سورة الأنعام
مكية غير ست أو ثلاث آيات :
من قوله ( قل تعالوا ) وهي مائة وخمس، أو ست وستون آية
وعشرون ركوعا
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ جمع السماوات لظهور تعددها دون الأرض،
﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ أي : أنشأهما، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها، فإن لكل جرم نور،
﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾، عطف على الحمد لله وتم للاستبعاد ومفعول يعدلون محذوف أي : يسوون الأوثان ( بربهم ) أو بربهم متعلق ب ( كفروا ) و( يعدلون ) من العدول لا من العدل وصلته محذوفة أي : يعدلون عنه، وقيل : الباء بمعنى عن فيتعلق بيعدلون.
﴿ هو الذي خلقكم ﴾ : ابتدأ خلقكم، ﴿ من طين ﴾ فإن آدم منه، ﴿ ثم قضى أجلا ﴾ أي : الموت، ﴿ وأجل مسمى ﴾ أي : الآخرة، ﴿ عنده ﴾ : لا يعلمه إلا هو، أو مدة الدنيا وعمر الإنسان، أو النوم والموت، أو مدة العمر ومدة البرزخ، والواو إما للعطف على ( هو الذي ) أو للحال، ﴿ ثم أنتم تمترون ﴾ : تشكون في أمر الساعة.
﴿ وهو الله في السماوات وفي الأرض ﴾ : متعلق بالله باعتبار المعنى الوصفي الذي ضمنه اسم الله وهو مقولية هذا الاسم عليه خاصة أو متعلق بقوله :﴿ يعلم ﴾ ولا يلزم كون ذاته أو علمه فيهما : بل يكفي كون المعلوم فيهما وهو إما خبر ثان أو حال، ﴿ سرّكم وجهركم ويعلم ما تكسبون ﴾ : من خير وشر.
﴿ وما تأتيهم من آية ﴾ ( من ) زائدة للاستغراق، ﴿ من آيات ربهم ﴾ : الدالة على وحدانيته، و( من ) تبعيضية لا تبيينية إلا أن تكون النكرة في النفي بمعنى جميع الأفراد، ﴿ إلا كانوا عنها ﴾ : عن التفكر فيها، ﴿ معرضين ﴾ : لا يلتفتون إليها.
﴿ فقد كذّبوا بالحق ﴾ أي : القرآن، ﴿ لما جاءهم ﴾ أي : إن أعرضوا فلا تعجب فإنهم كذّبوا بأعظم آية، وهذا أشد من الإعراض، ﴿ فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ﴾ أي : أخبار القرآن وأحواله بأنهم بأي شيء استهزءوا، وهذا تهديد ووعيد شديد.
﴿ ألم يروا كم ﴾ : قوم، ﴿ أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾ والقرن أهل كل عصر أو مدة أعمار الناس، ﴿ مكّناهم في الأرض ﴾ : أعطيناهم من العمر، والمال، ﴿ ما لم نُمكّن لكم ﴾ : ما لم نعطه لكم، ﴿ وأرسلنا السماء ﴾ : المطر والسحاب ﴿ عليهم مدرارا ﴾ : كثير الدر أي : النصب، ﴿ وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ : بالعذاب من القحط والصواعق وغيرهما، ﴿ وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ﴾ : بدلا منهم فليخافوا أن نفعل بهم كما فعلنا بهؤلاء.
﴿ ولو نزّلنا عليك كتابا ﴾ : مكتوبا، ﴿ في قرطاس فلمسوه بأيديهم ﴾ واللمس أبلغ في إيقاع العلم من المعاينة، فإن الأكثر أنه بعد المعاينة، وأكثر السحر والتزوير في المراءى، ﴿ لقال الذين كفروا ﴾ : عنادا، ﴿ إن هذا ﴾ : ما هذا، ﴿ إلا سحر مبين ﴾ قيل : نزلت حين قالوا لا نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملك يشهدون أنه من عند الله.
﴿ وقالوا لولا ﴾ : هلا ﴿ أُنزل عليه ﴾ : على محمد، ﴿ مَلك ﴾ : يخبرنا أنه نبي، ﴿ ولو أنزلنا مَلَكاً ﴾ : بحيث يرونه كما اقترحوا، ﴿ لقُضي الأمر ﴾ : لحق إهلاكهم وعذابهم، فإن سنة الله جرت على أن من اقترح آية ولم يؤمن بها بعد نزولها استؤصلوا بالعذاب، ﴿ ثم لا يُنظرون ﴾ : لا يمهلون.
﴿ ولو جعلناه ﴾ أي : الرسول الذي أنزل على محمد، ﴿ ملكا ﴾ : يشهد على صدقه، ﴿ لجعلناه رجلا ﴾ : في صورة رجل فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته، أو معناه ؛ ولو جعلنا الرسول إليكم بدل الرسول البشري ملكا فإنهم قالوا أيضا :( لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ) ( فصلت : ١٤ )، ﴿ ولَلبسنا عليهم ما يلبسون ﴾، ولو جعلناه رجلا لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فينفون رسالته، ويقولون هو بشر مثلنا كما يقولون في شأن محمد –عليه الصلاة والسلام.
﴿ ولقد استُهزئ برسل من قبلك ﴾، تسلية لمحمد –عليه الصلاة والسلام ﴿ فحاق ﴾ : أحاط أو نزل، ﴿ بالذين سخروا منهم ﴾ : من الرسل وبال، ﴿ ما كانوا به يستهزئون قل ﴾ : لهم يا محمد.
﴿ سيروا في الأرض ﴾ : بالأقدام، أو بالعقل والفكر، ﴿ ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ : فتعتبروا.
﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض ﴾ : خلقا وملكا ﴿ قل لله ﴾، فإن الكفرة متفقون معكم في ذلك، فإن هذا من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن ينكره، ﴿ كتب ﴾ : التزم، ﴿ على نفسه الرحمة ﴾ : لطفا وفضلا فمن أقبل إليه مع عظم ذنبه قبله، ﴿ ليجمعنّكم ﴾ أي : في القبور، ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ : فيجازيكم بأعمالكم، ﴿ لا ريب فيه ﴾ أي : في اليوم، ﴿ الذين خسروا أنفسهم ﴾ : بتضييع الفطرة، والعقل نصب على الذم أو رفع أو مبتدأ ما بعده خبره، ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ فإن استعمال العقل باعث على الإيمان.
﴿ وله ﴾ عطف على الله في ( قل الله )، ﴿ ما سكن في الليل والنهار ﴾ أي : وله ما استقر في الأزمنة، وهو من السكنى قيل : تقديره ما سكن فيهما وتحرك واكتفى بأحد الضدين عن الآخر، ﴿ وهو السميع ﴾ : لكل مسموع، ﴿ العليم ﴾ : بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء.
﴿ قل أغير الله أتخذ وليا ﴾، إنكار لاتخاذ غير الله تعالى وليًّا معبودا ربا، ﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ : مبدعهما، صفة الله، فإنه بمعنى الماضي فالإضافة معنوية ﴿ وهو يُطعِم ولا يُطعَم ﴾ يَرزُق ولا يُرزَق لا أحد إلا يحتاج إليه، وهو غير محتاج إلى أحد، ﴿ قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم ﴾ : من هذه الأمة، ﴿ ولا تكونن ﴾ عطف على أمرت أي : قيل لي لا تكونن، أو على قل، ﴿ من المشركين ﴾.
﴿ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ﴾، جواب الشرط دال عليه ( أخاف )، والشرط معترض بين الفعل ومفعوله، وفيه تعريض بأنهم مستوجبون للعذاب بألطف وجه.
﴿ من يُصرف ﴾ : العذاب، ﴿ عنه يومئذ فقد رحمه ﴾ : وأنعم عليه، ومن قرأ يصرف مبني للفاعل فالضمير لله، والمفعول وهو العذاب محذوف، ﴿ وذلك ﴾ أي : الصرف والرحم، ﴿ الفوز المبين ﴾.
﴿ وإن يمسسك الله بضر ﴾ : كمرض وبلاء، ﴿ فلا كاشف له ﴾ : لا قادر على رفعه، ﴿ إلا هو وإن يمسسك بخير ﴾ : كصحة ونعمة، ﴿ فهو على كل شيء قدير ﴾ : فيقدر على حفظه وإدامته، ولا راد لفضله.
﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾ : قهره استعلى عليهم فهم تحت تسخيره، ﴿ وهو الحكيم ﴾ : في أمره، ﴿ الخبير ﴾ : بخفايا العباد.
﴿ قل أي شيء أكبر شهادة ﴾، نزلت حين زعم قريش أن أهل الكتاب أنكروا نبوة محمد –صلى الله عليه وسلم– فسألوا عنه من يشهد بنبوتك، ﴿ قل الله ﴾ أعظم شهادة، فإن أعظمية شهادة الله تعالى أمر لا ينكر، ﴿ شهيد ﴾ أي : هو شهيد، ﴿ بيني وبينكم ﴾ أو الله مبتدأ، وشهيد خبر فإنه إذا كان هو الشهيد فأكبر شيء شهادة شهيد له، ﴿ وأوحي إليّ هذا القرآن ﴾ : الذي ترونه ناطقا بحجج وبينات، ﴿ لأُنذركم به ﴾ : يا أهل مكة، ﴿ ومن بلغ ﴾ : وسائر من بلغه من الأسود والأحمر قل :﴿ أئنّكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ﴾ تقرير لهم مع إنكار، ﴿ قل لا أشهد ﴾ : بما تشهدون، ﴿ قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تُشركون ﴾ : من الأصنام.
﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ﴾ أي : محمدا –عليه الصلاة والسلام– بنعته المذكور في التوراة والإنجيل، ﴿ كما يعرفون أبناءهم ﴾ : بحيث لا يشكون في رسالته، فعدم شهادتهم برسالته لعنادهم، ﴿ الذين خسروا أنفسهم ﴾ : من أهل الكتاب، وهجروا ما في كتابهم، ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ : به.
﴿ ومن أظلم ممن افترى ﴾ : اختلق، ﴿ على الله كذبا ﴾ : ككذب المشركين، وأهل الكتاب، ﴿ أو كذّب بآياته ﴾ : كالقرآن، ومعجزات محمد –عليه الصلاة والسلام– أي : لا أظلم ممن ذهب إلى أحد الأمرين فكيف بمن جمع بينهما ؟ ! ﴿ إنه ﴾ أي : إن الشأن، ﴿ لا يفلح الظالمون ﴾ : فضلا ممن هو أظلم.
﴿ ويوم ﴾ أي : اذكر، ﴿ نحشرهم جميعا ﴾ : العابد والمعبود، ﴿ ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم ﴾ : آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، ﴿ الذين كنتم تزعمون ﴾ أي : تزعمونهم شركاءهم ( حينئذ ) يشاهدون آلهتهم في غاية الهوان، فيسأل عنهم تقريعا وتوبيخا.
﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ﴾ أي : لم تكن غاية فتنتهم، ومقاتلتهم وكفرهم في الدنيا إلا التبرؤ، في الآخرة أو عاقبة افتتانهم ومحبتهم في الأصنام إلا التبرؤ أو معذرتهم أو جوابهم وسماه فتنة لأنه كذب أو لأنهم قصدوا به الخلاص يقال : فتنت الذهب إذا خلصته، ومن قرأ بنصب فتنتهم، فتكون تأنيث الفعل للخبر كقولك : من كانت أمك ؟ ﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ فيحلفون بالكذب لحيرتهم ( فحينئذ ) يختم على أفواههم، ويشهد عليهم جوارحهم.
﴿ انظر كيف كذبوا على أنفسهم ﴾ : في الآخرة بنفي شركهم في الدنيا ﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾، وغاب عنهم ما كانوا يفترون إلهيته، وشفاعته.
﴿ ومنهم من يستمع إليك ﴾ إذا قرأت القرآن كأبي جهل، والوليد، وأضرابهم، ﴿ وجعلنا على قلوبهم أكِنّة ﴾ : أغطية كراهة ﴿ أن يفقهوه ﴾ أو عن أن ﴿ وفي آذانهم وقرا ﴾ : ثقلا وصمما مثل نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبول القرآن، واعتقاد صحته بالأكنة والوقر، ﴿ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ﴾ لقوة عنادهم، ﴿ حتى إذا جاءوك ﴾ : بلغ عنادهم إلى أنهم إذا جاءوك، ﴿ يجادلونك ﴾ جملة حالية، ﴿ يقول الذين كفروا ﴾ جواب إذا وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها، ﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ والأساطير : الأباطيل أو أحاديث الأمم السالفة التي سطروها في كتبهم.
﴿ وهم ينهون ﴾ : الناس ﴿ عنه ﴾ استماع القرآن أو الإيمان، ﴿ وينأون عنه ﴾ : يتباعدون عنه بأنفسهم وعن بعض السلف أنه في شأن أبي طالب، فمعناه ينهون عن التعرض لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وإيذائه، ويتباعدون عنه، فلا يؤمنون به، ﴿ وإن يُهلكون ﴾ : وما يهلكون بذلك ﴿ إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾ : ذلك.
