كذبوا بئاياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (٣٩) }
٣٨ -﴿أمم﴾ جماعات، أو أجناس. ﴿أمثالكم﴾ في أنها مخلوقة لا تظلم، ومرزوقة لا تحرم. ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ من أمور الدين مفصلاً، أو مجملاً جعل إلى بيانه سبيلا. ﴿يحشرون﴾ يموتون، أو يجمون لبعث الساعة. ﴿قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله أو اتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (٤٠) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شآء وتنسون ما تشركون (٤١) ولقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأسآء والضرآء لعلهم يتضرعون (٤٢) فلولآ إذ جآءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (٤٣) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بمآ أوتوآ أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (٤٤) فعطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (٤٥) ﴾
٤٤ -﴿أبواب كل شيء﴾ من الرزق والنعم. ﴿مبلسون﴾ هو الإياس، أو الحزن والندم، أو الخشوع، أو الخذلان، أو السكوت وانقطاع الحجة. {قل لآ أقول لكم عندي خزآئن الله ولآ أعلم الغيب ولآ أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (٥٠) وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون (٥١) ولا
436
تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين (٥٢) وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلآء من الله عليهم من بيننآ أليس الله بأعلم بالشاكرين (٥٣) وإذا جآءك الذين يؤمنون بئاياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (٥٤) }
٥٠ -﴿خَزَآئِنَ اللَّهِ﴾ من الرزق فلا أقدر على إغناء ولا إفقار، أو خزائن العذاب، أنه لما خوّفهم به استعجلوه استهزاء. ﴿وَلآ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ في نزول العذاب أو جميع الغيوب. ﴿إِنِّى مَلَكٌ﴾ تفضيل للملك، أي لا أدّعي منزلة ليست لي، أو لست ملكاً في السماء فأعلم الغيب الذي تشاهده الملائكة ولا يعلمه البشر، فلا تفضيل فيه للملك على النبي.
٥٢ -﴿وَلا تَطْرُدِ﴾ نزلت لما جاء الملأ من قريش فوجدوا عند الرسول ﷺ عماراً وصهيباً وخباباً وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - فقالوا اطرد عنا موالينا وحلفاءنا، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك،
437
فقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما يصيرون، فَهمَّ الرسول ﷺ بذلك، ونزل في الملأ ﴿وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ ببعض﴾ [٥٣] فاعتذر عمر - رضي الله تعالى عنه - عن مقالته، فأنزل ﴿وإذا جاءك الذين يؤمنون﴾ [٥٤]. ﴿يَدْعُونَ﴾ الصلوات الخمس، أو ذكر الله - تعالى - أو عبادته، أو تعلم القرآن. ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ يريدون طاعته بقصدهم الوجه الذي وجههم إليه، أو يريدونه بدعائهم، وقد يعبّر عن الشيء بالوجه كقولهم: " هذا وجه الصواب ". ﴿حِسَابِهِم﴾ حساب عملهم بالثواب والعقاب، وما من حساب عملك عليهم شيء، كل مؤاخذ بحساب عمله دون غيره، أو ما عليك من حساب رزقهم وفقرهم من شيء.
٥٣ -﴿فَتَنَّا﴾ اختبرناهم باختلاف في الأرزاق والأخلاق، أو بتكليف ما فيه مشقة على النفس مع قدرتها عليه. ﴿مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ باللطف في إيمانهم، أو بما ذكره من شكرهم على طاعته.
٥٤ -﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ ضعفاء المسلمين، وما كان من شأن عمر - رضي الله تعالى عنه - ﴿فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ مني، أو من الله - تعالى - قاله الحسن والسلام: جمع السلامة، أو هو الله ذو السلام. ﴿كَتَبَ﴾ أوجب، أو
438
كتب في اللوح المحفوظ. ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ بخطيئة، أو ما جهل كراهة عاقبته. ﴿وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (٥٥) قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لآ اتبع أهوآءكم قد ضللت إذا ومآ أنا من المهتدين (٥٦) قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (٥٧) قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين (٥٨) وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (٥٩) ﴾
٥٧ -﴿بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى﴾ معجز القرآن، أو الحق الذي بانَ له. ﴿وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾ بربكم، أو بالبينة. ﴿تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ من العذاب، أو من اقتراح الآيات، لأنه طلب الشيء في غير وقته. ﴿الْحُكْمُ﴾ في الثواب والعقاب، أو في تمييز الحق من الباطل. ﴿يقضي الحق﴾ يتممه. ﴿يقص﴾ يخبر. {وهو الذي يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون (٦٠) وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جآء أحدكم الموت توفته رسلنا وهو لا يفرطون (٦١) ثم
439
ردوا إلى مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين (٦٢) }
٦١ -﴿الْقَاهِرُ﴾ الأقدر، فوقهم: في القهر كما يقال فوقه في العلم إذا كان أعلم، أو علا بقهره. ﴿حَفَظَةً) {الملائكة﴾ (لا يُفَرِّطُونَ} لا يؤخرون، أو لا يضيعون.
٦٢ -﴿رُدُّواْ﴾ ردتهم الملائكة الذين يتوفونهم، أو ردّهم الله بالبعث والنشور، أي ردّهم إلى تدبيره وحده، لأنه دبرهم عند النشأة وحده، ثم مكنهم من التصرف فدبروا أنفسهم، ثم ردّهم إلى تدبيره وحده بموتهم، فكان ذلك ردّاً إلى الحالة الأولى، أو ردّوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله. ﴿أَلا لَهُ الْحُكْمُ﴾ بين عباده يوم القيامة وحده، أو له الحكم مطلقاً لأن من سواه يحكم بأمره فصار حكماً له. ﴿قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (٦٣) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (٦٤) قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (٦٥) ﴾
٦٥ -﴿مِّن فَوْقِكُمْ﴾ أئمة السوء ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ عبيد السوء قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو من فوقهم: الرجم، ومن تحتهم: الخسف، أو من فوقهم: الطوفان، ومن تحتهم: الريح. ﴿يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾ الأهواء المختلفة، أو الفتن والاختلاف. ﴿بَأْسَ بَعْضٍ﴾ بالحروب والقتل، نزلت في المشركين، أو في المسلمين وشق نزولها على الرسول ﷺ وقال: إني سألت ربي أن يجيرني من أربع فأجارني من خصلتين، ولم يجرني من خصلتين، / سألته أن لا يهلك أمتي بعذاب من فوقهم كما فعل بقوم نوح - عليه الصلاة والسلام - وبقوم لوط، فأجابني، وسألته أن لا يهلك أمتي بعذاب من تحت أرجلهم كما فعل بقارون فأجابني، وسألته أن لا يفرقهم شيعاً فلم يجبني، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يجبني، ونزل ﴿الم أَحَسِبَ الناس أن يتركوا﴾ [العنكبوت / ١، ٢]. {وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل (٦٦) لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون (٦٧) وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (٦٨) وما على الذين يتقون من
٦٦ -﴿وَكَذَّبَ بِهِ﴾ بالقرآن، أو بتصريف الآيات. ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ أي ما كذبوا به، والفرق بينه وبين الصواب: أنّ الصواب لا يدرك إلا بطلب، والحق قد يدرك بغير طلب. ﴿بِوَكِيلٍ﴾ بحفيظ أمنعكم من الكفر، أو بحفيظ لأعمالكم حتى أجازيكم عليها، أو لا آخذكم بالإيمان، إجباراً كما يأخذ الوكيل بالشيء.
