ﰡ
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ ؛ قال السديُّ :(ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَنُورَ النَّهَار). وقال الواقديُّ :(كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور فَهُوَ الْكُفْرُ وَالإيْمَانُ ؛ إلاَّ فِي هَذِهِ الآيَةِ فَإِنَّهُ يُرِيْدُ بهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ). قال قتادةُ :(يَعْنِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ). وقال الحسنُ :(يَعْنِي الْكُفْرَ وَالإيْمَانَ).
وقيل : خلقَ الليلَ والنهار لمصالحِ العباد ؛ يستريحون باللَّيل ويبصرون معايشَهم بالنهار. وإنَّما جَمَعَ (الظُّلُمَاتِ) ووحَّدَ (النُّورَ) لأن النورَ يتعدَّى، والظلمةَ لا تتعدَّى.
وقال أهلُ المعانِي :(جَعَلَ) ها هنا صلةٌ ؛ والعربُ تزيد (جَعَلَ) في الكلامِ كقول الشاعرِ : وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الاتْنَيْنَ أرْبَعَةً وَالْوَاحِدَ اثْنَيْنِ لَمَّا هَدَّنِي الْكِبَرُوتقديرُ الآية :﴿ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ والظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. وقيلَ : معناهُ :(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) ؛ لأنه خَلَقَ الظلمةَ والنورَ قبل السمواتِ والأرض. وقال قتادةُ :(خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ قَبْلَ الأَرْضَ، وَالظُّلْمَةَ قَبْلَ النُّور، وَالْجَنَّةَ قَبْلَ النَّار).
وقال وهبُ :(أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ مَكَاناً مُظْلِماً، ثُمَّ خَلَقَ جَوْهَرَةً فَأَضَاءَتْ ذلِكَ الْمَكَانَ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْجَوْهَرَةِ نَظَرَ الْهَيْبَةِ، فَصَارَتْ مَاءً وَارْتَفَعَ بُخَارُهَا وَنبَذ زَبَدُهَا، فَخَلَقَ مِنَ الْبُخَار السَّمَواتِ ؛ وَمِنَ الزَّبَدِ الأرْضِيْنَ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجََلَّ :﴿ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ ؛ أي (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بَعْدَ هذا البيان (برَبهِمْ يَعْدِلُونَ) الأوثانَ ؛ أي يُشْرِكُونَ. وقيل : معناهُ :(يَعْدِلُونَ) أي يجعلون لله عَدِيْلاً ويعبدون الحجارةَ والأموات ؛ وهم يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ خالقُ هذه الأشياءِ، فالأصنامُ لاَ تَعْقِلُ شيئاً من ذلك.
وروى أبو هريرةُ عن النبِيِّ ﷺ أنه قالَ :" إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وَجَعَلَهُ طِيْناً، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى كَانَ حَمَأَ مَسْنُوناً، ثُمَّ خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إذا كَانَ صَلْصَالاً كَالْفَخَّار ؛ مَرَّ بهِ إبْلِيْسُ لَعَنَهُ اللهُ، فَقَالَ : خُلِقْتَ لأَمْرٍ عَظِيْمٍ. ثُمَّ نَفَخَ اللهُ فِيْهِ الرُّوح ".
قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ﴾ أي خَلَقَكُم مِن آدمَ عليه السلام ﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ﴾ أي جعلَ لِحياتكُم وفاةً تحيونَ فيه وهو مُدَّةُ كلِّ واحدٍ منَّا مِنْ يومِ يولدُ إلى يومِ يَموت. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ ؛ أي مدَّة انقضاء الدُّنيا إلى أنْ تقومَ الساعةَ ؛ ولا يعلمُ وقتَ قيامِها إلاَّ اللهُ. وقال مجاهدُ وابن جبير :(ثُمَّ قَضَى أجَلاً) يَعْنِي أجَلَ الدُّنْيَا ﴿ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ وُهُوَ الآخِرَةُ. قََوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾ أي ثُمَّ أنتُم بعدَ هذا البيان تَشُكُّونَ في موضعٍ ليس هو موضعُ الشَّكِّ. وَالْمِرْيَةُ هي الشَّكُّ الْمُجْلِبُ بالشُّبهة ؛ أصلُها مِن : مَرَيْتُ النَّاقَةَ إذا مَسَحْتَ ضَرْعَهَا لِيَنُزَّ لَبَنُهَا، وَيَجْلِِبَهُ لِلْحَلْب.
وقَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ هذا وعيدٌ لَهم ؛ أي سيعلمون ما يَؤولُ إليه عاقبةُ استهزائِهم بالرُّسُلِ والكُتُب والآيات التي كانت تأتيهم، فَقَتَلَهُمُ اللهُ يومَ بَدْرٍ بالسَّيف، ويأتيهم خبرُ استهزائهم حين يرون العذابَ ومعاينةَ. والنبأُ عبارةٌ عن خَبَرِ الَّذي لهُ عِظَمٌ وشَأْنٌ.
والقَرْنُ - في قول أكثرِ المفسِّرين - : أهلُ عَصْرٍ واحِد، سُمُّوا قَرْناً ؛ لاقترانهم في قَرْنٍ واحد. ويقالُ : أهلُ كلِّ عصرٍ فيهم نبِيٌّ أو عالِمٌ، لاقترانِهم بالنبوَّة والعلم، كما قال ﷺ :" خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثمَّ الَّذِيْنَ يَلُونَهُمْ " وأرادَ بالقرن، الأوَّل : الصَّحابةَ، وبالثانِي : التابعين، وبالثالِث : تابعِي التابعين. اختلفُوا في مدَّة القرن ؛ قال بعضُهم : ثَمَانُونَ سنَةً، وقيل : مِائةُ سنةٍ، وبين القرنين ثَمَانِي عشرةَ سنَةً.
ومعناها :(وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي) صَحِيْفَةٍ وعلَّقناهُ بين السَّماءِ والأرضِ ينظرون إليه ويعاينونَه ويلمسونَه بأيديهم، ﴿ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ كفَّارُ مكَّة بعد معاينةِ ذلكَ :﴿ إِنْ هَـاذَآ ﴾ ؛ مَا هَذَا ؛ ﴿ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي كما قالُوا في انشقاقِ القَمَرِ :﴿ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴾[القمر : ٢] وفي الآية بيانُ أنَّهم كانوا مُعاينين مصرِّين على التكذيب.
وقد كانتِ الملائكةُ تأتِي الأنبياء فِي صورة الإِنسانِ ؛ من ذلك أنَّ جبريلَ عليه السلام كان يأتِي النبِيَّ ﷺ في صورةِ دحية الْكَلْبِيَّ، وجاءتِ الملائكةُ إلى إبراهيمَ عليه السلام في صورةِ الضَّيفين، وجاءتِ الملائكةُ إلى داودَ عليه السلام في صورة رَجُلَيْنِ يختصمان إليه، وذلكَ قََوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ﴾ أي لو أنزلنا إليهم مَلَكاً لجعلنا ذلكَ في صورةِ الرَّجُلِ أيضاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ أي اخْتَلَطْنَا وشَبَّهْنَا عليهم ما يَخْلُطُونَ على أنفسِهم حتى شَكُّوا ؛ فلا يدرونَ أمَلَكٌ هو أم رجُلٌ ؟ وهذا لأنَّهم أنكرُوا نبوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بعدَما عرفُوه بالصدقِ والأمانةِ، ثم لَبَسُوا على أنفسهم وعلى ضَعَفَتِهِمْ ؛ فقالوا : إنَّما هو بَشَرٌ، فلو نزلَ الملَك على صورةِ رجلٍ لَلَبَسُوا على أنفسهم أيضاً فلم يقبلُوا منه وقالوا : إنهُ في مِثْلِ صورَتنا!
وقال الضَّحاك :(كَانَ النَّبِيُّ ﷺ جَالِساً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِيْنَ : بلاَلٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارِ وَغَيْرِهِمْ، فَمَرَّ بهِمْ أبُو جَهْلٍ فِي مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ ؛ فَقَالَ : تَزْعُمُ يَا مُحَمَّدُ أنَّ هَؤُلاَءِ مُلُوكُ الْجَنَّةِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ لِيُثَبتَ فُؤَادَهُ وَيَصْبرَ عَلَىَ أذى الْمُشْرِكيْنَ). أي إن سَخِرَ أهلُ مكَّة من أصحابكَ، فقد فَعَلَ ذلك الجهلةُ برسلِهم قبلكَ.
وَالْحَيْقُ في اللُّغة : مَا اشْتَمَلَ عَلَى الإِنْسَانِ مِنْ مَكْرُوهِ فِعْلِهِ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾[فاطر : ٤٣]. وأما الاستهزاءُ فهو إيْهَامُ التَّفْخِِيْمِ بِمَعْنَى التَّحْقِيْرِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ أي أوْجَبَ على نفسهِ الرَّحمةَ فضلاً وكَرَماً. أو قيل : معناهُ : أوجبَ على نفسهِ الثوابَ لِمن أطاعَهُ ؛ وقيل : أوجبَ على نفسهِ الرحمةَ بإِمهالِ مَن عصاهُ ؛ ليستدركَ ذلك بالتوبةِ ولم يُعَاجِلْهُ بالعقوبةِ، وهذا استعطافٌ من الله عَزَّ وَجَلَّ للمُتَوَلِّيْنَ عنه إلى الإِقبالِ، وإخبارٌ بأنه رَحِيْمٌ بعبادهِ لا يُعَجِّلُ عيهم بالعقوبة، ويقبلُ منهم الإِنابةَ والتوبةَ.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" لَمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْخَلْقَ ؛ كَتَبَ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ". وقال عمرُ رضي الله عنه لكعب الأحبار :(مَا أوَّلُ شَيْءٍ ابْتَدَأ اللهُ بهِ ؟ فَقَالَ كَعْبٌ : كَتَبَ اللهُ كِتَاباً لَمْ يَكْتُبْهُ بقَلَمٍ وَلاَ مِدَادٍ ؛ كِتَابُهُ الزُّبَرْجَدُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتَ : إِنِّي أنا اللهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ أنا، سَبَقَتْ رَحْمَتَي غَضَبي).
وفي الخَبرِ : أنَّ للهِ تعالى مائة رحمةٍ كلُّها مِلْىءُ السَّموات والأرضِ، فأهبطَ اللهُ تعالى منها رحمةً واحدة لأهلِ الدُّنيا، فهم بها يتراحَمون ؛ وبها يتعاطَفون ؛ وبها يتراحمُ الإنس والجنُّ وطيرُ السَّماء وحيتانُ الماء ؛ وما بين الهواء ودواب الأرض وهوامِّها، وأخَّرَ تِسْعاً وتسعين رحمةً يرحمُ بها عبادَهُ يومَ القيامةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ ؛ بدلُ من الرحمةِ وتفسيرٌ لَها، فكأنَّهُ قالَ : لَيَجْمَعَنَّ بين المؤمنينَ والكفار، بين المؤمنِ والكافر في الرِّزق والنِّعمةِ والدَّولةِ إلى يوم القيامة، لا شَكَّ فيه عند المؤمنينَ أنهُ حقٌّ كائنٌ، ثم تكونُ العاقبةُ بَدَلَ البعثِ للمؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالىَ :﴿ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ ؛ ابتدأ كلامَهُ ؛ وجوابهُ ﴿ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ لأنَّ (الَّذِيْنَ) في موضعِ شرطٍ ؛ وتقديرُ الآية : الذين غَبَنُوا أنفسَهم وأهليهم ومنازلَهم وخَدََمَهَمْ في الجنَّة في سابق عِلْمِ الله لا يؤمنونَ ؛ أي لا يُصَدِّقُونَ بمُحَمَّدٍ ﷺ والقرآنِ.
وذهبَ بعضُهم إلى أنَّ قولَه تعالى :﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ﴾ كلامٌ مبتدأ على وجهِ القَسَمِ، و(الَّذِيْنَ) بدلٌ من الكافِ والميم في (ليَجْمَعَنَّكُمْ)، كأنهُ قال : لَيَجْمَعَنًَّ هؤلاءِ المشركين ﴿ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ إلى هذا اليومِ الذي يجحدونَه ويكفُرونَه. ويحتملُ أن يكونَ قولهُ :﴿ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ راجعاً إلى المكذِّبين، كأنهُ قال : عاقبةُ المكذبين ﴿ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ ﴾.
ومعناهُ : وللهِ مُلْكُ ما استقرَّ ﴿ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ من الخلائقِ كلِّهم، وهذا اللفظُ يشتمل على جميعِ المخلوقات ؛ لأنَّ من الحيوانات ما يَتَصَرَّفُ بالنهار ويسكنُ بالليل، ومنها ما يتصرفُ بالليل ويسكنُ بالنَّهار. وقال محمدُ بن جُرير :" كُلُّ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَِّمْسُ وَغَرَبَتْ فَهُوَ مِنْ سَاكِنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار، وَالْمُرَادُ : جَمِيعُ مَا فِي الأَرْضِ ؛ لأنَّهُ لاَ شَيْءَ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى إلاَّ وَهُوَ سَاكِنٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).
وقال أهلُ المعانِي : في الآية إضمارٌ تقديرهُ : ولهُ ما سَكَنَ وتَحَرَّكَ في الليلِ والنهار. فإن قيلَ : فَلِمَ قالَ :﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ ﴾ ولَمْ يَقُلْ : ولهُ ما تَحَرَّكَ ؟ قيلَ : لأنَّ الساكنَ في الأَشياءِ أعمُّ ؛ لأنهُ ما من مُتَحَرِّكٍ إلا وسَكَنَ ؛ وفي الأشياءِ الساكنة ما لا يتحركُ البَتَّةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ معناهُ : السميعُ لِمَقَالَةِ الكفَّار، الْعَلِيْمُ بهم وبعقوبَتِهم. ويقالُ : هو السميعُ للأصواتِ والأقوال، العليمُ بالأشياءِ والأرزَاق.
قَوْلَهُ تَعَالى :﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ ؛ أي يرزقُ ولا يُرزق ولا يُعاوَن على الرِّزق. وقرأ الأعمشُ :(وَلاَ يَطَْعَمُ) بفتحِ الياء ؛ أي يرزقُ ولا يَأْكُلُ ؛ أي لا يجوزُ عليه الحاجةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ ﴾ انخفضَ لأنه نعتٌ لا اسمٌ لله تعالى، ويجوزُ نَصْبُهُ على معنى : أعْنِي فَاطرَ السموات، ويجوزُ رفعه على إضمار (هُوَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : إنِّي أمِرْتُ أن أكُونَ أوَّلَ من أخلصَ لله بالتوحيدِ والعبادة من أهلِ هذا الزَّمان.
قَوْلُهُ تَعَالىَ :﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ﴾ ؛ لا يجوزُ أن يكونَ عطفاً على قولهِ :﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ لأنه غيرُ مأمورٍ بأن يقولَ :﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ﴾ وإنَّما هو نَهْيٌ معطوف على أمرٍ من حيثُ المعنى دون اللَّفظ ؛ لأنَّ معنى الآيةِ : قِيْلَ لِي كذا : أوَّل من أسلمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ﴾ ؛ أي بفَضْلٍ وسَعَةٍ في الرزق وصحَّة في الجسمِ، فلا مُزِِيْلَ لَها إلا هُوَ. إلا أنهُ لَمْ يَقُلْ : فلا مزيلَ لَها إلا هوَ ؛ لأنه لَمَّا أكَّدَ هذا في الضُّرِّ دلَّ على هذا في الخيرِ فاستغنَى عن إعادتهِ. وإنَّما قال (يَمْسَسْكَ) مع أن كون الْمَسِّ المعيَّن من صفةِ الأجسام ؛ لأنَّ المعنى يَمْسَسْكَ اللهُ تعالى الضَّرَرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ﴾ ؛ أي لا يقدرُ أحدٌ أن يَمْنَعَهُ عن فعلِ ما أرادَ فِعْلَهُ من كَشْفِ ضُرٍّ أو غيرِه.
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال :" أرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ وَرَاءَهُ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلََى بَغْلَةٍ، فَلَمَّا سَارَ بي مَلِيّاً الْتَفَتَ إلَيَّ وَقََالَ لِي :" يَا غُلاَمُ ". قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ :" احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإذا سَأَلْتَ فَسْأَلِ اللهَ، وَإذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَقَدْ مَضَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَوْ جَهِدَ الْخَلاَئِقُ أنْ يَنْفَعُوكَ بمَا لَمْ يَقْضِ اللهُ لَكَ ؛ مَا قَدِرُواْ عَلَى ذلِكَ، وَلَوْ جَهِدُوا أنْ يَضُرُّوكَ بمَا لَمْ يَكْتُب اللهُ عَلَيْكَ ؛ لَمَا قَدِرُواْ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ : أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأنًّ مَعَ الْكَرْب الْفَرَجُ، وَأنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ".
ومعناها : قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : أيُّ أحدٍ أعظمُ وأعدلُ برهاناً وحجَّةً ؟ فإن أجابوكَ وقَالوا : اللهُ، وإلاَّ فَقُلْ : اللهُ أكْبَرُ شَهَادَةً مِن خَلْقِهِ، وهو شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، بأنِّي رسولُ اللهِ، وأنَّ هذا القرآنَ كلامهُ. والشاهدُ هو الْمُبَيِّنُ للدعوَى، وقد بَيَّنَ اللهُ تعالى دعوَى رسولهِ بالبراهين والمعجزات والآيَات الدالَّةِ على توحيدِ الله ونبوَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـاذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ ؛ معناهُ : أُنْزِلَ إِلَيَّ هَذا الْقُرْآنُ لأُخَوِّفَكُمْ به بما فيه من الدلائلِ ؛ وأخبار الأُمَم السَّالفةِ ؛ والإنباءِ بما يكونُ ؛ والتأليفِ الذي عَجَزَ عنه العربُ. قََوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ أي وَأَنْذِرْ مَن بَلَغَهُ القرآنُ سواكم من العَجَمِ، وغيرِهم من الجنِّ والإنس إلى أن تقومَ الساعةَ ؛ لأنه ليس من بَعْدِ القرآنِ كتابٌ، ولا من بعدِ مُحَمَّدٍ رسولٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ ﴾ ؛ استفهامٌ بمعنى الإنكارِ ؛ أي إنْ كنتم تشهدونَ بإثباتِ شريكٍ لله ؛ فأنا لا أشهدُ بما تشهدونَ به. وإنَّما قالَ :(أُخْرَى) ولَمْ يَقُلْ أُخَرُ ؛ لأن الجمعَ تُذكَّرُ بلفظ وحْدَانِ التأنيث، كما قالَ تعالى :﴿ قَالَتِ الأَعْرَابُ ﴾[الحجرات : ١٤] ومثله كثيرٌ.
َقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ ﴾ ؛ لا شريكَ له ولا وَلَدَ، ﴿ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ ؛ بهِ من الأصنَامِ والأوثان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ ابتداءُ كلامٍ معناهُ : وَالَّذِينَ غَبَنُوا أنفسَهم بذهاب الدُّنيا والآخرة عنهم، وهم المعاندونَ الذين يعرفون ويَجْحَدُونَ مِنْ رؤساءِ اليهود والنصارَى، فهم لا يُقَرِّونَ بمُحَمَّدٍ ﷺ والقرآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ ؛ معناهُ : ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِيْنَ أَشْرَكُواْ باللهِ غَيْرَهُ :﴿ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ ﴾ ؛ آلِهَتُكُمْ :﴿ الَّذِينَ كُنتُمْ ﴾ ؛ التي كُنْتُمْ تعبدونَ مِنْ دون اللهِ ؛ و ؛ ﴿ تَزْعُمُونَ ﴾، أنَّهم شركاءُ اللهِ وشفعاؤُكم.
ومَن قرأ (فِتْنَتَهُمْ) بالنصب فعلى خبر (لَمْ تَكُنْ) واسْمها (أنْ قَالُوا). ومن قرأ (رَبَّنَا) بالنصب فمعناه النداءُ. وقراءة حفصٍ على البدلِ، ويجوزُ الرفع على إضمار (هو). وقيل : المرادُ بالفتنة محبَّتُهم للأوثان التي كانوا مُفْتَتَنِيْنَ بها في الدُّنيا، فأعلمَ اللهُ تعالى أنه لم يكن افتتانُهم بشركهم وإقامتِهم عليه، إلا أن تَبَرَّأواْ منه وانتهوا عنه، فحلفوا أنَّهم ما كانوا مشركينَ.
ومعناهَا : ومِن أهلِ مكة من يستمعُ إلى حديثكَ وقراءتك، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبهِمْ أغْطِيَةً كراهةَ أنْ يَفْقَهُوهُ ؛ وَفِي آذانِهِمْ ثُقْلاً وصَمَماً، فلا يسمعونَ الْهُدَى. وموضعُ ﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ نُصِبَ على أنه مفعولٌ له ؛ أي جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبهِمْ أكِنَّةً لِكَرَاهَةِ أنْ يَفْقَهُوهُ. والوَقْرُ بفتح الواو : الثَقَلُ فِي الأُذُنِ، والوِقْرُ بكسر الواو : مَا يُحْمَلُ عَلَى الظَّهْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ ؛ أي وإن يروا كُلَّ حُجَّةٍ ودلالةٍ لا يُقِرُّوا ولا يصدِّقوا بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ ﴾ ؛ أي يُخَاصِمُونَكَ بالباطل ؛ ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ ؛ أي يقولُ النَّضِرُ بن الحارثِ وأصحابُه : مَا هَذا إلا أحاديثُ الأوَّلِين وأباطيلُهم.
وقال السُّدِّيُّ والضحَّاك :(نَزَلَتْ الآيَةْ في جَمِيْعِ كُفَّار مَكَّةَ) يعني وَهُمْ يَنْهُوْنَ الناسَ عن اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ والإِيمانِ ؛ ويُبْعِدُونَ أنفسَهم عَنْهُ. ﴿ وَإِن يُهْلِكُونَ ﴾ ؛ بذلكَ، (إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } ؛ وما يعلمون أنَّهمْ يهلكون أنفُسَهم.
وقرأ ابن السميقع :(وَقَفُوُا) فبفتحِ الواو والقاف من الوُقُوفِ. القراءةُ الأُولى من الوَقْفِ، وجوابُ (لا) محذوفٌ وتقديرهُ : ولو تَرَاهُمْ في تلكَ الحالةِ لرأيتَ عَجَباً، وقيلَ : لعَلِمْتَ ماذا يَنْزِلُ بهم من الْخِزْيِ والندامةِ، ورأيتَ حسرةً يا لهَا من حَسْرَةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالىَ :﴿ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ﴾ ﴿ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ قرأ حمزةُ ويعقوب وحفص :(وَلا نُكَذِّبَ) (وَنَكُونَ) بالنصب على جواب التَّمَنِّي، والعربُ تنصب جوابَ التمني بالواو كما تنصبهُ بالفاء، كما قالوا : يا ليتَكَ تصيرُ إلينا ونُكرِمَك، أو فُنكرِمَك فكلاهما بالنصب.