﴿ ولو ترى ﴾، جوابه محذوف أي : لرأيت أمرا فظيعا، وحالا عجيبا، ﴿ إذ وُقفوا على النار ﴾ : وعاينوا ما فيها من أنواع العذاب، ﴿ فقالوا يا ليتنا نُردّ ﴾ : إلى الدنيا، ﴿ ولا نكذّب ﴾، عطف على نرد فيكون المعنى على تمني مجموع الأمرين، أو عطف على التمني عطف إخبار على إنشاء، وهو جائز باقتضاء المقام أو حال وأما على قراءة النصب فبإضمار أن بعد الواو كما بعد الفاء، ﴿ بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ﴾.
﴿ بل بدا لهم ﴾ : إضراب عن إرادة الإيمان المفهوم من التمني.
﴿ ما كانوا يُخفون من قبل ﴾ أي : ظهر لهم قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجرا لا محبة للإيمان، ﴿ ولو رُدّوا ﴾ : إلى الدنيا، ﴿ لعادوا لما نُهوا عنه ﴾ : من الكفر لقضاء شقاوتهم في الأزل، ﴿ وإنهم لكاذبون ﴾ : فيما وعدوا صريحا ضمنا.
﴿ وقالوا ﴾، عطف على لعادوا أو نهوا أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا، ﴿ إن هي ﴾ أي : الحياة، ﴿ إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ﴾.
﴿ ولو ترى إذ وُقفوا على ﴾ : مسألة. ﴿ ربهم ﴾ : وتوبيخهم، وقيل أي : بين يديه، ﴿ قال ﴾، استئناف فكأن سائلا قال : ماذا قال ربهم حينئذ ؟ ﴿ أليس هذا ﴾ : البعث ﴿ بالحق قالوا بلى وربنا ﴾ : إقرار مؤكد باليمين، لكن لا ينفعهم، ﴿ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ : بسبب كفركم.
﴿ قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله ﴾ : بالبعث، وما يتبعه، ﴿ حتى إذا جاءتهم الساعة ﴾ : غاية لكذبوا، أو من مات فقد قامت قيامته، ﴿ بغتة ﴾ : فجأة، مفعول مطلق لأنها نوع من المجيء أو حال، ﴿ قالوا يا حسرتنا ﴾ : تعالى فهذا أوانك، ﴿ على ما فرّطنا ﴾ : قصرنا، ﴿ فيها ﴾ : في الدنيا أو في الساعة أي : في شأنها، ﴿ وهم يحملون أوزارهم ﴾ : آثامهم، ﴿ على ظهورهم ﴾ : تمثل ذنوبهم بأقبح صورة منتنة فتركب عليهم وتسوقهم إلى النار، ﴿ ألا ساء ما يزرون ﴾ : بئس شيئا يزرونه وزرهم.
﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ﴾، لأنها تنقضي عن قريب، ولا تعقيب منفعة، ﴿ وللدار الآخرة خير للذين يتّقون ﴾ : لدوام لذاتها ومسراتها، ﴿ أفلا تعقلون ﴾ : إنها كذلك.
﴿ قد نعلم إنه ﴾ : أي : الشأن، ﴿ ليحزُنك الذي يقولون ﴾ : تسلية لرسوله فيما قال الكفار : إنك كذاب، ﴿ فإنهم لا يُكذّبوك ﴾ : في نفس الأمر، أو في السر، ﴿ ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ : لكنهم لظلمهم جحدوا الآيات، وكذبوا بها، نزلت حين قال أبو جهل : لا نكذبك لكن نكذب بما جئت به، أو لما سئل أبو جهل عنه قال : والله إنه لصادق وما كذب قط، لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش.
﴿ ولقد كُذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ﴾ : بمعونتهم وإهلاك أعدائهم فاصبر أنت أيضا كما صبروا فسيجيء نصرك، وما مصدرية، ﴿ ولا مبدّل لكلمات الله ﴾ : لمواعيده وحكمه، ﴿ ولقد جاءك من نبأ المرسلين ﴾ : بعض أخبارهم كيف صبروا، وكيف دمرنا قومهم.
﴿ وإن كان كبُر ﴾ : عظم وشق، ﴿ عليك إعراضهم ﴾ : عن الإيمان، ﴿ فإن استطعت أن تبتغي نفقًا ﴾ : تطلب منفذا، ﴿ في الأرض ﴾ : تنفذ فيه إلى جوفه، ﴿ أو سُلّما ﴾ : مصعدا، ﴿ في السماء ﴾ : تصعد به إليه، ﴿ فتأتيهم ﴾ : من الأرض أو السماء، ﴿ بآية ﴾، وجواب الشرط الثاني مقدر أي : فافعل، والجملة جواب الأول يعني لا مغير لحكم الله فاصبر، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، ﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾ أي : لو أراد جمعهم على الهدى لجمعهم وهداهم، ولكن لم يتعلق به مشيئته ﴿ فلا تكونن من الجاهلين ﴾ : بالحرص على خلاف مرادنا والجزع فإنه دأب الجهلة.
﴿ إنما يستجيب ﴾ أي : يجيب دعوتكم بالإيمان، ﴿ الذين يسمعون ﴾، لا من ختم الله على سمعه فلا يتأمل ولا يفهم، ﴿ والموتى يبعثهم الله ﴾ أي : الكفار الذين كالموتى لا يسمعون، يبعثهم الله فيعلمون حين لا ينفعهم، ﴿ ثم إليه يُرجعون ﴾ : للجزاء.
﴿ وقالوا لولا نُزّل عليه آية من ربه ﴾ كملك يشهد له، وكقولهم :﴿ حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ﴾ ( الإسراء : ٩٠ ) ﴿ قل إن الله قادر على أن يُنزّل آية ﴾ : وفق ما طلبوا ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ : أنه قادر على ذلك، وأنه لو أنزل ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما هو سنة الله.
﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ﴾ : إتيان الصفة لدابة وطائر لزيادة التعميم، والمبالغة بحيث لا يبقى وهم خروج شيء من الإفراد لكون الوصفين من أوصاف الجنس دون النوع، فيشعر بأن القصد فيها إلى الجنس، ﴿ إلا أمم أمثالكم ﴾ : مقدرة أرزاقها وآجالها محفوظة أحوالها أصناف تعرف بأسمائها وجمع الأمم للحمل على المعنى، ﴿ ما فرّطنا ﴾ : ما أهملنا، ﴿ في الكتاب ﴾ : في اللوح المحفوظ، ﴿ من شيء ﴾ : فإنه مشتمل على ما يجري في العالم ومن شيء أي : شيئا من التفريط، فيكون مصدرا فإن فرط غير متعد بنفسه، ﴿ ثم إلى ربهم يُحشرون ﴾ أي : الأمم كلها، فينصف بعضها عن بعض، ( وإذا الوحوش حشرت ) ( التكوير : ٥ )، وعن ابن عباس –رضي الله عنهما– موت البهائم حشرها.
﴿ والذين كذّبوا بآياتنا صُمٌّ ﴾ : عن سماع آياته سماع قبول وتأثر، ﴿ وبُكم ﴾ : لا ينطقون بالحق، ﴿ في الظلمات ﴾، خبر ثالث، أو حال عن المستكن في الخير ظلمة الكفر، والجهل، والعناد، ﴿ من يشأ الله ﴾ : إضلاله، ﴿ يُضلله ﴾ : فيميته على الكفر، ﴿ ومن يشأ ﴾ : هدايته، ﴿ يجعله على صراط مستقيم ﴾ : فيميته على الإيمان.
﴿ قل ﴾ : يا محمد للكفرة، ﴿ أرأيتكم ﴾ : أخبروني استفهام وتعجب، والكاف لتأكيد الفاعل لا محل له من الإعراب، وهو من وضع السبب موضع المسبب فإنه وضع الاستفهام عن العلم موضع الاستخبار ؛ لأنه لا يخبر عن الشيء إلا العالم به ﴿ إن أتاكم عذاب الله ﴾ : قبل الموت، ﴿ أو أتتكم الساعة ﴾ : القيامة، وأهوالها، ﴿ أغير الله تدعون ﴾ : في صرف العذاب عنكم، وهو متعلق بالاستخبار، ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في أن الأصنام آلهة فأخبروني لم لا تعبدون أصنامكم في ذلك الحال ؟ !
﴿ بل إياه تدعون ﴾ : تخصونه بالدعاء كما قال تعالى :( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) ( لقمان : ٣٢ ) ﴿ فيكشف ما تدعون ﴾ : الله، ﴿ إليه ﴾ : إلى كشفه، ﴿ إن شاء ﴾ لكن لم يشأ كشف عذاب الآخرة عنهم، ﴿ وتنسون ما تُشركون ﴾ فلا تذكرونه في ذلك الوقت.
﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ﴾ : أي الرسل فكذبوهم، ﴿ فأخذنا بالبأساء ﴾ : بالشدة والجوع، ﴿ والضراء ﴾ : الأمراض والنقصان، ﴿ لعلهم يتضرّعون ﴾، : لكي يسألوا ربهم متذللين تائبين.
﴿ فلولا إذا جاءهم بأسُنا تضرّعوا ﴾، حاصله نفي التضرع، لكن جاء ب ( لولا ) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر سوى العناد والقساوة، لأن ( لولا ) يفيد اللوم والتنديم، وذلك إنما يحسن إذا لم يكن في ترك الفعل عذر، وعنه مانع، ﴿ ولكن قست قلوبهم ﴾ : ما رقت، ﴿ وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون ﴾ : فأصروا عليه.
﴿ فلما نسوا ما ذُكّروا به ﴾ : من البأساء والضراء ولم يتعظوا به، ﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ : من أنواع النعم استدراجا ليكون الأخذ والهلاك أشد عليهم وأفظع، ﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا ﴾ : وحسبوا أنهم على شيء، ﴿ أخذناهم بغتة ﴾ : فجأة، مفعول مطلق لأنها نوع من الأخذ، ﴿ فإذا هم مُبلسِون ﴾ : آيسون من كل خير.
﴿ فقُطِع دابر القوم الذين ظلموا ﴾ : آخرهم لم يترك منهم أحد، ﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾ : على إهلاك الظلمة الذين من شؤمهم تقطع الرحمة، وتحزن الطير في وكره.
﴿ قل أرأيتم ﴾ : أيها المشركون، ﴿ إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم ﴾ : أصمكم وأعماكم، ﴿ وختم على قلوبكم ﴾ : حتى لا تفهموا شيئا، ﴿ من إله غير الله يأتيكم به ﴾ : بما أخذ وختم أو بأحد هذه المذكورات، ﴿ انظر كيف نُصرّف الآيات ﴾ : نوضحها ونكررها، ﴿ ثم هم يصدفُون ﴾ : يعرضون.
﴿ قل أرأيتكم ﴾ : أخبروني، ﴿ إن أتاكم عذاب الله بغتة ﴾ : على غفلة أو ليلا، ﴿ أو جهرة ﴾ : معاينة تعلمون نزوله أو نهارا،
﴿ هل يهلك إلا القوم الظالمون ﴾ فإن الموحدين لا يهلكون بالعذاب البتة ؛ بل أولئك لهم الأمن كما فعل بالأمم الماضية ما نزل العذاب إلا بعد تمييز المسلمين، ولو نزل على مسلم مصيبة فهي ليست بعذاب.
﴿ وما نُرسل المرسلين إلا مبشّرين ومُنذرين فمن آمن وأصلح ﴾ : العمل، ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ : بالعذاب، ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ : على ما فات من دنياهم.
﴿ والذين كذّبوا بآياتنا يمسُّهم العذاب ﴾ : يصيبهم، ﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ : بسبب فسقهم.
﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ﴾ : فأعطيكم ما تريدون، ﴿ ولا أعلم الغيب ﴾ : فأخبركم بكل ما تسألون، عطف على ﴿ عندي خزائن الله ﴾، وقيل : على ( لا أقول )، ﴿ ولا أقول لكم إني مَلك ﴾ : فأقدر على ما يقدر، ﴿ إن أتّبع إلا ما يوحى إليّ ﴾ وحاصله لا أدعي ما تستبعده العقول ؛ بل أدعي النبوة كما كان لكثير من البشر، ﴿ قل هل يستوي الأعمى والبصير ﴾ : مثل للجاهل، والعالم أي : لا يستوي متبع الوحي ومن ضل، ﴿ أفلا تتفكرون ﴾ أنه لا تستوي كقوله تعالى :( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) ( الرعد : ١٩ ).
﴿ وأنذر به ﴾ بالقرآن، ﴿ الذين يخافون أن يُحشروا إلى ربهم ﴾ : يخافون هول يوم الحشر لا من جزم استحالته، ﴿ ليس لهم من دونه وليّ ﴾ : يتولى أمرهم، ﴿ ولا شفيع ﴾ : يشفع بغير إذنه إن أراد العذاب بهم، والجملة حال، ﴿ لعلهم يتقون ﴾ : عن كفرهم ومعصيتهم.