٦٧ -﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ﴾ أخبر الله - تعالى - به من وعد أو وعيد مستقر في المستقبل أو الماضي أو الحاضر، أو مستقر في الدنيا أو الآخرة، أو هو وعيد للكفار بما ينزل بهم في الآخرة، أو وعيد بما يحلّ بهم في الدنيا.
٦٩ -﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الله في أمره ونهيه من حساب استهزاء الكفار وتكذيبهم مأثم لكن عليهم تذكرهم بالله وآياته لعلهم يتقون الاستهزاء والتكذيب، أو ما على الذين يتّقون من تشديد الحساب والغلظة ما على الكفار، لأن محاسبتهم ذكرى وتخفيف، ومحاسبة الكفار غلظة وتشديد، لعلهم يتقون إذا علموا ذلك، أو ما على الذين يتّقون فيما فعلوه من ردّ وصد حساب ولكن اعدلوا إلى تذكيرهم بالقول قبل الفعل لعلهم يتقون. {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (٧٠)
٧٠ -﴿وَذَرِ الَّذِينَ﴾ منسوخة، أو محكمة على جهة التهديد، كقوله ﴿ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ﴾ [المدثر: ١١]. {دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً] استهزاؤهم بالقرآن إذا سمعوه، أو لكل قوم عيد يلهون فيه إلا المسلمون فإن أعيادهم صلاة وتكبير
442
وبرّ وخير. ﴿أَن تُبْسَلَ﴾ تُسْلَم، أو تُحبس، أو تُفضح، أو تؤخذ بما كسبت أو تجزى، أو ترتهن، أسد باسل: يرتهن الفريسة بحيث لا تفلت، وأصل الإبسال: التحريم، شراب بسيل: حرام. قال:
(بَكَرت تلومك بَعْدَ وَهنٍ في الندى
بَسْلٌ عليكِ ملامتي وعتابي)
﴿وَإِن تَعْدِلْ﴾ تفتدِ بكل مال، أو بالإسلام والتوبة. ﴿قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين (٧١) وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون (٧٢) وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير (٧٣) ﴾
٧١ -﴿أَنَدْعُواْ﴾ أنطلب النجاح، أو أنعبد. ، ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾ دعته إلى قصدها واتباعها، كقوله ﴿تهوى إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: ٣٧] أي تقصدهم وتتبعهم، أو تأمره بالهوى، قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - نزلت في أبي بكر وامرأته
443
لما دعوا ابنهما " عبد الرحمن " أن يأتيهما إلى الإسلام.
٧٣ -﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِ﴾ بالحكمة، أو الإحسان إلى العباد، أو بكلمة الحق، أو نفس خلقهما حق. ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ يقول ليوم القيامة كن فيكون لا يثني إليه القول مرة أخرى، أو يقول للسماوات كوني قرناً ينفخ فيه لقيام الساعة فتكون صوراً كالقرن وتبدل سماء أخرى. ﴿الصُّورِ﴾ قرن ينفخ فيه للإفناء والإعادة، أو جمع صورة ينفخ فيها أرواحها. ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ / أي الذي خلق السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أو الذي ينفخ في الصور عالم الغيب. ﴿وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناماً ءالهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (٧٤) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (٧٥) ﴾
444
فلما جن عليه اليل رءا كوكباً قال هذا ربي فلمآ أقل قال لآ أحب الأفلين (٧٦) فلما رءا القمر بازغاً قال هذا ربي فلمآ افل قال لئي لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضآلين (٧٧) فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذآ أكبر فلمآ أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (٧٨) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً ومآ أنا من المشركين (٧٩) }
٧٤ -﴿آزر﴾ اسم أبي إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان من أهل " كوثى " قرية من سواد الكوفة، أو آزر ليس باسم بل سب وعيب معناه: " معوج "، كأنه عابه باعوجاجه عن الحق، وضاع حق أبوته بتضييعه حق الله - تعالى -، أو آزر اسم صنم وكان اسم أبيه " تارح ".
٧٥ -﴿وَكَذَلِكَ﴾ " ذا " إشارة لما قرب، و " ذاك " لما بعد، و " ذلك " لتفخيم شأن ما بعد. ﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ﴾ آياتهما، أو خلقهما، أو ملكها، والملكوت: الملك نبطي، أو عربي، ملك وملكوت: كرهبة ورهبوت، ورحمة ورحموت، وقالوا: رهبوت خير من رحموت أي ترهب خير من أن ترحم، أو الشمس والقمر والنجوم، أو ﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ﴾ الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والثمار والشجر.
٧٦ -﴿جن عليه الليل﴾ ستره، الجِن والجَنين لاستتارهما، والجنة والجنون والمجن لسترها. ﴿رأى كَوْكَباً﴾ قيل هو الزهرة طلعت عشاء. ﴿هَذَا رَبِّى﴾ في ظني، قاله حال استدلاله، أو اعتقد أنه ربه، أو قال ذلك وهو طفل، لأن أمه جعلته في غار حذراً عليه من نمروذ فلما خرج قال: ذلك قبل قيام الحجة عليه، لأنه في حال لا يصح منه كفر ولا إيمان، ولا يجوز أن يقع من الأنبياء - صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين - شرك بعد البلوغ، أو قاله على وجه التوبيخ والإنكار الذي يكون مع ألف الاستفهام أو أنكر بذلك عبادته [الأصنام] إذ كانت الكواكب لم تضعها يد بشر ولم تعبد لزوالها
446
فالأصنام التي هي دونها أجدر. ﴿لآ أُحِبُّ الأَفِلِينَ﴾ حب الربّ المعبود، أفل: غاب.