وقرأ ابنُ عامر (وَلا نُكَذِّبُ) بالرفع (وَنَكُونَ) بالنصب ؛ لأنَّهم تَمَنَّوا الردَّ وأن يكونوا مؤمنين وأخبروا أنَّهم لا يكذبون بآياتِ ربهم وإنْ ردُّوا إلى الدنيا. ومعناه : يا ليتنَا نُرَدُّ، ويا ليتنا لا نُكَذبُ، كأنَّهم تَمَنُّوا الردَّ والتوفيقَ بالتصديقِ. ويجوز أن يكون ذلكَ رفعاً على معنى : ونحنُ لا نُكَذِّبُ بآيات ربنا، رُدِدْنَا أو لَمْ نُرَدَّ.
وقَوْلُهُ تَعَالىَ :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ ؛ أي لو رُدُّوا إلى الدنيا كما سَأَلُوا لعادُوا لِمَا نُهُوا عنه من الكفرِ والشِّرك. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ ؛ يعني وإِنَّهم لكاذبون في قولِهم :﴿ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[الأنعام : ٢٧] لأنَّهم لا يؤمنون لسابقِ عِلْمِ الله تعالى فيهم أنَّهم خُلِقُوا للنار.
وإنَّما ذكر الذوْقَ بمعنى الْخُلُودِ ؛ لِيُبَيِّنَ أن حالَهم في كلِّ وقت كَحَالِ مَنْ يُعَذبُ بالعذاب المبتدأ. ومعنى ﴿ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ أي على حُكْمِ ربهم وقضائهِ، فتقولُ لَهم الملائكةُ بأمرِ الله تعالى : ألَيْسَ هَذا العذابُ بالْحَقِّ، قَالُوا بَلَى وَرَبنَا إنه حقٌّ.
وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾ ؛ أي على ما قََصَّرْنَا وضَيَّعْنَا في الدُّنيا من عملِ الآخرة، ﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ﴾ ؛ معناهُ : والكفَّارُ يحملون أثقالَ آثامِهم فوق ظهروهم بذنوبهم، والذنبُ من أثقلِ ما يحمل. وقيل : معناهُ ﴿ عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾ أي في الصفقةِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ﴾ قال السُّدِّيُّ :(لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ظَالِمٍ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ قَبْرَهُ إلاَّ أتَاهُ رَجُلٌ قَبيْحُ الْوَجْهِ ؛ أسْوَدُ اللَّوْنِ ؛ مُنْتَنٌّ الرَّائِحَةِ ؛ عَلَيْهِ ثِيَابٌ دَنِسَةٌ، فَإذا رَآهُ الظَّالِمُ قَالَ لَهُ : مَا أقْبَحَكَ! فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ فِي الدُّنِْيَا، فَيَكُونُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، فَإذا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامةِ قَالَ لهُ : طََالَمَا كُنْتُ أحْمِلُكَ عَلَى اللَّذةِ وَالشَّهَوَاتِ، فَأَنْتَ الْيَوْمَ تَحْمِلُنِي. فَيَرْكَبُهُ وَفِي يَدِهِ مَقْمَعَةٌ فَيَضْرِبُ بها رَأسَهُ ؛ فَيَفْضَحُهُ عَلَى رُؤُوس الْخَلاَئِقِ حَـتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ، فَذلِكَ قَوْلُهُ :﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ ؛ أي بئْسَ الشيءُّ الذي يحملونَ من الآثامِ. ويقالُ : بئْسَ الشيء شيئاً يَزِرُونَهُ ؛ أي يَحْمِلُونَهُ.
وهذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تعالى لكفَّار مكَّة، يفعلون ما لا يَرْجُونَ به الثوابَ، ولا يخشون منه العقابَ، ولا يَتَفَكَّرُونَ في العاقبةِ كالصبيان والبهائِم. واللَّعِبُ شَغْلُ النَّفْسِ عَمَّا لاَ حَقيْقَةَ لَهُ وَلاَ قَصْدَ. واللَّهْوُ : طَلَبُ الْمَزْحِ بِمثْلِ ذلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ ؛ يعني الجنَّةَ أفضلُ للذين يتَّقون الشركَ والكبائر والفواحشَ، ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؛ أن الآخرة الباقيةٌ خيرٌ من الدنيا الفانيةِ. قرأ ابنُ عامر :(وَلَدَارُ الآخِرَةِ) بلامٍ واحدة على الإِضافة.
وقال السُّدِّيُّ :(الْتَقَى الأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْق وَأبُو جَهْلٍ ؛ فَقَالَ الأَخْنَسُ لأَبي جَهْلٍ : يَا أبَا الْحَكَمِ ؛ أخْبرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ أصَادِقٌ هُوَ أمْ كَاذِبٌ ؛ فَإِنُّهُ لَيْسَ هَا هُنَا أحَدٌ يَسْمَعُ كَلاَمَنَا ؟ فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : وَاللهِ إنَّ مُحَمَّداً لَصَادِقٌ ؛ وَمَا كَذبَ مُحَمَّدٌ قَطٌّ، وَلَكِنْ إذا ذهَبَ بَنُو قُصَيٍّ باللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَة وَالنُّبُوَّةِ ؛ فَمَاذا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِه الآيَةَ). وقال :(مَعْنَى :(لاَ يُكَذِّبُونَكَ) لاَ يَقْدِرُونَ أنْ يَقُولُوا لَكَ فِيْمَا أنْبَأْتَ بهِ مِمَّا فِي كُتُب الأَنْبيَاءِ قَبْلَكَ : كَذبْتَ!.
وقرأ نافع والكسائيُّ :(يَكْذِبُونَكَ) بالتخفيفِ. ومعناهُ : لا يجدونَكَ كاذباً، يقال : كَذبتَ فُلاناً بالتشديد إذا قُلْتَ له : كَذبْتَ، وأكْذبْتَ فُلاناً ؛ إذا رأيتَ ما أتَى به كَذِباً. وقرأ نافعُ (لَيُحْزِنُكَ) بضمِّ الياء، والمعنى واحدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي لا مُغَيِّرَ لِمَا وَعَدَكَ من النصر والظَّفَرِ بقولهِ :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ﴾[غافر : ٥١]، ﴿ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ أي مِنْ خَبَرٍِ المرسلين قبلكَ ما يكونَ لكَ فيه سُلْوَةٌ، فَاعْتَبرْ بأخبارهم.
وقد بَيَّنَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ : إنَّ ما تأتِي من الآياتِ بمَا أحبُّ، وإنَّ رسولَ الله ﷺ بَشَرٌ لا يقدرُ على الإِتيان إلا بمَا شاءَ اللهُ، وكان قد عَلِمَ أنه لو أنْزَلَ عليهم الْمَلَكَ وكلَّ آية سألُوها لم يُؤْمِنُوا، فلم يُنْزِلْ إلا ما تَثْبُتُ به الحجَّة عليهم، فَتُؤْجَرُ بالصبرِ والثَّبات على الإيْمانِ بالآية.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ ؛ أي لو شاءَ اللهُ لاضْطَرَّهُمْ إلى الإِيْمان كما قال :﴿ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾[الشعراء : ٤]. وقيلَ : معناهُ : ولو شاءَ اللهُ لأَطْبَقَهُمْ على الْهُدَى. وقيل : لَوَفَّقَهُمْ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ ؛ أي لاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ بتركِ الصَّبر وإظهَار الْجَزَعِ ؛ واستشعار الغَمِّ لإعراضِهم عنك، فإن هذا من فِعَالِ الجاهلين. ويقال : معناهُ : لاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ بَمقْدُوري عليهم.
وقيل : معناهُ : إلا أممٌ أمثالُكم في الْخَلْقِ والرزقِ والموت البعثِ ؛ لأنهُ قال :﴿ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ﴾[الأنعام : ٣٦] فيكونُ معناه :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ في أنَّ الله يُمِيْتُهَا ويَبْعَثُهَا للجزاء. وقيلَ : معناهُ :﴿ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ يَفْقَهُ بعضُه عن بعضٍ، كما يفقهُ بعضكم عن بعضٍ.
وذِكْرُ الجناحين في الآية على جهةِ التَّأكيد ؛ لأنه يقالُ : طَارَ فلانٌ في الأمرِ ؛ أي أَسْرَعَ، وفلانٌ طُيْرٌ من الطُّيور ؛ لسرعتهِ في الأمور. وقيل : ذِكْرُ الجناحين في الآيةِ لبيان أنَّ المرادَ به الطيرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ ؛ معناهُ : ما تركنا في اللَّوح المحفوظِ شيئاً إلا كَتَبْنَاهُ فيه. ويقالُ : ما تركنا بيانَ شيءٍ فِي الْقُرْآنِ فيما يَحتاجون إليه من أحكام الدِّين والدُّنيا، بل قدْ بَيَّنَّا في الكتاب كلَّ شيء إما مُفَصَّلاً أو مُجْمَلاً، أما الْمُفَصَّلَ كقولهِ تعالى :﴿ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾[المائدة : ٤٥] وأما الْمُجْمَلُ كقوله :﴿ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾[الحشر : ٧].
وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ ؛ معناهُ : أنَّ الطيورَ والدوابَّ يجمعون مع سَائِرِ الْخَلْقِ يومَ القيامةِ للحساب والجزاء، كما روي في الخبر عن رَسولِ الله ﷺ أنَّهُ قَالَ :" إنَّ اللهَ تََعَالَى يَحْشُرُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ وَالْبَهَائِمَ وَالدَّوَابَّ والطَّيْرَ وَكُلَّ شَيْءٍ ؛ فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ أنْ يَأْخُذ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، فَإذا مُيِّزَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَِّةِ وَالنَّار ؛ قَالَ لِلْبَهَائِمِ وَالْوُحُوش وَالطُّيُور : كُونُوا تُرَباً تَسْتَوِي بكُمُ الأَرْضُ، فَتكُونُ تُرَِاباً، فَعِنْدَ ذلِكَ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ فَيَقُولُ : يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً ".
والمرادُ بهذا الإفناءِ للبهائمِ بعد أنْ أحياهَا أنهُ إفناءٌ لا يكون فيه ألَمُ.
قَولهُ :﴿ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾ أي في ضَلاَلاَتِ الكفر في ظُلْمَةِ السَّمع والبصرِ والقلب، ﴿ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ ﴾ ؛ أي من شَاءَ اللهُ يَتْرُكْهُ في ضلالةِ الكفر، فلا يُخْرِجُهُ منه، ﴿ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ وَمَن يشأْ يُرْشِدْهُ ويُوَفِّقْهُ للإِسلامِ فَيُثَبِّتْهُ على ذلك حتَّى يَموت عليه، ويقال : معناهُ : من يَشَأ اللهُ يُضْلِلْهُ في الآخرةِ عن طريقِ الجنَِّة إلى طريقِ النّارِ، ومن يشأْ يجعلْهُ على طريق الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ﴾ ؛ أي أغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ في كشفِ ذلك العذاب وَدَفْع تلكَ الأهوال عنكُم، أم تَدْعُونَ اللهَ تعالى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ ﴾ ؛ أي في مقالتِكم أنَّ الأصنامَ شركاءٌ للهِ ؛ فَهَلاَّ تدعون الأصنامَ عند الشدائدِ. وهو احتجاجٌ مِن الله عليهم بما لا يَدْعُونَهُ ؛ لأنَّهمْ كانوا إذا مسَّهم الضرُّ دَعَوا اللهَ تعالى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ ؛ أي وتتركون دعوةَ آلِهتكُم عند الشِّدة إذا أشرفتُم على الْهَلاَكِ ؛ وَاضْطَرَبَتْ بكم الأمواجُ في لُجَجِ البحار ؛ وفي غير ذلك من السِّجن والأوجاعِ التي لا صَبْرَ عليها، وقد يُذْكَرُ النِّسيان بمعنى التَّرْكِ كما في قولهِ :﴿ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾[التوبة : ٦٧] أي تَرَكُوا ذِكْرَ اللهِ، فَتَرَكَهُمُ اللهُ في العذاب.
فإن قيل : لِمَ أنعمَ الله عليهم حين نَسَوا ما ذُكِّرُوا به ؛ وهذا موضعُ العقوبة دون الإنعامِ ؟ قيل فيه قولان : أحدُهما : أنه أنعمَ عليهم بالدعاءِ لَهم إلى الطاعة، فإن الدعاءَ إلى الطاعة تارةً يكونُ بالعنف والتشديد، وتارةً باللِّين والإنعامِ.
والثانِي : أنه إنَّما فعلَ ذلك بهم ؛ لأنَّ من يُنْقَلُ من النعمةِ والراحة إلى العذاب يُجْمَعُ عليه العذابُ والحسرةُ على ما فَاتَهُ ؛ فيكون ذلك أشدَّ عليه ممن ينقلُ من الشدَّة إلى العذاب.
وقد قطعَ اللهُ دابرَ المعاندين من أهل مكَّّة يومَ بَدْرٍ كما قطعَ دابر المكذبين قبلَهم. وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنه قال :" إذا رَأيْتَ اللهَ تَعَالَى يُعْطِي عَبْداً فِي الدُّنْيَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ مَا يُحِبُّ ؛ فَإنَّ ذلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ قَرَأَ ﷺ :﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ الآيةُ ".
ومعناها : قلْ لَهم يا مُحَمَّد :﴿ لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ ﴾ أي لا أدَّعي أن مفاتيحَ الرزقِ بيدي ؛ فأقبضُ وأبْسُطُ، وليس خزائنُ الله مثلَ خزائنِ العباد، إنَّما خزائنُ الله مقدوراتُه التي لا تُوجَدُ إلا بتكوينهِ إيَّاها، ﴿ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ أي لا أدَّعي عِلْمَ الغيب فيما مضَى وما سيكونُ، ﴿ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ مِن السَّماء شاهدتُ ما لم تشاهدِ البشرُ، ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ ؛ أي لا أعْلَمُ ولا أقولُ إلا بما نَزَّلَهُ اللهُ على لسانِ بعض الملائكة، ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ ؛ أي الكافرُ والمؤمن، ويقال : الجاهلُ والعالِمُ، ﴿ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ ؛ في آياتِ اللهِ ومَوَاعِظهِ.
فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾ أي يعبدون ربَّهم بالصلاةِ المفروضة غُدُوّاً وعَشِيّاً وهم ضَعَفَةُ الصحابةِ وَصَفَهُمُ اللهُ بالمواظبة على عبادتهِ في طرفَي النَّهارِ ؛ ثُم شهِدَ لَهم أنَّهم مخلصون في الإِيْمانِ بقولهِ :﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ أي يريدون وجهَ اللهِ تعالى بذلك ؛ ويطلبون رضَاهُ. وذكرَ الوجهَ على سبيلِ التفخيم كقولهِ تعالى :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾[القصص : ٨٨]. معناهُ : إلاَّ هُو.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ ؛ أي ما عليكَ مِن حساب عملِهم وباطنِ أمرهم من شيء، ﴿ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ ﴾ ؛ أي مَا عليهم من باطِن أمرِكَ شيءٌ ولا يُسْأَلُونَ عن عملِكَ ولا تسألْ أنتَ عن عملِهم.
وقيل : معناهُ : ما عليكَ من رزقِهم من شيءٍ، وما مِن رزقِكَ عليهم من شيءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَطْرُدَهُمْ ﴾ ؛ جوابُ ﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم ﴾. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَكُونَ ﴾ ؛ جوابُ ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ ﴾. ﴿ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾، ومعناهُ : فتكون من الضارِّين لنفسكَ أن لو طردتَهم.
وتقديرُ الآية : وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابهِمْ مِْن شَيْءٍ، وَمَا مِنْ حِسَابكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، فَتَطْرُدَهُمْ. وقال سلمانُ وخبَّاب :(فِيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ، فَجَاءَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابسٍ التَّمِيْمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنِ الْفَزَّاريّ وَأصْحَابُهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، فَوَجَدُواْ النَّبِيَّ ﷺ قَاعِداً مَعَ بلاَلٍ وَصُهَيْبَ وَعَمَّارِ وَخَبَّابٍ فِي نَاسٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِيْنَ، فَلَمَّا رَأوْهُمْ حَوْلَهُ حَقَّرُوهُمْ ؛ وَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ؛ لَوْ جَلَسْتَ فِي صَدْر الْمَسْجِدِ، وَنَفَيْتَ عَنَّا هَؤُلاَءِ وَرَائِحَةَ جِبَابهِمْ لَجَالَسْنَاكَ وَحَادَثْنَاكَ وَأخَذْنَا عَنْكَ. وَكَانَ عَلَيْهِمْ جِبَابٌ مِنْ صُوفٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهَا.
فَقَالَ ﷺ :" مَا أَنَا بطَاردِ الْمُسْلِميْنَ " فَقَالُواْ : إنَّا نُحِبُّ أنْ تَجْعَلَ لَنَا مَجْلِساً تَعْرِفُ الْعَرَبُ بهِ فَضْلَنَا، فَإنَّ وُفُودَ الْعَرَب تأْتِيْكَ ؛ فَنَسْتَحِي أنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَؤُلاَءِ الأَعْبُدُ، فَإِذا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإذا نَحْنُ قُمْنَا فَأْقْعِدْهُمْ مَعَكَ إنْ شِئْتَ.
ومعنى (اللام) في قوله :(لِيَقُولُوا) لامُ العاقبة ؛ ومعناهُ : ليكونَ عاقبةُ أمرهِما ؛ قال الأغنياءُ والأشراف : أهؤلاءِ المستضعفونَ فضَّلهم اللهُ علينا. ونظيرُ هذه اللاَّم في هذهِ الآية قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾[القصص : ٨]، ومعلومٌ أنُّهم لم يلتقطوهُ لأجلِ أن يكون لَهم عدوّاً وحَزَناً، ولكن عاقبةُ التقاطِهم إياه أنْ صارَ لَهم عدُوّاً وحَزَناً.
وقال بعضُهم : اللامُ في قوله :(لِيَقُولُوا) معناها الاستفهامُ ؛ أي ليقولَ بعضُهم لبعضٍ استفهاماً لا إنْكاراً : أهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بالإيْمانِ.
والفائدةُ في ذلك أن الأغنياءَ كانوا شاكِّين في أن سَبْقَ الفقراءِ إلى الإِيْمان وصبرِهم على طريقةِ الدِّين ؛ هل يوجبُ أن تكونَ نعمةً من الله عظيمة عليهم، فأمرَهُم اللهُ تعالى أن يَسْتَفْهِمُوا من الرسولِ ﷺ ما لأجلهِ يقومُ الفقراء بحضرةِ الرسُول ﷺ واستحقُّوا الإعظامَ، فيظهرُ عند الاستفهامِ جوابُ النبِيُّ ﷺ، ويكون في سَماعهِم لذلكَ مصلحةٌ عظيمة توجبُ رضَاهُم بتقديمِ النبِيِّ ﷺ أهلَ الدين. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ ؛ استفهامٌ بمعنى التحقيقِ على معنى أنَّ اللهَ أعلمُ بمن هو من أهلِ التوحيد والثَّواب.
وقَالَ بانُ عبَّاس والكلبِيُّ :(لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾[الأنعام : ٥٢] الآيةُ، جَاءَ عُمَرُ رضي الله عنه مُعْتَذِراً مِنْ مَقَالَتِهِ ؛ فأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا ﴾ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَالقُرْآنِ ﴿ فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ أي قَبلَ اللهُ مَعْذِرَتَهُمْ وَتَوْبَتَهُمْ). ومعنى السَّلاَمِ : السلامةُ من جميع الآفاتِ.
وقيل : إنَّ اللهَ تعالى أمرَ نَبيَّهُ ﷺ أنْ يُسَلِّمَ على المستضعفين إذا جاءُوا إليه، وإنَّما أمرَهُ بأن يبدأهم بالسَّلامِ مع أن العادةَ أن يُسَلَّمَ على القاعدِ حتى يَنْبَسِطَ إليهم بالسَّلامِ عليهم ؛ لِئَلاَّ يحتشمُوا من الانبساطِ إليه. قال عطاءُ :(نَزَلَتْ فِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَليٍّ وأَبي عُبَيْدَةَ وَبلاَلٍ وَسَالِمٍ وَمُصْعَب بْنِ عُمَيْرٍ وَحَمْزَةَ وَجَعْفَرَ وَعُثْمَانَ ابْنِ مَضْعُونٍ وَعَمَّار بْنِ يَاسِرٍ).
وعن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه قالَ :(أتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ رجَالٌ فَقَالُواْ : إنَّا أصَبْنَا ذُنُوباً عَظِيمَةً كَبِيْرَةً، فَسَكَتَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله علليه وسلم، فأَنْزَلَ اللهُ تعَالىَ :﴿ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
واختلفُوا في قوله :﴿ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ﴾ قال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ : لاَ يَعْرِفُ حَلاَلاً مِنْ حَرَامٍ، فَمِنْ جَهَالَتِهِ رَكِبَ الأََمْرَ). وقيل : جاهلٌ بما يُورثُهُ ذلك الذنبُ. وقيل : جَهِلَ حين آثَرَ المعصيةَ على الطاعةِ، واللذةَ اليسيرةَ الفانيةَ على الكثيرةِ الباقية الدائمةِ، فعلى هذا يسمَّى مرتكبُ المعصيةِ جاهلاً.
واختلفَ القُرَّاءُ في قولهِ تعالى :﴿ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ﴾ وقولهِ :﴿ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فكسَرَهما جميعاً ابنُ كثير وأبو عمرٍو وحمزة والكسائيُّ وخلف والأعمشُ على الاستئناف. ونصَبَهما الحسنُ وابن عامر وعاصمُ ويعقوب بدلاً من الرحمةِ. وفتحَ نافعُ الأولَ على معنى : وَكَتَبَ أنَّهُ مَنْ عَمِلَ، وكسرَ الثانِي على الاستئنافِ.
وإنَّما لم يقل : سبيلُ المؤمنين ؛ لأن في الكلامِ ما يدلُّ عليه ؛ لأن معناهُ وَلِتَسْتَبيْنَ سبيلَ المجرمين من سبيلِ المؤمنين. ويقرأ :(وَلِيَسْتَبيْنَ) بالياء ؛ لأن السبيلَ يُذكَّرُ ويؤنَّثُ، فَتَمِيْمٌ تُذكِّرُهُ ؛ وأهلُ الحجاز تُؤَنِّثُهُ.