﴿ ولا تطرد الذين ﴾ : لا تبعدهم عنك، ﴿ يدعون ربهم بالغداة والعشيّ ﴾ : يصلون المكتوبات في ليلهم ونهارهم، أو صلاة الصبح، والعصر، أو يذكرون ربهم، ﴿ يريدون وجهه ﴾ أي : يعبدونه حال كونهم مخلصين فيها ﴿ ما عليك من حسابهم من شيء ﴾، ( من ) زيدت للاستغراق وهو فاعل عليك لاعتماده على النفي، ومن حسابهم حال من شيء، أو من شيء مبتدأ وما عليك خبره، والحال من ضمير في الخبر أي : من شيء من تبعة حسابهم ليست عليك، ولا تكلف أمرهم، ﴿ وما من حسابك عليهم من شيء ﴾ : وليست تبعة حسابك عليهم، ولا يكلفون أمرك أو معناه إنما حسابهم على الله ليس عليك كما أنه ليس عليهم من حسابك من شيء كقول نوح –عليه الصلاة والسلام– في جواب :( أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) ؟ ! قال :( وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين ) ( الشعراء : ١١١-١١٣ )، ﴿ فتطردهم ﴾، جواب النفي، ﴿ فتكون من الظالمين ﴾ جواب النهي نزلت في فقراء المؤمنين قال رؤساء قريش : يا محمد نحّ هؤلاء الأعبد عن مجلسك حتى نجالسك ونسمع كلامك.
﴿ وكذلك ﴾ : مثل ذلك الفتن العظيمة ﴿ فتنّا ﴾ ابتلينا، ﴿ بعضهم ببعض ليقولوا ﴾ : رؤساء قريش قالوا في شأن فقراء المسلمين وضعفائهم :﴿ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا ﴾ إنكار لأن يخصهم الله بهداية ونعمة كما قالوا :( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) ( الأحقاف : ١١ )، واللام للعاقبة للتعليل، ﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾ ؛ هذا جواب لقولهم أي : الله أعلم بمن يشكر الإيمان وطبعه مستقيم فيهديه.
﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ﴾ هم فقراء الصحابة الذين نهى الله طردهم، ﴿ فقل سلام عليكم ﴾ : أكرمهم ببدء السلام عليهم، ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ : بشرهم بسعة رحمة الله، ﴿ أنه من عمل منكم سوءا ﴾ : من قرأ ( أنه ) بفتح الهمزة يكون بدلا من الرحمة، ومن قرأها بكسرها فاستئناف، ﴿ بجهالة ﴾ في موضع الحال أي : جاهلا بما يورثه ذلك الذنب أو متلبسا بفعل الجهالة، لأن ما يؤدي إلى الضرر لا يرتكبه سوى الجاهل قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل نزلت في عمر حين أشار بإجابة قريش إلى طرد المؤمنين فأنزل الله، ( ولا تطرد الذين ) إلخ ثم جاء واعتذر من مقالته، ﴿ ثم تاب من بعده ﴾ : العمل أو السوء، ﴿ وأصلح ﴾ عمله أو أخلص توبته، ﴿ فإنه غفور رحيم ﴾ من قرأ ( فأنه ) بفتح الهمزة تقديره فأمره، أو فله غفرانه البتة، ومن قرأ بالكسرة فتقديره : فالله يغفره ويرحمه البتة فإنه غفور رحيم.
﴿ وكذلك ﴾ : مثل ذلك التبيين الواضح، ﴿ نُفصّل الآيات ﴾ : التي يحتاج الناس إلى بيانها، ﴿ ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ : من قرأ تستبين بالتاء وسبيل بالنصب فمعناه : ولتعرف طريقهم، فتعاملهم بمقتضى عملك، ومن قرأ بالتاء، ورفعها : أي : ولتبين سبيلهم ومن قرأ بالياء ورفعها فلأن السبيل يذكر ويؤنث وهو إما عطف على مقدر أي : فصلنا ليظهر الحق ولتستبين وإما تقديره : ولتستبين فصلنا هذا التفصيل.
﴿ قل إني نُهيت ﴾ : عن، ﴿ أن أعبد الذين تدعون ﴾ : تعبدون، ﴿ من دون الله قل لا أتّبع أهواءكم ﴾ فيه إشارة إلى علة النهي، ومبدأ ضلالهم فإن طريقهم اتباع الهوى لا الهدى، ﴿ قد ضللت إذا ﴾ أي : إن فعلت ذلك فقد ضللت، ﴿ وما أنا من المهتدين ﴾ فيه تعريض بأنهم كذلك.
﴿ قل إني على بينة ﴾ : حجة واضحة، ﴿ من ربي ﴾ : غير متبع الهوى، وهو صفة لبينة، ﴿ وكذّبتم به ﴾ : بربي، حيث أشركتم أو الضمير للبينة فإنها بمعنى الدليل، ﴿ ما عندي ما تستعجلون به ﴾ : من العذاب كما قالوا :( إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة ) ( الأنفال : ٣٢ )، ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ : في تعجيل العذاب وتأخيره، ﴿ يقُصّ الحق ﴾ : يتبع الحق والحكمة فيما حكم، ومن قرأ ( يقضي الحق ) أي : يحكم القضاء فيكون صفة مصدر أو يصنع، الحق فيكون مفعولا به، ﴿ وهو خير الفاصلين ﴾ : القاضين.
﴿ قل لو أن عندي ما تستعجلون به ﴾ : من العذاب، ﴿ لقُضي الأمر بيني وبينكم ﴾ أي : لعجلته حتى أتخلص منكم حين سألتم أنتم العذاب، ﴿ والله أعلم بالظالمين ﴾ أي : لكن هو أعلم بوقت العقوبة.
﴿ وعنده مفاتح الغيب ﴾ : خزائنه جمع مفتح بالميم وهو المخزن أو جمع مفتاح بكسر الميم وهو المفتاح، وقد صح أن مفاتيح الغيب خمس ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ) ( لقمان : ٣٤ )، ﴿ لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر ﴾ أي : يحيط علمه بالمغيبات والمشاهدات، ﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ﴾، لأنه لا تسقط إلا بعد تعلق إرادته به، ﴿ ولا حبة في ظلمات الأرض ﴾ : فوق الأرض أو تحته عطف على ورقة، ﴿ ولا رطب ولا يابس ﴾ المراد منه كل شيء، ﴿ إلا في كتاب مبين ﴾ : في اللوح المحفوظ، وهو صفة للمذكورات كما أن ( لا يعلمها ) صفة لورقة.
﴿ وهو الذي يتوفّاكم بالليل ﴾ : هو التوفي الأصغر استعار التوفي للنوم لما بين الموت والنوم من المشاركات، ﴿ ويعلم ما جرحتم ﴾ : كسبتم، ﴿ بالنهار ثم يبعثكم ﴾ : يوقظكم، ﴿ فيه ﴾، الضمير للنهار وقيل : في المنام، ﴿ ليُقضى أجل مسمّى ﴾ : أجل الحياة إلى الممات أي : ليستوفي مدة عمره، ﴿ ثم إليه مرجعكم ﴾ : بالموت، ﴿ ثم ينبّئكم بما كنتم تعملون ﴾ : يجزيكم بعملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾ : تصوير لقهره وعلوه بالقدرة، ﴿ ويُرسل عليكم حفظة ﴾ : من الملائكة تحفظ أبدانكم كما قال تعالى :( له معقبات من بين يديه ) ( الرعد : ١١ ). أو تحفظ جميع أعمالكم وهم الكرام الكاتبون، ﴿ حتى إذا جاء أحدكم الموت ﴾ : حان أجله، ﴿ توفّته رسلنا ﴾ لملك الموت أعوان يخرجون الروح فيقبض ملك الموت، ﴿ وهم لا يُفرّطون ﴾ : فيما أمروا يفعلون ما يؤمرون.
﴿ ثم رُدّوا ﴾ أي : الملائكة أو الخلائق كلها، ﴿ إلى الله مولاهم ﴾ : الذي يتولى أمرهم، ﴿ الحق ﴾ : العدل الذي لا يظلم فضلا ﴿ ألا له الحكم ﴾ : يومئذ لا حكم بوجه لغيره فيه، ﴿ وهو أسرع الحاسبين ﴾ : لا يحتاج في الحساب إلى ضرب وقسمة وفكر وروية وعقد يد لا يشغله حساب عن حساب.
﴿ قل من يُنجّيكم ﴾ : سؤال توبيخ، ﴿ من ظلمات البر والبحر ﴾ : شدائدها وأحوالها ﴿ تدعونه تضرّعا وخُفية ﴾ : معلنين ومسرين أو إعلانا وإسرارا ﴿ لئن أنجانا الله من هذه ﴾ أي : يقولون لئن أنجيتنا ﴿ لنكوننّ من الشاكرين ﴾ : لا من الكافرين.
﴿ قل الله ينجّيكم منها ﴾ : الظلمة، ﴿ ومن كل كرب ﴾ : غم سواها، ﴿ ثم أنتم تشكرون ﴾ : فلا تشكرون.
﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ﴾ : كما فعل بعاد وثمود وقوم لوط ونوح، ﴿ أو من تحت أرجلكم ﴾ : كالخسف، والزلزلة نقل عن عباس –رضي الله عنهما– عذاب الفوق أمراء السوء والتحت خدم السوء، ﴿ أو يلبسكم شيعا ﴾ : يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، ﴿ ويُذيق بعضكم بأس بعض ﴾ : يسلط بعضكم على بعض بالعذاب، والقتل وفي الحديث الصحيح ( سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة سألت أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها، وسألت أن لا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها، وسألت أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها )، ﴿ انظر كيف نُصرّف الآيات ﴾ : نوضحها ونكررها، ﴿ لعلهم يفقهون ﴾ : لكي يفهموا ويتدبروا.
﴿ وكذّب به ﴾ : بالقرآن وقيل : بالعذاب، ﴿ قومك ﴾ : قريش، ﴿ وهو الحق ﴾ : الصدق أو الواقع، ﴿ قل لست عليكم بوكيل ﴾ : ما وكل إلى أمركم إنما علي البلاغ.
﴿ لكل نبأ مستقر ﴾ : لكل خبر من أخبار الله تعالى وقوع، ولو بعد حين، ﴿ وسوف تعلمون ﴾ : بعضه في الدنيا، وبعضه في الآخرة، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد.
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ﴾ : بالطعن والاستهزاء، ﴿ فأعرض عنهم ﴾ : اترك مجالستهم، ﴿ حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾ : الضمير للآيات باعتبار القرآن، ﴿ وإما يُنسينّك الشيطان ﴾ : النهي عن مجالستهم بوساوسه، ﴿ فلا تقعد بعد الذكرى ﴾ : بعد أن تذكر، ﴿ مع القوم الظالمين ﴾، معهم فإنهم ظلمة لوضع التكذيب، والسخرية موضع التصديق والتعظيم.
﴿ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ﴾ : ما عليهم شيء مما يحاسبون عليه أي : من آثام الخائضين إن قعدوا معهم، ﴿ ولكن ذكرى ﴾ أي : لكن عليهم أن يذكروهم، ويمنعوهم، ويعظوهم، ﴿ لعلهم يتقون ﴾ : يجتنبون الخوض كراهة لمساءتهم نقل أنه لما نزل النهي عن مجالستهم قال المسلمون : إذا لم نستطع أن نجلس في الحرم ونطوف فإنهم يخوضون أبدا، فنزلت رخصة لهم في القعود بشرط التذكير، قال كثير من السلف : هذا منسوخ بآية النساء المدنية، وهي قوله :( إنكم إذا مثلهم ) ( النساء : ١٤٠ )، وفي رواية قال المسلمون : نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم وحينئذ معنى قوله :( ولكن ذكرى ) أي : ولكن عليكم التجنب وتذكر النهي لعلهم يتقون حين يروا إعراضكم عنهم، وصح عن سعيد ابن جبير : إن معناه ما عليكم أن يخوضوا في آيات الله شيء من حسابهم إذا تجنبتم، وأعرضتم عنهم أي : عليكم الإعراض.
﴿ وذرِ الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ﴾ : أي : استهزءوا بالدين الحق الذي يجب أن يعظم غاية التعظيم، أو معناه جعلوا اللعب كعبادة الأصنام وتحريم البحائر وغيرها دينا واجبا أي : أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم، ﴿ وغرّتهم الحياة الدنيا ﴾ حتى اطمأنوا بها، ﴿ وذكّر به ﴾ : بالقرآن، ﴿ أن تُبسل نفس بما كسبت ﴾ : مخافة أن تسلم إلى الهلكة بسوء عملها، أو تفضح، أو تجس أو تؤاخذ أو تجزى، ﴿ ليس لها من دون الله من وليّ ولا شفيع ﴾ : يدفع العذاب عنها، والجملة إما صفة أو حال، ﴿ وإن تعدل كل عدل ﴾ : وإن تفد النفس كل فداء، ونصبه على المصدر، ﴿ لا يُؤخذ منها ﴾ : فاعله منها لا ضمير العدل ؛ لأنه مصدر وهو ليس بمأخوذ، ﴿ أولئك الذين أُبسلوا ﴾ : سلموا للعذاب، ﴿ بما كسبوا لهم شراب من حميم ﴾ : الماء المغلي، ﴿ وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ﴾.
﴿ قل أندعو ﴾ : نعبد، ﴿ من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ﴾ : لا يملك نفعا ولا ضرا، ﴿ ونُردّ على أعقابنا ﴾ : نرجع إلى الشرك، ﴿ بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين ﴾ : كالذي ذهبت به الغيلان مردة الجن، وأضلته، و( كالذي ) حال من ضمير ( نرد ) أي : ننكص مشبهين من أضلته الغيلان ﴿ في الأرض ﴾ : في المهمة ﴿ حيران ﴾ : متحيرا، ﴿ له ﴾ : لهذا المستهوى، ﴿ أصحاب ﴾ : رفقاء، والجملة ( كحيران )، ﴿ يدعونه إلى الهدى ﴾ : إلى الطريق المستقيم، ﴿ ائتنا ﴾ أي : قائلين إيتنا، فلا يلتفت إليهم، ويصير مع الغول حتى يلقيه إلى الهلكة، ﴿ قل إن هدى الله هو الهدى ﴾ : فما عداه ضلال وهلكة، ﴿ وأُمرنا ﴾ : عطف على ( إن هدى الله )، ﴿ لنُسلم لرب العالمين ﴾ أي : بأن نسلم، ونخلص له العبادة أو اللام للتعليل أي : أمرنا بذلك لنسلم.