٧٧ -﴿بازغا﴾ طالعاً بزغ: طلع. ﴿وحآجه قومه قال أتحآجوني في الله وقد هدان ولآ أخاف ما تشركون به إلآ أن يشآء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون (٨٠) وكيف أخاف مآ أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (٨١) الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (٨٢) وتلك حجتنآ ءاتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم (٨٣) ﴾
٨٢ -﴿الذين آمنوا وَلَمْ يَلْبِسُواْ﴾ من قول الله - تعالى -، أو من قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، أو من قول قومه قامت به الحجة عليهم ﴿بِظُلْمٍ) بشرك لما نزلت شق على المسلمين، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " ليس كما تظنون، وإنما هو كقول " لقمان " لابنه {لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] أو المراد جميع أنواع الظلم فعلى هذا هي عامة، أو خاصة بإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وحده، قاله علي - رضي
٨٣ -﴿حُجَّتُنَآ﴾ قوله فأي الفريقين أحقّ بالأمن؟ عبادة إله واحد أو آلهة شتى، فقالوا: عبادة إله واحد فأقرّوا على أنفسهم، أو قالوا له: [ألا] تخاف [أن] تخبلك آلهتنا؟ فقال: أما تخافون أن تخبلكم بجمعكم الصغير مع الكبير في العبادة؟ أو قال لهم: أتعبدون ما لا يملك لكم ضراً لا نفعاً أم من يملك الضرّ والنفع؟، فقالوا: ما لك الضرّ والنفع أحق. وهذه الحجة استنبطها بفكره، أو أمره / بها ربه. ﴿ {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (٨٤﴾ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (٨٥) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين (٨٦) ومن ءابآئهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (٨٧) ذلك هدى الله يهدي به من يشآء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (٨٨) أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلآء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين (٨٩) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لآ أسئلكم عليه اجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين (٩٠) }
٨٩ -﴿فَإِنَ يَكْفُرْ بِهَا) {قريش﴾ (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} الأنصار، أو إن يكفر بها أهل مكة فقد وكلنا أهل المدينة، أو إن يكفر بها قريش فقد وكلنا بها الملائكة، أو الأنبياء الثمانية عشر المذكورين من قبل ﴿وَوَهَبْنَا له إسحاق﴾ [٨٤]، أو جميع المؤمنين. ﴿وَكَّلْنَا بِهَا﴾ أقمنا لحفظها ونصرها يعني الكتب والشرائع.
448
﴿وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا مآ أنزل الله على بشر من شيء قل مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولآ ءابآؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون (٩١) وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون (٩٢) ﴾
٩١ -﴿وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ما عظموه حقّ عظمته، أو ما عرفوه حقّ معرفته، أو ما آمنوا أنه على كلّ شيء قدير. ﴿إِذْ قَالُواْ﴾ قريش، أو اليهود فردّ عليهم بقول ﴿مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى﴾ لاعترافهم به. ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيراً﴾ نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.
٩٢ -﴿مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من الكتب، أو من البعث. ﴿أُمَّ الْقُرَى﴾ أهل أم القرى - مكة - لاجتماع الناس إليها كاجتماع الأولاد إلى الأم، أو لانها أول بيت وضع فكأن القرى نشأت عنها، أو لأنها معظمة كالأم قاله الزجاج. ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أهل الأرض كلها قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ﴿يُؤْمِنُونَ به﴾ بالكتاب، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن لا يؤمن به من أهل الكتاب فلا يعتد بإيمانه بالآخرة. {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل مآ أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملآئكة باسطوا أيديهم أخرجوآ أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءاياته تستكبرون (٩٣) ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم ورآء ظهوركم وما نرى معكم شفعآءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد
٩٣ -﴿مِمَّنِ افْتَرَى﴾ نزلت في مسيلمة، أو فيه وفي العَنْسي ﴿وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ﴾ مسيلمة، أو مسيلمة والعنسي، أو عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان يكتب للرسول ﷺ فإذا قال له: غفور رحيم، كتب سميع عليم، أو عزيز حليم، فيقول الرسول ﷺ هما سواء حتى أملى عليه ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان من سلالة﴾ إلى قوله ﴿خَلْقاً آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٢ - ١٤]، فقال ابن أبي السرح: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ تعجباً من تفصيل خلق الإنسان، فقال الرسول ﷺ هكذا أُنزلت، فشك وارتدّ. ﴿بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ﴾ بالعذاب، أو
450
لقبض الرواح. ﴿أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ﴾ من العذاب، أو من الأجساد ﴿الْهُونِ﴾ الهوان، والهَوْن: الرفق.
٩٤ -﴿خَوَّلْنَاكُمْ﴾ التخويل: تمليك المال. ﴿شُفَعَآءَكُمُ﴾ آلهتكم، أو الملائكة الذين اعتقدتم شفاعتهم. ﴿فيكم شركاء﴾ شفعاء، أو يتحملون عنكم تحمل الشريك عن شريكه. ﴿إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذالكم الله فأنى تؤفكون (٩٥) فالق الإصباح وجعل اليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم (٩٦) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (٩٧) ﴾
٩٥ -﴿فَالِقُ﴾ الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة، أو خالق أو هو الشقاق الدائر فيها. ﴿يُخْرِجُ الْحَىَّ﴾ السنبلة الحية من الحبة الميتة والنخلة الحية من النواة الميتة، والحبة والنواة الميتتين من السنبلة والنخلة الحيتين، أو الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان، قاله ابن عباس - رضي الله - تعالى - عنهما - أو المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. ﴿تُؤْفَكُونَ﴾ تصرفون عن الحق.
٩٦ -﴿الإصْبَاحِ﴾ الصبح، أو إضاءة الفجر، أو خالق نور النهار، أو ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - / ﴿سَكَناً﴾ يسكن فيه كل متحرك بالنهار، أو لأن كل حي يأوي إلى مسكنه ﴿حُسْبَاناً﴾ يجريان بحساب أدوار يرجعان بها إلى زيادة ونقصان، أو جعلهما ضياء قاله قتادة، كأنه أخذه من قوله - تعالى - ﴿حُسْبَاناً من السماء﴾ [الكهف: ٤٠] قال: نارا. ﴿وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (٩٨) وهو الذي أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه إن في ذالكم لآيات لقوم يؤمنون (٩٩) ﴾
٩٨ -﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾ في الأرض، ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ في الأصلاب، أو مستقر في الرحم، ومستودع في القبر، أو مستقر في الرحم، ومستودع في صلب الرجل، أو مستقر في الدنيا ومستودع في الآخرة، أو مستقر في الأرض ومستودع في الذر، أو المستقر ما خلق، والمستودع ما لم يخلق، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.
