ﰡ
مكية
وآياتها خمس وستون ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣)شرح الكلمات:
الحمد٢: الثناء باللسان على المحمود بصفات الجمال والجلال.
خلق: أنشأ وأوجد.
يعدلون: يسوون به غيره فيعبدونه معه.
الأجل: الوقت المحدد لعمل ما من الأعمال يتم فيه أو ينتهي فيه، والأجل الأول أجل كل إنسان، والثاني أجل الدنيا.
تمترون: تشكُّون في البعث الآخر والجزاء: كما تشكون في وجوب توحيده بعبادته وحده دون غيره.
وهو الله في السموات: أي معبود في السموات وفي الأرض.
٢ الحمد لله: تفيد استغراق المحامد لله تعالى إذ ال للاستغراق واللاّم للاستحقاق فجميع المحامد مستحقة لله تعالى، والقصر في الحمد لله قصر إضافي دال على إبطال حمد المشركين لآلهتهم الباطلة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى بأنه المستحق للحمد كله وهو الوصف بالجلال والجمال والثناء بهما عليه وضمن ذلك يأمر عباده أن يحمدوه كأنما قال قولوا الحمد لله، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره فقال: ﴿الذي خلق السموات١ والأرض٢ وجعل الظلمات والنور﴾ فالذي أوجد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات وجعل الظلمات٣ والنور وهما من أقوى عناصر الحياة هو المستحق للحمد والثناء لا غيره ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناماً وأوثاناً ومخلوقات فيعبدونها معه يا للعجب!!
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١) أما الآية الثانية (٢) فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخاً لهم على جهلهم مندداً بباطلهم فيقول: ﴿هو الذي خلقكم من٤ طين﴾ لأن آدم أباهم خلقه من طين ثم تناسلوا منه فباعتبار أصلهم هم مخلوقون من طين ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين، ثم قضى لكلٍ أجلاً وهو عمره المحدد له وقضى أجل الحياة كلها الذي تنتهي فيه وهو مسمى عنده معروف له لا يعرفه غيره ولا يطلع عليه سواه ولحكم عالية أخفاه، ثم أنتم أيها المشركون الجهلة تشكُّون في وجوب توحيده، وقدرته على إحيائكم بعد موتكم٥ لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم خيره وشره، حسنه وسيئه، وفي الآية الثالثة (٣) يخبر تعالى أنه هو الله المعبود بحق في السموات٦ وفي الأرض لا إله غيره ولا رب سواه ﴿يعلم
٢ الأرض: اسم جنس، فالمراد بالأرض: الأرضون السبع كالنور اسم جنس والمراد به كل نور.
٣ من رشاقة الكلم جعل خلق للأجسام وجعل للأعراض في قوله: ﴿خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور﴾.
٤ قال القرطبي هل في هذه الآية دليل على أنّ الجواهر من جنس واحد؟ الجواب: نعم لأنّه إذا جاز أن ينقلب الطين إنساناً حياً قادراً عليماً جاز أن ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر إذ صح انقلاب الجماد إلى حيوان بدلالة هذه الآية.
٥ ذكره تعالى أصل خلق الناس من طين فيه إشارة إلى الردّ على منكري البعث المحتجين على عدم إمكان الحياة الآخرة بكونهم بعد الموت يصيرون ترابا، وجهلوا أن صيرورتهم إلى تراب هو دليل إعادتهم إلى خلقهم من جديد إذ عادوا إلى أصل خلقهم ليعودوا إلى حياة أكمل من حياتهم الأولى.
٦ قال القرطبي في تفسير هذه الآية: ﴿وهو الله في السموات وفي الأرض﴾ أي: وهو الله المعظّم والمعبود في السموات وفي الأرض كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حكمه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله.
٢- لا يصح حمد أحد بدون ما يوجد لديه من صفات الكمال ما يحمد عليه.
٣- التعجب من حال من يسوون المخلوقات بالخالق عز وجل في العبادة.
٤- التعجب من حال من يرى عجائب صنع الله ومظاهر قدرته ثم ينكر البعث والحياة الآخرة.
٥- صفة العلم لله تعالى وأنه تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم السر وأخفى.
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيات رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (٥) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦)
من آية: المراد بالآية هنا آيات القرآن الكريم الدالة على توحيد الله تعالى والإيمان برسوله ولقائه يوم القيامة.
معرضين: غير ملتفتين إليها ولا مفكرين فيها.
الحق: الحق هنا هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به من الدين الحق.
أنباء: أخبار ما كانوا به يستهزئون وهو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
من قرن: أي أهل قرن من الأمم السابقة، والقرن مائة سنة.
مكنا لهم في الأرض: أعطيناهم من القوة المادية ما لم نعط هؤلاء المشركين.
مدراراً: مطراً متواصلاً غزيراً.
بذنوبهم: أي بسبب ذنوبهم وهي معصية الله ورسله.
وأنشأنا: خلقنا بعد إهلاك الأولين أهل قرن آخرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أولئك الذين يعدلون بربهم غيره من مخلوقاته فيقول تعالى عنهم: وما تأتيهم١ من آية من آيات ربهم التي٢ يوحيها إلى رسوله ويضمها كتابه القرآن الكريم، إلا قابلوها بالإعراض التام، وعدم الالتفات إلى ما تحمله من هدى ونور، وسبب ذلك أنهم قد كذبوا بالحق لما جاءهم وهو الرسول وما معه من الهدى، وبناء على ذلك ﴿فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون﴾ وقد استهزأوا بالوعيد وسينزل بهم العذاب الذي كذبوا به واستهزأوا، وأول عذاب نزل بهم هزيمتهم يوم بدر، ثم القحط سبع سنين، ومن مات منهم على الشرك فسوف يعذب في نار جهنم أبداً، ويقال لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تستهزئون وقوله تعالى: ﴿ألم يروا كم أهلكنا من٣ قبلهم من قرن﴾ أي كثيراً من أهل القرون
٢ وجائز أن يراد بالآية أيضاً المعجزة كانشقاق القمر ونحوها.
٣ القرد: الأمّة من الناس، وا لجمع: قرون قال الشاعر:
إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم | وخُلِّفْتَ في قرن فأنت غريب. |
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- التكذيب بالحق هو سبب الإعراض عنه فلو آمنوا به لأقبلوا عليه.
٢- الاستهزاء والسخرية بالدين من موجبات العذاب وقرب وقوعه.
٣- العبرة بهلاك الماضين، ومصارع الظالمين.
٤- هلاك الأمم كان بسبب ذنوبهم، فما من مصيبة إلا بذنب٣.
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (٧) وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (١٠)
إذا سقط السماء بأرض قوم | رعيناها وإن كانوا غضابا |
٣ شاهده من القرآن الكريم: قول تعالى: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾.
شرح الكلمات:
قرطاساً: القرطاس: ما يكتب عليه جلداً أو كاغداً.
لمسوه بأيديهم: مسوه بأصابعهم ليتأكدوا منه.
ملك: الملك أحد الملائكة.
لقضي الأمر: أي أهلكوا وانتهت حياتهم.
لا ينظرون: لا يمهلون.
ولو جعلناه ملكاً: ولو جعلنا الرسول إليهم ملكاً لإنكارهم البشر.
لبسنا: خلطنا عليهم.
استهزىء: سخر وتهكم واستخف.
حاق بهم: نزل بهم العذاب وأحاط بهم فأهلكوا.
معنى الآيات
مازال السياق في شأن العادلين بربهم أصنامهم التي يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله يقول تعالى: ﴿ولو نزلنا عليك﴾ أيها الرسول ﴿كتاباً﴾ أي مكتوباً في ورق جلد أو كاغد ورأوه منزلاً من السماء١ ولمسوه بأيديهم ولمسوه بأصابعهم ما آمنوا ولقالوا: ﴿إن هذا إلا سحر مبين﴾. أي سحر واضح سحركم به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلا كيف ينزل الكتاب من السماء، ﴿وقالوا: لولا أنزل٢ عليه ملك﴾ أي هلا أنزل عليه، لم لا ينزل عليه ملك يساعده ويصدقه بأنه نبي الله ورسوله، فقال تعالى: ﴿ولو أنزلنا ملكاً﴾، وليس من شأن الله أن ينزل الملائكة ولو أنزل ملكاً فكذبوه لأهلكهم، إذ الملائكة لا تنزل إلا لإحقاق الحق وعليه فلو نزل ملك لقضي أمرهم بإهلاكهم وقطع دابرهم وهذا ما لا يريده الله تعالى لهم. وقوله: ﴿ثم لا ينظرون﴾ أي لا يمهلون ولو ساعة ليتوبوا أو يعتذروا مثلاً. وقوله تعالى: {ولو
٢ هذا اقتراح منهم حملهم عليه الكبر والعناد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الآيات بمعنى المعجزات والخوارق لا تستلزم الإيمان بل قد تكون سبباً للكفر والعناد، ولذا لم يستجب الله لقريش ولم يعط رسوله ما طالبوه به هن الآيات.
٢- إنكار رسالة البشر عام في كل الأمم وقالوا ما هذا إلا بشر مثلكم في آيات كثيرة في حين أن إرسال الملائكة لا يتم معه هدف لعدم قدرة الإنسان على التلقي عن الملائكة والتفاهم معهم، ولو أنزل الله ملكاً رسولاً لقالوا نريده بشراً مثلنا ولحصل الخلط واللبس بذلك.
٣- الاستهزاء بالرسل والدعاة سنة بشرية لا تكاد تتخلف ولذا وجب على الرسل والدعاة الصبر على ذلك.
٤- عاقبة التكذيب والاستهزاء هلاك المكذبين المستهزئين.
٥- مشروعية زيارة القبور للوقوف٤ على مصير الإنسان ومآل أمره فإن في ذلك ما يخفف شهوة
٢ في هذه الآية تعزية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتسلية له ليصبر على ما يلاقيه من قومه من سخرية واستهزاء وعناد ومكابرة.
٣ قال القرطبي: هذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار، وأقول على شرط أن يدخلوا تلك الديار باكين أو متباكين لا ضاحكين غافلين لاهين بأنواع الطعام والشراب.
٤ أخذاً من قول تعالى في الآية: ﴿قل سيروا في الأرض﴾ وشاهده من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة الصحيحة: "كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة".
قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (١٤) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
شرح الكلمات:
كتب على نفسه الرحمة: أي أوجب على نفسه رحمة خلقه.
لا ريب فيه: لا شك في مجيئه وحصوله في أجله المحدد له.
خسروا أنفسهم: حيث لوثوها بأوضار الشرك والمعاصي فلم ينتفعوا بها.
وله ما سكن في الليل والنهار: أي ما استقر فيها من ساكن ومتحرك أي له كل شيء.
ولياً: أحبه وأنصره واطلب نصرته ومحبته وولايته.
من يصرف عنه: أي من العذاب بمعنى يبعد عنه.
الفوز المبين: أي الواضح إذ النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث مع العادلين بربهم غيره من أهل الشرك فيقول تعالى لرسوله
٢ ولذا لم يعاجلهم بالعقوبة التي يقتضيها كفرهم وعنادهم، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنَّ الله لمّا خلق الخلق كتب كتاباً عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي".
٣ اللاّم: للقسم أي: وعزتي وجلالي ليجمعنكم في يوم القيامة الذي كذّبتم به وهو لا شك فيه.
٤ الاستفهام إنكاري وقدم المفعول الأول: ﴿أغير الله﴾ لأنّه هو المقصود بالإنكار.
٥ أي يرزُق ولا يُرزق كقوله تعالى: ﴿ما أريد منهم من رزق ولها أريد أن يطعمون﴾ وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير ﴿وهو يُطعم ولا يطعم﴾ بفتح العين أي إنّه يُطعم عباده بالرزق وهو لا يطعم لاستحالة احتياجه إلى الغذاء كما يحتاجه المخلوقون من عباده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عموم رحمة الله تعالى.
٢- تقرير مبدأ الشقاوة والسعادة في الأزل قبل خلق الخلق.
٣- الله رب كل شيء ومليكه.
٤- تحريم ولاية غير الله، وتحريم الشرك به تعالى.
٥- بيان الفوز الأخروي وهو النجاة من العذاب ودخول الجنة.
وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
٢ أي: من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه فأدخله جنّته بعد أن نجّاه من النار.
يمسسك: يصبك.
بضر: الضر: ما يؤلم الجسم أو النفس كالمرض والحزن.
بخير: الخير: كل ما يسعد الجسم أو الروح.
القاهر: الغالب المذل المعز.
شهادة: الشهادة: إخبار العالم بالشيء عنه بما لا يخالفه.
لأنذركم به: لأخوفكم بما فيه من وعيد الله لأهل عداوته.
إله واحد: معبود واحد لأنه رب واحد، إذ لا يعبد إلا الرب الخالق الرازق المدبر.
معنى الآيات:
ما زال السياق في توجيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقوية موقفه من أولئك العادلين بربهم المشركين به فيقول له ربه تعالى: ﴿وإن يمسسك الله بضر١ فلا كاشف له إلا هو﴾ أي إن أصابك الله بما يضرك في بدنك فلا كاشف له عنك بإنجائك منه إلا هو. ﴿وإن يمسسك بخير﴾ أي وإن يردك بخير فلا٢ راد له ﴿فهو على كل شيء قدير﴾، والخطاب وإن كان موجهاً للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه عام في كل أحد فلا كاشف للضر إلا هو، ولا راد لفضله أحد، ومع كل أحد، وقوله تعالى في الآية الثانية (١٨) ﴿وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير﴾ تقرير لربوييته المستلزمة لألوهيته فقهره لكل أحد، وسلطانه على كل أحد مع علو كلمته وعلمه بكل شيء موجب لألوهيته وطاعته وطلب ولايته، وبطلان ولاية غيره وعبادة سواه وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٩) ﴿قل الله شهيد بيني وبينكم﴾ نزلت لما قال المشركون بمكة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إئتنا بمن يشهد لك بالنبوة فإن أهل الكتاب أنكروها فأمره ربه تعالى أن يقول لهم رداً عليهم: أي شيء أكبر شهادة؟ ولما كان لا جواب لهم إلا أن يقولوا الله أمره أن يجيب به: ﴿قل الله شهيد بيني وبينكم﴾. فشهادة الله تعالى لي بالنبوة إيحاؤه إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به، وأنذر
٢ شاهده حديث ابن عباس عند الترمذي وهو صحيح إذ قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يا غلام إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفّت الصحف".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب اللجأ إلى الله تعالى دون غيره من سائر خلقه إذ لا يكشف الضر٤ إلا هو.
٢- شهادة الله تعالى لرسوله بالنبوة وما أنزل عليه من القرآن وما أعطاه من المعجزات.
٣- نذارة الرسول بلغت كل من بلغه القرآن الكريم إلى يوم الدين.
٤- تقرير مبدأ التوحيد لا إله إلا الله، ووجوب البراءة من الشرك.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (٢٤)
٢ الاستفهام للتوبيخ والتقريع مع الإنكار لشهادتهم الباطلة وذلك بتأليههم الأصنام، والأحجار جهلا وعنادا.
٣ أي من الشرك والشركاء معاً.
٤ آية (يونس) في هذا الباب عظيمة إذ قال مخاطبا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿" ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك، فإن فعلت فانك إذا من الظالمين، وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم"﴾.
الذين آتيناهم الكتاب: علماء اليهود والنصارى.
يعرفونه: يعرفون محمداً نبياً لله ورسولاً له.
افترى على الله كذباً: اختلق الكذب وزوّره في نفسه وقال.
لا يفلح الظالمون: لا ينجون من عذاب الله يوم القيامة.
أين شركاؤكم: استفهام توبيخي لهم.
تزعمون: تدعون أنهم شركاء يشفعون لكم عند الله.
وضل عنهم: غاب عنهم ولم يحضرهم ما كانوا يكذبونه.
معنى الآيات::
قوله تعالى: ﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ أي علماء اليهود والنصارى ﴿يعرفونه﴾ أي النبي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نبي الله ورسوله وأن القرآن كتاب الله أوحاه إليه يعرفونه بما ثبت من أخباره ونعوته معرفة كمعرفة أبنائهم، رد الله تعالى بهذا على العرب الذين قالوا: لو كنت نبياً لشهد لك بذلك أهل الكتاب ثم أخبر تعالى أن الذين١ خسروا أنفسهم في قضاء الله وحكمه الأزلي لا يؤمنون، وإن علموا ذلك في كتبهم وفهموه واقتنعوا به، فهذا سر عدم إيمانهم، فلن يكون إذا عدم إيمانهم حجة ودليلاً على النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن غير نبي ولا رسول هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٢٠) وفي الآية الثانية نداء الله تعالى يكلٍّ من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب بقوله ﴿ومن٢ أظلم ممن افترى على الله كذبا﴾ وهم المشركون بزعمهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله ولذا عبدوها، أو كذبوا بآياته وهم أهل الكتاب، وأخبر أن الجميع في موقفهم المعادي للتوحيد والإسلام ظالمون، وإن الظالمون لا يفلحون فحكم بخسران الجميع إلا من آمن منهم وعبد الله ووحده وكان من المسلمين وقوله تعالى في الآية الثالثة (٢٢) ﴿ويوم نحشرهم٣ جميعاً﴾ مشركين وأهل كتاب أي لا يفلحون في الدنيا ولا يوم
٢ ﴿ومن أظلم﴾ الاستفهام للنفي والتقريع أي لا أحد أعظم ظلماً ممن افترى على الله الكذب أو كذّب بآياته التي هي الآيات القرآنية والمعجزات النبوية.
٣ الظرف معمول لفعل محذوف تقديره: واذكر لقومك الوقت الذي يجري فيه الاستنطاق والاستجواب وكيف يكون موقف هؤلاء المشركين الظالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الإسلام إلا إيثار الدنيا على الآخرة.
٢- سببان في عظم الجريمة الكاذب على الله المفتري والمكذب الجاحد به وبكتاب وبنبيه.
٣- تقرير عدم فلاح الظالمين في الحياتين.
٤- الشرك لا يغفر لصاحبه إذا لم يتب منه قبل موته.
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي أذانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إذا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيات رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)
٢ وجه كذبهم: أنهم كانوا يقولون في الأصنام تشفع لنا عند الله وتقرّبنا إليه زلفى. ففي هذا الموقف غاب عنهم الكذب والافتراء وواجهوا الحقيقة المرّة كما هي.
شرح الكلمات:
أكنة: جمع كنان ما يكن فيه الشيء كالغطاء.
وقراً: ثقلاً وصمماً فهم لا يسمعون.
يجادلونك: يخاصمونك.
أساطير الأولين: جمع أسطورة: ما يكتب ويحكى من أخبار السابقين.
وينأون عنه: أي ويبعدون عنه.
بل بدا لهم: بل ظهر لهم.
إن هي إلا حياتنا: ما هي إلا حياتنا.
مبعوثين: بعد الموت أحياء كما كنا قبل أن نموت.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن أولئك العادلين بربهم المشركين به سواه فيخبر تعالى عن بعضهم فيقول ﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ حال قراءتك القرآن ولكنه لا يعيه قلبه ولا يفقه ما فيه من أسرار وحكم تجعله يعرف الحق ويؤمن به، وذلك لما جعلنا حسب سنتنا في خلقنا من أكنة١ على قلوبهم أي أغطية، ، ومن٢ وقر أي ثقل وصمم في آذانهم، فلذا هم يستمعون ولا يسمعون، ولا يفقهون وتلك الأغطية وذلك الصمم هما نتيجة ما يحملونه من بغض للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكره لما جاء به من التوحيد، ولذا فهم لو يرون كل آية مما يطالبون به من المعجزات كإحياء الموتى ونزول الملائكة عياناً لا يؤمنون بها لأنهم لا يريدون أن يؤمنوا ولذا قال تعالى:
٢ يقال: وقرت أذنه توقر وقرا، إذا صمت، والنخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير.
٢ ﴿وإن يهلكون﴾ أي: ما يهلكون فإن بمعنى: ما النافية.
٣ أي: وهم على الصراط وهي تحتهم أو وقفوا بقربها وهم يعاينونها، وجواب لو محذوف تقديره: لرأيت منظراً هائلاً ونحوه.