﴿ وأن أقيموا الصلاة واتقوه ﴾، عطف على لنسلم، ﴿ وهو الذي إليه تحشرون ﴾.
﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ﴾ : بالعدل والحكمة، ﴿ ويوم يقول كن فيكون ﴾، عطف على السماوات فذكر بدء الخلق وإعادته أو على مفعول اتقوه أو بتقدير واذكر، والمراد يوم القيامة فإن الأمر فيه غير تدريجي، ﴿ قوله الحق ﴾ أي : الصدق الواقع لا محالة مبتدأ وخبر أو ( قوله ) مبتدأ و( الحق ) صفته ( ويوم يقول ) خبره أي : قضاؤه الحكمة والصواب حين يقول للشيء كن فيكون ذلك الشيء يعني ما ظهر من مكوناته شيء إلا عن حكمة وصواب، فلا يكون المراد من يوم القيامة، ﴿ وله الملك يوم يُنفخ في الصور ﴾ إما ظرف لقوله :( له الملك ) كقوله :( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) [ غافر : ١٦ ] وإما بدل من ( يقول ) والصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وقيل : جمع صورة أي ينفخ فيها فتحيا، ﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ أي : هو عالم الغيب، ﴿ وهو الحكيم الخبير ﴾.
﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ﴾، عطف بيان لأبيه والأصح إنه اسم أبيه وله اسمان ( آزر ) و( تارخ ) أو أحدهما لقبه، ﴿ أتتخذ أصناما آلهة ﴾ : دون الله، ﴿ إني أراك وقومك في ضلال ﴾ : عن الحق، ﴿ مبين ﴾.
﴿ وكذلك نُري إبراهيم ﴾ أي : مثل هذا التبصير نبصره، وهو حكاية حال ماضية ﴿ ملكوت السماوات والأرض ﴾ أي : ملكها والتاء زائدة للمبالغة، ﴿ وليكون من الموقنين ﴾ أي : ليستدل، وليكون، أو وفعلنا ذلك ليكون.
﴿ فلما جن عليه الليل ﴾ : ستره بظلامه، وهذا تفصيل لإراءته، ﴿ رأى كوكبا ﴾ : هو الزهرة أو المشترى، ﴿ قال هذا ربي ﴾، قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل، ثم يكر عليه فيبطله بالحجة وهذا النوع أدعى إلى القبول فإن قومه يعبدون الكواكب، وهذا هو الأصح، أو قال ذلك على وجه النظر والاستدلال في أول بلوغه، بل قبله فقد نقل أنه في السرب سبع سنين أو أكثر لخوف والديه من نمرود لأنه يقتل الصبيان، فإن قد أخبر بمولود ذهاب ملكه على يديه، وهو ما رأى في السرب لا سماء ولا أرضا فلما خرج ورأى كوكبا قال هذا ربي، ﴿ فلما أفَل ﴾ : غاب، ﴿ قال لا أحب الآفلين ﴾ : عبادة شيء يتغير عن حال إلى حال فعرفهم جهلهم.
﴿ فلما رأى القمر بازغا ﴾ : طالعا، ﴿ قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالين ﴾.
﴿ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ﴾ أي : الشيء الطالع صان ما سماه ربا عن وصمة التأنيث، ﴿ ربي هذا أكبر ﴾ جرما، وإضاءة، فأليق بالربوبية، ﴿ فلما أفلت ﴾ : وظهر حدوثه، وأنه مسخر، ﴿ قال يا قوم إني بريء مما تشركون ﴾ : من الأجرام المفتقرة إلى محدث يحدثها، ثم توجه على موجدها الذي دلت هذه الممكنات عليه وقال :﴿ إني وجّهت وجهي ﴾.
﴿ إني وجّهت وجهي ﴾ : أخلصت ديني وأفردت عبادتي، ﴿ للذي فطر السماوات والأرض ﴾ : ابتدعهما على غير مثال سبق، ﴿ حنيفا ﴾ : حال كوني مائلا عن الشرك إلى التوحيد، ﴿ وما أنا من المشركين ﴾ : لله.
﴿ وحاجّه قومه ﴾ : جادلوه في التوحيد، ﴿ قال أتحاجّوني في الله ﴾ : في وحدانيته، ﴿ وقد هدان ﴾ : إلى التوحيد، وأنا على بينة منه، ﴿ ولا أخاف ما تشركون به ﴾ أي : معبوداتكم فإنها لا تملك ضرا ولا نفعا وهم يخوفونه منها، ﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾، استثناء منقطع، أي : لكن أخاف مشيئة الله، أو متصل تقديره لا أخاف معبوداتكم في وقت قط إلا وقت مشيئته ربي شيئا من مكروه يصيبني من جهتها مثل أن يرجمني بكوكب أو يجعلها قادرة على مضرتي، ﴿ وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ﴾ : فتعتبروا أن ما قلت لكم حق فتتركوا عبادتها.
﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ﴾ وهو لا يملك ضرا، ﴿ ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ﴾ : الذي هو حقيق بأن يخاف منه، لأنكم أشركتم المصنوع بالصانع، وسويتم بين العاجز والقادر، ﴿ ما لم يُنزّل به عليكم سلطانا ﴾ : شيئا لم ينزل بإشراك ذلك الشيء حجة من كتاب وغيره، ﴿ فأي الفريقين ﴾ : من الموحدين والمشركين، ﴿ أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ﴾ : إن لم يكن لكم جهل.
﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾ : لم يخلطوه بشرك، ﴿ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾ : وقد صح أنها لما نزلت قد شق على الصحابة، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه، فقال –عليه الصلاة والسلام- :( ليس كما تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح :( يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) ( لقمان : ١٣٠ ) ( إنما هو الشرك )، وقد فسره السلف بذلك، والمراد من الخلط النفاق، أو المراد من الإيمان مجرد تصديقه وشركه عدم توحيده، أو المراد الثبات على الإيمان وكثير من الناس يزعمون إيمانهم وهم عنه بمراحل لفساد عقيدتهم بصفة من صفات الله.
﴿ وتلك ﴾ إشارة إلى ما مر من قوله :( فلما جن ) إلى قوله :( وهم مهتدون )، ﴿ حجتنا آتيناها إبراهيم ﴾ : ألهمناها، ﴿ على قومه ﴾ متعلق ( بحجتنا )، ﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ قرئ بالإضافة، وبلا إضافة ( فمن نشاء ) مفعول ( نرفع ) و( درجات ) إما مصدر أو ظرف أو تمييز إن جوزنا تقديمه، ﴿ إن ربك حكيم ﴾ في الرفع والخفض، ﴿ عليم ﴾، بحال من يرفعه ويخفضه وقابليته.
﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا ﴾ : منهما، ﴿ هدينا ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي : من قبل إبراهيم وهداية الوالد شرف الولد، ﴿ ومن ذريته ﴾، الضمير لإبراهيم، واللوط هو ابن أخيه أدخل في ذريته تغليبا أو الضمير لنوح –عليه السلام– ﴿ داود وسليمان ﴾ أي : هدينا من ذريته داود وسليمان، ﴿ وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك ﴾ : مثل ما جزينا إبراهيم برفع الدرجة، وكثرة أولاد مهتدين، ﴿ نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى ﴾، فيه دليل على أن ولد البنت من الذرية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا ﴾ : منهما، ﴿ هدينا ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي : من قبل إبراهيم وهداية الوالد شرف الولد، ﴿ ومن ذريته ﴾، الضمير لإبراهيم، واللوط هو ابن أخيه أدخل في ذريته تغليبا أو الضمير لنوح –عليه السلام– ﴿ داود وسليمان ﴾ أي : هدينا من ذريته داود وسليمان، ﴿ وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك ﴾ : مثل ما جزينا إبراهيم برفع الدرجة، وكثرة أولاد مهتدين، ﴿ نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى ﴾، فيه دليل على أن ولد البنت من الذرية.
﴿ وإلياس ﴾ الصحيح أنه غير إدريس، ﴿ كل من الصالحين وإسماعيل واليَسع ويونس ولوطا وكلا فضّلنا على العالمين ﴾ : بالنبوة،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٥:نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا ﴾ : منهما، ﴿ هدينا ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي : من قبل إبراهيم وهداية الوالد شرف الولد، ﴿ ومن ذريته ﴾، الضمير لإبراهيم، واللوط هو ابن أخيه أدخل في ذريته تغليبا أو الضمير لنوح –عليه السلام– ﴿ داود وسليمان ﴾ أي : هدينا من ذريته داود وسليمان، ﴿ وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك ﴾ : مثل ما جزينا إبراهيم برفع الدرجة، وكثرة أولاد مهتدين، ﴿ نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى ﴾، فيه دليل على أن ولد البنت من الذرية.
﴿ وإلياس ﴾ الصحيح أنه غير إدريس، ﴿ كل من الصالحين وإسماعيل واليَسع ويونس ولوطا وكلا فضّلنا على العالمين ﴾ : بالنبوة،
﴿ ومن آبائهم ﴾ عطف على كلا أي : فضلناهم وبعض آبائهم، ﴿ وذرياتهم ﴾ وفيهم سيد الكونين –عليه السلام– فهم أفضل جميع المخلوقات بأسرها، ﴿ وإخوانهم واجتبيناهم ﴾ : اخترناهم، ﴿ وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾.
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما هم عليه، ﴿ هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا ﴾ بحسب الفرض أي : هؤلاء الأنبياء مع علو درجتهم ﴿ لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ : بطل عملهم كآحاد الناس.
﴿ أولئك الذين آتيناهم الكتاب ﴾، يريد جنس الكتاب، ﴿ والحكم ﴾ : العلم والحكمة، ﴿ والنبوّة فإن يكفر بها ﴾ : بالنبوة، أو بهذه الثلاثة، ﴿ هؤلاء ﴾ : أهل مكة، ﴿ فقد وكّلنا بها ﴾ : بمراعاتها، ﴿ قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ وهم المهاجرون والأنصار، ومن تبعهم إلى يوم الدين، وعن قتادة هم الأنبياء المذكورون ومن تبعهم.
﴿ أولئك ﴾ أي : الأنبياء المذكورون، ﴿ الذين هدى الله فبهُداهم اقتده ﴾ : في التوحيد، والصفات الحميدة، والهاء للوقف، ﴿ قل لا أسألكم عليه ﴾ : على التبليغ أو القرآن، ﴿ أجرا ﴾ : جعلا كما لم يسأل الأنبياء، ﴿ إن هو ﴾ أي : القرآن، ﴿ إلا ذكرى ﴾ : تذكرة وعظة، ﴿ للعالمين ﴾.
﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ : ما عظموه حق تعظيمه، أو ما عرفوه حق معرفته في اللطف والرحمة على عباده، ﴿ إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ : إذ كذبوا إرسال الرسل الذي هو من عظائم نعمه، ﴿ قل ﴾ : لهم، ﴿ ما أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ﴾ : نزلت في قريش، وهم يسمعون كتاب موسى من اليهود، ويسلمونه، ويقولون : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، أو في طائفة من اليهود حين قالوا ذلك مبالغة في إنكار القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم– فألزموه ما لابد لهم من الإقرار به أو رجل معين من اليهود قال : ما أنزل الله على بشر من شيء حين غضب، ﴿ تجعلونه قراطيس تُبدونها وتُخفون كثيرا ﴾ أي : جملتها بجعلها قطعا قطعا، ويجزئونها جزءا جزءا يبدون ما يحبون ويخفون بعضا لا يشتهون، مثل صفة محمد –صلى الله عليه وسلم-، وآية الرجم، وقراءة الخطاب يؤيد كلام من يقول : أن الآية في اليهود اللهم إلا أن يقال إن قريشا واليهود والنصارى متشاركون في إنكار القرآن، فلم يبعد أن يكون الكلام بعضه خطابا مع قريش، وبقية مع اليهود، والنصارى كأنهم طائفة واحدة، وأما قراءة الياء أي : الغيبة تكون التفاتا عند من يقول الآية في اليهود، ﴿ وعلّمتم ﴾ : بسبب القرآن، ﴿ ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ﴾ : من خبر ما سبق ونبأ ما يأتي، وإذا كان الخطاب مع اليهود فمعناه علمتم بالقرآن زيادة على التوراة وبيانا لما التبس عليكم، وعلى آبائكم كما قال تعالى ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) ( النمل : ٧٦ )، ﴿ قل الله ﴾ : أنزله أجِبْ عنهم ذلك، لأنه متعين وفيه إشعار بأنهم تحيروا في الجواب ﴿ ثم ذرهم في خوضهم ﴾ : دعهم في أباطيلهم، ﴿ يلعبون ﴾ : يعملون ما لا ينفع، وهو حال من مفعول ذر.