٩٩ -﴿نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ﴾ رزق كل شيء من الحيوان، أو نبات كل شيء من الثمار. ﴿خَضِراً﴾ زرعاً خضراً. ﴿مُّتَرَاكِباً﴾ سنبلاً تراكب حبه. ﴿قِنْوَانٌ﴾ جمع قنو وهو الطلع، أو العذق. ﴿دَانِيَةٌ﴾ من مجتنيها لقصرها، أو قرب بعضها من بعض. ﴿مُشْتَبِهاً﴾ ورقه مختلفاً ثمره، أو ﴿مُشْتَبِهاً﴾ لونه، مختلفاً طعمه. ﴿ثَمَرِهِ﴾ الثُّمر جمع ثمار، والثَّمر جمع ثمرة، أو الثُّمُر المال، والثمر ثمر
452
النخل، قرىء بهما. ﴿وينعه﴾ نضجه وبلوغه. ﴿وجعلوا لله شركآء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون (١٠٠) بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم (١٠١) ﴾
١٠٠ -﴿شُرَكَآءَ الْجِنَّ﴾ قولهم: " الملائكة بنات الله " سماهم الله جناً، لاستتارهم، أو أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان حتى جعلوهم شركاء لله في العبادة. ﴿خرقوا﴾ كذبوا، أو خلقوا، الخرق والخلق واحد. ﴿بَنِينَ﴾ المسيح وعزير. ﴿وَبَنَاتٍ﴾ الملائكة جعلهم مشركو العرب بنات الله. ﴿ذكلم الله ربكم لآ إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل (١٠٢) لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (١٠٣) قد جآءكم بصآئر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها ومآ أنا عليكم بحفيظ (١٠٤) وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون (١٠٥) ﴾
١٠٣ -﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ لا تحيط به، أو لا تراه، أو لا تدركه في الدنيا وتدركه في الآخرة، أو لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة وتدركه أبصار المؤمنين، أو لا تدركه بهذه الأبصار بل لا بدّ من خلق حاسّة سادسة لأوليائه يدركونه بها.
١٠٥ -﴿نُصَرِّف الأَيَاتِ﴾ بتصريف الآية في معانٍ متغايرة مبالغة في الإعجاز ومباينة لكلام البشر، أو بأن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل، أو اختلاف ما نضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي. ﴿وَلِيَقُولُواْ﴾ ولئلا يقولوا ﴿دَرَسْتَ﴾ قرأت وتعلمت، قالته قريش، ودارستَ: ذاكرت وقارأت، ودرستْ: انمحت وتقادمت، ودُرستْ تُليت، وقُرئت ودَرَسَ محمد ﷺ وتلا، فهذه خمس قراءات. ﴿اتبع مآ أوحي إليك من ربك لآ إله إلا هو وأعرض عن المشركين (١٠٦) ولو شآء الله مآ أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً ومآ أنت عليهم بوكيل (١٠٧) ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (١٠٨) ﴾
١٠٨ -﴿وَلا تَسُبُّواْ﴾ الأصنام فيسبوا من أمركم بسبها، أو يحملهم الغيظ على سبّ معبودكم كما سببتم معبودهم. ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا﴾ كما زينا لكم الطاعة كذلك زينا لمن تقدمكم من المؤمنين الطاعة، أو كما أوضحنا لكم الحجج
454
كذلك أوضحناها لمن تقدّم، أو شبهنا لأهل كل دين عملهم بالشبهات ابتلاء حين عموا عن الرشد. ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءتهم ءاية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون (١٠٩) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (١١٠) ولو أننا نزلنآ إليهم الملآئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلآ أن يشآء الله ولكن أكثرهم يجهلون (١١١) ﴾
١٠٩ -﴿لَئِن جَآءَتْهُمْ﴾ لما نزل ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً﴾ [الشعراء: ٤] قالوا: / للرسول ﷺ أنزلها حتى نؤمن بها إن كنت من الصادقين، فقال المؤمنون: أنزلها عليهم يا رسول الله ليؤمنوا، فنزلت هذه، أو أقسم المستهزئون إن جاءتهم آية اقترحوها ليؤمنن بها وهي أن يحول الصفا ذهباً، أو قولهم ﴿لَن نؤمن لك حتى تفجر﴾ إلى قوله: ﴿نَّقْرَؤُهُ﴾ [الإسراء: ٩٠ - ٩٣] ولا يجب على الله إجابتهم إلى اقتراحهم إذا علم أنهم لا يؤمنون، وإن علم ففي الوجوب قولان.
١١١ -﴿قِبَلاً﴾ جهرة ومعاينة، ﴿قُبُلاً﴾ : جمع قبيل وهو الكفيل أي كفلاء، أو قبيلة قبيلة وصنفاً صنفاً، أو مقابلة. ﴿إِلآ أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ أن يعينهم، أو يجبرهم. ﴿يَجْهَلُونَ﴾ في اقتراحهم الآيات، أو يجهلون أن المقترح لو جاء لم يؤمنوا به. ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شآء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (١١٢) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (١١٣) ﴾
١١٢ -﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا﴾ لمن قبلك من الأنبياء أعداء كما جعلنا لك أعداء، أو جعلنا للأنبياء أعداء كما جعلنا لغيرهم من الناس أعداء، جعلنا: حكمنا بأنهم أعداء، أو مكنّاهم من العداوة فلم نمنعهم منها. {شَيَاطِينَ
456
الإِنسِ وَالْجِنِّ} مردتهم، أو شياطين الإنس الذين مع الإنس وشياطين الجن الذين مع الجنّ، أو شياطين الإنس كفارهم، وشياطين الجن كفارهم. ﴿يُوحِى بَعْضُهُمْ﴾ يوسوس، أو يشر، ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ﴾ [مريم: ١١] أشار ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾ ما زينوه من شبه الكفر، وارتكاب المعاصي. @ ١١٣ - ﴿وَلِتَصْغَى﴾ تميل تقديره " ليغرُّوهم غروراً ولتصغى "، أو اللام للأمر، ومعناها الخبر، قلت للتهديد أحسن. ﴿أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (١١٤) وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم (١١٥) وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (١١٦) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (١١٧) ﴾
١١٤ -﴿أَبْتَغِى حَكَماً﴾ لا يجوز لأحد أن يعدل عن حكمه حتى أعدل عنه، أو لا يجوز لأحد أن يحكم مع الله حتى أحاكم إليه، والحكم من له أهلية الحكم ولا يحكم إلاَّ بالحق، والحاكم قد يكون من غير أهله فيحكم بغير الحق. ﴿مُفَصَّلاً﴾ تفصيل آياته لتمتاز معانيه، أو تفصيل الصادق من الكاذب، أو تفصيل الحق من الباطل والهدى من الضلال، أو تفصيل الأمر من النهي، أو المستحب من المحظور والحلال من الحرام.