ودليلُ التذكير قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ ﴾[الأعراف : ٨٦] ولم يقل بها، ودليل التأنيث قَوْلُهُ تَعَالىَ :﴿ قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي ﴾[يوسف : ١٠٨] ولم يقل هذا سبيلِي. وقرأ أهلُ المدينة :(سَبيْلَ) بالنصب على خطاب النبِيِّ ﷺ ؛ معناهُ : وَلِتَعْرِفَ يا مُحَمَّدُ سبيلَ المجرمين ؛ فالخطابُ للنبيِِّ ﷺ والمرادُ به عامَّة المسلمين ؛ كأنه ولِتَسْتَبيْنُوا وتزدادوا معرفةً بطريق المجرمين.
وقرأ يحيى بن وثَّاب وأبو رجَاء :﴿ قَدْ ضَلَلْتُ ﴾ بكسرِ اللام ؛ وهما لُغتان ؛ إلا أنَّ الفتحَ أفصحُ ؛ لأنَّها لغةُ أهلِ الحجاز. وقولهُ :﴿ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ ؛ عطفٌ على ﴿ ضَلَلْتُ ﴾ ؛ أي إنْ أتَّبعْ أهواءَكم فما أنا من الذينَ سلكُوا طريقَ الهدى.
قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ رُوي : أنَّ رؤساءَ قريشٍ كانوا يستعجلونَ العذابَ، حتى قامَ النضرُ بن الحارثِ في الحَطِيْمِ وقالَ : اللَّهُمَّ إنْ كان ما يقولُ مُحَمَّدٌ حقّاً فَأْتِنَا بالْعَذاب، فَنَزلت هذه الآيةُ.
وقيل : معناه :﴿ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ من الآياتِ التي تقترحونَها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ﴾ ؛ أي ما القضاءُ وتنْزيل الآياتِ إلاَّ لله، ﴿ يَقُصُّ الْحَقَّ ﴾ ؛ أي يَحْكُمُ بالعدل ويقضي القضاءَ الحقَّ، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾ ؛ أي أعدلُ الْفَاصِلِيْنَ.
ومن قرأ (يُقِِضُّ الْحَقَّ) بالضادِ المشدَّدة، فمعناهُ : يُبَيِّنُ ويَأْمُرُ به، ومن قرأ (يَقْضِي) أي يَحْكُمُ. وقرأ ابن عبَّاس :(يَقْضِي بالْحَقِّ). وأما سقوطُ الياءِ في قراءة من قرأ (يَقُضِّ) فإِنَّها سقطت في الخطِّ لالتقاء السَّاكنَين، كما في قولهِ تعالى :﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾[العلق : ١٨]﴿ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ﴾[القمر : ٦]. وفي جميعِ المصاحف :(يَقْضِ) بغيرِ ياءٍ.
وقيل :﴿ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾ ما ينفتحُ به علمُ ما في الغيب من وقتِ نزول العذاب الذي كانوا يستعجلُون به وغيرُ ذلك. قيل : معناهُ :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾ أي نزولُ العذاب لا يَعلمُ متَى ينْزل ما غابَ عنكم من الثواب والعقاب، وما يصيرُ إليه من أمرِي وأمرِكم إلا هوُ. وقيل : معناهُ :﴿ مَفَاتِحُ الْغَيْب ﴾ الآجَالُ وأحوالُ العباد من السَّعادة والشَّقاوةِ، وعواقب الأمور، وخواتِم الأعمال. وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه :(أوْتِيَ نَبيُّكُمْ عليه السلام كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ مَفَاتِحَ الْغَيْب). وَالْمَفَاتِحَ جَمْعُ مِفْتَحٍ، وَالْمَفَاتِيْحُ جَمْعُ مِفْتَاحٍ ؛ وهو معرفةُ المغيَّب.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ ؛ أي يَعْلَمُ ما في البرِّ من النباتِ والْخَلْقِ ؛ وَما في الْبَحْرِ من الدواب والعجائب. وقيل : يعلمُ رزقَ كلِّ مَنْ في البرِّ والبحر، يسوقُ إلى كلِّ ذي روحٍ رزقَهُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(مَا مِنْ شَجَرَةٍ فِي الْبَرِّ إلاَّ وَبهَا مَلَكٌ مُوكَّلٌ يَعْلَمُ مَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، وَمَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِهَا، وَيَعْلَمُ عَدَدَ مَا بَقِيَ عَلَى الشَّجَرَةِ مِنَ الْوَرَقِ وَمَا يَسْقُطُ مِنْهُ). وقيل : معنى الآيةِ :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ ﴾ من أوراقِ الشَّجر، ﴿ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ اللهُ ثابتةً وساقطةً، ويعلمُ متَى سقوطُها وموضعُ سقوطها.
قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ﴾ ؛ أي كلُّ حبَّة تكون في الأرضِ حتى الحبَّةُ التي تكون تحتَ الصخرة التي هي أسفلُ الأرضين يعلمُها الله، وقيل : أرادَ كلَّ حبَّة تكون في شُقوق الأرضِ مِمَّا يخرجُ منها النبات. ومن قرأ (وَلاَ حَبَّةٌ) بالرفعِ فعلى الابتداء ؛ وخبرهُ ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾.
وَقَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ ؛ أرادَ بالرَّطْب الماءَ والخضر، وباليابسِ الحجرَ والمدرَ، كلُّ ذلك مكتوبٌ في اللوحِ المحفوظ، أثبتَ اللهُ تعالى فيه كلَّ ما يخلقُ قبلَ أن يخلقَهُ، كما قالت تعالى :﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ﴾[الحديد : ٢٢].
وَاعْلَمْ : أنهُ قد أثبتَ ما خَلَقَ قبل خلقِهِ. والرطبُ واليابس عبارةٌ عن جميع الأشياءِ التي تكون في السَّموات والأرضِ ؛ لأنَّها تخلق من أحدِ هاتين الصِّفتين. وعن النبِيُّ ﷺ أنهُ قال :" مَا زَرْعٌ عَلَى الأَرْضِ وَلاَ ثِمَارٌ عَلَى الأَشْجَار ؛ إلاَّ عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، رزْقُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ".
فإن قيلَ : ما الفائدةُ في كون ذلك مكتوباً في اللَّوح مع أنَّ اللهَ لا يخفى عليه شيءٌ، وأنه كان عالِماً بذلك قبلَ أن يخلقَه وقبل أن يكتبَه ؛ ولم يكتُبها ليحفظَها ويدريها. قيل : فائدتهُ أن الحوادثَ إذا حدثت موافقةً للمكتوب، ازدادَتِ الملائكةُ بذلك علماً ويقيناً بعِظَمِ صفاتِ الله عَزَّ وَجَلُّ.
والتَّوفِّي في اللغة : هُوَ الْقَبْضُ ؛ إلاَّ أن روحَ النائمِ لا تصيرُ مقبوضةً في حال نومه على جهةِ الحقيقة ؛ لأن النائمَ يستمدُّ من الهواءِ على حسب ما يفعلهُ المنتبهُ، ولكنَّ الله يحدثُ في حال النوم من بدنِ النائم ضرباً من الاسترخاءِ في إغماءٍ منه، إمَّّا بسلب عقله، أو بإِحداثِ فعلٍ في البدن يكونُ ذلك الفعل سبباً لراحةِ البدن، كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ﴾[النبأ : ٩] فلما صارَ النائمُ كالميتِ في أنه لا يعقلُ وفي أن تصرفَه لا يقع على تَمييز ؛ شُبهَ بالميتِ من حيث التوفِّي على هذا الوجه، كما وردَ عن رسول الله ﷺ أنه قالَ :" النَّوْمُ أخُو الْمَوْتِ، وَأهْلُ الْجَنَّةِ لاَ يَمُوتُونَ وَلاَ يَنَامُونَ " وعلى هذا الوجهِ يتأوَّل قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا ﴾[الزمر : ٤٢] إلى آخر الآية.
وذهبَ بعضُهم إلى أن الروحَ تخرجُ من البدن في المنامِ، ولكن لا تنقطعُ حركة النائمِ ؛ لأن نظرَ الروحِ لم ينقطع عن البدن ؛ إذ هو على العَوْدِ في كلِّ وقتٍ وفي كل ساعةٍ ؛ وقال : لا يخرجُ منه الروحُ، وإنَّما يخرج منه الذهن.
قَوْلَهُ تَعَالىَ :﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ﴾ ؛ أي كسبتُم من الخيرِ والشرِّ بالنهار، يقالُ : جَرَحَ وَاجْتَرَحَ ؛ بمعنى كَسَبَ وَاكْتسَبَ، وأصلُ الاجْتِرَاحِ : عَمَلُ الْجَوَارِحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ﴾ ؛ أي يُنَبهُكُمْ من نومِكم في النهار على علمٍ منه بما اجترحتُم من قبلُ وما تجترحون من بعدُ، ﴿ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ﴾ أي لتبلغُوا الوقتَ المقدور الذي قدَّرهُ الله بحَيَوِيَّتِكُمْ ؛ فتنقطعُ أرزاقكُم وأعمالُكم التي تعملونَ في الدُّنيا من خيرٍ أو شرٍّ.
قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ ؛ أي ثم إلى اللهِ مصيرُكم ومتقلَّبُكم بعدَ الموتِ، ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ أي ثم يُخْبرُكُمْ في الآخرةِ بما كنتم تعملون في الدُّنيا ؛ فيجازي كلَّ عاملٍ ما عَمِلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً ﴾ ؛ معناه : وَالْمُرْسِلُ عَلَيٍْكُمْ حَفَظَةً، فاكتفَى بالفعلِ عن الاسم. وَالْحَفَظَةُ : هُمُ الْمَلاَئِكَةُ يحفظونَ على العبادِ أعمالَهم على ما تقدَّم.
وقد وردَ في الخبرِ : أن على كلِّ واحدٍ منَّا ملَكين بالليلِ ؛ وملَكين بالنهار، يكتبُ أحدُهما الحسناتِ ؛ والآخرُ السيِّئاتِ، وصاحبُ اليمينِ أميرٌ على صاحب الشِّمال، فإذا عَمِلَ العبدُ حسنةً ؛ كتبَ له بعَشْرِ أمثالِها ؛ وإذا عَمِلَ سيِّئةً فأرادَ صاحبُ الشِّمال أن يكتبَ ؛ قال له صاحبُ اليمين : أمْسِكْ، فيمسِكُ عنه ستِّ ساعاتٍ أو سبع ساعات، فإنْ هو استغفرَ اللهَ تعالى ؛ لم يكتُبْ عليه، وإن لم يستغفرْ يكتب عليه سيِّئةً واحدةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ﴾ معناه : حَتَّى إذا حضرَ أحَدَكُمْ الْمَوْتُ ؛ قبضَ روحَهُ مَلَكُ الموتِ وأعوانُه، وَهُمْ لا يقصِّرونَ ولا يؤخِّرونَه طرفةَ عينٍ، فإن قيلَ : كيفَ هنا ﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ وقال في آيةٍ أخرى :﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ﴾[السجدة : ١١] ؟ قيلَ : إنَّ مَلَكَ الموتِ هو الذي يقبضُ الأرواحَ كلَّها وهو القائمُ بذلك ؛ إلا أنَّ له أعواناً ؛ فتارةً أضافَ قبضَ الروحِ إلى مَلَكَ الموتِ ؛ لأنه هو المختصُّ بذلك، وتارةً أضافَهُ إليه وإلى غيرِه ؛ لأنَّهم يَصْدُرُونَ في ذلك عن أمرهِ.
وقال مجاهدُ :(جُعِلَتِ الأََرْضُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ كَالطَّشْتِ يَتَنَاوَلُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ، ولَهُ أعْوانٌ يَتَوَفَّوْنَ الأَنْفُسَ، ثُمَّ يَقْبضُهَا مِنْهُمْ). ويقالُ : إنَّ أعوانَ مَلَكِ الموت يستخرجون الروحَ من الأعضاءِ عُضْواً عُضْواً، حتى إذا جَمَعُوهُ في صدرهِ وجعل يُغَرْغِرُ به ؛ قبضَهُ حينئذٍ مَلَكُ الموتِ.
وقد رويَ عن رسول الله ﷺ :" أنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَرِيْضٍ يَعُودُهُ، فَرَأَى مَلَكَ الْمَوْتِ عِنْدَ رَأسِه ؛ فقَالَ :" يَا مَلَكَ الْمَوْتِ ؛ ارْفُقْ بهِ، فإِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فقَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ : ياَ مُحَمَّدُ ؛ أبْشِرْ وَطِبٍ نَفْساً وَقَرَّ عَيْناً ؛ فإِنِّي بكُلِّ مُؤْمِنٍ رَفِيْقٌ، إنِّي لأقْبضُ رُوحَ الْمؤْمِنِ فَيُصْعَقُ أهْلُهُ فَأعْتَزِلُ فِي جَانِبِ الدَّار، فأََقُولُ : مَا لِي مِن ذنْب، وَإِنِّي لَمَأْمُورٌ، وَإنَّ لِي لَعَوْدَةً فَالْحَذرَ الْحَذرَ، وَمَا مِنْ أهْلِ بَيْتِ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، فِي بَحْرٍ أو بَرٍّ، إلاَّ وأَنَا أَتَصَفَّحُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، حَتَّى أنِّي لأَعْلَمُ بصَغِيْرِهِمْ وَكَبيْرِهِمْ مِنْهُمْ بأَنْفُسِهِمْ، وَاللهِ لَوْ أَرَدْتُ أنْ أقْبضَ رُوحَ بَعُوضَةٍ لَمَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْمُرَنِي اللهُ تَعَالَى بقَبْضِهَا ".
قَوْلَهُ تَعَالَىَ :﴿ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ﴾ ؛ كلمة بَيِّنَةٌ ؛ أي اعلمُوا أنَّ بَيِّنَةَ القضاءِ بين العباد يومَ القيامة يحكمُ فيهم ما شاءَ وكيف شاءَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ ؛ إذا حاسَبَ فحسابهُ يسيرٌ سريعٌ ؛ لأنه لا يحاسبُ بحقد ولا يتكلَّمُ بآلةٍ، ولا يَحْجُزُهُ الكلامُ مع بعضِهم عن الكلامِ مع غيرهم، بل يحاسِبُ الجميعَ في دُفعة واحدةٍ. ومعنى الْمُحَاسَبَةِ : تَعْرِيْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَوَابٍ أوْ عِقَابٍ ؛ حَتَّى رُويَ فِي الْخَبَرِ : أنَّهُ يَكُونُ حِسَابُهُ فِي مِقْدَار حَلْب شَاةٍ.
وقََوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ أي تدْعُونَهُ علانيةً وسرّاً، والتَّضَرُّعُ : إظْهَارُ الضَّرَاعَةِ ؛ وَهِيَ شِدَّةُ الْفَقْرِ وْالْحَاجَةِ إلَى الشَّيْءِ. وقرأ أبو بكرٍ :(وَخِفْيَةً) بكسرِ الخاء، وقرأ الأعمشُ :(وَخِيْفَةً) من الخوفِ كما في آخرِ الأعراف.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ ؛ في موضعِ الحال ؛ معناهُ قائلين : لَئِنْ أنجَيتنا مِنْ هَذِهِ الشدائد لَنَكُونَنَّ مِنَ المؤمنينَ الموحِّدين المطيعين. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ﴾ ؛ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ من شدائدِ البرِّ والبحر ومن كلِّ غَمٍّ، ﴿ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ ؛ بهِ الأصنام في الرَّخاءِ بعد النجاةِ، وبعد قيامِ الحجَّة عليكُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ ؛ معناه : أو يَخْلِِطَكُمْ فِرقاً مختلفِي الأهواء، بأن يضربَ بعضَكم ببعضٍ بما يلقيهِ بينكم من العداوةِ. وقيل : معنى :﴿ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ يَكِلْكُمْ إلى أنفسِكم ويُخْلِيْكُمْ من الطاعةِ بذنوبكم ؛ فتختلفُوا حتى يذوقَ بعضُكم شدَّة بعضٍ بالحرب والقتال. وقالَ :﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ ؛ يعني بالسيُّوف يَقْتُلُ بعضُكُمْ بعضاً.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ﴾ ؛ أي انظُرْ يا مُحَمَّد كيف نُبَيِّنُ لَهم الآيةَ على إثْرِ آيةٍ، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ ؛ أي لكي يَفْقَهُوا أوامرَ اللهِ، ثم هم لا يفقهون.
قال ابنُ عبَّاس :(لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ؛ شُقَّ ذلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فقَالَ :" يَا جِبْرِيْلُ، مَا بَقَاءُ أُمَّتِي عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ الأَرْبَعِ؟! " فَقَالَ : إنَّمَا أنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ، فَادْعُ رَبَّكَ وَاسْأَلْهُ لأُمَّتِكَ. فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ؛ فَتَوَضَأَ وَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ؛ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَأحْسَنَ الصَّلاَةَ ؛ ثُمَّ سَأَلَ اللهَ أنْ لاَ يَبْعَثَ عَلَى أُمَّتِهِ عَذاباً مِنْ فَوْقِهِمْ وَلاَ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ، وَلاَ يُلْبسَهُمْ شِيَعاً، وَلاَ يُذِيْقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام ؛ فَقَالَ : يَا مُحَمَّد ؛ إنَّ الله قَدْ سَمِعَ مَقَالَتَكَ، وَإنَّهُ قَدْ أَجَارَهُمْ مِنْ خِصْلَتَيْنِ : أنْ لاَ يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ عذاباً مِنْ فَوْقِهِمْ، وَلاَ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ، وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ الأُخْرَتَيْنِ ".
وقال ﷺ :" سَأَلْتُ رَبِي أنْ لاَ يَبْعَثَ عَلَى أُمَّتِي عَذاباً مِنْ فَوْقِهِمْ، وَلاَ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ ؛ فأَعْطَانِي ذلِكَ. وَسَأَلْتُهُ أنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعنِي ذلِكَ، وَأخْبَرَنِي جِبْرِيْلُ أنَّ فَنَاءَ أُمَّتِي بالسَّيْفِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ معناهُ : وَإمَّا يوقعنَّك الشَّيْطانُ في النِّسْيَانِ بَعْدَ النهي فتجلسَ معهم، فلا شيءَ عليك في تلك الحالِ التي تكون فيها ناسياً، فلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مََعَ قَوْمٍ إذا ذكرتَ، ودَعْ مجالسةَ المشركين فتأثَم. قرأ ابنُ عبَّاس وابن عامرٍ :(يُنْسِيَنَّكَ) بالتشديدِ.
فلما نزلت هذه الآيةُ قال المسلمون : يا رسولَ اللهِ ؛ لَئِنْ كُنَّا كلما استهزأ المشركون بالْقُرْآنِ قُمْنَا وتركناهم، لا نستطيعُ أن نجلسَ في المسجدِ الحرام، ولا أن نطوفَ بالبيتِ ؟ فنَزل قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾، أي ما على الذين يَتَّقونَ الشركَ والمعاصي والخوضَ في آثامِهم، ومخالفتِهم أمرَ الله من شيء من العقاب. ﴿ وَلَـاكِن ذِكْرَى ﴾ ؛ أي ولكن ذكِّروهم بالْقُرْآنِ ذِكْرَى إذا فعلُوا وَعِظُوهُمْ، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ ؛ الشركَ والاستهزاءَ والخوضَ. فموضع (ذِكْرَى) نَصْبٌ على المصدر، ويجوزُ أن يكون في موضعِ رفعٍ ؛ أي هُوَ ذِكْرَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ ؛ ِأي ذكِّرْ بالْقُرْآنِ وعِظْ بهِ كراهةَ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بمَا كَسَبَتْ. ويقال : قَبْلَ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ. ويقال : لئلا تُبْسَلَ نَفْسٌ ؛ أي لئلا تَهلِكَ نفسٌ. وقال الحسنُ مجاهد وعكرمة والسدي :(تُبْسَلَ : أيْ تُسَلَّمَ لِلْهَلَكَةِ).
وقال ابنُ زيد :(معناه : وَذكِّرْ بهِ أنْ تُبْسَلَ ؛ أيْ لَئِلاَّ تَبْسَلَ ؛ أيْ لَئِلاَّ تُؤْخَذ). وعن ابنِ عبَّاس :(أن تُفْضَحَ). وقال الأخفشُ :(أنْ تُبْسَلَ : أنْ تُجَازَى). وقال الفرَّاءِ :(تَرْتَهِنَ)، وقال عطيةُ العوفِي :(مِنْ قَبْلِ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ ؛ أيْ مِنْ قَبْلِ أنْ تُسَلَّمَ إلَى خَزَنَةِ جَهَنَّمَ). والْمُتَبَسِّلُ : الْمُسْتَسْلِمُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ﴾ ؛ أي ليس لتلك النفس مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ ولاَ شَفِيعٌ ؛ أي قريبٌ يَمنع العذابَ عنها ولا شفيعٌ يشفعُ لَها في الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ ﴾ ؛ أي لو جاءَت مكانَها بكلِّ ما كان في الأرضِ جميعاً افتداءً عن نفسها لا يُقْبَلُ منها. وسُمي الفداءُ عدلاً ؛ لأنه مِثْلٌ للشيء، ويقالُ لأحد جَانبِي الحجل : عِدْلٌ بالكسرِ ؛ لأن كلَّ واحدِ من العِدلين مِثْلٌ لصاحبهِ، فمعنى الآيةِ : وإن تَفْتَدِي بكلِّ فداءٍ لا يُؤخَذُ منها.
وقوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ أي وجيعٌ ؛ ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ ؛ أي بما كانوا يَجْحَدُونَ في الدُّنيا بمُحَمَّدٍ ﷺ والْقُرْآنِ.
قرأ الأعمش وحمزة :(كَالَّذِي اسْتَهْوَاهُ) بالألفِ والإِمالة، وقرأ طلحةُ بالألف، وقرأ الحسنُ :(اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ). وفي مصحفِ عبدِاللهِ :(اسْتَهْوَاهُ الشَّيْطَانُ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ﴾ ؛ أي لهُ أصحابٌ يدعونَه إلى الطريقِ المستقيم : أنِ ائْتِنَا وَاتَّبعْنَا ؛ فإنَّا على الطريقِ، فأبَى أن يأتِهم ويطيعَهم.
