تفسير سورة الأنعام

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يقول الله تعالى مادحاً نفسه الكريمة، حامداً لها على خلقه السماوات والأرض قراراً لعباده، وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم، فجمع لفظ الظلمات، ووحد لفظ النور لكونه أشرف، كقوله تعالى :﴿ عَنِ اليمين والشمآئل ﴾ [ النحل : ٤٨ ]، وكما قال في آخر السورة :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ]. ثم قال تعالى :﴿ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده، وجعلوا له شريكاً وعدلاً، واتخذوا له صاحبة وولداً. تعالى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً كبيراً، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ﴾ يعني أباهم آدم الذي هو أصلهم. ومنه خرجوا فانتشروا في المشارق والمغارب، وقوله :﴿ ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ قال ابن عباس :﴿ ثُمَّ قضى أَجَلاً ﴾ يعني الموت، ﴿ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ يعني الآخرة. وقال الحسن في رواية عنه :﴿ ثُمَّ قضى أَجَلاً ﴾ وهو ما بين أن يخلق إلى أن يموت ﴿ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو يرجع إلى ما تقدم، وهو تقدير الأجل الخاص، وهو عمر كل إنسان، وتقدير الأجل العام وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها وانتقالها والمصير إلى الدار الآخرة، وعن ابن عباس ومجاهد :﴿ ثُمَّ قضى أَجَلاً ﴾ يعني مدة الدنيا ﴿ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ يعني عمر الإنسان إلى حين موته، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا ﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] الآية. ومعنى قوله :﴿ عِندَهُ ﴾ أي لا يعلمه إلاّ هو، كقوله :﴿ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] وكقوله :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ ﴾ [ النازعات : ٤٢-٤٤ ] وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾، قال السدي وغيره : يعني تشكون في أمر الساعة.
وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ اختلف مفسرو هذه الآية على اقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية القائلين - تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً - بأنه في كل مكان حيث حملوا الآية على ذلك، فالأصح من الأقوال : أنه المدعو الله في السماوات وفي الأرض : أي يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغباً ورهباً إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله ﴾ [ الزخرف : ٨٤ ] أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وعلى هذا فيكون قوله :﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾ خبراً أو حالاً ( والقول الثاني ) : أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر، فيكون قوله « يعلم » متعلقاً بقوله :﴿ فِي السماوات وَفِي الأرض ﴾ تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون، ( والقول الثالث ) : أن قوله ﴿ وَهُوَ الله فِي السماوات ﴾ وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال :﴿ وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾، وهذا اختيار ابن جرير، وقوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ أي جميع أعمالكم خيرها وشرها.
يقول تعالى مخبراً عن المشركين المكذبين المعاندين : أنهم كلما أتتهم من آية أي دلالة ومعجزة وحجة من الدلالات على وحدانية الله وصدق رسله الكرام، فإنهم يعرضون عنها فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها. قال الله تعالى :﴿ فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾، وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب، وليجدن غبه، وليذوقن وباله. ثم قال تعالى واعظاً لهم ومحذراً لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة. الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعاً، وأكثر أموالاً وأولاداً واستعلاء في الأرض، وعمارة لها فقال :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ ﴾ أي من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسعة والجنود، ولهذا قال :﴿ وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً ﴾ أي شيئاً بعد شيء، ﴿ وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ ﴾ أي أكثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض أي استدراجاً وإملاء لهم، ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترحوها، ﴿ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ﴾ أي فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث ﴿ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ﴾ أي جيلاً آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم فأهلكوا كإهلاكهم، فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم، فأنت أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم لولا لطفه وإحسانه.
يقول تعالى مخبراً عن المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهاتهم ومنازعتهم فيه، ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ أي عاينوه ورأوا نزوله وباشروا ذلك، ﴿ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾، وهذا كما قال تعالى مخبراً عن مكابرتهم للمحسوسات، ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴾ [ الحجر : ١٤-١٥ ] وكقوله تعالى :﴿ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ﴾ [ الطور : ٤٤ ]، ﴿ وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ أي ليكون معه نذيراً، قال الله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴾ أي لو نزلت الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب، كما قال الله تعالى :﴿ مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ ﴾ [ الحجر : ٨ ]، وقوله :﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الفرقان : ٢٢ ] الآية وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ أي ولو أنزلنا مع الرسول البشري ملكاً، أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً ملكياً، لكان على هيئة الرجل ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشريّ، كقوله تعالى :﴿ قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٥ ]، فمن رحمته تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلاً منهم ليدعو بعضهم بعضاً، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال، كما قال تعالى :﴿ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٤ ] الآية.
قال الضحاك عن ابن عباس في الآية يقول : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور. ﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون. وقيل : ولشبهنا عليهم. وقوله :﴿ وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ هذه تسلية للنبي ﷺ في تكذيب من كذبه من قومه. ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى :﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين ﴾ أي فكروا في أنفسكم، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله وعاندوهم من العذاب والنكال، والعقوبة في الدنيا مع ما أدخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة وكيف نجَّى رسله وعباده المؤمنين.
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض وما فيهما، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال النبي ﷺ :« إن الله لما خلق الخلق كتب كتاباً عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي »، وقوله :﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ هذه اللام هي الموطئة للقسم، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده ﴿ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الواقعة : ٥٠ ] وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه أي لا شك عند عباده المؤمنين، فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون. عن ابن عباس قال :« سئل رسول الله ﷺ عن الوقوف بين يدي رب العالمين هل فيه ماء؟ قال :» والذي نفسي بيده إن فيه لماء، إن أولياء الله ليردون حياض الأنبياء، ويبعث الله تعالى سبعين ألف ملك في أيديهم عصي من نار يذودون الكفار عن حياض الأنبياء «، هذا حديث غريب، وفي الترمذي :» إن لكل نبي حوضا وأرجو أن أكون أكثرهم واردة « وقوله :﴿ الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي لا يصدقون بالمعاد ولا يخافون شر ذلك اليوم، ثم قال تعالى :﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار ﴾ أي كل دابة في السماوات والأرض، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره. لا إله إلاّ هو ﴿ وَهُوَ السميع العليم ﴾ أي السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم، ثم قال تعالى لعبده ورسوله محمد ﷺ الذي بعثه بالتوحيد العظيم وبالشرع القويم، وأمره أن يدعو الناس إلى صراط الله المستقيم :﴿ قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض ﴾، كقوله :﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون ﴾ [ الزمر : ٦٤ ] والمعنى : لا أتخذ ولياً إلاّ الله وحده لا شريك له فإنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم. كما قال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ] الآية، وقرأ بعضهم ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ : أي لا يأكل.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي ﷺ على طعام، فانطلقنا معه فلما طعم النبي ﷺ وغسل يديه قال :»
الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم. ومنَّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا من الشراب. وكسانا من العري. وكل بلاء حسن أبلانا. الحمد لله غير مودع ربي ولا مكفي ولا مكفور ولا مستغنى عنه. الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضلال. وبصرنا من العمى، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً. الحمد لله رب العالمين « ﴿ قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ أي من هذه الأمة، ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين * قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ يعني يوم القيامة ﴿ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ ﴾ أي العذاب ﴿ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ﴾ يعني فقد رحمه الله ﴿ وَذَلِكَ الفوز المبين ﴾، كقوله :﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ] والفوز حصول الربح ونفي الخسارة.
يقول تعالى مخبراً : أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ﴾، كقوله تعالى :﴿ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ﴾ [ فاطر : ٢ ] الآية. وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ كان يقول :« اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد » ولهذا قال تعالى :﴿ وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ : أي هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه، ﴿ وَهُوَ الحكيم ﴾ : أي في جميع أفعاله، ﴿ الخبير ﴾ بمواضع الأشياء ومحالها فلا يعطي إلاّ من يستحق، ولا يمنع إلاّ من يستحق. ثم قال :﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً ﴾ أي من أعظم الأشياء شهادة، ﴿ قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي هو العالم بما جئتكم به وما أنتم قائلون لي ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ أي وهو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ ﴾ [ هود : ١٧ ]، قال ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله :﴿ وَمَن بَلَغَ ﴾ ومن بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي ﷺ. وروى ابن جرير عن محمد بن كعب قال : من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد ﷺ. وقال عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى :﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ إن رسول الله ﷺ قال :« بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله »، وقال الربيع بن أنس : حق على من اتبع رسول الله ﷺ أن يدعو كالذي دعا رسول الله ﷺ، وأن ينذر بالذي أنذر. وقوله :﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ ﴾ أيها المشركون ﴿ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ ﴾ كقوله :﴿ فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٥٠ ]، ﴿ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾، ثم قال تعالى مخبراً عن أهل الكتاب أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد ﷺ ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته، ولهذا قال بعده :﴿ الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي خسروا كل الخسارة، ﴿ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ونوهت به في قديم الزمان وحديثه، ثم قال :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ﴾ أي لا أظلم ممن تقول على الله فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ﴾ أي لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب.
يقول تعالى مخبراً عن المشركين ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ يوم القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه، قائلاً لهم :﴿ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾، كقوله تعالى في سورة القصص :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [ القصص : ٦٢، ٧٤ ]، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ﴾ أي حجتهم ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾، قال ابن عباس : أي حجتهم، وقال عطاء عنه : أي معذرتهم، وكذا قال قتادة، وقال عطاء الخراساني :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ﴾ بليتهم حين ابتلوا ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ وقال ابن جرير : والصواب : ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذاراً عما سلف منهم من الشرك بالله ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾، وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتاه رجل. فقال : يا ابن عباس سمعت الله يقول :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ قال : أما قوله :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلاّ أهل الصلاة، فقالوا : تعالوا فلنجحد فيجحدون، فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثاً فهل في قلبك الآن شيء؟ إنه ليس من القرآن شيء إلاّ ونزل فيه شيء، ولكن لا تعلمون وجهه، ولهذا قال في حق هؤلاء :﴿ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾، كقوله :﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ﴾ [ غافر : ٧٣-٧٤ ] الآية، وقوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ : أي يجيئون ليستمعوا قراءتك ولا تجزي عنهم شيئاً لأن الله جعل ﴿ على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾ أي أغطية لئلا يفقهوا القرآن، ﴿ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ أي صمماً عن السماع النافع لهم. كما قال تعالى :﴿ وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً ﴾ [ البقرة : ١٧١ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين لا يؤمنوا بها، فلا فهم عندهم ولا إنصاف، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٢٣ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ ﴾ أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل، ﴿ يَقُولُ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ أي ما هذا الذي جئت به إلاّ مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم. وقوله :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾ في معنى ينهون عنه قولان، ( أحدهما ) : أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول والانقياد للقرآن ﴿ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾ أي ويبعدون هم عنه فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ولا يدعون أحداً ينتفع.
726
قال ابن عباس :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾ يردون الناس عن محمد ﷺ أن يؤمنوا به. وقال محمد بن الحنفيه : كان كفار قريش لا يأتون النبي ﷺ وينهون عنه، وهذا القول أظهر وهو اختيار ابن جرير. ( والقول الثاني ) : رواه سفيان عن ابن عباس قال : نزلت في أبي طالب، كان ينهى الناس عن النبي ﷺ أن يؤذى، وقال سعيد بن أبي هلال : نزلت في عمومة النبي ﷺ وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر. وقال محمد بن كعب القرظي :﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾ أي ينهون الناس عن قتله. وقوله :﴿ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾ أي يتباعدون منه، ﴿ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي وما يهلكون بهذا الصنيع ولا يعود وباله إلاّ عليهم وهم لا يشعرون.
727
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك قالوا :﴿ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين، قال الله تعالى :﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ﴾ أي بل ظهر لهم حينئذٍ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، كما قال قبله بيسير :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ٢٣-٢٤ ]، ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه كقوله مخبراً عن موسى أنه قال لفرعون :﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ] الآية. وقوله تعالى مخبراً عن فرعون وقومه :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٤ ]، ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ويبطنون الكفر، ويكون هذا إخباراً عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار، ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت فقال :﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين ﴾ [ الآية : ١١ ]، وعلى هذا فيكون إخباراً عن قول المنافقين في الدار الآخرة حين يعاينون العذاب، فظهر لهم حينئذٍ غِبُّ ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق، والله أعلم.
وأما معنى الإضراب في قوله :﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ﴾ فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار، ولهذا قال :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ أي في طلبهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان، ثم قال مخبراً عنهم : إنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة، ﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ أي في قولهم :﴿ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ ﴿ وقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ أي لعادوا لما نهو عنه، ولقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا، أي ما هي إلاّ هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها، ولهذا قال :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾، ثم قال ﴿ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ ﴾ أي أوقفوا بين يديه ﴿ قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق ﴾ ؟ أي أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون ﴿ قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ أي بما كنتم تكذبون به فذوقوا اليوم مسه ﴿ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الطور : ١٥ ].
يقول تعالى مخبراً عن خسارة من كذب بلقائه وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة، وعن ندامته على ما فرط من العمل، وما أسلف من قبيح الفعل، ولهذا قال :﴿ حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾ وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة وعلى الأعمال وعلى الدار الآخرة أي في أمرها، وقوله :﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ أي يحملون. وقال قتادة : يعملون، وقال ابن أبي حاتم عن أبي مرزوق قال : يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من قبره كأقبح صورة رأيتها وأنتنه ريحاً، فيقول : من أنت؟ فيقول : أو ما تعرفني؟ فيقول : لا والله، إلاَّ أنَّ الله قبح وجهك وأنتن ريحك، فيقول : أنا عملك الخبيث، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه، فطالما ركبتني في الدنيا، هلم أركبك، فهو قوله :﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ ﴾ الآية، وقال السدي :« ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلاّ جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح، وعليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال : ما أقبح وجهك! قال : كذلك كان عملك قبيحاً، قال : ما أنتن ريحك، قال : كذلك كان عملك منتناً، قال : ما أدنس ثيابك! قال، فيقول : إن عملك كان دنساً، قال له : من أنت؟ قال : عملك، قال : فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني، قال : فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله :﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾، أي إنما غالبها كذلك، ﴿ وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؟.
يقول تعالى مسلياً لنبيه ﷺ في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ ﴾ أي قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم، كقوله :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [ فاطر : ٨ ]، كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٣ ]، ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً ﴾ [ الكهف : ٦ ] وقوله :﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، ﴿ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ أي ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم، كما قال أبو جهل للنبي ﷺ : إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله :﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾. وقال ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني أن النبي ﷺ لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابىء؟ فقال : والله إني لأعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعاً؟ وتلا أبو يزيد :﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾.
وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي ﷺ من الليل هو ( وأبو سفيان ) و ( الأخنس بن شريق ) ولا يشعر أحد منهم بالآخر، فاستمعوها إلى الصباح، فلما هجم الصبح، تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال كل منهم للآخر : ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء به، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم، لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظناً أن صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا، فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضاً، فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها، ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال يا أبا ثعلبة : والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنوا عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه، قال : فقام عنه الأخنس وتركه.
730
وروى ابن جرير عن السدي في قوله :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾، لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمداً ابن أختكم، فأنتم أحق من ذبَّ عن ابن أخته، فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين، وإن غلب محمداً فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئاً. فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل. فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا؟ فقال أبو جهل : ويحك! والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله :﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ فآيات الله محمد ﷺ.
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾، هذه تسلية للنبي ﷺ وتعزية له فيمن كذبه من قومه، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ووعد له بالنصر كما نصروا، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة بعدما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ، ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الآخر، ولهذا قال :﴿ وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله ﴾ أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين، كما قال :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون ﴾ [ الصافات : ١٧١-١٧٣ ] وقال تعالى :﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة : ٢١ ]، وقوله :﴿ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين ﴾ أي من خبرهم كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم فلك فيهم أسوة وبهم قدوة، ثم قال تعالى :﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ﴾ أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك ﴿ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء ﴾، قال ابن عباس : النفق : السرب فتذهب فيه فتأتيهم بآية، أو تجعل لك سلماً في السماء، فتصعد فيه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيتهم به فافعل، وقوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً ﴾ [ يونس : ٩٩ ] الآية، قال ابن عباس : إن رسول الله ﷺ كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلاّ من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول. وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ ﴾ أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه، كقوله :﴿ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين ﴾ [ يس : ٧٠ ]. وقوله :﴿ والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ يعني بذلك الكفار لأنهم موتى القلوب، فشبههم الله بأموات الأجساد، فقال :﴿ والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾، وهذا من باب التهكم بهم والإزراء عليهم.
731
يقول تعالى : مخبراً عن المشركين أنهم كانوا يقولون لولا نزل عليه آية من ربه أي خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون، كقولهم :﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ] الآيات، ﴿ قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي هو تعالى قادر على ذلك ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك، لأنه لو أنزلها وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة، كما قال تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ]، وقال تعالى :﴿ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾ [ الشعراء : ٤ ]، وقوله :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾، قال مجاهد : أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. وقال قتادة : الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة. وقال السدي :﴿ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ أي خلق أمثالكم. وقوله :﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ﴾ أي الجميع علمهم عند الله ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه وتدبيره سواء كان برياً أو بحرياً، كقوله :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ هود : ٦ ] أي مفصح بأسمائها، وأعدادها، ومظانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها، وقال تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السميع العليم ﴾ [ العنكبوت : ٦٠ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾. عن ابن عباس قال : حشرها الموت، ( والقول الثاني ) : إن حشرها هو بعثها يوم القيامة، لقوله :﴿ وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ ﴾ [ التكوير : ٥ ].