١١٥ -﴿وتمت كلمات رَبِّكَ﴾ القرآن تمت حججه ودلائله، أو تمام أحكامه وأوامره، أو تمام إنذاره بالوعد والوعيد، أو تمام كلامه واستكمال سوره. ﴿صِدْقاً﴾ فيما أخبر به ﴿وعدلا﴾ فيما قضاه. ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين (١١٨) وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيراً ليضلون بأهوآئهم بغيرعلم إن ربك هو أعلم بالمعتدين (١١٩) وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون (١٢٠) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (١٢١) ﴾
١٢١ -﴿مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ الميتة، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو ذبائح كانوا يذبحونها لأوثانهم، أو ما لم يسم الله عليه / عند ذبحه، ولا يحرم أكله بتركها، أو يحرم، أو إن تركها عامداً حرم وإن تركها ناسياً فلا يحرم. ﴿لَفِسْقٌ﴾ معصية، أو كفر. ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ﴾ قوم من أهل فارس بعثوا إلى قريش أن محمداً ﷺ وأصحابه - رضي الله تعالى عنهم - يزعمون أنهم يتبعون أمر الله - تعالى - ولا يأكلون ما ذبح الله يعنون الميتة ويأكلون ما ذبحوه
458
لأنفسهم، أو الشياطين قالوا ذلك لقريش، أو اليهود قالوا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم. ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ في استحلال الميتة ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾. ﴿أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (١٢٢) ﴾
١٢٢ -﴿مَيْتاً﴾ كافراً ﴿فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ بالإيمان. ﴿نُوراً يَمْشِى بِهِ﴾ القرآن، أو العلم الهادي إلى الرشد. ﴿الظُّلُمَاتِ﴾ الكفر، أو الجهل شبه بالظلمة لتحيّر الجاهل كتحيّر ذي الظلمة، وهي عامة في كل مؤمن وكافر، أو نزلت في عمر وأبي جهل، أو في عمار
459
وأبي جهل. ﴿وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون (١٢٣) وإذا جآءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتي رسل الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (١٢٤) ﴾
١٢٤ -﴿صَغَارٌ﴾ ذل، لأنه يصغر إلى الإنسان نفسه عند الله في الآخرة فحذف أو أنفتهم من الحق صغار عند الله وإن كان عندهم عزاً وتكبراً. ﴿فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السمآء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (١٢٥) ﴾
١٢٥ -﴿أَن يَهْدِيَهُ﴾ إلى أدلَة الحق، أو إلى نيل الثواب والكرامة ﴿يَشْرَحْ﴾ يوسع. ﴿ضَيِّقاً﴾ لا يتسع لدخول الإسلام إليه ﴿حَرَجاً﴾ شديداً لا يثبت فيه. ﴿أَن يُضِلَّهُ﴾ عن أدلة الحق، أو عن نيل الثواب والكرامة. ﴿يَصَّعَّدُ﴾ كأنما كلف صعود السماء لامتناعه عليه وبعده منه أو لا يجد مسلكاً لضيق
460
المسالك عليه إلا صعوداً إلى السماء يعجز عنه، أو كأن قلبه يصعد إلى السماء لمشقته عليه وصعوبته، أو كأن قلبه بالنفور عنه صاعداً إلى السماء. ﴿الرِّجْسَ﴾ العذاب، أو الشيطان، أو ما لا خير فيه، أو النجس. {وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون (١٢٦) لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون (١٢٧).
١٢٧ -﴿دَارُ السَّلامِ﴾ الجنة دار السلامة من الآفات، أو السلام اسم الله - تعالى - فالجنة داره. ﴿عِندَ ربهم﴾ في الآخرة، لأنها أخص به، أو لهم عنده أن ينزلهم دار السلام. ﴿ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أوليآؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله إن ربك حكيم عليم (١٢٨) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (١٢٩) ﴾
١٢٨ -﴿اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ﴾ بإغوائكم لهم، أو استكثرتم من إغواء الإنس. ﴿اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ في التعاون والتعاضد، أو فيما زينوه من اتباع الهوى وارتكاب المعاصي، أو التعوّذ بهم ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ﴾ [الجن: ٦] ﴿أَجَلَنَا﴾ الموت، أو الحشر. ﴿مَثْوَاكُمْ﴾ منزل إقامتكم. ﴿إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ﴾ من بعثهم في القبور إلى مصيرهم إلى النار، أو إلا ما شاء الله من تجديد جلودهم وتصريفهم في أنواع العذاب وتركهم على حالهم الأول فيكون استثناء في صفة العذاب لا في الخلود، أو جعل مدّة عذابهم إلى مشيئته ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الله - تعالى - في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.
١٢٩ -﴿نُوَلِّى﴾ نكل بعضهم إلى بعض فلا نعينهم فيهلكوا، أو يتولى بعضهم بعضاً على الكفر، أو يتولى بعضهم عذاب بعض في النار، أو يتبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة / بمعنى المتابعة، أو تسلط بعضهم على بعض بالظلم والتعدي. ﴿يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (١٣٠) ﴾
١٣٠ -﴿رُسُلٌ﴾ الجن من الجن، قاله الضحاك، أو لم يبعث رسول من الجن وإنما جاءهم رسل الإنس، فقوله ﴿مِّنكُمْ﴾ كقوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا﴾ [الرحمن: ٢٢] يريد من أحدهما، أو رسل الجن هم الذين لما سمعوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم منذرين. ﴿ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (١٣١) ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون (١٣٢) ﴾
١٣٢ -﴿وَلِكُلٍّ﴾ لكل عامل بطاعة أو معصية منازل سميت ﴿دَرَجَاتٌ﴾ لتفاضلها كتفاضل الدرج في الارتفاع يريد به الأعمال المتفاضلة، أو الجزاء المتفاضل.