وقيل : إن الآيةَ نزلت في عبدِالرحمن بن أبي بكرٍ حين دعا أباهُ إلى الكفر، فأنزلَ اللهُ تعالى :﴿ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ﴾. وقولهُ :﴿ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ ﴾ وهو عبدُالرَّحمن بن أبي بكرٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ﴾ قيل : كان أمُّهُ وأبوهُ يدعوانِه إلى الإِسلام، وكان الشياطينُ والكفَّار يُزَيِّنُونَ له الكفرَ إلى أن مَنَّ الله عليه بعد ذلك بقَبُولِ الإِسلامِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ ﴾ ؛ أي قُلْ لَهُمْ : إنَّ دينَ الله هو الإسلامُ ؛ وأمَرَنَا لِنُخْلِصَ العبادةَ ؛ :﴿ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ ؛ أي الآخرة في أمرِ يوم القيامة حقٌّ كائنٌ لا محالة، وَلَهُ الْمُلْكُ يومئذ. وتخصيصُ ذلك اليوم بالْمُلْكِ ؛ لأنَّ اليومَ الذي لا يظهرُ فيه مِن أحدٍ سوى اللهِ نفعٌ ولا ضَرٌّ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾[الانفطار : ١٩]. والصُّورُ : قَرْنٌ يَنْفُخُ فِيْهِ إسْرَافِيلُ نفختين ؛ فتُغشَى الخلائقُ كلُّهم بالنفخةِ الأولى ؛ ويَحْيَوْنَ بالنفخة الثانيةِ، فتكون النفخةُ الأولى لانتهاءِ الدُّنيا ؛ والثانيةُ لاتبداءِ الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ ؛ أي وعالِمُ ما غابَ عن العبادِ وما علموهُ ؛ ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ ﴾ ؛ في أمرهِ، ﴿ الْخَبِيرُ ﴾ ؛ بأعمالِ عباده.
قال السُّدِّيُّ والحسنُ :(آزَرُ اسْمٌ لأَبي إبْرَاهِيْمَ). وقال الفرَّاء :(هُوَ صِفَةٌ عَيْبٍ وَسَبٍّ ؛ وَمَعَناهُ فِي كَلاَمِهِمْ : الْمِعْوَجُّ). وقيل : معناهُ : الشيخُ لَهم. وقيل : قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبيهِ الْمُخْطِىءِ، أو قال لأبيه : يَا مُخْطِىءُ. وكان على هذا القولِ اسمٌ أندتارخ بن ياجوراء. وقال سعيدُ بن المسيب ومجاهدُ :(آزَرُ اسْمُ صَنَمٍ) وهو على هذا التأويلِ في موضع نصبٍ، وفي الكلام تقديمٌ وتأخير ؛ تقديرهُ : اتَّخَذ آزرَ أصْنَاماً آلِهَةً مِنْ دون اللهِ.
وقيل : كان إبراهيمُ قالَ لأبيه : لا تَتَّخِذُوا آزَرَ إلَهاً، أتَتَّخِذُ أصْنَامًا آلهِةً، ﴿ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ ﴾ ؛ عن الحق ؛ ﴿ مُّبِينٍ ﴾ ؛ أي ظاهرَ الضَّلالةِ في ذهابٍ عن الحقِّ بيِّنٍ.
وقال مجاهدُ وسعيدُ بن جبيرٍ :(مَعْنَى :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ أيْ آيَاتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ؛ وَذلِكَ أنَّهُ أُقِيْمَ عَلَى صَخْرَةٍ وَكُشِفَ لَهُ عَنِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْعَرْشَ وَأسْفَلَ الأَرْضِيْنَ، وَنَظَرَ إِلَى مَكَانِهِ فِي الْجَنَِّةِ ؛ وَذلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ﴾[العنكبوت : ٢٧] يَعْنِي أرَيْنَاهُ مَكَانَهُ فِي الْجَنَّةِ).
وقيل : معنى الآية : كما أرَينا إبراهيمَ قُبْحَ ما كان عليه أبوهُ وقومه من المذهب ؛ كذلك نُرِيَهُ ملكوتَ السموات والأرض. والْمَلَكُوتُ : عِبَارَةٌ عَنْ أعْظَمِ الْمُلْكِ ؛ زيدتِ الواوُ والتاء للمبالغةِ ؛ كما يقال : رَهَبُوتٌَ خَيْرُ مِنْ رَحَمُوت، هذا مثلٌ يقوله العربُ ؛ معناه : لئن تُرهب خيرٌ من أن تُرحم. فملكوتُ السموات : الشمسُ والقمر والنجوم ؛ وملكوتُ الأرض : الجبال والشجرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ ؛ أي نُرِيَهُ الملكوتَ ليستدلَّ بذلك على توحيدِ الله ويَثْبُتَ على اليقين.
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـاذَا رَبِّي ﴾ قال المفسرون : إنَّ إبراهيم وُلِدَ في زمانِ النَّمْرُودِ بْنِ كَنْعَانَ، وكان النمرودُ أولَ من دعا الناسَ إلى عبادتهِ، وكان له كهَّان ومنجِّمون، فقالوا له : إنهُ يولد في هذه السنةِ غلامٌ يغيِّرُ دينَ أهل الأرض، ويكونُ هلاكُكَ وزوالُ مُلْكِكَ على يديهِ.
قال السديُّ :(رَأى النَّمْرُودُ فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ كَوْكَباً طَلَعَ فَذَهَبَ بضَوْءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ لَهُمَا ضَوءاً، فَفَزِعَ مِنْ ذلِكَ وَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكُهَّانَ ؛ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذلِكَ فَقَالُواْ : هُوَ مَوْلُودٌ يُولَدُ فِي نَاحِيَتِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأمَرَ الرِّجَالَ باعْتِزَالِ النِّسَاءِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الْحُرِّاسَ، فَمَكَثَ كَذلِكَ مَا شَاءَ اللهُ).
قال السديُّ :(خَرَجَ النَّمْرُودُ بالرِّجَالِ إلَى الْعَسْكَرِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ النِّسَاءِ مَخَافَةً مِنْ ذلِكَ الْمَوْلُودِ، فَبََدَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يأْتَمِنْ عَلَيْهَا أحَداً مِنْ قَوْمِهِ إلاَّ آزَرَ، فَدَعَاهُ وَأَمَرَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ لَهُ : إنَّكَ ثِقَتِي ؛ فَأَقْسَمْتُ إلَيْكَ أنْ لاَ تَدْنُو مِنِ امْرَأَتِكَ وَلاَ تُوَاقِعْهَا، ثُمَّ أوْصَاهُ بحَاجَتِهِ. فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِيْنَةَ وَقَضَى حاَجَتَهُ، قالَ : لَوْ دَخَلْتُ عَلَى أهْلِي فَرَأْيْتُ كَيفَ حَالُهُمْ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى امْرَأتِهِ لَمْ يَتَمَالَكْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَكَانَتْ قَدْ طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ، فَحَمَلتْ بإِبْرَاهِيْمَ عليه السلام، فَلَمَّا حَمَلَتْ بهِ ؛ قَالَتْ الْكَهَنَةُ لِلنَّمْرُودِ : إنَّ الْغُلاَمَ الَّذِي أخْبَرْنَاكَ بهِ قدْ حَمَلَتْ بهِ أُمُّهُ اللَّيْلَةَ، فَأَمَرَ النَّمْرُودُ بذبْحِ كُلِّ وَلَدٍ مِنَ الْغِلْمَانِ.
فَلَمَّا دَنَتْ ولاَدَةُ أُمِّ إبْرَاهِيْمَ وَأخَذهَا الْمخَاضُ، خَرَجَتْ هَاربَةً مَخَافَةَ أنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهَا فَيُقْتَلُ وَلَدُها، فَوَضَعَتْهُ فِي مَوْضِعٍ، ثُمَّ لَفَّتْهُ في خِرْقَةٍ وَجَعَلَتْهُ فِي الْحَلْفَاءِ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى زَوْجِهَا فَأْعْلَمَتْهُ، فَانْطَلَقَ أبُوهُ إلَيْهِ وَحَفَرَ لَهُ سَرَباً فِي ذلِكَ الْمَكَانِ وَجَعَلَهُ فِيْهِ، وَسَدَّ عَلَيْهِ بصَخْرَةٍ مَخَافَةَ أنْ تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ، وَكَانَتْ أُمُّهُ تَخَتَلِفُ إلَيْهِ سِرّاً فَتُرْضِعُهُ، وَكَانَ إذا بَكَى عَلَى أُمِّهِ أتَاهُ جِبْريْلُ عليه السلام فَوَضَعَ إصْبَعَهُ فِي فَمِهِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا اللَّبَنُ، فَكَانَ يَمُصُّ سَبَّابَةَ نَفْسِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ﴾ ؛ أي لا أخافُ من هذهِ الأشياءِ التي تعبدُونَها وهي مِمَّا لا يسمعُ ولا يبصرُ ولا ينفَعُ ولا يضرُّ. قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً ﴾ ؛ استثناءٌ منقطع ؛ أي ولكن أخافُ مشيئةَ ربي أن يعذِّبَني ببعضِ ذنوبي أو يَبْلُوَنِي بشيءٍ من مِحَنِ الدُّنيا. وموضع (أنْ يَشَاءَ) نَصْبٌ على تقديرِ : لا أخافُ إلا مشيئةَ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ ؛ أي أحَاطَ علمُ ربي بكلِّ شيء، ومَلأَ كلَّ شيءٍ علماً، وهو يعلمُ أنَّكم على غيرِ الحقِّ، وقوله تعالى :﴿ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ﴾ ؛ تنبيهٌ على التفَكُّرِ فيمَا كان بقولهِ لََهمْ.
فَلم يُجيبُوا فأنزلَ اللهُ تعالى :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ ؛ أي الذين أقَرُّوا بتوحيدِ الله ولم يَخْلِطُوا إيْمَانَهُمْ بشِرْكٍ، ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ﴾ ؛ من العذاب ؛ ﴿ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ﴾ ؛ إلى الحجَّة، وقيل : إلى الجنَّة. وقيل : إنَّ قولَه :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ قولُ إبراهيمَ عليه السلام.
وعن ابن مسعُودٍ رضي الله عنه أنه قال :(لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ؛ " شُقَّ ذلِكَ عَلَى أصْحَاب رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَالُواْ : وَأيُّنَا لَمْ يُلْبَسْ إيْمَانَهُ بظُلْمٍ ؟ فَقَالَ ﷺ :" إنَّهُ لَيْسَ كَذلِكَ، ألاَ تَسْمَعُونَ إلَى قَوْلِ لُقْمَانَ :﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ " ؟.
وقال بعضُهم : هي راجعةٌ إلى إبراهيم ؛ لأنه هو المقصودُ بالذِّكر فيما تقدَّم من الآية، ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ أي كما تفضَّلنا على هؤلاء الأنبياءِ بالنبوَّة وما يتصَّلُ بها من العِزِّ والكرامةِ، كذلك نتفضَّلُ على الْمُحسنينَ.
وقوله تعالى :﴿ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ ﴾ ؛ أي اصفطينَا هؤلاءِ الأنبياءَ بالنبوَّة والإِخلاصِ، وجَمَعْنَا فيهم خصالَ الاجتباء ؛ مأخوذٌ من قولِهم : جَبَيْتُ الماءَ في الحوض واجْتَبَيْتُهُ ؛ إذا جَمَعْتُهُ. وقوله تعالى :﴿ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ أي أثْبَتْنَاهُمْ على طريقِ الحقِّ وهو دينُ الإسلامِ.
وقيل : هم الملائكةُ، وإنَّما قال :﴿ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا ﴾ ولم يقل : فقد قامَ بها، تشريفاً للملائكةِ بالإضافة إلى نفسهِ على معنى : أكرَمْنا ووفَّقْنا إلى الإيْمان بها. يقال : معناهُ : فقد أكرمنَا بهَا قَوْماً لَيْسُوا بهَا بكَافِرِينَ ؛ فقامُوا بها.
قَوْلُهُ :﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ ؛ معناهُ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : لاَ أسْأَلُكْ على الإيْمان والقُرْآن جُعلاً، ﴿ إِنْ هُوَ ﴾ ؛ يعني القُرْآنِ، ﴿ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ ؛ إلا عِظَةً بليغةٌ للجنِّ والإنسِ. وفي الآية دليلٌ على أن شرائعَ الأنبياءِ تَلْزَمُنَا ما لم نَعْلَمْ نسخَة ؛ لأن اسمَ الهدى يعقُ على التوحيدِ والشَّرائع.
وقال السُّدِّيُّ :(نَزَلَتْ في فِنْحَاصَ بْنِ زَوْرَاءَ ؛ وَهُوَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ). وقال مُحمد بن كعبٍ :(جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إلَى النَّبيِّ ﷺ ؛ وَهُوَ مُحْتَبٍ، فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ألاَ تَأْتِيْنَا بكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ، كَمَا جَاءَ بهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللهِ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾[النساء : ١٥٣]. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ : مَا أنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ، وَلاَ عَلَى مُوسَى، وَلاَ عَلَى عيْسَى، وَلاَ عَلَى أحَدٍ شَيْئاً. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها : ما عَظَّمُوا اللهَ حقَّ عَظَمَتِهِ، ولا عَرَفُوهُ حقَّ معرفتِه إذ جَحَدُوا فقَالُوا : مَا أنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ؛ أي من كتابٍ ولا وَحْيٍ، ﴿ قُلْ ﴾ ؛ لَهم يا مُحَمّدُ :﴿ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى ﴾ ؛ يعني التوراةَ ؛ ﴿ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ ؛ أي ضياءً للناسِ وبياناً لَهم من الضَّلاَلة، ﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ ﴾ ؛ يكتبونَه صحائفَ، ﴿ تُبْدُونَهَا ﴾ ؛ يُظهرونَ ما فيها مما ليسَ فيه صفةُ النبِيِّ ﷺ وزمانُه ومبعثه ونبوَّتُه، ﴿ وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾ ؛ أي يسترون ما فيه صفةُ النبِيِّ ﷺ وبَعَثُهُ وآيةُ الرَّجمِ.
وقولُه تعالى :﴿ وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ ﴾ ؛ يحتملُ أن يكون خطاباً للمسلمين، أي عُلِّمْتُمْ أنتم أيُّها المؤمنون من الأحكامِ والحدُودِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ. والأظهرُ : أنه خطابٌ لليهودِ ؛ لأنه مَسُوقٌ على ما سبقَ، معناهُ : عَلِمْتُمْ بالقُرْآنِ ما كنتم أخْفَيْتُمُوهُ قبلَ نزولِ القُرْآنِ ؛ لأنَّهم قد ضَيَّعُوا شيئاً كثيراً من الْقُرْآنِ والأحكامِ، وكانوا يُعَانِدُونَ ولا يعملونَ حتى صاروا كأنُّهم لم يعلمُوه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلِ اللَّهُ ﴾ ؛ معناه : إنْ هم أجابُوكَ وقالوا : أعْلَمَنَا اللهُ، وإلا فَقُلْ : اللهُ عَلَّمَكُمْ. ويقال معناهُ : قُلْ اللهُ أنزلَ الكتابَ على موسى، ﴿ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ ؛ أي دَعْهُمْ واتركهم في باطلِهم يَلْهُونَ، ويقال لكلِّ من عَمِلَ ما لا ينفعهُ : إنَّما أنْتَ لاَعِبٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ ؛ أي أنزلناهُ للبركةِ، ولِتُخَوِّفَ به أهلَ أُمِّ القُرَى، وسُميت مكةٌ أمَّ القرى لأنَّها أصلُ القرى دُحِيَتِ الأرضُ من تحتِها، ويقال : لأنَّها أعظمُ القرى شأناً، وقيل : لأنَّها قِبْلَةً تأْمُّهَا الناسُ بالصلوات إليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ ؛ أي الذين يُقِرُّونَ ويصدِّقونَ بالبعثِ يؤمنون بالقُرْآنِ، وفي هذا بيانٌ أنَّ الإيْمانَ بالحساب والجزاءِ يقتضي الإيْمانَ بالقرآن، ولا ينفعُ بدون الإيْمان به وبمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ ؛ أي يُدَاوِمُونَ على الصلوات الخمسِ بركوعها وسجودها ومواقيتها.
فَلَمَّا نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ﴾ إلى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ﴾ [المؤمنون : ١٢-١٤]، ثُمَّ أمْلاَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا أمْلَى عَلَيْهِ قَوْلَهُ :﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ [المؤمنون : ١٤] عَجِبَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدٍ مِنْ تَفْصِيْلِ خَلْقِ الإِنْسَانِ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ : فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فَقَالَ ﷺ : أكْتُبْ، هَكَذا أُنْزِلَ عَلَيَّ. فَشَكَّ عَبْدُاللهِ حِيْنَئِذٍ، وَقَالَ : لَئِنْ كَانَ مُحَمُّدٌ صَادِقاً فَقَدْ أُوْحِيَ إلَيَّ كَمَا أُوْحِيَ إِلَيْهِ، وَلإنْ كَانَ كَاذِباً فَلَقَدْ قُلْتُ كَمَا قَالَ. " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ)
ومعناها : أيُّ أحدٍ أكفرُ وأشدُّ غبناً في كفره ممن اختلق على الله كذباً، بأن جعل له شريكاً وولداً كما قال المشركون ومالكُ بن الصيف :(وَمَنْ قَالَ سَأْنزِلُ مِثْلُ مَا أنزَلَ اللهُ)، والمرادُ بالذي ﴿ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ﴾ مسيلمةَ الكذاب وكان يَسْجَعُ وَتَكَهَّنُ ويدَّعي النبوَّة ويزعمُ أنَّ الله أوحَى إليه. وأما عبدُالله بن سرح فارتدَّ ولَحِقَ بالمشركين وقال : أنا أعلمُكم بمُحَمَّدٍ، فلقد كان يُملي عليَّ فأغيرَه واكتبُ كما شئت.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ ﴾ ؛ أي لو رأيتَ الظالمين ﴿ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ﴾ لرأيتَ لَهم عذاباً عظيماً. والظالمون هُم الكافرون، وقيلَ : المنافقون رَآهُمْ رسولُ الله ﷺ يومَ بدرِ في صفوفِ المشركين، وقد نَرَى مسلمين بمكَّة فأخرجَهم أهلُ مكة معهم كرْهاً، فلما رأوا قِلَّةَ المؤمنين رَجَعُوا إلى الشِّرك، فقالوا : غَرَّ هؤلاء دينُهم، عَنَوا به المؤمنينَ، وقاتلُوا مع المشركين فَقُتِلُوا جميعاً عامَّتهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ﴾ أي في سَكَرَاتِهِ ونزعاتِه وشدائده، وقوله تعالى :﴿ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ ﴾ معناه : أنَّ مَلَكَ الموتِ وأعوانَه من ملائكةِ العذاب يَبْسُطُونَ أيدَيهم عليهم بالعذاب ويقولون لَهم :﴿ أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ ﴾ أي خلَّصوا أنفسَكم، ولستُم تقدرون على خلاصٍ. وقيل : معناه فَارَقُوا أرواحكم الخبيثةَ، كما يقولُ : لأُحْرِقَنَّكَ بالْعَذاب، لأُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ ؛ أي يقال لَهم يومَ قبضِ الرُّوح، وقيل : يومَ القيامةِ حين معاينَة العذاب : اليوم تُجْزَوْنَ العذابَ الشَّديد الذي تُهَانُونَ فيه، ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ ﴾، بكَذِبكُمْ، ﴿ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾، وبما كنتم تَتَعَظَّمُونَ عن الإيْمَان بمُحَمَّد ﷺ والقُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ ؛ أي وخلَّفتُم ما أعطيناكم من الأموال لغيركم أي خَلَّفَ عليها غيرَكم في دار الدُّنيا، ولم تقدِّموها لأنفسكم، ﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ﴾، آلِهَتَكَم، ﴿ الَّذِينَ ﴾، التي، ﴿ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ ﴾، يشفعون لكم ويقرِّبونكم إلَيَّ، ﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ ؛ أي وَصْلُكُمْ.
ومن قرأ (بَيْنَكُمْ) بالنصب فمعناه : تقطعَ ما بينَكم ؛ أي ما كنتم فيه من الشِّركة، ﴿ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ ؛ أنَِّها شفاؤُكم عندَ الله حين لم يقدرُوا عن دفعِ شيء من العذاب عنكُم.
وقال الحسنُ :(مَعْنَى قَوْلِهِ :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ﴾ أيْ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ). وقال ابنُ كيسان :(مُفْرَدِيْنَ مِنَ الْمَعْبُودِيْنَ). وقيل :(فُرَادَى) أي وحْداناً لا مالَ لكم ولا زوجَ ولا ولدَ ولا خدم. فُرَادَى : جمعَ فَرْدٍ، مثلُ سَكْرَانٍ وَسُكَارَى، كَسْلاَنٍ وكُسَالَى. ويقال أيضاً : فُرَادَى بجزمِ الرَّاء وكسرها وفتحها، وجمعه أفْرَادٌ. وقرأ الأعرجُ :(فُرْدَى) بغيرِ ألِفٍ مثل سُكْرَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، ﴿ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ أي ما أعطيناكم وملَّكناكم من الأموال والأولاد والخدَم وراءَ ظهوركم في الدنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ قرأ أهلُ الحجاز والحسن ومجاهد والكسائيُّ وحفص بالنصب ؛ وهي قراءة أبي موسَى الأشعري، وقرأ الباقون بالرفع.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾ ؛ أي يخرجُ الإنسانَ من النُّطفةِ، والنطفةَ من الإنسانِ. وسُميت النطفةُ ميتاً ؛ لأنَّها من جُملة المواتِ. وقيل : معناهُ : يخرج النباتَ الغَضَّ الطرِيَّ من الحب اليابسِ، ويخرجُ الحبَّ اليابس من النباتِ.
وكلُّ ما يكون نامياً عند أهلِ اللغة بمَنْزِلة الحيِّ، وما لا يكون نامياً فهو بمنْزِلة الميت. ويقال : معناهُ : يخرج المؤمنَ من الكافرِ، ويخرج الكافرَ من المؤمنِ، وقوله :﴿ ذالِكُمُ اللَّهُ ﴾ ؛ أي ذلكم اللهُ الذي يفعلُ هذا الفعلَ ؛ هو اللهُ، ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ ؛ أي فمن أينَ تُُصْرَفُونَ عن الحق والإفِكُ في اللُّغة : هُوَ قَلْبُ الشَّيْءِ وَصَرْفُهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً ﴾ ؛ لستكنُوا فيه من ظُلْمتهِ في أوطانكم. وقرأ الحسنُ :(فَالِقُ الأَصْبَاحِ) بالفتحِ جمعُ صُبْحٍ، ﴿ وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً ﴾ يسكنُ فيه خَلْقُه. وقرأ النخعيُّ :(وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) على الفعلِ في معناه : نَوَّرَ النهارَ بالنور ؛ لتبتغُوا من فضلهِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ﴾ ؛ نصبُ الشَّمسِ على معنى :(وَجَعَلَ) ؛ لأنَّ في (جَاعِلُ) معنى جَعَلَ ؛ أي جعلَ منازلَ الشمسِ والقمرِ بحُسْبَانٍ معلومٍ لا يختلفُ، إذا انتهَى إلى أقصى منازلهِ رجعَ، فإن الشَّمسَ تدورُ على الفَلَكِ كلِّه في ثلاثِمائة وخمسةٍ وستِّين يوماً ورُبع يومٍ، والقمرَ يدورُ على الفَلَكِ كلِّه في ثَمانٍ وعشرين ليلةً، ويكون مستُوراً في ليلتين، ثم يعودُ إلى ما كان، فيعرفُ الناسُ بذلكَ آجالَ عقودِهم، وأوقاتَ معاملاتِهم وعبادتِهم، وسنينَ أعمارهم.
والْحُسْبَانُ : مصدرٌ، يقال : فُلانٌ حُسْبَانُهُ على اللهِ ؛ أي حِسَابُهُ على اللهِ. ويقال : إنَّ الْحُسْبَانَ جمعُ حِسَابٍ، كما يقال : شِهَابٌ وَشُهْبَانٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ ؛ أي ذلك الذي وَصَفَ تدبيرَ العزيزِ المنيع في سُلطانهِ، الغالب الذي لا يُغلبُ، العالِمِ بمصالح مَملكتهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالى :﴿ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ ؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو :(فَمُسْتَقِرٌّ) بكسر القاف على معنى فَمنكم مُسْتَقِرٌّ، وقرأ الباقون بفتحها على معنى : ذلك مُسْتَقَرٌّ. قال ابن عبَِّاس :(مَعْنَى قَوْلُهُ :﴿ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ أي مُسْتَقَرٌّ فِي أرْحَامِ الأّمَّهَاتِ، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي أصْلاَب الآبَاءِ). وقال بعضهُم على الضدِّ من هذا، إلا أنَّ لفظ الـ (مُسْتَقَرُّ) فيمَن خَلَّفَ، كفلظِ المستودَع فيمَن لَمْ يَخَلِّفْ أقربُ.
وقال ابنُ مسعُودٍ :(مَعْنَاهُ : فَمُسْتَقَرٌّ فِي الرَّحِمِ إلَى أنْ يولَدَ، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الْقَبْرِ إلَى أنْ يُبْعَثَ). وقال الحسنُ :(مُسْتَقَرٌّ فِي الدُّنْيَا، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي القَبْرِ). وقال مجاهدُ :(فَمُسْتَقَرٌّ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فِي الدُّنْيَا، وُمسْتَوْدَعٌ عِنْدَ اللهِ فِي الآخِرَةِ). وقال أبو العاليَة :(مُسْتَقَرُّهَا أيَّامُ حَيَاتِهَا، وَمُسْتَوْدَعُهَا حِيْنَ تَمُوتُ وَحِيْنَ تُبْعَثُ). وقال بعضُهم : مُسْتَقَرٌّ في الرَّحم، ومستقرُّ فوقَ الأرضِ، ومستقرُّ تحت الأرضِ، اقرأ :﴿ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾[الحج : ٥] و﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾[البقرة : ٣٦]. وقيل : المستقرُّ في القبرِ، والمستودعُ في الدنيا. وقال الحسنُ :(يا ابْنُ آدَمَ، أنْتَ وَدِيَعَةٌ فِي أهْلِكَ، وَيُوشِكُ أنْ تَلْحَقَ بصَاحِبكَ، وَأنْشَدَ قَوْلَ لَبْيدٍ : وَمَا الْمَالُ وَالأَهْلُونَ إلاَّ وَدِيْعَةُ وَلاَ بُدَّ يَوْماً أنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُوقال آخرُ : فُجِعَ الأَحِبَّةُ بالأَحِبَّةِ قَبْلَنَا وَالنَّاسُ مَفْجُوعٌ بهِ وَمُفَجَّعُمُسْتَقِرٌّ أوْ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ خَلاَ وَالْمُسْتَقِرُّ يَزُورُهُ الْمُسْتَوْدَعُقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ ﴾ ؛ أي بيَّنا العلاماتِ الدالاَّت على توحيدِ الله مفصَّلةً، ﴿ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾ ؛ أي لقوم يستدلُّون بمعانِي الآيَات.
والفِقْهُ في اللُّغة : هو الْفَهْمُ لِمَعْنَى الْكَلاَمِ، إلا أنه قد جُعِلَ في العُرْفِ عبارةً عن عِلْمِ الغيب، على معنى أنهُ استدراكُ معنى الكلامِ بالاستنباطِ عن الأُصُولِ، ولِهذا لاَ يَجُوزُ أن يوصفَ الله تعالى بأنه فَقِيْهٌ ؛ لأنه يوصَفُ بالعلمِ، والعلمُ حجَّةُ الاستنباطِ، ولكنه عَالِمٌ بجميعِ الأشياء على وجهٍ واحد.
فإن قيل : كيفَ قال الله تعالى :﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ فجعلَ المطر سَبَباً للنباتِ، والفاعلُ بالسبب يكون مستعيناً بفعلِ السبب، واللهُ تعالى مُسْتَغْنٍ عن الأسباب؟
قيل : إنَّما قال اللهُ تعالى :﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ ﴾ ؛ لأن المطرَ سببٌ يؤدِّي إلى النَّبات، وليس بمولودٍ لهُ، واللهُ تعالى قادرٌ على إنبات النباتِ بدون المطر، وإنَّما يكون الفاعلُ بالسبب مستعيناً بذلك السبب إذا لم يُمكنه فعلُ ذلك الشَّيء إلا بذلك السبب، كما أنَّ الإِنسانَ إذا لم يُمكنه أن يصعَد السطحَ إلا بالسُّلَّمِ، كان السُّلَّمُ آلةَ الصُّعود، والطائرُ إذا صعدَ السطح بالسُّلَّمِ، لم يكن السُّلَّمُ آلةً لهُ ؛ لأنه يُمكنه أن يصعدَ السطحَ بدون السُّلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً ﴾ ؛ أي أخرجنَا من المطرِ نباتاً أخضرَ ؛ وهو ساقُ السُّنْبلةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ﴾ ؛ أي نُخْرِجَ من ساق السُّنبلةِ، ما قد رَكِبَ بعضُه بعضاً ؛ يعني سنابلَ البُرِّ والشعيرِ والأَرُزِّ والذرَّة وسائرَ الحبوب، يَرْكَبُ بعضُه بعضاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ ﴾ ؛ أي عُرُوقٌ قريبةُ المتناول ينالُها القاعدُ. والقِنْوَانُ : جَمْعُ الْقِنْوِ ؛ مثل صِنْوٍ وَصِنْوَانِ. والقِنْوُ : عَذقُ النَّخلةِ والعَذقُ ؛ بفتح العين : النَّخْلَةُ. قال الزجَّاج :(فِي الآيَةِ مَحْذُوفٌ ؛ أيْ دَانيَةٌ وَغَيْرُ دَانِيَةٍ ؛ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ بَعِيْدَةَ الْمُتَنَاوَلِ).
وقرأ الأعرجُ :(قُنْوَانٌ) بضمِّ القاف ؛ وهي لغةُ قيس. وقال مجاهدُ :(مَعْنَى قَوْلِهِ :(دَانِيَةً) أيْ مُتَدَلِّيَةٌ). وقال الضَّحاك :(مُلْزَقَةٌ بالأِرْضِ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ ﴾ ؛ عطفُ على قوله تعالى :﴿ خَضِراً ﴾ أي وأخرجنا جَنَّاتٍ ؛ أي بساتينَ وأشجارٍ مُلْتَفَّةٍ، وكل نَبَاتِ مَُتَكَاتِفٍ يَسْتُرُ بعضُه بعضاً فهو جَنَّةٌ، من جنَّ إذا اسْتَتَرَ. وقرأ الأعمشُ ويحيى بن يعمر وعاصم :(وَجَنَّاتٌ) بالرفعِ عطفاً على (قِنْوَانٌ) لفظاً، وإن لم تكن في المعنى من جِنْسِهَا، وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ بالرفعِ أيضاً.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ ؛ أي وأخرجنَا من شجرِ الزَّيتونِ وشجر الرُّمَّانِ، ﴿ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ أي منها ما يُشْبهُ غيرَه في الصُّورةِ واللَّون، ومنها ما لا يشبهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : متشابهاً في المنظرِ واللَّونِ، وغيرَ متشابهٍ في الطَّعمِ مثلَ الرُّمَّانِ الحامضِ والْحُلْوِ. والفائدةُ في الجمعِ بين شَجَرِ الزيتونِ وشَجَرِ الرُّمانِ في هذه الآيَةِ : بأنَّهما شجرَتان يشتملُ ورقُهما على الغُصْنِ من أوَّلهِ إلى آخره مشتبهٌ بأوراقِهما، ومختلفٌ ثِمارهما.
وانتصبَ (الْجِنَّ) لكونهِ بدلاً من (شُرَكَاءَ) أو لأنهُ مفعولٌ ثانٍ على تقدير : وجعلُوا الجنَّ شركاءَ اللهِ ؛ كقولهِ :﴿ وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَـانِ إِنَاثاً ﴾[الزخرف : ١٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَخَلَقَهُمْ ﴾ ؛ يجوزُ أن يكون الهاءُ والميم عائدةً إلى أهلِ الشِّركِ، ويجوز أن تكونَ عائدةً على الجنِّ، على أن المعنى : أنَّ الله خالِقُ الجنِّ ؛ فكيفَ يكونوا شركاءَ لهُ؟!
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ ؛ أي وكذبُوا بنسبةِ البنين والبنات إلى اللهِ تعالى، فإنَّ مشركي العرب قالوا : الملائكةُ بناتُ الله، والنصارى قالوا : المسيحُ بنُ اللهِ، واليهود قالوا : عزيرٌ بنُ الله. وكَذبُوا كلُّهم لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ، يقالُ : خَرَقَ ؛ وَاخْتَرَقَ ؛ وَاخْتَلَقَ ؛ وَافْتَرَى : إذا كَذبَ.
وقرأ أهلُ المدينة :(وَخَرَّقُواْ) بالتشديد على التكثير. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي بجهلهم بلا حُجَّة ؛ ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ ؛ كلمة تَنْزِيْهٍ وتبعيدٍ لله تعالى عن كلِّ سوءٍ ؛ أي سَبحُوهُ أيُّها المؤمنونَ عمَّا يقولُ عليه الجاهلون. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَعَالَى ﴾ عُلُوَّاً من العُلُوِّ ؛ أي اسْتَعْلَى عمَّا وصفوهُ به. ويجوزُ في صفاتِ الله تعالى :(عَلاَ) ولا يجوز : ارْتَفَعَ ؛ لأن العُلُوَّ قد يكون بالاقتدارِ ؛ والارتفاعُ يقتضي الجهةَ والمكانَ.
وَقَوْلُهُ :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ ؛ نَفْيٌ للزوجةِ والولد ؛ أي كيفَ يكون له ولدٌ وصاحبة وقد خَلَقَ الأشياءَ كلَّها، ﴿ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ؛ من خلْقِ العبادِ ومصالِحهم ؛ وجَهْلِ الكفَّار وعنادِهم.
فمَنْ حَمَلَ الآيةَ على هذا التأويلِ ؛ لم يكن فيهِ ما يَنْفِي الرؤيةَ في الآخرةِ ؛ لأن معنى الرؤيةِ غيرُ معنى الإحاطةِ بحقيقة الشيء. وقال بعضُ المفسِّرين :(إنَّ الإِدْرَاكَ إذا قُرِنَ بالْبَصَرِ ؛ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الرُّؤيَةُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : أدْرَكْتُ ببَصَرِي ؛ وَرَأيْتُ ببَصَرِي، بمَعْنًى وَاحدٍ، كَمَا يُقَالُ : أدْرَكْتُ بأُذْنِي ؛ وَسَمِعْتُ بأُذُنِي، بمَعْنًى وَاحِدٍ).
قالوا : وأصلُ الإِدْراكِ : اللُّحُوقُ ؛ نحوُ قولِكَ : أدركتُ زمانَ فلانٍ ؛ وأدركَ فلانٌ أبا حَنِيْفَةَ ؛ وأدركَ الزرعَ والثمرةَ ؛ وأدركَ الغلامُ إذا لَحِقَ حَالَ الرِّجَالِ. وإدراكُ البصرِ الشيءَ ولُحُوقُهُ بهِ برُؤْيَتِهِ إيَّاهُ، إلا أنهُ لا يَمْتَنِعُ أن تكونَ هذه الآيةُ عامَّةً من جهةِ اللفظ والمرادُ منها الخصُوصُ تَوْفِيقاً بين هذه الآيةِ وبين قولهِ تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾[القيامة : ٢٢-٢٣]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ ؛ أي اللَّطيْفُ بعبادهِ في التَّدبيرِ، الْخَبيْرُ بمصالِحهم.
وَقِيْلَ : معناهُ : لستُ عليكم بحَفِيْظٍ فأَحُولَ بينَكم وبينَ إضْرَاركُمْ بأنفسكم، وإنَّما أنا رسولٌ أُبَلِّغُكُمْ رسَالاَتِ رَبكُمْ وهو الحفيظٌ عليكم، لا يخفَى عليهِ شيءٌ من أعمالكم.
وَمعنى (دَرَسْتَ) أدَرَسْتَ هذه الأخبارَ التي تَتْلُوهَا علينَا، ومعنى (دَارَسْتَ) أي قَارَأتَ أهلَ الكتاب : تَعَلَّمْتَ منهُم وقرأتَ عليهم وقرأوا عليكَ.
وقرأ قتادةُ :(دُرِّسْتَ) أي قُرِّيْتَ وَتُلِيْتَ، وقرأ الحسنُ وابن عامر ويعقوب :(دَرَسَتْ) بفتح الدال والرَّاء والسين وجَزْمِ التاء ؛ يعني : تَقَادَمَتْ وانْمَحَتْ وَانْمَضَتْ، وذكر الأخفشُ :(دَرُسْتَ) بضمِّ الراء ؛ ومعناها : دَرَسْتَ ؛ إلا أن ضَمَّ الراءِ أشدُّ مبالغةً. وقرأ ابنُ مسعودٍ والأعمشُ :(دَرَسَ) بفتح السِّين من غيرِ تاء ؛ يعنونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهٌُ تَعَالَى :﴿ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي وَلِنُبَيِّنَ الْقُرْآنَ والتصريفَ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
وإنَّما جَمَعَ بين حَفِيْظٍ ووَكِِيْلٍ لاختلافِ معناهما، فإن الْحَافِظَ للشيءِ هو الذي يَصُونُهُ عما يَضُرُّهُ، والْوَكِيْلُ بالشيء هو الذي يَجْلِبُ الخيرَ إليه.
ونُصبَ (عَدْوًا) على المصدر ؛ أي يَعْدُونَ عَدْواً. ويقال : نُصِبَ على إرادة اللام ؛ أي يَسُبُّونَ بالعَدْو. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي بجَهْلِهِمْ يحملهم الغَيْظُ على أن يَسُبُّوا معبودَكم.
وفي هذا دليلٌ على أن الإنسانَ إذا أراد أن يَأْمُرَ غيرَه بالمعروفِ، ويَعْلَمُ أنَّ المأمورَ يقعُ بذلك فيما هو أشدُّ مِمَّا هو فيه من شَتْمٍ أو ضربٍ أو قَتْلٍ، كان الأَََولى أن لا يَأْمُرُهُ ويتركه على ما هو فيهِ. وقرأ بعضُهم :(عَدُوًّا بغَيْرِ عِلْمٍ) أي أعْدَاءً ؛ نُصبَ على الحالِ. وقال قتادةُ :(كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أصْنَامَ الْكُفَّار، فَنَهَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذلِكَ لِئَلاَّ يَسُبُّوا اللهَ، فَإنَّهُمْ قَوْمٌ جَهَلَةٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ ؛ أي كما زيَّنا لك دِينَكَ وعملَكَ ؛ زَيَّنَّا لَهم دينَهم وعملَهم، ﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ الذي يعملونَه بمَيْلِ الطَّبائِع إليهِ مُجَازَاةً لَهم على فِعْلِهِمْ، كما قالَ تعالى :﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾[النساء : ١٥٥]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ ﴾ ؛ أي مصيرُهم ومُنقلبَهم إلى اللهِ تعالى، ﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ ﴾ ؛ فيجزِيَهم ؛ ﴿ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ في الدُّنيا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ ﴾ ؛ خطابٌ للمؤمنين ؛ ﴿ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ أي وما يدريكم أيُّها المؤمنون ؛ أنَّهَا إذا جَاءَتْهم لاَ يُؤْمِنُونَ لِمَا سبقَ لَهم في عِلْمِ اللهِ تعالىل من الشَّقَاوَةِ.
وقرأ مجاهدُ وقتادة وأبو عمرٍو وابنُ كثير :(إنَّهَا) بالكسر على الابتداءِ ؛ وخبرهُ :﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾. وقرأ الباقون بالفتحِ ؛ ومعناهُ عند الخليل وسِيْبَوَيْهِ : لَعَلَّهَا إذا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ. وقرأ ابنُ عامرٍ وحمزةُ :(لاَ تُؤْمِنُونَ) بالتاء على مُخَاطَبَةِ الكفَّار ؛ أي وَمَا يُشْعِرُكُمْ يا أهلَ مَكَّةَ أنَّهَا إذا جَاءَتْ لاَ تُؤْمِنُونَ. وقرأ الباقون بالياء. وقرأ الأعمشُ :(وَمَا يُشْعِرُكُمْ أنَّهَا إذا جَاءَتْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ).
وَقِيْلَ : معناه : وَنُقَلِّبُ أفئدتَهم وأبصارَهم على جَمْرِ جهنَّم ونارِها ؛ جزاءً على تَرْكِ الإيْمان وعقوبةً عليهِ، ﴿ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ؛ أي نَتْرُكُهُمْ في ضلاَلَتِهِمْ يتحيَّرون ويتردَّدون.
ومعناها :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ﴾ معاينةً للشَّهادةِ على نبوَّتكَ كما سألوكَ، ﴿ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى ﴾ بأنكَ رسولُ اللهِ، وأنَّ القُرْآنَ كلامهُ، وجَمعنا عندَهُم كلَّ شيء من الطَّيرِ والوحوشِ والسِّباعِ وسائر الدواب كَفِيلاً يكلفُون بصحَّةِ ما تقولُ يا مُحَمَّدُ، ما كانوا لِيُؤْمِنُوا بكَ إلا أن يُوَفِّقَهُمُ اللهُ للإيْمانِ، ﴿ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ ؛ أنَّ اللهَ قادرٌ على ذلك.
ويجوزُ أن يكون معنى (قُبُلاً) أي قََبيْلاً يقابِلُهم ويواجههم مِن الْمُقَابَلَةِ، ويقالُ : جماعةٌ على معنى أن القُبُلَ جمعُ القبيلِ، والقَبيْلُ جمعُ القبيلةِ ؛ كسفينةِ وسُفُنٍ. قرأ أهلُ المدينةِ والشامِ :(قِبَلاً) بكسرِ القاف وفتحِ الباء ؛ أي مُعَايَنَةً ؛ والمعنى : لو نَاطََقَتْهُمْ الأرضُ والسَّماءُ والطير والوحوشُ أن مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، وأن ما أتَاكُم به حقٌّ، قالوا لَهم ذلك معاينةً ومُشَافَهَةً ؛ ما كانوا ليؤمنُوا إلا أنْ يَشَاءَ اللهُ.
قال ابنُ عبَّاس في معنى هذه الآيةِ :(إنَّ إبْلِيْسَ قََسَّمَ جُنْدَهُ فَرِيْقَيْنِ، فَبَعَثَ فَرِيْقاً مِنْهُمْ إلَى الإنْسِ ؛ وَفَرِيْقاً إلَى الْجِنِّ. فَشَيَاطِيْنُ الإِنْسِ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ يَلْتَقِي بَعْضُهُمْ ببَعْضِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : أضْلَلْتُ صَاحبِي بكَذَا وَكَذا، أتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذاتِ، وَمِنْ قِبَلِ الْمَرَاكِب وَالْمَلاَبسِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَاب، فَإنْ أعْيَانِي مِنْ وَجْهٍ أتَيْتُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فأَضْلِلْ صَاحِبَكَ بِمثْلِهِ).
فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ ؛ أي يُلْقِي بعضُهم إلى بعضٍ ويُمْلِي بعضُهم إلى بعضٍ ؛ ﴿ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ﴾ ؛ أي الْمُمَوَّهُ الذي يكونُ فيه تَزْييْنُ الأعمالِ القبيحة. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ غُرُوراً ﴾ نُصبَ على المصدرِ ؛ كأنه قالَ : يُغْرُونَ به غُرُوراً.
وذهبَ بعضُ المفسِّرين :(إلَى أنَّ الشَّيَاطِيْنَ اسْمٌ لِكُلِّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ ؛ مِنَ الْجِنِّ وَمِنَ الإِنْسِ شَيَاطِيْنُ). كما رُويَ عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال :" دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فأَمَرَنِي أنْ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ؛ فَصَلَّيْتُ وَجَلَسْتُ إلَيْهِ ؛ فَقَالَ لِي :" يَا أَبَا ذرٍّ ؛ تَعَوَّذْ باللهِ مِنْ شَيَاطِيْنِ الإنْسِ وَالْجِنِّ ". فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أوَمِنَ الإنْسِ شَيَاطِيْنَ؟! فَقَالَ :" أوَمَا تَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾ ؟ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ ؛ أي لو شاءَ ربُّكَ أن يَمْنَعَ الشياطين من الْوَسْوَسَةِ مَا فَعَلُوهُ، ولكن يَمْتَحِنُ عِبَادَهُ بما يعلمُ أنه أبلغُ في الحكمةِ وأجزلُ في الثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ ؛ أي اتْرُكْهُمْ وَافْتِرَائِهِمِ وكَذِبهِمْ على استجهالاتِهم، فإنِّي القادرُ عليهم.