عن أبي ذر قال :« بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذا انتطحت عنزان، فقال رسول الله ﷺ :» أتدرون فيم انتطحتا؟ « قالوا : لا ندري، قال :» لكن الله يدري وسيقضي بينهما «، قال أبو ذر : ولقد تركنا رسول الله وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلاّ ذكر لنا منه علماً » وفي الحديث :« إن الجمعاء لتقتص من القرناء يوم القيامة » وقال عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله :﴿ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذٍ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول : كوني تراباً. فلذلك يقول الكافر :﴿ ياليتني كُنتُ تُرَاباً ﴾ [ النبأ : ٤٠ ]. وقوله :﴿ والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظلمات ﴾ أي مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم وهو الذي لا يسمع، أبكم : وهو الذي لا يتكلم. وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر. فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق أو يخرج مما هو فيه؟ كقوله :﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧-١٨ ]، وكما قال تعالى :﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ﴾ [ النور : ٤٠ ]، ولهذا قال :﴿ مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي هو المتصرف في خلقه بما يشاء.
يخبر تعالى أنه الفعال لما يريد، المتصرف في خلقه بما يشاء، وأنه لا معقب لحكمه، ولا يقدر أحد على صرف حكمه خلقه بل هو وحده لا شريك له، الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء، ولهذا قال :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة ﴾ أي أتاكم هذا أو هذا ﴿ أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي لا تدعون غيره لعلمكم أنه لا يقدر أحد على رفع ذلك سواه، ولهذا قال :﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي في اتخاذكم آلهة معه ﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ أي في وقت الضرورة لا تدعون أحداً سواه وستذهب عنكم أصنامكم وأندادكم كقوله :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ] الآية. وقوله :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء ﴾ يعني الفقر والضيق في العيش، ﴿ والضرآء ﴾ وهي الأمراض والأسقام والآلام، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ أي يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون. قال الله تعالى :﴿ فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ﴾ أي فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكوا لدينا، ﴿ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي ما رقت ولا خشعت، ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ﴾ أي من الشرك والمعاندة والمعاصي، ﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ أي أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم، ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، عياذاً بالله من مكره، ولهذا قال :﴿ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا ﴾ أي من الأموال والأولاد والأرزاق ﴿ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ أي على غفلة ﴿ فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ﴾ أي آيسون من كل خير. قال ابن عباس المبلس : الآيس، وقال الحسن البصري : من وسّع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له، ثم قرأ :﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ﴾ قال : مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. وقال قتادة : بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوماً قط إلاّ عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلاّ القوم الفاسقون.
وقال مالك عن الزهري ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ قال : رخاء الدنيا ويسرها، . وقد قال الإمام أحمد عن عقبة بن عامر، عن النبي ﷺ، قال :« إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج » ثم تلا رسول الله ﷺ :﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ﴾. وعن عباده بن الصامت أن رسول الله ﷺ كان يقول : إذا أراد الله بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف وإذا اراد الله بقوم اقتطاعاً فتح لهم - أو فتح عليهم - باب خيانة ﴿ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ﴾، كما قال :﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾.
يقول الله تعالى لرسوله ﷺ قل لهؤلاء المكذبين المعاندين ﴿ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ﴾ أي سلبكم إياها كما أعطاكموها، كما قال تعالى :﴿ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار ﴾ [ الملك : ٢٣ ] الآية، ويحتمل أن يكون هذا عبارة عن منع الانتفاع بهما الانتفاع الشرعي، ولهذا قال :﴿ وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ ﴾، كما قال :﴿ أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار ﴾ [ يونس : ٣١ ] وقال :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ ﴾ [ الأنفال : ٢٤ ] وقوله :﴿ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾ أي هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم إذا سلبه الله منكم؟ لا يقدر على ذلك أحد سواه، ولهذا قال :﴿ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ﴾ أي نبينها ونوضحها ونفسرها دالة على أنه لا إله إلا الله، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال، ﴿ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ﴾ أي ثم هم مع البيان يصدفون، أي يعرضون عن الحق ويصدون الناس عن اتباعه. قال ابن عباس : يصدفون أي يعدلون. وقال مجاهد وقتادة : يعرضون، وقال السدي : يصدون. وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً ﴾ أي وأنتم لا تشعرون به حتى بغتكم وفجأكم، ﴿ أَوْ جَهْرَةً ﴾ أي ظاهراً عياناً، ﴿ هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون ﴾ أي إنما كان يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله وينجو الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقوله :﴿ وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ أي مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات، ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات، ولهذا قال :﴿ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ ﴾ أي فمن آمن قلبه بما جاءوا به وأصلح عمله باتباعه إياهم ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ أي بالنسبة لما يستقبلونه، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ أي بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها، الله وليهم فيما خلفوه، وحافظهم فيما تركوه، ثم قال :﴿ والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العذاب بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ أي ينالهم العذاب بما كفروا بما جاءت به الرسل، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته، وارتكبوا من مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته.
يقول الله تعالى لرسوله ﷺ :﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ﴾ أي لستُ أملكها ولا أتصرف فيها، ﴿ ولا أَعْلَمُ الغيب ﴾ أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب إنما ذاك من علم الله عزَّ وجلَّ، ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه، ﴿ ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ أي ولا أدعي أني ملك، إنما أنا بشر من البشر يوحى إليَّ من الله عزَّ وجلَّ، شرفني بذلك وأنعم عليّ به، ولهذا قال :﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ ﴾ أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه، ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير ﴾ أي هل يستوي من اتبع الحق وهدي إليه، ومن ضل عنه فلم ينقد له ﴿ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ ؟ وهذه كقوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب ﴾ [ الرعد : ١٩ ]. وقوله :﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ﴾ أي وأنذر بهذا القرآن يا محمد، ﴿ إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٧ ]، ﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾ [ الرعد : ٢١ ]، ﴿ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ لَيْسَ لَهُمْ ﴾ أي يومئذٍ ﴿ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ﴾ أي لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم ﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلاّ الله عزَّ وجلَّ ﴿ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ أي لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك، كقوله :﴿ واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ [ الكهف : ٢٨ ]، وقوله :﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾ أي يعبدونه ويسألونه ﴿ بالغداة والعشي ﴾، قال سعيد ابن المسيب : المراد به الصلاة المكتوبة، وهذا كقوله :﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [ غافر : ٦٠ ] أي أتقبل منكم، وقوله :﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ أي يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات وقوله :﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ ﴾، كقول نوح عليه السلام في جواب الذين ﴿ قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴾ [ الشعراء : ١١١-١١٣ ] أي إنما حسابهم على الله عزَّ وجلَّ، وليس عليّ من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء، وقوله :﴿ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين ﴾ أي إن فعلت هذا والحالة هذه.
735
روى ابن جرير عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش برسول الله ﷺ وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد : أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك، فنزلت هذه الآية :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾، ﴿ وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ إلى آخر الآية، وقال ابن أبي حاتم عن خباب في قول الله عزَّ وجلَّ :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي ﴾ قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله ﷺ مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي ﷺ حقّروهم في نفر من أصحابه فأتوه فخلوا به، وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا : فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال :« نعم »، قالوا : فاكتب لنا عليك كتاباً، قال : فدعا بصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل فقال :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾ الآية، فرمى رسول الله ﷺ بالصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه. وقال سعد نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي ﷺ، منهم ابن مسعود قال : كنا نستبق إلى رسول الله ﷺ وندنو منه، فقالت قريش : تدني هؤلاء دوننا، فنزلت :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ أي ابتلينا واختبرنا، وامتحنا بعضهم ببعض ﴿ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ ﴾، وذلك أن رسول الله ﷺ كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال نوح لنوح :﴿ وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي ﴾ [ هود : ٢٧ ] الآية، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين سأله عن تلك المسائل فقال له فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال : بل ضعفاؤهم، فقال : هم أتباع الرسل، والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أي ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير لو كان ما صاروا إليه خيراً ويدعنا كقولهم :﴿ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ﴾ [ الأحقاف : ١١ ] وكقوله تعالى :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بينات قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ﴾
736
[ مريم : ٧٣ ] قال الله تعالى في جواب ذلك :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ﴾ [ مريم : ٧٤ ]، وقال في جوابهم حين قالوا :﴿ أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ ﴾، ﴿ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين ﴾ ؟ أي أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم كما قال تعالى :﴿ والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين ﴾ [ العنكبوت : ٦٩ ]. وفي الحديث الصحيح :« إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ».
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾ أي فأكرمهم برد السلام عليهم وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم، ولهذا قال :﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة ﴾ أي أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً ﴿ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ ﴾، قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل. وقال بعضهم : الدنيا كلها جهالة. ﴿ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ ﴾ أي رجع عما كان عليه من المعاصي وأقلع، وعزم على أن لا يعود وأصلح العمل في المستقبل ﴿ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. قال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« لما قضى الله على الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي » أخرجاه في الصحيحين.
737
يقول تعالى : وكما بينا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد، ﴿ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات ﴾ أي التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها، ﴿ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين ﴾ أي ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل، وقوله :﴿ قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ﴾ أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إليّ، ﴿ وَكَذَّبْتُم بِهِ ﴾ أي بالحق الذي جاءني من الله، ﴿ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ أي من العذاب، ﴿ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ ﴾ أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله إن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجلكم لما له في ذلك من الحكمة العظيمة، ولهذا قال :﴿ يَقُصُّ الحق وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين ﴾ أي وهو خير من فصل القضايا وخير الفاصلين في الحكم بين عباده، وقوله :﴿ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي لو كان مرجع ذلك إليّ لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك، والله أعلم بالظالمين. فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله ﷺ :« يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ فقال :» لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ( ابن عبد ياليل بن عبد كلال ) فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلاّ بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال : فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال رسول الله ﷺ :« بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً »، فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأنى بهم، وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً، فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ والله أَعْلَمُ بالظالمين ﴾ ؟ فالجواب - والله أعلم - أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم. وأما الحديث فليس فيه إنهم سألوه وقوع العذاب بهم بل عرض عليه ملك الجبال، أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوباً وشمالاً، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم.
738
وقوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ قال البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال :« مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلاّ الله » ثم قرأ :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [ لقمان : ٣٤ ]، وفي حديث عمر أن جبريل حين تبدى له في صورة أعرابي، فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان. فقال له النبي ﷺ فيما قال له :« خمس لا يعلمهن إلاّ الله » ثم قرأ :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة ﴾ الآية. وقوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر ﴾ أي يحيط علمه الكريم بجميع الموجودات بريها وبحريها لا يخفى عليه من ذلك شيء ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما أحسن ما قاله الصرصري :
فلا يخفى عليه الذر إما تراءى للنواظر أو توارى
وقوله تعالى :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ أي ويعلم الحركات حتى من الجمادات، فما ظنك بالحيوانات ولا سيما بالمكلفون منهم من جنهم وإنسهم، كما قال تعالى :﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ]. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ قال : ما من شجرة في بر ولا بحر إلاّ وملك موكل بها يكتب ما يسقط منها، وقوله :﴿ وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ قال عبد الله بن الحارث : ما في الأرض من شجرة ولا مغرز إبرة إلاّ وعليها ملك موكل يأتي الله بعلمها رطوبتها إذا رطبت ويبوستها إذا يبست.
739
يقول تعالى : إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل، وهذا هو التوفي الأصغر، كما قال تعالى :﴿ الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٢ ] فذكر في هذه الآية الوفاتين الكبرى والصغرى، وهكذا ذكر في هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى، فقال :﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ﴾ أي ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار، وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم في حال سكونهم حال حركتهم، كما قال :﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار ﴾ [ الرعد : ١٠ ]، وكما قال تعالى :﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ [ القصص : ٧٣ ] أي في الليل، ﴿ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ القصص : ٧٣ ] أي في النهار، كما قال :﴿ وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً ﴾ [ النبأ : ١٠-١١ ]، ولهذا قال تعالى ها هنا :﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ﴾ أي ما كسبتم من الأعمال فيه، ﴿ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ﴾ أي في النهار، قاله مجاهد وقتادة والسدي، وقال ابن جريج : أي في المنام والأول أظهر، وقد روى ابن مردويه بسنده عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال :« مع كل إنسان ملك إذا نام أخذ نفسه ويرد إليه، فإن أذن الله في قبض روحه قبضة وإلاّ رد إليه » فذلك قوله :﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل ﴾ وقوله :﴿ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ﴾ يعني به أجل كل واحد من الناس، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ أي يوم القيامة، ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم ﴾ أي يخبركم ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ويجزيكم على ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وقوله :﴿ وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ أي وهو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء، ﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً ﴾ أي من الملائكة يحفظون بدن الإنسان كقوله :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ [ الرعد : ١١ ] وحفظة يحفظون عمله ويحصونه كقوله :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾ [ الانفطار : ١٠ ] الآية، وكقوله :﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ ق : ١٨ ] وكقوله :﴿ إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان ﴾ [ ق : ١٧ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت ﴾ أي احتضر وحان أجله ﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ أي ملائكة موكلون بذلك. قال ابن عباس وغير واحد : لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم، وسيأتي عند قوله تعالى :﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت ﴾ [ إبراهيم : ٢٧ ] الأحاديث المتعلقة بذلك الشاهدة لهذا بالصحة، وقوله :﴿ وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ﴾ أي في حفظ روح المتوفى بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عزَّ وجلَّ، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين عياذاً بالله من ذلك، وقوله :﴿ ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق ﴾.
740
قال ابن جرير :﴿ ثُمَّ ردوا ﴾ يعني الملائكة، ونذكر ها هنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال :« إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقال : فلان، فيقال : مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عزَّ وجلَّ، وإذا كان الرجل السوء قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقال : فلان، فيقال : لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء، فترسل من السماء، ثم تصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح فيقال له : مثل ما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء فيقال له : مثل ما قيل في الحديث الثاني » ويحتمل أن يكون المراد بقوله :﴿ ثُمَّ ردوا ﴾ يعني الخلائق كلهم إلى يوم القيامة فيحكم فيهم بعدله كما قال :﴿ قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الواقعة : ٤٩-٥٠ ] وقال :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ] ولهذا قال :﴿ مَوْلاَهُمُ الحق أَلاَ لَهُ الحكم وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين ﴾.
741
يقول تعالى ممتناً على عباده في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر أي الحائرين الواقعين في المهامه البرية، وفي اللجج البحرية إذا هاجت الرياح العاصفة، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده له شريك له، كقوله :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ] الآية، وقوله :﴿ هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين ﴾ [ يونس : ٢٢ ] الآية، وقوله :﴿ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ النمل : ٦٣ ]. وقال في هذه الآية الكريمة :﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ أي جهراً وسراً، ﴿ لَّئِنْ أَنجَانَا ﴾ أي من هذه الضائقة ﴿ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين ﴾ أي بعدها، قال الله :﴿ قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ ﴾ أي بعد ذلك، ﴿ تُشْرِكُونَ ﴾ أي تدعون معه في حال الرفاهية آلهة أخرى، وقوله :﴿ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ لما قال :﴿ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ عقبه بقوله :﴿ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً ﴾ أي بعد إنجائه إياكم كقوله :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ]. قال الحسن : هذه للمشركين، وقال مجاهد : لأمة محمد ﷺ وعفا عنهم، ونذكر هنا الأحاديث الواردة في ذلك.
قال البخاري رحمه الله تعالى : يلبسكم : يخلطكم من الالتباس، يلبسوا : يخلطوا، شيعاً : فرقاً. ثم روى بسنده عن جابر بن عبد الله قال :« لما نزلت هذه الآية :﴿ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ قال رسول الله ﷺ :» أعوذ بوجهك «، ﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ قال :» أعوذ بوجهك « ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ قال رسول الله ﷺ :» هذه أهون - أو - أيسر « ( طريق آخر ) : قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره عن جابر قال :» لما نزلت ﴿ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ قال رسول الله :« أعوذ بالله من ذلك »، ﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ قال رسول الله ﷺ :« أعوذ بالله من ذلك »، ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ قال :« هذا أيسر » ولو استعاذه لأعاذه. ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال : أقبلنا مع رسول الله ﷺ حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه عزَّ وجلَّ طويلاً ثم قال :
742
« سألت ربي ثلاثاً، سألته : أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته : أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته : أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها » ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر في حرة بني معاوية - قرية من قرى الأنصار - فقال لي : هل تدري أين صلى رسول الله ﷺ في مسجدكم هذا؟ فقلت : نعم، فقال : فأشرت إلى ناحية منه، فقال : هل تدري ما الثلاث التي دعاهن فيه؟ فقلت : أخبرني بهن، فقلت : دعا أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم ولا يهلكهم بالسنين فأعطيهما، ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها قال : صدقت فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة.
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك أنه قال :« رأيت رسول الله ﷺ في سفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعات فلما انصرف قال :» إني صليت صلاة رغبة ورهبة « وسألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يبتلي أمتي بالسنين ففعل، وسألته أن لا يظهر عليهم عدوهم ففعل، وسألته أن لا يلبسهم شيعاً فأبى عليّ » ورواه النسائي في الصلاة. ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن خباب بن الأرت مولى بني زهرة وكان قد شهد بدراً مع رسول الله ﷺ أنه قال :« وافيت رسول الله ﷺ في ليلة صلاها كلها حتى كان مع الفجر فسلم رسول الله ﷺ من صلاته فقلت : يا رسول الله لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها! فقال رسول الله ﷺ :» أجل إنها صلاة رغب ورهب، سألت ربي عزَّ وجلَّ فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يلبسنا شيعاً فمنعنيها « ( حديث آخر ) : عن شداد بن أوس أن رسول الله ﷺ قال :» إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر، وإني سألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يهلك أمتي بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدواً فيهلكهم بعامة، وأن لا يلبسهم شيعاً، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وان لا أسلط عليهم عدواً ممن سواهم فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً وبعضهم يقتل بعضاً وبعضهم يسبي بعضاً «
743
قال : وقال رسول الله ﷺ :« إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة ».
( حديث آخر ) : قال الطبراني عن جابر بن سمرة السوائي عن علي أن رسول الله ﷺ قال :« سألت ربي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، فقلت : يا رب لا تهلك أمتي جوعاً فقال : هذه لك. قلت : يا رب لا تسلط عليهم عدواً من غيرهم يعني أهل الشرك فيجتاحهم قال : ذلك لك، قلت : يا رب لا تجعل بأسهم بينهم - قال - فمنعني هذه » ( حديث آخر ) : قال الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال :« دعوت ربي عزَّ وجلَّ أن يرفع عن أمتي أربعاً فرفع الله عنهم اثنتين، وأبى عَليَّ أن يرفع عنهم اثنتين : دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأبى أن يرفع اثنتين القتل والهرج » ( طريق أخرى ) : عن ابن عباس قال :« لما نزلت هذه الآية :﴿ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ قال : فقام النبي - ﷺ فتوضا ثم قال :» اللهم لا ترسل على أمتي عذاباً من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ولا تلبسهم شيعاً، ولا تذق بعضهم بأس بعض « قال : فأتاه جبريل فقال : يا محمد إن الله قد أجار أمتك أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم » قال مجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد وغير واحد في قوله :﴿ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ يعني الرجم، ﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ يعني الخسف وهذا هو اختيار ابن جرير.
وكان عبد الله بن مسعود يصيح وهو في المسجد أو على المنبر يقول : الا أيها الناس إنه قد نزل بكم، إن الله يقول :﴿ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ لو جاءكم عذاب من السماء لم يبق منكم أحد ﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ لو خسف بكم الأرض أهلككم ولم يبق منكم أحداً، ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾، ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث. وقال ابن جرير عن ابن عباس ﴿ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ يعني أمراءكم، ﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ يعني عبيدكم وسفلتكم، قال ابن جرير : وهذا القول وإن كان له وجه صحيح لكن الأول أظهر وأقوى، ويشهد له بالصحة قوله تعالى :
744
﴿ أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ [ الملك : ١٦-١٧ ] وفي الحديث :« ليكونن في هذه الأمة قذف وخسف ومسخ »، وذلك مذكور مع نظائره في أمارات الساعة وأشراطها وظهور الآيات قبل يوم القيامة، وستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى. وقوله :﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ يعني يجعلكم ملتبسين شيعاً فرقاً متخالفين. قال ابن عباس : يعني الأهواء، وكذا قال مجاهد وقد ورد في الحديث عنه ﷺ أنه قال :« وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة » وقوله تعالى :﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾، قال ابن عباس وغير واحد : يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل، وقوله تعالى :﴿ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ﴾ أي نبينها ونوضحها مرة ونفسرها ﴿ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ أي يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه. قال زيد ابن أسلم : لما نزلت ﴿ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ الآية، قال رسول الله ﷺ :« » لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف « قالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسول الله؟ قال :» نعم «، فقال بعضهم : لا يكون هذا أبداً أن يقتل بعضنا بعضاً ونحن مسلمون، فنزلت ﴿ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأنعام : ٦٥-٦٧ ] ».
745
يقول تعالى :﴿ وَكَذَّبَ بِهِ ﴾ أي بالقرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان ﴿ قَوْمُكَ ﴾ يعني قريشاً، ﴿ وَهُوَ الحق ﴾ أي الذي ليس وراءه حق، ﴿ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾، أي لست عليكم بحفيظ، ولست بموكل بكم كقوله :﴿ وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]، أي إنما عليَّ البلاغ وعليكم السمع والطاعة، فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة، ومن خالفني فقد شقي في الدنيا والآخرة، ولهذا قال :﴿ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ﴾ قال ابن عباس : أي لكل نبأ حقيقة، أي لكل خبر وقوع ولو بعد حين، كما قال :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ﴾ [ ص : ٨٨ ] وقال :﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [ الرعد : ٣٨ ]، وهذا تهديد ووعيد أكيد، ولهذا قال بعده :﴿ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾، وقوله :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا ﴾ أي بالتكذيب والاستهزاء ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾ أي حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من التكذيب ﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان ﴾، والمراد بذلك كل فرد فرد من آحاد الأمة، أن لا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها، فإن جلس أحد معهم ناسياً ﴿ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى ﴾ بعد التذكر ﴿ مَعَ القوم الظالمين ﴾، ولهذا ورد في الحديث :« رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » وقال السدي في قوله :﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان ﴾، قال : إن نسيت فذكرت ﴿ فَلاَ تَقْعُدْ ﴾ معهم، وكذا قال مقاتل بن حيان، وهذه الآية هي المشار إليها في قوله :﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٠ ] الآية، أي إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك فقد ساويتموهم فيما هم فيه، وقوله :﴿ وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ أي إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد برئوا من عهدتهم وتخلصوا من إثمهم، قال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قوله :﴿ وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ قال : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك، أي إذا تجنبتم وأعرضت عنهم، وقال آخرون : بل معناه : وإن جلسوا معهم فليس عليهم من حسابهم من شيء، وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية وهي قوله :﴿ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٠ ]، قاله مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم. وعلى قولهم يكون قوله :﴿ ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي ولكن أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذٍ تذكيراً لهم عما هم فيه لعلهم يتقون ذلك ولا يعودون إليه.
يقول تعالى :﴿ وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا ﴾ أي دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلاً فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم، ولهذا قال :﴿ وَذَكِّرْ بِهِ ﴾ أي ذكر الناس بهذا القرآن وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة، وقوله تعالى :﴿ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ أي لئلا تبسل، قال ابن عباس والحسن والسدي : تبسل : تسلم، وقال الوالبي عن ابن عباس تفتضح. وقال قتادة : تحبس، وقال ابن زيد : تؤاخذ، وقال الكلبي : تجزى، وكل هذا الأقوال والعبارات متقاربة في المعنى، وحاصلها الإسلام للهلكة، والحبس عن الخير، والارتهان عن درك المطلوب، كقوله :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين ﴾ [ المدثر : ٣٨-٣٩ ]، وقوله :﴿ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ﴾ أي لا قريب ولا أحد يشفع فيها، كقوله :﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ والكافرون هُمُ الظالمون ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ]، وقوله :﴿ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ ﴾ أي ولو بذلت كل مبذول ما قبل منها كقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً ﴾ [ آل عمران : ٩١ ] الآية، وكذا قال هاهنا :﴿ أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾.
قال السدي : قال المشركون للمسلمين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا ﴾ أي في الكفر ﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله ﴾ فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول : مثلكم إن كفرتم بعد إيمانكم كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق، فضَّل الطريق، فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون : ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد ﷺ، ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام. وقال قتادة ﴿ استهوته الشياطين فِي الأرض ﴾ أضلته في الأرض : يعني استهوته سيرته، كقوله :﴿ تهوي إِلَيْهِمْ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ]، وقال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، والدعاة الذين يدعون إلى هدى الله عزَّ وجلَّ، كمثل رجل ضل عن طريق تائهاً، إذ ناداه مناد : يا فلان ابن فلان هلم إلى الطريق، وله أصحاب يدعونه يا فلان هلم إلى الطريق، فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق، يقول : مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت فيستقبل الندامة والهلكة.
وقوله تعالى :﴿ كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض ﴾ هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده، فيتبعها، وهو يرى أنه في شيء فيصبح وقد رمته في هلكة، وربما أكلته، أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشاً، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله عزَّ وجلَّ رواه ابن جرير. وقال مجاهد :﴿ كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ ﴾ قال : رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق، وذلك مثل من يضل من بعد أن هدي. وقال العوفي عن ابن عباس : هو الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاع الشيطان، وعمل في الارض بالمعصية، وحاد من الحق، وضل عنه، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس ﴿ إِنَّ الهدى هُدَى الله ﴾ [ آل عمران : ٧٣ ] والضلال ما يدعو إليه الجن، رواه ابن جرير، ثم قال : وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال ويزعمون أنه هدى، قال : وهذا خلاف ظاهر الآية، فإن الله أخبر أنهم يدعونه إلى الهدى، فغير جائز أن يكون ضلالاً وقد أخبر الله أنه هدى، وهو كما قال ابن جرير، فإن السياق يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الارض حيران، وهو منصوب على الحال أي في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجة، وله أصحاب على المحجة سائرون، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى وتقدير الكلام.
748
فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم ولو شاء الله لهداه ولرد به إلى الطريق، ولهذا قال :﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى ﴾ كما قال :﴿ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ﴾ [ الزمر : ٣٧ ]، وقال :﴿ إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [ النحل : ٣٧ ] وقوله :﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين ﴾ أي نخلص له العبادة وحده لا شريك له ﴿ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه ﴾ أي وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في جميع الأحوال، ﴿ وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ أي يوم القيامة، ﴿ وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق ﴾ أي بالعدل فهو خالقهما ومالكهما والمدبر لهما ولمن فيهما، وقوله :﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ﴾ يعني يوم القيامة الذي يقول الله كن فيكون عن أمره كلمح البصر أو هو أقرب، واختلف المفسرون في قوله :﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور ﴾، فقال بعضهم : المراد بالصور هنا جمع صورة أي يوم ينفخ فيها فتحيا. قال ابن جرير كما يقال : سور لسور البلد، وهو جمع سورة، والصحيح أن المراد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، قال ابن جرير : والصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إن إسرافيل قد التقم الصور وحتى جبهته متى يؤمر فينفخ » وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال، « قال أعرابي : يا رسول الله ما الصور؟ قال :» قرن ينفخ فيه «.
749
قال الضحاك عن ابن عباس : إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنما كان اسمه تارخ، وقال مجاهد والسدي : آزر اسم صنم، قلت : كأنه غلب عليه آزر لخدمته ذلك الصنم فالله أعلم، وقال ابن جرير : هو سب وعيب بكلامهم، ومعناه معوج، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم عليه السلام، ثم قال ابن جرير : والصواب أن اسم أبيه أزر، وقد يكون له اسمان كما لكثير من الناس، أو يكون أحدهما لقباً، وهذا الذي قاله جيد قوي والله أعلم. وقرأ الجمهور بالفتح، إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف، وهو بدل من قوله لأبيه، أو عطف بيان وهو أشبه، والمقصود أن إبراهيم وعظ أباه في عبادة الأصنام وزجره عنها فلم ينته كما قال :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ﴾ أي أتتأله لصنم تعبده من دون الله ﴿ إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ ﴾ أي السالكين مسلكك ﴿ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي تائهين، لا يهتدون أين يسلكون بل في حيرة وجهل، وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم، وقال تعالى :﴿ واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ﴾ [ مريم : ٤١-٤٣ ]، فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه مدة حياته، فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه، كما قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ]، وثبت في الصحيح أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة، فيقول له آزر : يا بني اليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم أي رب ألم تعدني أنك لا تُخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال : يا إبراهيم انظر ما ورءاك، فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار، وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض ﴾ أي نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله في ملكه وخلقه وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، كقوله :﴿ قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض ﴾ [ يونس : ١٠١ ].
وقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض ﴾ [ الأعراف : ١٨٥ ]، وقال :﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض ﴾ [ سبأ : ٩ ] وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين ﴾، فإنه تعالى جلى له الأمر سره وعلانيته، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، فيحتمل أن يكون كشف له عن « بصره » حتى رأى ذلك عياناً، ويحتمل أن يكون عن « بصيرته » حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة، كما رواه الإمام أحمد والترمذي عن معاذ بن جبل في حديث المنام :
750
« أتاني ربي في أحسن صورة فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت : لا أدري يا رب، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ذلك » وذكر الحديث. وقوله :﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين ﴾ قيل الواو زائدة تقديره : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين، كقوله :﴿ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين ﴾ [ الأنعام : ٥٥ ] وقيل : بل هي على بابها أي نريه ذلك ليكون عالماً وموقناً.
وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل ﴾ أي تغشاه وستره ﴿ رَأَى كَوْكَباً ﴾ أي نجماً، ﴿ قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ ﴾ أي غاب. قال محمد بن إسحاق الأفول : الذهاب، وقال ابن جرير : يقال أفل النجم يأفِل ويأفلُ أفولاً وأفلاً : إذا غاب، ومنه قول ذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي نقودها دياج ولا بالآفلات الزوائل
ويقال : أين أفلت عنا؟ بمعنى أين غبت عنا. ﴿ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين ﴾، قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول ﴿ فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً ﴾ أي طالعاً، ﴿ قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين * فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي ﴾ أي هذا المنير الطالع ربي ﴿ هاذآ أَكْبَرُ ﴾ أي جرماً من النجم والقمر وأكثر إضاءة، ﴿ فَلَمَّآ أَفَلَتْ ﴾ أي غابت ﴿ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض ﴾ أي خلقهما ﴿ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين ﴾ أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي ﴿ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض ﴾ أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق ﴿ حَنِيفاً ﴾ أي في حال كوني حنيفاً أي مائلاً عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال :﴿ وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين ﴾. وقد اختلف المفسرون في هذا المقام : هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلاً بقوله :﴿ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي ﴾ الآية. وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذ، فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد، فولدت فيه إبراهيم وتركته هناك، وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.
والحق أن إبراهيم عليه السلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي ( القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل ) وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ثم القمر، ثم الزهرة، فبين أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيع عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تملك لنفسها تصرفاً، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من الشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، ومثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر، فبين فيه مثل ما بين في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع ﴿ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعاً ثم لا تنظرون ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين ﴾ أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومسخرها ومقدرها ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء وربه وملكيه وإلهه، كما قال تعالى :
751
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام وهو الذي قال الله في حقه :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٥١-٥٢ ] الآيات، وقال تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ النحل : ١٢٠-١٢١ ].
وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ]، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال :« كل مولود يولد على الفطرة »، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله ﷺ قال :« قال الله إني خلقت عبادي حنفاء »، وقال الله في كتابه العزيز :﴿ فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ﴾ [ الروم : ٣٠ ] وقال تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى ﴾
752
[ الأعراف : ١٧٢ ]، ومعناه على أحد القولين كقوله :﴿ فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا ﴾ [ الروم : ٣٠ ]، كما سيأتي بيانه، فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ناظراً في هذا المقام، بل هو أولى بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة بعد رسول الله ﷺ بلا شك ولا ريب، ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى :﴿ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً... ﴾.
753
يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم حين جادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد، وناظروه بشبه من القول أنه قال :﴿ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ ﴾ أي أتجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلاّ هو وقد بصّرني وهداني إلى الحق وأنا على بينة منه، فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة؟ وقوله :﴿ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً ﴾ أي ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئاً وأنا لا أخافها ولا أباليها، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تنظرون بل عاجلوني بذلك، وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً ﴾، استثناء منقطع أي لا يضر ولا ينفع إلاّ الله عزَّ وجلَّ ﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ أي أحاط علمه بجميع الأشياء فلا تخفى عليه خافية، ﴿ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي فيما بينته لكم، أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة فتنزجروا عن عبادتها؟ وهذه الحجة نظير ما احتج بها نبي الله هود عليه السلام على قومه عاد فيما قص عنهم في كتابه حيث يقول :﴿ قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ [ هود : ٥٣-٥٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ ﴾ أي كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ﴿ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً ﴾، قال ابن عباس وغير واحد من السلف : أي حجة، وهذا كقوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله ﴾ [ الشورى : ٢١ ].
وقوله تعالى :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ [ النجم : ٢٣ ] وقوله :﴿ فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي فأيّ طائفتين أصوب، الذي عبد من بيده الضر والنفع، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل؟ أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة المؤمن أم المشرك؟ قال الله تعالى :﴿ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ﴾ أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له ولم يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة. عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ شق ذلك على الناس، فقالوا :« يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال :» إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح :﴿ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ] إنما هو الشرك «
754
وفي رواية لما نزلت :« ﴿ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ شق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ قالوا : وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله ﷺ :» ليس كما تظنون إنما هي كما قال العبد الصالح لإبنه :﴿ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ « وفي لفظ قالوا :» أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي ﷺ :« ليس بالذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح :﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ إنما هو الشرك » ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً قال :﴿ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ قال :« بشرك ». وعن عبد الله قال :« لما نزلت :﴿ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ قال رسول الله ﷺ :» قيل لي أنت منهم « ».
وقال الإمام أحمد، حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا أبو جناب عن زاذان عن جرير بن عبد الله قال :« خرجنا مع رسول الله ﷺ، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا، فقال رسول الله ﷺ :» كأن هذا الراكب إياكم يريد « فانتهى إلينا الرجل، فسلم فرددنا عليه، فقال النبي ﷺ :» من أين أقبلت؟ « قال : من أهلي وولدي وعشيرتي قال :» فأين تريد؟ « قال : أريد رسول الله ﷺ قال :» فقد أصبته « قال : يا رسول الله علمني ما الإيمان؟ قال :» أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت « قال : قد أقررت، قال : ثم إن بعيره دخلت يده في جحر جرذان فهوى بعيره، وهوى الرجل فوقع على هامته فمات. فقال رسول الله ﷺ :» عليَّ بالرجل « فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه، فقالا : يا رسول الله قبض الرجل، قال : فأعرض عنهما رسول الله ﷺ، ثم قال لهما رسول الله ﷺ :» أما رأيتما إعراضي عن الرجل، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة، فعلمت أنه مات جائعاً « ثم قال رسول الله ﷺ :» هذا من الذين قال الله عزَّ وجلَّ فيهم :﴿ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ الآية، ثم قال :« دونكم أخاكم » فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه وحملناه إلى القبر، فجاء رسول الله ﷺ حتى جلس على شفير القبر، فقال :« ألحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا »
755
وفي بعض الروايات هذا ممن عمل قليلاً وأجر كثيراً.