462
﴿وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشآء كمآ أنشأكم من ذرية قوم آخرين (١٣٣) إن ما توعدون لآت ومآ أنتم بمعجزين (١٣٤) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (١٣٥) ﴾
١٣٥ -﴿مَكَانَتِكُمْ﴾ طريقتكم، أو حالتكم، أو ناحيتكم، أو تمكنكم، أو منازلكم. ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركآئهم سآء ما يحكمون (١٣٦) ﴾
١٣٦ -﴿ذَرَأَ﴾ خلق، من الظهور، ملح ذرآني لبياضه، وظهور الشيب ذرأة. ﴿الحرث﴾ الزرع ﴿الأنعام﴾ الإبل والبقر والغنم من نعمة الوطء. كان كفار قريش ومتابعوهم يجعلون لله - تعالى - في زرعهم ومواشيهم نصيباً، ولأوثانهم نصيباً، يصرفون نصيبها من الزرع إلى خدامها وفي الإنفاق عليها، وكذلك نصيبهم من الأنعام، أو يتقربون بذبح الأنعام للأوثان، أو البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. ﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ﴾ سماهم شركاءهم، لأنهم أشركوهم في أموالهم، كان إذا اختلط بأموالهم شيء مما للأوثان ردّوه، وإن اختلط بها ما جعلوه لله لم يردّوه، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو إذا هلك ما لأوثانهم غرموه وإذا هلك ما لله - تعالى - لم يغرموه، أو صرفوا بعض ما لله - تعالى - على أوثانهم ولا عكس، أو ما جعلوه لله - تعالى - من ذبائحهم لا يأكلونه حتى يذكروا عليه اسم الأوثان ولا عكس.
463
﴿وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركآؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شآء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون (١٣٧) ﴾
١٣٧ -﴿شُرَكَآؤُهُمْ﴾ الشياطين، أو خدّام الأوثان، أو شركاؤهم في الشرك، أو غواة الناس، ﴿قَتْلَ أَوْلادِهِمْ﴾ وأد البنات، أو كان أحدهم يحلف إن وُلد له كذا وكذا غلاماً أن ينحر أحدهم كما حلف عبد المطلب في نحر ابنه عبد الله. ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ لامها لام " كي "، لأنهم قصدوا إرداءهم وهو الهلاك أو لام " العاقبة " لأنهم لم يقصدوه. {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمهآ إلا من نشآء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افترآء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون (١٣٨) وقالوا مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا ومحرم على
464
أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركآء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (١٣٩) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افترآء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين (١٤٠) }
١٣٨ -﴿هَذِهِ أَنْعَامٌ﴾ ذبائح الأوثان، أو البحيرة، والحام خاصة. ﴿وَحَرْثٌ﴾ ما جعلوه لأوثانهم. ﴿حِجْرٌ﴾ حرام، قال:
(فبت مرتفقاً والعين ساهرة
كأن نومي على الليل محجور)
﴿حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ السائبة، أو التي لا يحجون عليها. ﴿لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ قربان أوثانهم. ﴿افْتِرَآءً عَلَيْهِ﴾ بإضافة تحريمها إليه، أو بذكر أسمائها عند الذبح بدلاً من أسمه.
١٣٩ -﴿مَا فِى بُطُونِ [هَذِهِ] الأَنْعَامِ﴾ الأجنة، أو الألبان، أو الأجنة والألبان. خصوا به الذكور، لأنهم خدم الأوثان، أو لفضلهم على الإناث، والذَّكَر مأخوذ من الشرف، لأنه أشرف من الأنثى، أو من الذّكِر، لأنه أذكر وأبين في الناس. ﴿وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ اثمر وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (١٤١) ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (١٤٢) ﴾
١٤١ - / ﴿مَّعْرُوشَاتٍ﴾ تعريش الكروم وغيرها برفع أغصانها أو برفع حظارها وحيطانها، أو المرتفعة لعلو شجرها فلا يقع ثمرها على الأرض مأخوذ من الارتفاع، السرير: عرش لارتفاعه ﴿على عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] على أعاليها. ﴿كُلُواْ﴾ قدم الأكل تغليباً لحقهم وافتتاحاً لنفعهم بأموالهم، أو تسهيلاً لإيتاء حقه. ﴿حَقَّهُ﴾ الزكاة المفروضة عند الجمهور، أو صدقة غير الزكاة، إطعام من حضر، وترك ما تساقط من الزرع والثمر، أو كان هذا فرضاً ثم نسخ بالزكاة، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. ﴿وَلا تُسْرِفُواْ﴾ بإخراج زيادة على المفروض تجحف بكم، أو لا تدفعوا دون الواجب، أو أن يأخذ السلطان فوق الواجب، أو يراد به ما أشركوا آلهتهم فيه من الحرث والأنعام.