والأفْئِدَةُ : جمعُ فُؤَادٍ ؛ مثلُ أغْرِبَةٍ وَغُرَابٍ. ﴿ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ﴾ أي فَلْيَكْتَسِبُوا ما هم مُكْتَسِبُونَ. وقال ابنُ زيدٍ :(وَلِيَعْمَلُوا مَا هُمْ عَامِلُونَ). يقال : اقْتَرَفَ فُلاَنٌ مَالاً ؛ أي اكْتَسَبَهُ، وقَارَفْتُ الأمْرَ : أي وَاقَعْتُهُ ؛ قالَ الله تعالى :﴿ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ﴾[الشورى : ٢٣]. ومَن قرأ :(وَلْيَرْضَوْهُ وَلْيَقْتَرِفُوا) بجزمِ اللام على لفظِ الأمرِ، فمعناهُ : التهديدُ ؛ أي اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.
ومعناها : قُلْ لَهم يَا مُحَمَّدُ : أفَغَيْرَ اللهِ أطلبُ رَبّاً ومعبوداً يُسَاوِي حُكْمُهُ حُكْمَ اللهِ ؛ فأجعلهُ حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أنزلََ إلَيْكُمْ القرآن مُفَصَّلاً مبيَّناً أمرَهُ ونَهْيَهُ بلغةٍ تَعرفونَها. ويقالُ : مُتَفَرِّقاً سورةً سورةً ؛ وآية آيةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ ؛ أي التَّوْرَاةَ ؛ هم عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ وأصحابُه ؛ ﴿ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ﴾ ؛ أي الْقُرْآنُ ؛ ﴿ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ ﴾ ؛ بما تقدَّم لَهم من البشَارَةِ في كُتُبهِمْ بأنَّ الله يبعثُ في آخِرِ الزمانِ نَبِيّاً من ولْدِ إسماعيلَ، ويُنَزِّلُ عليه الْقُرْآنَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِالْحَقِّ ﴾ ؛ أي بمَا أقام لَهم من البراهينِ على ذلك.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ ؛ أي لا تَكُونَنَّ يا مُحَمَّدُ من الشَّاكِّيْنَ في أنَّهم يعلمونَ ذلك. ويقالُ : هذا خطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ والمرادُ به غيرُه، كأنه قال : لا تَكُونَنَّ أيها الجاهلُ بأَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ من الشَّاكِّينَ في أمرهِ. وقرأ الحسنُ والأعمش وابنُ عامرٍ وحفصُ :(مُنْزَّلٌ) بالتشديدِ من التَّنْزِيْلِ ؛ لأنه أُنْزِلَ نُجُوماً مرَّةً بعد مرَّةٍ، وقرأ الباقونَ بالتخفيفِ من الإنْزَالِ.
وَقِيْلَ : معناه :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾ أي وَجَبَ قولُ ربكَ بأنه ناصرٌ مُحَمَّداً ﷺ وأنَّ عاقبةَ الأمر له صِدْقاً وَعَدْلاً ؛ لا مُغَيِّرَ لقولهِ :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾[غافر : ٥١]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ﴾ ؛ معناه : إن أكثرُهم يتَّبعونَ أكَابرَهُمْ بالشَّكِّ ؛ يتبعونهم فيما يعملون " ويظنون " أنَّهم على الحق، وإنَّما يعذبون على هذا الظنِّ ؛ لأنَّهم اقْتَصَرُوا على الظَّنِّ والجهلِ واتَّبَعُوا أهواءَهم، ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ ؛ أي ما هم إلا يَكْذِبُونَ في قولِهم : ما قَتَلَ اللهُ أحقُّ أن تأكلوهُ مِمَّا قَتَلْتُمْ بسكاكينِكم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ﴾ ؛ أي عن دِيْنِ الإسلامِ وشرائعهِ ؛ ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ ؛ بمُحَمَّدٍ والإسلامِ، وإنَّما قال :(أعْلَمَ) لأنَّ الله تعالى يعلمُ الشيءَ من كلِّ جهاتهِ، وغيرُه يعلمُ الشيءَ من بَعْضِ جهاتهِ.
قرأ الحسنُ وقتادة وأهلُ المدينة وحفصُ :(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) بالفتحِ فيهما على معنى : فصَّل اللهُ. وقرأ ابنُ عامر وابنُ كثير وأبو عمرٍو بضمِّهما جميعاً. وقرأ أهلُ الكوفةِ إلا حفصاً :(فَصَّلَ) بالفتح (وحُرِّمَ) بالضَّمِّ. وقرأ عطيةُ العوفِيُّ :(فَصَلَ) بالتخفيف مفتوحاً ؛ يعني قَطَعَ الحكمَ فيما حرَّمَ عليكم.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ ؛ أي إلا ما دَعتْكُمُ الضرورةُ إلى أكلهِ، فقد رَخَّصَ لكم حينئذٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ كَثِيراً ﴾ ؛ يعني الكفارَ يأكلونَ الْمَيْتَةَ والذبائحَ التي لم يُذْكَرِ اسمُ اللهِ عليها عَمْداً، والتي يذبحونَها لآلِهتهم بلا عِلْمٍ عندهم ولا بَصِيْرَةٍ، يتَّبعون الهوَى والشَّهوات في ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ ؛ قرأ الحسنُ وأهلُ الكوفة بضمِّ الياء لقوله :﴿ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[الأنعام : ١١٦]. وقرأ الباقونَ بفتحِها لقولهِ :﴿ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ ﴾[الأنعام : ١١٧]. فمعنى مَن قرأ بضمِّ الياء : أنَّهم يَصْرِفُونَ الناسَ عن الْهُدَى بالدُّعاءِ إلى أكلِ الْمَيْتَةِ على وجهِ الْجِدَالِ والْخِدَاعِ، وقولهُ :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ أي أعْلَمُ بعقوبةِ المتجاوزين من الحلالِ إلى الحرام.
وقال ابنُ سيرينَ :(إذا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِياً ؛ لَمْ تُؤْكَلْ). إلاَّ أن أكثرَ أهل العلمِ على أن نسيانِها لاَ يوجبُ التحريْمَ. هكذا رُويَ عن عَلِيٍّ وابن عبَّاس ومجاهدٍ وعطاء وابنِ المسيِّب ؛ قالوا :(إنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِياً لاَ بَأْسَ بأَكْلِهَا ؛ لأَنَّ خِطَابَ الآيَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَامِدَ، إذِ النَّاسِي فِي حَالِ نِسْيَانِهِ لاَ يَكُونُ مُكَلَّفاً).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ ؛ أي إنَّ أكلَهُ لفسقٌ. وَقيْلَ : إنْ تركَ التسميةَ، وَقِيْلَ : المذبوحَ بغير تسميةِ الله فِسْقٌ فيه حينَ ذُبحَ على غيرِ وجه الحقِّ ؛ كقولهِ :﴿ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾[الأنعام : ١٤٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ ؛ أي إنَّ الشياطين لِيُوَسْوِسُونَ لأوليائِهم من الإنْسِ ؛ وهم : أبُو الأَخْوَصِ الْخَثْعَمِيُّ وَبَدِيْنُ ابْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ وغَيرُهما من أهلِ مكَّة ؛ كانوا يُخَاصِمُونَ النَّبِيَّ ﷺ في أكل الْمَيْتَةِ وَاسْتِحْلاَلِهَا. والوَحْيُ : إلْقَاءُ الْمَعْنَى إلَى النَّفْسِ فِي الْخِفْيَةِ، ﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ﴾ ؛ في أكلِ الْمَيْتَةِ واستحلالِها من غير اضطرارٍ، ﴿ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ ؛ مثْلُهُمْ.
بيَّنَ اللهُ تعالى بهذه الآيةِ أنَّ أبا جَهْلٍ ليسَ بخارجٍ من الضَّلالة أبداً. وقال بعضُهم : الْمِثْلُ زائدٌ ؛ تقديره : كَمَنْ في الظُّلُمَاتِ.
وعن ابنِ عبَّاس أيضاً :(أنَّ مَعْنَاهُ :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ يُرِيْدُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب ﴿ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ أبَا جَهْلٍ ؛ رَمَى رَسُولَ اللهِ ﷺ وَحَمْزَةُ كَافِرٌ، فَأُخْبرَ حَمْزَةُ بمَا فَعَلَ أبُو جَهْلٍ وَهُوَ رَاجِعٌ مِنْ قًنْصِهِ يَفُوتُ وَبيَدِهِ قَوْسٌ، فَأَقْبَلَ وَهُوَ غَضْبانٌ حَتَّى عَلاَ أبَا جَهْلٍ بالْقَوْسِ وَهُوَ يَتَضَرَّعُ وَيَسْتَكِيْنُ وَيَقُولُ : أمَا تَرَى مَا جَاءَ بهِ مُحَمَّداً، قَدْ سَفَّهَ عُقُولَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا وَخَالَفَ آبَاءَنَا. فَقَالَ حَمْزَةُ : وَمَنْ أسْفَهُ مِنْكُمْ؟! تَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ دُونِ اللهِ، أنَا أَشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ ؛ وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ أي كما زُيِّنَ لأبي جَهْلٍ عملهُ الذي كان يعملُ ؛ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ أعمالُهم مجازاةً لَهم على كُفْرِهم. وقال الحسنُ :(مَا زَيَّنَهَا لَهُمْ إلاَّ الشَّيْطَانُ).
وذلك أنَّ الوليدَ بن المغيرةِ قال : وَاللهِ لو كانتِ النُّبُوَّةُ حقّاً لكنتُ أوْلَى بها منكَ ؛ لأنِّي أكبرُ منكَ سِنّاً وأكثرُ منكَ مالاً. وقال مقاتلُ :(قالَ أَبُو جَهْلٍ : زَحَمَنَا بَنُوا عَبْدِ الْمُطَّلِب فِي الشَّرَفِ ؛ حَتَّى إذا كُنَّا كَفَرَسَي رهَانٍ، قَالُواْ : مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إلَيْهِ، وَاللهِ لاَ نُؤْمِنُ بهِ وَلاَ نَتَّبعُهُ أبَداً ؛ إلاَّ أنْ يَأْتِيْنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيَهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ).
يقولُ اللهُ تعالى :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ ؛ أي هو أعلمُ مَن يُرْسِلُ ومن يَخْتَصُّ بالرسالةِ ومَن هو أهْلٌ لَها. وهذا جوابٌ يَمنعهم أن يكونوا رُسُلاً حين أنِفُوا أن يكونوا أتْبَاعاً للرُّسلِ بعد قيام حُجَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
بَيَّنَ اللهُ تعالى أنه إنَّما يجعلُ الرسالةَ عند مَن يقومُ بأدائِها، ولا يجعلُ عند مَن يضيِّعُ ولا يصبرُ على الْمَكَارِهِ. وَقِيْلَ : إنَّما لم يجعلِ اللهُ الرسلَ في الرؤساءِ والأغنياء ؛ لأنَّ الناسَ يتبعونَهم وإن لم يأتوا بالْحُجَجِ، فيقولُ مَنْ بعدُهم : إنَّما اتَّبعوهم لأنَّهم كانوا رؤساءَ وأكابرَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي سيصيبُ الذين اكتسَبُوا الْجُرْمَ مَذلَّةٌ وهَوَانٌ ثابتٌ لَهم عندَ الله ؛ ﴿ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ﴾ ؛ أي بفكرِهم وتكذيبهم الرسلَ.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ الله عَنْهُمَا :(ثُمَّ رَجَعَ إلَى ذِكْرِ عَمَّارِ وأبي جَهْلٍ) فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ﴾ ؛ أي فمن يُرِدِ اللهُ أن يُوَفِّقَهُ للإِسلام يُوسِعَ قَلْبَهُ وَيُلَيِّنْهُ لِقَبُولِ الإِسلام، ﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ ﴾ ؛ أي أن يَخْذِلَهُ ويجعلهُ في ضلالةِ الكفر، ﴿ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً ﴾.
﴿ حَرَجاً ﴾ ؛ قِيْلَ : الْحَرَجُ : مَوْضِعُ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ ؛ يعني أنَّ قلبَ الكافرِ لا تصلُ إليه الحكمةُ كما لا تصلُ إلى الموضعِ الذي الْتَفَّ فيه الشجرُ.
وقال أهلُ اللغة : الْحَرَجُ : أضْيَقُ الضِّيْقِ. وقال مجاهدُ :(الْحَرَجُ : الشَّكُّ) وقال قتادةُ :(حَرَجاً مُلْتَبساً). وقال النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ :(قَلِقاً)، وقال الكلبيُّ :(لَيْسَ لِلْخَيْرِ فِيْهِ مَنْفَذٌ). قرأ ابنُ كثير :(ضَيْقاً) بالتخفيفِ، وشدَّدهُ الباقون ؛ وهما لُغتان مثل هَيِّنٍ وَلَيِّنٍ. وقولهُ تعالى :(حَرِجاً) قرأ أهلُ المدينةِ وأبو بكرٍ بكسرِ الرَّاء، وفتحَها الباقون ؛ وهُما لُغتان مثل دَنَفٍ وَدَنِفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ ﴾ ؛ يعني : يَشُقُّ عليه الإيْمَانُ ويَمْتَنِعُ ويعجزُ عنه، كما يَشُقُّ عليه صعودُ السَّماء. واختلفَ القُرَّاءُ في قوله تعالى :﴿ يَصَّعَّدُ ﴾ فقرأ أهلُ المدينة والبصرةِ والكوفة إلا أبَا بكرٍ :(يَصَّعَّدُ) بتشديد الصَّاد والعينِ من غير ألفٍ، وقرأ طلحةُ والنخعيُّ وأبو بكر :(يَصَّاعَدُ) بتشديدِ الصَّاد وبألفٍ بعدها، بمعنى يَتَصَاعَدُ.
أما اسْتِمْتَاعُ الإنسِ بالجن فما روى الحسنُ :(أنَّ الْعَرَبَ كَانُواْ إذا سَافَرُواْ فَنَزَلُواْ وَادِياً ؛ خَافُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ فَقَالُواْ : نَعُوذُ بسَيِّدِ هَذا الْوَادِي مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ ؛ فَيَبيْتُونَ فِي جِوارٍ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ ذلِكَ اسْتَجَارَةً بالْجِنِّ).
وأما استمتاعُ الجنِّ بالإِنسِ ؛ فكان عُظَمَاءُ الجنِّ يقولون : قد سُدْنَا الإنسَ مع الجنِّ ؛ حتى أن الإنسَ يعودُون بنَا، فيزدادون بنَا، فيزدادون بذلك شَرَفاً في قومِهم وَعَظَماً في أنفسهم. وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ﴾[الجن : ٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ﴾ ؛ أي أدْرَكْنَا وَقْتَنَا الذي وُقَّتَ لنا. قِيْلَ : إنَّ المرادُ به وقتُ البعثِ، وَقِيْلَ : إن المراد وقتُ الموتِ. وفي هذا دليلٌ على أنه لا يكون للمقتول أجَلاَنِ بخلافِ ما يقولُ بعض القومِ : إنَّ المقتولَ لو لم يُقتل لكان يبقى حَيّاً لا محالةَ. لأنه قد كان في هؤلاءِ مقتولون وقد أُخْبرُوا كلُّهم أنَّهم قد بلغُوا أجلهم الذي أجَّلَهُ الله لَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ ﴾ ؛ أي قالَ اللهُ تَعَالَى : النَّارُ مقرُّكم ومَنْزِلُكمْ ؛ فإنكم قد أقْرَرْتُمْ على أنفسكم باستحقاقِ العذاب ولزُومِ الحقِّ عليكم، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(وَكَانَ مَا شَاءَ اللهُ بقَوْلِهِ :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾[النساء : ٤٨]).
وَقِيْلَ : معناه :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾ ما بَيْنَ البعثِ من القبرِ إلى وقت الفَرَاغ من الحساب ؛ فإنه لا يكون لَهم عذابٌ في ذلك الوقت. وَقِيْلَ : معناه :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾ أن يعذِّبَهم من صُنُوفِ العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ ﴾ ؛ في عِقَابهِ ؛ ﴿ عَليمٌ ﴾ ؛ بقَدْر ما يستحقُّونَ من العذاب.
قَالَ ابن عبَّاس :(كَانَتِ الرُّسُلُ تُبْعَثُ إلَى الإِنْسِ ؛ وَبُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ إلَى الْجِنِّ وَالإِنْسِ). قال :(وَهَذا كَقَوْلِهِ :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾[الرحمن : ٢٢] يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ مِنَ الإِنسِ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا ﴾ ؛ يعني أنَّهم لا يَجِدُونَ جَوَاباً إلاَّ الاعترافَ بذنوبهم ؛ ويقولون : أقْرَرْنَا على أنفسِنا، أنَّهم بَلَّغُوا الرسالةَ، وكَفَرْنا بهم. يقولُ اللهُ تعالى :﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ ؛ أي بزهرتِها ونَعِيْمِهَا، ﴿ وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾ ؛ في الآخرةِ ؛ ﴿ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ﴾ ؛ في الدُّنيا ؛ أي أقَرُّوا.
وَكَانُوا إذا أرْسَلُواْ الَْمَاءَ فِيْمَا سَمَّوْهُ للهِ تَعَالَى، فَانْفَجَرَ مِنْهُ إلَى الَّذِي جَعَلُوهُ لآلِهَتِهِمْ تَرَكُوهُ ؛ وَقَالُواْ : هَذا أحْوَجُ وَاللهُ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَإذا انْفَجَرَ مِنَ الَّذِي جَعَلُوهُ لأَصْنَامِهِمْ ؛ رَدُّوهُ وَقَالُواْ : لَيْسَ لآلِهَتِنَا بُدُّ مِنَ النَّفَقَّةِ. وَكَانُواْ إذا هَلَكَ الَّذِي لآلِهَتِهِمْ : وَكَثُرَ الَّذِي للهِ ؛ أخَذُوا الَّذِي للهِ وَأَنْفَقُوهُ عَلَى الأَصْنَامِ، وَإذا هَلَكَ الَّذِي للهِ ؛ وَكَثُرَ الَّذِي لِلأَصْنَامِ قَالُواْ : لَوْ شَاءَ اللهُ لأَزْكَى الَّذِي لِهُ).
ومعنى الآية : وجعلَ المشركون مِن أهلِ مكَّة لله مَِّا خَلَقَ من الزَّرْعِ والأنعامِ نَصِيْباً. وللأصْنَامِ نَصِيْباً فقالُوا : هذا نصيبُ اللهِ بقولِهم، ولم يأمرْهُم اللهُ تعالى بذلك، وهذا نصيبُ الآخر لآلِهتنَا. وفي الايةِ إضمارٌ تقديرهُ : وَجَعَلُواْ للهِ نَصِيْباً ولشركائِهم نَصِيْباً. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِزَعْمِهِمْ ﴾ قرأ السلميُّ والأعمشُ والكسائيُّ بضمِّ الراء، والباقون بفتحِها، وُهما لُغتان.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي ما كان مِن نصيب آلِهتهم فلا يرجعُ إلى الذي جعلوهُ للهِ، ﴿ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ ﴾ ؛ أي يرجعُ إلى الذي جَعَلُوهُ لشركائِهم، ﴿ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ ؛ أي بئْسَ ما يَقْضُونَ ؛ يُوَفُّونَ نَصِيْبَ الأصنامِ ويُنْقِصُونَ نصيبَ الرَّحْمَنِ، فَبئْْسَ الحكمُ حكمُهم في الإشراكِ وبالقسمةِ. وكانوا يفعلونَ بالأنعامِ الثمانيةِ أزواجٍ ونحوِها كذلكَ.
ومعنى الآية : وكما زُيِّنَ تحريمُ الحرثِ والأنعام ؛ زُيِّنَ لكثيرٍ من المشركين دفنُ بناتِهم أحياءً كراهيةً لَهُنَّ ومخافةَ الفقرِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ شُرَكَآؤُهُمْ ﴾ أي قُرَنَاؤُهُمْ وشَيَاطِيْنُهُمْ، وَقِيْلَ : سَدَنَةُ ألهِتهم ؛ يعني خُدَّامَ أصنامِهم.
قرأ بعضُهم :(زُيِّنَ) على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ، ورَفَعَ قولَهُ :﴿ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ ﴾ يحملُ على المعنى على الفَاعِلِ ؛ كأنهُ قال : مَنْ زُيِّنَ لَهم، ثم قالَ (شُرَكَاؤُهُمْ) على إضمار (زَيَّنَهُ). وقرأ ابنُ عامرٍ بضمِّ الزاي، وَقِيْلَ : بضمِّ اللام (أوْلاَدَهُمْ) بالنصب و(شُرَكَائِهِمْ) بالكسرِ. ومعنى ذلكَ : على التقديمَ والتَّاخيرِ ؛ كأنهُ قالَ : زُينِّ لكثيرٍ من المشركينَ قَتلَ شُرَكايُهم أولادِهم، فيكونُ معنى الشركاءِ الكفار القاتلون، المتقدِّمون منهمُ والباقونَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِيُرْدُوهُمْ ﴾ أي لِيُهْلِكُوهُمْ. يجوزُ أن تكون هذه لامَ العاقبةِ، إن لم يكن غرضُهم بذلكَ الأمرِ إهلاكَهم، ويجوزُ أن تكون لامَ الغرضِ ؛ لأنه قد كانَ فيهم معانِدون وغيرُ معاندين ؛ فَغلبَتْ صفةُ المعاندين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ﴾ ؛ أي لِيَخْلِطُوا ويُشَبهُوا عليهم دينَهم دينَ إسماعيلَ عليه السلام. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ﴾ ؛ أي لو شاءَ الله لَمَنَعَهُمْ من دفنِ البناتِ أحياءً، ﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ ؛ أي اتْرُكْهُمْ وافتراءَهم على اللهِ أنه أمَرهم بدفنِ بناتِهم أحياءً، فإنَّ اللهَ تعالى مع قدرتهِ عليهم تَرَكَهُمْ ؛ فاتركْهُم أنتَ، فإنَّ لَهم موعداً يُحاسبون فيهِ.
وقُرِىءَ :(قَتْلَ أوْلاَدِهِمْ شُرَكَائِهِمْ) كلاهُما بالكسرِ، فتكون الشركاءُ من نعتِ الأولاد ؛ لأن أولادَهم شركاؤهم في أموالِهم.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ﴾ ؛ هي الْبَحِيْرَةُ والسَّائِبَةُ وَالْحَامُ ؛ حَرَّمُوا الركوبَ عليها، وأما الْوَصِيْلَةُ فإنَّها كانت من الغَنَمِ خاصَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ﴾ ؛ أي وأنعامٌ أُخَرُ كانوا يذبحونَها للأصنامِ تَقَرُّباً إليها ؛ زَعَمُوا أنَّ اللهَ أمرَهم بذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ افْتِرَآءً عَلَيْهِ ﴾ ؛ أي على اللهِ، نُصِبَ على معنى :﴿ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ﴾ كَذِباً على اللهِ أنهُ أمرَهم بذلك. وَقِيْلَ : نُصِبَ على المصدر ؛ أي افَتَرَوا افْتِرَاءً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ ؛ أي سَيُكَافِئُهُمْ بكَذِبهِمْ وافترائِهم على اللهِ.