٤ قوله تعالى ﴿وبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل﴾ أي في دار الدنيا من الكفر والتكذيب والعناد وجائز أن يكون ظهر لهم صدق ما كانوا يعلمون أنّه حق من أمر الدين والتوحيد ولكن يخفونه في أنفسهم حتى لا يعلم ذلك إخوانهم في الكفر واتباعهم في الشرك.
٥ هذا سبب شقائهم هو إنكارهم للبعث والجزاء ومغالطة أنفسهم بأنه لا حياة إلاّ الحياة الدنيا.
من هداية الآيات:
١- بيان سنة الله تعالى في أن العبد إذا كره أحداً وأبغضه وتعالى في ذلك يصبح لا يسمع ما يقول له، ولا يفهم معنى ما يسمع منه.
٢- شر دعاة الشر من يعرض عن الهدى ويأمر بالإعراض عنه، وينهى من يقبل عليه.
٣- سبب الشر في الأرض الكفر بالله، وإنكار البعث والجزاء الآخر.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ حَتَّى إذا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (٣٢)
شرح الكلمات:
وقفوا على ربهم: جيء بهم ووقفوا على قضائه وحكمه تعالى فيهم.
بلى وربنا: أي إنه للحق والله.
خسر الذين كذبوا: أي خسروا أنفسهم في جهنم.
الساعة بغتة: ساعة: البعث ليوم القيامة وبغتة: أي فجأة.
يا حسرتنا: الحسرة: التندم والتحسر على ما فات ينادون حسرتهم زيادة في التألم والتحزن.
أوزارهم: أحمال ذنوبهم إذ الوزر الحمل الثقيل.
لعب ولهو: اللعب: العمل الذي لا يجلب درهماً للمعاش، ولا حسنة للمعاد.
واللهو:. ما يشغل الإنسان عما يعنيه مما يكسبه خيراً أو يدفع عنه ضيراً.
يقول تعالى لرسوله: ولو ترى١ إذ وقف أولئك لمنكرون للبعث القائلون ﴿إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين﴾، لو تراهم وقد حبسوا لقضاء الله وحكمه فيهم وقيل لهم وهم يشاهدون أهوال القيامة وما فيها من حساب وجزاء وعذاب ﴿أليس٢ هذا بالحق﴾ أي الذي كنتم تكذبون فيسارعون بالإجابة قائلين ﴿بلى، وربنا﴾، فيحلفون بالله تعالى تأكيداً لصحة جوابهم فيقال لهم٣: ﴿فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون﴾ لا ظلماً منا ولكن بسبب كفركم إذ الكفر منع من طاعة الله ورسوله، والنفس لا تطهر إلا على تلك الطاعة، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٠) أما الآية الثانية (٣١) فقد أعلن تعالى عن خسارة صفقة الكافرين الذين باعوا الإيمان بالكفر والتوحيد بالشرك، والطاعة بالمعاصي فقال تعالى: ﴿قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله٤﴾ أي بالحياة بعد الموت وهذا هو سبب المحنة والكارثة ﴿حتى إذا جاءتهم الساعة﴾ ساعة فناء هذه الحياة وإقبال الحياة الآخرة ﴿بغتة﴾ أي فجأة لم يكونوا يفكرون فيها لكفرهم بها، وعندئذ صاحوا بأعلى أصواتههم معلنين عن تندمهم ﴿يا حسرتنا٥ على ما فرطنا﴾ أي في صفقتنا حيث اشترينا الكفر بالإيمان والشرك بالتوحيد قال تعالى: ﴿وهم يحملون أوزارهم﴾ من الجائز أن تصور لهم أعمالهم من الكفر والشرك والظلم والشر والفساد في صورة رجل قبيح أشوه فيحملونه على ظهورهم في عرصات القيامة وقد ورد به خبر. ولذا قال تعالى: ﴿ألا ساء ما يزرون﴾ أي قبح ما يحملونه! وفي الآية (٣٢) الأخيرة يخبر تعالى مذكراً واعظاً ناصحاً فيقول يا عباد الله: ﴿وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو﴾ فانتبهوا فلا تغتروا بما فيها من ملذات فإن نعيمها إلى زوال ما شأنها إلا شأن من يلعب أو يلهو، ثم لا يحصل على طائل من لعبة٦ ولهوه، أما الدار الآخرة فإنها خير ولكن للذين يتقون الشرك والشر
٢ الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي: أليس هذا البعث كائنا موجوداً.
٣ جائز أن يكون القائل: الله تعالى، وجائز أن تكون الملائكة وهو أولى لأنهم ليسوا أهلا لأن يكلّمهم الربّ تبارك وتعالى.
٤ أي بالبعث بعد الموت والجزاء على العمل في الدنيا هذا كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" في الصحيح، إلاّ أنه لا مانع من حمل اللفظ على ظاهره لأنّ لقاء الله كائن حقاً وكيف وهو الذي يفصل بينهم في ساحة فصل القضاء.
٥ أي: يا حسرتنا احضري فهذا أوان حضورك، والحسرة: الندم الشديد، والتلهف والنداء للتندّم والتعجب من حالهم وما حلّ بهم.
٦ هي كما قال الحكيم:
ألا إنّما الدنيا كأحلام نائم | وما خير عيش لا يكون بدائم |
فأفنيتها هل أنت إلا كحالم
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير مبدأ البعث والجزاء بذكر صور ومشاهد له.
٢- قبح الذنوب وأنها أسوأ حمل يحمله صاحبها يوم القيامة.
٣- حكم الله تعالى بالخسران على من كذب بلقائه فلم يؤمن ولم يعمل صالحا.
٤- الساعة لا تأتي إلا بغتة، ولا ينافي ذلك ظهور علاماتها، لأن الزمن ما بين العلامة والعلامة لا يعرف مقداره.
٥- نصيحة القرآن للعقلاء بأن لا يغتروا بالحياة الدنيا. ويهملوا شأن الآخرة وهي خير للمتقين.
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيات اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥)
شرح الكلمات:
ليحزنك: أي لوقعك في الحزن الذي هو ألم النفس من جراء فقد ما تحب من هدايتهم أو من أجل ما تسمع منهم من كلم الباطل كتكذيبك وأذيتك.
كذبت رسل: أي كذبتهم أقوامهم وأممهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
ولا مبدل لكلمات الله: التي تحمل وعده بنصر أوليائه وإهلاك أعدائه.
من نبإ المرسلين: أي أخبارهم في دعواتهم مع أممهم.
تبتغي نفقاً: تطلب سرباً تحت الأرض.
أو سلماً في السماء: أي مصعداً تصعد به إلى السماء.
بآية: أي خارقة من خوارق العادات وهي المعجزات.
فلا تكونن من الجاهلين: أي فلا تقف موقف الجاهلين بتدبير الله في خلقه.
معنى الآيات:
هذه الآيات من تربية الله تعالى لرسوله وإرشاده لما يشد من عزمه ويزيد في ثباته على دعوة الحق التي أناط به بلاغها وبيانها فقال له تعالى: ﴿قد نعلم١ أنه﴾ أي الحال والشأن، ﴿ليحزنك الذي يقولون﴾ أي الكلام الذي يقولون لك وهو تكذيبك واتهامك بالسحر، والتقول على الله، وما إلى ذلك مما هو إساءة لك وفي الحقيقة إنهم لا يكذبونك٢ لما يعلمون من صدقك وهم يلقبونك قبل إنبائك لهم وإرسالك بالأمين ولكن الظالمين هذا شأنهم فهم يرمون الرجل بالكذب وهم يعلمون أنه صادق ويقرون هذا في مجالسهم الخاصة، ولكن كي يتوصلوا إلى تحقيق أهدافهم في الإبقاء على عاداتهم وما ألفوا من عبادة أوثانهم يقولون بألسنتهم من نسبتك إلى الكذب وهم يعلمون أنك صادق٣ غير كاذب فإذا عرفت هذا فلا تحزن لقولهم.
٢ روي أن أبا جهل وجماعة معه من رجالات قريش مرّوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا يا محمد ما نكذّبك وإنّك عندنا لصادق ولكن نكذّب ما جئت به. وهذه الآية شاهد لصحة هذه الرواية، ومعنى يكذّبونك ينسبونك إلى الكذب ويردون قولك.
٣ روى ابن اسحق وغبره أنّ الأخنس بن شريق أتى أبا جهل فقال له: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد إذ كانوا يأتون دار محمد وهو يصلي بالليل يستمعون القرآن فإذا طلع النهار تفرّقوا قال ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك نحن هذه والله لا نؤمن أبداً ولا نصدقه فقام الأخنس وتركه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ثبوت بشرية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولذا هو يحزن لفوت محبوب كما يحزن البشر لذلك.
٢- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر حتى يأتيه موعود ربه بالنصر.
٣- بيان سنة الله في الأمم السابقة.
٤- إرشاد الرب تعالى رسوله إلى خير المقامات وأكمل الحالات بإبعاده عن ساحة الجاهلين.
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ
٢ أي نفقاً كالأنفاق المعروفة اليوم تحت الأرض، والسلّم: الدرج وهو ما يرقى عليه وسمي السلم من السلامة.
٣ ولا يليق بمثلك مثله وهذا كلّه تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعزية وحمل له على الصبر وهو لكلّ داعٍ إلى الله تعالى يواجه التكذيب والتعذيب إلى يوم الدين.
٤ جائز أن يكون المعنى: من الجهل الذي هو ضد العلم، والجهل الذي هو ضد الحلم ويناسب الأوّل قوله ﴿ولو شاء الله لجمعهم على الهدى﴾ والثاني قوله: ﴿وإن كان كبر عليك إعراضهم..﴾ الآية.
شرح الكلمات:
إنما يستجيب: أي لدعوة الحق التي دعا بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيؤمن ويهتدي.
يبعثهم الله: أي يوم القيامة.
لولا نزل عليه آية: هلا أداة تحضيض لا لولا الشرطية.
آية من ربه: آية: خارقة تكون علامة على صدقه.
لا يعلمون: أي ما يترتب على إيتائها مع عدم الإيمان بعدها من هلاك ودمار.
من دابة: الدابة كل ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان.
في الكتاب: كتاب المقادير أم الكتاب اللوح المحفوظ.
صم وبكم في الظلمات: صم: لا يسمعون وبكم: لا ينطقون في الظلمات لا يبصرون.
صراط مستقيم: هو الدين الإسلامي المفضي بالآخذ به إلى سعادة الدارين.
معنى الآيات:
بعدما سلى الرب تعالى رسوله في الآيات السابقة وحمله على الصبر أعلمه هنا بحقيقة علمية تساعده على الثبات والصبر فأعلمه أن الذين يستجيبون لدعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم الذين يسمعون لأن حاسة السمع عندهم سليمة ما أصابها ما يخل بأداء وظيفتها من كره الحق
٢ من الحكمة في عدم إنزال الآية أنه لو أنزلها ما آمنوا بها، فاستوجبوا الهلاك فأهلكهم، ولكنّه يريد الإبقاء عليهم ليخرج من أصلابهم مؤمنين يعبدونه ويوحدونه.
٣ ذكر الجناحين للتأكيد من جهة، وإزالة الإبهام من جهة أخرى لأن العرب تطلق لفظ الطيران على غير الطائر فتقول للرجل، طر في حاجتي أي أسرع في قضائها وطائر الإنسان ما قسم الله له أزلاً قال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه﴾.
٤ وهذه المثلية بين الإنسان وبين دواب الأرض وطائر السماء تقتضي ألا يظلم الإنسان الحيوان ولا يؤذيه ولا يتجاوز ما أمر به نحوه، ووجه المثلية في كون كل من الإنسان والحيوان يسبح الله تعالى ويدل على قدرته وعلمه وحكمته.
٥ قيل في ﴿يحشرون﴾ أنّ حشرها الموت وهو مروي عن ابن عباس قال: موت البهائم: حشرها وروي عن مجاهد والضحاك أيضاً، وقيل حشرها: هو بعثها يوم القيامة حيّة وهذا أصح لحديث: "إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة".
هداية الآيات
من بداية الآيات:
١- الإيمان بالله ورسوله ولقائه حياة والكفر بذلك موت فالمؤمن حي والكافر ميت.
٢- سبب تأخر الآيات علم الله تعالى بأنهم لو أعطاهم الآيات ما آمنوا وبذلك يستوجبون العذاب.
٣- تعدد الأمم٢ في الأرض وتعدد أجناسها والكل خاضع لتدبير الله تعالى مربوب له.
٤- تقرير ركن القضاء والقدر وإثباته في أم الكتاب.
قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا
٢ روى ابن كثير بسنده عن الحافظ أبي يعلى عن جابر بن عبد الله أن الجراد لم يُرَفي سنة من سِني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتم لذلك فأرسل راكباً إلى كذا وآخر إلى الشام، وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء أو لا؟ قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآها كبّر ثلاثاً ثم قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "خلق الله عز وجل ألف أمّة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البرّ وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه. هذه الرواية ذكر بعض أهل العلم بطلانها.
شرح الكلمات:
أرأيتكم: أخبروني.
الساعة: يوم القيامة.
يكشف: يزيل ويبعد وينجي.
البأساء والضراء: البأساء: الشدائد من الحروب والأمراض، والضراء: الضر.
يتضرعون: يتذللون في الدعاء خاضعون.
بغتة: فجأة وعل حين غفلة.
مبلسون: آيسون قنطون متحسرون حزنون.
دابر القوم: آخرهم أي أهلكوا من أولهم إلى آخرهم.
الحمد لله: الثناء بالجميل والشكر لله دون سواه.
معنى الآيات:
مازال السياق في طلب هداية أولئك المشركين العادلين بربهم أصناماً وأحجاراً، فيقول الله تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل يا رسولنا لأولئك الذين يعدلون بنا الأصنام ﴿أرأيتكم١﴾ أي أخبروني، ﴿إن أتاكم عذاب الله﴾ اليوم انتقاماً منكم، ﴿أو أتتكم الساعة﴾ وفيها عذاب يوم القيامة، ﴿أغير الله تدعون﴾ ليقيكم العذاب ويصرفه عنكم ﴿إن كنتم صادقين﴾ في أن آلهتكم تنفع وتضره تقي السوء وتجلب الخير؟ والجواب معلوم أنكم لا تدعونها ليأسكم من إجابتها بل الله٢ وحده هو الذي تدعونه فيكشف ما تدعونه له إن شاء، وتنسون عندها ما تشركون به من الأصنام فلا تدعونها ليأسكم من إجابتها لضعفها وحقارتها.
٢ ﴿بل إيّاه تدعون﴾ بل: للإضراب، إضراب عن الأوّل وهو دعاء غير الله تعالى وإيجاب للثاني وهو دعاء الله عز وجل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- من غريب أحوال الإنسان المشرك أنه في حال الشدة الحقيقية يدعو الله وحده ولا يدعو معه الآلهة الباطلة التي كان في حال الرخاء والعافية يدعوها.
٢ يتضرعون: يدعون الله ويتذلّلون له، إذ التضرع مأخوذ من الرضاعة التي هي الذلة، يقال: ضرع إليه فهو ضارع أي: متذلل.
٣ أبواب كل شيء كان مغلقاً عنهم وهو استدراج لهم وقد تطول مدّة الاستدراج والإمهال عشرين سنة فأكثر.
٤ روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون﴾.
٥ قالوا: المبلس: هو الباهت الحزين الآيس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال قال العجاج.
يا صاح هل تعرف رسما مكرساً | قال نعم أعرفه وأبلسا |
٦ الدابر: الآخر يقال: دبر القوم يدبرهم دبراً إذا كان آخرهم. ومعناه أخذهم أجمعين إذ آخر من يؤخذ هو من كان خلف القوم وآخرهم.
٣- إذا رأيت الأمة قد فسقت عن أمر ربها ورسوله فعوقبت فلم تتعظ بالعقوبة واستمرت على فسقها وبسط الله تعالى لها في الرزق وأغدق علبها الخيرات فاعلم أنها قد استدرجت للهلاك وأنها هالكة لا محالة.
٤- شؤم الظلم هلاك الظالمين.
٥- الإرشاد إلى حمد الله تعالى عند نهاية كل عمل، وعاقبة كل أمر.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (٤٩)
شرح الكلمات:
أرأيتم: أخبروني وفي هذه الصيغة نوع من التعجب.
أخذ سمعكم وأبصاركم: أي أصمكم وأعماكم.
وختم على قلوبكم: جعلها لا تعي ولا تفهم.
نصرف الآيات: ننوع الأساليب لزيادة البيان والإيضاح.
يصدفون: يعرضون.
بغتة أو جهرة: بغتة: بدون إعلام ولا علامة سابقة، والجهرة: ما كان بإعلام وعلامة تدل عليه.
هل يهلك: أي ما يهلك.
ما زال السياق في دعوة العادلين بريهم الأصنام والأوثان إلى التوحيد فقال تعالى لنبيه يلقنه الحجج التي تبطل باطل المشركين ﴿قل أرأيتم﴾ أي أخبروني يا قوم ﴿إن أخذ الله١ سمعكم﴾ وجعلكم صماً لا تسمعون وأخذ ﴿أبصاركم﴾ فكنتم عمياً لا تبصرون ﴿وختم على قلوبكم﴾ أي طبع عليها فأصبحتم لا تعقلون ولا تفهمون. أي إله غير الله يأتيكم بالذي أخذ الله منكم؟ والجواب لا أحد، إذاً فكيف تتركون عبادة من يملك سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ويملك كل شيء فيكم وعندكم، وتعبدون مالا يملك من ذلكم من شيء؟ أي ضلال أبعد من هذا الضلال! ثم قال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿انظر﴾ يا رسولنا ﴿كيف٢ نصرف الآيات﴾.
أي ننوع أساليبها زيادة في بيانها لإظهار الحجة بها ﴿ثم هم يصدفون﴾ أي يعرضون عادلين بربهم مالا يملك نفعاً ولا ضراً ثم أمره في الآية الثانية (٤٧) أن يقول لهم وقد أقام الحجة عليهم في الآية الأولى (٤٦) قل لهم ﴿أرأيتكم﴾ أي أخبروني٣ ﴿إن أتاكم عذاب الله﴾ وقد استوجبتموه بصدوفكم عن الحق وإعراضكم عنه ﴿بغتة٤﴾ أي فجأة بدون سابق علامة، ﴿أو جهرة﴾ بعلامة تقدمته تنذركم به أخبروني من يهلك منا ومنكم؟ ﴿هل يهلك إلا القوم الظالمون﴾ ٥ بصرف العبادة إلى هن لا يستحقها وترك من وجبت له وهو الله الذي لا إله إلا هو ثم عزى الرحمن جل جلاله رسوله بقوله: ﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين٦ ومنذرين﴾ أي ما نكلفهم بغير حمل البشارة بالنجاة ودخول الجنة لمن آمن وعمل صالحاً والنذارة لمن كفر وعمل سوءاً، فقال تعالى: ﴿فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ ﴿والذين
٢ هذا التعجيب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة، أي: انظر كيف نكررها ونلونها من أسلوب إلى آخر تارة نوردها بمقدمات عقلية وأخرى بأسلوب الترغيب والترهيب، والتنبيه والتذكير.
٣ وهذا تبكيت آخر غير الأول لهم.
٤ وفُسّر بغتة وجهرة بليلا ونهارا والكل صالح وصحيح.
٥ الاستفهام في قوله: {هل يهلك..﴾ الخ للتقرير وحصر الهلاك في أهل الظلم تسجيلا عليهم الظلم وإيذاناً بأن هلاكهم كان سبب ظلمهم الذي هو وضعهم الشرك موضع التوحيد والكفر موضع الإيمان.
٦ ﴿مبشرين ومنذرين﴾ حالان مقدرتان من المرسلين أي ما نرسلهم إلاّ مقدرين تبشيرهم وإنذارهم وفيهما معنى التعليل للإرسال والتبشير: الأصل فيه الإخبار بالأمر السار، والإنذار: الإخبار بالخبر الضار دنيويا أو أخرويا. والمراد هنا لكل من البشارة والنذارة نعيم الآخرة وعذابها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- افتقار العبد إلى الله في سمعه وبصره وقلبه وفي كل حياته موجب عليه عبادة الله وحده دون سواه.
٢- هلاك الظالمين لا مناص منه عاجلاً أو آجلاً.
٣- بيان مهمة الرسل وهي البشارة لمن أطاع والنذارة من عصى والهداية والخيرات على الله تعالى.