١٤٢ -﴿حَمُولَةً وَفَرْشاً﴾ الحمولة: ما حُمِل عليه من الإبل، والفرش: ما لم يحمل عليه من الإبل لصغره لافتراش الأرض بها على استواء كالفرش، أو الفرش: الغنم، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ طريقه في الكفر، أو في تحليل الحرام وتحريم الحلال. ﴿مُّبِينٌ﴾ يريد ما بان من عداوته لآدم - عليه الصلاة والسلام -، أو لأوليائه من الشياطين. {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه ارحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (١٤٣) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهدآء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي
١٤٣ -﴿من الضأن اثنين) {ذكر وأنثى﴾ (ءَآلذَّكَرَيْنِ} إبطال لما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وما اشتملت عليه أرحام الأنثيين قولهم: ﴿مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لذكورنا﴾ [١٣٩] لما جاء عوف بن مالك فقال للرسول ﷺ أحللت ما حرّمه آباؤنا - يعني - البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فنزلت، فسكت عوف لظهور الحجة عليه. ﴿قل لآ أجد في مآ أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلآ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (١٤٥) ﴾
١٤٥ -﴿مَيْتَةً﴾ زهقت نفسها بغير ذكاة فتدخل فيها الموقوذة والمتردية وغيرها. ﴿مَّسْفُوحاً﴾ مهراقاً مصبوباً، وأما غير المسفوح فإن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال، وإن لم يكن له عروق يجمد عليها وإنما هو مع اللحم فلا يحرم لتخصيص التحريم بالمسفوح. قالته عائشة وقتادة، قال عكرمة لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود،
467
وقيل يحرم لأنه بعض من المسفوح وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه. ﴿رِجْسٌ﴾ نجس ﴿أَوْ فِسْقاً﴾ ما ذبح للأوثان سماه فسقا لخروجه عن أمر الله - تعالى -. ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهمآ أو الحوايآ أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (١٤٦) فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين (١٤٧) سيقول الذين أشركوا لو شآء الله مآ أشركنا ولآ ءابآؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (١٤٨) قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين (١٤٩) قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون (١٥٠) ﴾
١٤٦ -﴿كُلَّ ذِى ظُفُرٍ﴾ ما ليس بمنفرج الأصابع كالنعام والأوز والبط قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو كل ما يصطاد بظفره من الطير. ﴿شُحُومَهُمَآ﴾ الثروب خاصة، أو كل شحم لم يختلط بعظم ولا على عظم أو الثروب وشحم الكلى. ﴿مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ﴾ شحم الجنب وما علق بالظهر / ﴿الْحَوَايَآ﴾ المباعر، أو بنات اللبن، أو الأمعاء التي عليها الشحم من داخلها، أو كل ما تَحوَّى في البطن فاجتمع واستدار. ﴿مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ شحم الجنب،
468
أو شحم الجنب والإلية، لأنها على العصعص. ﴿قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (١٥١) ﴾
١٥١ -﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ أداء الحقوق وترك العقوق ﴿إِمْلاقٍ﴾ الفقر أو الفلس من الملق، لأن المفلس يتملق للغني طمعاً في نَائِلِه. ﴿الْفَوَاحِشَ﴾ عموماً، أو خاص بالزنا فما ظهر ذوات الحوانيت وما بطن ذوات الاستسرار، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو ما ظهر نكاح المحرمات وما بطن الزنا، أو ما ظهر الخمر وما بطن الزنا. ﴿الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ﴾ المسلم، أو المعاهد. ﴿بِالْحَقِّ﴾ كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس. ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون﴾
١٥٢ -﴿بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾ حفظه ماله [إلى] أن يكبر فيسلم إليه، أو التجارة به، أو لا يأخذ من ربح التجارة به شيئاً، أو الأكل إذا كان فقيراً والترك إن كان غنياً ولا يتعدى من الأكل إلى لباس ولا غيره، وخصّ مال اليتيم بالذكر وإن كان غيره محرماً لوقوع الطمع فيه إذ لا حافظ له ولا مراعي. ﴿أَشُدَّهُ﴾ الأشد: استحكام قوّة الشباب عند نشوئه وحَدُّه بالاحتلام، أو بثلاثين
469
سنة، ثم أنزل بعده ﴿حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ﴾ [النساء: ٦]، أو لثماني عشرة سنة. ﴿لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا﴾ عفا عما لا يدخل تحت الوسع من إيفاء الكيل والوزن، و ﴿بعهد اللَّهِ﴾ كل ما ألزمه الإنسان نفسه لله من نذر أو غيره، أو الحلف بالله - تعالى - يجب الوفاء به إلا في المعاصي. ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون﴾
١٥٣ -﴿صِرَاطِى﴾ شرعي سماه صراطاً، لأنه طريق يؤدي إلى الجنة. ﴿السُّبُلَ﴾ البدع والشبهات. ﴿عَن سَبِيلِهِ﴾ عن طريق دينه. ﴿ثم أتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون، وهذا كتاب أنزلناه مباركٌ فاتبعوا واتقوا لعلكم ترحمون، أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين﴾
١٥٤ -﴿تَمَاماً عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ﴾ تماماً على إحسان موسى - عليه الصلاة والسلام - بطاعته، أو تماماً على المحسنين، أو تماماً على إحسان الله - تعالى - إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، أو تماماً لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا. ﴿هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن أمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا﴾
١٥٨ -﴿تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾ لقبض أرواحهم، أو تأتيهم رسلاً لأنهم لم يؤمنوا مع ظهور الدلائل. ﴿يَأْتِىَ رَبُّكَ﴾ أمره بالعذاب، أو قضاؤه في القيامة. ﴿بعض آيات رَبِّكَ﴾ طلوع الشمس من مغربها، أو طلوعها والدجال والدابة. ﴿أَوْ كَسَبَتْ﴾ يعتد بالإيمان قبل هذه الآيات، وأما بعدها فإن لم تكسب فيه خيراً فلا يعتدّ به وإن كسبت فيه خيراً ففي الاعتداد به قولان، وظاهر الآية أنه يعتد به، ومن قال: لا يعتدّ به كان المعنى لم تكن آمنت وكسبت قاله السدي. ﴿خَيْراً﴾ أداء الفروض على أكمل الأحوال، أو التنفل بعد الفروض. ﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنمآ أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (١٥٩) من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (١٦٠) ﴾
١٥٩ -﴿الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ﴾ اليهود، أو النصارى واليهود / أو جميع المشركين، أو أهل الضلالة من هذه الأمة. ﴿دِينَهُمْ﴾ الذي أمروا به فرقوه بالاختلاف، أو الكفر الذي اعتقدوه ديناً. ﴿شِيَعاً﴾ فرقاً يتمالؤون على أمر واحد مع اختلافهم في غيره من الظهور، شاع الخبر: ظهر، أو من الاتباع، شايعه على الأمر: تابعه عليه. ﴿لَّسْتَ مِنْهُمْ﴾ من قتالهم ثم نسخ بآية السيف، أو لست من مخالطتهم، أمَرَه بالتباعد منهم.
١٦٠ -﴿بِالْحَسَنَةِ﴾ بالإيمان، والسيئة: الكفر، أو عامة في الحسنات
471
والسيئات. ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ عام في جميع الناس، أو خاص بالأعراب لهم عشر ولغيرهم من المهاجرين سبعمائة، قاله ابن عمر، وأبو سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنهما -، ولما فرض عشر أموالهم، وكانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر كان العشر كأخذ جميع المال، والثلاثة كصوم الشهر، والسبعمائة من سنبلة أنبتت سبع سنابل. ﴿قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (١٦١) قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (١٦٢) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (١٦٣) قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (١٦٤) ﴾
١٦٥ -﴿خَلآئِفَ الأَرْضِ﴾ أهل كل عصر يخلفون من تقدمهم (وَرَفعَ بَعْضَكُمْ} بالغنى والشرف في النسب وقوّة الأجساد. (سَرِيعُ الْعِقَابِ} كل آتٍ قريب، أو لمن استحقّ تعجيل العقاب في الدنيا.