قال جماعةٌ : مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ أو الأنعامِ التي في بُطُونِ هذهِ الأنعامِ. وأما تذكيرُ قولهِ :﴿ وَمُحَرَّمٌ ﴾ فلأنهُ مردودٌ على لفظِ (مَا). وقرأ الأعمشُ :(خَالِصٌ لِذُكُورنَا) بغيرِها، وردَّهُ إلى (مَا). ومَن نَصَبَ (خَالِصَةً) فعلى القَطْعِ ؛ تقديرهُ : مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ لِذُكُورنَا خَالِصاً. وقرأ ابنُ عبَّاس :(خَالِصَةٍ) بالإضافةِ إلى الهاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً ﴾ ؛ أي قالُوا : وَإنْ تَكُنْ أجنَّةُ هذه الأنعام ميتةً ؛ ﴿ فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ ﴾ ؛ الرِّجَالُ النساءُ. قرأ أبو جعفرٍ وابنُ عامرِ :(وَإنْ تَكُنْ) بالتاء (مَيْتَةٌ) بالرفعِ على معنى وإنْ يَقَعْ. وقرأ ابنُ كثيرٍ كذلكَ إلا أنه بالياء، وقرأ أبو بكرٍ التاء (تَكُنْ مَيْتَةً) بالنصب على معنى : وإن تكن الأجنةُ ميتةً. وقرأ الباقون (يَكُنْ) بالياء والنصب، وردُّوه إلى ما يؤيِّدُ ذلكَ قولهُ :﴿ فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ ﴾ ولم يقل : فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ﴾ ؛ أي سَيَجْزِيَهِمْ في الآخرةِ بوَصْفِهِمْ الذي وَصَفُوا في هذه الأنعام، إلا أنهُ لَمَّا حذفَ الباءَ انتصبَ، ويجوزُ أن يكون معناه : سَيَجْزِيُهِمْ جَزَاءَ وَصْفِهِمْ، إلا أنهُ حذف الجزاءَ، وأجرى إعرابَهُ على (وَصْفَهُمْ)، ﴿ إِنَّهُ حِكِيمٌ ﴾ ؛ في مجازاتهم ؛ ﴿ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بمقدار جزائهِم. والمعنى : سيجزيهم على وَصْفِهِمُ الكذبَ على اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي حَرَّمُوا على أنفسِهم ما أعطاهُم اللهُ من الرِّزْقِ ومن الأنعامِ والحرث، يعني : أنَّ هؤلاء الكفَّار لِجَهْلِهِمْ يقتلونَ البناتَ أحياءً مخالفةَ الفقرِ والإنفاق، ثم يجعلون طائفةً من أموالِهم للأوثانِ، ويُحَرِّمُونَهَا على إنَاثِ أولادِهم.
وقولهُ :﴿ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ ﴾ أي يَفْتَرُونَ ذلك افْتِرَاءً عَلَى اللهِ ؛ بأنَّ اللهَ حَرَّمَ هذه الأشياءَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَدْ ضَلُّواْ ﴾ ؛ أي ضَلُّوا في فِعْلِهِمْ هذا عنِ الْهُدَى، ﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ ؛ مَنَ الضَّلاَلَةِ.
ويقالُ : معنى ﴿ مَّعْرُوشَاتٍ ﴾ ما لا يرفع له حيطان، ﴿ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ ما لا يجعلُ له حائطٌ، وَقيلَ :﴿ مَّعْرُوشَاتٍ ﴾ ما انْبَسَطَ على الأرضِ وأنبتَ مما يُغْرَسُ مثلِ الكَرْمِ والقَرْعِ والبطِّيخِ وشَبَهِهَا، ﴿ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ ما قامَ على سَاقٍ فطالَ مثلَ النَّخْلِ والزَّرْعِ وسائرِ الأشجار. وقال الضَّحاكُ :﴿ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ الكَرْمُ خَاصَّةً ؛ مِنْهَا مَا غُرِسَ ؛ وَمِنْهَا مَا لَمْ يُغْرَسُ). وروي عنِ ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أيضاً :(أنَّ الـ ﴿ مَّعْرُوشَاتٍ ﴾ ما نَبَتَهُ النَّاسُ، ﴿ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ مَا أُخِذ مِنْ الْبَرَاري وَالْجِبَالِ مِنَ الثِّمَار). يدلُّ عليه قراءة علي رضي الله عنه (مَغْرُوساتٍ وغَيْرَ مَغْرُوسَاتٍ) بالغين والسين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ﴾ ؛ معناهُ : وأنشأَ النخلَ الزرعَ، وهذا تخصيصُ بعضِ ما دخلَ في عمومِ الأوَّل ؛ لكونِهما أعمُّ نفعاً من جملةِ ما يكونُ في البساتين. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ﴾ أي مُخْتَلِفاً جملةً من الألوان كلِّها، ومختلفٌ في الطَّعْمِ من الْحُلْوِ والحامضِ والْمُرِّ ؛ والجيِّدِ والرَّديءِ. ونُصِبَ ﴿ مُخْتَلِفاً ﴾ على الحال ؛ أي أنشأهُ في حالِ اختلاف أكُلِهِ. وقد يقالُ : ارتفعَ ﴿ أُكُلُهُ ﴾ بالابتداءِ ﴿ مُخْتَلِفاً ﴾ نَعْتُهُ، إلا أنه لَمَّا تقدَّمَ النعتُ على الاسمِ نُصِبَ، كما يقالُ : عندي طَبَّاخاً غُلامٌ قال الشاعرُ : الشَِّرُّ مُسْتَتِرٌ يَلْقَاكَ عَنْ غُرُضٍ وَالصَّالِحَاتُ عَلَيْهَا مُغْلَقاً بَابُقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ﴾ ؛ أي وأنْشَأَ شجرَ الزَّيْتونِ والرُّمَّانِ، ﴿ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ ؛ أي منها ما هو متشابهٌ ؛ ومنها ما هو غيرُ متشابهٌ ؛ ومنها ما هو غيرُ متشابهٍ. وَقِيْلَ :﴿ مُتَشَابِهاً ﴾ بالنَّظَرِ ﴿ وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ في الطَّعمِ ؛ نحوُ : كالرُّمَّانَتَيْنِ لونُهما واحدٌ ؛ وطعمُهما مختلفٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ ﴾ ؛ هذا أمرُ إباحةٍ لا أمرُ إيجابٍ، والفائدةُ في قولهِ تعالى :﴿ إِذَآ أَثْمَرَ ﴾ إباحةُ الأكلِ من قَبْلِ إخراجِ الحقِّ الذي وَجَبَ فيه شائعاً للمساكينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ ؛ أي أعْطُوا حقَّ اللهِ تعالى يَوْمَ يُحْصَدُ، أرادُوا العُشْرَ فيما سَقَتْهُ السَّماءُ، ونِصْفَ الْعُشْرِ فيما سُقِيَ بغرب ودَالِيَةٍ. قال ابنُ عبَّاس والحسنُ وقال ابنُ عمر رضي الله عنه :( ﴿ وَآتُواْ حَقَّهُ ﴾ مَا يَتَطَوَّعُ بهِ الإِنْسَانُ عِنْدَ رَفْعِ الْغُلَّةِ وَالتَّصَدُّقُ بهِ).
قال مجاهدُ :(إذا حَصَدْتَ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِيْنُ، فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ، وَإذا دَرَسْتَهُ وَذرَّيْتَهُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ، فَإذا عَرَفْتَ كَيْلَهُ فَأَخْرِجْ زَكَاتَهُ). قال إبراهيمُ النَّخعِيُّ :(هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةً بالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ). وفي قوله :﴿ حَصَادِهِ ﴾ قراءَتان بكسرِ الحاء وفتحِها.
والمعنى : مما نشاء من الأنعامِ حَمُولَةَ وَفَرْشاً. ويقالُ : أرادَ بالفَرْشِ ما يُفْرَشُ من الثِّياب والبُسُطِ التي تُعْمَلُ من الوَبَرِ. إلا أنَّ القولَ الأوَّل أقربُ ؛ لأنَّ الله تعالى ذكرَ في الآيةِ بعدَها :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾[الأنعام : ١٤٣] ؛ أي أنْشأَ اللهُ في الْحَمُولَةِ والفَرْشِ ثَمانيةَ أزواجٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ ؛ إذْنٌ الأكلِ من الحرث والأنعامِ، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ ؛ في تحريْمِ الحرثِ والأنعامِ ؛ أي ﴿ ولا تَتَّبعُوا طُرُقَ الشيطانِ ﴾ ؛ في تحريم الحرثِ والأنعام ؛ أي ولا تَتَّبعُوا طُرُقَ الشيطلنِ، فإنه لا يدعوكُم إلاَّ إلى المعصيةِ، ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي ظاهرُ العداوة، وقد بَانَت عداوتهُ لأبيكُم آدَمُ عليه السلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ أي ذكَرٍ وأُنثى زوجين اثنين. والضَّأْنُ : ذوَاتُ الإلْيَةِ، وهو جمع ضَائِنٍ، كما يقال : تَاجِرٌ وتُجَرٌّ، وَقِيْلَ : واحدهُ ضَائِنَةٌ. وَالْمَعْزِ : ذوَاتُ الأَذْنَاب الْقِصَار، وفيه قراءتان : تَسْكِيْنُ العينِ ؛ وفتحُها.
قوله :﴿ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ ﴾ أي قل لَهم يا مُحَمَّد : مِن أينَ جاء هذا التحريمُ الذي تذكرونَهُ أيُّها الكفارُ في الولدِ السَّابِعِ في الغنمِ أنه حرامٌ على النساءِ ؛ حرَّمَ اللهُ الذكرَ من الضأْنِ ؛ والذكرَ من المعزِ ؛ فحرَّم ولدَهما لحرمةِ الإناث؟
فإن جاءَ هذا التحريمُ من قِبَلِ ذُكورهما ؛ فيجبُ أن تكون كلُّ أنثى حرامٌ عليكم، وإنْ كانَ من قِبَلِ اشتمالِ أرحامِ الأنْثَيَيْنِ ؛ فيجبُ أن يكونَ كلُّ أولادِهما من الذكرِ والأنثى حَرَاماً عليكم ؛ لأنَّ الأرحام تشتملُ عليهما جمعياً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ؛ أي قُلْ للكافرين خَبرُونِي وفَسِّروا لِي ما حُرِّمَ عليكم ببَيَانِ حُجَّةٍ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ في مقالَتِكم : إنَّ اللهَ حَرَّمَ الوَصِيْلَةَ ونحوِها. وإنَّما قال :﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ لأن الصِّدْقَ لا يُمكن إلا بعلمٍ.
يعني إذا كُنْتُمْ لا تُقِرُّونَ بِنَبِيٍّ من الأنبياءِ ؛ فمِن أينَ عَلِمْتُمْ تحريمَ اللهِ ؛ أبالْقِيَاسِ ؟ لأنَّ الله تعالى أمَرَ نَبيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أن يُنَاظِرَهُمْ، ويُبَيِّنَ بالحجَّةِ فسادَ قولِهم وبطلانَ اعتقادِهم، فلمَّا نزلَتْ هذه الآيةُ " قَرَأهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ على أبي الأحْوَصِ الْجُشَمِي ومَالِكِ بْنِ عَوْفٍ - وكان هو الَّذي يُحَرِّمُ لَهم، وكانوا يرجعون إليه فيه - فَسَكَتَ مَالِكُ وَتَحَيَّرَ فِي الْجَوَاب. فَقَالَ ﷺ :" مَا لَكَ يَا مَالِكُ لاَ تَتَكَلَّمُ ؟ " فَقَالَ لَهُ مَالِكُ : بَلْ تَكَلَّمْ أَنْتَ ؛ أنَا أسْمَعُ ".
فنزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ ؛ هذا استفهامٌ بمعنى التَّوْبِيْخِ وَالتَّعَجُّب ؛ معناه : أيُّ أحدٍ أعْتَى وأجرأ على اللهِ مِمَّنِ اختلقَ على اللهِ كَذِباً ﴿ لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي لِيَصْرِفَ الناسَ عن دِينه وحُكْمِهِ بالْجَهْلِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي لا يُهْدِيْهِمْ إلى الْحُجَّةِ فيما افْتَرَواْ على اللهِ، ويقالُ : لا يهديهم إلى حُجَّتِهِ وثوابهِ.
فلما نزلَتْ هذه الآيةُ قال مالكُ بنُ عوفٍ : فِيْمَ هذا التحريمُ الذي حَرَّمَهُ آباؤُنا من السَّائِبَةِ والوَصِيْلَةِ والْحَامِ وَالْبَحِيْرَةِ ؟ فَأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ ؛ فقرأ النبيُّ ﷺ الآية، ثُمَّ قَالَ :" يَا مَالِكُ ؛ أسْلِمُ " فَقَالَ : إنِّي امْرِؤٌ مِنْ قَوْمِي فَأُخْبرُهُمْ عَنْكَ. فأَبَى قَوْمُهُ ؛ فَقَالُواْ : كَيْفَ رَأيْتَ ؟ فَقَالَ : رَأَيْتُ رَجُلاً مُعَلَّمًا. وَذكَرَ لَهُمْ ؛ فَقَالُواْ : إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ.
ومعنى الآية : قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : لاَ أجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ من القرآن شيئاً مُحَرَّماً عَلَى آكِلٍ يَأْكُلُهُ إلاَّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً لَمْ يُذكَّ ؛ وهي تَموتُ حَتْفَ أنْفٍ. فمَنْ قرأ ﴿ إِلاَّ أَن يَكُونَ ﴾ بالياء فعلى معنى : إلاَّ أن يكونَ المأكولُ ميتةً. ومن قرأ بالتاء ؛ فعلى معنى : إلا أن تكونَ تلك الأشياءُ ميتةً. وقرأ عَلِيٌّ رضي الله عنه :(يَطَّعِمُهُ) بتشديدِ الطاء، فأدْغَمَ التاءَ في الطاء.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ﴾ ؛ من الشِّحْمِ وهو السَّمْنُ، ﴿ أَوِ ﴾ ؛ ما حَمَلَتِ ؛ ﴿ الْحَوَايَآ ﴾ ؛ وهي الْمَبَاعِرُ والأمْعَاءُ التي عليها الشَّحْمُ من داخلِها ؛ واحدتُها حَاويَةٌ وحَاويَاءُ وحَوِيَّة ؛ سُميت بذلك لأنَّها تَحوي ما في البَطْنِ. وقولهُ :﴿ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ﴾ ؛ أرادَ به ما يكونُ من الشَّحْمِ الْمُخَلَّطِ من اللَّحمِ على عَظْمِ الجنب. وأما الإلْيَةُ ؛ فقد كانت داخلةً في التحريم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ﴾ ؛ أي ذلك التحريمُ عاقبناهُم بظلمِهم، ﴿ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ ؛ فيما نقولُ إنَّ هذه الأشياءِ كانت حَلالاً في الأصلِ ؛ فحرَّمناها على اليهودِ بمعصيتِهم ومخالفتهم لأنبيائِهم، وكانتِ اليهودُ مع هذا التحريمِ يجملونَ الشُّحُومَ فيبيعونَها ؛ فيستحلُّون ثَمنَها ؛ كما قال ﷺ :" لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأكَلُو ثَمَنَهَا ؛ إنَّ اللهَ تَعَالَى إذا حَرَّمَ شَيْئاً حَرَّمَ بَيْعَهُ وَأكْلَ ثَمَنِهِ ".
فلمَّا نزلت هذه الآيةُ ؛ قال ﷺ :" هَذا مَا أوْحَى اللهُ تَعَالَى إلَيَّ أنَّهُ مُحَرَّمٌ مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ، وَمِنْهُ عَلَى الْيَهُودِ ". فقالَ المشركون : إنَّكَ لَمْ تُصِبْ فيما قُلْتَ، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ ؛ أي إنْ أنكَرُوا ولم يقبلُوا قولَكَ ؛ فقُلْ :﴿ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ بالإمهالِ بأن لَنْ يُعَاجِلَكُمْ بالعقوبةِ ؛ ﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ ؛ أي لا يُرَدُّ عذابهُ عن المشركين واليهودِ إذا جاء وقتُ العذاب.
قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ كَذالِكَ كَذَّبَ ﴾ ؛ أي قالَ ؛ ﴿ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ ؛ أي هكذا كَذبَ الذين مِنْ قبلِهم رُسُلَهُمْ كما كَذبَ قومُك، ﴿ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا ﴾ ؛ أي عذابَنا. من قرأ (كَذلِكَ كَذبَ الَّذِينَ) بالتخفيفِ ؛ فمعناهُ : كما كَذبَ قومُك على اللهِ ؛ كذلك كَذبَ مَن قبلَهم من الأُمَمِ الخالية على اللهِ ؛ حتى ذاقُوا عذابَنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ ﴾ ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّد : هَلْ عندَكم من عِلْمٍ من بَيَانٍ وحُجَّةٍ غير ما في القُرْآنِ ؛ فَبَيِّنُوهُ لَنَا، ﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ﴾ ؛ يعني ظَنَّهُمْ في تحريمِ البَحِيْرَةِ والسَّائِبَةِ وَالْوَصِيْلَةِ وَالْحَامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ ؛ ما أنتم إلاَّ تَكْذِبُونَ على اللهِ.
قال المشركون : لو شاءَ الله ما أشْرَكْنَا، على وجهِ الاستهزاء ؛ فكذبَهم اللهُ في ذلك، وإنْ كانت المشيئةُ حقّاً كما في سورة (المنافقون) :﴿ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾[المنافقون : ١] فكذبَهم الله في قولِهم : إنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ؛ وإن كان ذلك حَقّاً ؛ لأنَّهم قالوا على وجهِ الاستهزاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ عطفٌ على الْمُضْمَرِ المتَّصل ؛ معناهُ : ما أشْرَكْنَا نحنُ ولا آباؤنا. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ بعضَهم قال : إنَّ مشيئةَ المعاصي إذا أُضيفت إلى اللهِ تعالى كان معناها الْخُذْلاَنَ مجازاةً لَهم على سُوءِ أفعالِهم، وإصرارهم على المعصيةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ﴾ ؛ أي لا تَعْمَلُ بهوى الذين جَحَدُوا بكَ وبالقُرْآنِ ؛ ولا بهوى الذين لاَ يُصَدِّقُونَ بالبعثِ. وإنَّما فَصَلَ بين الفريقين ؛ لأنَّ مِن الكفارِ مِن يُؤْمِنُ بالبعثِ كأهل الكتاب ؛ ومنهُم مَن لا يؤمِن بذلكَ كَعَبَدَةِ الأوثانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ ؛ أي يُسَوُّونَ باللهِ تعالى في الطاعةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ ؛ أي أوْصِيْكُمْ وآمُرُكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا. ويقال : أتْلُوا عليكم أنْ لا تُشركوا كما في قولهِ :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ﴾[الأعراف : ١٢]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ ؛ أي وَأوْصِيكُمْ بالوالدين ؛ أي بالإحسانِ إلى الوالدين برّاً بهما وعَطْفاً عليهما، ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ ﴾ ؛ أي لا تَدْفُنُوا بناتِكم أحياءً مخافةَ الفقرِ.
والإملاقُ في اللغة : نَفَادُ الزَّادِ وَالْنَفَقَةِ، يقال : أمْلَقَ الرجلُ ؛ إذَا نَفِدَ زَادُهُ وَنَفَتُهُ ومنه الْمَلَقَ ؛ وهو بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي تَحْصِيْلِ الْمُرَادِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ ؛ أي علينا رزْقُكُمْ ورزْقُهُمْ جميعاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ ؛ أي لا تقربوا الزنا مسرِّين ولا معلنين، ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ أي إلاَّ بإحدى ثلاثِ خِلاَلٍ : زناً بعد إحْصَانٍ ؛ وكفرٌ بعد أيْمَانٍ ؛ وقتلُ نفسٍ بغير حقِّ.
وروي " أن عثمان رضي الله عنه حين أرادوا قتله أشرف عليهم وقالَ :" عَلاَمَ تَقْتُلُونِي ؟ سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلاَّ بإحْدىَ ثَلاَثٍ : رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ ؛ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، وَرَجُلٌ قَتَلَ عَمْداً، أو ارْتَدَّ بَعْدَ إسْلاَمِهِ ". فَوَاللهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلَيَّةٍ وَلاَ إسْلاَمٍ ؛ وَلاَ قَتَلْتَ أحَداً فَأفْتَدِي نَفْسِي مِنْهُ ؛ وَلاَ ارْتَدَدْتُ مُنْذُ أسْلَمْتُ ؛ إنِّي أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسم ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ ؛ أي هذا الذي ذُكِرَ لكم أمَرَكُمُ اللهُ في كتابهِ لِكَي تَفْعَلُوا ما أمرَكم بهِ، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.
وقال السُّدِّيُّ :(الأشَدُّ : أنْ يَبْلُغَ ثَلاَثِيْنَ سَنَةً). وقال الكلبيُّ :(مَا بَيْنَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً إلَى ثَلاَثِيْنَ سَنَةً). وجعل أبُو حَنِيْفَةَ غَايَةَ الأَشُدِّ :(خَمْساً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً ؛ فَإذا بَلَغَهَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْتُوهاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ ؛ أي أتِمُّوا الكَيْلَ والوزنَ بالعدلِ عند البيعِ والشِّراء، ﴿ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ؛ أي إلاَّ طاقَتَها وجَهْدَهَا. وهذه الآيةُ أصلٌ في جواز الاجتهاد في الأحكامِ، وإنَّ كلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيْبٌ ؛ فإذا اجتهدَ الإنسانُ في الكيلِ والوزن، ووَقَعَتْ فيه زيادةٌ يسيرةٌ أو نقصان يسيرٌ لم يُؤَاخِذْهُ اللهُ به إذا اجتهدَ جهده، وإنه اعتاد الكيل على ذلك فزادَ أو نقص أثبت التراجع إذا كان ذلك القدر من التفاوت مما يقع بين الكيلين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ ؛ أي إذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا في الْمَقَالَةِ. قِيْلَ : معناه : قولوُا الحقَّ إذا شهدتُم وحكمتُم ولو كان المشهودُ عليه أُوْلِي قرابةٍ من الشاهد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ﴾ ؛ أي أتِمُّوا فرائضَ اللهِ التي أمرَكم بها، كما قالَ تعَالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِي ءَادَمَ ﴾[يس : ٦٠]. ويقال : أرادَ بالعهدِ في هذه الآية : النَّذْرَ واليمينَ، كما قال تعالى :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾[النحل : ٩١]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذالِكُمْ وَصَّـاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ ؛ أي في هذا الذي ذكَرَهُ اللهُ لكم وأمرَكم اللهُ به في الكتاب لكي تتَّعِظُوا فَتَمْتَنِعُوا عنِ الْمُحَرَّمَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ ؛ أي فَيُضِلُّكُمْ ذلك السُّبُلُ الذي تتَّبعونَه بهواكم عن دينِ الله الذي هو الإسلامُ، ﴿ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ ؛ أي هذا الذي أمَرَكم اللهُ به في القُرْآنِ، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ؛ أي لِتَتَّقُوا السُّبُلَ المختلفةَ وتَسْتَقِيْمُوا على الإيْمانِ.
قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(هَذِهِ الثَّلاَثُ آيَاتٍ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ ؛ وَهُنَّ إمَامٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيْلِ وَالزَّبُور وَالْفُرْقَانِ ؛ لَمْ يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ فِي جَمِيْعِ الْكُتُبِ ؛ وَهِيَ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ؛ وَهُنَّ أُمُّ الْكِتَاب ؛ مَنْ عَمِلَ بِهنَّ دَخَلَ الجَنَّةَ ؛ وَمَنْ تَرَكَهُنَّ دَخَلَ النَّارَ). قال كعبُ الأحبَار :(وَالَّذِي نَفْسُ كَعْبٍ بيَدِهِ ؛ إنَّ هَذِهِ لأَوَّلُ شَيْءٍ فِي التَّوْرَاةِ : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ؛ قُلْ تَعَالُوا أتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. إلَى آخرِ الآياتِ الثَّلاَثِ).
ويقالُ : معناه : تَمَاماً على ما أحْسَنَ موسَى عليه السلام. كان موسَى عليه السلام مُحْسِناً فِي معرفةِ العلمِ وكُتُب المتقدِّمين، فأعطيناهُ التوراةَ زيادةً على ذلك. و(تَمَاماً) نُصِبَ على القطع. وَقِيْلَ : على التَّفسيرِ. وقرأ ابنُ عمر :(عَلَى الَّذي أحْسَنُ) بالرفعِ على معنى : على الذي هُوَ أحْسَنُ.
قََوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ أي تَتْمِيْماً بالإحسانِ إليهم ؛ وتَبْييْناً لكلِّ شيءٍ من الحلالِ والحرام ؛ والهُدى من الضَّلالةِ ؛ والنَجَاةَ من العذاب لِمَنْ آمَنَ به وعَمِلَ بما فيه ؛ لَعَلَّهُمْ بالبعثِ الذي فيه جزاءُ الأعمال يُقِرُّونَ وَيُصَدِّقُونَ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ ؛ أي القُرْآنُ بَيَاناً ودلالةً من ربكم، ﴿ وَهُدًى ﴾ ؛ مِن الضَّلالة ؛ ﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ ؛ لِمن آمنَ به واتَّبعَهُ، رَحِمَ اللهُ بإنزالهِ عبادَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي لا أجِدُ أعْتَى ولا أجْرَأ على الله مِمَّنْ كَذبَ بآيَاتِ اللهِ، ﴿ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ ؛ أي أعْرَضَ عنها، ﴿ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ﴾ ؛ أي سَنُعَاقِبُ الذين يُعْرِضُونَ عن آياتِنا بأقبحِ العذاب وأشدِّه بإعراضِهم وتكذيبهم.
قال الحسن :(أوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبكَ الْحَاجَّة مِنَ التَّوْبَةِ)، قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" بَادِرُوا بالأَعْمَالِ سِتّاً : طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبهَا ؛ وَدَابَّةَ الأَرْضِ ؛ وَخُرُوجَ الدَّجَّالِ ؛ وَالدُّخَانَ ؛ وَخُوَيْصَةَ أحَدِكُمْ - يَعْنِي مَوْتَهُ -، وَأمْرَ الْعَامَّةِ - يَعْنِي الْقِيَامَةَ " ".
وقال ﷺ :" بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِب مَسِيْرَةَ أرْبَعِيْنَ سَنَةٍ، وَمَلَكٌ قَائِمٌ عَلَى ذلِكَ الْبَاب يَدْعُو النَّاسَ إلَى التَّوْبَةِ، فَإذا أرَادَ اللهُ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبهَا ؛ طَلَعَتْ مِنْ ذلِكَ الْبَاب سَوْدَاءَ لاَ نُورَ لَهَا ؛ فَتَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ ثُمَّ رَجَعَتْ، فَيُغْلَقُ الْبَابُ وَتُرَدُّ التَّوْبَةُ، ثُمَّ تَرْجِعُ إلَى شَرْقِهَا لِتَطْلُعَ بَعْدَ ذلِكَ مِائَةً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً، إلاَّ أنَّها سَوْدَاءُ تَمُرُّ مَرّاً ".
وعن ابن عبَّاس قال : قال رسول الله ﷺ :" إذا غَرَبَتِ الشَّمْسُ ؛ رُفِعَ بهَا إلَى السَّمَاءِ السَّابعَةِ فِي سُرْعَةِ طَيَرَانِ الْمَلاَئِكَةِ، وَتُحْبَسُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُسْتَأْذنُ مِنْ أيْنَ تَطْلُعُ ؛ أمِنْ مَطْلَعِهَا أمْ مِنْ مَغْرِبهَا، وَكَذا الْقَمَرُ، فَلاَ يَزَالاَ كَذلِكَ حَتَّى يأْتِيَ اللهُ بالْوَقْتِ الَّذِي وَقَّتَهُ لِتَوْبَةِ عِبَادِهِ.
وَتَكْثُرُ الْمَعَاصِي فِي الأَرْضِ، وَيَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ فَلاَ يَأْمُرُ بهِ أحَدٌ، وَيَكْثُرُ الْمُنْكَرُ فَلاَ يَنْهَى عَنْهُ أحَدٌ، فَإذا فَعَلُوا ذلِكَ حُبسَتِ الشَّمْسُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَإذا مَضَى مِقْدَارُ لَيْلَةٍ سَجَدَتْ، وَاسْتَأْذنَتْ رَبَّهَا مِنْ أيْنَ تَطْلُعُ، فَلَمْ يجِئُ لَهَا جَوَابٌ حَتَّى يُوَافِقَهَا الْقَمَرُ، فَيَسْجُدُ مَعَهَا ؛ فَلاَ يَعْرِفُ مِقْدَارَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلاَّ الْمُتَهَجِّدُونَ فِي الأَرْضِ ؛ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ عِصَابَةً قَلِيْلَةً فِي هَوَانٍ مِنَ النَّاسِ.
فَيَنَامُ أحَدُهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِثْلَ مَا يَنَامُ قَبْلَهَا مِنَ اللَّيَالِي، ثمَّ يَقُومُ فَيَتَهَجَّدُ ورْدَهُ ؛ فَلاَ يُصْبِحُ ؛ فَيُنْكِرُ ذلِكَ، فَيَخْرُجُ وَيَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ ؛ فَإذا هِيَ باللَّيْلِ مَكَانَهَا وَالنُّجُومُ مُسْتَدِيْرَةٌ، فَيُنْكِرُ ذلِكَ وَيَظُنُّ فِيْهِ الظُّنُونَ، فَيَقُولُ : خْفَّتْ قِرَاءَتِي ؛ أوْ قَصُرَتْ صَلاَتِي ؛ أمْ قُمْتُ قَبْلَ حِيْنٍ؟!
ثُمَّ يَقُومُ فَيَعُودُ إلَى مُصَلاَّهُ، فَيُصَلِّي نَحْوَ صَلاَتِهِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ يَنْظُرُ ؛ فَلاَ يَرَى الصُّبْحَ، فَيَخْرُجُ فَإذا هُوَ باللَّيْلِ كَمَا هُوَ، فَيُخَالِطُهُ الْخَوْفُ، ثُمَّ يَعُودُ وَجِلاً خَائِفاً إلَى مُصَلاَّهُ، فَيُصَلِّي مِثْلَ ورْدِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى الصُّبْحَ ؛ فَيَشْتَدُّ بهِ الْخَوْفُ.
فَيَجْتَمِعُ الْمُتَهَجِّدُونَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي فِي مَسَاجِدِهِمْ، وَيَجْأَرُونَ إلَى اللهِ تَعَالَى بالْبُكَاءِ والتَّضَرُّعِ. فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى جِبْرِيْلَ عليه السلام إلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَيَقُولُ لَهُمَا : إنَّ اللهَ يأْمُرُكُمَا أنْ تَرْجِعَا إلَى مَغَاربكُمَا فَتَطْلُعَا مِنْهُ، فإنَّهُ لاَ ضَوْءَ لَكُمَا عِنْدَنَا وَلاَ نُورَ، فَيَبْكِيَانِ عِنْدَ ذلِكَ وَجَلاً مِنَ اللهِ بُكَاءً يَسْمَعُهُ أهْلُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَأهْلُ سُرَادُقَاتِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يَبْكِي مَنْ فِيْهِمَا مِنَ الَْخَلاَئِقَ مِنْ خَوْفِ الْمَوْتِ وَالْقِيَامَةِ.
فَبَيْنَمَا الْمُتَهَجِّدُونَ يَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ وَالْغَافِلُونَ فِي غَفَلاَتِهِمْ ؛ إذا بالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ قَدْ طَلَعَتَا مِنَ الْمَغْرِب أسْوَدَانِ لاَ ضَوْءَ لِلشَّمْسِ وَلاَ نُورَ لِلْقَمَرِ كَصِفَتِهِمَا فِي كُسُوفِهِمَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ [القيامة : ٩]، فَيَرْتَفِعَانِ كَذلِكَ مِثْلَ الْبَعِيْرَيْنِ يُنَازعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِبَاقاً، فَيَتََصَارَخُ أهْلُ الدُّنْيَا حِيْنَئِذٍ وَيَبْكُونَ.
فَأَمَّا الصَّالِحُونَ فَيَنْفَعُهُمْ بُكَاؤُهُمْ، وَيُكْتَبُ لَهُمْ عِبَادَةً، وَأمَّا الْفَاسِقُونَ فَلاَ يَنْفَعُهُمْ بُكَاؤُهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَيُكْتَبُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وَنَدَامَةً. فَإذَا بَلَغَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ سُرَّةَ السَّمَاءِ وَمُنْتَصَفَهَا، جَاءَ جِبْرِيْلُ فَأَخَذ بقُرُونِهِمَا فَرَدَّهُمَا إلَى الْمَغْرِب ؛ فَيَغْرُبَانِ فِي بَاب التَّوْبَةِ ".
فَقَالَ عُمَرُ : بأَبي وَأُمِّي أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا بَابُ التَّوْبَةِ ؟ قَالَ :" يَا عُمَرُ ؛ خَلَقَ اللهُ بَاباً لِلتَّوْبَةِ خَلْفَ الْمَغْرِب ؛ لَهُ مِصْرَاعَانِ مِنْ ذهَبٍ ؛ مَا بَيْنَ المِصْرَاعِ إلَى الْمِصْرَاعِ أرْبَعُونَ سَنَةً لِلرَّاكِب، فَذلِكَ الْبَابُ مَفْتُوحٌ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ خَلْقَهُ إلَى صَبيْحَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنْ مَغْرِبهِمَا، فَإذا غَرَبَا فِي ذلِكَ الْبَابِ رُدَّ الْمِصْرَاعَانِ وَالْتَأَمَ مَا بَيْنَهُمَا، فَيَصِيْرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا صَدْعٌ. فَإذا أُغْلِقَ بَابُ التَّوْبَةِ لَمْ يُقْبَلْ لِلْعَبْدِ تَوْبَةٌ بَعْدَ ذلِكَ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ حَسَنَةٌ يَعْمَلُهَا إلاَّ مَنْ كَانَ قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِناً، فَإنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا كَانَ يَجْرِي قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ ".
وقال مجاهدُ :(أرَادَ بهِمْ الْيَهُودَ) فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَالِئُونَ الْمُشْرِكِيْنَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ. وقال قتادةُ :(هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؛ فَإنَّ بَعْضَهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضاً). وعن أبي هريرةَ أنه قال :(هُمْ أَهْلُ الْبدَعِ وَالضَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضاً بالْجَهَالَةِ).
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَكَانُواْ شِيَعاً ﴾ ؛ أي فِرَقاً مختلفةً، والشِّيَعُ : جمع الشِّيْعَةِ ؛ وهي الفِرْقَةُ التي يَتْبَعُ بعضُها بعضاً ؛ يقال : شَايَعَهُ على الأمرِ ؛ إذا اتَّبَعَهُ، وَقِيْلَ : أصلُ الشِّيَعِ الظُّهُورُ ؛ يقال : شَاعَ الحديثُ يَشِيْعُ، إذا ظَهَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ ؛ أي لَسْتَ مِن مذاهبهم الباطلة في شيءٍ ؛ أي أنتَ بَرِيْءٌ من جميعِ ذلك، ﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي مصيرُهم ومُنْقَلَبُهُمْ إلى اللهِ، ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم ﴾ ؛ ثم يجزيهم في الآخرةِ، ﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ ؛ أي بما كانوا يعملونَ في الدُّنيا، فَيَنْدَمُ الْمُبْطِلُ، ويَفْرَحُ الْمُحِقُّ.
وقد تكلَّمَ أهلُ العلمِ بالحسنات العَشْرِ التي وَعَدَ اللهُ في هذه الآية ؛ فقالَ بعضُهم : المرادُ بها التحديدُ بالعشرةِ. وقال بعضُهم : المرادُ بها التضعيفُ دونَ التَّحديدِ بالعشرة ؛ كما يقولُ القائل : لإِنْ أسديتَ إلَيَّ معروفاً لأَكَافِئَنَّكَ بعشرةِ أمثالهِ.
ثُمَّ اختلفُوا ؛ فقالَ بعضُهم : هو كُلُّهُ بفضلٍ وثَوَابٍ غير ذلكَ ؛ كأنهُ قال تعالى : مَنْ جَاءَ بالْحَسَنَةِ فلهُ عشرُ حسناتٍ من النِّعَمِ والسُّرورةِ زيادةً على ثواب حَسَنَتِهِ. قالُوا : ولا يجوزُ أن تُسَاوَى منْزلةُ التفضيل بمَنْزِلَةَ الثواب ؛ لأن الثوابَ لا بُدَّ أن يُقَارِنَهُ التعظيمُ والإجلالُ.
وقال بعضُهم : هذه الحسناتُ العَشْرُ تفضُّلٌ من اللهِ تعالى ؛ قالوا : ويجوزُ أن يَتَفَضَّلَ على مَن لا يعملُ مِثْلَ ثواب العامل ابتذالاً منه ؛ وتفضل في فعله على مَن لا يستحق عليه شيء.
وعن رسولِ اللهِ ﷺ : أنَّهُ " إذا حَسُنَ إسْلاَمُ أحَدِكُمْ ؛ فَكُلُّ حَسَنَّةٍ يَعْمَلُهَا يُكْتَبُ لَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا ؛ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ؛ إلَى مَا شَاءَ اللهُ. وَكُلّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا ؛ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُهَا إلَى أنْ يَلْقَى الله تَعَالَى "
وعن خُرَيْمِ بنِ فَاتِكٍ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" الأَعْمَالُ سِتَّةٌ : مُوجِبَتَانِ ؛ وَمِثْلٌ بِمثْلٍ ؛ وَحَسَنَّةٌ بحَسَنَةٍ ؛ وَحَسَنَةٌ بعْشَرٍ ؛ وَحَسَنَّةٌ بسَبْعِمِائَةٍ. فَأَمَّا الْمُوجِبَتَانِ ؛ فَهُوَ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ، ومَنْ مَاتَ وَهُوَ مُشْرِكٌ باللهِ دَخَلَ النَّارَ. وَأمَّا مِثْلٌ بمِثْلٍ ؛ فَمَنْ عِمِلَ سَيِّئَةً ؛ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ بمِثْلِهَا. وَأمَّا حَسَنَةٌ بحَسَنَةٍ ؛ فَمَنْ هَمَّ بحَسَنَةٍ حَتَّى يُشْعِرَ بهَا نَفْسَهُ وَيَعْلَمُهَا اللهُ مِنْ قَلْبهِ ؛ كُتِبَ لَهُ حَسَنَةٌ. وَأمَّا حَسَنَةٌ بعَشْرٍ ؛ فَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا. وَأمَّا حَسَنَةٌ بسَبْعِمِائَةٍ ؛ فَالنَّفَقَةُ فِي سَبيْلِ اللهِ "
قرأ أهلُ الكوفةِ والشَّام :(قِيَماً) بكسرِ القاف وفتحِ الياء مخفَّفاً ؛ فمعناهُ : المصدرُ ؛ كالصِّغَرِ والكِبَرِ، ولم يقلْ : قَوْماً ؛ لأنه مِن قولك : قَامَ يَقُومُ قِيَاماً وقِيَماً. وقرأ الباقونَ بالتشديد. وتصديقُ التشديدِ :﴿ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾[التوبة : ٣٦]﴿ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ ﴾[البينة : ٥]. والقيِّمُ : الْمُسْتَقِيْمُ. واختلفَ النُّحَاةُ في نصبهِ ؛ فقال الأخفشُ :(هَدَانِي دِيْناً قَيِّماً). وَقِيْلَ : عرَّفَني ديناً. وَقِيْلَ : أعْنِي ديناً. وَقِيْلَ : انتصَبَ على الإغرءِ ؛ أي الْتَزِمُوا ديناً واتَّبعوا ديناً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ ؛ أي دينَ إبراهيم ؛ وهو بدلٌ من قوله (دِيْناً). وقولهُ (حَنِيْفاً) أي مَائلاً عن الشِّركِ وجميع الأديانِ الباطلة مَيْلاً لا رجوعَ فيه، وهو نَصْبٌ على الحال ؛ كأنه قال : عَرَّفَنِي دينَ إبراهيم في حالِ حَنِيْفِيَّتِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، أي ما كانَ إبراهيمُ عليه السلام على دينِ المشركين. إنَّما أضافَ هذا الدينَ إلى إبراهيم ؛ لأن إبراهيمَ كان مُعَظََّماً في عُيُونِ العرب، وفي قلوب سائرِ أهل الأديَان ؛ إذ أهلُ كلِّ دينٍ يزعمون أنَّهم يُبَجِّلُونَ دينَ إبراهيم عليه السلام.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ﴾ أي وَحَيَاتِي ومَوتِي للهِ رب الخلائقِ كلِّهم. وإنَّما أضافَ الْمَحْيَا والْمَمَاتَ إلى الله وإن لم يكن ذلكَ مِمَّا يُتقَرَّبُ به إليهِ ؛ لأن الغرضَ بالآية التَّبَرُّئَ إلى اللهِ تعالى من كلِّ حَوْلٍ وقُوَّةٍ والإقرارَ له بالعبوديَّة. وَقِيْلَ : المرادُ بذلك أنَّ الله تعالى هو الْمُخْتَصُّ بأن يُحْييهِ ويُميتَهُ ؛ لا شريكَ له في ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ ﴾ ؛ أي أمَرَنِي بذلك، ﴿ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ؛ أي أوَّلُ مَنِ استقامَ على الإيْمان من أهلِ هذا الزمان. قرأ أهلُ المدينة :(وَمَحْيَايْ) بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحِها كَيْلاً يجتمعَ سَاكِنَانِ. وقرأ السلميُّ :(وَنُسْكِي) بإسكانِ السِّين.
وعن أنس رضي الله عنه عن رسولِ الله ﷺ ؛ " أنَّهُ قَرَّبَ كَبْشاً أمْلَحَ أقْرَنَ ؛ فَقَالَ :" لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ ؛ إنَّ صَلاَتِي وَنُسْكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَب الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ " الآيةُ، ثمَّ ذَبَحَ فَقَالَ :" شَعْرُهُ وَصُوفُهُ فِدَاءٌ لِشَعْرِي مِنَ النَّار، وَجِلْدُهُ فِدَاءٌ لِِجِلْدِي مِنَ النَّارِ، وَعُرُوقُهُ فِدَاءٌ لِعُرُوقِي مِنَ النَّار " فَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ هَنِيْئاً مَرِيْئاً ؛ هَذا لَكَ خَاصَّةً ؟ فَقَالَ :" لاَ ؛ بَلْ لأُمَّتِي عَامَّةً إلَى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، أخْبَرَنِي بذلِكَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَنْ رَبِي عَزَّ وَجَلَّ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ﴾ ؛ أي لا تعملُ كلُّ نفسٍ طاعةً ولا معصيةً إلاَّ عَلَيْهَا. قال أهلُ الإِشارةِ : ولا تكسبُ كلُّ نفسٍ من خيرٍ أو شَرٍّ إلاَّ عليها، أما الشَّرُّ فهو مأخوذٌ به، وأمَّا الخيرُ فهو مطلوبٌ منه صِحَّةٌ قصدهِ. وخُلُوِّهِ من الرِّياءِ والعُجْب والافتخار به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ ؛ أي ما تحملُ حاملةٌ ثُقْلَ أخرى، والمعنى : لا يحملُ أحداً ذنبَ غيرهِ، بل كلُّ نفسٍ مأخوذةٌ بجُرْمِهَا وعقوبةِ إثْمِهَا. والوِزْرُ في اللغة : هُوَ الثِّقْلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ ﴾، أي مصيرُكم ومُنْقَلَبُكُمْ، ﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ ﴾، أي فيجزِيكم ؛ ﴿ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ ؛ في دار الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ ﴾ ؛ أي لِيَخْتَبرَكُمْ فيما أعطاكُم ؛ يختبرُ الغنِيُّ بالفقيرِ ؛ والفقيرَ بالغنيِّ، فيظهرُ للناس شُكْرُ الشاكرين وصَبْرُ الصابرين. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ أي إذا عَاقَبَ فإنهُ سريعُ العقاب مع أنه مَوْصُوفُ بالْحُلْمِ والإمهالِ ؛ لأنَّ كلَّ ما هو آتٍ قريبٌ. وَقِيْلَ : أراد بقوله :﴿ سَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾ سريعَ الحساب. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ ﴾ أي غَفُورٌ لِمن تاب من الذنوب، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ بمن ماتَ على التوبة. وقال عطاءُ :(سَرِيْعُ الْعِقَاب لأَعْدَائِهِ، غَفُورٌ رَحِيْمٌ لأَوْلِيَائِهِ). واللهُ أعلمُ.