٤- الفسق عن طاعة الله ورسوله ثمرة التكذيب، والطاعة ثمرة الإيمان.
قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ
شرح الكلمات:
خزائن: جمع خزانة أو خزينة ما يخزن فيه الشيء ويحفظ.
الغيب: ما غاب عن العيون وكان محصلاً في الصدور وهو نوعان غيب حقيقي وغيب إضافي والحقيقي مالا يعلمه إلا الله تعالى، والإضافي ما يعلمه أحد ويجهله آخر.
أنذر به: خوّف به أي بالقرآن.
الغداة: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والعشي من صلاة العصر إلى غروب الشمس.
فتطردهم: أي تبعدهم من مجلسك.
فتنا: ابتلينا بعضهم ببعض الغني بالفقير، والشريف بالوضيع.
من الله علينا: أي أعطاهم الفضل فهداهم إلى الإسلام في دوننا.
بالشاكرين: المستوجبين لفضل الله ومنته بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم.
معنى الآيات:
مازال السياق مع العادلين بربهم الأصنام المنكرين للنبوة المحمدية فأمر الله تعالي رسوله أن يقول لهم: ﴿لا أقول لكم عندي خزائن الله١﴾ أي خزائن الأرزاق ﴿ولا أعلم الغيب﴾ أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب، ﴿ولا أقول لكم إني ملك﴾ من الملائكة ما أنا إلا عبد رسول أتبع ما يوحي٢ إليّ ربي فأقول وأعمل بموجب وحيه إليّ. ثم قال له اسألهم قائلاً {هل
٢ هذا غير ناف لاجتهاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكثيرا ما يجتهد وقد يقيس على المنصوص عنه، ولكنه لا يقرّ على غير الحق وما يرضي الرب عز وجل.
٢ وأنذر به أي: بالقرآن وقيل بيوم القيامة، وكونه القرآن أولى وأصح لقوله تعالى: ﴿فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد﴾.
٣ في الآية دليل على إبطال شفاعة الأصنام لعابديها، والأولياء للمشركين ممن يذبحون لهم وينذرون كما فيها إبطال لزعم أهل الكتاب القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه فسوف يشفع لنا الأب، إذ شرط صحة الشفاعة يوم القيامة أن يأذن الله لمن يشفع وأن يرضى بنجاة المشفوع له.
٤ روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستة نفر فقال المشركون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شاء الله أن يقع فحدّث نفسه فأنزل الله عز وجل: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم... ﴾ الآية.
٥ في الآية دليل على عدم جواز تعظيم الرجل لجاهه وثوبه وعدم احتقار الرجل لخموله ورثاثة ثوبه.
٦ الفتنة: الاختبار أي: عاملناهم معاملة المختبر لهم فأغنينا بعضا وأفقرنا بعضا واللاّم في قوله تعالى: ﴿ليقولوا﴾ هي لام العاقبة أي: ليقول أغنياء وأشراف المشركين مشيرين إلى فقراء المؤمنين: أهؤلاء من الله عليهم بأن وفقهم لإصابة الحق دوننا، ونحن الرؤساء وهم العبيد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير بشرية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢- تقرير مبدأ أن الرسول لا يعلم الغيب، وأنه لا يتصرف في شيء من الكون.
٣- نفي مساواة المؤمن والكافر إذ المؤمن مبصر والكافر أعمى.
٤- استحباب مجالسة أهل الفاقة وأهل التقوى والإيمان.
٥- بيان الحكمة في وجود أغنياء وفقراء وأشراف ووضعاء، وأقوياء وضعفاء وهي الاختبار.
٦- الشاكرون مستوجبون لزيادة النعم، والكافرون مستوجبون لنقصانها وذهابها.
وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ١ رَّحِيمٌ (٥٤) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ
شرح الكلمات:
سلام عليكم: دعاء بالسلامة من كل مكروه، وهي تحية المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة في الجنة.
كتب ربكم على نفسه الرحمة: أي أوجب الرحمة على نفسه فلذا لا يعذب إلا بعد الإنذار، ويقبل توبة من تاب.
سوءاً: أي ذنباً أساء به إلى نفسه.
بجهالة: الجهالة أنواع منها: عدم تقدير عاقبة الذنب، ونسيان عظمة الرب.
تستبين: تتضح وتظهر.
نهيت: أي نهاني ربي أي زجرني عن عبادة أصنامكم.
تدعون: تعبدون.
بينة: البينة: الحجة الواضحة العقلية الموجبة للحكم بالفعل أو الترك.
إن الحكم: أي ما الحكم إلا لله.
يقص الحق: أي يخبر بالحق.
خير الفاصلين: الفصل في الشيء: القضاء والحكم فيه، والفاصل في القضية: الحاكم فيها ومنهيها.
معنى الآيات:
يرشد الله تبارك وتعالى رسوله إلى الطريقة المثلى في الدعوة إليه، بعد أن نهاه عن الطريقة التي هم بها وهي طرد المؤمنين من مجلسه ليجلس الكافرون رجاء هدايتهم فقال تعالى:
٢ أي: سلمكم الله في دينكم وأنفسكم، كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: "الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام ".
٣ كتب: بمعنى أوجب ذلك على نفسه بفضله ورحمته، وكتبه في اللوح المحفوظ فالكتابة على بابها إذاً.
٤ ﴿سوءا﴾ أي خطيئة من غير إرادة تحدي شرع الله وانتهاك حرماته وإنما ضعفاً منه وعدم قدرة على التغلب على طبعه وشهوته وميل هواه.
٥ قرىء: ﴿ليستبين﴾ بالياء والتاء فقراءة التاء يكون الخطاب فيها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي: ولتستبين يا رسولنا سبيل المجرمين، وخطاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطاب لأمته، وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين وقراءة الياء ليستبين سبيل المجرمين، فسبيل مرفوع على الفاعلية.
٦ أطلق لفظ الدعاء وأريد به العبادة، لأنّ الدعاء هو العبادة ومخها أيضاً لما في الدعاء من مظاهر العبودية لله تعالى ومظاهر أسمائه وصفاته عز وجل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم.
٢- إتباع أهواء أهل الأهواء والباطل يضل ويهلك.
٣- على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله تعالى وبتوحيده ووعده ووعيده وأحكام شرعه.
٤- وجوب الصبر والتحمل مما يلقاه الداعي من أهل الزيغ والضلال من الاقتراحات الفاسدة.
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (٥٩)
٢ إذ أكثر أمم الوصل قالوا لرسلهم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قالتها عاد لنبيها هود وقالها قوم نوح لنوح عليه السلام.
٣ أي: يقص القصص الحق، قال القرطبي بهذا استدل من منع المجاز في القرآن، وقرئ نقض بالضاد من القضاء ويدل عليه قوله بعد: ﴿وهو خير الفاصلين﴾ الفصل: القضاء والحكم.
شرح الكلمات:
مفاتح الغيب: المفاتح: جمع١ مفتح بفتح الميم أي المخزن.
البر والبحر: البر ضد البحر، وهو اليابس من الأرض، والبحر ما يغمره الماء منها.
ورقة: واحدة الورق والورق للشجر كالسعف للنخل.
حبة: واحدة الحب من ذرة أو بر أو شعير أو غيرها.
ولا رطب: الرطب ضد اليابس من كل شيء.
في كتاب مبين: أي في اللوح المحفوظ كتاب المقادير.
يتوفاكم بالليل: أي ينيمكم باستتار الأرواح وحجبها عن الحياة كالموت.
جرحتم: أي كسبتم بجوارحكم من خير وشر.
ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى: أي يوقظكم لتواصلوا العمل إلى نهاية الأجل المسمى لكل.
حفظة: الكرام الكاتبين.
رسلنا: ملك الموت وأعوانه.
لما ذكر تعالى في نهاية الآية السابقة أنه أعلم بالظالمين المستحقين للعقوبة أخبر عز وجل أن الأمر كما قال ودليل ذلك أنه عالم الغيب والشهادة، إذ ﴿عنده مفاتح الغيب١﴾ أي خزائن الغيب وهو الغيب الذي استأثر بعلمه فلا يعلمه سواه٢ ويعلم ما في البر والبحر وهذا من عالم الشهادة، إضافة إلى ذلك أن كل شيء كان أو يكون من أحداث العالم قد حواه كتاب له اسمه اللوح المحفوظ، وهو ما دل عليه قوله: ﴿وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب٣ ولا يابس إلا في كتاب مبين﴾ وما كتبه قبل وجوده فقد علمه إذاً فهو عالم الغيب والشهادة إضافة إلى ذلك أن كل شيء كان أو يكون من أحداث العالم قد حواه كتاب له اسمه اللوح المحفوظ، وهو ما دل عليه قوله: ﴿وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين﴾ وما كتبه قبل وجوده فقد علمه إذاً فهو عالم الغيب والشهادة أحصى كل شيء عدداً وأحاط بكل شيء علماً، فكيف إذاً لا يعبد ولا يرغب فيه ولا يرهب منه وأين هو في كماله وجلاله من أولئك الأموات من أصنام وأوثان. ؟؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٩) وأما الآية الثانية (٦٥) فقد قررت ما دلت عليه الآية قبلها من قدرة الله وعلمه وحكمته فقال تعالى مخبراً عن نفسه ﴿وهو الذي يتوفاكم٤ بالليل﴾ حال نومكم إذ روح النائم تقبض ما دام نائماً ثم ترسل إليه عند إرادة الله بعثه من نومه أي يقظته، وقوله ﴿ثم يبعثكم فيه﴾ أي في النهار المقابل لليل، وعلة هذا أن يقضى ويتم الأجل الذي حدده تعالى للإنسان يعيشه وهو مدة عمره طالت أو قصرت، وهو معنى قوله ﴿ثم يبعثكم فيه ليُقضى أجل مسمى﴾ وقوله تعالى ﴿ثم إليه مرجعكم﴾ لا محالة وذلك بعد نهاية الأجل، ﴿ثم ينبئكم﴾ بعلمه ﴿بما كنتم تعملون﴾ من خير وشر ويجازيكم بذلك وهو خير الفاصلين. وفي الآية الثالثة يخبر تعالى عن نفسه أيضاً تقريراً لعظيم سلطانه الموجب له بالعبادة والرغبة والرهبة إذ قال مخبراً عن نفسه ﴿وهو القاهر فوق عباده﴾، ذو القهر التام
٢ روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: ﴿قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله﴾.
٣ يطلق لفظ الرطب على الماء وما ينبت والحيّ، ولسان المؤمن، واليابس على ضد ذلك كالياس والتراب ومالا ينبت، ولسان الكافر لأنّه لا يذكر الله تعالى.
٤ التوفي: استيفاء الشيء، وتوفي الميت: استوفى عدد أيام عمره، والنائم كأنه استوفى حركاته في اليقظة، والوفاة: الموت، واستوفى دينه: أخذه كاملاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة لله تعالى.
٢- استئثار الله تعالى بعلم الغيب.
٣- كتاب المقادير حوى كل شيء حتى سقوط الورقة من الشجرة وعلم الله بذلك.
٤- صحة إطلاق الوفاة على النوم، وبهذا فسر قوله تعالى لعيسى إني متوفيك.
٥ - تقرير مبدأ المعاد والحساب والجزاء.
قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم
٢ ﴿أسرع الحاسبين﴾ أي: لا يحتاج إلى فكرة وروية ولا عقد يدٍ.
شرح الكلمات:
ينجيكم: يخلصكم مما تخافون.
تضرعاً وخفية: التضرع: الدعاء بتذلل وخفية بدون جهر بالدعاء.
من هذه: أي الهلكة.
من الشاكرين: المعترفين بفضلك الحامدين لك على فعلك.
كرب: الكرب: الشدّة الموجبة للحزن وألم الجسم والنفس.
تشركون: أي به تعالى بدعائهم أصنامهم وتقربهم إليها بالذبائح.
من فوقكم: كالصواعق ونحوها.
من تحت أرجلكم: كالزلزال والخسف ونحوها.
أو يلبسكم شيعاً: أي يخلط عليكم أمركم فتختلفون شيعاً وأحزاباً.
ويذيق بعضكم بأس بعض: أي يقتل بعضكم بعضاً فتذيق كل طائفة الأخرى ألم الحرب.
يفقهون: معاني ما نقول لهم.
وكذب به قومك: أي قريش.
الوكيل: صن يوكل إليه الشيء أو الأمر يدبره.
لكل نبأ مستقر: المستقر: موضع الاستقرار والنبأ: الخبر العظيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع المشركين العادلين بربهم فيقول الله تعالى لرسوله قل لهم: ﴿من ينجيكم من ظلمات البر١ والبحر﴾ إذا ضل أحدكم طريقه في الصحراء ودخل عليه ظلام الليل، أو
بني أسد هل تعلمون بلادنا | إذا كان يوم ذو كواكب أشنعاً |
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لا برهان أعظم على بطلان الشرك من أن المشركين يخلصون الدعاء لله تعالى في الشدة.
٢ الكرب: الغمّ يأخذ النفس ويقال فيه: رجل مكروب، والكربة مأخوذة منه.
٣ هذه الجملة تحمل لهم التقريع والتوبيخ أي: ومع هذا الإنجاء الذي يحصل لكم من ربكم إذا أنتم مشركون يا للوقاحة والدناءة، وإلاّ فهم مشركون من قبل.
٤ من فوقكم كالحجارة، والطوفان والصواعق ومن تحتكم كالخسف والرجفة.
٥ ﴿لكل نبأ﴾ أي: خبر مستقر أي وقت يقع فيه مضمونه فلا يتقدّم ولا يتأخر.
٣- التحذير من الاختلاف المفضي١ إلى الانقسام والتكتل.
٤- ﴿لكل نبأ مستقر﴾. أجري مجرى المثل، وكذا ﴿سوف تعلمون﴾.
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (٧٠)
شرح الكلمات:
يخوضون في آياتنا: يتكلمون في القرآن طعناً فيه ونقداً له ولما جاء فيه.
فأعرض عنهم: قم محتجاً على صنيعهم الباطل، غير ملتفت إليهم.
بعد الذكرى: أي بعد التذكر.
وذر الذين: أي اترك الكافرين.
لعبأ ولهوا: كونه لعباً لأنه لا يجنون منه فائدة قط، وكونه لهواً لأنهم يتلهون به وشغلهم عن الدين الحق الذي يكملهم ويسعدهم.
أن تبسل نفس: أي تسلم فتؤخذ فتحبس في جهنم.
كل عدل: العدل هنا: الفداء.
أبسلو: حبسوا في جنهم بما كسبوا من الشرك والمعاصي.
من حميم: الحميم الماء الشديد الحرارة الذي لا يطاق.
وعذاب أليم: أي شديد الألم والإيجاع وهو عذاب النار.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث مع أولئك العادلين المكذبين في! قول الله تعالى لرسوله ﴿وإذا رأيت١ الذين يخوضون في آياتنا﴾ يستهزئون بالآيات القرآنية ويسخرون مما دلت عليه من التوحيد والعذاب للكافرين ﴿فأعرض عنهم﴾ أي فصد عنهم وانصرف ﴿حتى يخوضوا في حديث غيره﴾ وإن أنساك الشيطان نهينا هذا فجلست ثم ذكرت فقم ولا تقعد مع القوم الظالمين، وقوله تعالى: ﴿وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء﴾ أي وليس على المؤمنين المتقين أنت وأصحابك يا رسولنا من تبعة ولا مسئولية ولكن إذا خاضوا في الباطل فقوموا ليكون ذلك ذكرى لهم فيكفون عن الخوض في آيات الله تعالى. وهذا كان بمكة قبل قوة الإسلام، ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله ومن جلس معهم يكون مثلهم وهو أمر عظيم قال تعالى: ﴿وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم﴾ هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة الجلوس في مجالس يسخر فيها من الإسلام وشرائعه وأحكامه وأهله.
٢- وجوب القيام احتجاجاً من أي مجلس يعصى فيه الله ورسوله.
٣- مشروعية الإعراض في حال الضعف عن المستهزئين بالإسلام الذين غرتهم الحياة الدنيا من أهل القوة والسلطان وحسب المؤمن أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم.
٢ قال القرطبي تبسل أي ترتهن وتسلم للهلكة عن مجاهد وقتادة والحسن وعكرمة والإبسال تسليم المرء للهلاك. قال الشاعر:
وابسالي بنيِّ بغير جرم | بعوناه ولا بدم مراق |
٣ العدل الفداء أو الفدية.
٥- من مات على كفره لم ينج من النار إذ لا يجد فداء ولا شفيعاً يخلصه من النار بحال.
قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
شرح الكلمات:
أندعوا:: أي نعبد.
ما لا ينفعنا ولا يضرنا: أي ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا لو أراد ذلك لنا.
ونرد على أعقابنا: أي نرجع كفاراً بعد أن كنا مؤمنين.
استهوته الشياطين: أي أضلته في الأرض فهوى فيها تائه حيران لا يدري أين يذهب.
واتقوه: أي اتقوا الله بتوحيده في عبادته وترك معصيته.
ويوم يقول كن فيكون: أي في يوم القيامة.
الصور: بوق كالقرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام.
الحكيم: في أفعاله الخبير بأحوال عباده.
يدل السياق على أن عرضا من المشركين كان لبعض المؤمنين لأن يعبدوا معهم آلهتهم فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم عرضهم الرخيص منكراً عليهم ذلك أشد الإنكار ﴿قل أندعوا من دون الله﴾، الاستفهام للإنكار، ﴿ما لا ينفعنا﴾ إن عبدناه، ﴿ولا يضرنا﴾ إن تركنا عبادته وبذلك نصبح وقد رددنا على أعقابنا١ من التوحيد إلى الشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإيمان به ومعرفته ومعرفة دينه، ويكون حالنا كحال من أضلته الشياطين في الصحراء فتاه فيها فلا يدرى أين يذهب ولا أين يجيئ، ﴿وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا﴾ وهو لا يقدر على إجابتهم ولا الإتيان إليهم لشدة ما فعل استهواء٢ الشياطين في عقله. ثم أمره أن يقول أيضاً قل إن الهدى الحق الذي لا ضلال ولا خسران فيه هدى الله الذي هدانا إليه ألا إنه الإسلام، وقد أمرنا ربنا أن نسلم٣ له قلوبنا ووجوهنا لأنه رب العالمين فأسلمنا، كما أمرنا أن نقيم الصلاة فأقمناها وأن نتقيه فاتقيناه وأعلمنا أنا سنحشر إليه يوم القيامة فصدقناه في ذلك نم هدانا فلن نرجع بعد إلى الضلالة. هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة (٧٣) فقد تضمنت تمجيد الرب بذكر مظاهر قدرته وعلمه وعدله فقال تعالى: ﴿وهو﴾ أي الله رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له فأسلمنا ﴿الذي خلق السموات والأرض بالحق٤﴾ فلم يخلقهما عبثاً وباطلاً بل خلقهما ليذكر فيهما ويشكر، ويوم يقول لما أراد إيجاده أو إعدامه أو تبديله كن فهو يكون كما أراد في قوله الحق دائماً ﴿وله الملك يوم٥ ينفخ في الصور﴾ ٦ نفخة الفناء فلا يبقى شيء إلا هو الواحد القهار فيقول جل ذكره ﴿لمن الملك اليوم﴾ فلا
٢ استهوته بمعنى استغوته وزينت له هواه ودعته إليه فهو إذا من هوى يهوى من هوى النفس وليس هو يهوى إلى الشيء إذا أسرع إليه والحيران هو الذي لا يهتدي لجهله.
٣ الآية وأمرنا لنسلم ومعناها أمرنا بأن نسلم تقول العرب أمرتك لتذهب وبأن تذهب بمعنى واحد واللامات أربع: لام الجر، لام الابتداء، لام التوكيد، ولام الأمر.
٤ قال القرطبي: ومعنى ﴿بالحق﴾ أي بكلمة الحق يعني قوله ﴿كن﴾ وهو كما قال إلا أن القول أن بالحق بمعنى بحِكْمَةٍ أي لم يخلقها لهواً أو لعباً هذا أوضح وأهم كما هو في التفسير.