473
(سورة الأعراف)
مكية كلها، أو مكية إلا خمس آيات ﴿واسئلهم عن القرية﴾ إلى آخر الخمس [١٦٣ - ١٦٧].
(بسم الله الرحمن الرحيم)
{المص (١) كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (٢) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (٣)
474
سورة الأنعام
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات
لم تَحْتَوِ سورةُ (الأنعام) على كثيرٍ من الأحكام الشَّرعية كأخواتِها من السُّوَر الطِّوال؛ بل اهتمَّت بتحقيقِ مقصدٍ عظيم؛ وهو (توحيدُ الألوهية، وتثبيتُ مسائلِ العقيدة)، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعام كلُّ قواعدِ التوحيد»؛ فقد رسَمتِ السورةُ معالمَ على طريق الهداية، ذاكرةً قصَّةَ إبراهيمَ في البحث عن الحنيفيَّةِ الخالصة بما حَوَتْهُ من حُجَجٍ عقلية، وبراهينَ قاطعة؛ فعنايةُ السورة بالعقيدة كانت واضحةً جليَّة؛ لكي يُحقِّقَ العبدُ ما افتُتحت به السورةُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ اْلَّذِي خَلَقَ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ}[الأنعام: 1].
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاءت اليهودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: نأكلُ ممَّا قتَلْنا، ولا نأكلُ ممَّا قتَلَ اللهُ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اْسْمُ اْللَّهِ عَلَيْهِ﴾[الأنعام: 121] إلى آخِرِ الآيةِ». أخرجه أبو داود (٢٨١٩).
صحَّ عن أبي ذَرٍّ الغِفَاريِّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن صامَ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، فذلك صيامُ الدَّهْرِ؛ فأنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك في كتابِهِ: ﴿مَن جَآءَ بِاْلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ﴾[الأنعام: 160]؛ فاليومُ بعشَرةِ أيَّامٍ». أخرجه الترمذي (٧٦٢).
سُمِّيتْ سورةُ (الأنعام) بذلك؛ لأنَّها السورةُ التي عرَضتْ لذِكْرِ (الأنعام) على تفصيلٍ لم يَرِدْ في غيرها من السُّوَر.
* جاء في فضلِ سورة (الأنعام): أنَّها نزَلتْ وحولها سبعون ألفَ مَلَكٍ يُسبِّحون:
دلَّ على ذلك ما رواه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ بمكَّةَ ليلًا جُمْلةً، حولَها سبعون ألفَ مَلَكٍ، يَجأرون حولها بالتَّسْبيحِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص240)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في "عمدة التفسير" (1/761).
وقريبٌ منه ما جاء عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ على النَّبيِّ ﷺ ومعها مَوكِبٌ مِن الملائكةِ سَدَّ ما بين الخافِقَينِ، لهم زَجَلٌ بالتَّسْبيحِ والتَّقْديسِ، والأرضُ تَرتَجُّ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: سُبْحانَ اللهِ العظيمِ، سُبْحانَ اللهِ العظيمِ». "المعجم الأوسط" للطبراني (٦٤٤٧).
اشتمَلتِ السُّورةُ على عِدَّة موضوعات جاءت مُرتَّبةً كالآتي:
الاستفتاح بالحمد، وخَلْق الإنسان وبَعْثه (١-٣).
إعراض المشركين (٤-١١).
مع الله حُجَج بالغة (١٢-٢٠).
في موقف الحشر (٢٢-٣٢).
تسليةٌ وتثبيت (٣٣-٣٥).
لماذا الإعراض؟ (٣٦-٤١).
سُنَنٌ ربانية (٤٢-٤٧).
مهمة الرسل عليهم السلام (٤٨- ٥٨).
مفاتيح الغيب (٥٩-٦٧).
تجنُّب مجال الخائضين (٦٨-٧٠).
معالمُ على طريق الهداية (٧١-٧٣).
قصة إبراهيمَ عليه السلام (٧٤-٩٠).
الاحتجاج على منكِري البعث (٩١-٩٤).
من دلائلِ القدرة (٩٥-٩٩).
الرد على مزاعمِ المشركين، وتقرير العقيدة (١٠٠-١٠٥).
منهج التعامل مع المشركين (١٠٦-١٠٨).
تعنُّتٌ وإصرار (١٠٩-١١١).
الإعلام المضلِّل وموقف الإسلام منه (١١٢-١١٤).
قواعدُ وأصول في العقيدة والدعوة (١١٥-١١٧).
قواعد وأصول في التحليل والتحريم (١١٨-١٢١).
من مظاهرِ الصُّدود وأسبابه (١٢٢-١٢٦).
وعدٌ ووعيد (١٢٧-١٣٥).
من جهالات المشركين (١٣٦-١٤٠).
حُجَجٌ باهرة، ونِعَمٌ ظاهرة (١٤١-١٥٠).
الوصايا العَشْرُ (١٥١-١٥٣).
من مشكاةٍ واحدة (١٥٤-١٥٧).
وماذا بعد الحُجَج؟ (١٥٨-١٦٥).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /393).
أُقيمت هذه السُّورةُ على مقصدٍ عظيمٍ جدًّا؛ ألا وهو (تحقيق التَّوحيد)؛ وذلك بإشعار الناس بأنَّ حقَّ الحمد ليس إلا للهِ؛ لأنَّه مُبدِعُ العوالِمِ: جواهرَ وأعراضًا؛ فعُلِم أنه المتفرِّدُ بالإلهيَّة، وأنَّ الأصنامَ والجِنَّ تأثيرُها باطلٌ؛ فالذي خلَق الإنسانَ ونظامَ حياته وموته بحِكْمته هو المستحِقُّ لوصفِ الإلهِ المتصرِّف. وجاءت السورةُ بتنزيه اللهِ عن الولَدِ والصاحبة، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعامِ كلُّ قواعدِ التوحيد». واشتمَلتِ السورةُ على موعظة المُعرِضين عن آياتِ القرآن والمكذِّبين بالدِّين الحقِّ، وتهديدِهم بأن يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالقرونِ المكذِّبين من قبلِهم والكافرين بنِعَمِ الله تعالى، وأنَّهم ما يضُرُّون بالإنكارِ إلا أنفسهم، ووعيدِهم بما سيَلقَون عند نزعِ أرواحهم، ثم عند البعثِ.