﴿ وهذا ﴾ : القرآن، ﴿ كتاب أنزلناه مبارك ﴾ : كثير النفع، ﴿ مصدّق الذي بين يديه ﴾ : من الكتب السماوية، ﴿ ولتُنذر أمّ القرى ﴾ أي : أهل مكة ف ( عطف على ) صريح لفظ مبارك أي : كتاب مبارك كائن للإنذار، ﴿ ومن حولها ﴾ : أهل الشرق والغرب، ﴿ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ﴾ : بالقرآن، ﴿ وهم على صلاتهم يحافظون ﴾، فإن لازم الإيمان بها الخوف، والخوف يجره إلى الإيمان بالقرآن والمداومة بصلاته فإنها عماد الدين.
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ : كمن ادعى أنه أرسله كاذبا، ﴿ أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ﴾، نزلت في مسيلمة الكذاب ادعى النبوة والوحي، ﴿ ومن قال سأُنزل مثل ما أنزل الله ﴾ : كما قالوا :( لو نشاء لقلنا مثل هذا ) ( الأنفال : ٣١ )، ﴿ ولو ترى إذ الظالمون ﴾، جوابه محذوف أي : ولو ترى زمان سكراتهم لرأيت أمرا فظيعا، ﴿ في غمرات الموت ﴾ : شدائده، ﴿ والملائكة باسطوا أيديهم ﴾، بتعذيبهم لقبض أرواحهم، فقد ورد أن أرواح الكفرة تتفرق في أجسادهم وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج، ﴿ أخرِجوا أنفسكم ﴾ أي : قائلين ذلك تعنيفا وتغليظا وزجرا وإضرارا لهم، ﴿ اليوم ﴾ : يوم الموت، ﴿ تُجزون عذاب الهون ﴾ : الهوان والذل، ﴿ بما كنتم تقولون على الله غير الحق ﴾ : كإثبات الشريك والولد، وإدعاء النبوة، ﴿ وكنتم عن آياته تستكبرون ﴾ : فلا تؤمنون بها، فالهوان لاستكبارهم.
﴿ ولقد جئتمونا فُرادى ﴾ : منفردين عن الشفعاء، والأموال، والأهل، ﴿ كما خلقناكم أول مرة ﴾، وقد كنتم تنكرون ذلك حال ثانية أو صفة مصدر جئتمونا أي : مجيئا مثل خلقناكم أو بدل من فرادى، ﴿ وتركتم ما خوّلناكم ﴾ : تفضلنا عليكم من المال، ﴿ وراء ظهوركم ﴾ : تركتموه كليا وليس معكم شيء منه، ﴿ وما نرى معكم شُفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم ﴾ : في ربوبيتكم واستعبادكم، ﴿ شركاء ﴾ : لله، ﴿ لقد تقطّع بينكم ﴾، على قراءة رفع ( بينكم ) يكون بمعنى الوصل ليس بظرف، أو ليس بلام الظرفية، وعلى قراءة النصب أسند لتقطع إلى ضمير الأمر لتقرره في النفوس أي : تقطع الأمر بينكم، ﴿ وضل عنكم ﴾ : ضاع وبطل، ﴿ ما كنتم تزعمون ﴾ : تزعمونه شفيعا.
﴿ إن الله فالق الحَبّ والنّوى ﴾ يشقهما في الثرى فينبت منها الزرع والشجر، ﴿ يُخرج الحيّ من الميت ﴾ : النبات والحيوان من الحب والنطف، ﴿ ومُخرج الميت ﴾ : الحب والنطف ﴿ من الحيّ ﴾ : النبات والحيوان عطف على فالق الحب فإن ( يخرج الحي من الميت ) كالبيان له ولذا ترك العطف، ومخرج الميت من الحي لا يصلح للبيان ؛ لأن فلق الحب ليس إلا لإخراج الحي، ﴿ ذلكم الله ﴾ أي : فاعل هذه الأشياء هو الله، ﴿ فأنّى تؤفكون ﴾ : تصرفون عنه إلى غيره.
﴿ فالق الإصباح ﴾ : شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل، ﴿ وجعل الليل ﴾، إعمال اسم الفاعل، لأنه بمعنى الدوام التجددي نحو :
( ولقد أمر على اللئيم يسبني )
لا بمعنى الثبوت الدائمي ك( مالك يوم الدين ) ( الفاتحة : ٤ )، ﴿ سكَنًا ﴾ : يسكن فيه خلقه، ويستريح، ﴿ والشمس والقمر حسبانا ﴾ أي : تجريان بحساب معين لا تتجاوزان، أو معناه جعلهما علمى حسبان، لأن حساب الأوقات يعرف بدورهما، ﴿ ذلك ﴾ أي : المذكور من فلق الصبح، وجعل الليل، والشمس، والقمر، ﴿ تقدير العزيز ﴾ : الذي يفعل ما يريد، ﴿ العليم ﴾ : بما قدر وأراد.
﴿ وهو الذي جعل لكم النجوم ﴾ : خلقها لكم، ﴿ لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ﴾ أي : في ظلمات الليل فيهما، ﴿ قد فصّلنا الآيات ﴾ : بيناها مفصلا لا مجملا، ﴿ لقوم يعلمون ﴾، فإن الجاهل لا ينتفع به.
﴿ وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة ﴾ أي : آدم، ﴿ فمستقر ﴾ أي : فلكم مستقر في الأرحام، ﴿ ومُستودع ﴾ : في الأصلاب، أو بالعكس أو في الأرحام، وعلى ظهر الأرض أو في القبر وفي الدنيا أو في الرحم والقبر أو في الجنة أو النار وفي القبر وهما اسما مكان أو مصدران، وفي قراءة كسر القاف الأول اسم فاعل، والثاني اسم المفعول أي : فمنكم قار ومنكم مستودع، ﴿ قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون ﴾، الفقه : تدقيق النظر، فهو أليق بالاستدلال بالأنفس لدقته بخلاف الاستدلال بالآفاق، ففيه ظهور ولهذا قال في الأول :( لقوم يعلمون ).
﴿ وهو الذي أنزل من السماء ﴾ : من جانبه، ﴿ ماء فأخرجنا به ﴾ : بسبب الماء، ﴿ ثبات كل شيء ﴾ : تنبت، ﴿ فأخرجنا منه ﴾ : من النبات أو الماء، ﴿ خضِرا ﴾ : زرعا وشجرا أخضر، ﴿ نُخرج منه ﴾ : من الخضر، ﴿ حبا متراكبا ﴾ : بعضه على بعض كسنابل البر وغيره، ﴿ ومن النخل من طلعها قِنوان ﴾، الطلع : أول ما يخرج من ثمرها والقنو : العرجون، وهو مبتدأ ( ومن النخل ) خبره، ( ومن طلعها ) بدل، ﴿ دانية ﴾ : سهلة المجتنى لقصر النخل اللاصقة عذوقها بالأرض، أو قريب بعضها من بعض على التفسير الأول ذكر الدانية لأن النعمة فيها أظهر أو دل بذكر القريبة على ذكر البعيدة كقوله ( سرابيل تقيكم الحر ) ( النحل : ٨١ ) أي : والبرد، ﴿ وجنات من أعناب ﴾ عطف على ( نبات )، أو على ( خضرا ) ﴿ والزيتون والرمان ﴾ أي : شجريهما بدليل انظروا إلى ثمره، ﴿ مشتبِها وغير متشابه ﴾ أي : متشابها ورقهما، فإن ورقهما قريب غير متشابه ثمرهما، أو بعضه متشابه ببعض آخر منه في الهيئة، واللون والطعم وبعضه غير متشابه، ﴿ انظروا إلى ثمره ﴾ : ثمر كل واحد من ذلك، ﴿ إذا أثمر ﴾ : أخرج ثمره، ﴿ وينعِه ﴾ : وإلى نضجه نظر استدلال بعد أن كان حطبا صار عنبا ورطبا بعد أن كان جافا تفها صار لذيذا، ﴿ إن في ذلكم لآيات ﴾ أي : على كمال قدرته، ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ : يصدقون بالله.
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾ : عبادة غير الله تعالى، عبادة الشيطان هم جعلوا الشيطان شريكا له، أو كما قال الثنوية : الله خالق النور، والشيطان خالق الشرور، ( وشركاء الجن ) مفعول ( جعلوا ) أو ( لله ) ب ( شركاء ) أو حال منه أو ( لله شركاء ) مفعولاه، و( الجن ) منصوب بمقدر، كأنه قيل : من جعلوه شركاء ؟ فقال :( الجن ) ﴿ وخلقهم ﴾، حال بتقدير قد والضمير إما إلى الكفار أي : جعلوا غير خالقهم شريكا لخالقهم، وإما إلى الجن، أي جعلوا المخلوقين شركاء للخالق، ﴿ وخرقوا له بنين وبنات ﴾ : اختلفوا وافتروا، ﴿ بغير علم ﴾ حال من فاعل خرقوا أي : خرقوا عن عمى وجهالة لا عن فكر وروية، ﴿ سبحانه وتعالى عما يصفون ﴾ تعالى عطف على أسبح.
﴿ بديع السماوات والأرض ﴾ أي : هو مبدعهما ومحدثهما على غير مثال سبق قيل : من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي : هو بديع سماواته، وقيل الإضافة حقيقية بمعنى في أي هو عدم النظير فيهما، ﴿ أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ﴾، والولد إنما يكون بين متجانسين ولا يناسبه شيء فإنه فالق الأشياء وأين الخالق من المخلوق ؟ ! ﴿ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ﴾، لم يقل وهو به عليم لأن علمه أشمل من خلقه.
﴿ ذلكم ﴾ أي : الموصوف بما سبق من الصفات، وهو مبتدأ، ﴿ الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء ﴾، أخبار مترادفة، ﴿ فاعبدوه ﴾ ؛ لأن من له هذه الصفات استحق العبودية، ﴿ وهو على كل شيء وكيل ﴾ : متولي أموركم فكلوها إليه.
﴿ لا تُدركه الأبصار ﴾ أي : في الدنيا أو لا يحيط به الإبصار، فإن الإدراك أخص من الرؤية أو لا يراه أحد على ما هو عليه لا بشر ولا ملك، لكن إذا تجلى بوجه يمكن رؤيته تدركه الأبصار، أو لا يراه جميع الأبصار ؛ بل الكفار عنه محجوبون، ﴿ وهو يدرك الأبصار ﴾ : تحيط علمه بها ويراها، ﴿ وهو اللطيف ﴾ : بأوليائه، ﴿ الخبير ﴾ : بأعمالهم قيل من باب اللف والنشر أي لا تدركه الأبصار، لأنه لطيف لا كثافة فيه بوجه، وهو يدرك الأبصار ؛ لأنه خبير.
﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم ﴾ : البصيرة للقلب كالبصر للجسد أي : جاءتكم بالوحي الآيات البينات، والحجج القرآنية التي هي للقلوب كالبصائر، ﴿ فمن أبصر ﴾ : يرى تلك الآيات وآمن بها، ﴿ فلنفسه ﴾ أبصر، وله نفعه، ﴿ ومن عمِي ﴾، فلا يؤمن بها، ﴿ فعليها ﴾ : فعلى نفسه عمى، وعليها ضره، ﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ : أحفظ أعمالكم فأجازيكم إنما أنا منذر والله الحفيظ، وهذا وراد على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
﴿ وكذلك نُصرّف الآيات ﴾ : مثل ذلك التبيين نبينها ونكررها، ﴿ وليقولوا درست ﴾، معلله محذوف أي : وليقولوا درست نصرفها، والدرس القراءة، والتعلم أي : ليقول المشركون درست، وتعلمت من اليهود، ثم تزعم أنه من عند الله عليك يعني لشقاوة بعض كما قال تعالى :( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) ( البقرة : ٢٦ )، فيكون اللام على أصله أو اللام لام العاقبة، وقرئ ( دارست ) أي : دارست أهل الكتاب وقارءتهم، وقرئ ( درست ) أي : قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين، ﴿ ولنُبيّنه ﴾، الضمير للقرآن أو الآيات باعتبار أنها قرآن أي : كررناه لنبينه، ﴿ لقوم يعلمون ﴾ أي : لهداية المؤمنين، وحاصله تصريف الآيات لشقاوة بعض وسعادة بعض آخر.
﴿ اتّبع ما أوحي إليك من ربك ﴾ : بالعمل به، ﴿ لا إله إلا هو ﴾ حال مؤكدة من ربك أي : منفردا بالألوهية، ﴿ وأعرض عن المشركين ﴾ : لا تجادلهم، واحتمل أذاهم حتى ينصرك الله فإن لله حكمة في إضلالهم.
﴿ ولو شاء الله ﴾ : توحيدهم، ﴿ ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا ﴾ : رقيبا تحفظ أعمالهم وتجازيهم أو تحفظ من عذاب الله، ﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ : تقوم بأمرهم.
﴿ ولا تسُبّوا الذين يدعون ﴾ : يعبدون، ﴿ من دون الله ﴾ أي : أصنامهم، ﴿ فيسُبّوا الله عدْواً ﴾ : ظلما، ﴿ بغير علم ﴾ : على جهالة بالله يعني سب آلهتهم وإن كان حقا لكن فيه مفسدة عظيمة، نزلت حين قالوا : يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون ربك أو كان المسلمون يسبون آلهتهم وهم يسبون الله عدوا، ﴿ كذلك ﴾ : مثل ذلك التزيين، ﴿ زيّنا لكل أمة ﴾ : من أمم الكفار، ﴿ عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فيُنبّئهم بما كانوا يعملون ﴾ : بالمجازاة.