٥ من أخطاء الناس قول من قال الصور جمع صورة ومعناه ينفخ في الصور فتتم الحياة وهذا يتنافى مع الأحاديث الصحاح ومع سياق الآية. إذ قال ثم نفخ فيه أخرى أي مرة أخرى ولم يقل فيها أي في الصور فأين معنى الصورة هنا؟
٦ الصور القرن والنافخ فيه إسرافيل عليه السلام والمراد بالنفخة هنا نفخة الفناء والنفخة التالية لها نفخة البعث وهناك نفخة الصعقة وهم في ساحة القضاء ونفخة رابعة وهي التي يقومون فيها لفصل القضاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- قبح الردة وسوء عاقبتها.
٢- حرمة إجابة أهل الباطل لما يدعون إليه من الباطل.
٣- لا هدى إلا هدى الله تعالى أي لا دين إلا الإسلام.
٤- وجوب الإسلام لله تعالى وإقامة الصلاة واتقاء الله تعالى بفعل المأمور وترك المنهي.
٥- تقرير المعاد والحساب والجزاء.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (٧٤) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
شرح الكلمات:
إبراهيم: هو إبراهيم خليل الرحمن بن آزر من أولاد سام بن نوح عليه السلام.
أصناماً: جمع صنم تمثال من حجر.
آلهة: جمع إله بمعنى المعبود.
في ضلال: عدول عن طريق الحق.
ملكوت: مُلك.
جن عليه الليل: أظلم.
فلما أفل: أي غاب.
بازغاً: طالعاً والبزوغ الطلوع.
الضالين: العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل.
وجهت وجهي: أقبلت بقلبي على ربي وأعرضت عما سواه.
حنيفاً: مائلاً عن الضلال إلى الهدى.
معنى الآيات:
مازال السياق في بيان الهدى للعادلين بربهم أصناماً يعبدونها لعلهم يهتدون فقال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر﴾ ١ أي واذكر لهم قول إبراهيم لأبيه آزر: ﴿أتتخذ أصناماً آلهة﴾ ٢ أي أتجعل تماثيل من حجارة آلهة. أرباباً تعبدها أنت وقومك ﴿إني أراك﴾ يا أبت ﴿وقومك في ضلال مبين٣﴾ عن طريق الحق الذي ينجو ويفلح سالكه هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧٤) أما الآية الثانية (٧٥) فإن الله تعالى يقول: {وكذلك نُري إبراهيم٤
٢ الاستفهام للإنكار وأصناماً مفعول أول وآلهة مفعول ثان لأن اتخذ تنصب مفعولين كعلم.
٣ كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصورون لها أصناماً وهي ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم وكانوا يعبدونها توسلاً وتقرباً بها إلى الله تعالى ولذا فهم مشركون وليسوا ملاحدة.
٤ نُري هو بمعنى أرينا الماضي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إنكار الشرك على أهله، وعدم إقرارهم ولو كانوا أقرب الناس إلى المرء.
٢- فضل الله تعالى وتفضله على من يشاء بالهداية الموصلة إلى أعلى درجاتها.
٢ قوله هذا ربي في المواضع كلها في السياق ليس هو على ظاهره أبداً. بل هو تدرج بهم إلى الوصول إلى الحقيقة وهو إنه لا إله إلا الله فقوله: هذا ربي أي على قولكم أو زعمكم وهو كقوله تعالى أين شركائي كما زعمتم أو على قولكم وإلا فالله تعالى يعلم أنه لا شريك له أبداً أو هو على حذف حرف الاستفهام أي أهو ربي؟ نحو أفإن مت فهم الخالدون أي أفهم الخالدون؟.
٣ بزغ القمر إذا بدأ في الطلوع وأصل البزغ الشق فالقمر يشق الظلام بنوره ومن بزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها. ومنه البزاغ وهو ما يسيل من الفم.
٤ هذا ربي أي هذا الطالع ربي وإلاّ فالشمس مؤنثة وقد قال فيها بازغة.
٥ أفل يأفل أفولاً إذا غاب.
٦ في أنا ثلاث لغات أنّ وأنه، وأنا وهي متعينة في الوقف (أنا).
٤- الاستدلال بالحدوث على وجود الصانع الحكيم وهو الله عز وجل.
٥- سنة التدرج في التربية والتعليم.
٦- وجوب البراءة من الشرك وأهله.
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
شرح الكلمات:
حاجه قومه: جادلوه وحاولوا غلبة بالحجة، والحجة: البينة والدليل القوي.
أتحآجّوني في الله: أتجادلونني في توحيد الله وقد هداني إليه، فكيف أتركه وأنا منه على بينة.
سلطاناً: حجة وبرهاناً.
ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك.
معنى الآيات:
لما أقام إبراهيم الدليل على بطلان عبادة غير الله تعالى وتبرأ من الشرك والمشركين حاجه قومه في ذلك فقال منكراً عليهم ذلك: ﴿أتحاجوني٢ في الله وقد هدان﴾ أي كيف يصح منكم جدال لي في توحيد الله وعبادته، وترك عبادة ما سواه من الآلهة المدعاة وهي لم تخلق شيئاً ولم تنفع ولم تضر، ومع هذا فقد هداني إلى معرفته وتوحيده وأصبحت على بينة منه سبحانه وتعالى، هذا ما دل عليه قوله تعالى: ﴿وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان﴾. ولا شك أنهم لما تبرأ من آلهتهم خوفوه بها وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه٣ فرد ذلك عليهم قائلاً: ﴿ولا أخاف ما تشركون به﴾ من آلهة أن تصيبني بأذى، ﴿إلا أن يشاء ربي٤ شيئاً﴾ فإنه يكون قطعاً ففد ﴿وسع ربي كل شيء علماً﴾، ثم وبخهم قائلا ﴿أفلا تتذكرون﴾ فتذكروا ما أنتم عليه هو الباطل، وأن ما أدعوكم إليه هو الحق، ثم رد القول عليهم قائلاً ﴿وكيف أخاف ما أشركتم﴾ وهي أصنام جامدة لا تنفع ولا تضر لعجزها وحقارتها وضعفها، ولا تخافون أنتم الرب الحق الله الذي لا اله إلا هو المحيي المميت الفعال لما يريد، وقد أشركتم به أصناماً ما أنزل عليكم في عبادتها حجة ولا برهاناً تحتجون به على عبادتها معه سبحانه وتعالى. ثم قال لهم استخلاصاً للحجة وانتزاعا لها منهم فأي الفريقين أحق بالأمن من الخوف: أنا الموحد للرب، أم أنتم المشركون به؟ والجواب معروف وهو من يعبد رباً واحداً أحق بالأمن ممن يعبد آلهة شتى جمادات لا تسمع ولا تبصر. وحكم الله تعالى بينهم وفصل فقال: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم٥ بظلم﴾ أي ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، ﴿أولئك لهم
٢ قرأ نافع بتخفيف نون أتحاجونني وثقلها غيره وتخفيفها مبني على حذف النون الثانية تخفيفاً ومن ثقلها فقد ادغمها في نون الرفع.
٣ أخرج ابن كثير عن ابن مردويه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أُعطي فشكر ومنع فصبر. وأذنب فاستغفر وظلم فغفر وسكت فقلنا يا رسول الله ماله؟ قال أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
٤ قال هذا احتياطاً منه للتوحيد إذ من الجائز أن بعثر في حجر أو تشوكه شوكة أو يمرض بسبب وآخر فيقولون هذه آلهتنا قد أصابتك لأنك تسبها فهذا وجه الاستثناء هنا.
٥ روي في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾ الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: ﴿يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية جدال المبطلين والمشركين لإقامة الحجة عليهم علهم يهتدون.
٢- بيان ضلال عقول أهل الشرك في كل زمان ومكان.
٣- التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه.
٤- أحق العباد بالأمن من الخوف من آمن بالله ولم يشرك به شيئاً.
٥- تقرير معنى ﴿الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور﴾.
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٨٧)
وهبنا له: أعطيناه تكرماً منا وإفضالا.
اسحق ويعقوب: إسحاق بن إبراهيم الخليل ويعقوب ولد إسحاق ويلقب بإسرائيل.
كلا هدينا: أي كل واحد منهما هداه إلى صراطه المستقيم.
ومن ذريته: أي ذرية إبراهيم.
داود وسليمان: داود الوالد وسليمان الولد وكل منهما ملك ورسول.
وزكريا ويحيى: زكريا الوالد ويحيى الولد وكل منهما كان نبياً رسولا.
على العالمين: أي عالمي زمانهم لا على الإطلاق، لأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الأنبياء.
ومن ذرياتهم: أي من بعض الآباء والذرية والإخوة لا الجميع.
اجتبيناهم: اخترناهم للنبوة والرسالة وهديناهم إلى الإسلام.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى ما آتى إبراهيم خليله من قوة الحجة والغلبة على أعدائه ذكر منَّة أخرى منَّ بها عليه وهي أنه١ وهبه اسحق ويعقوب بعد كبر سنه، اسحق الولد ويعقوب الحفيد وأنه تعالى هدى كلاً منهم الوالد والولد والحفيد، كما أخبر تعالى أنه هدى من قبلهم نوحاً، وهدى من ذريته٢ أي إبراهيم، وإن كان الكل من ذرية نوح، أي هدى من ذرية إبراهيم داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون٣، وأشار تعالى إلى أنهم كانوا محسنين، فجزاهم جزاء المحسنين والإحسان هو الإخلاص في العمل وأداؤه على الوجه الذي يرضي الرب تبارك وتعالى مع الإحسان العام لسائر المخلوقات بما يخالف الإساءة إليهم في القول والعمل. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٨٤) وأما الآية الثانية (٨٥) فقد ذكر تعالى أنه هدى كذلك إلى حمل رسالته والدعوة إليه والقيام بواجباته وتكاليف شرعه كلاً من زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وأخبر أن كل واحد منهم كان من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله كاملة وحقوق
٢ يصح عود الضمير على نوح كما يصح عوده على إبراهيم قاله غير واحد من أهل التفسير لأن ذكرها قد مرّ معاً.
٣ قال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعاً مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان منهم من لم تلحقه ولادة من جهته لا من جهة الأب ولا الأم لأن لوطاً ابن أخ إبراهيم وعُدَّ عيسى من ذريته وهو ابن البنت من هنا ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن من وقف وقفاً على ولده وولد ولده دخل فيه ولد بناته لأن لفظ الولد يشمل الذكر والأنثى كما يشمل عيسى عليه السلام وهو ولد البنت لا غير.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
١- سعة فضل الله.
٢ خير ما يعطى المرء في هذه الحياة الهداية إلى صراط مستقيم.
٣- فضيلة كل من الإحسان والصلاح.
٤- لا منافاة بين الملك والنبوة أو الإمارة والصلاح.
٥- فضيلة الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة.
ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ
٢ الاجتباء مشتق من جبيت الماء في الحوض جمعته فالاجتباء اختيار الشخص وضمه إلى خاصتك من الناس، والجبا مقصور مصدر جبيت الماء والجابية الحوض.
٣ ذكر تعالى في هذه الآيات ثمانية عشر رسولاً وبقى سبعة ذكروا في سورٍ أخرى وهم إدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل وآدم عليهم السلام وقد نظمهم البعض في ثلاثة أبيات من الشعر هي:
حتم على كل ذي التكليف معرفة | بأنبياء على التفصيل قد عرفوا |
في تلك حجتنا منهم ثمانية | من بعد عشر ويبقى سبعة وهم |
ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
شرح الكلمات:
هدى الله: الهدى ضد الضلال، وهدى الله ما يهدى إليه من أحب من عباده وهو الإيمان والاستقامة.
حبط عنهم ما كانوا يعملون: أي بطلت أعمالهم فلم يثابوا عليها بقليل ولا كثير.
الحكم: الفهم للكتاب مع الإصابة في الأمور والسداد فيها.
يكفر بها هؤلاء: يجحد بها أي بدعوتك الإسلامية هؤلاء: أي أهل مكة.
قوما ليسوا بها بكافرين: هم المهاجرون والأنصار بالمدينة النبوية.
اقتده: اقتد: أي اتبع وزيدت الهاء للسكت.
عليه أجراً: أي على إبلاغ دعوة الإسلام ثمناً مقابل الإبلاغ.
ذكرى: الذكرى: ما يذكر به الغافل والناسي فيتعظ.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر ما وهب الله تعالى لمن شاء من عباده من هدايات وكمالات لا يقدر على عطائها إلا هو فقال ذلك في الآية الأولى (٨٨) ذلك المشار إليه ما وهبه أولئك الرسل الثمانية عشر رسولاً وهداهم إليه من النبوة والدين الحق هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده. وقوله تعالى: ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون١﴾ يقرر به حقيقة علمية، وهي أنّ الشرك محبط للعمل فإن أولئك الرسل على كمالهم وعلو درجاتهم لو أشركوا بربهم سواه فعبدوا معه غيره لبطل كل عمل عملوه، وهذا من باب الافتراض، وإلا فالرسل معصومون
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الشرك محبط للعمل كالردة والعياذ بالله تعالى.
٢- فضل الكتاب الكريم والسنة النبوية.
٣- وجوب الاقتداء بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهل العلم والصلاح من هذه الأمة.
٤- حرمة أخذ الأجرة على تبليغ الدعوة الإسلامية.
٢ قال القرطبي: الإقتداء طلب موافقة الغير في فعله. وقال: قد احتج بعض العلماء بهذه الآية علي وجوب إتباع شرائع الأنبياء فيما عدم فيه النص واستدلوا بحديث مسلم في حادثة الرُبيع إذ أمر الرسول بكسر سنها محتجاً بآية ﴿والسن بالسن﴾ وهو من أحكام بني إسرائيل ولم يوجد في القرآن غيره.
٣ روى البخاري عن العوام قال سألت مجاهداً عن سجدة ﴿ص﴾ فقال سألت ابن عباس عن سجدة ﴿ص﴾ فقال أو تقرأ ﴿ومن ذريته داوود وسليمان﴾ إلى قوله ﴿أولئك هدى الله فبهداهم اقتده﴾ وكان داوود عليه السلام ممن أمر نبيكم عليه السلام بالإقتداء بهم.
٤ أي جعلا على القرآن.
وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ١ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩٢)
شرح الكلمات:
وما قدروا الله حق قدره: ما عظموه التعظيم اللائق به ولا عرفوه حق معرفته.
على بشر: أي إنسان من بني آدم.
الكتاب الذي جاء به موسى: التوراة.
قراطيس: جمع قرطاس: وهو ما يكتب عليه من ورق وغيره.
تبدونها: تظهرونها.
قل الله: هذا جواب: من أنزل الكتاب؟
ذرهم: اتركهم.
في خوضهم: أي ما يخوضون فيه من الباطل.
مبارك: أي مبارك فيه فخبره لا ينقطع، وبركته لا تزول.
أم القرى: مكة المكرمة.
يحافظون: يؤدونها بطهارة في أوقاتها المحددة لها في جماعة المؤمنين.
معنى الآيتين:
ما زال السياق مع العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فقد أنكر تعالى عليهم إنكارهم للوحي
٢ أي لاعبين لأنها حال من قوله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون إذ لو لم يكن حالاً لجزم في وجوب الطلب الذي هو ذرهم.
٣ أم القرى: مكة المكرمة.
٤ يريد إتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من هداية الآيات:
١- كل من كذب الله تعالى أو أشرك به أو وصفه بوصف لا يليق بجلاله فإنه لم يقدر الله حق قدره١.
٢- بيان تلاعب اليهود بكتاب الله في إبداء بعض أخباره وأحكامه وإخفاء بعض آخر وهو تصرف ناتج من الهوى واتباع الشهوات وإيثار الدنيا على الآخرة.
٣- بيان فضل الله على العرب بإنزال هذا الكتاب العظيم عليهم بلغتهم لهدايتهم.
٤- تعليم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيفية الحجاج والرد على المجادلين والكاذبين.
٥- بيان علة ونزول الكتاب وهي الإيمان به وإنذار المكذبين والمشركين.
٦- الإيمان بالآخرة سبب لكل خير، والكفر به سبب لكل باطل وشر.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
شرح الكلمات:
افترى على الله كذباً: اختلق على الله كذباً قال عليه ما لم يقل، أو نسب له ما هو منه
أوحي إلي: الوحي: الإعلام السريع الخفي بواسطة الملك وبغيره.
غمرات الموت: شدائده عند نزع الروح.
باسطوا أيديهم: للضرب وإخراج الروح.
عذاب الهون: أي عذاب الذل والمهانة.
فرادى: واحداً واحداً ليس مع أحدكم مال ولا رجال.
ما خولناكم: ما أعطيناكم من مال ومتاع.
وراء ظهوركم: أي في دار الدنيا.
وضل عنكم: أي غاب.
تزعمون: تدعون كاذبين.
معنى الآيات:
مازال السياق مع المشركين والمفترين الكاذبين على الله تعالى بإتخاذ الأنداد والشركاء فقال تعالى: ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً﴾ بأن أدَّعى١ أن الله نبأه وأنه نبيه ورسوله كما ادعى سعد٢ بن أبي سرح بمكة ومسيلمة٣ في بني حنيفة بنجد والعنسى باليمن: اللهم لا أحد هو أظلم منه، وممن قال أوحى إلىّ شيء من عند الله، ولم يوح إليه شيء وممن قال: ﴿سأنزل مثل ما أنزل الله﴾ من الوحي والقرآن، ثم قال تعالى لرسوله: ﴿ولو نرى﴾ يا رسولنا ﴿إذ الظالمون في غمرات الموت﴾ أي في شدائد سكرات الموت، ﴿والملائكة﴾ ملك الموت وأعوانه ﴿باسطوا أيديهم﴾ بالضرب وإخراج الروح، وهم يقولون لأولئك المحتضرين تعجيزاً
٢ أدعى عبد الله بن سعد الوحي لما كتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان إلى قوله ثم أنشأناه خلقاً آخر فأعجبه تفصيل خلق الله تعالى للإنسان قال فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هكذا أنزلت فشك عبد الله بن سعد حينئذ وارتد ولحق بالمشركين وأسلم عام الفتح وحسن إسلامه بشفاعة عثمان له إذ كان أخاً له من الرضاعة وهو فاتح أفريقيا ودعا ربه أن يموت وهو يصلي فمات في صلاة الصبح.
٣ كانوا يسمونه رحمان اليمامة والعنسي هو الأسود العنسي ومنهم سجاح امرأة مسيلمة قال ابن عباس وقتادة نزلت هذه الآية في مسيلمة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- قبح الكذب على الله تعالى في أي شكل، وأن صاحبه لا أظلم منه قط.
٢- تقرير عذاب القبر، وسكرات الموت وشدتها، وفي الحديث: أن للموت سكرات.
٣- قبح الاستكبار وعظم جرمه.
٤- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا.
٥- انعدام الشفعاء يوم القيامة إلا ما قضت السنة الصحيحة من شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعلماء والشهداء بشروط هي: أن يأذن الله للشافع أن يشفع وأن يرضى عن المشفوع له.
إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ
٢ يقال لهم هذا توبيخاً لهم وتقريعاً أي خلصوها من هذا العذاب إن أمكنكم.
٣ تستكبرون أي تتعظمون وتأنفون من قول الحق الذي هو توحيد الله تعالى وعبادته بما شرع لعباده المؤمنين.
٤ هذا يوم القيامة يوم يحشرون إلى ربهم، وفرادى في موضع نصب على الحال.
٥ روي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى ﴿ولقد جئتمونا فرادى... الخ﴾ فقالت يا رسول الله واسوأتاه الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شُغل بعضهم عن بعض.
٦ ثبت في الصحيح أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأثنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس.
شرح الكلمات:
فالق الحب والنوى: شاق الحب كحب البر ليخرج منه الزرع، والنوى واحده نواة وشقها ليخرج منها الفسيلة (النخلة الصغيرة).
يخرج الحي من الميت: الدجاجة من البيضة.
ومخرج الميت من الحي:: البيضة من الدجاجة.
فأنى تؤفكون: كيف تصرفون عن توحيد الله الذي هذه قدرته إلى عبادة الجمادات.
فالق الإصباح: الإصباح: بمعنى الصبح وفلقه: شقه ليتفجر منه النور والضياء.
حسباناً: أي حسابا بهما تعرف الأوقات الأيام والليالي والشهور والسنون.
تقدير العزيز العليم: إيجاد وتنظيم العزيز الغالب على أمره العليم بأحوال وأفعال عباده.