وروى ابن مردويه عن عبد الله بن سخبرة قال، قال رسول الله ﷺ :« » من أعطي فشكر ومنع فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر « وسكت قال : فقالوا : يا رسول الله ما له؟ قال :﴿ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ﴾ » وقوله :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ ﴾ أي وجهنا حجته عليهم. قال مجاهد وغيره يعني بذلك قوله :﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن ﴾ الآية. وقد صدقه الله وحكم له بالأمن والهداية فقال :﴿ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ﴾، ثم قال بعد ذلك كله :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾ قرىء بالإضافة وبلا إضافة، وكلاهما قريب في المعنى. وقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ أي حكيم في أقواله وأفعاله، عليم : أي بمن يهديه ومن يضله وإن قامت عليه الحجج والبراهين، كما قال :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٩٦-٩٧ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾.
756
يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم ( إسحاق ) بعد أن طعن في السن، وأيس هو وامرأته ( سارة ) من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، وقالت :﴿ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ [ هود : ٧٢ ]، فبشروهما مع وجوده بنبوته وبأن له نسلاً وعقباً، كما قال تعالى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾ [ الصافات : ١١٢ ]، وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة، وقال :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] أي ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما فتقر أعينكما به كما قرت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد، لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه وقعت البشارة به وبولده باسم يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عزَّ وجلَّ عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه لتقر بهم عينه، كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٩ ] وقال هاهنا :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا ﴾، وقوله :﴿ وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبله هديناه كما هديناه ووهبنا له ذرية صالحة، وكل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلاّ من آمن به - وهم الذين صحبوه في السفينة - جعل الله ذريته هم الباقين فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يبعث الله عزَّ وجلَّ بعده نبياً إلاّ من ذريته كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب ﴾ [ العنكبوت : ٢٧ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب ﴾ [ الحديد : ٢٦ ].
وقال تعالى :﴿ أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ ﴾ [ مريم : ٥٨ ]، وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ ﴾ أي وهدينا من ذريته ﴿ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ الآية، وعود الضمير إلى نوح لأنه أقرب المذكورين ظاهر لا إشكال فيه، وهو اختيار ابن جرير، وعوده إلى إبراهيم لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل عليه لوط، فإنه ليس من ذرية إبراهيم، بل هو ابن أخيه هاران بن آزر، اللهم إلاّ أن يقال : إنه دخل في الذرية تغليباً، كما في قوله :﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليباً، وكما قال في قوله :
757
﴿ فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ [ ص : ٧٣-٧٤ ]. فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذم على المخالفة، لأنه كان في تشبه بهم فعومل معاملتهم ودخل معهم تغليباً، وإلاّ فهو كان من الجن وطبيعته من النار والملائكة من النور، وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل، لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام بأمه ( مريم ) عليها السلام فإنه لا أب له.
روي أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي ﷺ تجده في كتاب الله، وقد قرأته من أوله إلى آخره، فلم أجده، قال : أليس تقرأ سورة الأنعام :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ حتى بلغ ﴿ ويحيى وعيسى ﴾ ؟ قال : بلى، قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال : صدقت. فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر العربي :
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأجانب
وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيهم أيضاً، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ قال للحسن بن علي :« إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » فسماه ابناً فدل على دخوله في الأبناء، وقال آخرون : هذا تجوز. وقوله :﴿ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ﴾ ذكر أصولهم وفروعهم، وذوي طبقتهم وأن الهداية أو الاجتباء شملهم كلهم، ولهذا قال :﴿ واجتبيناهم وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ أي إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] الآية، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله :﴿ قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين ﴾ [ الزخرف : ٨١ ]، وكقوله :﴿ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٧ ]، وكقوله :﴿ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار ﴾ [ الزمر : ٤ ].
وقوله تعالى :﴿ أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة ﴾ أي أنعمنا عليهم بذلك رحمة للعباد بهم ولطفاً منا بالخليقة، ﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا ﴾ أي بالنبوة، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على هذه الأشياء الثلاثة : الكتاب والحكم والنبوءة ﴿ هؤلاء ﴾ يعني أهل مكة، ﴿ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ أي إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض من عرب وعجم ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قوماً آخرين، أي المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة، ﴿ لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ أي لا يجحدون منها شيئاً ولا يردون منها حرفاً واحداً بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وإحسانه.
758
ثم قال تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً ﷺ :﴿ أولئك ﴾ يعني الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه ﴿ الذين هَدَى الله ﴾ أي هم أهل الهدى لا غيرهم ﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾ أي اقتد واتبع، وإذا كان هذا للرسول ﷺ فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به، قال البخاري عند هذه الآية عن سليمان الأحول أن مجاهداً أخبره أنه سأل ابن عباس : أفي ( ص ) سجدة؟ فقال : نعم، ثم تلا :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ إلى قوله :﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾ ثم قال : هو منهم، زاد يزيد بن هارون ومحمد بن عبيد وسهيل بن يوسف عن العوام عن مجاهد قلت لابن عباس، فقال : نبيكم ﷺ ممن أُمِرَ أن يقتدى بهم، وقوله تعالى :﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن أجراً أي أجرة ولا أريد منكم شيئاً، ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ ﴾ أي يتذكرون به فيرشدوا من العمى إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الكفر إلى الإيمان.
759
يقول الله تعالى : وما عظموا الله حق تعظيمه إذ كذبوا رسله إليهم. قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في قريش، واختاره ابن جرير، وقيل : نزلت في طائفة من اليهود. وقيل : في فنحاص رجل منهم. وقيل : في مالك بن الصيف ﴿ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ﴾، والأول أصح، لأن الآية مكية واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد ﷺ لأنه من البشر، كما قال :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس ﴾ [ يونس : ٢ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ]، وقال ها هنا :﴿ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ﴾، قال الله تعالى :﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة ﴿ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى ﴾ وهو التوراة التي قد علمتم وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران ﴿ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ أي ليستضاء بها في كشف المشكلات ويهتدى بها من ظلم الشبهات، وقوله :﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾ أي تجعلون جملتها قراطيس، أي قطعاً تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرفون منها ما تحرفون، وتبدلون وتتأولون وتقولون : هذا من عند الله أي في كتابه المنزل وما هو من عند الله، ولهذا قال :﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾. وقوله تعالى :﴿ وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ ﴾ أي ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه من خبر ما سبق، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك لا أنتم ولا آباؤكم، وقد قال قتادة : هؤلاء مشركو العرب، وقال مجاهد : هذه للمسلمين.
وقوله تعالى :﴿ قُلِ الله ﴾، قال ابن عباس : أي قل الله أنزله، وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة، لا ما قاله بعض المتأخرين من أن معنى ﴿ قُلِ الله ﴾ أي لا يكون خطابك لهم إلاّ هذه الكلمة كلمة « الله »، وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمراً بكلمة مفردة من غير تركيب، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها. وقوله :﴿ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ أي ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون حتى يأتيهم من الله اليقين، فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين؟ وقوله :﴿ وهذا كِتَابٌ ﴾ يعني القرآن ﴿ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى ﴾ يعني مكة ﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم، كما قال في الآية الأخرى :
760
﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وقال :﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] وقال :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ ﴾ [ هود : ١٧ ]، وقال :﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ] وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال :« أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي » وذكر منهن :« وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة »، ولهذا قال :﴿ والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي كل من آمن بالله واليوم الآخر يؤمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد وهو القرآن، ﴿ وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ أي يقيمون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها.
761
يقول تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً ﴾ أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له شركاء أو ولداً، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله، ولهذا قال تعالى :﴿ أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ﴾، قال عكرمة وقتادة : نزلت في مسليمة الكذاب، ﴿ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله ﴾ أي ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول، كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا ﴾ [ الأنفال : ٣١ ] الآية. قال الله تعالى :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت ﴾ أي في سكراته وغمراته وكرباته، ﴿ والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ ﴾ أي بالضرب، كقوله :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ﴾ [ المائدة : ٢٨ ] الآية، وقوله :﴿ ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء ﴾ [ الممتحنة : ٢ ] الآية، وقال الضحاك :﴿ باسطوا أَيْدِيهِمْ ﴾ أي بالعذاب، كقوله :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٥٠ ]، ولهذا قال :﴿ والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ ﴾ أي بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم :﴿ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ ﴾، وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصى، وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم :﴿ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق ﴾ الآية، أي اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله وتستكبرون اتباع آياته، والانقياد لرسله، وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر، وهي مقررة عند قوله تعالى :﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة ﴾ [ إبراهيم : ٢٧ ].
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾، أي يقال لهم يوم معادهم هذا، كما قال :﴿ وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الكهف : ٤٨ ] أي كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه فهذا يوم البعث، وقوله :﴿ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ أي من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا وراء ظهوركم، وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال :« يقول ابن آدم : مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس » وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله عزَّ وجلَّ : أين ما جمعت؟ فيقول : يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول له : يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئاً، وتلا هذه الآية :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ ﴾ تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم إن كان ثم معاد، فإن كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب وانزاح الضلال، وضل عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب جلَّ جلاله على رؤوس الخلائق :
762
﴿ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [ القصص : ٦٢، ٧٤ ] ؟ ويقال لهم :﴿ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٢-٩٣ ] ؟ ولهذا قال هاهنا :﴿ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ ﴾ أي في العبادة، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم، ثم قال تعالى :﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ قرىء بالرفع أي شملكم، وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل، ﴿ وَضَلَّ عَنكُم ﴾ أي ذهب عنكم، ﴿ مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ من رجاء الأصنام والأنداد، كقوله تعالى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب ﴾ [ البقرة : ١٦٦ ]، وقال تعالى :﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٠١ ]، وقال تعالى :﴿ ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ]، وقال :﴿ وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ ﴾ [ القصص : ٦٤ ] الآية، والآيات في هذا كثيرة جداً.
763
يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى، أي يشقه في الثرى فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعمومها من النوى، ولهذا فسر قوله :﴿ فَالِقُ الحب والنوى ﴾ بقوله :﴿ يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ﴾ أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت كقوله :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٣٣ ] وقوله :﴿ وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ﴾ معطوف على ﴿ فَالِقُ الحب والنوى ﴾، وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى، فمن قائل يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه، ومن قائل يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه، وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها، ثم قال تعالى :﴿ ذلكم الله ﴾ أي فاعل هذا هو الله وحده لا شريك له، ﴿ فأنى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي كيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون معه غيره؟ وقوله :﴿ فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً ﴾ أي خالق الضياء والظلام كما قال في أول السورة ﴿ وَجَعَلَ الظلمات والنور ﴾ [ الأنعام : ١ ] أي فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه، كقوله :﴿ يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]، فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح، وقابل ذلك بقوله ﴿ وَجَعَلَ الليل سَكَناً ﴾ أي ساجياً مظلماً لتسكن فيه الأشياء كما قال :﴿ والضحى والليل إِذَا سجى ﴾ [ الضحى : ١-٢ ]، وقال :﴿ والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى ﴾ [ الليل : ١-٢ ]، وقال :﴿ والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [ الشمس : ٣-٤ ]، وقال صهيب الرومي رضي الله عنه لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره : إن الله جعل الليل سكنا، إلاّ لصهيب، إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طال نومه. وقوله :﴿ والشمس والقمر حُسْبَاناً ﴾ أي يجريان بحساب مقنن مقدر لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً كما قال :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ﴾ [ يونس : ٥ ] الآية، وكما قال :﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ يس : ٤٠ ]، وقال :﴿ والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ﴾ [ الأعراف : ٥٤، النحل : ١٢ ] وقوله :﴿ ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكثيراً ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ [ يس : ٣٧-٣٨ ]، ولما ذكر خلق السماوات الأرض وما فيهن في أول سورة حم السجدة قال :﴿ وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ [ فصلت : ١٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر ﴾، قال بعض السلف : من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه : أن الله جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، ويهتدي بها في ظلمات البر والبحر. وقوله :﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات ﴾ أي قد بيناها ووضحناها ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي يعقلون ويعرفون الحق ويتجنبون الباطل.
يقول تعالى :﴿ وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ يعني آدم عليه السلام، كما قال :﴿ ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ﴾ [ النساء : ١ ]، وقوله :﴿ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ اختلفوا في معنى ذلك : فعن ابن مسعود ﴿ فَمُسْتَقَرٌّ ﴾ : أي في الأرحام ﴿ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ أي في الأصلاب، وعن ابن مسعود وطائفة : فمستقر في الدنيا ومستودع حيث يموت. وقال سعيد بن جبير : فمستقر في الأرحام وعلى ظهر الأرض وحيث يموت. وقال الحسن البصري : المستقر الذي مات فاستقر به عمله، وعن ابن مسعود : ومستودع في الدار الآخرة، والقول الأول أظهر، والله أعلم. وقوله تعالى :﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾ أي يفهمون ويعون كلام الله ومعناه، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ أي بقدر مباركاً ورزقاً للعباد وإحياء وغياثاً للخلائق، رحمة من الله بخلقه ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ كقوله :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ]، ﴿ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً ﴾ أي زرعاً وشجراً أخضر، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر. ولهذا قال تعالى :﴿ نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ﴾ أي يركب بعضه بعضاً كالسنابل ونحوها ﴿ وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ ﴾ أي جمع قنو وهي عذوق الرطب، ﴿ دَانِيَةٌ ﴾ أي قريبة من المتناول، كما قال ابن عباس ﴿ قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ ﴾ يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض رواه ابن جرير.
وقوله تعالى :﴿ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ ﴾ أي ونخرج منه جنات من أعناب وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز، وربما كانا خيار الثمار في الدنيا، كما امتن الله بهما على عباده في قوله تعالى :﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ﴾ [ النحل : ٦٧ ]، وكان ذلك قبل تحريم الخمر، وقال :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ [ يس : ٣٤ ]، وقوله تعالى :﴿ والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾، قال قتادة وغيره : متشابه في الورق والشكل قريب بعضه من بعض، ومتخالف في الثمار شكلاً وطعماً وطبعاً، ﴿ انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ﴾ أي نضجه، قال البراء وابن عباس والضحاك وغيرهم، أي فكروا في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود بعد أن كان حطباً صار عنباً ورطباً، وغير ذلك مما خلق سبحانه وتعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح كقوله تعالى :﴿ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ﴾ [ الرعد : ٤ ] الآية، ولهذا قال ها هنا :﴿ إِنَّ فِي ذلكم ﴾ أيها الناس ﴿ لآيَاتٍ ﴾ أي دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحمكته ورحمته ﴿ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي يصدقون به ويتبعون رسله.
هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره وأشركوا به في عبادته أن عبدوا الجن فجعلوهم شركاء له في العبادة، تعالى الله عن شركهم وكفرهم. فإن قيل : فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب أنهم ما عبدوها إلاّ عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك، كقوله :﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً * لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام ﴾ [ النساء : ١١٧-١١٩ ] الآية، وكقوله تعالى :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي ﴾ [ الكهف : ٥٠ ] الآية، وقال إبراهيم لأبيه :﴿ ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٤ ]، وكقوله :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [ يس : ٦٠ ] ولهذا قال تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن وَخَلَقَهُمْ ﴾ أي وقد خلقهم فهو الخالق وحده لا شريك له فكيف يعبد معه غيره؟ كقول إبراهيم :﴿ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [ الصافات : ٩٥-٩٦ ] ومعنى الآية أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده، فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له وقوله تعالى :﴿ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ ينبه به تعالى على ضلال من ضل في وصفه تعالى بأن له ولداً، كما يزعم من قاله من اليهود في عزير، ومن قال من النصارى في عيسى، ومن قال من مشركي العرب في الملائكة إنها بنات الله :﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾ [ الإسراء : ٤٣ ]. ومعنى ﴿ وَخَرَقُواْ ﴾ أي اختلقوا وائتفكوا وتخرصوا وكذبوا، كما قال علماء السلف، قال ابن عباس :﴿ وَخَرَقُواْ ﴾ يعني تخرصوا، وقال العوفي عنه ﴿ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ قال : جعلوا له بنين وبنات، وقال مجاهد : كذبوا، وقال الضحاك : وضعوا، وقال السدي : قطعوا، قال ابن جرير : وتأويله إذاً : وجعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم إياهم، وهو المتفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير، ﴿ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ بحقيقة ما يقولون ولكن جهلاً بالله وبعظمته، فإنه لا ينبغي لمن كان إلهاً أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة، ولا أن يشركه في خلقه شريك، ولهذا قال :﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ أي تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد والنظراء والشركاء.
﴿ بَدِيعُ السماوات والأرض ﴾ أي مبدعهما وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق، ومنه سميت البدعة بدعة، لأنه لا نظير لها فيما سلف، ﴿ أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ﴾ أي كيف يكون له ولد ﴿ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ ﴾ أي والولد إنما يكون متولداً بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه لأنه خالق كل شيء، فلا صاحبة له ولا ولد كما قال تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٨-٨٩ ]، ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾، فبين تعالى أنه الذي خلق كل شيء وأنه بكل شيء عليم، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه وهو الذي لا نظير له، فأنّى يكون له ولد؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
يقول تعالى :﴿ ذلكم الله رَبُّكُمْ ﴾ أي الذي خلق كل شيء ولا ولد له ولا صاحبة، ﴿ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه ﴾ أي فاعبدوه وحده لا شريك له، وأقروا له بالوحدانية، وأنه لا إله إلا هو وأنه لا ولد له ولا والد ولا صاحبة له، ولا نظير ولا عديل ﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ أي حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلأهم بالليل والنهار. وقوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ فيه أقوال للأئمة من السلف ( أحدها ) : لا تدركه في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة، كما تواترات به الأخبار عن رسول الله ﷺ من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب على الله، فإن الله تعالى قال :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾، وخالفها ابن عباس، فعنه : إطلاق الرؤية، وعنه : أنه رآه بفؤاده مرتين، والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء الله، وقال يحيى بن معين سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول الله تعالى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ قال هذا في الدنيا، وقال آخرون :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ أي جميعها، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة، وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الآية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، فخالفوا أهل السنّة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنّة رسوله، أما الكتاب فقوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢-٢٣ ]، وقال تعالى عن الكافرين :﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [ المطففين : ١٥ ]، قال الإمام الشافعي : فدل هذا على أن المؤمينن لا يحجبون عنه تبارك وتعالى، أما السنّة فقد تواترت الأخبار عن النبي ﷺ : أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات، وروضات الجنات، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين.
وقال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم، ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو؟ فقيل معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلاّ هو وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر، فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى، وقال آخرون : الإدراك هو الإحاطة، قالوا : ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، قال تعالى :﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ﴾ [ طه : ١١٠ ]، وفي صحيح مسلم :« لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك »
768
، ولا يلزم منه عدم الثناء، فكذلك هذا. قال ابن عباس ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ قال : لا يحيط بصر أحد بالملك، وعن عكرمة أنه قيل له :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ قال : ألست ترى السماء؟ قال : بلى، قال : فكلها ترى؟ وقال قتادة : هو أعظم من أن تدركه الأبصار، وقال ابن جرير عن عطية العوفي في قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢-٢٣ ] قال : هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره محيط بهم، فذلك قوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾.
وقال آخرون في الآية عن عكرمة قال، سمعت ابن عباس يقول : رأى محمد ربه تبارك وتعالى فقلت : أليس الله يقول :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ الآية فقال لي : لا أمَّ لك، ذلك نوره الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء. وفي رواية : لا يقوم له شيء، وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً :« إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه »، وفي الكتب المتقدمة : إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى إنه لا يراني حي إلاّ مات، ولا يابس إلاّ تدهده : أي تدعثر، وقال تعالى :﴿ فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ]، ونفي الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة. يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس وتنزه، فلا تدركه الأبصار. ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة، وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾، فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه، فإن ذلك غير ممكن للبشر ولا للملائكة ولا لشيء. وقوله :﴿ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه لأنه خلقها، كما قال تعالى :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير ﴾ [ الملك : ١٤ ]، وقد يكون عبر بالأبصار عن المبصرين كما قال السدي في قوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ لا يراه شيء وهو يرى الخلائق، وقال أبو العالية ﴿ وَهُوَ اللطيف الخبير ﴾ اللطيف لاستخراجها، الخبير بمكانها، والله أعلم.
769
البصائر : هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن وما جاء به الرسول ﷺ، ﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ﴾ كقوله :﴿ فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ [ يونس : ١٠٨ ]، ولهذا قال :﴿ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ لما ذكر البصائر قال :﴿ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ أي إنما يعود وباله عليه، كقوله :﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور ﴾ [ الحج : ٤٦ ]، ﴿ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ أي بحافظ ولا رقيب، بل إنما أنا مبلغ والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وقوله :﴿ وكذلك نُصَرِّفُ الآيات ﴾ أي فصلنا الآيات في هذه السورة من بيان التوحيد وأنه لا إله إلا هو، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين، وليقول المشركون والكافرون المكذبون دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب، وقارأتهم، وتعلمت منهم. روي عن عمرو بن كيسان قال : سمعت ابن عباس يقول : دارست : تلوت خاصمت جادلت، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن كذبهم وعنادهم :﴿ وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها ﴾ [ الفرقان : ٥ ] الآية، وقال تعالى إخباراً عن زعيمهم وكاذبهم ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ [ المدثر : ١٨-٢٠ ]، وقوله :﴿ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه، فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء، كقوله تعالى :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾ [ البقرة : ٢٦ ] الآية وكقوله :﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ... وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الحج : ٥٣-٥٤ ].
وقال تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ المدثر : ٣١ ]، وقال :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين وأنه يضل به من يشاء ويهدي به من يشاء، ولهذا قال ها هنا :﴿ وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾، وقرأ بعضهم ﴿ درسْتَ ﴾ أي قرأت وتعلمت، قال الحسن ﴿ وَلِيَقُولُواْ دَرَسَتْ ﴾ يقول : تقادمت وانمحت، وقال عبد الرزاق إن صبياناً يقرأون ﴿ دارست ﴾ وإنما هي درست. وقال شعبة هي في قراءة ابن مسعود : دَرَسَت، يعني بغير ألف بنصب السين ووقف على التاء، قال ابن جرير ومعناه : انمحت وتقادمت، أي أن هذا الذي تتلوه علينا قد مر بنا قديماً وتطاولت مدته.
يقول تعالى آمراً لرسوله ﷺ ولمن اتبع طريقته :﴿ اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ أي اقتد به واقتف أثره واعمل به، فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه، لأنه لا إله إلاّ هو ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين ﴾ أي اعف عنهم واصفح واحتمل أذاهم حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم، واعلم أن لله حكمة في إضلالهم، فإنه لو شاء لهدى الناس جميعاً ولو شاء لجمعهم على الهدى ﴿ وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ ﴾، أي بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاروه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ أي حافظاً تحفظ أقوالهم وأعمالهم، ﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ أي موكل على أرزاقهم وأمورهم، ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ ﴾ [ الشورى : ٤٨ ] كما قال تعالى :﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [ الغاشية : ٢١-٢٢ ] وقال :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ].
يقول الله تعالى ناهياً لرسوله ﷺ والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة إلاّ أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو ﴿ الله لا إله إِلاَّ هُوَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥، آل عمران : ٢ ]، كما قال ابن عباس في هذه الآية : قالوا : يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، ﴿ فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾، وقال قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله عدواً بغير علم، فأنزل الله :﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾، وروى ابن جرير عن السدي أنه قال : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب : كان يمنعهم، فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية وأُبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري، « وبعثوا رجلاً منهم يقال له المطلب، قالوا : استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم عليه فدخلوا، فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعه وإلهه، فدعاه فجاء النبي ﷺ فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول الله ﷺ :» ما تريدون؟ « قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك، فقال النبي ﷺ :» أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم، وأدت لكم الخراج «؟ قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قالوا : فما هي؟ قال :» قولوا لا إله إلاّ الله «، فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب : يا ابن أخي، قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال :» يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها « إرادة أن يؤيسهم، فغضبوا، وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك، فذلك قوله :﴿ فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ » ومن هذا القبيل، وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها، ما جاء في الصحيح « أن رسول الله ﷺ قال :» ملعون من سب والديه «، قالوا : يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه؟ قال :» يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه «، أو كما قال ﷺ. وقوله :﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ أي وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم والمحاماة لها والانتصار ﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ ﴾ أي من الأمم الخالية على الضلال ﴿ عَمَلَهُمْ ﴾ الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره ﴿ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ ﴾ أي معادهم ومصيرهم ﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي يجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
يقول تعالى إخباراً عن المشركين أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم أي حلفوا أيماناً مؤكدة ﴿ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ ﴾ أي معجزة وخارق ﴿ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾ أي ليصدقنها، ﴿ قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتاً وكفراً وعناداً لا على سبيل الهدى والاسترشاد، إنما مرجع هذه الآيات إلى الله إن شاء جاءكم بها وإن شاء ترككم، قال ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : كلم رسول الله ﷺ قريش فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود، كانت لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله ﷺ :« أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ » قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً، فقال لهم :« فإن فعلت تصدقوني »؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعك أجمعون، فقام رسول الله ﷺ يدعو فجاءه جبريل عليه السلام، فقال له : ما شئت، إن شئت أصبح الصفا ذهباً، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله ﷺ :« بل يتوب تائبهم »، فأنزل الله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾، وقال الله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، قيل المخاطب بما يشعركم، المشركون، وإليه ذهب مجاهد وقيل : المخاطب بقوله :﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ ﴾ المؤمنون، ويقول : وما يدريكم أيها المؤمنون أنها إذا جاءت لا يؤمنون. وقوله تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾، قال ابن عباس في هذه الآية : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر. وقال مجاهد في قوله ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾ ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة، وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه، وقال :﴿ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [ فاطر : ١٤ ] جل وعلا ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله ﴾ [ الزمر : ٥٦ ] إلى قوله :﴿ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين ﴾ [ الزمر : ٥٨ ] فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم لو ردوا لم يكونوا على الهدى، وقال :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ]، وقال تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾، وقال : ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا، وقوله :﴿ وَنَذَرُهُمْ ﴾ أي نتركهم ﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾، قال ابن عباس والسدي : في كفرهم. وقال أبو العالية وقتادة : في ضلالهم ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ قال الأعمش يلعبون، وقال ابن عباس ومجاهد : في كفرهم يترددون.
يقول تعالى ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها فنزلنا عليهم الملائكة تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل كما سألوا فقالوا :﴿ أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ] و ﴿ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، ﴿ وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢١ ]، ﴿ وَكَلَّمَهُمُ الموتى ﴾ أي فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، ﴿ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ﴾، قرأ بعضهم ( قِبَلاً ) بكسر القاف وفتح الباء من المقابلة والمعاينة، وقرأ آخرون بضمهما قيل : معناه من المقابلة والمعاينة أيضاً كما رواه العوفي عن ابن عباس، وقال مجاهد : قبلا أي أفواجاً قبيلاً قبيلاً أي تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فيخبرونهم بصدق الرسل فيما جاءوهم به ﴿ مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ أي إن الهداية إليه لا إليهم بل يهدي ويضل من يشاء وهو الفعال لما يريد ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ] لعلمه وحكمته وسلطانه وقهره وغلبته. وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٩٦-٩٧ ].
يقول تعالى : وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك، جعلنا لكل نبي من قبلك أيضاً أعداء فلا يحزنك ذلك، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ ﴾ [ الأنعام : ٣٤ ] الآية، وقال تعالى :﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ﴾ [ فصلت : ٤٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين ﴾ [ الفرقان : ٣١ ] الآية. وقال ورقة بن نوفل لرسول الله ﷺ :« إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلاَّ عودي »، والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلاّ الشياطين من هؤلاء وهؤلاء قبحهم الله ولعنهم، قال عبد الرزاق عن قتادة في قوله :﴿ شَيَاطِينَ الإنس والجن ﴾ قال : من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض. قال قتادة :« وبلغني أن أبا ذر كان يوماً يصلي فقال النبي ﷺ :» تعوذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن « فقال : أو إن من الإنس شياطين؟ فقال رسول الله ﷺ :» نعم « وقال ابن جرير عن أبي ذر قال :» أتيت رسول الله ﷺ في مجلس قد أطال فيه الجلوس قال، فقال :« يا أبا ذر هل صليت؟ قلت : لا، يا رسول الله. قال :» قم فاركع ركعتين « قال : ثم جئت فجلست إليه، فقال :» يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس «؟ قال، قلت : لا يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال :» نعم هم شر من شياطين الجن « ».
( طريق أخرى للحديث ) روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال، قال رسول الله ﷺ :« » يا أبا ذر تعوذت من شياطين الجن والإنس «؟ قال : يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال :» نعم « ﴿ شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ﴾، فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم، وعن عكرمة في قوله :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ﴾ قال : للإنس شياطين وللجن شياطين، فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، وقال السدي عن عكرمة : أما شياطين الإنس فالشياطين التي تضل الإنس، وشياطين الجن التي تضل الجن، يلتقيان فيقول كل واحد منهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضل أنت صاحبك بكذا وكذا، فيعلم بعضهم بعضاً، وقد روي نحو هذا عن ابن عباس فقال : إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم، قال : فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقول هذا لهذا أضلله بكذا، فهو قوله :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ﴾ ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال : صدق، قال الله تعالى :
775
﴿ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ].
وقوله تعالى :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ﴾ أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره، ﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ أي وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء، ﴿ فَذَرْهُمْ ﴾ أي فدعهم، ﴿ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ أي يكذبون. أي دع أذاهم وتوكل على الله فإن الله كافيك وناصرك عليهم. وقوله تعالى :﴿ ولتصغى إِلَيْهِ ﴾ أي ولتميل إليه قاله ابن عباس، ﴿ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة ﴾ أي قلوبهم وعقولهم وأسماعهم، وقال السدي : قلوب الكافرين ﴿ وَلِيَرْضَوْهُ ﴾ أي يحبوه ويريدوه، وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة، كما قال تعالى :﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم ﴾ [ الصافات : ١٦١-١٦٣ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴾ [ الذاريات : ٨-٩ ]، وقوله :﴿ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ﴾، قال ابن عباس : وليكتسبوا ما هم مكتسبون، وقال السدي وابن زيد : وليعملوا ما هم عاملون.
776
يقول الله تعالى لنبيه ﷺ : قل لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره ﴿ أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً ﴾ ؟ أي بيني وبينكم، ﴿ وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً ﴾ أي مبيناً، ﴿ والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب ﴾ أي من اليهود والنصارى يعلمون أنه منزل من ربك بالحق أي بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين ﴾ كقوله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين ﴾ [ يونس : ٩٤ ] وهذا شرط، والشرط لا يقتضى وقوعه، ولهذا جاء عن رسول الله ﷺ أنه قال :« لا أشك ولا أسأل »، وقوله تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾، قال قتادة : صدقاً فيما قال، وعدلاً فيما حكم، يقول : صدقاً في الأخبار وعدلاً في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه، ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلاّ عن مفسدة، كما قال تعالى :﴿ يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] إلى آخر الآية، ﴿ لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي ليس أحد يعقب حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة ﴿ وَهُوَ السميع ﴾ لأقوال عباده ﴿ العليم ﴾ بحركاتهم وسكناتهم الذي يجازي كل عامل بعمله.
يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين ﴾ [ الصافات : ٧١ ] وقال تعالى :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ] وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾، فإن الخرص هو الحزر ومنه خرص النخل وهو حزر ما عليها من التمر، وذلك كله عن قدر الله ومشيئته ﴿ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ﴾ فييسره لذلك، ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين ﴾ فييسرهم لذلك وكل ميسر لما خلق له.
هذا إباحة من الله لعباده المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه، ومفهومه أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه، كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات وأكل ما ذبح على النصب وغيرها، ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه فقال :﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي قد بين لكم ما حرم عليكم ووضحه ﴿ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ ﴾ أي إلاّ في حال الاضطرار، فإنه يباح لكم ما وجدتم. ثم بين تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلالهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى، فقال :﴿ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين ﴾ أي هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم.
قال مجاهد :﴿ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ ﴾ المعصية في السر والعلانية، وقال قتادة : أي سره وعلانيته، قليله وكثيره، وقال السدي : ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات، وباطنه الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان، وقال عكرمة : ظاهره نكاح ذوات المحارم. والصحيح أن هذه الآية عامة في ذلك كله، وهي كقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ] الآية، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ﴾ أي سواء كان ظاهراً أو خفياً، فإن الله سيجزيهم عليه، عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول الله ﷺ عن الإثم فقال :« الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع الناس عليه ».
استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلماً، وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : فمنهم من قال لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة وسواء ترك التسمية عمداً أو سهواً، وهو رواية عن الإمام مالك وأحمد بن حنبل، وهو اختيار أبي ثور وداود الظاهري واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية وبقوله في آية الصيد :﴿ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ ﴾ [ المائدة : ٤ ]، ثم أكد في هذه الآية بقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾، والضمير قيل : عائد على الأكل وقيل : عائد على الذبح لغير الله، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديثي عدي بن حاتم :« إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك » وهو في الصحيحين، وحديث رافع بن خديج :« ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه » وهو في الصحيحين أيضاً، وحديث ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال للجن :« لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه » ؛ وعن عائشة رضي الله عنها « أن ناساً قالوا : يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال :» سموا عليه أنتم وكلوا « قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر » ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد، والله أعلم.
والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط في التسمية، بل هي مستحبة، فإن تركت عمداً أو نسياناً لا يضر، وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وجميع أصحابه، ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل، وهو رواية عن الإمام مالك، وحمل الشافعي الآية الكريمة :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى :﴿ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ]، وقال عطاء ﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ ﴾ ينهي عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان وينهى عن ذبائح المجوس، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي، وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية ﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ ﴾ قال : هي الميتة. وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود قال، قال رسول الله ﷺ :« ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر إنه أن ذكر، لم يذكر إلاّ اسم الله »
781
وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال :« إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله »، واحتج البيهقي أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم أن ناساً قالوا :« يا رسول الله إن قوماً حديثي عهد بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال :» سموا أنتم وكلوا « قال : فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلاّ مع تحققها والله أعلم.
المذهب الثالث في المسألة : إن ترك البسملة على الذبيحة نسياناً لم يضر، وإن تركها عمداً لم تحل، هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد وبه يقول أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه، وقال ابن جرير رحمه الله : من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول جميع الحجة، وخالف الخبر الثابت عن رسول الله ﷺ في ذلك، يعني ما رواه الحافظ البيهقي عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال :»
المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله «، ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين : أنهما كرها متروك التسمية نسياناً، والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيراً، والله أعلم، إلاّ أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفاً لقول الجمهور فيعده إجماعاً، فليعلم هذا، والله الموفق. واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه عن النبي ﷺ :» إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه «، وعن أبي هريرة قال :» جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله : أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال النبي ﷺ :« اسم الله على كل مسلم » «.
وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾، قال ابن أبي حاتم عن أبي زميل قال : كنت قاعداً عند ابن عباس وحج ( المختار بن أبي عبيد ) فجاءه رجل، فقال : يا ابن عباس زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة، فقال ابن عباس : صدق، فنفرت، وقلت : يقول ابن عباس صدق؟ فقال ابن عباس : هما وحيان، وحي الله، ووحي الشيطان، فوحي الله إلى محمد ﷺ ووحي الشيطان إلى أوليائه، ثم قرأ :﴿ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ ﴾. وقد تقدم عن عكرمة في قوله :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] نحو هذا. وقوله :﴿ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾، عن سعيد بن جبير قال : خاصمت اليهود النبي ﷺ فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾، وعن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ ﴾ أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً وقولوا له : فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح الله عزَّ وجلَّ بشمشير من ذهب يعني الميته فهو حرام؟ فنزلت هذه الآية :﴿ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ أي وإن الشياطين من فارس ليوحون إلى أوليائهم من قريش، وقال أبو داود عن ابن عباس في قوله :﴿ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ ﴾ يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ ﴾، وقال السدي في تفسير هذه الآية : إن المشركين قالوا للمسلمين : كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله فما قتل الله فلا تأكلونه وما ذبحتم أنتم تأكلونه؟ فقال الله تعالى : وإن أطعتموهم - في أكل الميتة ﴿ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ وهكذا قال مجاهد والضحاك وغير واحد من علماء السلف.
782
وقوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك، كقوله تعالى :﴿ اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] الآية وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم فقال :« بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ».
783
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً، فأحياه الله، أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه ووفقه لاتباع رسله، ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس ﴾ أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به، والنور هو القرآن، كما روي عن ابن عباس، وقال السدي : الإسلام والكل صحيح، ﴿ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات ﴾ أي الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة ﴿ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه. وفي الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إن الله خلق خلقة في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل » كما قال تعالى :﴿ الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ]، وقال تعالى :﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الملك : ٢٢ ] ؟ وقال تعالى :﴿ مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ هود : ٢٤ ] وقال تعالى :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير * وَلاَ الظلمات وَلاَ النور * وَلاَ الظل وَلاَ الحرور * وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور * إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ١٩-٢٣ ]، والآيات في هذه كثيرة، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة ﴿ وَجَعَلَ الظلمات والنور ﴾ [ الأنعام : ١ ]، وزعم بعضهم : أن المراد بهذا المثل رجلان معينان، فقيل عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وقيل : عمار بن ياسر، وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها أبو جهل ( عمرو بن هشام ) لعنه الله. والصحيح أن الآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر، وقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي حسناً لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة قدراً من الله وحكمة بالغة، لا إله إلاّ هو وحده لا شريك له.
يقول تعالى : وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين، ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل الله وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك ثم تكون لهم العاقبة، كما قال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين ﴾ [ الفرقان : ٣١ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ﴾، قال ابن عباس : سلطنا شرارهم فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب. وقال مجاهد وقتادة :﴿ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ﴾ عظماؤها، قلت : وهكذا قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ] والمراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال، كقوله تعالى إخباراً عن قوم نوح :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ [ سبأ : ٣١ ]، قال سفيان : كل مكر في القرآن فهو عمل، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي وما يعود وبال مكرهم وإضلالهم إلاّ على أنفسهم، كما قال تعالى :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ]، وقال :﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ [ النحل : ٢٥ ]. وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله ﴾ أي إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة ﴿ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله ﴾ أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل كقوله جلَّ وعلا :﴿ وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا ﴾ [ الفرقان : ٢١ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، كقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ [ الزخرف : ٣١-٣٢ ] الآية، يعنون لو نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم ﴿ مِّنَ القريتين ﴾ أي من مكة والطائف، وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون بالرسول صلوات الله وسلامه عليه بغياً وحسداً وعناداً واستكباراً، كقوله تعالى مخبراً عنه :﴿ وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٦ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً ﴾ [ الفرقان : ٤١ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٤١ ]، هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه، ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه، حتى إنهم يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه « الأمين »، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار ( أبو سفيان ) حين سأله هرقل ملك الروم : وكيف نسبه فيكم؟ قال : هو فينا ذو نسب، قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا.
785
. الحديث بطوله الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به، وقال الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم »، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه » وقال الإمام أحمد قال العباس :« بلغه ﷺ بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فقال :» من أنا؟ « قالوا أنت رسول الله، فقال :» أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً « صدق صلوات الله وسلامه عليه.
وفي الحديث أيضاً المروي عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله ﷺ :»
قال لي جبريل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم «، وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء. وأبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد، فلما نظر إليه راعه فقال : من هذا؟ قالوا : ابن عباس ابن عم رسول الله ﷺ. فقال :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾. وقوله تعالى :﴿ سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ الآية، هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاءوا به، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله ﴿ صَغَارٌ ﴾ وهو الذلة الدائمة كما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا، كقوله تعالى :
786
﴿ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [ غافر : ٦٠ ] أي صاغرين ذليلين حقيرين. وقوله تعالى :﴿ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ﴾ لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً وهو التلطف في التحيل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقاً ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ تبلى السرآئر ﴾ [ الطارق : ٩ ] أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر، وجاء في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال :« ينصب لكل لواء غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان »، والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل.
787
يقول تعالى :﴿ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾ أي ييسره له وينشطه ويسهله لذلك، فهذه علامات على الخير، كقوله تعالى :﴿ أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ [ الزمر : ٢٢ ] الآية، وقال تعالى :﴿ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [ الحجرات : ٧ ]، وقال ابن عباس معناه يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وهو ظاهر. سئل رسول الله ﷺ : أي المؤمنين أكيس؟ قال :« أكثرهم ذكراً للموت وأكثرهم لما بعده استعداداً »، وسئل عن هذه الآية :﴿ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾ قالوا :« كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال :» نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح «، وقالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال :» الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت « وعن عبد الله بن مسعود قال :» تلا رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾ قالوا : يا رسول الله ما هذا الشرح؟ قال :« نور يقذف به في القلب » قالوا يا رسول الله فهل لذلك من أمارة تعرف؟ قال :« نعم »، قالوا : وما هي قال :« الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الموت » «.
وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ﴾ حرجاً بفتح الحاء والراء، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء من الإيمان ولا ينفذ فيه، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من الأعراب من أهل البادية من مدلج عن الحرجة؟ فقال : هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر رضي الله عنه : كذلك قلب المنافقين لا يصل إليه شيء من الخير، وقال ابن عباس : يجعل الله عليه الإسلام ضيقاً والإسلام واسع، وذلك حين يقول :﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ ﴾ [ الحج : ٧٨ ] يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق. وقال مجاهد والسدي :﴿ ضَيِّقاً حَرَجاً ﴾ شاكاً، وقال عطاء الخراساني :﴿ ضَيِّقاً حَرَجاً ﴾ أي ليس للخير فيه منفذ، وقال ابن المبارك :﴿ ضَيِّقاً حَرَجاً ﴾ بلا إله إلاّ الله حتى لا تستطيع أن تدخل قلبه، ﴿ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء ﴾ من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جبير :﴿ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ﴾ لا يجد فيه مسلكاً إلاّ صعد. وقال عطاء الخراساني :﴿ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء ﴾ يقول : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء، وقال ابن عباس :﴿ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء ﴾ يقول : فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان في قلبه حتى يدخله الله في قلبه، وقال الأوزاعي : كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقاً أن يكون مسلماً.
788
وقال ابن جرير : وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه يقول : فمثله في امتناعه عن قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه، لأنه ليس في وسعه وطاقته، وقال في قوله :﴿ كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ يقول : كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقاً وحرجاً، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله فيغويه ويصده عن سبيل الله، وقال ابن عباس :﴿ الرجس ﴾ الشيطان، وقال مجاهد :﴿ الرجس ﴾ كل ما لا خير فيه.
789
لما ذكر تعالى طريق الضالين عن سبيله الصادين عنها، نبّه على شرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، فقال تعالى :﴿ وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ﴾ أي هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن هو صراط الله المستقيم، كما تقدم في الحديث في نعت القرآن :« هو صراط الله المستقيم وحبل الله المتين وهو الذكر الحكيم »، ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات ﴾ أي وضحناها وبيناها وفسرناها ﴿ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله، ﴿ لَهُمْ دَارُ السلام ﴾ وهي الجنة ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ أي يوم القيامة، وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم فكما سلموا من آفات الإعوجاج أفضوا إلى دار السلام، ﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ﴾ أي حافظهم وناصرهم ومؤيدهم، ﴿ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي جزاء على أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة بمنه وكرمه.
يقول تعالى :﴿ وَ ﴾ اذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به، ﴿ يَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ﴿ يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس ﴾ أي يقول يا معشر الجن، وسياق الكلام يدل على المحذوف، ومعنى قوله :﴿ استكثرتم مِّنَ الإنس ﴾ أي من إغوائهم وإضلالهم، كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ [ يس : ٦٠-٦١ ]، وقال ابن عباس :﴿ يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس ﴾ يعني أضللتم منهم كثيراً، ﴿ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾ : يعني أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا، قال ابن أبي حاتم عن الحسن في هذه الآية قال : استكثرتم من أهل النار يوم القيامة، فقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض، قال الحسن : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلاّ أن الجن أمرت وعملت الإنس. وقال ابن جريج : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي، فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة، وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان - فيما ذكر - ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم، فيقولون : قد سدنا الإنس والجن ﴿ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا ﴾ قال السدي : يعني الموت، ﴿ قَالَ النار مَثْوَاكُمْ ﴾ أي مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ ﴾ أي ماكثين فيها مكثاً مخلداً إلاّ ما شاء الله، قال بعضهم : يرجع معنى الاستثناء إلى البرزخ، وقال بعضهم : هذا رد إلى مدة الدنيا، وقيل : غير ذلك من الأقوال، وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس :﴿ قَالَ النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ﴾ قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.
قال قتادة في تفسيرها : إنما يولي الله الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، واختاره ابن جرير، وعنه في تفسير الآية : يولي الله بعض الظالمين بعضاً في النار يتبع بعضهم بعضاً. وقال مالك بن دينار : قرأت في الزبور : إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين، ثم أنتقم من المنافقين جميعاً، وذلك في كتاب الله قول الله تعالى :﴿ وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً ﴾، وقال ابن أسلم : قال ظالمي الجن وظالمي الإنس، وقرأ :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ] أي ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، وعن ابن مسعود مرفوعاً :« من أعان ظالماً سلطه الله عليه » وقال بعض الشعراء :
وما من يد إلاّ يد الله فوقها ولا ظالم إلاّ سيبلى بظالم
ومعنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين نسلط بعضهم على بعض ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم.
وهذا أيضاً مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة حيث يسألهم وهو أعلم : هل بلغتهم الرسل رسالاته، وهذا استفهام تقرير، ﴿ يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾ أي من جملتكم والرسل من الإنس فقط وليس من الجن رسل، كما قد نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف. وقال ابن عباس : الرسل من بني آدم ومن الجن نزر. وحكى ابن جرير عن الضحاك : أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتج بهذه الآية الكريمة، وفيه نظر، لأنها محتملة وليست بصريحة وهي، والله أعلم، كقوله :﴿ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ [ الرحمن : ١٩-٢٠ ]، إلى أن قال :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ] ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من الملح لا من الحلو، وهذا واضح ولله الحمد. وقد ذكر هذا الجواب بعينه ابن جرير، والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ ﴾ [ النساء : ١٦٣ ]. وقوله تعالى عن إبراهيم :﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب ﴾ [ العنكبوت : ٢٧ ] فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد من الناس إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ]، وقال :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب، ولهذا قال تعالى إخباراً عنهم :﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الأحقاف : ٢٩-٣٠ ]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا ﴾ أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة. وقال تعالى :﴿ وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا ﴾ أي وقد فرطوا في حياتهم الدنيا وهلكوا بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم للمعجزات، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها، ﴿ وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ﴾ أي في الدنيا بما جاءتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
يقول تعالى :﴿ ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾ أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه دعوة، ولكن أعذرنا إلى الأمم وما عذبنا أحد إلاّ بعد إرسال الرسل إليهم، كما قال تعالى :﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٤ ]، وقوله :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]، وقال تعالى :﴿ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا ﴾ [ الملك : ٨-٩ ] والآيات في هذا كثيرة. قال ابن جرير : ويحتمل قوله تعالى :﴿ بِظُلْمٍ ﴾ وجهين ( أحدهما ) : أي بظلم أهلها بالشرك ونحوه وهم غافلون، يقول : لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسولاً ينبههم على حجج الله عليهم وينذرهم عذاب الله يوم معادهم، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة، فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. ( والوجه الثاني ) : لم يكن ربك ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر فيظلمهم بذلك، والله غير ظلام لعبيده، ثم شرع يرجح الوجه الأول ولا شك أنه أقوى والله أعلم، قال : وقوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾ أي ولكل عامل من طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله يبلغه إياها ويثيبه بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ( قلت ) : ويحتمل أن يعود قوله :﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾ أي من كافري الجن والإنس، أي لكل درجة في النار بحسبه، كقوله :﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، وقوله :﴿ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ﴾ [ النحل : ٨٨ ]، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾، قال ابن جرير : أي وكل ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك يحصيها ويثبتها لهم عنده ليجازيهم عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
يقول تعالى :﴿ وَرَبُّكَ ﴾ يا محمد ﴿ الغني ﴾ أي عن جميع خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، ﴿ ذُو الرحمة ﴾ أي وهو مع ذلك رحيم بهم كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ البقرة : ١٤٣، الحج : ٦٥ ] ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ أي إذا خالفتم أمره، ﴿ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ ﴾ أي قوماً آخرين أي يعملون بطاعته، ﴿ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ أي هو قادر على ذلك سهل عليه يسير لديه كما أذهب القرون الأولى وأتى بالذي بعدها، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين كما قال تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً ﴾ [ النساء : ١٣٣ ]، وقال تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ ﴾ [ فاطر : ١٦-١٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم ﴾ [ محمد : ٣٨ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة، ﴿ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي ولا تعجزون الله، بل هو قادر على إعادتكم وإن صرتم تراباً رفاتاً وعظاماً هو قادر لا يعجزه شيء. وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال :« يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ».
وقوله تعالى :﴿ قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ هذا تهديد شديد ووعيد أكيد، أي استمروا على طريقتكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، كقوله :﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ [ هود : ١٢١-١٢٢ ]، قال ابن عباس :﴿ على مَكَانَتِكُمْ ﴾ ناحيتكم، ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ﴾ أي أتكون لي أو لكم؟ وقد أنجز الله موعده لرسوله صلوات الله عليه، فإنه تعالى مكنه في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاده وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب، وكل ذلك في حياته، ثم فتحت الأمصار والأقاليم بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين كما قال الله تعالى :﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة : ٢١ ] وقال :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار ﴾ [ غافر : ٥١-٥٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ]، وقال تعالى إخباراً عن رسله :﴿ فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [ إبراهيم : ١٣-١٤ ]، وقال تعالى :﴿ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [ النور : ٥٥ ] الآية، وقد فعل الله ذلك بهذه الأمة المحمدية وله الحمد والمنة أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعاً وكفراً وشركاً، وجعلوا لله شركاء، وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى، ولهذا قال تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ ﴾ أي مما خلق وبرأ ﴿ مِنَ الحرث ﴾ أي من الزرع والثمار، ﴿ والأنعام نَصِيباً ﴾ أي جزءاً وقسماً، ﴿ فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا ﴾ وقوله :﴿ فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ ﴾ قال ابن عباس : إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءاً وللوثن جزءاً، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا : هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وكانوا يحرمون من أموالهم ( البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ) فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله، فقال الله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً ﴾ الآية، وقال ابن أسلم في الآية : كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبداً، حتى يذكروا معه أسماء الآلهة، وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ ﴿ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ أي ما يقسمون فإنهم أخطأوا أولاً في القسم، لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه وله الملك، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته لا إله غيره ولا رب سواه، ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها، بل جاروا فيها كقوله جلَّ وعلا :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ النحل : ٥٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الزخرف : ١٥ ]، وقال تعالى :﴿ أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ﴾ [ النجم : ٢١-٢٢ ].
يقول تعالى : كما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار، قال ابن عباس : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، زينوا لهم قتل أولادهم. وقال مجاهد : شركاؤهم شياطينهم، يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة. وقال السدي : أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات إما ليردوهم فيهلكوهم، وإما ليلبسوا عليهم دينهم، أي فيخلطوا عليهم دينهم، ونحو ذلك، قال ابن أسلم وقتادة : وهذا كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [ النحل : ٥٨ ]، وكقوله :﴿ وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ﴾ [ التكوير : ٨-٩ ]، وقد كانوا أيضاً يقتلون الأولاد من الإملاق وهو الفقر أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تلف المال، وقد نهاهم عن قتل أولادهم لذلك، وإنما كان هذا كله من تزيين الشياطين وشرعهم ذلك، قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ ﴾ أي كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كوناً وله الحكمة التامة في ذلك فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ أي فدعهم واجتنبهم وما هم فيه فسيحكم الله بينك وبينهم.
قال ابن عباس الحِجْر : الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا، وقال قتادة : تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم وتغليظ وتشديد، ولم يكن من الله تعالى، وقال ابن أسلم :﴿ حِجْرٌ ﴾ إنما احتجروها لآلهتهم، وقال السدي :﴿ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ ﴾ يقولون : حرام أن يطعم إلا من شئنا، وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ ﴾ [ يونس : ٥٩ ]، وكقوله تعالى :﴿ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ﴾ [ المائدة : ١٠٣ ]، وقال السدي : أما الأنعام التي حرمت ظهورها فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقال مجاهد : كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن حملوا ولا إن نتجوا ولا إن عملت شيئاً، ﴿ افترآء عَلَيْهِ ﴾ أي على الله وكذباً منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه، فإنه لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم، ﴿ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي عليه ويسندون إليه.
قال ابن عباس :﴿ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا ﴾ الآية، قال : اللبن كانو يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم، وكانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء، فنهى الله عن ذلك، وقال الشعبي : البحيرة لا يأكل من لبنها إلاّ الرجال، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء، وقال مجاهد في قوله :﴿ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا ﴾ قال : هي السائبة والبحيرة، ﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ﴾ أي قولهم الكذب في ذلك، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب ﴾ [ النحل : ١١٦ ] الآية، ﴿ إِنَّهُ حِكِيمٌ ﴾ أي في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بأعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم عليها أتم الجزاء.
يقول تعالى : قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم وضيقوا عليهم في أموالهم فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم، وأما في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم. كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٦٩-٧٠ ]، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام :﴿ قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افترآء عَلَى الله قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾.
يقول تعالى مبيناً أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة، وقسموها وجزؤوها فجعلوا منها حراماً وحلالاً، فقال :﴿ وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾، قل ابن عباس :﴿ مَّعْرُوشَاتٍ ﴾ مسموكات. وفي رواية : فالمعروشات ما عرش الناس، وغير معروشات ما خرج في البر والجبال من الثمرات، وعنه : معروشات ما عرش من الكرم، وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم. وقال ابن جريج :﴿ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ قال : متشابهاً في المنظر، وغير متشابه في المطعم، ﴿ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ ﴾ من رطبه وعنبه، وقوله تعالى :﴿ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ قال بعضهم : هي الزكاة المفروضة. قال ابن عباس ﴿ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ : يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله، وعنه قال : إن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده لم يخرج مما حصد شيئاً، فقال الله تعالى :﴿ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد وما يلقط الناس من سنبله، وقد روي عن جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ أمر من كل جاذّ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المساجد للمساكين. وقال الحسن البصري : هي الصدقة من الحب والثمار، وقال آخرون : هو حق آخر سوى الزكاة، روى نافع عن ابن عمر في قوله :﴿ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ قال : كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة، وقال مجاهد : إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه، وعنه قال : عند الزرع يعطى القبضة، وعند الصرام يعطى القبضة، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام، وقال سعيد بن جبير : كان هذا قبل الزكاة للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته، وقال آخرون، هذا شيء كان واجباً، ثم نسخه الله بالعشر أو نصف العشر. وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون، كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة « ن » :﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كالصريم ﴾ [ القلم : ١٧-٢٠ ] أي كالليل المدلهم سوداء محترقة.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين ﴾ قيل : معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف. قال ابن جريج : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلاً له فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلاّ أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فأنزل الله تعالى :﴿ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين ﴾، وقال عطاء : نهوا عن السرف في كل شيء، وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف، وقال السدي : لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. وقال سعيد ابن المسيب في قوله :﴿ وَلاَ تسرفوا ﴾ قال : لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ربكم، والمختار عند ابن جرير قول عطاء : أنه نهى عن الإسراف في كل شيء، ولا شك أنه صحيح، لكن الظاهر والله أعلم من سياق الآية حيث قال تعالى :﴿ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا ﴾ أن يكون عائداً على الأكل أي لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن، كقوله تعالى :
801
﴿ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا ﴾ [ الأعراف : ٣١ ] الآية. وفي صحيح البخاري تعليقاً :« كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة »، وهذا من هذا، والله أعلم. وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً ﴾ أي وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش قيل : المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل، والفرش الصغار منها، روي عن ابن مسعود في قوله :﴿ حَمُولَةً ﴾ ما حمل عليه من الإبل. ﴿ وَفَرْشاً ﴾ الصغار من الإبل، قال ابن عباس : الحمولة هي الكبار، والفرش الصغار من الإبل، وكذا قال مجاهد.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :﴿ وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً ﴾ أما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه، وأما الفرش فالغنم، واختاره ابن جرير، قال وأحسبه إنما سمي فرشاً لدنوه من الأرض، وقال الضحاك وقتادة. الحمولة الإبل والبقر، والفرش الغنم. وقال السدي : أما الحمولة فالإبل، وأما الفرش فالفصلان والعجاجيل والغنم، وما حمل عليه فهو حمولة. وقال ابن أسلم : الحمولة ما تركبون، والفرش ما تأكلون وتحلبون : شاة لا تحمل تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافاً وفرشاً، وهذا الذي قاله عبد الرحمن في تفسير هذه الآية الكريمة حسن ويشهد له قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٧١-٧٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ ﴾ [ النحل : ٦٦ ] إلى أن قال :﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ ﴾ [ النحل : ٨٠ ]، وقال تعالى :﴿ الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [ غافر : ٧٩ ]، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله ﴾ أي من الثمار والزروع والأنعام فكلها خلقها الله وجعلها رزقاً لكم ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ﴾ أي طريقه وأوامره كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله أي من الثمار والزروع افتراء على الله، ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ ﴾ أي إن الشيطان أيها الناس لكم ﴿ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي بين ظاهر العداوة كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً ﴾ [ فاطر : ٦ ]، وقال تعالى :﴿ يابني ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة ﴾ [ الأعراف : ٢٧ ] الآية، وقال تعالى :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ [ الكهف : ٥٠ ] والآيات في هذا كثيرة في القرآن.
802
هذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام فيما كانوا حرموا من الأنعام، وجعلوها أجزاء وأنواعاً بحيرة وسائبة ووصيلة وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار، فبين تعالى أنه أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً، ثم بين أصناف الأنعام، وأنه تعالى لم يحرم شيئاً من ذلك ولا شيئاً من أولادها بل كلها مخلوقة لبني آدم أكلاً وركوباً وحمولة وحلباً وغير ذلك من وجوه المنافع، كما قال :﴿ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ [ الزمر : ٦ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين ﴾ رد عليهم في قولهم :﴿ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا ﴾ [ الأنعام : ١٣٩ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي أخبروني عن يقين كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، قال ابن عباس : يقول لم أحرم شيئاً من ذلك، ﴿ أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين ﴾ يعني هل يشتمل الرحم إلاّ على ذكر أو أنثى فلم تحرمون بعضاً وتحلون بعضاً؟ ﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يقول تعالى : كله حلال، وقوله تعالى :﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا ﴾ تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله من تحريم ما حرموه من ذلك، ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي لا أحد أظلم منه، ﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾ وأول من دخل في هذه الآية ( عمرو بن لحي بن قمعة ) لأنه أول من غيّر دين الأنبياء، وأول من سيّب السوائب ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح.
يقول تعالى آمراً عبده ورسوله ﷺ :﴿ قُل ﴾ يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، ﴿ لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ﴾ أي آكل يأكله، قيل : معناه لا أجد شيئاً مما حرمتم حراماً سوى هذه، وقيل : معناه لا أجد من الحيوانات شيئاً حراماً سوى هذه، وقال ابن عباس :﴿ أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ﴾ يعني المهراق، وقال عكرمة : لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العروق كما تتبعه اليهود، وقال حماد : إنما نهى الله عن الدم المسفوح، وقال قتادة : حرم من الدماء ما كان مسفوحاً، فأما اللحم خالطه الدم فلا بأس به، عن عائشة رضي الله عنها : أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأساً والحمرة والدم يكونان على القدر بأساً، وقرأت هذه الآية. وقال الحميدي عن عمرو بن دينار قال، قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله ﷺ نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال : قد كان يقول ذلك ( الحكم بن عمرو ) عن رسول الله ﷺ ولكن أبى ذلك البحر يعني ( ابن عباس ) وقرأ :﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ﴾ الآية، وعن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وقرأ هذه الآية :﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ﴾ الآية. روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال :« ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقالت يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة، قال :» فلم لا أخذتم مسكها « قالت : نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله ﷺ :» إنما قال الله :﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ﴾ وإنكم لا تطعمونه، أن تدبغوه فتنتفعوا به «، فأرسلت فسلخت مسكها، فدبغته، فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها » وقال سعيد بن منصور عن نميلة الفزاريُّ قال : كنت عند ابن عمر، فسأله رجل عن أكل القنفذ فقرأ عليه :﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ﴾ الآية، فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذكر عند النبي ﷺ فقال :« خبيث من الخبائث »، فقال ابن عمر : إن كان النبي ﷺ قاله فهو كما قال.
804
وقوله تعالى :﴿ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ أي فمن اضطر إلى أكل شيء مما حرم الله في هذه الآية الكريمة وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان، ﴿ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي غفور له رحيم به، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية، والغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم، وإنما حرم ما ذكر في هذه الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وما عدا ذلك فلم يحرم، وإنما هو عفو مسكوت عنه، فكيف تزعمون أنتم أنه حرام ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخرى فيما بعد هذا، كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير على المشهور من مذاهب العلماء.
805
يقول تعالى : وحرمنا على اليهود كل ذي ظفر، وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط، قال ابن عباس : هو البعير والنعامة، وقال سعيد بن جبير : هو الذي ليس منفرج الأصابع، وفي رواية عنه : كل متفرق الأصابع، ومنه الديك، وقال مجاهد ﴿ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ قال : النعامة والبعير شقاً شقاً. قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثته ما شقاً شقاً؟ قال : كل ما لا ينفرج من قوائم البهائم، قال : وما انفرج أكلته، قال : انفرجت قوائم البهائم والعصافير، قال : فيهود تأكله، قال : ولم تتفرج قائمة البعير - خفه - ولا خف النعامة ولا قائمة الوز، فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعامة ولا الوز، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته، ولا تأكل حمار الوحش، وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ ﴾ قال السدي : يعني الترب وشحم الكليتين، وكانت اليهود تقول : إن حرمه إسرائيل فنحن نحرمه، وكذا قال ابن زيد، وقال قتادة الثرب وكل شحم كان كذلك ليس في عظم، وقال ابن عباس :﴿ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ﴾ يعني ما علق بالظهر من الشحوم، وقال السدي : الألية مما حملت ظهورهما، وقوله تعالى :﴿ أَوِ الحوايآ ﴾ الحوايا جمع واحدها حاوياء وحاوية وحوية، وهو ما تحوي من البطن، وهي المباعر، وتسمى المرابض، وفيها الأمعاء، ومعنى الكلام : ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما وما حملت الحوايا. قال ابن عباس ومجاهد : الحوايا المبعر والمربض. وقوله تعالى :﴿ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ﴾ يعني إلاّ ما اختلط من الشحوم بعظم فقد أحللناه لهم، وقال ابن جريج : شحم الألية ما اختلط بالعصعص، فهو حلال، وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين، وما اختلط بعظم فهو حلال ونحوه قاله السدي.
وقوله تعالى :﴿ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ﴾ أي هذا التضييق إنما فعلناه بهم وألزمناهم به مجازاة على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا، كما قال تعالى :﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٦٠ ]، وقوله :﴿ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ أي وإنا لعادلون فيما جازيناهم به، وقال ابن جرير : وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم، لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه، والله أعلم. وقال عبد الله بن عباس : بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سمرة باع خمراً، فقال : قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله ﷺ قال :« لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها » ؟ أخرجاه. وعن جابر بن عبد الله قال :« سمعت رسول الله ﷺ يقول عام الفتح :» إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام «، فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود وتطلى بها السفن ويستصبح بها الناس؟ فقال :» لا، هو حرام «
806
ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك :« قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومهما جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه »، وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها »، وقال ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كان قاعداً خلف المقام فرفع بصره إلى السماء فقال :« لعن الله اليهود - ثلاثاً - إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها وإن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلاّ حرم عليهم ثمنه » وقال الإمام أحمد عن ابن عباس قال :« كان رسول الله ﷺ قاعداً في المسجد مستقبلاً الحجر، فنظر إلى السماء فضحك فقال :» لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه « ».
807
يقول تعالى : فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم فقل :﴿ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتباع رسوله، ﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين ﴾ ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين، وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين ( الترغيب والترهيب ) في القرآن كما قال تعالى في آخر هذه السورة :﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ]، وقال :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب ﴾ [ الرعد : ٦ ] وقال تعالى :﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم ﴾ [ الحجر : ٤٩-٥٠ ]، وقال تعالى :﴿ غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ﴾ [ غافر : ٣ ]، وقال :﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغفور الودود ﴾ [ البروج : ١٢-١٤ ] والآيات في هذا كثيرة جداً.
هذه مناظرة ذكرها الله تعالى، وشبهة تشبث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا، فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر، فلم يغيره ودل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا بذلك، ولهذا قالوا :﴿ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا ﴾ كما في قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٢٠ ] الآية، قال الله تعالى :﴿ كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم ﴾ أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء وهي حجة داحضة باطلة، لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام، ﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ ﴾ أي بأن الله راض عنكم فيما أنتم فيه، ﴿ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ ﴾ أي فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه، ﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن ﴾ أي الوهم والخيال والمراد بالظن ها هنا الاعتقاد الفاسد، ﴿ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ تكذبون على الله فيما ادعيتموه، وقوله تعالى :﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، يقول تعالى لنبيه ﷺ ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد ﴿ فَلِلَّهِ الحجة البالغة ﴾ أي له الحكمة التامة والحجة البالغة في هداية من هدى وإضلال من ضل ﴿ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ فكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويبغض الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض ﴾ [ يونس : ٩٩ ]، وقال :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ هود : ١١٨ ]، قال الضحاك : لا حجة لأحد عصى الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده، قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ﴾ أي أحضروا شهداءكم ﴿ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا ﴾ أي هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه، ﴿ فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾ أي لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذباً وزوراً، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ أي يشركون به ويجعلون له عديلاً.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات :﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً - إلى قوله - لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾. وقال الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن خليفة قال : سمعت ابن عباس يقول : في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب، ثم قرأ :﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ الآيات، وعن عبادة بن الصامت قال، قال رسول الله ﷺ :« » أيكم يبايعني على ثلاث « ثم تلا رسول الله ﷺ :﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ حتى فرغ من الآيات.. » فمن أوفى فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه « يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد ﷺ قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم، وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم ﴿ قُلْ ﴾ لهم ﴿ تَعَالَوْاْ ﴾ أي هلموا وأقبلوا ﴿ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ أي أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقاً لا تخرصاً ولا ظناً، بل وحياً منه وأمراً من عنده ﴿ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق وتقديره : وأوصاكم ﴿ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ ولهذا قال في آخر الآية :﴿ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :»
أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً من أمتك دخل الجنة، قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق، قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق، قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق، وإن شرب الخمر « ؛ وفي بعض الروايات أنه ﷺ قال في الثالثة :» وإن رغم أنف أبي ذر «، فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث :» وإن رغم أنف أبي ذر «، وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر قال، قال رسول الله ﷺ يقول تعالى :» يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئاً، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك «
810
، ولهذا شاهد في القرآن قال الله تعالى :﴿ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ٤٨، ١١٦ ]، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود :« من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ». والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وعن عبادة بن الصامت قال : أوصانا رسول الله ﷺ بسبع خصال :« ألا تشركوا بالله شيئاً وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم »، وقوله تعالى :﴿ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ أي أوصاكم وأمركم بالوالدين إحساناً أي أن تحسنوا إليهم، كما قال تعالى :﴿ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ]، والله تعالى كثيراً ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين كما قال :﴿ أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير ﴾ [ لقمان : ١٤ ]، فأمر بالإحسان إليهما وإن كانا مشركين بحسبهما، وقال تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ [ البقرة : ٨٣ ] والآيات في هذا كثيرة.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله ﷺ : أي العمل أفضل؟ قال :« الصلاة على وقتها » قلت : ثم أيّ؟ قال :« بر الوالدين » قلت : ثم أيّ؟ قال :« الجهاد في سبيل الله »، قال ابن مسعود : حدثني بهن رسول الله ﷺ ولو استزدته لزادني. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ لما أوصى تعالى بالوالدين والأجداد، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد فقال تعالى :﴿ وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ ﴾، وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سولت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يئدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله ﷺ :« أي الذنب أعظم؟ قال :» أن تجعل لله نداً وهو خلقك « قلت : ثم أي؟ قال :» أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك «، قلت : ثم أي؟ قال :» أن تزاني حليلة جارك « ثم تلا رسول الله ﷺ :﴿ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ ﴾ [ الفرقان : ٦٨ ] » الآية. وقوله تعالى :﴿ مِّنْ إمْلاَقٍ ﴾، قال ابن عباس : هو الفقر أي ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل، وقال في سورة الإسراء :﴿ وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ ﴾ أي لا تقتلوهم خوفاً من الفقر في الآجل، ولهذا قال هناك :﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ﴾ [ الإسراء : ٣١ ] فبدأ برزقهم للاهتمام بهم أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله وأما هنا فلما كان الفقر حاصلاً قال :﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ لأنه الأهم هاهنا والله أعلم.
811
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾، كقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ]. قد تقدم تفسيرها في قوله تعالى :﴿ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٠ ] وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ « لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ».
وفي الصحيحين « قال سعد بن عبادة لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال :» أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن «، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ﴾، وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيداً وإلاّ فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :» لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث : الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة «، وفي لفظ لمسلم :» والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم « وذكره، وروى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال :» لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال زان محصن يرجم، ورجل قتل متعمداً فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام وحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض « وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو محصور : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» لا يحل دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل بغير نفس « فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلاً منه بعد إذ هداني الله، ولا قتلت نفساً، فبم تقتلوني؟ وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهد وهو المستأمن من أهل الحرب، فروى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ مرفوعاً :» من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً « وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :» من قتل معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً « وقوله :﴿ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله وأمره ونهيه.
812
عن ابن عباس قال لما أنزل الله :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ و ﴿ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً ﴾ [ النساء : ١٠ ] الآية، انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ] قال : فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وقوله تعالى :﴿ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾، قال الشعبي ومالك : يعني حتى يحتلم، وقال السدي : حتى يبلغ ثلاثين سنة، وقيل : أربعون سنة، وقوله تعالى :﴿ وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط ﴾ يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء كما توعد على تركه في قوله تعالى :﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [ المطففين : ١-٣ ] وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان، وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي عن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ لأصحاب الكيل والميزان :« إنكم وليتم أمراً هلكت فيه الأمم السابقة قبلكم » وقد رواه ابن مردويه في تفسيره، عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ :« إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين بها هلكت القرون المتقدمة : المكيال، والميزان » وقوله تبارك وتعالى :﴿ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه. وقوله :﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى ﴾، كقوله :﴿ يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط ﴾ [ المائدة : ٨ ] الآية، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت وفي كل حال، وقوله :﴿ وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ﴾، قال ابن جرير : يقول : وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا، وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم، وتعملوا بكتابه وسنّة رسوله، وذلك هو الوفاء بعهد الله ﴿ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، يقول تعالى : هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه.
قال ابن عباس في قوله :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله، وقال الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :« خط رسول الله ﷺ خطاً بيده ثم قال :» هذا سبيل الله مستقيماً «، وخط عن يمينه وشماله ثم قال :» هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه « ثم قرأ :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ » وعن جابر قال :« كنا جلوساً عند النبي ﷺ فخط خطاً هكذا أمامه فقال :» هذا سبيل الله « وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال :» هذه سبل الشيطان « ثم وضع يده في الخط الأوسط ثم تلا هذه الآية :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ » وعنه قال :« خط رسول الله ﷺ خطاً، وخط عن يمينه خطاً، وخط عن يساره خطاً، ووضع يده على الخط الأوسط، وتلا هذه الآية :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه ﴾ » قال ابن جرير عن أبان بن عثمان أن رجلاً قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم؟ قال تركنا محمد ﷺ في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، ثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ الآية، وعن النواس بن سمعان عن رسول الله ﷺ قال :« ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس هلم أدخلوا الصراط المستقيم جميعاً، ولا تفرقوا وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم » وقوله تعالى :﴿ فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل ﴾ إنما وحد سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها كما قال تعالى :﴿ الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، وقال ابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال، قال رسول الله ﷺ :« » أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث «، ثم تلا :﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] حتى فرغ من ثلاث آيات، ثم قال :» ومن وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه « ».
لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله :﴿ وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] عطف بمدح التوراة ورسولها، فقال :﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب ﴾ وكثيراً ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة كقوله تعالى :﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً ﴾ [ الأحقاف : ١٢ ].
وقال تعالى مخبراً عن المشركين :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى ﴾ [ القصص : ٤٨ ].
وقال تعالى مخبراً عن الجن :﴿ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يهدي إِلَى الحق ﴾ [ الأحقاف : ٣٠ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً ﴾ أي آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تماماً كاملاً جامعاً لما يحتاج إليه في شريعته، كقوله :﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ الأعراف : ١٤٥ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ عَلَى الذي أَحْسَنَ ﴾ أي جزاء على إحسانه في العمل وقيامة بأوامرنا وطاعتنا، كقوله :﴿ هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ﴾ [ الرحمن : ٦٠ ]، وكقوله :﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ٢٤ ].
وقال الربيع بن أنس ﴿ تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ ﴾ يقول : أحسن فيما أعطاه الله، وقال قتادة : من أحسن في الدنيا تم له ذلك في الآخرة، واختار ابن جرير أن تقديره :﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً ﴾ على إحسانه، فكأنه جعل الذي مصدرية، كما قيل في قوله تعالى :﴿ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا ﴾ [ التوبة : ٦٩ ] أي كخوضهم، وقال ابن رواحة :
وثبت الله ما آتاك من حسن في المرسلين ونصراً كالذي نصروا
وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى الذين، وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرؤها :﴿ تماماً على الذين أحسنوا ﴾، وقال مجاهد : تماماً على الذي أحسن : على المؤمنين والمحسنين.
وقال البغوي : المحسنون الأنبياء والمؤمنون، يعني أظهرنا فضله عليهم.
قلت : كقوله تعالى :﴿ قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي ﴾ [ الأعراف : ١٤٤ ] ولا يلزم اصطفاؤه على محمد ﷺ خاتم الأنبياء والخليل عليهما السلام لأدلة أخرى. وقوله تعالى :﴿ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ﴾ فيه مدح لكتابه الذي أنزله الله عليه ﴿ لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه، ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة لأنه حبل الله المتين.
قال ابن جرير : معناه وهذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا ﴿ إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا ﴾ يعني لينقطع عذركم كقوله تعالى :﴿ ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ ﴾ [ القصص : ٤٧ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا ﴾ قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى، وقوله :﴿ وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾ أي وما كنا نفهم ما يقولون لأنهم ليسوا بلساننا ونحن في غفلة وشغل مع ذلك عما هم فيه، وقوله :﴿ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ ﴾ أي وقطعنا تعللكم أن تقولوا لو أنا نزل علينا ما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه، كقوله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم ﴾ [ فاطر : ٤٢ ] الآية، وهكذا قال هاهنا :﴿ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ يقول : فقد جاءكم من الله على لسان محمد ﷺ النبي العربي قرآن عظيم، فيه بيان للحلال والحرام، وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه، وقوله تعالى :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ أي لم ينتفع بما جاء به الرسول ولا اتبع ما أرسل به ولا ترك غيره، بل صدف عن اتباع آيات الله أي صرف الناس وصدهم عن ذلك، قاله السدي، وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة : وصدف عنها أعرض عنها، وقول السدي هاهنا فيه قوة، لأنه قال :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ كما تقدم في أول السورة، ﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ ﴾ [ الأنعام : ٢٦ ]، وقال تعالى :﴿ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب ﴾ [ النحل : ٨٨ ] وقال في هذه الآية الكريمة :﴿ سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سواء العذاب بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ﴾، وقد يكون المراد فيما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾ أي لا آمن بها، ولا عمل بها كقوله تعالى :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ولكن كَذَّبَ وتولى ﴾ [ القيامة : ٣١-٣٢ ] وغير ذلك من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه وترك العمل بجوارحه، ولكن كلام السدي أقوى وأظهر، والله أعلم.
يقول تعالى متوعداً للكافرين والمخالفين لرسله والمكذبين بآياته والصادين عن سبيله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ﴾، وذلك كائن يوم القيامة ﴿ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا ﴾ وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها، حين يرون شيئاً من أشراط الساعة، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها »، فذلك حين ﴿ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ ﴾، وفي رواية :« لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل »، ثم قرأ هذه الآية. وقد ورد هذا الحديث من طرق أخر عن أبي هريرة، وقال ابن جرير عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً : طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض »، وقال ابن جرير عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت آمن الناس كلهم وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ».
( حديث آخر ) : عن أبي ذر الغفاري قال، قال رسول الله ﷺ :« » أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟ « قلت لا أدري، قال :» إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها ارجعي فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها ارجعي من حيث جئت، وذلك حين ﴿ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ ﴾ « ( حديث آخر ) : عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال أشرف علينا رسول الله ﷺ من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال رسول الله ﷺ :» لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغاربها، والدخان والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم، وخروج الدجال، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق، أو تحشر الناس، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا « ( حديث آخر ) : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ :» ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا ﴾ - قال طلوع الشمس من مغربها «
817
، وفي لفظ :« إن أول الآيات طلوع الشمس من مغربها »، وفي حديث صفوان بن عسال سمعت رسول الله ﷺ يقول :« إن الله فتح باباً قبل المغرب عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه ».
( حديث آخر ) : عن عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين قال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد يرده إلى مالك بن يخامر عن ابن السعدي أن رسول الله ﷺ قال :« لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل » فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص، إن رسول الله ﷺ قال :« إن الهجرة خصلتان إحداهما تهجر السيئات، والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل » فقوله تعالى :﴿ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ ﴾ أي إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك، فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحاً فأحدث توبة حينئذٍ لم تقبل منه توبته، كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة، وعليه يحمل قوله تعالى :﴿ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً ﴾ أي ولا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملاً به قبل ذلك، وقوله تعالى :﴿ قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ تهديد شديد للكافرين ووعيد أكيد لمن سوَّف إيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك، وإنما كان هذا الحكم عند طلوع الشمس من مغربها لاقتراب الساعة وظهور أشراطها كما قال :﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴾ [ محمد : ١٨ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٤-٨٥ ] الآية.
818
نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى، وقال ابن عباس : إن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد ﷺ فتفرقوا، فلما بعث محمد ﷺ أنزل الله عليه :﴿ نَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ الآية، قوله ﴿ وَكَانُواْ شِيَعاً ﴾ قال : هم الخوارج، وقيل : هم أصحاب البدع، والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه ﴿ وَكَانُواْ شِيَعاً ﴾ أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رسول الله ﷺ مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ [ الشورى : ١٣ ] الآية. وفي الحديث :« نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد »، فهذا هو الصراط المستقيم وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء والرسل برآء منها كما قال الله تعالى :﴿ لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة ﴾ [ الحج : ١٧ ] الآية، ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة فقال تعالى :﴿ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا... ﴾.
وهذه الآية الكريمة مفصلة لما أجمل في الآية الأخرى وهي قوله :﴿ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ [ النمل : ٨٩، القصص : ٨٤ ]، وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الآية، كما قال الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى :« إن ربكم عزَّ وجلَّ رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله عزَّ وجلَّ، ولا يهلك على الله إلاّ هالك » وقال أحمد أيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« يقول الله عزَّ وجلَّ من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن عمل سيئة فجزاؤه مثلها أو أغفر، ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً، ومن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة » وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة »، واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام : تارة يتركها لله، فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى وهذا عمل ونية، ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح، فإنما تركها من جرائي أي من أجلي، وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها فهذا لا له ولا عليه لأنه لم ينو خيراً ولا فعل شراً، وتارة يتركها عجزاً وكسلاً عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها، فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال :« » إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار « قالوا : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال :» إنه كان حريصاً على قتل صاحبه « ».
وعن خريم بن فاتك الأسدي أن النبي ﷺ قال :« إن الناس أربعة والأعمال ستة. فالناس موسع له في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة، والأعمال موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف وسبعمائة ضعف، فالموجبتان من مات مسلماً مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً وجبت له الجنة، ومن مات كافراً وجبت له النار، ومن هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة كانت عليه بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله عزَّ وجلَّ كانت بسبعمائة ضعف »
820
، وقال ابن أبي حاتم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال :« يحضر الجمعة ثلاثة نفر : رجل حضرها بلغو فهو حظه منها، ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهو كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك لأن الله عزَّ وجلَّ يقول :﴿ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ » وقال الحافظ الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال، قال رسول الله ﷺ :« الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك لأن الله تعالى قال :﴿ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ » والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً وفيما ذكر كفاية إن شاء الله وبه الثقة.
821
يقول تعالى آمراً نبيه سيد ﷺ المرسلين أن يخبر بما أنعم به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ﴿ دِيناً قِيَماً ﴾ أي قائماً ثابتاً ﴿ مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾، كقوله :﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ [ البقرة : ١٣٠ ]، وقوله :﴿ وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الحج : ٧٨ ]، وقوله :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ النحل : ١٢٠-١٢١ ]، وليس يلزمه من كونه ﷺ أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها لأنه عليه السلام قام بها قياماً عظيماً، وأكملت له إكمالاً تاماً لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال، ولهذا كان خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق، وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل عليه السلام. وقد كان رسول الله ﷺ إذا أصبح قال :« أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين »، وقال الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :« قيل لرسول الله ﷺ أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال :» الحنيفية السمحة « ».
وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى :﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر ﴾ [ الكوثر : ٢ ] أي أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى، قال مجاهد : النسك : الذبح في الحج والعمرة، وقال سعيد بن جبير ﴿ وَنُسُكِي ﴾ قال : ذبحي، وكذا قال السدي والضحاك، وعن جابر بن عبد الله قال : ضحّى رسول الله ﷺ في يوم عيد النحر بكبشين، وقال حين ذبحهما :« وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين » وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين ﴾ قال قتادة : أي من هذه الأمة، وهو كما قال : فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام، وأصله عبادة الله وحده لا شريك له، وقد أخبرنا تعالى عن نوح أنه قال لقومه :
822
﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين ﴾ [ يونس : ٧٢ ]، وقال تعالى :﴿ يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٢ ]، وقال يوسف عليه السلام :﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين ﴾ [ يوسف : ١٠١ ]، وقال موسى :﴿ ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ [ يونس : ٨٤ ].
وقال تعالى :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] الآية وقال تعالى :﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ [ المائدة : ١١١ ]، فأخبر تعالى أنه بعث رسله بالإسلام ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة، التي ينسخ بعضها بعضاً إلى أن نسخت بشريعة محمد ﷺ التي لا تنسخ أبد الآبدين، ولا تزال قائمة منصورة وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة، ولهذا قال عليه السلام :« نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد » فإن أولاد العلات هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتى، فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات وقد قال الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ كان إذا كبر استفتح ثم قال :« وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين » إلى آخر الآية :« اللهم أنت الملك لا إله إلاّ أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً لا يغفر الذنوب إلاّ أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلاّ أنت، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك »، ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد.
823
يقول تعالى :﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه ﴿ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً ﴾ أي أطلب رباً سواه، ﴿ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يربيني ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري، أي لا أتوكل إلاّ عليه ولا أنيب إلاّ إليه لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر، ففي هذه الآية الأمر بإخلاص التوكل كما تضمنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً في القرآن كقوله تعالى مرشداً لعباده أن يقولوا له :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : ٥ ]، وقوله :﴿ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [ هود : ١٢٣ ]، وقوله :﴿ قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [ الملك : ٢٩ ]، وقوله :﴿ رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً ﴾ [ المزمل : ٩ ] وأشباه ذلك من الآيات. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد، وهذا من عدله تعالى كما قال :﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى ﴾ [ فاطر : ١٨ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ﴾ [ طه : ١١٢ ] قال علماء التفسير أي فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ولا يهضم بأن ينقص من حسناته، وقال تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين ﴾ [ المدثر : ٣٨-٣٩ ] معناه كل نفس مرتهنة بعملها السيىء إلاّ أصحاب اليمين فإنه قد يعود بركة أعمالهم الصالحة على ذرياتهم وقراباتهم كما قال في سورة الطور :﴿ والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ [ الآية : ٢١ ] أي ألحقنا بهم ذريتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال، بل في أصل الإيمان، وما ألتناهم أي نقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئاً حتى ساويناهم، وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة، بل رفعهم تعالى إلى منزلة الآباء ببركة أعمالهم بفضله ومنته، ثم قال :﴿ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ﴾ [ الطور : ٢١ ] أي من شر، وقوله :﴿ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ أي اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه، فستعرضون ونعرض عليه، وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم، وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا كقوله :﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق وَهُوَ الفتاح العليم ﴾ [ سبأ : ٢٥-٢٦ ].
يقول تعالى :﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض ﴾ أي جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ ﴾ [ الزخرف : ٦٠ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض ﴾ [ النمل : ٦٢ ]، وقوله :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ﴾ [ البقرة : ٣٠ ]، وقوله :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٩ ]، وقوله :﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾، أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان، وله الحكمة في ذلك، كقوله تعالى :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ]، وقوله :﴿ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٢١ ]، وقوله تعالى :﴿ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ ﴾ أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به ليختبر الغني في غناه، ويسأله عن شكره، والفقير في فقره ويسأله عن صبره. وفي صحيح مسلم قال رسول الله ﷺ :« إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء » وقوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ترهيب وترغيب أن حسابه وعقابه سريع فيمن عصاه وخالف رسله، ﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ لمن والاه واتبع رسله فيما جاءوا به من خبر وطلب. وقال محمد بن إسحاق : ليرحم العباد على ما فيهم. وكثيراً ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين، كقوله :﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم ﴾ [ الحجر : ٤٩-٥٠ ] إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب. فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهما لينجع في كل بحسبه، جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر، وترك ما عنه نهى وزجر، وصدقه فيما أخبر، إنه قريب مجيب سميع الدعاء، جواد كريم وهاب. وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً أن رسول الله ﷺ قال :« لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من الجنة. خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه، يتراحمون بها وعند الله تسعة وتسعون »، وعنه أيضاً قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ».
Icon