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ : أوكدها أي : أقسموا قسما غليظا ﴿ لئن جاءتهم آية ﴾ : كما لموسى وعيسى، ﴿ ليُؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله ﴾ : لا عندي حتى آتيكم بها ﴿ وما يُشعركم ﴾ ابتداء كلام وليس في حيز ( قل ) و( ما ) استفهام إنكار ﴿ أنها إذا جاءت ﴾ : تلك الآية التي طلبوها، ﴿ لا يؤمنون ﴾ أي : لا تدرون أنهم لا يؤمنون والله يعلم ذلك، ولا ينزلها وقيل : لا مزيدة، وقيل : فيه حذف تقديره : ما يدريكم أنهم لا يؤمنون، أو يؤمنون وقيل : أن بمعنى لعل، ومن قرأ إنها بكسر الهمزة على أن الكلام قد تم قبله بمعنى وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بما علم منهم فقال ذلك، والخطاب للمؤمنين أو للمشركين، ويؤيده قراءة التاء في ( لا تؤمنون ) نزلت حين قالوا : والله لئن تجعل لنا الصفا ذهبا لنتبعنك أجمعين.
﴿ ونُقلّب أفئدتهم ﴾ : عن الحق لو أنزلنا ما اقترحوا من الآيات فلا يفقهونه عطف على ( لا يؤمنون ) أو جملة على حيالها، ﴿ وأبصارهم ﴾ : فلا يبصرونه، ولا يؤمنون بها، ﴿ كما لم يُؤمنوا به ﴾ : بما أنزل من الآيات، ﴿ أول مرة ﴾ : من انشقاق القمر وغيره، أو المراد كما لم يؤمنوا بما أنزلنا على موسى، وعيسى لقوله :( أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ) ( القصص : ٤٨ )، وعن بعض السلف نقلبهما فلا يؤمنون لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا، ﴿ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ : في كفرهم، وضلالهم متحيرين.
﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ ﴾ : فرأوهم عيانا، ﴿ وكلّمهم الموتى ﴾ : فشهدوا لك، ﴿ وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلا ﴾ : مع قبيل بمعنى كفيل، أو بمعنى جماعات، أو هو مصدر بمعنى المقابلة، وهو حال من ( كل )، ﴿ ما كانوا ليؤمنوا ﴾ : في حال، ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ : أي : إلا حال مشيئته، فيبدل طبعهم لتمرنهم في الكفر وسبق القضاء بشقاوتهم، ﴿ ولكن أكثرهم يجهلون ﴾ : أنهم لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا، فيقسمون جهد أيمانهم قيل : أو إن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول آية طمعا في إيمانهم.
﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدُوًّا ﴾ أي : كما جعلنا لك عدوًّا جعلنا لكل نبي عدوًّا، ﴿ شياطين ﴾ : مردة، ﴿ الإنس والجن ﴾ بدل من عدوًّا، أو أحد مفعولي ( جعلنا لكل نبي ) ظرف ( عدوًّا )، ﴿ يوحي بعضهم إلى بعض ﴾ : يوسوس ويلقي بعضهم بعضا، ﴿ زُخرف القول ﴾ : أباطيله المزينة يغرونهم، ﴿ غرورا ﴾ أو للغرور، يعني أن مردة الجن يوحون مردة الإنس، ويغرونهم بالإضلال، وهذا هو الأصح، وقال بعضهم : معناه الشيطان الموكل بالجن يوحي، ويعلم الشيطان الموكل بالإنس أباطيل القول في إضلال المسلمين وبالعكس، ﴿ ولو شاء ربك ﴾ : ألا يكون لهم عدو، ﴿ ما فعلوه ﴾ أي : إيحاء الزخارف ﴿ فذرهم وما يفترون ﴾ : ولا تغتم أنت منهم.
﴿ ولتصغى ﴾ أي : ولتميل، ﴿ إليه ﴾ : إلى زخرف القول، ﴿ أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾، عطف على ( غرورا ) إن جعلته مفعولا له، وإلا فهو متعلق بمحذوف أي : وجعلنا لكل نبي عدوا لتصغى، أو تقديره : جعلنا ذلك لمصالح لا تحصى ولتصغى، ﴿ وليرضَوه ﴾ : ليحبوه، ﴿ وليقترفوا ﴾ : ليكتسبوا، ﴿ ما هم مقترفون ﴾ : من الآثام.
﴿ أفغير الله أبتغي حَكَما ﴾ أي : قل أغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم، و( حكما ) حال من غير الله، ﴿ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب ﴾ : القرآن، ﴿ مفصّلا ﴾ : بين وميز الحق والباطل، ﴿ والذين آتيناهم الكتاب ﴾ : من اليهود والنصارى، ﴿ يعلمون أنه مُنزّل من ربك بالحق ﴾، لأن وصفه مذكور في كتبهم، ﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ في أنه من عند الله، وهذا من باب التحريض، والتهييج، قال تعالى :( وإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب ) الآية ( يونس : ٩٤ )، وقد جاءت في الحديث أنه عليه السلام قال حين نزوله :( لا أشك ولا أسأل ) أو المراد نهي الأمة، وقيل : معناه لا تكن من الشاكين في أنهم يعلمون ذلك.
﴿ وتمّت كلمة ربك ﴾ : بلغت الغاية، وعداته وأقضيته، ﴿ صدقا ﴾ : فيما وعد، ﴿ وعدلا ﴾ : فيما حكم وهو إما حال أو تمييز، ﴿ لا مبدّل لكلماته ﴾ : لا راد لقضائه، ولا مغير لحكمه، ولا خلف لوعده، ﴿ وهو السميع ﴾ : لأقوالهم، ﴿ العليم ﴾ : لما في صدورهم
﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض ﴾ : فإن أكثرهم على الضلال، ﴿ يُضلّوك عن سبيل الله ﴾ : الموصل إليه، ﴿ إن يتّبعون إلا الظن ﴾ : فإن دينهم ظن وهوى لم يأخذوه عن بصيرة، ﴿ وإن هم لا يخرُصون ﴾ : يكذبون على الله.
﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ﴾ أي : بمن يضل، ﴿ وهو أعلم بالمهتدين ﴾ : أعلم بالفريقين.
﴿ فكلوا مما ذُكر اسم الله عليه ﴾ : أي : على ذبحه لا مما مات حتف أنفه، ولا مما ذكر عليه اسم غيره، ﴿ إن كنتم بآياته مؤمنين ﴾ فإن الإيمان يقتضي استباحة ما أحله الله لا ما أحله الظن، والهوى.
﴿ وما لكم ﴾ : أيُّ غرض لكم، ﴿ ألا تأكلوا مما ذُكر عليه اسم الله ﴾ أي : منه وحده وتأكلوا من غيره، ﴿ وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم ﴾ : في ( حرمت عليكم الميتة ) الآية ( المائدة : ٣ )، ﴿ إلا ما اضطُررتم إليه ﴾ ( ما ) موصولة والاستثناء من ضمير حرم، أو ( ما ) مصدرية في معنى المدة أي : الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها، ﴿ وإن كثيرا ليُضلّون ﴾ : بتحليل الحرام وتحريم الحلال، ﴿ بأهوائهم ﴾ : بتشهيهم، ﴿ بغير علم ﴾ : غير متعلقين بدليل، ﴿ إن ربك هو أعلم بالمعتدين ﴾ : المتجاوزين الحق إلى الباطل.
﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ﴾ : معصية العلن والسر، ﴿ إن الذين يكسبون الإثم سيُجزون بما كانوا يقترفون ﴾ : يكسبون.
﴿ ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ﴾ الضمير ل ( ما ) أو للأكل، وعند بعض السلف إن ذبيحة تركت التسمية عليها عمدا أو سهوا حرام، والآية دليلهم وعند بعض التسمية مستحبة، وقالوا : الآية فيما ذبح لغير الله، وقيل : الواو في ( وإنه لفسق ) حالية، والفسق : ما أهل لغير الله بدليل قوله :( أو فسقا أهل لغير الله به )، وقال بعض منهم المراد من الآية الميتة، وعند كثير من السلف : إن ترك التسمية نسيانا لا يضر أما عمدا، فالذبيحة حرام، ﴿ وإن الشياطين ليُوحون ﴾ : يوسوسون، ﴿ إلى أوليائهم ﴾ : من الكفار، ﴿ ليجادلوكم ﴾ : يقولون تزعمون أن ما قتلت أنت وأصحابك، والصقر والكلب حلال، وما قتله الله حرام، وهو يؤيد التأويل بالميتة، ﴿ وإن أطعتموهم ﴾ : في استحلال ما حرم، ﴿ إنكم لمشركون ﴾ : فإن اتباع غير الله في الدين إشراك وكفر.
﴿ أو من كان ميتا ﴾ : بالكفر والجهل، ﴿ فأحييناه ﴾ : بالعلم والإيمان، ﴿ وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ﴾ : يهتدي كيف يسلك وكيف ينصرف والنور القرآن أو الإسلام، ﴿ كمن مثله ﴾ : صفته، ﴿ في الظلمات ليس بخارج منها ﴾ : بقي على الضلالة لا يفارقها مجال حال من المستكن في الظرف وحاصله أنه كمن إذا وصف يقال له ( في الظلمات ليس بخارج )، ف ( في الظلمات ليس بخارج ) خبر مثله على سبيل الحكاية، والجملة صلة من، ﴿ كذلك ﴾ : كما زين للمؤمنين الإيمان، ﴿ زُيّن للكافرين ما كانوا يعملون ﴾ قيل : الآية نزلت في حمزة وأبي جهل، أو في عمر وأبي جهل، أو في عمار بن ياسر وأبي جهل.
﴿ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ﴾ أي : كما صيرنا فساق مكة أكابرها صيرنا مجرمي كل قرية رؤساءها، ومترفيها ( وأكابر مجرميها ) بالإضافة هي المفعول الأول والثاني ( في كل قرية ) أو ( ليمكروا فيها ) مفعولاه قيل : جاز أن يكون ( أكابر ) مضافا إلى مجرميها مفعوله الأول، و( ليمكروا ) مفعوله الثاني، ﴿ ليمكروا فيها ﴾ : بصد الناس عن الهدى، ﴿ وما يمكرون إلا بأنفسهم ﴾ : فإن وباله يحيط بهم، ﴿ وما يشعرون ﴾ : ذلك.
﴿ وإذا جاءتهم آية ﴾ : دالة على صدق محمد -عليه الصلاة والسلام-، ﴿ قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أُوتي رسل الله ﴾ أي : حتى تأتينا الملائكة بتصديقك كما يأتي إلى الرسل، ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ : استئناف يرد عليهم أنهم ليسوا بأهل الوحي والرسالة أي : أعلم بالمكان الذي فيه يضعها، ﴿ سيصيب الذين أجرموا صَغارٌ ﴾ : ذل وحقارة، ﴿ عند الله ﴾ : يوم القيامة، ﴿ وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ﴾ : بسبب مكرهم.
﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره ﴾ : يوسع قلبه، ﴿ للإسلام ﴾ : للتوحيد وفي الحديث تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات قالوا : يا رسول الله ما هذا الشرح ؟ قال : نور يُُقذف في القلب ) قالوا : هل لذلك من أمارة ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله "، ﴿ ومن يرد ﴾ : الله، ﴿ أن يضله يجعل صدره ضيّقا حَرَجًا ﴾ : فلا يبقى فيه منفذ للخير، ومكان حرج أي : ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الرعية، ﴿ كأنما يصّعّد في السماء ﴾ : أي : مثله في امتناع قبول الإيمان مثل صعود السماء، فإنه ممتنع غير مستطاع أو معناه كأنما يتصاعد إلى السماء هربا من الإيمان، وتباعدا عنه، ﴿ كذلك ﴾ : كما ضيق الله صدره، ﴿ يجعل الله الرّجس ﴾ : يسلط الشيطان أو العذاب، ﴿ على الذين لا يؤمنون ﴾ أي : عليهم لعدم إيمانهم.
﴿ وهذا ﴾ : الذي أنت عليه يا محمد، ﴿ صراط ربك ﴾ : الطريق الذي ارتضاه، ﴿ مستقيما ﴾ : لا عوج فيه حال، وعامله معنى الإشارة ﴿ قد فصّلنا الآيات لقوم يذّكّرون ﴾ : لهم فهم ووعي.
﴿ لهم دار السلام ﴾ : الجنة ؛ لأن فيه سلامة عن الآفات أو السلام من أسماء الله، ﴿ عند ربهم ﴾ : في ضمانه أو يوم القيامة، ﴿ وهو وليّهم ﴾ : ناصرهم، ﴿ بما كانوا يعملون ﴾ : بسبب أعمالهم.
﴿ ويوم يحشرهم جميعا ﴾ أي : اذكر يوم نحشر الثقلين قائلين :﴿ يا معشر الجن ﴾ أي : الشياطين :﴿ قد استكثرتم من الناس ﴾ أي : من إغوائهم أي : أضللتم كثيرا، ﴿ وقال أولياؤهم ﴾ : محبوهم ومطيعوهم، ﴿ من الإنس ﴾ : مجيبين لله عن ذلك، ﴿ ربنا استمتع بعضنا ببعض ﴾ : بعضهم مطاع وبعضهم مطيع، أو كان في الجاهلية إذا نزلوا مفازة قالوا : أعوذ بكبير هذا الوادي، فيفتخر كبير الجن بتعوذ الإنس بهم، ويقولون : نحن سيد الإنس والجن، وهذا هو الاستمتاع، ﴿ وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا ﴾ : أي : القيامة والبعث، وهذا اعتراف بطاعة الشيطان وتكذيب البعث، وتحسر على حالهم، ﴿ قال ﴾ : الله، ﴿ النار مثواكم ﴾ : منزلكم، ﴿ خالدين فيها ﴾، حال، والعامل معنى الإضافة، ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ أي : هم مخلدون جميع الأوقات إلا مدة حياتهم في الدنيا والبرزخ أو المراد الانتقال من النار إلى أنواع أُخر من العذاب كالزمهرير، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا، ﴿ إن ربك حكيم ﴾ : في أفعاله، ﴿ عليم ﴾ : بأعمال خلقه.
﴿ وكذلك ﴾ : كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض، ﴿ نُولّي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ﴾ : نسلط بعضهم على بعض، كما ورد ( من أعان ظالما سلط الله عليه ) أو نتبع بعضهم بعضا في النار أو نكل بعضهم إلى بعض فيغويهم أو نجعل الكافر ولي الكافر أينما كان.
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ﴾ هو الله سبحانه يقرع الكافرين يوم القيامة بهذا السؤال وهو استفهام تقرير، والأصح بل الصحيح أن الرسل من الإنس والجن تبع لهم قالوا نظيره ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) ( الرحمن : ٢٢ ) وهما لا يخرجان من العذب كما سنذكر إن شاء الله تعالى، ﴿ يقُصّون عليكم آياتي ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا ﴾ : يوم القيامة، ﴿ قالوا ﴾ : جوابا، ﴿ شهدنا على أنفسنا ﴾ : أنهم قد بلغوا ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم قال تعالى :﴿ وغرّتهم الحياة الدنيا ﴾ : فأعرضوا عن رسلنا ولم يرفعوا إليهم رأسا، ﴿ وشهدوا على أنفسهم ﴾ : يوم القيامة، ﴿ أنهم كانوا كافرين ﴾ : في الدنيا.
﴿ ذلك ﴾ : أي : إرسال الرسل، ﴿ أن لم يكن ربك ﴾ خبر ذلك، وأن إما مصدرية أو مخففة، واللام محذوف أي : لأن، أو تقديره الأمر ذلك لأن لم يكن إلخ، ﴿ مُهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ﴾ : أي : لانتفاء كون ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلمهم وأهلها غافلون لم ينبهوا برسول كما قال تعالى :( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ( الإسراء : ١٥ ) أو ( بظلم ) حال من ( ربك )، وحاصله أنه لا يهلكهم دون التنبيه بالرسل والآيات فإنه ظلم والله غير ظلام للعبيد.
﴿ ولكل ﴾ : من المكلفين، ﴿ درجات ﴾ : مراتب، ﴿ مما عملوا ﴾ : من أعمالهم، ﴿ وما ربك بغافل عما يعملون ﴾ : فيخفى عليه خافية.
﴿ وربك الغني ﴾ : عن خلقه من جميع الجهات، ﴿ ذو الرحمة ﴾ : بهم فلا يعجل بالعقوبة، ﴿ إن يشأ يُذهبكم ﴾ : إذا عصيتم، ﴿ ويستخلف من بعدكم من يشاء ﴾ : قوما آخرين يعملون بطاعته، ﴿ كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ﴾ : أي : هو قادر على ذلك كما أذهب القرن الأول وأتى بالذي بعده.
﴿ إن ما توعدون ﴾ : من أمر المعاد، ﴿ لآتٍ ﴾ : كائن البتة، ﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ : الله في قدرته.
﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم ﴾ : على تمكنكم من أمركم أو على جهتكم، وحالكم التي أنتم عليها، ﴿ إني عامل ﴾ : على ما أنا عليه أي : اثبتوا على الكفر فإني ثابت على الإسلام، وهو أمر تهديد شديد، ﴿ فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ﴾ : أي : سوف تعلمون أينا له العاقبة المحمودة، والجنة أو المراد من عاقبة الدار أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، و( من ) استفهامية مبتدأ خبره تكون، وفعل العلم علق عنها أو موصولة فهو مفعول ( تعلمون ) على أنه متعد إلى مفعول واحد بمعنى يعرفون، ﴿ إنه ﴾ : إن الشأن، ﴿ لا يفلح الظالمون ﴾ : لا يسعد من كفر.
﴿ وجعلوا ﴾ أي : مشركو العرب، ﴿ لله ما ذرأ ﴾ : خلق، ﴿ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ﴾ : كانوا يجعلون من أموالهم نصيبا لله ومصرفه الضيفان، ونصيبا لآلهتهم ومصرفه خدم أصنامهم فإن سقط شيء من الثمر مثلا من نصيب الوثن فيما سمى للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن هلك أو انتقص منه شيء أخذوا بدله مما جعلوا لله، وإن سقط شيء من نصيب الله في نصيب الأوثان خلوه أو مات شيء منه لم يبالوا به، وقالوا : الله غني، وهذا معنى قوله :( فما كان لشركائهم ) الآية، وفي قوله :( مما ذرأ ) إشارة إلى جهلهم بأنهم أشركوا الخالق في خلقه جمادا، ثم جعلوا له النصيب الأوفر، وقوله :( بزعمهم ) إشارة إلى أن هذا مخترعهم ليس من أمر الله، ولا يصل إليه، ﴿ ساء ما يحكمون ﴾ : حكمهم هذا.
﴿ وكذلك ﴾ : مثل هذا الفعل القبيح، ﴿ زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ﴾، فإن الشياطين وهم آلهتهم أمروهم وزينوا لهم وأد أولادهم، ومن قرأ زين بالمجهول ورفع القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء على إضافة القتل إليها، والفصل بينهما يدل على أن هذا الفصل جائز فصيح، والمطعون من طعن فيه، ﴿ ليُردُوهم ﴾ : ليهلكوهم بالإغواء، ﴿ وليلبِسوا عليهم دينهم ﴾ : ليدخلوا الشك في دينهم، فكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشيطان، وقيل : دينهم الذي يجب أن يكونوا عليه، ﴿ ولو شاء الله ما فعلوه ﴾ أي : المشركون ما زين لهم، أو الشركاء التزيين، ﴿ فذرهم وما يفترون ﴾ : ما يختلقون من الكذب على الله.
﴿ وقالوا هذه ﴾ : إشارة إلى ما جعل للآلهة، ﴿ أنعام وحرث حِجر ﴾ : حرام، ﴿ لا يطعمها إلا من نشاء ﴾ : من رجال خدم الأوثان، ﴿ بزعمهم ﴾ : لا حرمة من الله، ﴿ وأنعام حُرّمت ظهورها ﴾ : كالسائبة والبحيرة والحام، ﴿ وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ﴾ : يذبحوها باسم الأصنام لا باسم الله، أو لا يحجون على ظهورها، والمعنى أنهم قسموا أنعامهم، فقالوا : هذه حجر، وهذه محرمة الظهور، وهذه لا يذكر عليها اسم الله ﴿ افتراء عليه ﴾، نصبه على أن قالوا بمعنى افتروا أو حال أي : مفترين أو مفعول له، ﴿ سيجزيهم بما كانوا يفترون ﴾ : بسبب افترائهم.
﴿ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام ﴾ أي : أجنة البحائر والسوائب، ﴿ خالصة لذكورنا ومُحرّم على أزواجنا ﴾ : نسائنا خاصة للذكور دون الإناث إن ولد حيا، ﴿ وإن يكن ميتة فهم ﴾ : الذكور والإناث، ﴿ فيه شركاء ﴾، وتأنيث خالصة، وتذكير محرم لمعنى ما فإنه الأجنة ولفظه أو التاء للمبالغة، ﴿ سيجزيهم ﴾ : الله، ﴿ وصفهم ﴾ أي : جزاء وصفهم الكذب على الله قيل : تقديره على وصفهم :﴿ إنه حكيم ﴾ : في فعله، ﴿ عليم ﴾ : بأعمال خلقه.
﴿ قد خسر الذين قتلوا أولادهم ﴾ : بناتهم بالوأد، ﴿ سفَهًا ﴾ : للسفه أو سفهاء، ﴿ بغير علم ﴾ : جاهلين، ﴿ وحرّموا ما رزقهم الله ﴾ : من البحائر ونحوها، ﴿ افتراء على الله ﴾ : يحتمل المصدر، والحال والمفعول له، ﴿ قد ضلّوا وما كانوا مهتدين ﴾.
﴿ وهو الذي أنشأ ﴾ : أبدع، ﴿ جنات ﴾ : بساتين من الكروم، ﴿ معروشات ﴾ : مرفوعات على ما يحملها، ﴿ وغير معروشات ﴾ قيل : الأول ما غرسه الناس، والثاني ما نبت في البراري، ﴿ والنخل والزرع مختلفا أكله ﴾ أي : أكل كل واحد منهما يعني ثمره في الكيفية، والهيئة و( مختلفا ) حال مقدرة، لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، ﴿ والزيتون والرمان متشابها ﴾ : في المنظر، ﴿ وغير متشابه ﴾ : في الطعم قيل : بعض أفرادهما يتشابه في اللون والطعم ولا يتشابه بعضها، ﴿ كلوا من ثمره ﴾ : ثمر كل واحد، ﴿ إذا أثمر ﴾ : وإن لم ينضج، ﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ : هذا شيء كان واجبا قبل وجوب الزكاة، وعن بعض السلف أنه الزكاة قيل فيه دليل على رخصة الأكل قبل أداء الزكاة، ﴿ ولا تسرفوا ﴾ : في التصدق أو في الأكل والتصدق أو في البخل فلا تعطوا حق الله، ﴿ إنه لا يحب المسرفين ﴾ : لا يرتضي فعلهم.
﴿ ومن الأنعام ﴾ عطف على جنات أي : أنشأ من الأنعام، ﴿ حمولة ﴾ : ما يحمل الأثقال، ﴿ وفرشا ﴾ : ما يفرش المنسوج من شعره أو الصغار منها ولدنوها من الأرض كأنها فرش أو ما يفرش للذبح، ﴿ كلوا مما رزقكم الله ﴾ : من الثمار، والزروع، والأنعام، ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ : طرائقه وأوامره كما اتبعها المشركون افتراء على الله، ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ : ظاهر العداوة.
﴿ ثمانية أزواج ﴾ : بدل من حمولة وفرشا أو مفعول كلوا أو الزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه، ﴿ من الضأن ﴾ : زوجين، ﴿ اثنين ﴾ : الكبش والنعجة، وهو بدل من ثمانية إن جوزنا البدل من البدل، وإلا فمن الضأن بدل من الأنعام واثنين من حمولة وفرشا، ﴿ ومن المعز اثنين ﴾ : التيس، والعنز، ﴿ قل ﴾ : يا محمد، ﴿ الذكرين ﴾ : من الضأن والمعز، ﴿ حرّم ﴾ : الله عليكم أيها المشركون، ﴿ أم الأنثيين ﴾ : منهما، ﴿ أما ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ﴾ أو ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى كما قالوا ( ما في بطون هذه الأنعام خالصة ) الآية ( الأنعام : ١٣٩ )، ﴿ نبّئوني بعلم ﴾ : دليل على حرمته، ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ : في دعوى التحريم.
﴿ ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذّكرين حرّم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء ﴾ بل أكنتم حاضرين :﴿ إذ وصّاكم الله بهذا ﴾ : حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله وهذا من باب التهكم، ﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليُضل الناس بغير علم ﴾ : متلبسا بغير دليل، ﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾، وأول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي فإنه أول من غير دين إسماعيل.
﴿ قل لا أجد فيما أوحي إليّ ﴾ : طعاما، ﴿ مُحرّما على طاعمٍ يطعمه ﴾ : يعني أن التحليل والتحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى، ولا يعلم بالوحي أن شيئا من الطعام حرام في وقت، ﴿ إلا ﴾ : في وقت، ﴿ أن يكون ﴾ : الطعام، ﴿ ميتة أو دما مسفوحا ﴾ : مصبوبا سائلا لا كالكبد والطحال، ومن قرأ برفع ميتة فعنده كان تامة و( دما ) عطف على أن يكون أي : إلا وجود ميتة، ﴿ أو لحم خنزير ﴾ : لحمه أو الخنزير، ﴿ رجس ﴾ : حرام، ﴿ أو فسقا ﴾ عطف على لحم خنزير ﴿ أهلّ لغير الله به ﴾ صفة له موضحة، ﴿ فمن اضطر ﴾ : إلى كل شيء من ذلك، ﴿ غير باغ ﴾ : على مضطر مثله، ﴿ ولا عاد ﴾ : قدر الضرورة وقد مر معناهما في البقرة، ﴿ فإن ربك غفور رحيم ﴾ : لا يؤاخذه، والآية دالة على أن ما أوحي في حرمته إلى تلك الغاية هو ذلك، وهذا لا ينافي التحريم في أشياء أخر بعد هذا.