لتهتدوا بها: أي ليهتدي بها المسافرون في معرفة طرقهم في البر والبحر.
من نفس واحدة: هي آدم أبو البشر عليه السلام.
فمستقر: أي في الأرحام.
ومستودع: أي في أصلاب الرجال.
يفقهون: أسرار ألأشياء وعلل الأفعال فيهتدوا لما هو حق وخير.
خضراً: هو أول ما يخرج من الزرع ويقال له القصيل الأخضر.
متراكبا: أي بعضه فوق بعض وهو ظاهر في السنبلة.
طلع النخل: زهرها.
قنوان: واحده قنو وهو العِذْق وهو العُرْجون بلغة أهل المغرب.
مشتبهاً وغير متشابه: في اللون وغير مشتبه في الطعم.
وينعه: أي نضجه واستوائه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان الدليل على وجوب توحيد الله تعالى وبطلان عبادة غيره فقال تعالى واصفاً نفسه بأفعاله العظيمة الحكيمة التي تثبت ربوبيته وتقرر ألوهيته وتبطل ربوبية وألوهية غيره مما زعم المشركون أنها أرباب لهم وآلهة: ﴿إن الله فالق الحب والنوى﴾ أي هو الذي يفلق الحب ويخرج منه الزرع لا غيره وهو الذي يفلق النوى، ويخرج منه الشجر والنخل لا غيره فهو الإله الحق إذا وما عداه باطل، وقال: ﴿يخرج الحيّ من الميت﴾ فيخرج الزرع الحيّ من الحب الميت ﴿ويخرج الميت١ من الحيّ﴾ فيخرج الحب من الزرع الحيّ، والنخلة والشجرة من النواة الميتة ثم يقول: ﴿ذلكم الله﴾ أي المستحق للإلهية أي العبادة وحده {فأنى
ويقول تعالى في الآية الثالثة (٩٧) ﴿وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر﴾ هذه منة أخرى من مننه على الناس ومظهراً آخر من مظاهر قدرته حيث جعل لنا النجوم لمهتدي به مسافرونا في البر والبحر حتى لا يضلوا طريقهم فيهلكوا فهي نعمة لا يقدر على الإنعام بها إلا الله، فلم إذاً يكفر به ويعبد سواه؟ وقوله: ﴿قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون﴾ يخبر به تعالى على نعمة أخرى وهي تفصيله تعالى للآيات وإظهارها لينتفع بها العلماء الذين يميزون بنور العلم بين الحق والباطل والضار والنافع ويقول في الآية الرابعة (٩٨) ﴿وهو الذي أنشأكم -أي خلقكم- من نفس واحدة﴾ هي آدم عليه السلام، فبعضكم مستقر في الأرحام وبعضنا٣ مستودع في الأصلاب وهو مظهر من مظاهر إنعامه وقدرته ولطفه وإحسانه، ويختم الآية بقوله ﴿قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون﴾ لتقوم لهم الحجة على ألوهيته تعالى دون ألوهية ما عداه من سائر المخلوقات لفهمهم أسرار الكلام وعلل الحديث ومغزاه.
ويقول في الآية (٩٩) ﴿وهو الذي أنزل من السماء ماءً﴾ وهو ماء المطر ويقول ﴿فأخرجنا
٢ حسباناً أي بحساب يتعلق به مصالح العباد، والحسبان جمع حساب مثل شهاب وشهبان أي جعل الله سير الشمس والقمر بحساب ولا يزيد ولا ينقص ويطلق الحسبان على النار كما في قوله تعالى ويرسل عليها حسباناً من السماء أي ناراً.
٣ قال عبد الله بن مسعود لها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها وهذا على قراءة مستقر بفتح القاف بمعنى لها مستقر وأكثر المفسرين على ما جاء في التفسير أن المستقر ما كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب قال سعيد بن جبير قال لي ابن عباس هل تزوجت فقلت لا. قال فإن الله عز وجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه. أما قوله تعالى {ولكم في الأرض مستقر ومستودع إلي حين﴾ ف المستقر هو القبر مودع فيه الإنسان إلى يوم القيامة.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
١- الله خالق كل شيء فهو رب كل شيء ولذا وجب أن يؤله وحده دون ما سواه.
٢- تقرير قدرة الله على كل شيء وعلمه بكل شيء وحكمته في كل شيء.
٣- فائدة خلق النجوم وهي الاهتداء بها في السير في الليل في البر والبحر.
٤- يتم إدراك ظواهر الأمور وبواطنها بالعقل.
٥- يتم إدراك أسرار الأشياء بالفقه.
٦- الإيمان بمثابة الحياة، والكفر بمثابة الموت في إدراك الأمور.
وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
٢ قال ابن عباس رضي الله عنه يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز وسائر الحبوب.
٣ هذا قصار النخل إذ يجنى ثمارها لمدة عشر سنوات والمرء يتناول منها بيديه هو واقف عندها وبعد ذلك ترتفع وتطول فيرقى إليها.
شرح الكلمات:
شركاء: جمع شريك في عبادته تعالى.
الجن: عالم كعالم الإنس إلا أنهم أجسام خفية لا ترى لنا إلا إذا تشكلت بما يُرى.
وخرقوا: اختنقوا وافتاتوا.
يصفون: من صفات العجز بنسبة الولد والشريك إليه.
بديع السموات والأرض: مبدع خلقهما حيث أوجدهما على غير مثال سابق.
أنى يكون له ولد: أي كيف يكون له ولد؟ كما يقول المبطلون.
ولم تكن له صاحبة: أي زوجة.
لا تدركه الأبصار: لا تراه في الدنيا، ولا تحيط به في الآخرة.
وهو يدرك الأبصار: أي محيط علمه بها.
وهو اللطيف: الذي ينفذ علمه إلى بواطن الأمور وخفايا الأسرار فلا يحجبه شيء.
معنى الآيات:
لقد جاء في الآيات السابقة من الأدلة والبراهين العقلية ما يبهر العقول ويذلها لقبول التوحيد، وأنه لا إله إلا الله، ولا رب سواه، ولكن مع هذا فقد جعل الجاهلون لله من
والثانية: قولهم الملائكة بنات الله مع عبادتهم لهم فذلك معنى جعلوا لله شركاء الجن لأن الملائكة لا يرون كالجن قال تعالى ﴿وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا﴾ فسمى الملائكة جناً لاجتنابهم واستتارهم عن عيون الناس والثالثة: أن الزنادقة قالوا الله خالق الماء والنور والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب.
٢ قوله تعالى وخلقهم يصح عود الضمير فيه على العادلين كما في التفسير ويصح عوده على الجن الذين اتخذوهم شركاء لله يعبدونهم معه.
٣ أي من أين يكون له ولد والولد لا يكون إلاّ من صاحبة أي زوجة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- أن من الإنس من عبد الجن بطاعتهم وقبول ما يأمرونهم به ويزينونه لهم.
٢- تنزه الرب تعالى عن الشريك والصاحبة والولد ٣- مباينة الرب تبارك وتعالى لخلقه.
٤- استحالة رؤية الرب في الدنيا٤، وجوازها في الآخرة لأوليائه في دار كرامته.
قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ
٢ لا تدركه الأبصار بمعنى لا تحيط به ولذا يراه أولياؤه في الجنة رؤية بصرية فينظرون إلى وجهه الكريم وأما رؤيته تعالى فمتعذرة في الحياة الدنيا إذ طلبها موسى ولم ينلها لعجز الإنسان عن رؤية الله تعالى بهذه الأبصار المحدودة القدرة والطاقة.
٣ روي في الصحيحين ما يفيد تعذر رؤية الله في الدنيا لضعف الإنسان فقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع الله عمك النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
٤ وفسر اللطيف بالرفيق بعباده واللطيف من أسماء الله تعالى. ولذا هو يلطف بعباده. كما هو للطفه لا يدرك بالكيفية، واللطيف في الأجسام الذي يدخل في كل شيء.
شرح الكلمات:
بصائر من ربكم: البصائر جمع بصيرة: والمراد بها هنا الآيات المعرفة بالحق المثبتة له بطريق الحجج العقلية فهي في قوة العين المبصرة لصاحبها.
حفيظ: وكيل مسئول.
نصرف الآيات: نجريها في مجاري مختلفة تبياناً للحق وتوضيحاً للهدى المطلوب.
وليقولوا درست: أي تعلمت وقرأت لا وحياً أوحي إليك.
وأعرض عن المشركين: أي لا تلتفت إليهم وامضِ في طريق دعوتك.
ولو شاء الله ما أشركوا: أي لو شاء أن يحول بينهم وبين الشرك حتى لا يشركوا لَفَعَل وما أشركوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية المشركين وبيان الطريق لهم ففي هذه الآية يقول ﴿قد جاءكم﴾ أي أيها الناس ﴿بصائر من١ ربكم﴾ وهي آيات القرآن الموضحة لطريق النجاة ﴿فمن أبصر﴾ بها وهي كالعين المبصرة ﴿فلنفسه﴾ إبصاره إذ هو الذي ينجو ويسعد ﴿ومن عمي﴾ فلم يبصر فعلى نفسه عماه إذ هي التي تهلك وتشقى وقل لهم يا رسولنا ﴿ما أنا عليكم بحفيظ﴾ أي بوكيل مسئول عن هدايتكم، وفي الآية الثانية (١٠٥) يقول تعالى: ﴿وكذلك٢ نصرف الآيات﴾ أي بنحو ما صرفناها من قبل في هذا القرآن نصرفها كذلك لهداية مريدي الهداية والراغبين٣ فيها أما غيرهم فسيقولون درست٤ وتعلمت من غيرك حتى يحرموا الإيمان
٢ كذلك الكاف في محل نصب أي مثل أي نصرف الآيات: مثل ذلك التصريف.
٣ وهم المذكورون في الآية ولنبيننه لقوم يعلمون.
٤ قرىء دَارست أي ذاكرت أهل الكتاب وتعلمت عنهم ولم يوح إليك شيء واللام في قوله وليقولوا درست هي لام العاقبة كما يقال كتب فلان هذا الكتاب لحتفه، وفي القرآن ﴿فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- آيات القرآن بصائر من يأخذ بها يبصر طريق الرشاد وينجو ويسعد.
٢- ينتفع بتصريف الآيات وما تحمله من هدايات العالمون لا الجاهلون وذلك لقوله تعالى في الآية الثانية (١٠٥) ﴿ولنبينه لقوم يعلمون﴾.
٣- بيان الحكمة في تصريف الآيات وهي هداية من شاء الله هدايته.
٤- وجوب اتباع الوحي المتمثل في الكتاب والسنة النبوية.
٥- بيان بطلان مذهب القدرية "نفاة القدر".
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ
٢ في الآية دليل على إبطال مذهب القدرية وهم نفاة القدر والزاعمون أن أفعال العباد لم تقدر عليهم وإنما هم الخالقون لهَا بدون إذن الله وإرادته.
شرح الكلمات:
ولا تسبوا: ولا تشتموا آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله تعالى.
عدواً: ظلماً.
زينا لكل أمة عملهم: حسناه لهم خيراً كان أو شراً حتى فعلوه.
جهد أيمانهم: أي غاية اجتهادهم في حلفهم بالله.
آية: معجزة كإحياء الموتى ونحوها.
وما يشعركم: وما يدريكم
ونذرهم: نتركهم.
يعمهون: حيارى يترددون.
معنى الآيات:
عندما ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصبح يصدع بالدعوة جهراً بعد ما كانت سراً أخذ بعض أصحابه يسبون أوثان المشركين، فغضب لذلك المشركون وأخذوا يسبون الله تعالى إله المؤمنين وربهم فنهاهم تعالى عن ذلك أي عن سب آلهة المشركين بقوله: ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله﴾ أي لا تسبوا آلهتهم ﴿فيسبوا١ الله عدواً٢﴾ أي ظلماً واعتداء بغير علم، إذ لو علموا جلال الله وكماله لما سبوه، وقوله تعالى: ﴿وكذلك زينا لكل أمة عملهم﴾ بيان منه تعالى لسنته في خلقه وهي أن المرء إذا أحب شيئاً ورغب فيه وواصل ذلك الحب وتلك الرغبة يصبح زيناً له ولو كان في الواقع شيئاً ويراه حسناً وإن كان في حقيقة الأمر
٢ وقرىء عُدوا بضم العين والدال ومعنى القراءتين واحد وهو الجهل والاعتداء الذي هو الظلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة قول أو فعل ما يتسبب٤ عنه يسب الله ورسوله.
٢- بيان سنة الله في تزيين الأعمال لأصحابها خيراً كانت أو شراً.
٣- بيان أن الهداية بيد الله تعالى وأن المعجزات قد لا يؤمن عليها من شاهدها.
٢ كان المشركون يحلفون بآلهتهم، وإذا حلفوا بالله كان ذلك أقصى أيمانهم وأشدها. وهنا مسألة لو قال المرء الأيمان تلزمه ثم حنث فإن عليه إطعام ثلاثين مسكيناً لأن أقل الجمع ثلاثة، وإن لم يكن له مال صام تسعة أيام..
٣ الإشعار مصدر أشعره إذا أعلمه بأمر من شأنه أن يخفى ويدق.
٤ قرئت إنها بكسر الهمزة على الاستئناف فيكون الكلام قد انتهى عند قوله وما يشعركم ويكون المعنى وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت ثم قال إنها إذا جاءت لا يؤمنون. فذكر علة عدم إيمانهم بقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم.
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (١١٣)
شرح الكلمات:
الملائكة: أجسام نورانية يعمرون السموات عباد مكرمون لا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة.
الموتى: جمع ميت: من فارقته الحياة أي خرجت منه روحه.
حشرنا: جمعنا.
قبلا: معاينة
يجهلون: عظمة الله وقدرته وتدبيره وحكمته.
شياطين: جمع شيطان: وهو من خبث وتمرد من الجن والإنس.
يوحي بعضهم: يعلم بطريق سريع خفي بعضهم بعضاً.
زخرف القول: الكذب المحسن والمزين.
غروراً: للتغرير بالإنسان.
يفترون: يكذبون.
ولتصغى إليه: تميل إليه.
وليقترفوا: وليرتكبوا الذنوب والمعاصي.
ما زال السياق في أولئك العادلين بربهم المطالبين بالآيات الكونية ليؤمنوا إذا شاهدوها فأخبر تعالى في هذه الآيات أنه لو نزل إليهم الملائكة من١ السماء وأحيى لهم الموتى فكلموهم وقالوا لهم لا إله إلا الله محمد رسول الله، وحشر علمهم كل شيء٢ أمامهم يعاينونه معاينة أو تأتيهم المخلوقات قبيلاً بعد قبيل وهم يشاهدونهم ويقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ما كانوا ليؤمنوا بك ويصدقوك ويؤمنوا بما جئت به إلا أن يشاء٣ الله ذلك منهم. ولكن أكثر أولئك العادلين بربهم الأصنام والأوثان يجهلون أن الهداية بيد الله تعالى وليست بأيديهم كما يزعمون وأنهم لو رأوا الآيات آمنوا.
هذا ما دلت عليه الآية (١١١) أما الآية الثانية (١١٢) فإن الله تعالى يقول وكما كان لك يا رسولنا من هؤلاء العادلين أعداء يجادلونك ويحاربونك جعلنا لكل نبي أرسلناه أعداء يجادلونه ويحاربونه ﴿شياطين٤ الإنس والجن يوحي٥ بعضهم إلى بعض زخرف القول﴾ أي القول المزين بالباطل المحسن بالكذب ﴿غرورا﴾ أي للتغرير والتضليل، ﴿ولو شاء ربك﴾ أيها الرسول عدم فعل ذلك الإيحاء والوسواس ﴿ما فعلوه﴾ إذا ﴿فذرهم﴾ أي اتركهم ﴿وما يفترون﴾ من الكفر والكذب والباطل.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (١١٣) وهي قوله تعالى: ﴿ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون﴾ هذه الآية بجملها الأربع معطوفة على قوله ﴿زخرف القول غرورا﴾ إذ إيحاء شياطين الجن والإنس٦ كان
٢ أي شيئاً سألوه وطلبوه.
٣ الاستثناء منفصل فهو بمعنى لكن إن شاء الله إيمانهم آمنوا والآية تحمل التسلية والعزاء له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٤ شياطين الإنس والجن بدل من قوله عدوّا ويصح أن يكون نعتاً أيضاً.
٥ يوحي بمعنى يلقى إليه الباطل المزين بطريق الوسواس فيفهم عنه إذ الإيحاء الإعلام السريع الخفي وشاهده من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ما منكم من أحد إلاّ قد وكل به قرينه من الجن، قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلاّ أن الله أعانني عليه فأسلم".
٦ روي عن مالك بن دينار أنه قال: شياطين الإنس أشد من شياطين الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً. ويشهد لهذا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع امرأة تنشد:
إن النساء رياحين خلقن لكم | وكلكم يشتهي شم الرياحين |
إن النساء شياطين خلقن لنا...
نعوذ بالله من شر الشياطين
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أبداً، وبهذا تقررت ربوبيته وألوهيته للأولين والآخرين.
٢- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل داع إلى الله تعالى بإعلامه أنه ما من نبي ولا داع إلا وله أعداء من الجن والإنس يحاربونه حتى ينصره الله عليهم.
٣- التحذير من التمويه والتغرير فإن أمضى سلاح للشياطين هو التزيين والتغرير.
٤- القلوب الفارغة من الإيمان بالله ووعده وعيده في الدار الآخرة أكثر القلوب ميلاً إلى الباطل والشر والفساد.
أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
أبتغي: أطلب.
حكماً: الحكم الحاكم ومن يتحاكم إليه الناس.
أنزل إليكم الكتاب: أي أنزله لأجلكم لتهتدوا به فتكْمُلُوا عليه وتسعدوا.
مفصلاً: مبيناً لا خفاء فيه ولا غموض.
والذين آتيناهم الكتاب: أي علماء اليهود والنصارى.
الممترين: الشاكين، إذ الامتراء الشك.
صدقاً وعدلاً: صدقاً في الأخبار فكل ما أخبر به القرآن هو صدق، وعدلاً في الأحكام فليس في القرآن حكم جور وظلم أبداً بل كل أحكامه عادلة.
لا مبدل لكلماته: أي لا مغير لها لا بالزيادة والنقصان، ولا بالتقديم والتأخير.
السميع العليم: السميع لأقوال العباد العليم بأعمالهم ونياتهم وسيجزيهم بذلك.
سبيل الله: الإسلام إذ هو المفضي بالمسلم إلى رضوان الله تعالى والكرامة في جواره.
يخرصون: يكذبون الكذب الناتج عن الحزر والتخمين.
من يضل: بمن يضل.
بالمهتدين: في سيرهم إلى رضوان الله باتباع الإسلام الذي هو سبيل الله.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع العادلين بربهم الأصنام والأوثان لقد كان المراد في طلبهم الآية الحكم بها على صحة دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نبي الله وأن القران كلام الله وأنه لا إله إلا الله، ولم يكن هذا منهم إلا من قبيل ما توسوس به الشياطين لهم وتزينه لهم تغريراً بهم وليواصلوا ذنوبهم فلا يؤمنون ولا يتوبون، ومن هنا أنزل تعال قوله: ﴿أفغير الله أبتغي١ حكماً﴾. وهو تعليم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقوله للمشركين أأميل إلى باطلكم وأقتنع به فغير الله أطلب حكماً بيني
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة وبطلان التحاكم إلى غير الوحي الإلهي.
٢- تقرير صحة الدعوة الإسلامية بأمرين الأول: القرآن الكريم، الثاني: شهادة أهل الكتاب ممن أسلموا كعبد الله بن سلام القرظي وأصحمة النجاشي وغيرهم.
٣- ميزة القرآن الكريم: أن أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل.
٤- وعود الله تعالى لا تتخلف أبداً، ولا تتبدل بتقديم ولا تأخير.
٥- اتباع أكثر الناس يؤدي إلى الضلال فلذا لا يتبع إلا أهل العلم الراسخون فيه لقوله
٢ كما لا يستطيع أحد تبديل كلماتها وحروفها في القرآن الكريم كما بدلت التوراة والإنجيل بتحريف الكلمات وتغييرها.
٣ من هذا قيل لمن يقدر كمية التمر في النخل خراص لأنه يقول بدون علم بقيني- وإنما بالحدس والتخمين وأجازه الشارع للضرورة إليه.
فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
شرح الكلمات:
مما ذكر اسم الله عليه: أي قيل عند ذبحه أو نحره بسم الله والله أكبر.
فصل لكم ما حرم عليكم: أي بين لكم ما حرم عليكم مما أحل لكم وذلك في سورة النحل.
إلا ما اضطررتم إليه: أي ألجأتكم الضرورة وهي خوف الضرر من الجوع.
المعتدين: المتجاوزين الحلال إلى الحرام، والحق إلى الباطل.
ذروا ظاهر الإثم: اتركوا: الإثم الظاهر والباطن وهو كل ضار فاسد قبيح.
يقترفون: يكسبون الآثام والذنوب.
وإنه لفسق: أي الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. فسق عن طاعة الله تعالى.
إلى أوليائهم ليجادلوكم: أي من الإنس ليخاصموكم في ترك الأكل من الميتة.
لمشركون: حيث أحلوا لكم ما حرم عليكم فاعتقدتم حله فكنتم
معنى الآيات:
مما أوحى به شياطين الجن إلى إخوانهم من شياطين الإنس أن قالوا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين: كيف تأكلون ما تقتلونه أنتم وتمتنعون عن أكل ما يقتله الله؟ فأنزل الله تعالى قوله ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين١﴾. فأمر المؤمنين بعدم الاستجابة لما يقوله المشركون، وقال ﴿وما لكم٢ ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه﴾ أي: أي شيء يمنعكم من الأكل مما ذكر اسم الله عليه؟ ﴿وقد فصل٣ لكم﴾ أي بين لكم غاية التبيين ﴿ما حرم عليكم﴾ من المطاعم ﴿إلا ما اضطررتم إليه﴾ أي ألجأتكم الضرورة إليه كمن خاف على نفسه الهلاك من شدة الجوع فإنه يأكل مما حرم في حال الإختيار. ثم أعلمهم أن كثيراً من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم٤ بغير علم فيحلون ويحرمون بدون علم وهم في ذلك ظلمة معتدون لأن التحريم والتحليل من حق الرب تعالى لا من حق أي أحد من الناس وتوعدهم بما دل عليه قوله: ﴿إن ربك هو أعلم بالمعتدين﴾ ولازمه أنه سيجازيهم باعتدائهم وظلمهم بما يستحقون من العذاب على اعتدائهم على حق الله تعالى في التشريع بالتحليل والتحريم. وقوله تعالى في الآية الثالثة: (١٢٠) ﴿وذروا ظاهر الإثم وباطنه﴾ يأمر تعالى عباده بترك ظاهر الإثم كالزنى العلني وسائر المعاصي، وباطن الإثم كالزنى السري وسائر الذنوب الخفية وهو شامل لأعمال القلوب وهي باطنة وأعمال الجوارح وهي ظاهرة، لأن الإثم كل ضار فاسد قبيح كالشرك، والزنى وغيرهما من سائر المحرمات.
ثم توعد الذين لا يمتثلون أمره تعالى بترك ظاهر الإثم وباطنه بقوله. ﴿إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون﴾ أي سيجزيهم يوم القيامة بما اكتسبه من الذنوب والآثام ولا ينجو إلا من تاب منهم وصحت توبته وفي الآية الأخيرة في هذا السياق (١٢١) يقول تعالى ناهياً عباده عن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من ذبائح المشركين
٢ أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم؟
٣ بين تعالى ذلك في آخر سورة النحل المكية وأمّا البيان التام فهو في سورة المائدة المتأخرة في النزول عن النحل والأنعام معاً.
٤ إذ قال المشركون للرسول والمؤمنين ما ذبح الله بسكينه خير مما ذبحتم أنتم بسكاكينكم.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
١- حِلُّ أكل من ذبائح المسلمين.
٢- وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام عند تذكيتها.
٣- حرمة إتباع الأهواء ووجوب إتباع العلماء.
٤- وجوب ترك الإثم ظاهراً كان أو باطناً وسواء كان من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح.
٥- حرمة الأكل من ذبائح المشركين والمجوس والملاحدة البلاشفة الشيوعيين.
٦- اعتقاد حل طاعة الشياطين شرك والعياذ بالله تعالى.
أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ
٢ إن هذا اللفظ الوارد على سبب معين لا يمنع العموم إذ القاعدة الأصولية أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومن هنا تعين معرفة ما يلي: أولاً: وجوب التسمية عند الذبح والنحر. ثانياً: إن ترك المسلم التسمية سهواً أكلت ذبيحته، ثالثاً: إن تركها عمدا لم تؤكل ذبيحته، رابعاً: قال بعض الفقهاء ترك المسلم التسمية عمداً لا يحرم ذبيحته إلا أن يكون تركها مستخفاً بها.
٣ الآية دليل على أن من استحل شيئاً مما حرم الله تعالى صار به مشركاً وقد حرَّم الله سبحانه الميتة نصاً فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. وقال ابن العربي إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركاً إذا أطاعه في الاعتقاد. أما إن أطاعه في الفعل وعقيدته سليمة مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص غير كافر.
شرح الكلمات:
ميتاً: الميت فاقد الروح، والمراد روح الإيمان.
أحييناه: جعلناه حياً بروح الإيمان.
مثله: صفته ونعته امرؤ في الظلمات ليس بخارج منها.
قرية: مدينة كبيرة.
ليمكروا فيها: بفعل المنكرات والدعوة إلى ارتكابها بأسلوب الخديعة والاحتيال.
وما يمكرون إلا بأنفسهم: لأن عاقبة المكر تعود على الماكر نفسه لآية ﴿ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله﴾.
وإذا جاءتهم آية: أي من القرآن الكريم تدعوهم إلى الحق.
صغار: الصغار: الذل والهران.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في حرب العادلين بربهم الأصنام الذين يزين لهم الشيطان تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم فقال تعالى: ﴿أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس﴾ أي أطاعة هذا العبد الذي كان ميتاً بالشرك والكفر فأحييناه بالإيمان والتوحيد وهو عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر كطاعة من مثله رجل في الظلمات ظلمات الشرك
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله | فأجسامهم قبل القبور قبور |
وإن امرؤاً لم يحيى بالعلم ميت | فليس له حتى النشور نشور |
٣ وذلك لفرط جهلهم لا يعلمون أن وبال مكرهم عائد عليهم.
٤ في الآية شيء من بيان جهلهم وعملهم.
٥ هذه مقالة بعضهم قال الوليد بن المغيرة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر سناً وأكثر منك مالاً. وقال أبو جهل: والله لا نرضى به أبداً ولا نتبعه إلاَّ أن يأتينا وحي كما يأتيه.
٦ الصغار من الصغر ضد الكبر كأن الذل يُصغر إلى المرء نفسَه والفعل صغر يصغر من باب نَصر، وصغِر يصغر من باب علم يعلم. والمصدر الصغر بفتح الصاد والغين معاً والصغار الاسم واسم الفاعل صاغر وهو الراضي بالضيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- الإيمان حياة، والكفر موت، المؤمن يعيش في نور والكافر في ظلمات.
٢- بيان سنة الله تعالى في تزيين الأعمال القبيحة.
٣- قل ما تخلو مدينة من مجرمين يمكرون فيها.
٤- عاقبة المكر عائدة على الماكر نفسه.
٥- بيان تعنت المشركين في مكة على عهد نزول القرآن.
٦- الرسالة توهب لا تكتسب.
٧- بيان عقوبة أهل الإجرام في الأرض
فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (١٢٨)
شرح صدره: شرح الصدر توسعته لقبول الحق وتحمل الوارد عليه من أنوار الإيمان وعلامة ذلك: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله.
حرجاً: ضيقاً لا يتسع لقبول الحق، ولا لنور الإيمان.
كأنما يصعد: يصعب عليه قبول الإيمان حتى كأنه يتكلف الصعود إلى السماء.
الرجس: النجس وما لا خير فيه كالشيطان.
فصلنا الآيات: بيناها وأوضحناها غاية البيان والتوضيح.
يذكرون: يذكرون فيتعظون.
دار السلام: الجنة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى فهي مضافة إلى الله تعالى.
استكثرتم: أي من إضلال الإنس وإغوائهم.
استمتع بعضنا ببعض: انتفع كل منَّا بصاحبه أي تبادلنا المنافع بيننا حتى الموت.
أجلنا الذي أجلت لنا: أي الوقت الذي وقت لنا وهو أجل موتنا فمتنا.
مثواكم: مأواكم ومقر بقائكم وإقامتكم.
حكيم عليم: حكيم في وضع كل شيء في موضعه فلا يخلد أهل الإيمان في النار، ولا يخرج أهل الكفر منها، عليم بأهل الإيمان وأهل الكفران.
معنى الآيات:
بعد ذلك البيان والتفصيل لطريق الهداية في الآيات من أول السورة إلى قوله تعالى حكاية عن المدعوين إلى الحق العادلين به الأصنام إذ قالوا: ﴿لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله﴾.
أعلم تعالى عباده أن الهداية بيده وأن الإضلال كذلك يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بعدله، وأن لكل من الهداية والإضلال سنناً تتبع في ذلك فمن طلب الهداية ورغب
وقوله تعالى ﴿وهذا صراط ربك مستقيماً﴾ يقول تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشيراً إلى ما بينه من الهدى وهذا طريق ربك مستقيماً فاسلكه والزمه فإنه يفضي بك إلى كرامة ربك وجواره في جنات النعيم. وقوله: ﴿قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون﴾ يمتن تعالى وله الحمد والمنة بما أنعم به على هذه الأمة من تفصيل الآيات حججاً وبراهين وشرائع ليهتدي طالبوا الهدى المشار إليهم بقوله ﴿لقوم يذكرون﴾ فيذكرون فيؤمنون ويعملون فيكملون ويسعدون في دار السلام إذ قال تعالى ﴿لهم٤ دار السلام عند ربهم وهو وليهم﴾ أي متوليهم بالنصر والتأييد في الدنيا والإنعام والتكريم في الآخرة ﴿بما كانوا يعملون﴾ من الصالحات.
هذا ما دلت عليه الآيات الأولى والثانية والثالثة أما الآية الرابعة (١٢٨) فقد تضمنت عرضاً سريعاً ليوم القيامة الذي هو ظرف للجزاء على العمل في دار الدنيا فقال تعالى: ﴿ويوم يحشرهم جميعاً﴾ ٥ إنسهم وجنهم ويقول سبحانه وتعالى ﴿يا معشر الجن قد استكثرتم٦ من الإنس﴾ أي في إغوائهم وإضلالهم، ﴿وقال أولياؤهم من الإنس﴾ أي الذين كانوا
٢ الحرج والحرج بالفتح والكسر قراءتان وهو الضيق وكل ضيق حرج والحرجة الغيضة والجمع حروج وحرجات وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحرج موضع الشجر الملتف فقلب الكافر لضيقه لا تصل إليه المعرفة كما لا تصل الشاة إلى الشجر الملتف أو تدخل رأسها بين الشجر فيصعب عليها إخراجه فتقع في حرج، والحرج الإثم.
٣ أصل الرجس في اللغة النتن وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه فكما يجعل صدر الكافر ضيقاً لا يقبل الهدى يجعل عليه الرجس فيقبل كل خبيث نتن من الأقوال والاعتقادات.
٤ دار السلام الجنة والسلام هو الله فدار السلام كبيت الله وهناك معنى آخر وهو أنها دار السلامة من كل أذى ومكروه وآفة.
٥ نُصب الظرف بفعل محذوف تقديره يقول يوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن الخ.
٦ حذف لفظ الاستمتاع إيجازاً لدلالة السياق وحرف الجر عليه أي قد استكثرتم من الاستمتاع من الإنس.
ومعنى قوله ﴿إلا ما شاء الله﴾ هو استثناء٢ لبيان إرادة الله المطلقة التي لا يقيدها شيء، إذ لو شاء أن يخرجهم من النار لأخرجهم أي ليس هو بعاجز عن ذلك، ومن الجائز أن يكون هذا الاستثناء المراد به من كان منهم من أهل التوحيد ودخل النار بالفسق والفجور وكبير الذنوب بإغواء الشياطين له فإنه يخرج من النار بإيمانه، ويكون معنى (ما) (من) أي إلا من شاء الله. والله أعلم بمراده، وقوله في ختام الآية، ﴿إن ربك حكيم عليم﴾، ومن مظاهر حكمنه وعلمه إدخال أهل الكفر والمعاصي النار أجمعين الإنس والجن سواء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:.
١- بيان سنة الله تعالى في الهداية والإضلال.
٢- بيان صعوبة وشدة ما يعاني الكافر إذا عرض عليه الإيمان.
٣- القلوب الكافرة يلقى فيها كل ما لا خير فيه من الشهوات والشبهات وتكون مقراً للشيطان.
٤- فضيلة الذكر المنتج للتذكر الذي هو الاتعاظ فالعمل.
٥- ثبوت التعاون بين أخباث الإنس والجن على الشر والفساد.
٦- إرادة الله مطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا يؤثر فيها شيء.
٢ ذكر المفسرون أقوالاً كثيرة في هذا الاستثناء وما ذكرته في التفسير أحسن ما يؤول به هذا الاستثناء الإلهي في هذه الآية وفي آية هود.
شرح الكلمات:
نولي بعض الظالمين بعضاً: أي نجعل بعضهم أولياء بعض بجامع كسبهم الشر والفساد.
بما كانوا يكسبون: أي من الظلم والشر والفساد.
ألم يأتكم رسل منكم: الاستفهام للتوبيخ والرسل جمع رسول من أوحى الله تعالى إليه شرعه وأمره بإبلاغه للناس، هذا من الإنس أما من الجن فهم من يتلقون عن الرسل من الإنس ويبلغون ذلك إخوانهم من الجن، ويقال لهم النُّذُر.
يقصون عليكم آياتي: يخبرونكم بما فيها من الحجج متتبعين ذلك حتى لا يتركوا شيئاً إلا بلغوكم إياه وعرفوكم به.
وينذرونكم لقاء يومكم: أي يخوفونكم بما في يومكم هذا وهو يوم القيامة من العذاب والشقاء.
وأهلها غافلون: لم تبلغهم دعوة تعرفهم بربهم وطاعته، ومالهم عليها من جزاء..
قوله تعالى: ﴿وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون﴾ إخبار منه تعالى بسنته في أهل الظلم وهي أن يجعل بعضهم أولياء بعض بمعنى يتولاه بالنصرة والمودة بسبب الكسب السيئ الذي يكسبونه على نحو موالاة شياطين الإنس للجن فالجامع بينهم الخبث والشر وهؤلاء الجامع بينهم الظلم والعدوان، ولا مانع من حمل هذا اللفظ على تسليط الظالمين بعضهم على بعض على حد: ولا ظالم إلا سيبتلى بأظلم١. كما أنه تعالى سيوالي يوم القيامة إدخالهم النار فريقاً بعد فريق وكل هذا حق وصالح لدلالة اللفظ عليه.
وقوله تعالى: ﴿يا معشر الجن والإنس﴾ إخبار منه تعالى بأنه يوم القيامة ينادي الجن والإنس موبخاً لهم فيقول: ﴿ألم يأتكم رسل منكم٢ يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا﴾ أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون عنهم ويفهمون عنكم ﴿يقصون عليكم آياتي﴾ أي يتلونها عليكم ويخبرونكم بما تحمله آياتي من حجج وبراهين لتؤمنوا بي وتعبدوني وحدي دون سائر مخلوقاتي، وينذرونكم أي يخوفونكم، لقاء يومكم هذا الذي أنتم الآن فيه وهو يوم القيامة والعرض على الله تعالى. وما يتم فيه من جزاء على الأعمال خيرها وشرها وأن الكافرين هم أصحاب النار. فأجابوا قائلين: شهدنا على أنفسنا- وقد سبق أن غرتهم٣ الحياة الدنيا فواصلوا الكفر والفسق والظلم- ﴿وشهدوا على أنفسهم٤ أنهم كانوا كافرين﴾.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة (١٣١) فقد تضمنت الإشارة إلى علة إرسال الرسل إلى الإنس والجن إذ قال تعالى ﴿ذلك٥ أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم٦
وما من يد إلا يد الله فوقها | ولا ظالم إلاَّ سيبلى بظالم |
٣ غرتهم إذ عجلت لهم طيباتهم فيها فانفردوا بزخارفها وزينتها وطول العمر فيها.
٤ قال مقاتل هذا معنى شهدت عليهم الجوارح بالشرك.
٥ ذلك في موضع رفع أي الأمر ذلك وإن مخففة من الثقيلة أي المشددة واسمها ضمير الشأن محذوف وذلك لأن هذا الخبر له شأن يجدر أن يعرف والتقدير الأمر ذلك لأنه- أي الشأن- لم يكن ربك مهلك القرى بظلم الخ.
٦ الباء في بظلم سببية أي بسبب ظلمهم وجملة وأهلها غافلون حالية.
وفي الآية الأخيرة (١٣٢) أخبر تعالى أن لكل عامل١ من خير أو شر درجات من عمله إن كان العمل صالحاً فهي درجات في الجنة، وإن كان العمل سيئاً فاسداً فهي دركات في النار، وهذا يتم حسب علم الله تعالى بعمل كل عامل وهو ما دل عليه قوله، ﴿وما ربك بغافل عما يعملون﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سنة الله تعالى في أن الأعمال هي سبب الموالاة بين الإنس والجن فذو العمل الصالح يوالي أهل الصلاح، وذو العمل الفاسد يوالي أهل الفساد.
٢- التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا.
٣- بيان العلة في إرسال الرسل وهي إقامة الحجة على الناس، وعدم إهلاكهم قبل الإرسال إليهم.
٤- الأعمال بحسبها يتم الجزاء فالصالحات تكسب الدرجات، والظلمات تكسب الدركات.
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
شرح الكلمات:
الغني: عن كل ما سواه، فغناه تعالى ذاتي ليس بمكتسب كغنى غيره.
ذو الرحمة: صاحب الرحمة العامة التي تشمل سائر مخلوقاته والخاصة بالمؤمنين من عباده.
ويستخلف: أي ينشىء خلقاً آخر يخلفون الناس في الدنيا.
إن ما توعدون لآت: إن ما وعد الله تعالى به عباده من نعيم أو جحيم لآت لا محالة.
على مكانتكم: أي على ما أنتم متمكنين منه من حال صالحة أو فاسدة.
عاقبة الدار: أي الدار الدنيا وهي سعادة الآخرة القائمة على الإيمان والعمل الصالح.
إنه لا يفلح الظالمون: أي لا يفوز الظالمون بالنجاة من النار ودخول الجنان لأن ظلمهم يوبقهم في الآخر.
معنى الآيات:
بعد تلك الدعوة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وبيان جزاء من أقام بها، ومن ضيعها في الدار الآخرة.
خاطب الرب تبارك وتعالى رسوله قائلاً: ﴿وربك الغني١ ذو الرحمة﴾ أي ربك الذي أمر عباده بطاعته ونهاهم عن معصيته هو الغني عنهم وليس في حاجة إليهم، بل هم الفقراء إليه المحتاجون إلى فضله، ورحمته قد شملتهم أولهم وآخرهم ولم تضق عن أحد منهم، ليعلم أولئك العادلون بربهم الأصنام والأوثان أنه تعالى قادر على إذهابهم بإهلاكهم بالمرة، والإتيان بقوم آخرين أطوع لله تعالى منهم، وأكثر استجابة له منهم: ﴿إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين﴾ وليعلموا أن ما يوعدونه من البعث والحساب والجزاء لآت لا محالة وما أنتم بمعجزين الله تعالى ولا فائتينه بحال
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الآية الثالثة (١٣٥) فقد تضمنت أمر الله تعالى للرسول أن يقول للمشركين من قومه وهم كفار قريش بمكة ﴿اعملوا١ على مكانتكم﴾ ما دمتم مصرين على الكفر والشرك ﴿إني عامل﴾ على مكانتي فسوف٢ تعلمون من تكون له عاقبة دار٣ الدنيا وهي الجنة دار السلام أنا أم أنتم مع العلم أن الظالمين لا يفلحون بالنجاة من النار ودخول الجنان، ولا شك أنكم أنتم الظالمون بكفركم بالله تعالى وشرككم به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير غنى الله تعالى المطلق عن سائر خلقه.
٢- بيان قدرة الله تعالى على إذهاب الخلق كلهم والإتيان بآخرين غيرهم.
٣- صدق وعد الله تعالى وعدم تخلفه.
٤- تهديد المشركين بالعذاب إن هم أصروا على الشرك والكفر والذي دل عليه قوله ﴿اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار﴾ الدنيا ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾.
وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ
٢ الجملة تحمل التهديد الشديد وهي تشير إلى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واثق من نصره وحسن عاقبته وهو كذلك إذ الله تعالى الذي بيده الأمر هو الذي أمره أن يعلن عن هذا التهديد.
٣ العاقبة لغة آخر الأمر وأثر عمل العامل، فعاقبة كل شيء هي ما ينجلي عنه الشيء من نتيجة وأثر وتأنيث العافية بالنظر إلى تأويلها بالحالة والحالة مؤنثة.
شرح الكلمات:
مما ذرأ: ما خلق.
من الحرث والأنعام: الحرث كل ما يحرث له الأرض من الزروع، والأنعام: الإبل والبقر والغنم.
نصيباً: حظاً وقدراً معيناً.
لشركائنا: شركاؤهم أوثانهم التي أشركوها في عبادة الخالق عز وجل.
ليردوهم: اللام لام العاقبة ومعنى يردوهم: يهلكوهم.
وليلبسوا: ليخلطوا عليهم دينهم.
حجر: أي ممنوعة على غير من لم يأذنوا له في أكلها.
حرمت ظهورها: أي لا يركبونها ولا يحملون عليها.
افتراء على الله: أي كذباً على الله عز وجل.
على أزواجنا: أي إناثنا.
وإن يكن ميتة: أي إن ولد ما في بطن الحيوان ميتاً فهم فيه شركاء الذكور والإناث سواء.
سفهاً بغير علم: حمقاً وطيشاً وعدم رشد وذلك لجهلهم.
معنى الآيات:
مازال السياق في التنديد بأفعال العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فأخبر تعالى عما كانوا يبتدعونه من البدع ويشرعون من الشرائع بدون علم ولا هدى ولا كتاب مبين فقال تعالى عنهم ﴿وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً١﴾ أي جعل أولئك العادلون بربهم لله تعالى مما خلق من الزرع والأنعام نصيباً أي قسماً كما جعلوا للآلهة التي يؤلهونها مع الله سبحانه وتعالى نصيباً، ﴿فقالوا هذا لله بزعمهم٢، وهذا لشركائنا﴾. وقوله تعالى: ﴿بزعمهم﴾ لأنه سبحانه وتعالى ما طلب منهم ذلك ولا شرعه لهم وإنما هم يكذبون على الله تعالى ثم إذا أنبت أو أنتج ما جعلوه لله، ولم ينبت أو ينتج ما جعلوه للشركاء حولوه إلى الشركاء بدعوى أنها فقيرة وأن الله غني، وإذا حصل العكس لم يحولوا ما جعلوه للآلهة لله بنفس الحجة وهي أن الشركاء فقراء، والله غني.
هذا معنى قوله تعالى: ﴿فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم﴾ وهو تحيز ممقوت وتحكم فاسد فلذا قبح تعالى ذلك عليهم فقال {ساء
٢ الزعم بفتح الزاي وقد تضم وتكسر أيضاً لغات والفتح أشهر والزعم الكذب قال شريح القاضي رحمه الله تعالى إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا وقد كذب المشركون فيما جعلوه لله تعالى حيث لم يشرع ذلك لهم وإنما هم مفتاتون.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية (١٣٧) وهي قوله تعالى ﴿وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم﴾ يريد وكذلك التحكم الباطل والإدعاء الكاذب في جعل لله شيئاً مما ذرأ من الحرث والأنعام، ثم عدم العدل بين الله تعالى وبين شركائهم زين لكثير من المشركين شركاؤهم وهم شياطينهم من الجن والإنس قتل أولادهم كالمؤودة من البنات خوف العار، وكقتل الأولاد الصغار خوف الفقر، أو لنذرها للآلهة١، وفعل الشياطين ذلك من أجل أن يردوهم أي يهلكوهم، ويلبسوا عليهم دينهم٢ الحق أن يخلطوه لهم بالشرك، وهو معنى قوله تعالى ﴿ليردوهم٣ وليلبسوا عليهم دينهم﴾ وقوله تعالى: ﴿ولو شاء الله ما فعلوه﴾ هو كما قال إذ لو أراد تعالى منعهم من ذلك لمنعهم٤ وهو على كل شيء قدير، إذاً فذرهم أيها الرسول وما يفترون من الكذب في هذا التشريع الجاهلي الباطل القبيح.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (١٣٨) وهي قوله تعالى: ﴿وقالوا هذه أنعام وحرث حجر٥ لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه﴾.
فقد تضمنت هذه الآية ثلاثة ضروب من تشريع الجاهلية وأباطيلهم:
الأول: تحريمهم بعض الأنعام والحرث وجعلها لله وللآلهة التي يعبدونها مع الله.
الثاني: أنعام أي إبل حرموا ركوبها كالسائبة والحام.
الثالث: إبلٌ لا يذكرون اسم الله عليها فلا يحجون عليها ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحال ولا إن حملوا عليها.
٢ فإن قيل: وهل كان لهم دين حق؟ الجواب: نعم كان لهم دين حق وهو ما جاءهم به إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام وبطول الزمان وفتنة الشيطان فسد عليهم.
٣ اللام هنا لام العاقبة والصيرورة.
٤ في هذا رد على القدرية وفيه تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخفيف عليه.
٥ في لفظ حجر الفتح والضم والكسر ومعناه المنع وسمي العقل حجراً لأنه يمنع من قول وفعل القبيح وحجر القاضي على المفلس منعه من التصرف في المال وهو مشتق من الحرج بالكسر وهي لغة في الحرج الذي هو الضيق والإثم.
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية الرابعة (١٣٩) ﴿وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتاً فهم فيه شركاء﴾ فقد تضمنت تشريعاً آخر باطلاً اختلقوه بأنفسهم وزعموا أن الله شرعه لهم وهو أنهم حرموا ما في بطون بعض الأنعام على الإناث، وجعلوها حلالاً للذكور خالصة لهم دون النساء فلا يشرب النساء من ألبانها ولا يأكلن لحوم أجنتها إن ذبحوها ولا ينتفعن بها بحال، اللهم إلا أن ولد الجنين ميتاً فإنهم لا يحرمونه على النساء ولا يخصون به الذكور فيحل أكله للنساء والرجال معاً، ولذا توعدهم تعالى بقوله ﴿سيجزيهم وصفهم١ إنه حكيم عليم﴾ أي سيثيبهم على هذا الكذب بما يستحقون من العذاب إنه حكيم في قضائه عليم٢ بعباده.
هذا ما دلت عليه الآية الرابعة أما الخامسة (١٤٠) فقد أخبر تعالى بخسران أولئك المشرعين وضلالهم وعدم هدايتهم بقوله ﴿قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً﴾ أي جهلاً ﴿بغير٣ علم، وحرموا ما رزقهم الله﴾ مما سبق ذكره ﴿افتراءً على الله﴾ كذباً ﴿قد ضلوا! وما كانوا مهتدين﴾.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
١- حرمة الابتداع في الدين والتشريع المنافي لشرع الله تعالى وإن لم ينسب إلى الله تعالى.
٢- ما ينذره الجهال اليوم من نذور للأولياء وإعطائهم شيئاً من الأنعام والحرث والشجر هو من عمل المشركين زينه الشيطان لجهال المسلمين.
٣- حرمة قتل النفس لأي سبب كان وتحديد النسل اليوم وإلزام الأمة به من بعض
٢ قال القرطبي في الآية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول مخالفه وإن لم يأخذ به حتى يعرف فساد قوله ويعلم كيف يرد عليه لأن الله تعالى علّم نبيه وأصحابه قول من خالفهم في زمانهم ليعرفوا فساد قولهم.
٣ في الآية دليل واضح على حرمة القول بدون علم وكذا الاعتقاد والعمل فلا يحل لأحد أن يعتقد أو بقول أو يعمل بدون علم شرعي قد تمكن من معرفته.
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (١٤٢) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
أنشأ جنات: خلق جنات جمع جنة وهي البستان.
معروشات: ما يعمل له العريش من العنب، وما لا يعرش له من سائر الأشجار.
مختلفاً أكله: أي ثمره الذي يأكل منه.
متشابهاً: في الورق وغير متشابه في الحب والطعم.
حقه: ما وجب فيه من الزكاة.
يوم حصاده: يوم حصاده إن كان حباً وجذاذه إن كان نخلاً.
ولا تسرفوا: في إخراجه: أي بأن لا تبقوا لعيالكم منه شيئاً.
حمولة: الحمولة ما يحمل عليها من الإبل.
وفرشا: الفرش الصغار من الحيوان.
خطوات الشيطان: مسالكه في التحريم والتحليل للإضلال والغواية.
أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين: أنثى الضأن وأنثى الماعز ذكراً كان أو أنثى.
نبئوني بعلم: خبروني بأيهما حرم بعلم صحيح لا بوسواس الشياطين.
أم كنتم شهداء: أي حاضرين وقت تحريمه تعالى ذلك عليهم إن كان قد حرمه كما تزعمون.
معنى الآيات:
لما توعد الحق تبارك وتعالى المفترين عليه حيث حرموا وحللوا ما شاءوا ونسبوا ذلك إليه افتراء عليه تعالى، وما فعلوه ذلك إلا لجهلهم بالله تعالى وعدم معرفتهم بعلمه وقدرته وإلا لما اتخذوا له أنداداً من الأحجار وقالوا: شركاؤنا، وشفعاؤنا عند الله. ذكر تعالى في هذه الآيات الأربع ظاهر قدرته وعلمه وحكمته وأمره ونهيه وحجاجه في إبطال تحريم المشركين ما أحل الله لعباده فقال تعالى: ﴿وهو الذي أنشأ جنات١﴾ أي بساتين وحدائق من العنب
وهما الكبش والنعجة، ﴿ومن المعز اثنين﴾ وهما التيس والعنزة، وأمر رسوله أن يحاج المفترين في التحريم والتحليل فقال له ﴿قل﴾ يا رسولنا لهم ﴿آلذكرين٤ حرم﴾ الله عليكم ﴿أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين﴾ أي النعجة والعنزة ﴿نبؤني بعلم إن كنتم صادقين﴾ فإن قلتم حرم الذكرين فلازم ذلك جميع الذكور حرام، وإن قلتم حرم الأنثيين
فلازمه أن جميع الإناث حرام وإن قلتم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فكل ما ولد منهما حرام ذكراً كان أو أنثى فكيف إذا حرمتم البعض وحللتم البعض فبأي علم أخذتم نبوئوني به إن كنتم صادقين وقوله تعالى ﴿ومن الإبل اثنين﴾ وهما الناقة والجمل، ﴿ومن البقر اثنين﴾ وهما الثور والبقرة {قل آلذكرين٥ حرم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام ٦
٢ كان قبل فريضة الزكاة يتعين على عن حصد أو جد ثمره وأتاه المساكين أن يعطيهم شيئاً مما بين يديه قل أو كثر ولما فرضت الزكاة وحددت مقاديرها خصص هذا بها حيث بُين الحق المجمل هنا.
٣ في الآية دليل حرمة الإسراف وهو محرم في كل شيء وهو الخروج عن حد الاعتدال والقصد.
٤ الاستفهام للإنكار أي ينكر عليهم أن يكون الله حرم ذلك.
٥ إبطال لما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
٦ إبطال لقولهم: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا.
وقوله تعالى ﴿أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله﴾ بهذا التحريم فهو تبكيت لهم وتقريع، إذ لم يحرم الله تعالى هذا الذي حرموه، ولم يوصهم بذلك ولم يكونوا حال الوصية حضورا، وإنما هو الافتراء والكذب على الله تعالى.
وأخيراً سجل عليهم أنهم كذبة ظالمون مضلون وخيرهم بغير علم، وأنهم لا يستحقون الهداية فقال عز وجل: ﴿فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل١ الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
١- إباحة أكل التمر والعنب والرمان والزيتون.
٢- وجوب الزكاة في الزيتون والتمر والحبوب إذا بلغت النصاب وهو خمسة أوسق والوسق ستون صاعاً، والصاع أربع حفنات.
٣- جواز الأكل من الثمر قبل جذاذه وإخراج الزكاة٢ منه.
٤- حرمة الإسراف في المال بأن ينفقه فيما لا يعنى، أو ينفقه كله ولم يترك لأهله شيئاً.
٥- إباحة أكل بهيمة الأنعام وهي ثمانية أزواج، ضأن٣ وماعز، وإبل وبقر وكلها ذكر وأنثى.
٦- إبطال تشريع الجاهلية في التحريم والتحليل، فالحلال ما أحله الله ورسول والحرام
٢ الضأن من ذوات الصوف والمعز من ذوات الشعر.
٣ اختلف في زكاة التين والراجح أنه إذا بلغ خمسة أوسق بعد يبسه يزكى لأنه يدخر ويقتات واختلف في الخرص للثمر والعنب والجمهور على جوازه للحديث الوارد في ذلك وهو "وإنما كان أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخرص لكي تحصى الزكاة قل أن تؤكل الثمار وتفرق". رواه الدارقطني.
٧- جواز الجدال والحجاج لإحقاق الحق أو إبطال الباطل.
٨- لا أظلم ممن يكذب على الله تعالى، فيشرع لعباده ما لم يشرع لهم.
قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (١٤٦) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
شرح الكلمات:
محرماً على طاعم يطعمه: محظوراً ممنوعاً على آكل يأكله.
ميتة أو دماً مسفوحاً: الميتة: ما مات دون تزكية، والدم المسفوح؟ المصبوب صباً لا المختلط باللحم والعظام.
رجس: نجس وقذر قبيح محرم.
أو فسقا أهل لغير الله به: الفسق الخروج عن طاعة الله والمراد ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه وإنما ذكر عليه اسم الأصنام أو غيرها، والإهلال
فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد: اضطر: ألجأته الضرورة وهي خوف الهلاك، والباغ الظالم، والعادي: المعتدي المجاوز للحد.
هادوا: اليهود.
ذي ظفر: صاحب ظفر وهو الحيوان الذي لا يفرق١ أصابعه كالإبل والنعام.
ما حملت ظهورها أو الحوايا: أي الشحم العالق بالظهر، والحوايا٢: المباعر والمصارين والأمعاء.
أو ما اختلط بعظم: أي عفى لهم عن الشحم المختلط بالعظم كما عفي عن الحوايا والعالق بالظهر.
ببغيهم: أي بسبب ظلمهم.
ولا يرد بأسه: بطشه وعذابه.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحجاج مع أولئك المحرمين ما لم يحرم الله ففي أولى هذه الآيات يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للذين يحرمون افتراءً على الله ما لم يحرم ﴿لا أجد فيما أوحي إلي﴾ - وأنا رسول الله- ﴿محرماً﴾ أي شيئاً محرماً ﴿على طاعم يطعمه﴾ أي آكل يأكله اللهم ﴿إلا أن يكون ميتة﴾ وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه أي لم يذك الذكاة الشرعية، ﴿أو دماً مسفوحاً﴾ أي مصبوباً صباً لا الدم المختلط بالعظم واللحم كالكبد والطحال، ﴿أو لحم خنزير فإنه﴾ أي لحم الخنزير ﴿رجس﴾ أي نجس قذر حرام، (أو فسقاً٣ أهل لغير الله به} أي ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه أو ذكر اسم الأصنام عليه فهو فسق أي خروج عن طاعة الرب الذي أمر من أراد ذبح بهيمة أن يذكر عليها اسمه ليحل له أكلها.
٢ واحد الحوايا حاوية. وحويّة والمراد بها ما تَحوَّى من الأمعاء واستدار منها.
٣ تقدير الكلام أو أن يكون المراد أكل ما أهل لغير الله به فصار فسقاً لذلك إذ الذبح لغير الله شرك وخروج من الدين، والفسق يطلق على التفصي من طاعة الله تعالى وطاعة رسوله.
وقوله تعالى ﴿فمن اضطر غير باغ ولا عاد﴾ أي غير ظالم بأكل الميتة وما ذكر معها وذلك بأن يأكلها تلذذاً بها لا دفعاً لغائلة الموت وهو كاره لأكلها ﴿ولا عاد﴾ أي غير متجاوز القدر الذي أبيح له وهو ما يدفع به غائلة الموت عن نفسه ﴿فإن ربك غفور رحيم﴾ ومن مظاهر مغفرته ورحمته أنه أذن للمضطر بالأكل مما هو حرام في الضرورة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٤٥) أما الآية الثانية فبعد أن بين تعالى أنه لم يحرم على المؤمنين غير ما ذكر من الميتة وما ذكر بعدها أخبر أنه حرم على اليهود أكل كل ذي ظفر وهو ما ليس له أصابع مفرقة مثل الإبل والنعام والبط والإوز ومن البقر والغنم حرم عليهم شحومهما وهو الشحم اللاصق بالكرش والكلى، وأباح لهم من الشحوم ما حملته البقرة أو الشاة على ظهرها، وما كان لاصقاً بالماعز وهي الحوايا جمع حاوية وكذا الشحم المختلط بالعظام كشحم اللية، وشحم الجانب والأذن والعين وما إلى ذلك.
هذا ما تضمنه قوله تعالى من الآية الثانية ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم﴾ ثم أخبر تعالى بأن هذا التحريم عليهم كان عقوبة لهم بسبب ظلمهم وإجرامهم فقال ﴿ذلك جزيناهم ببغيهم٢﴾ أي ذلك التحريم منا عليهم كان جزاء ظلمهم، وقوله ﴿وإنا لصادقون﴾ فيما أخبرنا به عنهم، وهم الكاذبون إذ قالوا إنما حرم هذا على إسرائيل ونحن أتباع له أما نحن فلم يحرم علينا شيء وإنهم لكاذبون. وقوله تعالى ﴿فإن كذبوك﴾ ٣ أي اليهود فيما أخبرت به عنهم ﴿فقل﴾ لهم ﴿ربكم ذو رحمة واسعة٤﴾ ولذا لم يعاجلكم بالعقوبة وقد كذبتموه وكذبتم رسوله وافتريتم على رسله، ولكن ليس معنى ذلك أنكم نجوتم من
٢ من بغيهم قتلهم الأنبياء وأكل الربا وتبرج النساء واستحلال المحرمات بالحيل والفتاوى الفاسدة.
٣ قيل إن المراد بالمكذبين المشركون، وقيل اليهود وكلاهما مكذب وكافر واللفظ يصدق عليهما معاً.
٤ من مظاهر رحمته أنه يحلم على العصاة وينظرهم ويمهلهم لعلهم يتوبون فعدم تعجيله العقوبة هو دليل رحمته الواسعة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة الميتة وأنواعها في سورة المائدة وهي المنخنقة والموقوذة، والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، وحرمة الدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب وحرم بالسنة الحمر٢ الأهلية والبغال، وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور.
٢- قد يُحْرم العبد بالذنوب من كثير من الطيبات كما حصل لليهود.
٣- إمهال الله تعالى المجرمين لا يدل على عدم عقوبتهم فإن بأس الله لا يرد عن القوم المجرمين
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ
٢ ذكر القرطبي أن علة تحريم الحمار قد تكون حاجة الناس للحمل عليه والركوب وذكر علة أخرى وهي كونه نجساً وذكر عن الترمذي في نوادر الأصول أن الحمار أظهر جوهره الخبيث حيث نزا على ذكره وتلوّط فسمى لذلك رجساً وليس في الدواب من يعمل عمل قوم لوط إلا الحمار والخنزير.
شرح الكلمات:
أشركوا: أي جعلوا لله شركاء له يعبدونهم معه.
ولا حرمنا من شيء: أي مما حرموه من البحائر والسوائب والوصائل والحامات.
ذاقوا بأسنا: أي عذابنا.
تخرصون: تكذبون.
الحجة البالغة: الدليل القاطع للدعاوي الباطلة.
هلم شهداءكم: أي أحضروهم.