﴿ وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر ﴾ : أي : حرمنا على اليهود ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعامة والبط، أو كل ذي حافر، وقيل : كل ذي مخلب من الطير، ﴿ ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما ﴾ أي : حرمنا جميع شحومهما، ﴿ إلا ما حملت ظهورهما ﴾ : ما علق بالظهر من الشحوم ﴿ أو الحوايا ﴾ : ما اشتمل على الأمعاء، ﴿ أو ما اختلط بعظم ﴾ : أي : ما اختلط من الشحوم بالعظام فإنه حلال و أو هاهنا كأو في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين، وما بقي على الحرمة الثروب وشحوم الكلى، ﴿ ذلك ﴾ : التحريم والتضييق، ﴿ جزيناهم ببغيهم ﴾ : بسبب ظلمهم ومخالفتهم أوامرنا، ﴿ وإنا لصادقون ﴾ : فيما أخبرنا من تحريمنا ذلك عليهم كما زعموا أن إسرائيل حرمه.
﴿ فإن كذّبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ﴾ : فيمهلكم، ﴿ ولا يُردّ بأسه ﴾ : عذابه إذا نزل، ﴿ عن القوم المجرمين ﴾ : فلا تغتروا بالإمهال.
﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ﴾ : خلاف ذلك، ﴿ ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء ﴾ : فإن ما لم يشأ لم يكن، وما شاء فهو مرضي مأمور به فأرادوا بذلك أن ما هم عليه مرضي عند الله مأمور به، ﴿ كذلك كذّب الذين من قبلهم ﴾ : أي : بهذه الشبهة الداحضة كذب الأمم السالفة أنبياءهم، ﴿ حتى ذاقوا بأسنا ﴾ : فعلموا أنهم على دين مبغوض غير مرضي أراد الله لهم خزيهم وسوء شكيمتهم، ﴿ قل هل عندكم من علم ﴾ : يدل على رضى الله عنكم فيما أنتم عليه، ﴿ فتُخرجوه لنا ﴾ : تظهروه لنا، ﴿ إن تتّبعون إلا الظن ﴾ : في ذلك لا العلم، ﴿ وإن أنتم إلا تخرصون ﴾ : تكذبون على الله فإنه منع الشرك، وغضب على المشركين مع أنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء لا يزاحمه أحد تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
﴿ قل فللّه الحجة البالغة ﴾ : التي بلغت غاية المتانة وهي الكتاب والرسول والبيان، ﴿ فلو شاء الله لهداكم أجمعين ﴾ لكن شاء هداية قوم، وضلال آخرين، والمعنى وإذ قد ظهر ألا حجة لكم فلله الحجة لكن لا يهدي الله الكل إليها لعدم مشيئته، وله في ذلك حكم، ومصالح لا يهتدي إليها إلا من هداه الله.
﴿ قل هلُمّ شهداءكم ﴾ : أحضروهم، اسم فعل متعد ويكون لازما، ﴿ الذين يشهدون أن الله حرّم هذا ﴾ : وهم قدوتهم ليلزمهم الحجة، ﴿ فإن شهدوا ﴾ : عنادا، ﴿ فلا تشهد معهم ﴾ : لا تصدقهم فيه وبين فسادهم، ﴿ ولا تتّبع أهواء الذين كذّبوا بآياتنا ﴾ أي : لا تتبعهم فإنهم يكذبون بآياتنا، ﴿ والذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ : كعبدة الأوثان، ﴿ وهم بربهم يعدلون ﴾ : يجعلون له عديلا سبحانه !
﴿ قل تعالوا أتل ﴾ : أقرأ، ﴿ ما حرّم ربكم عليكم ﴾ : حقا لا ظنا ولا تخرصا متعلق ب ( حرم ) أو ( اتل )، ﴿ ألا تشركوا به ﴾ :( أن ) مفسرة يعني أي : لا تشركوا، ولا للنهي، ﴿ شيئا ﴾، مصدر أو مفعول به، ﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ أي : أحسنوا بهم، وضع أحسنوا موضع ألا تسيئوا للدلالة على أن عدم الإساءة في شأنهما غير كاف، ﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ﴾ : من أجل فقر، ﴿ نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾، بدل من الفواحش أي : العلانية والسر فإن المشركين لا يستقبحون الزنا سرا، ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله ﴾ : بجهة من الجهات، ﴿ إلا بالحق ﴾ : القود، والارتداد والرجم، ﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى المذكور، ﴿ وصّاكم به ﴾ : بحفظه، ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ : عنه أمره ونهيه أو ترشدون.
﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ : أي : إلا بطريقة هي أحسن الطرق كحفظه وتثميره، ﴿ حتى يبلغ أشدّه ﴾ : حتى يصير بالغا فادفعوا إليه جمع شده، ﴿ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ﴾ : بالعدل أي : لا تبخسوهما، ﴿ لا نكلّف نفسا إلا وسعها ﴾ : إلا ما يسعها ولا تعجز عنه فإن أخطأ بعد بذل جهده فلا حرج، ﴿ وإذا قلتم ﴾ : تكلمتم في شيء، ﴿ فاعدلوا ﴾ : في القول لا تجوروا فيه، ﴿ ولو كان ﴾ : المقول له أو عليه، ﴿ ذا قربى ﴾ : من قرابتكم، ﴿ وبعهد الله أوفوا ﴾ : وبوصيته أوفوا فاعملوا بكتابه لا تنكثوه، ﴿ ذلكم وصّاكم به لعلكم تذّكّرون ﴾ : تتعظون به.
﴿ وأنّ هذا ﴾ : إشارة إلى ما في الآيتين، وقيل إلى ما في السورة، ﴿ صراطي ﴾ : ديني، ﴿ مستقيما ﴾ : لا عوج فيه، ﴿ فاتّبعوه ﴾ : عطف على لا تشركوا ( وأن هذا صراطي ) إلخ علة الاتباع أي : لأن ( هذا ) إلخ، والجمع بين حرف العطف الواو والفاء عند تقديم المعمول فصلا بينهما شائع، وربك فكبر، وقيل عطف على لعلكم تذكرون أي وصاكم به لأن هذا ديني المستقيم، ﴿ ولا تتّبعوا السُّبُل ﴾ أي : الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق، ﴿ فتفرّق بكم ﴾ الباء للتعدية، ﴿ عن سبيله ﴾ : الذي هو اتباع الحق، ﴿ ذلكم ﴾ : الاتباع، ﴿ وصّاكم به لعلكم تتّقون ﴾ : الضلال.
﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾، عطف على ذلكم وصاكم وثم للتراخي للإخبار، ﴿ تماما ﴾ : كاملا جامعا لما يحتاج إليه، ﴿ على الذي أحسن ﴾ : أي : جزاء على إحسانه في الطاعة وتبليغ الرسالة أو تماما بمعنى كرامة، ونعمة أي : حال كون الكتاب نعمة على من أحسن القيام به أي : على المحسنين أو معنى تماما زيادة أي : حال كون الكتاب زيادة على ما أحسنه من العلم أي : على علمه، ﴿ وتفصيلا ﴾ : بيانا مفصلا، ﴿ لكل شيء ﴾ : يحتاج إليه عطف على تماما، فهو حال، وقيل نصبهما بالعلية أو بالمصدر، ﴿ وهدى ورحمة لعلهم ﴾ : بني إسرائيل، ﴿ بلقاء ربهم يؤمنون ﴾ : لكي يؤمنوا بالبعث.
﴿ وهذا ﴾ أي : القرآن، ﴿ كتاب أنزلناه مبارك ﴾ : كثير النفع، ﴿ فاتّبعوه واتقوا ﴾ : مخالفته، ﴿ لعلكم تُرحمون ﴾ : بواسطة العمل به.
﴿ أن تقولوا ﴾ : علة لأنزلناه أي : كراهة أن تقولوا، ﴿ إنما أُنزل الكتاب على طائفتين ﴾ : اليهود، والنصارى، ﴿ من قبلنا وإن كنا ﴾ : أي : وإنه كنا، ﴿ عن دراستهم ﴾ : قراءتهم، ﴿ لغافلين ﴾ : ما نفهم ما يقولون فإنه ليس بلساننا.
﴿ أو تقولوا ﴾، عطف على ما تقولوا، ﴿ لو أنّا أُنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم ﴾ أي : إن صدقتم فيما قلتم فقد جاءتكم حجة واضحة فيها بيان الحلال والحرام، ﴿ وهدى ورحمة ﴾ : لمن عمل به، ﴿ فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله ﴾ : بعد ما تمكن من معرفته، ﴿ وصدف عنها ﴾ : أعرض أو صد الناس عنها، ﴿ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ﴾ : بسبب إعراضهم أو صدهم.
﴿ هل ينظرون ﴾ : أهل مكة أي : ما ينتظرون، ﴿ إلا أن تأتيهم الملائكة ﴾ : لقبض أرواحهم، وهم إن كانوا غير منتظرين لذلك لكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بهم، ﴿ أو يأتي ربك ﴾ : المراد يوم القيامة، ﴿ أو يأتي بعض آيات ربك ﴾ : كطلوع الشمس من المغرب، ﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك ﴾ : التي تضطرهم إلى الإيمان، ﴿ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ﴾ صفة نفسا، ﴿ أو كسبت في إيمانها خيرا ﴾ : عطف على آمنت أي : لا ينفع الكافر إيمانه في ذلك الحيز ولا الفاسق الذي ما كسب خيرا في إيمانه توبته، فحاصله أنه من باب اللف التقديري أي : لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها في الإيمان إن لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه أي : لا ينفعهم تلهفهم على ترك الإيمان بالكتاب، ولا على ترك العمل بما فيه، ﴿ قل انتظروا ﴾ : إتيان أحد هذه الثلاث، ﴿ إنا منتظرون ﴾ : له، وعيد شديد.
﴿ إن الذين فرّقوا دينهم ﴾ : اليهود والنصارى أخذوا بعض ما أمروا وتركوا بعضه، أو أهل الشبهات والبدع من هذه الأمة، ﴿ وكانوا شِيعا ﴾ : فرقا بعضهم يكفر بعضا، وقد ورد ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة )، ﴿ لست منهم في شيء ﴾ : لست من عقابهم في شيء، ومن قال : إنه نهى عن التعرض لهم، فعنده الآية منسوخة وإذا كان المراد هذه الأمة فيحتمل أن يكون معناه أنت بريء منهم، ﴿ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبّئهم بما كانوا يفعلون ﴾ : بالعقاب.
﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ أي : عشر حسنات أمثالها فضلا من الله، وهذا أقل ما وعد لا ينقص منه، ﴿ ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى إلا مثلها ﴾ أي : إلا جزاء مثلها لا يضاعف، ﴿ وهم لا يُظلمون ﴾ : بنقص الثواب، وزيادة العقاب.
﴿ قل إنني هداني ربي ﴾ : بالوحي، ﴿ إلى صراط مستقيم دينا ﴾ أعني دينا أو بدل من محل ( صراط ) إذ معناه وهداني صراطا :﴿ قيما ﴾ : مصدر بمعنى القيام أي : قائما ثابتا لا زوال له كرجل عدل، ﴿ ملّة إبراهيم ﴾، عطف بيان لدينا لما في الإضافة من زيادة التوضيح، ﴿ حنيفا ﴾ : مائلا عن غير الصواب حال عن إبراهيم فإنه بمنزلة الحال من المضاف الذي هو معمول الفعل، ﴿ وما كان من المشركين ﴾ : كما يقول المشركون.
﴿ قل إن صلاتي ونُسكي ﴾ : الذبح في الحج والعمرة وقيل :
عبادة كلها، ﴿ ومحياي ومماتي ﴾ أي : حياتي وموتي، ﴿ لله رب العالمين ﴾ : أي : ملك له، وهو خالقه فأنا خالص في العبادة لا أشرك أو ما أنا عليه في حياتي ومماتي من الإيمان والطاعة خالص له.
﴿ لا شريك له وبذلك ﴾ : القول والطريق، ﴿ أُمرت وأنا أول المسلمين ﴾ : من هذه الأمة.
﴿ قل أغير الله أبغي ربًّا ﴾ : غير الله حال من ربا والهمزة للإنكار، ﴿ وهو رب كل شيء ﴾، حال في موقع العلة، ﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ﴾ فإثم الجاني عليه لا على غيره، ﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ : لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى، وهذا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم قائلين :( اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ) ( العنكبوت : ١٢ )، ﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم ﴾ : يوم القيامة، ﴿ فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ فتعلموا أننا على الحق أو أنتم.
﴿ وهو الذي جعلكم ﴾ : يا أمة محمد، ﴿ خلائف الأرض ﴾ : خلفاء الأمم السالفة، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة، لأنه يخلفه في الأرض، وقيل : يخلف بعضكم بعضا أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها فالخطاب عام، ﴿ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ﴾ : بالغنى والرزق منصوب على التمييز أو بدل من بعضكم أو بنزع الخافض أي : بدرجات، ﴿ ليبلوكم ﴾ : ليختبركم، ﴿ في ما آتاكم ﴾ : يمتحن الغني في غناه، ويسأله عن شكره والفقير في فقره ويسأله عن صبره، ﴿ إن ربك سريع العقاب ﴾ : بمن عصاه، وخالف رسله وكل ما هو آت قريب، ﴿ وإنه لغفور رحيم ﴾ : لمن والاه واتبع رسله.
والحمد لله حق حمده. .