يعدلون: أي به غيره من الأصنام وسائر المعبودات الباطلة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في رد ترهات وأباطيل العادلين بربهم المشركين في ألوهيته سواه فذكر تعالى في الآيتين (١٤٨) و (١٤٩) شبهة للمشركين يتخذونها مبرراً لشركهم وباطلهم وهي قولهم: ﴿لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا١ ولا حرمنا من شيء٢﴾ يريدون أن عدم مؤاخذة الله تعالى لنا ونحن نشرك به ونحرم ما نحرمه دليل على رضا الله بذلك٣ وإلا لمنعنا منه وحال دون فعلنا له، فرد الله تعالى هذه الشبهة وأبطلها بقوله: ﴿كذلك كذب الذين من قبلهم٤ حتى ذاقوا بأسنا﴾ أي مثل هذا التكذيب الصادر من هؤلاء العادلين بربهم من كفار قريش ومشركيها كذب الذين من قبلهم من الأمم، وما زالوا على تكذيبهم حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلو كان تعالى راضياً بشركهم وشرهم وباطلهم لما أخذهم فإمهال الله تعالى للناس لعلهم يتوبون ليس دليلاً على رضاه بالشرك والشر، والحجة أنه متى انتهت فترة الإمهال نزل بالمكذبين العذاب.
٢ أي من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
٣ قولهم هذا دال على جهل مركب منهم بالله تعالى وحكمته وتدبيره وهذا ناتج عن كفرهم وعدم إيمانهم بالله وكتابه ورسوله، فالله أوجد العبادة في هذه الحياة ليبتليهم يجزيهم لا أن يجبرهم على ما يحب نهم.
٤ في قوله كذلك كذب الذين من قبلهم دلالة على أن المشركين لم يريدوا من قولهم لو شاء الله ما أشركنا إلا رد قول الرسول وتكذيبه فيما جاء به ويدعوهم إليه حتى لكأن كلامهم هذا من باب كلمة حق أريد بها باطل.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية وأما الآية الثالثة (١٥٠) وهي قوله تعالى: ﴿قل هلم شهداءكم٣ الذين يشهدون أن الله حرم هذا﴾ أي الذين حرمتموه فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بهم " ﴿فإن شهدوا فلا نشهد معهم﴾ " وإن فرضنا أنهم يأتون بشهداء باطل يشهدون٤ فلا تقرهم أنت أبها الرسول على باطلهم بل بين لهم بطلان ما ادعوه، فإنهم لا يتبعون في دعاويهم إلا الأهواء، وعليه ﴿لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون﴾، وقد جمع هؤلاء المشركون كل هذه العظائم من الذنوب التكذيب بآيات الله، وعدم الإيمان بالآخرة، والشرك بربهم فكيف يجوز اتباعهم وهم مجرمون ضالون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والاستمرار فيها.
٢- لا حجة إلا في قام على أساس العلم الصحيح.
٣- الحكمة في عدم هداية الخلق كلهم مع قدرة الله تعالى على ذلك هو التكليف
٢ فالله الفاء هنا هي الفاء الفصيحة إذ هي مفصحة عن كلام سابق ترتب عليه ما بعدها ترتب الجزاء على الشرط تقديره هنا فإن كان قولكم لمجرد إتباع الظن والخرص والحزر ولا علم لكم فلله تعالى الحجة البالغة التي تصل إلى الحقيقة وتؤكدها وتبطل ما عداها.
٣ الأمر هنا للتعجيز والشهداء جمع شهيد بمعنى شاهد.
٤ أي كذبهم واعلم بأنهم شهداء زور فقوله تعالى فلا تشهد معهم معناه كذبهم ولا تقرهم فإنهم شهداء زور لا غير.
٤ – مشروعية الشهادة وحضور الشهود.
٥- عدم إقرار شهادة الباطل وحرمة السكوت عنها.
٦ – حرمة اتباع أصحاب الأهواء الذين كذبوا بآيات الله.
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)
شرح الكلمات:
اتل: اقرأ.
الفواحش: جمع فاحشة كل ما قبح واشتد قبحه كالزنى والبخل.
حرم الله: أي حرم قتلها وهي كل نفس إلا نفس الكافر المحارب.
إلا بالحق: وهو النفس بالنفس وزنى المحصن، والردة.
بالتي هي أحسن: أي بالخصلة التي هي أحسن.
أشده: الاحتلام مع سلامة العقل.
بالقسط: أي بالعدل.
إلا وسعها: طاقتها وما تتسع له.
تذكرون: تذكرون فتتعظون.
السبل: جمع سبيل وهي الطريق.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إبطال باطل العادلين بربهم المتخذين له شركاء الذين يحرمون بأهوائهم ما لم يحرمه الله تعالى عليهم فقد أمر تعالى رسوله في هذه الآيات الثلاث أن يقول لهم: ﴿١تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم﴾ لا ما حرمتموه أنتم بأهوائكم وزينه لكم شركاؤكم. ففي الآية الأولى جاء تحريم خمسة أمور وهي: الشرك، وعقوق الوالدين، وقتل الأولاد، وارتكاب الفواحش، وقتل النفس فقال تعالى: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم٢ ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً﴾ فأن تفسيرية٣، ولا ناهية وهذا أول محرم وهو الشرك بالله تعالى، ﴿وبالوالدين إحسانا﴾، وهذا أمر إذ التقدير وأحسنوا بالوالدين إحساناً، والأمر بالشيء نهي عن ضده فالأمر بالإحسان يقتضي تحريم الإساءة والإساءة إلى الوالدين هي عقوقهما، فكان عقوق الوالدين محرماً داخلاً ضمن المحرمات المذكورة في هذه الآيات الثلاث. {ولا تقتلوا
٢ هذه الآيات الثلاثة: قل تعالوا أتل إلى قوله تتقون تضمنت عشراً من الوصايا قال ابن عباس هي محكمات وأجمعت الشرائع الإلهية على تقريرها والعمل بها.
٣ أي فسرت المحرم وهو الشرك بالله تعالى، وهو أول المحرمات وقدم لأنه أخطرها وأضرها بالإنسان.
وفي الآية الثانية وهي قوله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده٣، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان
٢ قوله تعالى إلا بالحق يخرج به نفس الكافر المحارب فقط فهي التي تقتل بحق الحرب والكفر، وما عداها فكل نفس محرمة القتل ولذا حرم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفس الكافر المعاهد والذمّي بقول من قتل معاهداً في غير كنهه أي في غير الحقيقة التي توجب قتله كنقضه المعاهدة مثلاً. حرم الله عليه الجنة، والحق الذي تقتل به النفس المحرمة القتل هو قتل النفس. وزنى المحصن والردة والخروج عن إمام المسلمين والمفارقة للجماعة.
٣ قيل الأشد مفرد لا جمع له بمنزلة الآنك أي الرصاص. وقيل واحده شدّ نحو فلس وافلس، وهو مأخوذ من شد النهار إذا ارتفع.
وقوله تعالى ﴿وإذا قلتم فاعدلوا٣ ولو كان ذا قربى﴾ هذا المحرم الثالث وهو قول الزور وشهادة الزور، إذ الأمر بالعدل في القول ولو كان المقول له أو فيه قريباً نهى عن ضده وهو الجور في القول.
وقوله تعالى ﴿وبعهد٤ الله أوفوا﴾ متضمن للمحرم الرابع وهو نكث العهد وخلف الوعد، إذ الأمر بالوفاء بالعهود نهي عن نكثها وعدم الوفاء بها، وقوله تعالى ﴿ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون﴾ إشارة إلى ما تضمنته هذه الآية الثانية مما حرم تعالى على عباده، وقوله ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي ليعدكم بذلك لأن تذكروا فتتعظوا فتجتنبوا ما حرم عليكم. وقوله تعالى: ﴿وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون﴾ هذه هي الآية الثالثة من آيات الوصايا العشر٥ وقد تضمنت
٢ رد في التطفيف وعيد شديد قال تعالى ويل للمطففين، وقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق.
٣ الأمر بالعدل في القول يتناول الأحكام والشهادات.
٤ هذا الوفاء عام في كل ما عهد الله تعالى به إلى عباده من سائر الفرائض والواجبات وسائر التكاليف كما يتضمن العهود التي تكون بين الإنسان وأخيه الإنسان.
٥ هذه الوصايا العشر موجودة في أول التوراة ومع الأسف أضاعها اليهود لشقائهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- هذه الوصايا العشر عليها مدار الإسلام وسعادة الإنسان في الدارين كان عبد الله بن مسعود يقول فيها "من سره أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ الآيات الثلاث من آخر سورة الأنعام: ﴿قل تعالوا.... تتقون﴾.
٢- حرمة الشرك وحقوق الوالدين وقتل الأولاد والزنى واللواط وكل قبيح من قول أو عمل أو اعتقاد وقتل النفس إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وبخس الكيل والوزن، وقول الزور وشهادة الزور، ونكث العهد وخلف الوعد. والردة عن الإسلام، وإتباع المذاهب الباطلة والطرق الضالة.
٣- كمال المعقل باجتناب المحرمات الخمس الأولى.
٤- الحصول على ملكة المراقبة باجتناب المحرمات الأربع الثانية.
٥- النجاة من النار والخزي والعار في الدارين بالتزام الإسلام حتى الموت والبراءة من غيره من سائر المذاهب١ والملل والطرق.
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء
شرح الكلمات:
الكتاب: التوراة.
وتفصيلاً لكل شيء: تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها وعباداتها وفضائلها وأحكامها.
وهذا كتاب أنزلناه: القرآن الكريم.
مبارك: خيريته ونفعه وبركته دائمة.
على طائفتين من قبلنا: اليهود والنصارى.
عن دراستهم: أي قراءتهم لكتبهم لأنها بلسانهم ونحن لا نفهم ذلك.
وصدف عنها: أعرض عنها ولم يلتفت إليها.
سوء العذاب: أي سيء العذاب وهو أشده.
معنى الآيات:
هذا الكلام متصل بما قبله، فثم١ حرف عطف والمعطوف عليه هو قل تعالوا أتل الآيات أي ثم قل يا رسولنا آتى ربي موسي الكتاب تماماً لنعمه ﴿على الذي أحسن﴾ طاعة ربه وهو
هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي قوله تعالى: ﴿ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم١﴾ أي بني إسرائيل ﴿يؤمنون﴾ فيعملون الصالحات ويتخلون عن المفاسد والشرور لما تجلبه لهم من غضب الله تعالى وعذابه.
أما الآية الثانية (١٥٥) فقد أشاد الله تعالى بالقرآن الكريم ممتناً بإنزاله وما أودع فيه من البركة التي ينالها كل من يؤمن به ويعمل به ويتلوه تعبداً وتقرباً وتعلماً.
هذا معنى قوله تعالى: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك﴾ وقوله ﴿فاتبعوه٢....﴾ أمر للعباد بإتباع ما جاء في القرآن الكريم من عقائد وعبادات وشرائع وأحكام فإن من اتبعه قاده إلى السعادة والكمال في الحياتين، وقوله ﴿واتقوا٣ لعلكم ترحمون﴾ أي اتقوا ترك العمل به ليعدكم ذلك الذي هو متابعة القرآن والتقوى للرحمة فترحمون في الدنيا والآخرة.
وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: ﴿أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين﴾ فمعناها: إن الله تعالى أنزل الكتاب على رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمره بتلاوته وإبلاغه الناس لئلا يقول الكافرون من العرب إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا اليهود والنصارى والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل، ﴿وإن كنا عن دراستهم لغافلين﴾ إذ لم نعرف لغتهم، ولم نعرف ما يقرأونه في كتابهم، فتقوم الحجة لكم علينا فقطعاً لهذه الحجة أنزلنا الكتاب.
وقوله تعالى في الآية الرابعة: ﴿أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة﴾ كما قطع تعالى عذرهم بإنزال كتابه الكريم لو قالوا يوم القيامة إنما أنزل الكتاب على اليهود والنصارى ونحن لم ينزل إلينا شيء فلذا ما عرفنا ربنا ولا عرفنا محابه ومكارهه فنطيعه بفعل محابه وترك مكارهه، قطع كذلك عذرهم لو قالوا
٢ أي اعملوا بما فيه متتبعين ما فيه من أوامر ونوه تفعلون الأمر وتتركون النهي.
٣ أي اتقوا تحريفه وتبديله كما فعلت اليهود.
هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (١٥٧) ﴿أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم﴾ أي كراهية أن تقولوا. (فقد جاءكم١ بينة من ربكم وهدى٢ ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان منة الله تعالى على موسى عليه السلام والثناء عليه لإحسانه.
٢- تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة.
- الإشادة بالقرآن الكريم، وما أودع الله فيه من البركة والهدى والرحمة والخير.
٤- قطع حجة المشركين بإنزال الله تعالى كتابه وإرسال رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٥- التنديد٣ بالظلم، وبيان جزاء الظالمين المكذبين بآيات الله المعرضين عنها.
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ
٢ الهدى والرحمة المراد بهما ما في القرآن الكريم من هدى ورحمة للمؤمنين بقرينة. فمن أظلم ممن كذب بآيات الله.
٣ وفي الحديث الصحيح: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة". وفي آخر الظلم يذر الديار بلا قع أي فقراً خالية.
شرح الكلمات:
بعض آيات ربك: أي علامات الساعة منها طلوع الشمس من مغربها.
كسبت في إيمانها خيراً: من الطاعات والقربات.
فرقوا دينهم.: جعلوه طرائق ومذاهب تتعادى.
وكانوا شيعاً: طوائف وأحزاباً.
من جاء بالحسنة: أي أتى يوم القيامة بالحسنة التي هي الإيمان بالله والإقرار بوحدانيته والعمل بطاعته وطاعة رسوله.
ومن جاء بالسيئة: أي بالشرك بالله ومعاصيه.
معنى الآيات:
بعد ذكر الحجج وإنزال الآيات التي هي أكبر بينة على صحة التوحيد وبطلان الشرك، والعادلون بربهم الأصنام مازالوا في موقفهم المعادي للحق ودعوته ورسوله فأنزل الله تعالى قوله: ﴿هل ينظرون....﴾ أي ما ينتظرون ﴿إلا أن تأتيهم الملائكة﴾ لقبض أرواحهم، ﴿أو يأتي ربك﴾ يوم القيامة لفضل القضاء، ﴿أو يأتي بعض آيات ربك﴾ الدالة على قرب الساعة كطلوع الشمس من مغربها، إن موقف الإصرار على التكذيب هو موقف المنتظر لما ذكر تعالى من الملائكة ومجيء الرب تعالى أو مجيء علامات الساعة للفناء. وقوله تعالى ﴿يوم يأتي بعض آيات١ ربك﴾ الدالة على قرب الساعة وهي طلوع الشمس من
وقوله تعالى ﴿قل انتظروا إنا منتظرون﴾ يأمر الله رسوله أن يقول لأولئك العادلين بربهم المصرين على الشرك والتكذيب: مادمتم منتظرين انتظروا إنا منتظرون ساعة هلاككم فإنها آتية لا محالة.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٨) أما الآيتان بعدها فإن الله تعالى أخبر رسوله بأن الذين فرقوا دينهم٢ وكانوا شيعاً أي طوائف وأحزاباً وفرقاً مختلفة كاليهود والنصارى، ومن يبتدع من هذه الأمة بدعاً فيتابع عليها فيصبحون فرقاً وجماعات ومذاهب مختلفة متطاحنة متحاربة هؤلاء ﴿لست منهم في شيء﴾ أي أنت بريء منهم، وهم منك بريئون، وإنما أمرهم إلى الله تعالى هو الذي يتولى جزاءهم فإنه سيجمعهم يوم القيامة ثم ينبنهم بما كانوا يعملون من الشر والخير ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، وهم لا يظلمون﴾ من قبلنا فلا ننقص المحسن منهم حسنة من حسناته، ولا نضيف إلى سيئآته سيئة ما عملها، هذا حكم الله فيهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- إثبات صفة الإتيان في عرصات القيامة للرب تبارك وتعالى لفصل القضاء.
٢- تقرير أشراط الساعة وإن طلوع الشمس منها وأنها متى ظهرت أغلق باب التوبة.
٣- حرمة الفرقة في الدين وأن اليهود والنصارى فرقوا دينهم وأن أمة الإسلام أصابتها الفرقة كذلك بل وهي أكثر لحديث وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة.
٢ قرىء فارقوا دينهم أي تركوه وتخلوا عنه وقراءة الجمهور فرقوا بالتضعيف حيث أصبح لكل فرقة اعتقاد وعمل خاص لها ومن فرَّق فقد فارق أحب أم كره.
٥- مضاعفة الحسنات، وعدم مضاعفة السيئات عدل من الله ورحمة.
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٦٥)
شرح الكلمات:
قيماً١: أي مستقيماً.
ملة إبراهيم: أي دين إبراهيم وهو الإسلام.
حنيفاً: مائلاً عن الضلالة إلى الهدى.
ونسكي: ذبحي تقرباً إلى الله تعالى.
ومحياي: حياتي.
أبغي رباً: أطلب رباً إلهاً معبوداً أعبده.
ولا تزر وازرة: أي لا تحمل نفس وازرة أي آثمة.
وزر أخرى: أي إثم نفس أخرى.
ليبلوكم فيما آتاكم: أي ليختبركم فيما أعطاكم من الصحة والمرض والمال والفقر والعلم والجهل.
معنى الآيات:
في هذه الآيات وهي خاتمة هذه السورة التي بلغت آياتها بضعاً وستين ومائة آية وكانت كلها في الحجاج مع العادلين بربهم وبيان طريق الهدى لهم لعلهم يؤمنون فيوحدون ويسلمون. في هذه الآيات أمر الله رسوله أن يعلن عن مفاصلته لأولئك المشركين فقال له ﴿قل إن صلاتي ونسكي١﴾ أي ما أذبحه تقرباً إلى ربي، ﴿ومحياي﴾ أي ما آتيه في حياتي ﴿ومماتي﴾ أي ما أموت عليه من٢ الطاعات والصالحات ﴿لله رب العالمين﴾ وحده ﴿لا شريك له وبذلك أمرت﴾ أي أمرني ربي سبحانه وتعالى، ﴿وأنا أول المسلمين﴾ لا يسبقني أحد أبداً. كما أمره أن ينكر على المشركين دعوتهم إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن يعبد معهم آلهتهم، ليعبدوا معه إلهه وقال: ﴿قل أغير الله أبغي رباً﴾ أي أطلب إلهاً، ﴿وهو رب كل شيء﴾ أي ما من كائن في هذه الحياة إلا والله ربه أي خالقه ورازقه، وحافظه، وأعلمه أنه لا تكسب نفس
من خير إلا وهو لها، ولا تكسب من شر إلا عليها، وأنه ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ أي لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس مذنبة أخرى، وأن مرد الجميع إلى الله تعالى ﴿ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾ أي ويقضي بينكم فينجو من ينجو ويهلك من يهلك، كما أخبره أن يقول: ﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض﴾ أي يخلف بعضكم بعضاً هذا يموت فيورث، وهذا الوارث يموت فيورث، وقوله ﴿ورفع بعضكم فوق بعض درجات﴾ أي هذا غني وهذا فقير، هذا صحيح وهذا ضرير هذا عالم وذاك جاهل، ثم علل تعالى لتدبيره فينا بقوله ﴿ليبلوكم﴾ أي يختبركم فيما آتاكم ليرى الشاكر ويرى الكافر ولازم الابتلاء النجاح أو الخيبة فلذا قال ﴿إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم﴾ فيعذب الكافر ويغفر ويرحم الشاكر.
هداية الآيات:
٢ وقال القرطبي في الآية وما أوصى به بعد وفاتي وهو حسن ويشهد له قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم.
١- ملة إبراهيم عليه السلام هي الإسلام.
٢- مشروعية قول ﴿إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين﴾ في القيام للصلاة١.
٣- لا يصح طلب رب غير الله تعالى لأنه رب كل شيء.
٤- عدالة الله تعالى تتجلى يوم القيامة.
٥- عدالة الجزاء يوم القيامة.
٦- تفاوت الناس في الغنى والفقر والصحة والمرض، والبر والفجور وفي كل شيء مظهر من مظاهر تدبير الله تعالى في خلقه. ينتفع به الذاكرون من غير أصحاب الغفلة والنسيان.
مكية١
وآياتها خمس ومائتا آية
بسم الله الرحمن الرحيم
المص (١) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (٤) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥)