تفسير سورة الأنعام

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الأنعام
آياتها ١٦٥ آية وهي سورة مكية إلا بعض آيات قلائل، وهي سورة جامعة لأصول التوحيد شارحة للعقيدة الإسلامية وخاصة أحوال البعث وإثبات الرسالة وما يتبع ذلك.
وقد تضافرت الروايات على أنها نزلت جملة واحدة،
فقد روى نافع عن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نزلت علىّ سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد»
ولا مانع في أن يكون بعض آياتها مدنيا ثم وضعه النبي صلّى الله عليه وسلّم في موضعه من السورة.
وقال القرطبي: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعة ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يؤيد نزولها جملة واحدة.
أما مناسبتها: ففي المائدة محاجة أهل الكتاب وفي هذه محاجة المشركين، والمائدة ذكرت المحرمات بالتفصيل لأنها من آخر القرآن نزولا، والأنعام ذكرت ذلك جملة.
دلائل الوحدانية والبعث مع شمول العلم [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)
584
المفردات:
الْحَمْدُ: هو الثناء الحسن والذكر الجميل. خَلَقَ الخلق في اللغة:
التقدير، أى: جعل الشيء بمقدار معين على حسب علمه، وفي أبى السعود: الجعل الإنشاء والإبداع كالخلق، غير أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والإبداع، والجعل عام للإنشاء كما في قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.
وللتشريع والتقنين كما مر في قوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء. يَعْدِلُونَ: يجعلون له عدلا مساويا وشريكا له منافسا. أَجَلًا الأجل: المدة المضروبة للشيء، وقضى أجلا بمعنى حكم به وضربه. تَمْتَرُونَ: تشكّون في دلائل البعث والتوحيد.
المعنى:
أثنى الله- سبحانه وتعالى- على نفسه، مما علّم به عباده الثناء عليه، فالحمد لله، وكل ثناء ثابت له، إذ هو متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، وثابت له الخلق والإيجاد، والإنشاء والإبداع.
وقد وصف- سبحانه وتعالى- هنا بصفتين من موجبات الحمد والثناء، وهما خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور.
أما خلق السموات والأرض، وما فيهما من العوالم والنظام، والتقدير والإحكام فشيء يعترف به المشركون والمؤمنون على السواء وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «١» فهذه السموات وما فيها من نجوم وأفلاك وشموس وكواكب، كل له مدار، وله شروق وأفول، وهذا الهواء المحيط بالأرض، وهذا الأثير الذي ينقل الصوت، أليس هذا كله يدل على الوحدة والكمال! الحمد لله الذي خلق السموات وما فيها وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى!! أما الأرض وما أدراك ما هي، كوكب سيار وفلك دوار، كانتا رتقا ففتقناهما وهي معلقة في الفضاء، وتدور حول الشمس، وعليها الجبال الرواسي وفيها الأنهار والبحار وعليها نسير وفيها نعيش وهي كروية، ولا يقع الماء من جوانبها،
(١) سورة لقمان آية ٢٥ والزمر ٣٨.
585
ولا يتدفق عند قطبيها، من الذي خلق هذا وقدره؟؟ إنه هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد.
الحمد لله قد جعل الظلمات والنور!! وهل الظلمات والنور في المحسوسات أم هما في المعقولات، أم اللفظ عام للجميع؟.
والقرآن الكريم جرى على جمع الظلمات وإفراد النور لأن ظلمات الشرك والكفر أسبابها وأشكالها وألوانها مختلفة وكثيرة، أما نور الحق والهدى فطريقهما واحد، وللظلمات الحسية أسباب لأن الظلمة تحصل بحجب النور بالجسم والأجسام مختلفة وكثيرة، وللنور مصدر واحد وإن اختلف قوة وضعفا، وشكلا وصورة.
ثم الذين كفروا بعد هذا كله يعدلون بالوحدانية إلى الشرك، ويجعلون لمن خلق وأوجد وأنشأ وأبدع شريكا مساويا له كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، أبعد هذا يكون شك في وحدانية الله وكماله؟!! ثم استأنف القرآن كلاما خاطب به المشركين والمعاندين مذكّرا لهم بما هو ألصق بهم، وهو خلقهم من طين أو من ماء مهين، فهذا أبونا آدم خلق من طين وها نحن أولاء نتكون من منىّ وبويضة، وهما من دم الذكر والأنثى، والدم من الغذاء، والغذاء من الحيوان والنبات وهما يرجعان إلى الأرض، وقيل: المعنى: خلق أباكم آدم من طين. ثم ضرب لنا أجلا نعيش به في الدنيا إلى وقت محدود فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «١» وهناك أجل آخر مسمى عنده هو أجل الدنيا وانتهاؤها، ومصيرها إلى الحياة الآخرة لا يعلم به إلا هو، ولم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [سورة الأعراف آية ١٨٧].
ثم أنتم بعد هذا تمترون وتشكّون في خلقكم مرة ثانية، أى: في البعث؟ فالذي خلق الجنين في بطن أمه من ماء مهين وجعله يتنفس ولو تنفس بالهواء العادي لمات، وجعله يتغذى بالدم القذر القاتل، أليست هذه حياة عجيبة؟!!! حقا إنها لعجيبة، والذي أحيانا على هذا الوضع قادر على إحياء الموتى يوم القيامة.
(١) سورة الأعراف آية ٣٤ والنحل ٦١].
586
وهو الله في السموات والأرض، نعم هو الله الموصوف بكل كمال، وخالق السماء والأرض وما فيهما، هذه حقائق معروفة، وأمر شهد به الخلق جميعا، وفي ابن كثير:
معنى هذه الآية: المدعو الله في السموات والأرض، أى: يعبده ويوحده ويقر له بالألوهية من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر، وهذه الآية كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أى: هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وعلى هذا فقوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ خبر بعد خبر وصفة أخرى، وقيل: المعنى: هو الله يعلم سركم وجهركم في السموات والأرض ويعلم ما تكسبون، فهو سبحانه العليم الخبير.
سبب كفرهم وشبهاتهم والرد عليها [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤ الى ٩]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨)
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)
587
المفردات:
مُعْرِضِينَ الإعراض: التولي عن الشيء. بِالْحَقِّ أى: بالأمر الثابت المتحقق في نفسه، والمراد به هنا الدين. أَنْباءُ جمع نبأ: وهو الخبر المهم. مِنْ قَرْنٍ القرن من الناس: القوم المقترنون في زمن واحد، ومدته من الزمن مائة سنة، وقيل غير ذلك. السَّماءَ المراد: المطر. مِدْراراً: مبالغا فيه في الكثرة والغزارة. كِتاباً: صحيفة مكتوبة. قِرْطاسٍ: الورق الذي يكتب فيه.
وَلَلَبَسْنا اللبس: الستر والتغطية، والمراد: جعلنا أمرهم يلتبس عليهم فلا يعرفونه.
ما تقدم من الآيات كان في إثبات الوحدانية، وكمال الربوبية لله- سبحانه وتعالى- وإثبات البعث، وأن الله الذي يعترفون له بخلق السموات والأرض هو الإله المعبود بحق، المحيط علما بكل شيء لا إله إلا هو!!! ولكنهم أشركوا بالله وكذبوا رسله، ولم يؤمنوا بهذه الآيات الكونية ولا الآيات القرآنية التي تناديهم ليصدقوا بها ويصدقوا برسولها صلّى الله عليه وسلّم وهذه الآيات تشير إلى سبب التكذيب والكفر!!
المعنى:
وما تأتيهم أية آية من آيات ربهم الذي رباهم، وتعهدهم في حالتي الضعف والقوة، وكفل لهم الرزق، وآتاهم من كل شيء، وكفل لهم جميع ما في الأرض، ما تأتيهم آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأنبياء آية ٢].
فهم لم ينظروا نظرة اعتبار وتأمل، ولم يجردوا أنفسهم من قيد التقليد، وحمى العصبية، وحماقة الجاهلية، فهم إذا أتتهم آية أعرضوا وقالوا: سحر مستمر وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. [سورة الأعراف آية ١٣٢].
فبسبب هذا قد كذبوا بالحق والدين الصدق، الذي دعا إليه القرآن الكريم وجاء به النبي الأمين: من الدعوة إلى العقائد الصحيحة، والآداب الكريمة، والمثل العليا، ولكون الإعراض طبيعة فيهم وغريزة كذبوا بسرعة فائقة عقب الدعوة مباشرة، وكانت
588
عاقبة أمرهم خسرا، وسوف يأتيهم أخبار وأحوال الذين كذبوا به وهو القرآن، سيأتيهم نبأ هذا التكذيب وعاقبته وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «١» وقد أتى حيث هزموا بغزوة بدر، وجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا، هذا في الدنيا!! وقال الرازي في تفسيره: كان حال هؤلاء في كفرهم على ثلاث مراتب: إعراض عن التأمل، ثم تكذيب، وثالثة الأثافى استهزاء بآيات الله وكلامه.
عجبا لهؤلاء!! ألم يعلموا نبأ من كان قبلهم، وكيف كان مآلهم؟!.. كم أهلكنا من قبلكم من قوم أعطيناهم ما لم نعط لكم ومكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا، أفكان هذا كله مانعا لنا من إنزال العقوبة الصارمة بهم لما أعرضوا وكذبوا واستهزءوا؟؟ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ «٢» لا هذا ولا ذاك!! ألم تروا قوم عاد وثمود، وقوم فرعون وإخوان لوط؟!! إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ «٣» والمسلمون اليوم أخوف ما أخاف عليهم هذا الإعراض عن آيات الله والتكذيب لها عمليا، أخاف عليهم أن يحيق بهم عاقبة أمرهم فتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يضيق ذرعا بقومه من جراء تكذيبهم وعنادهم فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ «٤» وكانوا يكثرون في طلب الآيات الخاصة، فرد الله عليهم بما ألزمهم.
ولو نزلنا عليك يا محمد كتابا مكتوبا من السماء في قرطاس وفيه دعوتهم إلى الدين بالحجة لما آمنوا به ولما صدقوك في ذلك بل ولقالوا: ما هذا إلا سحر وخيال ظاهر ليس فيه حقيقة، وانظر إلى تعبير القرآن الكريم: نَزَّلْنا بالتشديد، وقوله كِتاباً فِي قِرْطاسٍ والكتاب لا يكون إلا فيه، ثم قوله: فلمسوه بأيديهم، وقلبوا فيه وبالغوا في
(١) سورة هود آية ٨.
(٢) سورة القمر آية ٤٣.
(٣) سورة البروج الآيات ١٢- ١٤.
(٤) سورة هود آية ١٢.
589
ذلك، كل هذه أساليب تفيد المبالغة وتأكيد النزول وتأكدهم منه، ومع هذا يقولون:
إن هذا إلا سحر مبين.
وكان الكفار قد اقترحوا اقتراحين، أولهما: أن ينزل على الرسول ملك من السماء يرونه ويكون معه نذيرا ومؤيدا له ونصيرا، وذلك أنهم يفهمون أن الرسول بشر والرسالة تتنافى مع البشرية ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ «١». وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [سورة الفرقان آية ٧].
وقد حكى الله عنهم هذا كثيرا في سورة هود وإبراهيم وغيرهما.
وقد رد الله اقتراحهم هذا بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لقضى الأمر وهلكوا ثم لا ينظرون ولا يمهلون إذ جرت سنة الله في خلقه، إذا تعصب قوم وطلبوا آية غير التي أنزلت إليهم، وأجيبوا إلى طلبهم، ثم لم يؤمنوا، يهلكهم الله بعذابه ويقضى عليهم.
وهؤلاء من أمة الدعوة المحمدية، وقد قضى الله ألا يهلكهم بعذاب الاستئصال تكريما للنبي صلّى الله عليه وسلّم وعسى أن يأتى من نسلهم من يعبد الله حقا، وقد كان هذا.
الاقتراح الثاني: هلا نزّلت الملائكة علينا بالرسالة، وكان الرسول ملكا لا بشرا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «٢» فأنت ترى أن اقتراحهم الثاني مبنى على الغرور الكاذب والجهل الفاضح وأن هذا النبي الأمين الصادق الكريم لا يستحق هذه الرسالة فإن كان ولا بد من إرسال بشر فنحن أولى منه وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «٣».
فيرد الله عليهم: لو جعلنا الرسول ملكا لجعلناه رجلا حتى يمكن التفاهم معه والأنس به ومخاطبته، ولو جعلناه بشرا لعاد الأمر كما كان وللبسنا عليهم واختلط الأمر عندهم، فإن هذا الرجل سيقول لهم: إنى رسول الله كما يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم أما اختصاص محمد دون غيره بالرسالة وتشريفه بالنبوة فالله أعلم حيث يجعل رسالته.
(١) سورة المؤمنون آية ٣٣.
(٢) سورة المؤمنون آية ٢٤.
(٣) سورة الزخرف آية ٣١- ٣٢.
590
تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
المفردات:
اسْتُهْزِئَ الاستهزاء: السخرية والاستخفاف والاحتقار، ويتبع ذلك غالبا الضحك. فَحاقَ: أحاط بهم فلم يكن لهم منه مخرج.
المعنى:
يخبر الله- سبحانه وتعالى- نبيه الكريم بصيغة القسم، أن الكفار قد استهزءوا قديما برسل كثير عددهم، عظيم شأنهم، رسل من قبلك، فليس استهزاؤهم بك بدعا، بل أنت مسبوق في ذلك، فلا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق مما يفعلون، فهذا شأن الكفار قديما وحديثا.
واعلم أنه قد أحاط بهم فلم يكن لهم منه مخرج، وليس لهم مفر ولن يفلتوا من عاقبة فعلهم أبدا.
فالآية إرشاد للنبي صلّى الله عليه وسلّم ببيان سنة الله في الخلق وأن العاقبة للمتقين، وأن العذاب والخزي للكافرين والمستهزئين إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. [سورة الحجر آية ٩٥].
وإن ارتاب المشركون في ذلك فقل لهم: سيروا في الأرض، وتنقلوا فيها لتقفوا بأنفسكم على تاريخ من سبقكم من عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وإخوان لوط (فما راء كمن سمعا) سيروا في الأرض ثم انظروا واعتبروا، كيف كان عاقبة المكذبين؟؟
أسلوب آخر في إثبات الوحدانية والبعث [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢ الى ١٦]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
المفردات:
كَتَبَ: فرض وأوجب على نفسه. لَيَجْمَعَنَّكُمْ المراد: ليحشرنكم.
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ المراد بالخسارة هنا: ترك ما يقتضيه العقل والعلم.
ما سَكَنَ من السكون أو السكنى، والمراد: عدم الحركة. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق. يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ:
يبعد عنه. رَحِمَهُ: أنجاه من الهول الأكبر.
ها هو ذا القرآن الكريم يعود إلى إثبات الوحدانية لله والكمال له. وإثبات البعث والجزاء بأسلوب آخر، ونمط عال في الأداء، طرقا للسمع من جميع الأنحاء حتى لا يمل السامع مع زيادة التكرير والتثبيت فهذا هو المقصود المهم والهدف المرجو للقرآن الكريم.
592
المعنى:
قل لهم يا محمد: لمن ما في السموات والأرض؟ ولمن هذا الكون وما فيه؟ ولمن هذا الوجود وما يحويه؟ لمن هذه السماء وقد ازينت! وهذه الكواكب وقد انتثرت!! ولمن هذه الأرض وقد مدت وفيها الأنهار الجواري والجبال الرواسي والعوالم التي لا يحيط بها إلا خالقها!! قل لهم: هذا كله لله واهب الوجود، الكبير المعبود. مالك الملكوت، ذو الرحمة والجبروت، الواحد الأحد، الفرد الصمد، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وهذا سؤال، وجوابه قد أمر به صلّى الله عليه وسلّم في القرآن لأنه هو الجواب المتعيّن، ولا يمكن لمنصف أن ينكر هذا أبدا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «١» فهم معترفون بهذا ولكن لسوء تفكيرهم يقولون في الأصنام: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «٢» فبئس ما يصنعون، على أن السؤال وجوابه كان تبكيتا لهم وتوبيخا، وقد بنى عليه شيء آخر من لوازمه، وقد يجهله المسئولون أو ينكرونه لعنادهم وحماقتهم.
فالله الذي برأ السموات والأرض، وله كل ما فيهما مما لا نعلم عنه إلا قليلا، وكالذرة بالنسبة للجبال الشم، وقد أوجب على نفسه، وقوله عَلى نَفْسِهِ لتأكيد الوعد وتحقيقه. أوجب الرحمة على عباده إذ هو الرحمن الرحيم، ليجمعنكم ليوم القيامة جمعا لا شك فيه ولا ريب، أو أنه ليجمعنكم ليوم لا ريب فيه ولا شك، نعم يجمعنا ويحشرنا لنأخذ الجزاء على أعمالنا فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «٣»، وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «٤» والثواب والعقاب على الأعمال من مظاهر الرحمة بالخلق، حتى يعرف الخلق ذلك، ومتى علم هذا كف باغي الشر عن شره، وأسرع باغي الخير في عمله، مع أنه ليس من العدل والرحمة ألا يجازى المحسن على إحسانه وألا يعاقب المسيء على إساءته. وكذلك من مظاهر الرحمة هدايتنا إلى معرفته ونصب الأدلة على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض.
(١) سورة لقمان آية ٢٥.
(٢) سورة الزمر آية ٣.
(٣) سورة الزلزلة الآيتان ٧ و ٨.
(٤) سورة النجم آية ٣١. [.....]
593
وقد سبقت رحمته غضبه وزادت عليه فهو يجازى الحسنة بعشر أمثالها وقد تضاعف أضعافا لمن يشاء، والسيئة بمثلها فقط مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [سورة الأنعام آية ١٦٠].
وأخص هؤلاء الذين خسروا أنفسهم ممن يجتمعون ليوم القيامة، وهم من فسدت فطرتهم، وساءت نفوسهم فلم يهتدوا بنور الدين، وحرموا أنفسهم من النظر والتفكير في هذا الكون وآياته. بعين العقل والحكمة، وإنما أعماهم التقليد وسوء الرأى وحمى العصبية وداء الحسد عن النظر الصحيح والفهم السليم، ولم تكن لهم عزيمة صادقة وإرادة حازمة، تجعلهم يتركون ما كان عليه الآباء إلى ما وافق العلم والعقل والرأى، نعم هؤلاء الذين خسروا أنفسهم، فهم لا يؤمنون أبدا بالبعث والثواب والعقاب.
لله ما في السموات وما في الأرض، وله ما سكن في الليل والنهار ولم يتحرك، وله ما تحرك ولم يسكن، فهو المتصرف تصرفا كاملا في كل شيء خاصة ما سكن وخفى في الليل ومن باب أولى ما تحرك وظهر في النهار.
فأنت معى أن القرآن الكريم تعرض لجميع الأمكنة في السموات والأرض ولكل الأزمنة في الليل والنهار وهذه إشارة إلى كما إحاطته وتمام تصرفه، وهو السميع لكل قول ودعاء العليم بكل فعل ونية.
وهذا يقتضى عدم اتخاذ الأولياء من دون الله.
قل لهم يا محمد: أغير الله أتخذ وليّا ينصرني؟ أو يدفع ضررا عنى، أو يجلب خيرا لي؟ والاستفهام لإنكار اتخاذ غير الله وليّا من الأصنام والشفعاء، أما اتخاذ الأصحاب والأصدقاء من المؤمنين فلا شيء ما دام في حدود كسبه وتصرفه الذي منحه الله لبنى جنسه.
قل لهم: أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون؟ أغير الله فاطر السموات والأرض ومبدعهما لا على مثال سابق، أغير الله أتخذه وليّا يلي أمورى؟ فإن من فطر السماء والأرض وأبدعهما من غير تأثير ولا شفيع يجب أن يخص بالعبادة وحده إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ والله- سبحانه وتعالى- يطعم ويرزق الناس وليس في حاجة إلى أحد ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات ٥٧] وفي هذا تعريض بمن يتخذون من
594
العبادة آلهة وهم محتاجون إلى الطعام وما يتبعه من الحاجة إلى الخلاء، أما من يعبد غير الإنسان فعبادته ضرب من الخبل والجنون، أما وقد ظهرت هذه الحقائق بادية للعيان، فقل لهم يا محمد: إنى أمرت أن أكون أول من أسلم وجهه لله وانقاد، حيث ثبت أن له ما سكن وما تحرك، وهو السميع البصير، فاطر السموات والأرض واهب الرزق والحياة، غير محتاج لأحد، ليس كمثله شيء، ولهذا أمرت أن أكون أول من أسلم، ونهيت عن الشرك بالله، وإنى أخاف إن عصيت ربي عذابا عظيما يوم القيامة يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله.
وإذا كان هذا حال النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر المعصوم خاتم الأنبياء والمرسلين.
فما بالنا نحن وما بالك يا بن آدم؟ إنك لمسكين مغرور حيث تتعلق بالأوهام والالتجاء لغير الله.
من يدفع عنه يومئذ ذلك العذاب فقد رحمه الله ونجا فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [سورة آل عمران آية ١٨٥] وذلك الفوز هو الواضح العظيم.
من مظاهر القدرة وشهادة الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
595
المفردات:
الضر: ضد النفع، هو ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله.
بِخَيْرٍ: هو ما يرغب فيه الكل وتطمع إليه النفس كالعقل والعلم والعدل. وضده الشر. الْقاهِرُ القهر: الغلبة والإذلال معا. شَهادَةً: هي إخبار عن علم ومعرفة واعتقاد مبنى على المشاهد بالبصر أو البصيرة.
المعنى:
يقول الله- سبحانه وتعالى- ما معناه: وإن يمسسك الله بضر من ألم أو فقر أو مرض أو أى مصيبة تحصل للإنسان فلا كاشف له ولا مزيل إلا هو- سبحانه وتعالى- إذ هو القادر على كل شيء، فيجب على المسلم ألا يتوجه لغيره إذ بيده وحده إزالة الضر وجلب النفع، والضر يزيله الله بتوفيق عبده لسلوك الطرق المنتجة المعروفة، وقد يزيله بلا عمل من الإنسان أصلا، وهو الحكيم الخبير بخلقه، وإن يمسسك بخير من غنى أو صحة أو مال، فهو من عنده وحده إذ لا يقدر على ذلك إلا هو- سبحانه وتعالى- وهو على كل شيء قدير، وفي مقابلة الخير بالضر إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان في الدنيا ليس شرّا بل قد يكون فيه نفع.. وبعد أن أثبت الله لنفسه كمال القدرة وعظيم التصرف أثبت له كمال السلطان وتمام القهر والغلبة لعباده حتى يلجأ إليه الكل ويدعونه رغبا ورهبا فقال: وهو القاهر فوق عباده، والفوقية هنا فوقية استعلاء بالقهر والغلبة لا فوقية مكان، كما تقول: السلطان فوق رعيته، والمراد فوقهم بالأمر والغلبة، وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة وهو منع غيره من بلوغ المراد إلا بأمره وهو الحكيم في أمره الخبير بخلقه- سبحانه وتعالى-.
وكان المشركون يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية وأمر رسول الله أن يسألهم أى شيء أكبر شهادة وأعظمها وأصدقها؟
ثم أمره بالإجابة فقال: أكبر الأشياء شهادة الذي لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ هو الله- تعالى- الشهيد بيني وبينكم، وأوحى إلىّ هذا القرآن من لدن الله لأنذركم به عقاب تكذيبي فيما جئت به. وأنذر من بلغه هذا القرآن في أى
596
مكان أو زمان حتى تقوم الساعة، ولهذا كانت رسالته عامة، وشهادة الله للرسول كانت بإخباره بها في كتابه بنحو قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وبتأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن فهو المعجزة الخالدة الدالة على صدق النبي فيما يبلغه عن ربه، وكذا شهادة الكتب السابقة للنبي وبشارتها له، ولا تزال هذه البشارة في كتب اليهود والنصارى، والخلاصة أن شهادة الله- تعالى- هي شهادة آياته في القرآن وآياته في الأكوان ودلالة العقل والوجدان اللذين أو دعا في الإنسان.
ثم أمره بالشهادة له بالوحدانية والتبرؤ من الشرك والوثنية.
أإنكم لتشهدون وتقرون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل لهم: لا أشهد بهذا أبدا، قل لهم: إنما إله واحد. وإننى برىء ممّا تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرهما!!
كتمان الشهادة والافتراء على الله [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
المفردات:
فِتْنَتُهُمْ الفتنة: الاختبار، والمراد عاقبة الشرك.
597
روى أن كفار قريش سألوا أهل الكتاب عن رأيهم في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي دينه. فقالوا:
ليس في التوراة والإنجيل شيء يدل على نبوته
، وقد شهدوا له بالرسالة والصدق قبل أن يثبت كذب أهل الكتاب في شهادتهم ومن هنا كانت المناسبة.
وقد روى أن عمر بن الخطاب لما قدم المدينة سأل عبد الله بن سلام عن هذه المعرفة فقال: يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني.. وأشهد أنه حق من عند الله. واستطرد الكلام إلى بعض مواقف المشركين.
المعنى:
الذين آتيناهم الكتاب قديما وهم اليهود والنصارى يعرفون محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين كما يعرفون أبناءهم أو أشد، يعرفونه بما عندهم من نعته، وما ثبت من صدقه، وبالدلائل التي ظهرت معه. ولكنهم أنكروا كما أنكر المشركون والسبب أنهم خسروا أنفسهم واشتروا الضلالة بالهدى، لم تكن عندهم عزيمة صادقة تدفعهم إلى الإيمان وترك العصبية الجاهلية ولذلك فهم لا يؤمنون أبدا بالقرآن وبالنبي صلّى الله عليه وسلّم لعنادهم وحسدهم لا لجهلهم به، ولا أحد أظلم من شخص افترى على الله كذبا، واختلق بهتانا حيث قال: إن لله شريكا وله ولد، والملائكة بنات الله، وحرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكذب بالقرآن، وآياته البينات، وكذب بالآيات الكونية التي تدل على وحدانية الصانع وأن الدنيا لم تخلق عبثا، أما جزاء هؤلاء فإنه لا يفلح الظالمون أبدا في الدنيا والآخرة.
وذكّرهم أيها الرسول يوم نحشرهم جميعا لا فرق بين ملة وملة إذ الكفر ملة واحدة ثم نقول للذين أشركوا: أين شركاؤكم؟! الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لله، وتدعونهم كما تدعون الله، وتلجئون إليهم كما تلجئون إلى الله.
والسؤال للتبكيت والتأنيب!! ثم لم تكن عاقبة الشرك ونتيجته التي رأوها ماثلة للعيان يوم القيامة إلا قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين أبدا. نعم وصلت حالهم إلى الإنكار والكذب بعد ما كانوا معتزين بالشرك وبدين الآباء والأجداد.
598
عجبا لهؤلاء! أيكذبون على ربهم يوم القيامة؟ أم هي الدهشة والحيرة والخزي والوبال؟ فتارة يكذبون وتارة يصدقون ولا يكتمون الله حديثا.
انظر كيف كذبوا على أنفسهم؟ يا له من كذب وخزي وعار! بعد الافتخار والاعتداد بدين الشرك والأوثان، تعجب كيف كذبوا وضل عنهم ما كانوا يفترونه ويختلقونه؟
بعض أعمال المشركين [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
المفردات:
أَكِنَّةً الأكنّة: جمع كنان، وهو الغطاء والستر. وَقْراً: صمما وثقلا في السمع. آيَةٍ: علامة دالة على صدق الرسول. أَساطِيرُ: جمع أسطورة، وهي الخرافة. وَيَنْأَوْنَ: يبعدون عنه ويعرضون.
سبب النزول:
روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعقبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم، يسمعون تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للقرآن فقالوا للنضر- وكان صاحب أخبار-: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟! فقال النضر: والذي جعلها بيته ما أدرى ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم به عن القرون الماضية، فقال أبو سفيان:
599
إنى لأراه حقا، فقال أبو جهل: كلا، فنزلت
... ولكنا قلنا فيما مضى:
إن الصحيح أن سورة الأنعام نزلت دفعة واحدة ولعلهم يذكرون حوادث وقعت تتفق مع الآيات.
المعنى:
ومن هؤلاء الكفار فريق يستمع إليك وأنت تقرأ القرآن المحكم الآيات البين المعجزات، والحال أنا جعلنا على قلوبهم أغطية وستائر تحول دون فهم القرآن الكريم وتدبر معانيه وجعلنا في آذانهم صمما حتى لا يسمعوا آياته سماع قبول وتدبر.
وهذا تمثيل وتصوير لموقفهم من القرآن والنبي حيث قالوا: أساطير الأولين، وسحر وشعر والنبي ساحر كذاب، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً «١» إذ حالهم وما نشئوا فيه وبيئتهم وحبهم للرياسة والجاه وحسدهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم كل ذلك كان بمثابة غطاء وحجاب يمنع القلب والسمع من أن يتقبل كلام الله وكلام رسوله بقلب فاهم وسمع واع.
ولذلك يقول القرآن فيهم: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها فهم كفروا بكل آية ومعجزة وذلك لصرف الله قلوبهم عن الخير لما أعماهم التقليد عن النظر الصحيح والفهم السليم. وهذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، حتى إذا جاءوك مجادلين يقول الذين كفروا منهم وكذبوا: ما هذا إلا خرافات وترهات فهم لم يكتفوا بالتكذيب بل وصفوه بأحط الأوصاف حيث قالوا: أساطير الأولين.
وهم ينهون الناس عن القرآن حتى لا يسمعه أحد، ويصدون عن سبيل الله. وهم ينأون عنه ويبتعدون بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم منه وتأكيدا لنهيهم عنه، وما يهلكون إلا أنفسهم فقط وما يشعرون.
(١) سورة الكهف آية ٥.
600
من مواقف المشركين يوم القيامة [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٧ الى ٣٢]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
المفردات:
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يقال: وقف على الشيء: عرفه وتبينه، ووقف نفسه على الشيء: حبسها، ومنه: وقف العقار على الفقراء. بَدا لَهُمْ: ظهر ووضح.
السَّاعَةُ: هي الوقت المحدد المعروف، وتطلق في لسان الشرع على الوقت الذي ينقضي به أجل الدنيا وتبدأ به الحياة الأخرى. بَغْتَةً: فجأة يا حَسْرَتَنا الحسرة: الندم على ما فات كأن المتحسر قد انحسر وانكشف عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه. ما فَرَّطْنا التفريط: التقصير في الشيء مع القدرة على فعله.
أَوْزارَهُمْ: جمع وزر، وهو الحمل الثقيل، ويطلق في لسان الشرع على الإثم
601
والذنب كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل ظهره. لَعِبٌ: هو العمل الذي لا يقصد به جلب نفع أو دفع ضر. لَهْوٌ: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه.
المعنى:
هؤلاء المشركون أمرهم عجيب حقا، فإنك تراهم في الدنيا يكفرون بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم ويستهزئون به وبدينه، ولا يؤمنون بالبعث وتوابعه ويفاخرون بذلك، ولو ترى إذ يقفون على النار حتى يعاينوا ويطلعوا عليها ويتبينوها أو يدخلوها فيعرفون كنهها ويتلظون بنارها. لرأيت شيئا عجيبا تقف العبارة دون وصفه.. وهم إذ وقفوا عليها وظنوا أنهم مواقعوها حتما. قالوا: يا ليتنا نرد إلى الدنيا ولا نكذب بهذه النار وما يتبعها من أمور البعث والجزاء أو لا نكذب بأية آية من آيات ربنا، ونكون من المؤمنين بالله المصدقين برسله وآياته (بل) إضراب إبطالى لهذا التمني السابق على معنى (لا) لا. ليسوا صادقين في هذا التمني والرغبة في الإيمان أصلا، بل لأنهم ظهر لهم وبدا ما كانوا يخفونه ويكفرون به من أمور البعث والنار التي وقفوها عليها إذ من يكفر بأمر يخفيه ولا يظهره، ومن يؤمن به يبديه ولا يكتمه، والكلام في النار والعرض عليها.
ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والعناد وعدم الإيمان، وإنهم لقوم طبعهم الكذب وديدنهم العناد، ولو ردوا إلى الدنيا لقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط وليست لنا حياة أخروية أبدا، وما نحن بمبعوثين وهكذا القوم الماديون لا يؤمنون بالغيب، ولا يرجى منهم خير أبدا.
ولو ترى هؤلاء المشركين المكذبين حين تقفهم الملائكة، وتحبسهم ليحاسبهم ربهم، ويحكم فيهم بما أراد يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «١» لو رأيت هؤلاء حينئذ لهالك أمرهم واستبشعت منظرهم ورأيت ما لا تؤديه عبارة ولا يحيط به وصف وكأن سائلا سأل وقال: ماذا قيل لهم حينئذ؟ فأجيب قال لهم ربهم تبكيتا وتأنيبا: أليس هذا الذي أنتم فيه من أهوال الآخرة هو الحق لا شك فيه؟ قالوا: بلى نعم هو الحق لا شك فيه وربنا، قال لهم ربهم: فذوقوا ألم العذاب المر الذي تجدونه كما يجد من يذوق الشيء من قوة الإحساس والإدراك، كل ذلك بسبب ما كنتم تكفرون به
(١) سورة الانفطار آية ١٩.
602
وتجحدون في الدنيا، ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم هذا الإقرار منكم بأنه حق قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وما وعد الله به عباده الصالحين، نعم خسروا نعيم الآخرة وثوابها وسعادة الإيمان ولذته ورضوانا من الله أكبر من كل شيء.
وما كان هذا إلا نتيجة لإنكارهم الحياة الأخروية فإن من ينكرها يكون ماديا شهوانيّا ليس له قلب ولا روح وهم كالأنعام بل أضل سبيلا.
قد خسر الذين كذبوا حتى إذا جاءتهم منيتهم مباغتة لهم ومفاجئة قالوا: يا حسرتنا احضرى فهذا أوانك، يا حسرتنا على ما فرطنا في الحياة الدنيا التي كنا نزعم أن لا حياة بعدها...
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات قامت قيامته»
فتكذيبهم مستمر إلى موتهم فقط أما خسارتهم فلا حد لها ولا نهاية. وتحسرهم كذلك قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وهم يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، يحملونها على ظهورهم، وهذا ما كسبته أيديهم وجنته جوارحهم، ألا ساء ما يحملون وبئس ما يصنعون.
وأما الحياة الدنيا التي قال عنها الكفار إنه لا حياة بعدها فهي دائرة بين عمل لا فائدة فيه كلعب الأطفال وبين عمل فائدته عاجلة سلبية كفائدة اللهو فمتاعها قليل، وأجلها قصير، وحياتها تعب، وصاحبها في كبد لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ «١». وأما الدار الآخرة فنعم عقبى الدار! نعيمها مقيم وظلها دائم لا همّ فيها ولا نصب، ولا تعب ولا ألم وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «٢».
(١) سورة البلد آية ٤.
(٢) سورة الحجر الآيتان ٤٧ و ٤٨.
603
تسلية الله لنبيه وسنة الله في خلقه [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٧]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧)
المفردات:
لَيَحْزُنُكَ الحزن: ألم نفسي يكون عند فقد محبوب أو امتناع مرغوب أو حدوث مكروه. يَجْحَدُونَ الجحود: إنكار ما ثبت في القلب أو إثبات ما نفى فيه. نَبَإِ هو الخبر ذو الشأن العظيم. كَبُرَ يقال: كبر على فلان الأمر، أى: عظم عنده وشق عليه وقعه. إِعْراضُهُمْ الإعراض: التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه، أو احتقارا له. أَنْ تَبْتَغِيَ: أن تطلب ما في طلبه كلفة ومشقة من البغي وهو تجاوز الحد ويكون في الخير والشر. نَفَقاً: السرب في الأرض وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج. سُلَّماً: المرقاة من السلامة لأنه هو الذي يسلمك إلى مصعدك. يَسْتَجِيبُ استجاب الدعاء: إذا لباه وقام بما دعاه إليه بالتدريج.
604
المناسبة:
بعد هذا الحجاج والنقاش ذكر تأثير كفرهم وعنادهم في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر ما يسليه ببيان ما حصل لغيره من الرسل قديما.
روى ابن جرير عن السّدّىّ أن الأخنس بن شريق وأبا جهل التقيا فقال الأخنس لأبى جهل: يا أبا الحكم خبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيرى، قال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق وما كذب قط. ولكن إذا ذهب بنو قصى باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟.
المعنى:
قد نعلم- أيها الرسول- إنه ليحزنك ويؤلم نفسك ما عليه هؤلاء القوم، وما يقولونه لك من تكذيب وطعن، وتنفير للعرب عن دعوتك، وهذه نفسك الطاهرة تتألم، وقد رأيت عشيرتك وأهلك في ضلال وخسران، وأنت تدعوهم إلى الهدى والفلاح فلا يسمعون، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق مما يفعلون. فإنهم لا يكذبونك فأنت الصادق عندهم الأمين في ناديهم ما جربوا عليك كذبا ولا خيانة، ولكنهم يعاندون ويستكبرون، وتدفعهم الإحن والحسد والعصبية الحمقاء، فهذا أبو جهل يقول: إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به:
فهم لا يكذبون النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكنهم يفهمون خطأ أن ما جاء به من أمور البعث والحياة الأخرى غير مطابق للواقع، ولا يقتضى هذا أن يكون هو الذي افتراه، على أنهم ما كذبوه في أنفسهم ولكنهم كذبوه أمام الناس فقط!! وكان إصرارهم على التكذيب مع ظهور المعجزات والآيات تكذيبا لآيات الله، أما أنت أيها الرسول الكريم فلا تحزن عليهم وتذرع بالصبر والسلوان، واعتبر بمن تقدمك من الرسل الكرام، فهذه طبيعة الناس قديما وحديثا، ولقد كذبت رسل من قبلك، خاصة أولى العزم منهم، فصبروا على أذاهم إلى أن نصرهم الله وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. [سورة البقرة آية ٢١٤].
وهذه هي سنة الله في الأمم مع رسلهم، ولن تجد لسنة الله تحويلا، فاصبر كما صبر
605
أولو العزم من الرسل، واعلم أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأنه لا مبدل لكلمات الله أبدا ولا مغير لوعده.
ولقد جاءك من أخبار المرسلين التي تفيد تكذيب الناس لهم وصبرهم ونصر الله لهم إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٥١].
وكانوا يقترحون على النبي آيات ويعلقون الإيمان عليها: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى آخر ما ذكر في الآيات من سورة الإسراء.
فرد الله عليهم بما معناه: وإن كان كبر عليك إعراضهم وما يطلبون، ورأيت أن إتيانهم بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم فيؤمنون، فإن استطعت أن تبتغى لنفسك نفقا تطلبه في الأرض فتذهب في أعماقها أو سلما في الجو فترقى إلى أطباق السماء فتأتيهم بآية مما اقترحوا فأت بها، ولكنك رسول والرسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر، ولا يستطيع إيجاده إلا الخالق، واعلم أنه لو شاء الله لجمعهم على الهدى وما جئت به ولكنه شاء اختلافهم وتفاوتهم واختبارهم وما يترتب على ذلك.
الناس فريقان، فريق في الجنة، وفريق في السعير، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فريق تتلى عليه آيات الله فيسمعها سماع قبول، وينظر إليه نظرة اعتبار وتذكر، نظرة خالية من الهوى والعناد والاستكبار، وهؤلاء يستجيبون لما دعاهم الله فهم كالتربة الصالحة للإنبات تقبل الماء وتنبت الكلأ.
وفريق تتلى عليه الآيات فيظل متكبرا سادرا في غلوائه، لا ينظر ولا يعتبر، ولا يسمع سماع قبول، وهم موتى القلوب، وأبعد الناس من الانتفاع بما يسمعون.
هؤلاء يترك أمرهم إلى الله فهو الذي يبعثهم بعد موتهم، فيحاسبهم ويجازيهم ثم إليه يرجعون، هو القادر على ذلك وحده فلا تبخع نفسك عليهم حسرات، إذ ليس في استطاعتك هدايتهم، إنما عليك البلاغ، وعلى الله الحساب، وقال المشركون المعاندون بعد نزول الآيات تترى التي لو لم يكن فيها إلا القرآن لكفى قالوا: هلا نزل عليه آية من ربه كما اقترحنا، وقد قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ
606
أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ
«١» قل لهم يا محمد سبحان ربي!! كيف تطلبون منى هذه الآيات! وهل أنا إلا بشر ورسول؟ وليس يقدر الرسول على إنزال آية من الآيات وإنما القادر هو الله فقط على إجابتكم لما تطلبون.
وقد مضت سنة الله في الأمم أن إجابة المعاندين إلى ما طلبوا لم تكن سببا لهدايتهم أبدا بل كانت سببا في عذابهم واستئصالهم، فإنزال آية مما اقترحوا لا يكون خيرا لهم بل هو شر، ولكن أكثرهم لا يعلمون، وطلبهم تعجيز للنبي صلّى الله عليه وسلّم لا للهداية وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «٢».
من دلائل قدرة الله وكمال علمه [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
المفردات:
دَابَّةٍ الدبيب: المشي الخفيف، والدابة: كل ما يدب على الأرض من الحيوان طائِرٍ: كل ذي جناح يطير في الهواء. أُمَمٌ: جمع أمة، وهي الجماعة يجمعهم أمر كدين أو لغة أو صفة أو عمل.
الله- سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير، ينزل الآيات حسب الحكمة والمصلحة، وها هي ذي مظاهر القدرة وشمول العلم، وكمال التدبير.
(١) سورة الإسراء الآيات ٩٠- ٩٣.
(٢) سورة القمر آية ٢.
607
المعنى:
لا يوجد نوع من أنواع الدواب التي تدب على الأرض، ولا نوع من أنواع الطير الذي يطير في الجو إلا وهو أمم مماثلة لكم أيها الناس، لهم أرزاق وآجال ونظام محكم وطبائع تتلاءم مع خلقتهم وتكوينهم، فتبارك الله أحسن الخالقين! وقد أثبت العلماء الباحثون في طبائع الحيوان أن كثيرا من فصائله أمم لها ملك ومملكة ونظام وقيادة، وما النحل والنمل عنا ببعيد! وخص دواب الأرض بالذكر لأنها المرئية للكفار، أما ملكوت الله في السموات ففيه ما لا يعلمه إلا الله وحده، وهذه الآية توجه أنظارنا إلى البحث والدرس في طبائع الحيوان والاستفادة من ذلك فقد خلق لنا جميع ما في الأرض لننتفع منه ونسخره لمصلحتنا.
وما فرطنا في الكتاب من شيء أبدا، ولا قصرنا في أى شيء أبدا، وقال ابن عباس:
إن المراد بالكتاب هو أم الكتاب (وهو خلق غيبي سجل فيه كل ما كان وما سيكون على حسب السنن الإلهية). وقيل: الكتاب هنا هو علم الله المحيط بكل شيء، شبه بالكتاب لكونه ثابتا لا ينسى. وقيل هو القرآن، والمعنى: ما تركنا في القرآن شيئا من ضروب الهداية وأصول الأحكام والقوانين: ففي القرآن السياسة العامة الإسلامية من ناحية الاقتصاد والاجتماع والدين، وفيه الأصول العامة الأخرى للدين كالسنة والقياس والإجماع، ثم إلى ربهم يحشرون ويجازون على أعمالهم.
والذين كذبوا بآياتنا المنزلة الدالة على كمال القدرة، وتمام العلم والحكمة صم لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول، وبكم لا ينطقون بما عرفوا من الحق، وهم يتخبطون في الظلمات، ظلمات الجهل والكفر والعادات القبيحة.
من يشاء الله يخذله ويضله ولا يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف حيث ثبت في علمه القديم أنه أهل لما هو فيه من شقاء وعذاب.
ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم لأنه أهل لذلك في علمه، وهكذا كانت الحكمة فيما اختاره الله أزلا وفق علمه، صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بعباده بصير بخلقه.
608
إلى الله يلجأ العبد في الشدائد مع ضرب الأمثال بالأمم السابقة [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
المفردات:
أَرَأَيْتَكُمْ أسلوب عربي يفيد التعجب وأن ما بعده غريب عن الصواب، والمراد: أخبرونى. فَيَكْشِفُ أى: يزيل ما تدعونه إلى كشفه. بِالْبَأْساءِ:
بالشدة والعذاب والقوة، وتطلق البأساء على الحرب والمشقة. وَالضَّرَّاءِ: من الضر ضد النفع. يَتَضَرَّعُونَ التضرع: إظهار الضراعة والخضوع بتكلف.
مُبْلِسُونَ: متحسرون يائسون من النجاة. دابِرُ الْقَوْمِ: آخرهم الذي يكون في أدبارهم.
609
المعنى:
يا أيها الرسول قل لأولئك المشركين: أخبرونى إن أتاكم عذاب الله الذي نزل بأمثالكم من الأمم السابقة كالخسف والريح الصرصر والغرق، أو أتتكم الساعة وهولها، والقيامة وما فيها، أخبرونى إن حصل هذا، أغير الله تدعون لينجيكم من هذا العذاب وهوله؟! إن كنتم صادقين في دعوى الألوهية لهؤلاء الأصنام الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء، ولكم شفعاء، والسؤال للتبكيت والإلزام بل- إضراب لإبطال ما تقدم- إياه وحده تدعون، وله وحده تتجهون، وبه وحده تستعينون حتى يكشف عنكم ما ألم بكم من ضر أو مسكم من شدة. يكشف ما تدعون إليه إن شاء كشفه، وكان فيه حكمة، وأنتم تنسون ما تشركون، وتتركون آلهتكم ولا تذكرون في ذلك الوقت إلا الله فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ «١».
وذلك أن الإنسان أودع في فطرته توحيده- عز اسمه- وأما الشرك فشيء عارض للإنسان بالتقليد شاغل للذهن بالفساد وقت الرخاء، حتى إذا جد الجد دعوا الله مخلصين له الدين وضل عنهم ما كانوا يعبدون فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ «٢».
ثم أخذ القرآن يضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين، ولكن أممهم عصوا وبغوا، فأخذناهم بالبأساء والشدائد، والضراء والمهالك، عسى أن يكون ذلك رادعا لهم ومؤدبا. فالشدائد قد تربى النفوس وتهذبها، وتجعل المغرور يراجع نفسه ويفكر في أمره ولذا يقول الله: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ويلجئون، ومع هذا فكثير من الناس لا تنفعهم هذه الزواجر ولا تردعهم هذه الشدائد.
فهلا تضرعوا حين جاء بأسنا وكانوا خاشعين تائبين، ولكن أنى لهم هذا؟ وقد قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة. فلم تؤثر فيهم النذر، ولم تنفعهم العبر، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، وبئس ما كانوا يصنعون.
(١) سورة العنكبوت آية ٦٥.
(٢) سورة الروم آية ٣٠.
610
فلما نسوا ما ذكروا به وأعرضوا عما أنذروا به، فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ناحية ومتعناهم بالحياة الدنيا استدراجا وإملاء نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، بلا إنذار ولا استئذان أخذناهم بغتة فإذا هم متحسرون يائسون من رحمة الله فقطع دابر القوم عن آخره حتى لم يبق منهم أحد، والحمد لله رب العالمين، وفي هذا إشارة إلى أن إبادة القوم المفسدين نعمة من الله رب العالمين. وأن في الضراء والسراء عبرة وعظة للناس، وإنما يتذكر أولو الألباب.
من أدلة التوحيد أيضا [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
المفردات:
نُصَرِّفُ الْآياتِ: نقلبها ونكررها على وجوه مختلفة. يَصْدِفُونَ:
يعرضون عن ذلك. يَمَسُّهُمُ المس: اللمس باليد بما يسيء غالبا من ضر أو شر.
المعنى:
قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبرونى ماذا أنتم فاعلون؟! إن أخذ الله سمعكم،
611
وأبصاركم، وختم على قلوبكم، إذ هو الذي وهب لكم السمع والبصر والفؤاد، وإذا سلبها منكم عدتم صما وعميا لا تسمعون قولا، ولا تبصرون طريقا، ولا تعقلون نفعا ولا ضرّا ولا حقّا ولا باطلا، ماذا تفعلون مع آلهتكم التي تدعونهم وترجون شفاعتهم لو فعل الله بكم ذلك؟ من إله غير الله يأتيكم بهذا؟ لا إله إلا الله وحده فهو الذي يقدر على ذلك، ولو كان ما اتخذتموه آلهة تنفع أو تضر لردت عليكم هذا، وإن كنتم تعلمون بلا شك أنها لا تقدر على شيء أصلا بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه.
فلماذا تدعونهم؟ والدعاء عبادة والعبادة لا تكون إلا لله الواحد القهار، واهب الوجود، الحق المعبود، سبحانه وتعالى!! انظر يا من يتأتى منه النظر كيف يصرف الله القول ويكرره بألوان مختلفة، وعلى أساليب متعددة في غاية الوضوح والبيان، ثم هم بعد ذلك يعرضون ويصدفون عن النظر إليها بعين بريئة خالية من حجب التقليد، وغطاء العصبية وداء الحسد.
قل لهم: أخبرونى إن أتاكم العذاب من الله كما أتى لمن قبلكم من المكذبين الضالين، عذاب الخسف والاستئصال والهلاك، أتاكم هذا العذاب بغتة بلا مقدمات، أو أتاكم العذاب جهرة وعيانا بمقدماته وأنتم تنظرونه.
أخبرونى ماذا أنتم فاعلون؟ هل يهلك بهذا إلا القوم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بسلوكهم طريق الشرك والباطل! وما نرسل المرسلين إلا مبشرين من آمن بالثواب، ومنذرين من عصى بصارم العذاب ولا عليهم شيء بعد هذا أبدا، سواء عليهم آمن الناس أم كفروا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «١» أما الله- سبحانه وتعالى- فهو المجازى.
فمن آمن وأصلح نفسه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ «٢».
ومن كذب وتولى، فإنه يمسه العذاب جزاء كفره وفساده.
وإن أصابه خير في الدنيا فمتاع قليل، ثم يضطره الله إلى عذاب النار وبئس المصير.
(١) سورة الشورى آية ٤٨.
(٢) سورة الأنبياء آية ١٠٣.
612
مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام وتبعات الرسالة [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
المفردات:
خَزائِنُ جمع خزانة، وهي: ما يخزن فيه الشيء ويحفظ، والمراد القسم بين الخلق، وأرزاقهم. الْغَيْبَ: ما غاب عن جميع الخلق واستأثر الله بعلمه.
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ: المراد بهما الضال والمهتدى. الولي: الناصر. وَلا تَطْرُدِ الطرد: الإبعاد. بِالْغَداةِ الغداة والغدوة: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. الْعَشِيِّ: آخر النهار، والمراد جميع الأوقات. فَتَنَّا: ابتلينا واختبرنا. مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: أنعم الله عليهم.
613
المعنى:
كان لعناد المشركين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أثر كبير في نفسه، وكانوا يطلبون منه آيات غريبة جهلا منهم بموقف الرسول ومهمته ورسالته، فقال الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما معناه. قل لهؤلاء: أنا لا أدّعى لكم أن عندي خزائن الله أملكها وأقسمها بين الخلق، وأتصرف فيها، ولم أدع أنى أعلم الغيب الذي استأثر الله بعلمه فلم يطلع أحدا عليه من رسول أو ملك، اللهم إلا ما علمه الرسول عن طريق الوحى الإلهى فهو من العلم الضروري لا الكسبي، ولم أدّع أنى من الملائكة آتى بما لا يأتى به البشر.
والمعنى: لست أدّعى الألوهية أو الملكية حتى تطلبوا منى ما ليس في طاقتي وقدرتي، وإنما أنا بشر قد شرفني الله بالنبوة، وما أتبع إلا ما يوحى إلىّ فقط، وهذه الرسالة ليست لي خاصة بل سبقني بها رسل كرام قبلي.
واعلموا أن التصرف المطلق في الكون لله وحده الواحد القهار، القادر على أن ينزل الآيات التي تطلبونها وغيرها، وهو العليم بما كان وما سيكون، أما الرسول فيبلغ عنه أمر الدين، وليس قادر على ما لا يقدر عليه البشر من تفجير الينابيع والأنهار، وخلق الجنات والبساتين، وإسقاط السماء كسفا والإتيان بالله والملائكة قبيلا وغير ذلك مما يطلبه المعاندون.
وإذا كان الأنبياء لم يؤتوا القدرة على التصرف فيما وراء الأسباب فمن باب أولى غيرهم من الأولياء الصالحين.
قل لهؤلاء: هل يستوي الأعمى والبصير؟ والضال عن طريق الحق والهدى والمهتدى إلى سواء السبيل؟ وكيف يستويان؟، أعميتم فلا تتفكرون فيما أذكر لكم من الحجج وأدعوكم إليه؟! وتنظرون إلى القرآن وما فيه!! وإلى بلاغته ومعانيه! وأنه ليس في مقدوري أن آتى بمثله، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله، بعيدا عن الإتيان بمثل ذلك عاطلا عن هذه المعرفة وتلك العلوم! وأنذر بما يوحى إليك الذين يخافون من الحشر، والحال أنهم يعتقدون بأن ليس لهم فيه ولى ولا شفيع بل الأمر كله لله! فهم الذين ينتفعون به، ولقد كرر القرآن هذا
614
المعنى وصدر سورة البقرة به ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فالذين يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بالحياة الأخروية هم المنتفعون بالقرآن، أما الماديون الذين لا يؤمنون بغير المادة، فقد ختم الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم وجعل في آذانهم وقرا فلا ينتفعون بنور القرآن أصلا إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ [سورة فاطر آية ١٨].
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى، يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم، ولا تطردهم عن مجلسك، فهم المخلصون لك المؤمنون بدعوتك، يريدون بهذا وجه الله، لا نفاقا ولا رياء ولا سمعة.
روى أحمد وابن جرير والطبراني في جماعة آخرين عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟
أنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. فأنزل الله فيهم وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلى قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.
وفي رواية أخرى وقع في نفس عمر بن الخطاب حسن عرضهم، فلما نزلت الآية أقبل عمر فاعتذر، فأنزل الله وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام آية ٥٤].
وقد كان من علامات النبوة أن يتبع النبي ضعفاء الناس لا أشرافهم، تذكر قصة هرقل، وقد سأل الوفد أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟؟
فقيل: بل ضعفاؤهم، فقال: هكذا الرسل من قبله وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ من قصة نوح في سورة هود [الآية ٢٧ وما بعدها].
ولماذا تطردهم؟ ما عليك من حسابهم من شيء إن كانوا غير مخلصين، وما عليهم من حسابك من شيء، فكل نفس بما كسبت رهينة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وما عليك أنت إلا البلاغ فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٢١ و ٢٢] إنك إن طردتهم تكن من الظالمين لأنفسهم بعدم امتثالهم أمر الله، ومثل ذلك الابتلاء العظيم ابتلينا بعضهم ببعض لتكون العاقبة أن يقول هؤلاء المشركون المغرورون حينما يرون
615
ضعاف الناس كبلال وصهيب من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: أهؤلاء الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين خصهم الله بهذه النعمة من جملتنا ومجموعنا كيف ذلك؟ إن هذا لا يكون لأنا نحن المفضلون عند الله بما آتانا من قوة وبسطة في العيش وثروة وجاه.
فلو كان هذا الدين خيرا لوفقنا الله إليه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف ١١] فهم يقيسون التوفيق على مظاهر الدنيا الكاذبة.
يا عجبا كل العجب... أليس الله بأعلم بالشاكرين؟؟ الذين يستحقون النعم بسبب شكرهم لله وقيامهم بالواجب عليهم لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة إبراهيم آية ٧].
من مظاهر رحمته بخلقه [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
المفردات:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ السلام: السلامة من العيوب والآفات، وهو الأمان، والتحية والقبول، وهو من أسمائه- سبحانه وتعالى-. كَتَبَ: فرض وأوجب.
بِجَهالَةٍ الجهالة: السفه والخفة التي تقابل الحكمة والعقل. وَلِتَسْتَبِينَ:
تتضح وتظهر.
أراد الله- سبحانه وتعالى- أن يكرم المسلمين جميعا شريفهم ووضيعهم وأن يتقبلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقبول والسلام والأمان.
616
المعنى:
وإذا جاءك يا محمد الذين يؤمنون بآياتنا ويصدقون بها تصديقا مصحوبا بالعمل الطيب فقل لهم: سلام عليكم، وأمنة لكم من أن يعاقبكم ربكم على ذنب تبتم عنه ورجعتم بعده إليه.
قل لهم يا محمد: سلام الله عليكم وإكرامه لكم، قد فرض على ذاته الكريمة الرحمة بعباده فهو واسع الفضل والمغفرة كبير العفو والرحمة، وفيما منحنا الله من الخلق السوى والغرائز، ونعمة السمع والبصر والفؤاد والعقل وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «١» وفيما خلق لنا مما في الأرض جميعا، وما آتانا من العلوم الكسبية التي بها ذللنا الطبيعة: الدليل على تمام رحمته وكمال نعمته وأنه الرحمن الرحيم بخلقه وعباده، ثم بين الله أصلا من أصول الدين في الرحمة بعباده فقال: إنه من عمل منكم أيها المؤمنون عملا سيئا يتنافى مع الدين والخلق حالة كونه متلبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء، كغضب شديد أو شهوة جامحة ثم تاب ورجع إلى الله فإن الله يتوب عليه.
وقيل: من عمل منكم سوءا وهو جاهل بما يتعلق به من المكروه والضرر، ثم تاب من بعده من قريب بمعنى أنه أنب نفسه، ولم يستمر على عزمه السيئ، بل ثابت نفسه إلى رشدها، وأدركت أن الشيطان مسها، فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب، وأصلح نفسه بالعمل الطيب دليلا على صدقه وخروج نفسه من حيز الشر والضلال إلى دائرة النور والعرفان بالذات الأقدس.
إذا كان هذا فاعلموا أنه غفور رحيم يقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، وقد شرطوا في التوبة الصادقة الندم الحقيقي، والعزم على عدم الرجوع، ورد المظالم إلى أهلها وإتباعها بالعمل الصالح.
مثل ذلك التفصيل المحكم المبين لأحكام الدين وأصوله نفصل الآيات كلها ليهتدى بها أولو العقل الرشيد والفكر السليم وليستبين ويظهر طريق المجرمين حيث وضح طريق الصالحين.
(١) سورة الذاريات آية ٢١.
617
موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم من المشركين [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)
المفردات:
نُهِيتُ: صرفت وزجرت. بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي البينة: كل ما يتبين به الحق من الحجج العقلية والآيات الحسية. يَقُصُّ: يذكر. الْفاصِلِينَ الفصل:
القضاء والحكم.
المعنى:
يا أيها الرسول: قل لهؤلاء المشركين: إنى نهيت وصرفت عن عبادة ما تدعونهم وتطلبون منهم الخير ودفع الضر، من صنم أو وثن أو عبد مهما كان شأنه، صرفت عن هذا كله بالآيات القرآنية والآيات الحسية، وما ركب الله فىّ من عقل رشيد، وروح طيبة طاهرة وفطرة سليمة بعيدة عن أسر التقليد وقيد الجهل وداء الحسد.
قل لهم: لا أتبع أهواءكم فإن عبادتكم غير الله سندها وحجتها الهوى فقط.
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «١». أما عبادة الله فلها الحجة البالغة والبرهان الساطع.
(١) سورة الزخرف آية ٢٣.
618
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه الواحد
وعبادة غير الله ضلال وشرك. فإن اتبعتكم فقد ضللت إذا، وما أنا في عداد المهتدين، وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية في شيء وهم في ضلال مبين.
قل لهم: إنى فيما أخالفكم فيه من عبادة غير الله، وفيما أدعوكم إليه من عبادة الله على بينة من ربي وحجة واضحة، لا تقبل شكا ولا جدلا ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فالقرآن هو الحجة البينة والمعجزة الخالدة، والآية الباقية التي تقوم مقام قول الله: «صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى» وأما أنتم فلقد كذبتم بالقرآن واتبعتم الشيطان وكفرتم بالرحمن... ويا للعجب تكذبون بالقرآن وما دعا إليه، وتدعون إلى اتباع الهوى والضلال والتقليد الأعمى، فبئس ما تصنعون.
وكانوا يشتبهون في القرآن ورسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن الله لم ينزل عليهم ما طلبوا فأزال القرآن هذا بقوله للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
قل لهم ما عندي ما تستعجلون به وتطلبونه على عجل من الله، ولم أقل لكم إنى أقدر على هذا!! وما الحكم في هذا إلا لله الواحد القهار، وكل شيء عنده بمقدار، والله يقص القصص الحق في وعده ووعيده وهو خير الحاكمين.
قل لهم: لو عندي ما تستعجلون به، ولو أن الله أمكننى من إيقاع العذاب بكم، وجعله من قوتي الكسبية لأوقعته عليكم، ولقضى الأمر بيني وبينكم، والله قد وعدني النصر، ووعده الحق، وقد تحقق ما وعد.
وهناك
حديث عن أبى هريرة يفيد: أن ملك الجبال ناداه وقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وقد بعثني ربك لك لتأمرنى بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يؤمن بالله.
والمخلص في هذا أن الآية دلت على سؤالهم العذاب، وجوابه صلّى الله عليه وسلّم والحديث ليس فيه سؤال بل عرض عليه ملك الجبال فلهذا استأنى بهم وترفق عليهم، والله أعلم بالظالمين كيف يعاقبهم؟ ومتى يعاقبهم، وعلى أي صورة يكون جزاؤهم؟ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. [سورة الأعراف آية ٣٤].
619
كمال علمه سبحانه وتعالى [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
المفردات:
مَفاتِحُ: جمع مفتح، وهو المخزن، أو جمع مفتح وهو المفتاح الذي تفتح به الأقفال. يَتَوَفَّاكُمْ التوفي: أخذ الشيء وافيا كاملا، والتوفية: إعطاء الشيء تامّا وافيا، وهو يطلق على الموت والنوم. جَرَحْتُمْ: كسبتم بالجوارح، ويستعمل اللفظ في الشر والخير، والاجتراح: فعل الشر خاصة. يَبْعَثُكُمْ: يوقظكم من النوم. حَفَظَةً: هم الكرام الكتبة من الملائكة.
المناسبة:
طلبوا من النبي آيات خاصة- كما تقدم- واستعجلوه بها فرد القرآن عليهم بأن الكل
620
في قبضته وهو القاهر فوق عباده، ولا يملك الرسول شيئا، ثم بين هنا أن ما استعجلوه به ليس فيما يدخل في علم النبي حتى يخبرهم في أى وقت يقع وإنما هو مما استأثر الله بعلمه، وهو العليم بكل شيء.
المعنى:
عنده وحده- سبحانه- ما يوصل به إلى الغيب المحجوب عن الكل، أى: عنده علم الغيب. إذ العلم صفة تنكشف بها لله- سبحانه وتعالى- معلومات الغيب والشهادة، وإنما أطلق المفتاح وأراد العلم للإشارة إلى أن الغيب المستور في أماكن بعيدة لا يصل إليها أى مخلوق كالخزائن المغلقة بالأبواب والأغلاق، ولها مفاتيح محكمة، وقيل المعنى: وعنده خزائن الغيب، على أن المراد بالمفاتيح الخزائن. لا يعلمها إلا هو وحده الذي يعلم السر وأخفى، فهذه الجملة إذن توكيد للجملة السابقة.
وهو يعلم كل ما في البر وكل ما في البحر، فهو يعلم المشاهدات كما يعلم المغيبات، والله يعلم ما تسقط من ورقة في أى زمان أو مكان، فهو يعلم الأحوال كلها المتعلقة بالذوات السابقة إذ سقوط الورق حال من الأحوال، وذكره إشارة إلى جميع الأحوال.
وليست هناك حبة في ظلمات الأرض السحيقة. وأغوارها البعيدة، ولا شيء رطب، ولا شيء يابس، أى: ولا حي بالمعنى العام، ولا يابس إلا في مكنون علمه الثابت الذي لا يمحى، كما أن الشيء المسجل المكتوب كتابة لا يمحى، وقيل المعنى:
كل ذلك في اللوح المحفوظ، والله أعلم بكتابه.
والخلاصة أنه- سبحانه- يعلم الغيب والشهادة، والأحوال الظاهرة والباطنة.
أما أنتم أيها الناس... فالله يتوفاكم بالليل، أى: ينيمكم فيه، ويقبض أرواحكم إليه، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، ويعلم ما كسبتم في النهار علما سابقا على عملكم، فهو يعلم أن منكم من يكفر، ومنكم من يعصى ربه ثم بعد هذا الموت الأصغر الذي فيه يقبض أرواحكم إليه ويعلم أعمالكم بعد ما يبعثكم في الدنيا نهارا ليعمل كل عمله، وليقضى أجل مسمى عنده وعمر محدود
621
لكل منكم، ثم إليه مرجعكم بالموت الأكبر لا إلى غيره، ثم ينبئكم، والمراد: يجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر.
وهو القاهر فوق عباده المتسلط عليهم، المتصرف فيهم، يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة.
وهو يرسل عليكم حفظة من الملائكة يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [سورة الانفطار الآيتان ١٠ و ١٢].
سبحان الله!! ما أعجب شأننا، علينا رقيب وعتيد يحصون علينا أعمالنا، ويكتبون وهم لا يغفلون، ومع هذا نعصى الله جهرا وسرّا؟!!! سبحانك أنت أرحم الراحمين!!.
ولعل سائلا يقول: ما الحكمة في الحفظة الكتبة والله أعلم بكل شيء؟ والجواب أن المكلف إذا عرف هذا كان أهدى له وأبعد عن الفحشاء والمنكر، وأقرب إلى عقل بعض الناس وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [سورة الكهف آية ٤٩].
يرسل الحفظة الكرام البررة يحصون الأعمال مدة الحياة حتى إذا انتهى الأجل وحم القضاء، وجاءت أسباب الموت ومقدماته، توفته رسلنا- وهم ملك الموت وأعوانه- والحال أنهم لا يفرطون ولا يقصرون بزيادة أو نقصان، ثم ردوا بعد هذا جميعا إلى الله وإلى حكمه، وما الحكم الحق الذي يعطى بالعدل إلا له، له الحكم وإليه الأمر، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وهو أسرع الحاسبين: يحاسب الكل في أقل وقت وأسرعه لا يشغله شأن عن شأن. وفي
الحديث: «إن الله يحاسب الكل في مقدار حلب شاة».
من مظاهر القدرة والرحمة [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
622
المفردات:
ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ: ظلمات الليل والسحب والمطر، وقيل: المراد ظلمات معنوية. تَضَرُّعاً التضرع: المبالغة في الضراعة والتذلل والخضوع. وَخُفْيَةً بالضم والكسر: الخفاء والاستتار. كَرْبٍ الكرب: الغم الشديد.
يَلْبِسَكُمْ: من اللبس، والمراد: يخلط أمركم عليكم خلط اضطراب واختلاف، وأصل التركيب: يلبس عليكم أمركم. شِيَعاً: جمع شيعة، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر واتفقوا فيه. نُصَرِّفُ: نحوّلها من نوع إلى آخر من فنون الكلام.
يَفْقَهُونَ: يفهمون.
المعنى:
يسلك القرآن المسالك المتعددة لغرس شجرة التوحيد في قلوب العرب ببيان مظاهر القدرة والعلم والرحمة، فقال ما معناه: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر؟ ومن ينقذكم من شدائد الأيام وهولها؟ ومن ينير لكم السبيل إذا غم الطريق وأظلم، ومن يسكن البحر الهائج والبركان الثائر؟ هو الله الرحمن الرحيم القاهر فوق عباده، القادر على كل شيء، تدعونه متضرعين متذللين، مع رفع الصوت والبكاء، وقد يكون الصوت في السر والخفاء. لئن أنجيتنا من هذه الظلمات لنكونن ممن يوحدك ويشكرك هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ
623
وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
«١» قل لهم: الله ينجيكم من هذه الأهوال، ومن كل كرب وغم ثم أنتم بعد هذا تشركون بالله غيره، ومن هنا نفهم أن الإنسان بطبيعته يلجأ إلى الله في الشدة والمكروه، وفي النجاة ينسى نفسه ويعود إلى جهله.
قل لهؤلاء المشركين: الله هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا لا يعرف كنهه ولا يقف على حقيقته إلا الله- سبحانه وتعالى- ينزل عليكم من فوقكم كالرجم بالحجارة والآفات أو يصعد إليكم من تحتكم كالزلازل والبراكين والخسف المعهود في الأمم السابقة، أو يخلط أمركم عليكم خلط اضطراب واختلاف، حتى تكونوا فرقا وشيعا، وأحزابا وجماعات، كل فرقة لها اتجاه خاص، تتقاتلون وتتحاربون، ويذيق بعضكم بأس بعض، حتى يقتل بعضكم بعضا.
وعن ابن عباس: المراد بمن فوقكم في الآية: أمراؤكم، ومن تحت أرجلكم، أى:
عبيدكم وسفلتكم.
انظر يا من يتأتى منه النظر كيف نصرف الآيات ونقلبها على وجوهها المختلفة، لعلهم بهذا يفقهون الحق ويدركون السر، ولا شك أن التنويع في الآراء وطرق الأبواب في الحجج، سبيل إلى الفهم وإدراك الحقائق، ولكن عند من ينظر النظر البريء الخالي من الحجب الكثيفة الموروثة كالتقليد الأعمى.
وقد كذب بالقرآن قومك، وهو الذي لا شك فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
قل لهم: لست عليكم بوكيل. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ «٢» لكل نبأ مستقر، تظهر فيه حقيقته، ولكل أمة أجل، ولكل أجل كتاب تعلمون به صدق الوعد والوعيد سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «٣».
(١) سورة يونس آية ٢٢.
(٢) سورة ق آية ٤٥. [.....]
(٣) سورة فصلت آية ٥٣.
624
والعذاب في الآية ورد منكّرا فيشمل المجاعة والقحط، والصيحة والرجفة، والريح الصرصر والزلازل والحجارة من سجيل والبراكين، ويشمل ما تلقيه الطائرات وما تقذفه المدافع وما في السفن والغواصات من الطروبيد والألغام التي تنفجر فتبيد الناس وما القنابل الذرية عنكم ببعيد.
روى عن ابن عباس من طريق أبى بكر بن مردويه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوت الله أن يرفع عن أمتى أربعا، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع اثنتين: دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والخسف من الأرض، وألا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين».
وقد تأكد كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم فها هي ذي الأمة المحمدية قد وقاها الله من الخسف والرجم كرمها لأجل نبيها فلم يعذبها بعذاب الاستئصال.
أما الخلافات الحزبية والفرق والشيع، وقتال بعضنا لبعض فظاهر للعيان، ولا يزال الشر يأتينا من هذا الباب وأن بعضنا سبب الويل بنفاقه مع المستعمر واتحاده معه واستخدام الأجنبى له، وما الحوادث التي تترى علينا ونشاهدها ببعيدة!؟
وفي الحديث حديث ثوبان «وإنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا».
أما زال ملك المسلمين بسبب نزاعهم وخلافهم واتصال بعضهم بالأجنبى العدو اللدود؟! تنبهوا يا قوم وارجعوا إلى دينكم وقرآنكم فالخير لا يمكن أن يكون إلا فيه وتذكروا إنما يتذكر أولوا الألباب.
المستهزئون بالقرآن وجزاؤهم [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
625
المفردات:
يَخُوضُونَ أصل الخوض: الدخول في الماء، ثم استعمل في غمرات الأشياء، أى: اتجاهها تشبيها لها بغمرات الماء، والمراد: الاندفاع في الحديث والاسترسال فيه والدخول في الباطل مع أهله. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ: انصرف عنهم. الذِّكْرى:
التذكر. وَلكِنْ ذِكْرى المراد: تذكيرا. تُبْسَلَ نَفْسٌ البسل: حبس الشيء ومنعه بالقوة، ومنه أسد باسل، وشجاع باسل، أى: يحمى نفسه ويمنعها، المراد:
حبسهم في النار ومنعهم من الثواب.
روى عن سعيد بن جبير أن هذه الآية نزلت في المشركين المستهزئين بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم.
المعنى:
وإذا رأيت يا محمد وكذا كل مسلم الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والاستهزاء فأعرض عنهم، ولا تجالسهم حتى يخوضوا في غير حديث الكفر والاستهزاء ومثلهم من يخوضون في القرآن بتأويله تأويلا يوافق أهواءهم واتجاههم، لا تجالسهم وابتعد عنهم،
626
وقد روى هذا الرأى عن ابن عباس- رضى الله عنه- ولعل السر في ذلك أنك إذا أعرضت عنهم، وقمت من مجلسهم كان أدل على عدم مشاركتهم فيما يقولون وعلى عدم الرضا عما يفعلون! وهذه بلا شك أدعى للكف عن الخوض والاستهزاء غالبا وإذا خاضوا في غير ذلك الحديث فلا مانع من مجالستهم والتحدث إليهم.
قال القرطبي: «ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا، وعرف أنه لا يقبل منه وعظا ولا نصيحة فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه».
وإن أنساك الشيطان قبح مجالستهم والنهى عنها، ثم تذكرتها فلا تقعد بعدها مع هؤلاء القوم الذين ظلموا أنفسهم بالتكذيب والاستهزاء.
وهنا بحث بسيط:
هل يجوز على النبي صلّى الله عليه وسلّم النسيان؟ وإذا جاز فهل في كل شيء أم في شيء خاص؟
والجواب عن الأول يجوز النسيان عليه بغير وسوسة من الشيطان وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وقد ثبت وقوعه من آدم فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ومن موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سها في الصلاة وقال:
«إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني».
وإنساء الشيطان للإنسان بعض الشيء ليس من قبيل السلطان عليه والتصرف فيه إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة النحل آية ٩٩].
والجواب عن الثاني: أن الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا ينسى فيما يبلغه عن ربه لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
وقيل: يجوز أن ينسى والله ينبهه حتما، وما على الذين يتقون الله ويتركون غيرهم يخوضون في الباطل ويستهزئون بالقرآن من شيء أبدا، ولكن إذا تركوهم بعد الموعظة وأعرضوا عنهم فهم يذكرونهم بهذا لعلهم يتقون الله فلا يخوضون في غمرات الشرك مرة ثانية حياء ممن يجالسهم أو كراهة إساءتهم.
وقيل المعنى: ولكن عليهم أن يذكروهم فلعلهم يتقون الله.
يا أيها الرسول: دع الذين اتخذوا دينهم الذي كان يجب أن يتبعوه، ويهتدوا به اتخذوه لعبا ولهوا، فإنهم لما عملوا هذه الأعمال التي ختم الله بها على قلوبهم ودس بها
627
نفوسهم، ولم يعملوا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، فقد أضاعوا عمرهم فيما لا يفيد، وهذا هو اللعب، وشغلوا أنفسهم عن الجد والعمل المفيد وهذا هو اللهو.
وغرتهم الدنيا، وغرهم بالله الغرور، يا أيها الرسول أعرض عنهم، ولا تبال بأمثال هؤلاء، وذكّر به من يخاف وعيدي خوف أن تبسل نفس في الآخرة بما كسبت، وترهن بما عملت، وتحبس بما قدمت كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ليس لكل نفس من دون الله ولى يلي أمرها، ويدفع عنها شرها، وليس لها شفيع يشفع لها:
ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [سورة غافر آية ١٨].
وكيف يكون غير هذا وإن تفد النفس نفسها بكل فدية وعدل يتساوى مع الذنب لا يقبل منها أصلا وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [سورة البقرة آية ٤٨].
أولئك الذين اتخذوا القرآن هزءا وسخرية واتخذوا دينهم لعبا ولهوا قد حرموا الثواب، وأسلموا أنفسهم للعذاب، وحبسوا في نير العقاب، ولهم شراب من حميم وغساق، جزاء من ربك وفاق، ولهم عذاب أليم.
الإسلام والشرك [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
628
المفردات:
أَعْقابِنا: جمع عقب، وهو مؤخر الرجل، ويقول العرب فيمن أحجم بعد إقدام: رجع على عقبيه ونكص، وارتد على عقبه ورجع القهقرى، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم. اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ: ذهبت بعقله وهواه، وكانت العرب تزعم أن الجنون من تأثير الجن. حَيْرانَ: تائها ضالا عن الجادة لا يدرى ما يصنع. الصُّورِ: القرن، وهو كالبوق ينفخ فيه فيصعق من في السموات والأرض، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون!
المعنى:
قل لهم يا محمد: أتدعو من دون الله ما لا ينفعنا إذا دعوناه، ولا يضرنا إذا تركناه، وكيف نرد على أعقابنا، ونترك ديننا بعد إذ أسلمنا لله ربنا؟! أنعود إلى الكفر والشرك والضلال بعد الإسلام والهدى والنور؟ أنعود إلى ملة الكفر بعد إذ هدانا الله، ووفقنا إلى صراط مستقيم صراط الله العزيز الحكيم! إن هذا لشيء عجيب.
إننا إذا فعلنا ذلك كنا كالذي استهوته الشياطين وذهبت بعقله، وأطارت صوابه ولبّه، وأصبح حيران تائها لا يدرى كيف يسير، والحال أن له أصحابا يدعونه إلى الطريق الحق ويقولون له: ائتنا، ولكن أين هو منهم؟ فقد ختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله؟
نعم، من يرتد مشركا والعياذ بالله بعد إيمانه كمن أصبح هائما على وجهه، لا يلوى على شيء تاركا رفاقه على الطريق الحق وهم ينادونه: الهدى والفلاح والخير والرشاد والطريق الحق هنا. عد إلينا فلا يستجيب لهم لانغماسه فيما يضره ولا ينفعه، وفيما ظن أنه خير والواقع أنه شر.
629
ادعهم أيها الرسول وقل لهم: إن هدى الله هو الهدى، وطريق الإسلام هو الحق وهو الصراط المستقيم وقل لهم: إنا أمرنا بأن نسلم لرب العالمين فأسلمنا وجوهنا له وانقدنا لأمره إذ فيه الخير في الدنيا والآخرة، وأمرنا بأن نقيم الصلاة وأن نتقي الله في السر والعلن، فهو الذي إليه تحشرون وإليه وحده المرجع والمآب، وهو الذي خلق السموات والأرض خلقا متلبسا بالحق الذي لا شك فيه خلقا للسنن الكونية المشتملة على الحكم البالغة وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ واذكر يوم يقول للشيء أيا كان:
كُنْ فَيَكُونُ ومن كان أمره التكويني (كن) مطاعا وحاصلا (فيكون) كان أمره التكليفي كذلك أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وله الملك وحده، يوم ينفخ في الصور فيصعق من في السموات والأرض، ويهلك، حتى الملك الذي نفخ فيه، ثم ينفخ مرة أخرى، فإذا الكل قيام ينتظرون ماذا يفعل الله بهم وهو عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير.
فالله الموصوف بهذا، أندعو من دونه ما لا ينفع ولا يضر بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
كيف ترك إبراهيم الشرك؟ [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٩]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
630
المفردات:
إِبْراهِيمُ: خليل الرحمن، وأب إسماعيل، وجد العرب، وأبو الأنبياء- عليهم السلام- جميعا. آزَرَ: أبو إبراهيم أو عمه، وقيل غير ذلك. مَلَكُوتَ:
ملك الله وسلطانه فيهما. جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ: ستره بظلمته. كَوْكَباً: نجما مضيئا. أَفَلَ الأفول: غيبوبة الشيء بعد ظهوره. بازِغاً البزوغ: ابتداء الطلوع. فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: أخرجهما إلى الوجود لا على مثال سابق.
حَنِيفاً: مائلا عن الشرك والضلال.
كان العرب يدينون لإبراهيم الخليل، ويعترفون به، ويدعون أنهم على ملته، وها هو ذا إبراهيم يجادل قومه ويراجعهم في عبادة الأوثان المرة بعد المرة، فهل من معتبر؟ ولقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بأن يذكر هذا الوقت، والمراد ما حصل فيه لعل العرب يرجعون عن غيهم ويدركون خطأهم في عبادة الأوثان.
المعنى:
واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه آزر: أتتخذ أصناما وأوثانا تعبدهم من دون الله؟ إنى أراك وقومك في ضلال مبين واضح، وأى ضلال أوضح وأكثر من عبادتكم صنما تتخذونه من حجر أو شجر أو معدن؟ تنحتونه بأيديكم، وتعبدونه، إن هذا لضلال مبين.
أتعبدون ما تنحتون؟ والله خلقكم وما تعملون فأنتم أرفع من الصنم شأنا، وأعلى مكانا، ثم تتخذونهم آلهة معبودة مقدسة.
631
وكما أرينا إبراهيم الحق في شأن أبيه وقومه، وأنهم على ضلال مبين أريناه المرة بعد المرة ملكوت السموات والأرض، فاطلع على أسرار الخلق وخفايا الكون، وهل يعرف ملكوته إلا هو، وهل وقف العلماء بمراصدهم ومكبراتهم وآلاتهم الحديثة إلا على ما يوازى حبة في صحراء بالنسبة إلى ملكوت الله؟
أرينا إبراهيم الملكوت وما فيه من أسرار العظمة، وبديع النظام، وقوة التدبير، وعظمة الخلق صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ليعرف إبراهيم نواحي العظمة وسنن الله في خلقه، وحكمه في تدبير خلقه، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من الراسخين والموقنين بالتوحيد الخالص.
وهكذا أنار الله بصيرته، وأراه ملكوته، ولما جن عليه الليل، وستره بلباسه رأى كوكبا ممتازا عن الكواكب أنار الوجود وأفاض على العالم ضوءا خافتا، قال إبراهيم حينئذ في مقام المناظرة والمحاجة: هذا ربي تمهيدا لإقامة الحجة على قومه، فلما أفل وغاب وأسدل الليل عليه ستاره قال إبراهيم: ما هذا إله أبدا... يظهر ثم يختفى؟ أنا لا أحب الآفلين، ولا أثق بهم فضلا عن كوني أعتقد فيهم الربوبية، وكيف يفيد ما يغيب ويستتر؟ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
وأراد إبراهيم أن يسلك طريقا آخر، فلما رأى القمر بازغا قد عم ضوؤه الكون، وهو أقوى من الكوكب، قال: هذا ربي، وهو أحق من الكوكب السابق، فلما أفل القمر وغاب كذلك، قال إبراهيم: ما هذا؟ تالله لئن لم يهدني ربي خالق الأكوان، والكواكب والأقمار لأكونن من القوم الضالين، وهذا تعريض بأن عبدة الكواكب والأصنام في ضلال مبين.
فلما رأى الشمس بازغة وهي أعظم الكواكب المرئية لنا وأعمها نفعا، إذ هي مصدر الحياة والدفء ومبعث النور والحركة قال إبراهيم: نعم هذا ربي. هذا أكبر من القمر والكوكب نفعا وضوءا وجرما، وفي هذا مجاراة لقومه في أفكارهم واستدراج لهم حتى يسمعوا حجته.
فلما أفلت واحتجبت ولفها الليل بأستاره بعد ما أدركها الاصفرار والذبول، وملأت الأفق بدم الشفق، وجاء الليل بجحافله قال: ما هذا يا قوم؟ إنى برىء مما تشركون بالله، فهذا حال الشمس والقمر والكوكب، وفيهن شيء من النفع ظاهر
632
فكيف حال الصنم من شجر أو مدر أو معدن أو طعام؟ ولعلكم يا كفار مكة تتعظون.
قال إبراهيم بعد هذا: إنى أسلمت وجهى مخلصا لله متوجها لذاته الكريمة بالعبادة والتقديس إذ هو الواحد الأحد الفرد الصمد، خالق الأكوان صاحب الملك والملكوت فاطر السماء والأرض، فالق الإصباح والنور، خالق الليل والنهار، رب الشمس والقمر.
ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، وإسلام الوجه: هو توجه الذات والقلب لله، وعبر به لأن الوجه أشرف عضو في الجسم وهو الشرفة التي تطل منها الروح.
وانظر في قصة إبراهيم حيث حاور وتلطف في القول، وهكذا الحكمة مع الخصم العنيد، فقال: لا أحب الآفلين، ثم قال ثانيا: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، وثالثا صرح بالبراءة من الشرك ومن المشركين إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ «١» ثم ذكر عقيدته بعد ما هدم أساس الشرك بالدليل حيث قال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
محاجة إبراهيم لقومه [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٠ الى ٨٣]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
(١) سورة الممتحنة آية ٤.
633
المفردات:
حاجَّهُ المحاجة تطلق على محاولة الخصم في إثبات الدعوى، وعلى رد دعوى الخصم، وهي بهذا حجة دامغة أو شبهة واهية. بِظُلْمٍ المراد به: الشرك لأنه الظلم الأكبر.
المعنى:
ها هو ذا إبراهيم قد جاء قومه بالحق، وأورد البينات من الحجج الدامغة والأدلة القاطعة، حيث تمشى معهم ونزل إلى مستواهم، وفي النهاية أثبت أن الذي فطر السموات والأرض هو المعبود بحق لا إله إلا هو.
وحاجة قومه بأوهى الحجج، وأتوا بشبهات هزيلة، لا تنهض دليلا إلا عند من ختم الله على قلوبهم وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة.
فقد قالوا: إنا نتخذهم آلهة تقربنا إلى الله، وتشفع عنده ونحن قد وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، وإياك يا إبراهيم والآلهة، احذرهم فإنا نخاف عليك منهم.
قال إبراهيم: أتحاجّونّي في الله؟! إن هذا لشيء عجيب، كيف ذلك؟ والله خلق السموات والأرض وله ملكوت لا يحيط به إلا هو، وهو القادر على كل شيء، وهذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا ترى، بل هي مخلوقة لكم وإن يسلبها الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.
634
أتحاجوني في الله وقد هداني إلى سواء السبيل، ولا أخاف هذه الأصنام أبدا فهي لا تنفع نفسها ولا غيرها ولا تضر، وكيف أخاف ما تشركون به ولا حول ولا قوة إلا بالله وأنا لا أخافهم في وقت من الأوقات إلا أن يشاء الله ربي وربكم لي شيئا من الضر فينزل بي ما يشاء كأن يقع علىّ صنم فيصيبني أو ينزل شهاب من السماء فيحرقنى، كل ذلك بمشيئة الله وحده! أما أن لهذه الأصنام شيئا في أنفسها أو في غيرها فهذا شيء لا يدور بخلد عاقل، ولا ينطق به إنسان كامل.
أعميتم فلا تتذكرون شيئا أصلا، حتى تسووا بين الخالق والمخلوق، وبين الإله واهب الوجود وبين الحجر أو الكوكب المخلوق.
عجبا لكم!! كيف أخاف آلهتكم التي ينادى العقل الحر بأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخافون إشراككم بالله غيره وقد قامت الحجج العقلية والنقلية على أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد.
وإذا كان هذا هو الواقع، فأينا أهدى سبيلا، وأحسن رأيا، وأقوم قيلا؟! وأحق بالأمن وعدم الخوف؟ إن كنتم من أهل العلم والعقل والفكر الحر فالذين آمنوا أحق الناس بالأمن والطمأنينة، لأنهم آمنوا بالله ورسله وسلكوا طريق العقل والحكمة ولم يخلطوا إيمانهم بظلم كالشرك، أولئك لهم الأمن الكامل التام في الدنيا والآخرة، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون،
روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة «١» - رضوان الله عليهم أجمعين- وقالوا: أيّنا لم يظلم؟ فقرئ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «٢».
وتلك حجتنا القوية آتيناها إبراهيم حجة له على قومه، ولا غرابة في ذلك فالله يرفع من يشاء من عباده درجات بعضها فوق بعض، فهذه درجة الإيمان وأخرى درجة العلم وثالثة درجة الحكمة والتوفيق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء إن ربك عليم بخلقه.
(١) أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب ظلم دون ظلم حديث رقم ٣٢.
(٢) سورة لقمان آية ١٣.
635
إبراهيم أبو الأنبياء ومكانتهم [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٤ الى ٩٠]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
المفردات:
اجْتَبَيْناهُمْ: اخترناهم واصطفيناهم. لَحَبِطَ: بطل عنهم عملهم.
الْحُكْمَ: العلم النافع والفقه في الدين، وقيل: القضاء بين الناس.
636
المعنى:
كان إبراهيم- عليه السلام- أمّة، وكان من القانتين، وهو من أولى العزم وهو أبو الأنبياء، فما من نبي بعد إلا وهو من سلالته وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [سورة الحديد آية ٢٦].
ووهبنا له على كبر منه، وعقم امرأته ويأس، إسحاق فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ جزاء إيمانه الكامل، وإحسانه الشامل، ونجاحه في ابتلاء الله له بذبح ولده إسماعيل.
فإبراهيم من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء فهو من سلالة نوح وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وهدينا من ذريته داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، فهي ذرية طيبة ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وإبراهيم واسطة العقد جده نوح وأولاده الأنبياء، وكذلك نجزى المحسنين.
وهدينا من ذريته كذلك زكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس وكل من الصالحين، وهدينا من ذريته إسماعيل ابنه لصلبه وجد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم إسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على عالمي زمانهم.
وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، إذ لم يكن الكل مهديا إلى الخير وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
ولقد اجتبيناهم واخترناهم وخصصناهم بمزايا كثيرة، وهديناهم صراطا مستقيما، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، والله واسع عليم، ولو أشركوا بالله شيئا لكان جزاؤهم أن تحبط أعمالهم إذ توحيد الله- سبحانه وتعالى- هو المزكى للنفوس، والمطهر للأرواح. وهو أساس الثواب، ومناط الأجر فإذا انهار الأساس فلا يبقى معه ثواب للعمل أصلا وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر آية ٦٥].
أولئك المذكورون جميعا ينهلون من معين واحد، ولهم رسالة واحدة هي إرساء
637
قواعد التوحيد في الدنيا لله- سبحانه وتعالى- وإن اختلفت في الشكل وطرق الأداء والمعجزات، تبعا لظروف كل زمن وأمة، أولئك الذين آتيناهم الكتاب كصحف إبراهيم وتوراة موسى، وزبور داود وإنجيل عيسى، وآتيناهم الحكم والعلم والفهم الصادق، والنبوة ولا شك أن كل نبي كذلك إذا أساس النبوة العلم، والفقه، والفهم والفطانة، فالنبوة قيادة وزعامة في الدين والدنيا وهل تتم بدون هذا؟
أما الحكم بمعنى فصل القضاء والحكم بين الناس فلم يعط لكل نبي، وهذه مراتب الفضل فيهم، فكلهم أوتى الحكم والنبوة إذ كل من أوتى النبوة أوتى الحكم وليس كل من أوتى النبوة أوتى الكتاب.
فإن يكفر كفار قريش بالكتاب والحكم والنبوة التي أوتيت كلها لك يا محمد فقد وكلنا بعنايتها، والعمل على خدمتها، والدعوة إليها قوما كراما، ليسوا بكافرين بها، والمراد بهؤلاء القوم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم. ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين.
أولئك الذين هداهم الله، ووفقهم: أئمة الدين وأعلام الهدى فبهداهم هذا اقتد، وقد جمع نبينا خصالهم في الخير فكان خاتم النبيين وإمام المرسلين.
قل لهم: لا أسألكم على القرآن أجرا ولا منفعة خاصة، وما هو إلا ذكرى للعالمين، وهدى للمتقين.
إثبات رسالة الرسل وأثرها [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
638
المفردات:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ يقال: قدرت الشيء: عرفت مقداره، والمراد ما عرفوا الله حق المعرفة. قَراطِيسَ: جمع قرطاس، وهو ما يكتب فيه من ورق أو غيره.
مباركا: كثير البركة. أُمَّ الْقُرى المراد بها: مكة المكرمة.
المعنى:
من عرف الله حقيقة، وأدرك ما يجب في حقه، وما يستحيل، وما يجوز، لا يسعه إلا أن يعترف بالرسالة والسفارة بين الخلق والخالق- جل جلاله- فالله لا يحده مكان، وليس له زمان وهو مخالف للحوادث يستحيل عليه أن يخاطب البشر مباشرة:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ثم يفضى الرسول إلى الخلق بالتعليمات الإلهية، فمن أنكر الرسالة ما قدر الله حق قدره ولا عظّمه حق تعظيمه، بل ما عرفه أصلا.
والله العالم بكل شيء القادر لا يعجزه شيء، الذي وسعت رحمته كل شيء يعلم أن الخلق لا يمكن أن تصل إلى الغرض المقصود إلا بالهداة والمرشدين من الأنبياء والمرسلين، فمن ينكر رسالتهم ما عرف الله حق المعرفة، ولا قدره حق قدره.
قل لهؤلاء يا محمد: من أنزل الكتاب على موسى؟ وأنتم تعترفون بالتوراة إذا قلتم:
لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ وقد أرسلتم الوفد تسألونهم عن محمد ودينه فكيف تقولون: ما أنزل الله على بشر من شيء!!! وقيل في الآية معنى آخر...
من أنزل التوراة على موسى نورا وهدى للناس وقد كانت التوراة كذلك حتى غيروها وحرفوها ونسوا حظا كثيرا منها، وجعلوها قراطيس مقطعة، وورقات مفرقة، ليتمكنوا مما راموا من التحريف والتبديل، وقد كان الحبر يفتي بالتوراة ويظهرها، وإذا
639
أراد كتمان الحكم أخفاها، وقد كتموا وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم وحكم البشارة، وحكم الزنا!!! فأنتم أيها المشركون لا تثقوا بأقوال اليهود خصوصا فيما يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فهم أشد أعدائه.
وهذا المعنى ظاهر على قراءة من قرأ يجعلونه أما على قراءة تَجْعَلُونَهُ بالتاء فيكون الله قد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقرأ هذه الآية على مسمع من اليهود وغيرهم بالخطاب لهم.
وعلمتم أيها المؤمنون من العرب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم منه شيئا، فبالإسلام أصبح للعرب دولة، وبحث وفن وكيان علمي معترف به، بعد جهالة جهلاء وضلالة عمياء.
قل لهم: الله أرسل الرسل ومعهم الكتب أرسل مع محمد القرآن ومع موسى التوراة، ثم ذرهم واتركهم في خوضهم يلعبون.
وهذا القرآن كتاب أنزلناه يهدى إلى الحق وإلى سواء السبيل، كتاب كثير البركة والخير، مصدق لما تقدمه من الكتب، ومهيمن عليهم، أنزلناه للبركة، ولتصديق الكتب السابقة ولإنذار أم القرى مكة ومن حولها، والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها يؤمنون به ويصدقونه، وهم على صلاتهم يحافظون، وإلى كل ما أمروا به يسارعون...
الكذب على الله وعاقبته [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٣ الى ٩٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
640
المفردات:
افْتَرى: اختلق الكذب. غَمَراتِ الْمَوْتِ: واحدها غمرة، وهي الشدة، وغمرات الموت: سكراته. باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بسط اليد سبق شرحه في الجزء السادس آية ٢٨. الْهُونِ: الهوان والذل، والهون: اللين والرفق خَوَّلْناكُمْ: أعطيناكم ومنحناكم، والخول: الخدم والحشم. بَيْنَكُمْ هو بمعنى الصلة، أو هو ظرف، والاتصال مفهوم من الكلام. ضَلَّ أى: غاب.
المعنى:
شهادة ضمنية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق حيث بين عاقبة الكذب على الله لا أحد في الوجود أظلم ممن كذب على الله، وادعى أنه ما أنزل على بشر شيئا، إذ أثبت له الشريك والولد، أو قال: أوحى إلىّ ولم يوح إليه شيء، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي، أو قال: سأنزل مثل ما أنزل الله على رسله لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [سورة الأنفال آية ٣١].
يا للعجب لهؤلاء... ولو تراهم في غمرات الموت وشدائده والحال أن الملائكة قد بسطت أيديها لهم لتخرج أنفسهم من أجسادهم بمنتهى الشدة والعنف فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ «١» وتقول لهم الملائكة تأنيبا وتعنيفا:
أخرجوا أنفسكم مما هي فيه وخلصوها إن أمكنكم ذلك، وقيل: المعنى: أخرجوها كرها وقد قيل: إن روح المؤمن تخرج بسهولة وروح غيره تنتزع انتزاعا شديدا.
وقال الكشاف: هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الكفرة.
(١) سورة الحديد آية ٢٧.
641
وتقول الملائكة لهم: اليوم تجزون عذاب الهون والخزي، وتلقونه على أفظع صورة بسبب ما كنتم تقولون على الله غير الحق كما مر.
ويقول الله لهم: لقد جئتمونا منفردين عن الأنداد والشركاء، والأولياء والشفعاء، كما خلقناكم أولا، وها أنتم أولاء تركتم كل ما خولناكم وأعطيناكم من نعم وحشم، وخدم وولد، تركتموه ولم ينفعكم في شيء أصلا، وما نرى معكم شفعاءكم- كما كنتم تدعونهم- الذين زعمتم أنهم فيكم وفي عبادتكم شركاء لله.
تبّا لكم وسحقا. لقد تقطع وصلكم بينكم، وبعد ما كان بينكم من صلات وصداقات، ضل عنكم ما كنتم تزعمون ولم تنفعكم شفاعة الشافعين يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [سورة الانفطار آية ١٩].
من مظاهر القدرة والعلم الحكمة والرحمة [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٥ الى ٩٩]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
642
المفردات:
فالِقُ الفلق والفتق: الشق في الشيء مع إبانة بعضه عن بعض. الْحَبِّ:
الثمر يكون في الأكمام والسنبل. وَالنَّوى: جمع نواة: ما تكون في التمر والزبيب وما شاكله. تُؤْفَكُونَ: تصرفون. سَكَناً: ما يسكن فيه الإنسان مكانا كالبيت وزمانا كالليل وهو المراد. حُسْباناً: بالحساب والعدد. يَفْقَهُونَ الفقه: الفهم مع العمق في التفكير. مُتَراكِباً: يتراكم بعضه فوق بعض.
طَلْعِها الطلع: أول ما يبدو ويظهر من الزهر قبل أن ينشق عنه الغلاف.
قِنْوانٌ: هو العذق، كالعنقود. وَيَنْعِهِ: نضجه واكتماله.
بعد إقرار مبدأ التوحيد والنبوة، وبعض مواقف البعث ذكر هنا مظاهر كمال قدرته وعلمه وآياته الكونية التي تشهد له بكل ذلك.
المعنى:
إن الإله الذي يستحق العبادة والتقديس هو الذي يتصف بهذا، ويعمل هذه الأعمال التي يعجز عن أقلها الأوثان والشركاء والأصنام بل والخلق مجتمعين متكتلين- سبحانه وتعالى جل جلاله-.. ؟؟
إن الله فالق الحب والنوى يخرج الزرع كالنجم والشجر من الحب والنوى، والحياة هنا بمعنى قبول النمو والتغذية، ولا شك أن الحب والنوى ميت بهذا المعنى، وبعضهم يتوسع في الحياة، ويقول إن الحب والنوى فيهما حياة بدليل أنه لو عقما لما أنبتا ولكن
643
اللغة لا تساعدهم وكانوا يمثلون قديما بإخراج الحيوان من النطفة أو البيضة، ولكن العلم الحديث أثبت أن في النطفة حياة وكذا في البيضة، وقيل: إن الرأى الصحيح أن الحيوان يخرج بمعنى يتكون من الغذاء، وهو ميت ويخرج من الحيوان لبنه وفضلاته وهي ميتة وكون خلايا الجسم الحي تتكون من غذاء كاللبن والنبات مع عدم الحياة في الغذاء دليل على كمال القدرة.
والله مخرج الميت من الحي فيخرج الحب والنوى من النبات الحي، ويخرج اللبن والفضلات من الحيوان الحي، سبحانه وتعالى من قادر حكيم عليم، فكيف تؤفكون وتصرفون عن طريق الهدى والفلاح؟ والله فالق الإصباح، قد فلق ظلمة الليل وشقها بعمود الصبح عند طلوع الفجر، وجعل الليل سكنا للحيوان الحي، يستريح فيه من التعب، ويسكن جسمه من الألم وأعصابه من التفكير والنصب، والليل وقت سكون وراحة، والنهار وقت عمل ونشاط، وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب وتقدير، وترتيب ونظام محكم لا يختل أبدا لتعلموا بهما عدد السنين والحساب.
فانظر- وفقك الله للخير- للآيات الكونية الثلاث: شق الإصباح، وسكون الليل، ونظام الشمس والقمر وحسبانهما إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر ٤٩].
وهو الذي جعل لكم النجوم والمراد بها ما عدا الشمس والقمر مما لا يعلمه إلا هو جعلها علامات للسارى، بها يهتدى للوقت من الليل أو من السنة، ويعرف المسالك والطرق والجهات، جعلها لتهتدوا بها في ظلمات الليل والماء، أو المراد ظلمة الخطأ والضلال.
ولما في عالم السماء من صنع وإحكام، وتقدير ونظام قد فصل الله الآيات القرآنية والآيات التكوينية وهما يدلان على حكم الله وتمام علمه، ولا يستخرج كل هذا ولا يهتدى به إلا أهل العلم والنظر فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ «١» ولذا اختتمت الآية بقوله تعالى: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
هذه آيات الله الكونية في الأرض والسماء، وها هي ذي آياته في أنفسنا وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً «٢»
(١) سورة الحشر آية ٢.
(٢) سورة النساء آية ١.
644
قد خلقكم من ذكر وأنثى وجعلكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، وفي هذا إرشاد إلى التّوادّ والمحبة، والتعاطف بين الخلق جميعا، وإشارة إلى كمال القدرة وتمام العلم والحكمة، خلقكم من نفس واحدة، لكلّ مستقر في الأصلاب، ومستودع في الأرحام، والاستقرار: مكث غير محدود بزمن ولا وقت وهو أقرب إلى الثبات، والاستيداع:
مكث موقوت معرض للرد والرجوع، ولهذا كان الاستقرار في الأصلاب والاستيداع في الأرحام. وبعضهم عكس، وبعضهم قال غير ذلك، والله أعلم.. قد فصلنا الآيات ووضحناها لقوم يفقهون ويقفون على الأسرار الخفية بذكائهم وعمق تفكيرهم، ولا شك أن النظر في الخلق والتكوين الإنسانى يحتاج إلى دقة ونظر وفهم.
وها هي ذي آياته التكوينية في النبات.
وهو الذي أنزل من السحاب الذي في السماء ماء فجعل منه كل شيء حي، فأخرج به المولى- جل شأنه- نبات كل صنف من الأصناف فالتربة واحدة والماء واحد ولكن الشكل والطعم مختلف سبحانك يا رب أنت القوى القادر يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «١» في الشجرة الواحدة تمر حسن وآخر رديء، ثمر ناضج، وثمر نيئ، ثمر طعمه جميل وأخر قبيح، سبحان الله أليس هذا من دلائل الوحدانية والقدرة، فأخرج الله من النبات شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات، وذلك كورق النجم، وغصن الشجر، ويخرج من هذا الأخضر حبا جافّا صلبا متراكبا بعضه فوق بعض في السنبل.
أما الشجر فهذا النخل عنوانه يخرج من طلعها قنوان دانية القطوف سهلة التناول ويخرج من النبات الأخضر جنات من أعناب وغيره من الفواكه والثمار كالزيتون والرمان مشتبها في الشكل والورق والثمر، وغير مشتبه في لون الثمر وطعمه فمنها الحلو والحامض والمزّ، بل منها ما هي كاليوسفى والبرتقال أو كالنارنج، انظر إلى ثمر ما ذكر نظرة اعتبار وفحص إذا أثمر النبات وكيف يصير هذا الثمر من درجة إلى درجة حتى يصل إلى كمال نضجه وتمام منفعته، وكيف يكون الثمر أجوف فارغا ثم يمتلئ بالخير والبركة، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون بالله أو فيهم الاستعداد لذلك.
(١) سورة الرعد آية ٤.
645
من كذبهم على الله والرد عليهم [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٣]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
المفردات:
خَرَقُوا خلق، وخرق، واخترق، كلها بمعنى واحد، قال الراغب: الخلق:
فعل الشيء بتدبير ورفق، والخرق: قطع الشيء على سبيل الفساد. بَدِيعُ: مبدع على غير مثال سابق، ومنه البدعة، لأنه لا نظير لها. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ الإدراك: اللحاق والوصول إلى الشيء.
المعنى:
أشرك الناس بالله شركاء من دونه، وأقسم إبليس: لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين، وقد عبدوا الملائكة وقالوا: إنها بنات الله، وأطاعوا الشياطين في أمور الشرك بالله، وقال المجوس: إن للخير إلها وللشر إلها هو إبليس وذلك قوله تعالى:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ والله وحده خلقهم وما يعبدون. فكيف يعبد سواه، واختلق بعض الناس بجهلهم وحماقتهم لله بنين، وبنات، سبحانه وتعالى عما
يشركون!! فقد قالت اليهود: عزيز ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وقال المشركون من العرب: الملائكة بنات الله.
كيف يكون ذلك! والله مبدع السموات والأرض وما فيهن، فهو الخالق البارئ المصور كيف يكون له ولد؟ ولم تكن له صاحبة، والولد لا بد فيه من تزاوج وتناكح، وهل يعقل أن تكون له صاحبة تجانسه وتشاكله، وهو المنزه عن المثيل والشريك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «١». وكيف يكون له ولد! وقد أقر الكل بأنه خلق السموات والأرض، أفيكون في حاجة إلى ولد؟ وله كل شيء!!؟ سبحانه وتعالى ذلكم الله ربكم، لا إله إلا هو، خالق كل شيء، فاعبدوه وحده، فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، الخالق البارئ فاطر السموات والأرض ومبدعها وهو على كل شيء قدير.
والله سبحانه لا تدركه الأبصار، ولا تراه رؤية إحاطة وشمول حتى تعرف كنهه وتحيط به: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ «٢».
والآية الكريمة لا تنفى الرؤية التي وردت بها الأحاديث الصحيحة.
والله يدرك الأبصار، يراها ويدركها ويقف على حقيقتها وكنهها، وإلى هنا لم يعرف أحد حقيقة الضوء أو حقيقة البصر ولماذا لم تر الأذن؟ ولم تسمع العين ولماذا كان عصب العين ينقل إشارة الرؤية وعصب السمع ينقل إشارة السمع ولكن الله وحده هو الذي يدرك الأبصار ويعلمها وهو اللطيف بذاته الخبير بدقائق خلقه وخفاياهم.
حقائق تتعلق بالرسالة [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)
(١) سورة الشورى آية ١١.
(٢) سورة البقرة آية ٢٥٥.
647
المفردات:
بَصائِرُ: جمع بصيرة، وتطلق على العقيدة القلبية، وعلى المعرفة الثابتة والحجة البينة، ويقابلها البصر الذي يدرك به الأشياء الحسية. دَرَسْتَ أى: قرأت،
وفي الحديث: «كان يدارسه القرآن»
ومنه الدرس والمدرسة وهي تشير إلى التذليل بكثرة القراءة.
المعنى:
قد جاءكم كما يجيء الغائب المنتظر تلكم البصائر من الحجج والبراهين والآيات الكونية، والأدلة العقلية، التي تنير البصائر وتكشف الحجب والستائر، جاءتكم من ربكم الذي تعهدكم في الصغر والكبر والضعف والقوة فمن أبصر فلنفسه ومن أساء فعليها: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «١» وما أنا عليكم بحفيظ، ولا برقيب، كل نفس بما كسبت رهينة، وما علىّ إلا البلاغ وعلى الله الحساب.
مثل ذلك البيان الشافي نصرف الآيات في القرآن لإثبات أصول الدين، ونفصلها ليهتدى بها المستعدون للاهتداء على اختلاف عقولهم وألوانهم، وليقول الجاحدون المعاندون: إنما درست هذا وقرأته على غيرك وليس وحيا من عند الله، ولقد رموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه علّمه قين (حداد) كان بمكة وهو أعجمى وليس بعربي لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «٢» وكيف يصدر هذا القرآن الكامل في كل شيء عن بيئة جاهلية؟ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «٣» ولنظهر هذا القرآن لقوم عندهم عقل وعلم.
(١) سورة الإسراء آية ٧.
(٢) سورة النحل آية ١٠٣.
(٣) سورة النجم آية ٤.
648
اتبع يا محمد ما يوحى إليك، وبلغه فالله معك، الذي لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين، ولا يهمّنك أمرهم، واعلم أنه إلى الله المرجع والمآب، ولو شاء ما أشركوا أبدا ولكنه شاء ما وقع لحكم هو يعلمها وما جعلك عليهم حفيظا ورقيبا، ولست عليهم بوكيل.
النهى عن سب الذين يدعون من دون الله [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٨ الى ١١٠]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
روى أن زعماء قريش ذهبوا إلى أبى طالب وقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه، وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك. فنزلت الآية.
المعنى:
ولا تسبوا أيها المسلمون آلهتهم التي يدعونها من دون الله إذ ربما نشأ عن ذلك أنهم يسبون الله- عزّ وجل- عدوانا وتجاوزا للحد في السباب ليغيظوا بذلك المؤمنين،
وهم أجهل الناس بقدر الله، ومن هنا نعلم أن الطاعة إن جرّت إلى معصية تترك. مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من الكفار سوء أعمالهم، وهكذا سنة الله في خلقه، يستحسنون ما جرت عليه نفوسهم، وما تعودته عن تقليد أو جهل، أو عن معرفة وعناد والله يتركهم وشأنهم، وهو القادر على كل شيء، فالتزين أثر لأعمالهم بدون جبر أو إكراه، وإلا كان الثواب والعقاب وإرسال الرسل عملا لا يصح أن يكون.
وأقسموا ليؤمننّ إذا جاءتهم الآيات التي طلبوها... كذبوا، قل لهم: الآيات عند الله، وهم لا يؤمنون أبدا.
الجزء الثامن
الرد على طلب المشركين الشهادة على الرسالة [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١١ الى ١١٣]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
650
المفردات:
وَحَشَرْنا: جمعنا. قُبُلًا: جمع قبيل، كرغيف ورغف، أى: ضمناء وكفلاء، وقيل: قبلا، أى: مواجهة ومقابلة، ومنه قيل: قبل الرجل ودبره، وقرئ قبلا، أى: عيانا ومواجهة. شَياطِينَ قال ابن عباس: كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان. يُوحِي الإيحاء: الإعلام مع الخفاء والسرعة كالإيماء، والمراد ما توسوس به الشياطين من الجن والإنس. زُخْرُفَ الزخرف:
الزينة، ومنه سمى الذهب زخرفا، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه. غُرُوراً:
خداعا باطلا. وَلِتَصْغى صغى إليه: مال، وصغى فلان، وصغوه معك: ميله وهواه. وَلِيَقْتَرِفُوا اقترف المال: اكتسبه، والذنب: اجترحه.
روى عن ابن عباس أنه أتى جماعة من كفار مكة وزعمائها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا:
أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحقّ ما تقول أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا، فنزلت الآية.
وهذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «١» مع تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بذكر طبائع الناس وما يلاقيه الأنبياء في دعوتهم.
المعنى:
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة فرأوهم بأعينهم المرة بعد المرة، كما قالوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ «٢» ولو كلمهم الموتى بأن نحييهم لهم فيخبروهم بما رأوا من ثواب أو عقاب كما قالوا: فَأْتُوا بِآبائِنا «٣» ولو أننا حشرنا عليهم، وجمعنا لهم من كل شيء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى معاينة ومواجهة ليكون ذلك دليلا على صدق دعواك، أو جمعنا عليهم كل شيء ضمناء وكفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا.
لو حصل كل هذا لما كان من شأنهم الإيمان، ولا كان استعدادهم يقتضى ذلك، لأنهم ينظرون إلى الآيات نظرة تعنت وعداوة، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون،
(١) سورة الانعام آية ١٠٩. [.....]
(٢) سورة الفرقان آية ٢١.
(٣) سورة الدخان آية ٣٦.
651
فلم ينظروا نظرا بريئا للهداية والعبرة حتى يتعظوا ويؤمنوا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً «١» لكن لو شاء الله إيمانهم لآمنوا، ولكنه يتركهم وفطرتهم التي تتنافى مع سلوك طريق الخير والانتفاع بهدى القرآن: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ «٢» مع تبصرتهم وهدايتهم إلى طريق الخير والشر:
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «٣».
ولكن أكثر المشركين يجهلون ذلك، فيقسمون بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية مما اقترحوا ليؤمننّ بها، وما يشعرون بقلوبهم وما انطوت عليه، وبما ختم عليها حتى صارت كأنها في أكنة، وقيل: ولكن أكثر المسلمين يجهلون نفوس الكفار وما هي فيه، فيميلون إلى إنزال الآيات المقترحة علّهم يؤمنون.
وهكذا سنة الله في الخلق. منهم مهتد وكثير منهم فاسقون.
وهكذا سنته مع أنبيائه، جعل لكل منهم أعداء من الجن والإنس- خاصة أولى العزم منهم- ليحظوا بدرجات الصبر والعمل، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الخير جاهدا، والمشركون يدعون إلى ما يعتقدون جهدهم، فمن باب تنازع البقاء لا بد من حصول العداوة والبغضاء، والعاقبة للمتقين إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «٤».
كما جعلنا هؤلاء أعداء لك جعلنا لكل نبي جاء قبلك أعداء، هم شياطين الإنس والجن،
روى أبو ذر- رضى الله عنه- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عقب صلاة: يا أبا ذر: هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت يا رسول الله: هل للإنس شياطين؟ قال:
نعم وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ «٥».
(١) سورة الأنعام آية ٢٥.
(٢) سورة البقرة آية ٢٥٦.
(٣) سورة البلد آية ١٠.
(٤) سورة غافر آية ٥١.
(٥) سورة البقرة آية ١٤.
652
وقال مجاهد وقتادة والحسن: إن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين، أما مظهر عداوة هؤلاء للنبي والمسلمين فإنه يوحى بعض شياطين الجن إلى بعض شياطين الإنس وكذلك يوحى بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض، وعن مالك بن دينار:
إن شيطان الإنس أشد علىّ من شيطان الجن، إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عنى، وشيطان الإنس يجيئني فيجرنى إلى المعاصي عيانا.
يوحى بعضهم إلى بعض بالقول المزخرف المزين، وبالوسوسة والإغراء بالمعاصي، والتمويه والخداع بالباطل، ولو شاء ربك ما فعلوه أبدا فذرهم وما يفترون، يفعلون هذا ليغروهم بالفساد، لأنه الموافق لأهوائهم، وليترتب على ذلك أن يرضوه ويطمئنوا إليه، وأن يكتسبوا معه من الآثام والمعاصي ما هم مكتسبون.
الشهادة للنبي بالصدق وللقرآن بالحق [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)
المفردات:
حَكَماً: الحاكم: من يتحاكم إليه الناس، ويحكم بينهم بالحق أو بغيره، والحكم: من يحكم بالحق فقط كما قال القرطبي. مُفَصَّلًا: مبيّنا فيه الحق والباطل، والحلال والحرام. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قال الراغب: تمام الشيء انتهاؤه
653
إلى حد لا يحتاج معه إلى شيء خارج عنه، والمراد هنا أن كلمة الله وافية في الإعجاز والدلالة على صدق الرسول. لا مُبَدِّلَ: لا مغيّر.
المعنى:
ما لكم تطلبون آيات دالة على صدقى، وتحكمون بها على أنى رسول الله؟
وتقسمون أنها لو نزلت لآمنتم.
عجبا! أضللت فأبتغى غير الله حكما بيننا؟! وليس لي أن أتعدى حكم الله، ولا أن أتجاوزه، إذ هو الحكم العدل، وهو الذي أنزل إليكم القرآن كتابا مفصلا فيه كل شيء، مبينا لكل حكم، جامعا لكل خير، فيه الهدى والنور، والعلم والعرفان، وهو المعجزة الباقية الدالة على صدق رسالتي لما فيه من الآيات، ولما أعجز جهابذة البلاغة وأرباب البيان، مع التحدي الصارخ لهم... شهد لي بالصدق، وعليكم بالكذب البهتان!! والذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى، يعلمون أنه الحق المنزل من عند الله مشتملا على النور والهدى، ومتلبسا بالحق والعلم إذ هو من جنس الوحى الذي نزل عليهم، وقد جاء في كتبهم البشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصفته فهم أدرى الناس به: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «١» وقد اعترف بذلك من أنار الله بصيرته منهم واهتدى.
والخلاصة أنكم تتحكمون في طلب المعجزات والآيات الدالة على صدق الرسول.
وقد حصل ذلك بوجهين:
(أ) القرآن وهو المعجزة الباقية القائمة مقام قوله تعالى: «صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى».
(ب) معرفة أهل الكتاب وشهاداتهم للنبي محمد بالصدق.
وإذا كان هذا حاصلا فلا تكونن من الشاكّين، وهذا لون من ألوان التهييج والإلهاب كقوله: فلا تكونن من المشركين.
(١) سورة البقرة آية ١٤٦.
654
وتمت كلمة ربك، وقرئ: «كلمات ربك»، نعم تم كلام الله فلا يحتاج إلى شيء آخر، وأصبح كافيا وافيا في الإعجاز، والدلالة على الصدق، وقيل: تمت كلمة ربك فيما وعدك به من النصر على الأعداء، وأوعد به المستهزئين والكافرين من الخذلان والهلاك: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «١».
نعم تمت كلمة ربك صدقا فيما أخبر به، وعدلا فيما حكم به، ومن أصدق من الله قيلا؟ من أعدل من الله حكما؟
ثم كان كل ما أخبر به- جل شأنه- من أمر ونهى، ووعد ووعيد، وقصص وخبر، صادقا عادلا، لا مبدل لكلماته، ولا راد لقضائه، فهو القادر على كل شيء، الحكيم في كل صنع، السميع لكل قول، العليم بكل حال ووضع، سبحانه وتعالى عما يشركون!!
عقائد المشركين وذبائحهم [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٦ الى ١٢١]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
(١) سورة الصافات الآيات ١٧١- ١٧٣.
655
المفردات:
يَخْرُصُونَ: يحدسون ويقدّرون، والخرص: الحدس والتخمين، والخارص يقطع بما لا يجوز القطع به إذ لا يقين معه. فَصَّلَ: بيّن وأزال عنكم اللبس في المحرمات. الْإِثْمِ: القبيح، وفي لسان الشرع: ما حرمه الله. لَفِسْقٌ:
معصية وخروج عن دائرة الدين.
المعنى:
لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله الضالون والمشركون، فإنهم يسلكون سبل الضلال والإضلال ويتبعون الظنون الفاسدة، وإن تطع أكثر من في الأرض من الكفار والمشركين، إن تطعهم في أمور الدين، وتخالف ما أنزل الله عليك، يضلوك عن سبيل الله، سبيل الحق والعدل والصراط المستقيم، إذ هم لا يتبعون فيما يصدر عنهم إلا الهوى والظن، ويتجافون عن الحجج العقلية والبراهين الإلهية، إن يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يحدسون كالخارص في ثمر النخل، فاعتقادهم مبنى على الحدس والتخمين، لا على الحجة واليقين، وصدق الله: فكل النظريات المخالفة ليس مع أصحابها حجة ولا يقين وإنما كله ظن وتخمين.
656
أليس هذا من أخبار السماء الصادقة؟ فها نحن أولاء بين الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم من أخبار الأمم وأحوالها إلا النزر اليسير.
لا تطعهم أبدا، إن ربك هو أعلم منك ومن غيرك بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
وإذا كان الأمر كذلك، فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقت الذبح. إن كنتم بآياته مؤمنين.
وقد كان المشركون من العرب يجعلون الذبائح من أمور العبادات، فيتعبدون بالذبح للآلهة والأصنام، ويقولون: كيف تعبدون الله، وما قتله الله لا تأكلونه؟ أى: ما مات حتف أنفه بلا ذبح. وما قتلتموه بأيديكم تأكلونه على أنه حلال.
أىّ مانع لكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه عند الذبح، والحال أنه قد فصل لكم، وبين ما أحل وما حرم: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً [الأنعام ١٤٥].. فقد حرم الله هذه المحرمات، وذكرها في سورة المائدة بالتفصيل، آية ٣..
إلا في حال الاضطرار والضرورة فحينئذ يزول التحريم بقدر الضرورة (فالضرورات تبيح المحظورات) وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم الزائفة، وشهواتهم الفاسدة، من غير علم منهم بصحة ما يقولون، يضلون غيرهم، ويصدونهم عن سبيل الله، إن ربك هو أعلم بالمعتدين.
وذروا الإثم واتركوه، سواء منه ما ظهر للناس واكتسبته الجوارح، أو ما خفى عن الناس وكان من عمل القلب، فالله يعلم الغيب والشهادة، إن الذين يكسبون الإثم، ويجترحون الذنب سيجزون بما كانوا يقترفون. أما من يعمل السوء بجهالة ويتوب إلى الله من قريب فأولئك يتوب الله عليهم، فرحمته وسعت كل شيء.
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، بأن ذبح للصنم، أو ذكر عليه غير اسم الله، أو مات حتف أنفه ولم يذكر عليه شيء، وإنه- أى: الأكل من هذا- لفسق ومعصية وخروج عن الدين وحدوده.
وقال مالك: كل ما لم يذكر اسم الله عليه بأن ترك سهوا أو عمدا فهو حرام، أخذا
657
بظاهر الآية، وقال الأحناف: إن ترك الذكر عمدا فهو حرام. وقال الشافعى: إذا كان الذابح مسلما فهو حلال ترك سهوا أو عمدا.
وإن الشياطين من الإنس والجن ليوحون إلى أوليائهم من الإنس والجن ويوسوسون لهم بالقول المزخرف، والغرور الباطل، ليجادلوكم على أساس باطل خال من الحكمة والعقل، مثلا يقولون للمسلمين: كيف تحرمون ما قتله الله وتحلون ما قتلتم بعد هذا تدعون عبادة الله؟!! وإن أطعتموهم مطلقا في أى شيء وبخاصة فيما نحن فيه من استحلال الميتة، إنكم لمشركون معهم، وفيه دليل على أن من أحل حراما أو من حرم حلالا فهو كافر ومشرك، لأنه أثبت مشرعا سوى الله، وهذا هو الشرك بعينه.
مثل المؤمن والكافر [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٣]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)
المفردات:
أَكابِرَ أكابر القوم: رؤساؤهم. مُجْرِمِيها الإجرام: ما فيه الفساد والضرر من الأعمال، والمجرمون: الفاعلون لهذه الأعمال. قَرْيَةٍ: البلد الذي يجمع الناس كالعاصمة مثلا، وقد تطلق على الشعب والأمة. لِيَمْكُرُوا المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة.
المعنى:
بعد أن أبان الله أن من الناس المهتدى، وكثير منهم الفاسقون، ضرب مثلا للمؤمن وآخر للكافر، فبين فيه أن المؤمن المهتدى بعد الضلالة، الموفق إلى الخير والهدى، المميز بين الحق والباطل: كمن كان ميتا فأحياه الله، وجعل له نور القرآن والحكمة يمشى به في الناس: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ «١» له نور يستضئ به في ظلمات الحياة، فيميز بين الخير والشر، وأما الكافر الذي بقي على الضلالة يتخبط في ظلمات الكفر والفساد فكمن استقر في الظلمات الحسية لا ينفك عنها، وليس بخارج منها، فهو لا يهتدى إلى سواء السبيل ولا يسير على الطريق المستقيم.
أيستوى المؤمن والكافر؟ نعم لا يستويان أبدا، وهل يستوي الظلمات والنور؟
مثل هذا التزيين السابق، للمؤمن إيمانه وللكافر كفره، قد زين للكافرين ما كانوا يعملون، والذي زين هذا هو الشيطان الذي أقسم لأغوينهم أجمعين، أو هو الله- سبحانه وتعالى- نظرا إلى قوله: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [سورة النمل آية ٤].
وكما جعلنا في مكة صناديدها وأشرافها ليمكروا ويصدوا عن سبيل الله فيها، كذلك جعلنا في كل قرية مجرميها وفساقها، أكابرها وأشرافها، لأنهم أقدر على المكر والخداع وترويج الباطل بين الناس لرئاستهم وسيادتهم. وهكذا سنة الله مع أنبيائه، يتبعهم الضعفاء ويكفر بهم الأشراف، ومع هذا فالعاقبة للمتقين، وما يمكر هؤلاء إلا بأنفسهم، لأن عاقبة مكرهم عليهم، وما يشعرون.
غرور المشركين وعاقبته [سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٤]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
(١) سورة الحديد آية ١٢.
659
المفردات:
صَغارٌ الصغار والصغر: الذل والهوان، والصغر: القلة في المحسوسات.
أَجْرَمُوا: ارتكبوا ما فيه جرم.
كان الوليد بن المغيرة يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك، لأنى أكبر منك سنّا، وأكثر منك مالا، فأنزل الله هذه الآية، وقيل: نزلت في شأن أبى جهل.
المعنى:
أراد أكابر قريش أن تكون لهم النبوة والرسالة، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين وقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «١» !! وذلك حسدا منهم وغرورا، وظنّا منهم أن الرسالة مركز دنيوى، فكما بسط الله الرزق لهم وآتاهم مالا ممدودا- أى: كثيرا- وبنين شهودا- أى: حضورا للمجالس- وكبارا في القوم. يؤتيهم النبوة، ويمنحهم الرسالة.
ولهذا إذا جاءتهم آية دالة على صدق محمد، وأنه رسول الله، قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله من الآيات والمعجزات: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً «٢». أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «٣» أهم يقيسون الرسالة على مظاهر الدنيا الكاذبة؟ وما علموا أن الله يعلم أهل رسالته ومكان نبوته، ومن هو أهل لأداء الرسالة والقيام بالأمانة على الوجه الذي يرضاه، على أن الرسالة فضل من الله يمنحها لمن يشاء من عباده، لا ينالها أحد بكسبه، والله لا يعطيها إلا لمن هو أهل لها لسلامة فطرته، وطهارة قلبه، وقوة روحه، ومناعة نفسه، حتى يمكنه القيام بأعبائها، أما من يطلبها ويرغب فيها فليست له، ولا هو يصلح لها، ولا هي تصلح له.
وها هي ذي عاقبة هؤلاء الذين أجرموا في حق الله، وطمعوا فيما لا طمع فيه سيصيبهم صغار وذلة، وعذاب ومهانة من عند الله، جزاء بما كانوا يمكرون، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون.
(١) سورة الزخرف آية ٣١.
(٢) سورة المدثر آية ٥٢.
(٣) سورة الزخرف آية ٣٢.
660
سنة الله في الخلق ودينه الحق [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٨]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)
المفردات:
يَشْرَحْ صَدْرَهُ يقال: شرح الله صدره فانشرح، أى: وسّعه لقبول الإيمان والخير، وقيل: الشرح: الفتح والبيان، وقيل: هو نور يقذفه الله- تعالى- في القلب. ضَيِّقاً الضيق: ضد الواسع. حَرَجاً: هو أضيق الضيق.
الرِّجْسَ: العذاب، وقيل: الشيطان. دارُ السَّلامِ: دار السلامة وهي الجنة.
المعنى:
ما تقدم كان جزاء للمشركين وعنادهم وغرورهم. وأما أنت يا رسول الله
661
فلا يهمنك أمرهم ولا تحزن عليهم، فالأمر كله لله. فمن يرد الله أن يهديه للحق ويوفقه للخير يشرح صدره للقرآن، ويوسع قلبه للإيمان، فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه ويتسع صدره للقرآن،
وقد سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن شرح الصدر فقال-: «هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟
قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت»
.
وهذا يكون عند من حسنت فطرته وطهرت نفسه وكان فيها استعداد للخير وميل إلى اتباع الحق.
ومن فسدت فطرته، وساءت نفسه، إذا طلب إليه أن ينظر إلى الدين ويدخل فيه لما استحوذ وامتلأ قلبه من باطل التقاليد والاستكبار، والعناد والحسد والغرور، إذا طلب إليه أن ينظر في الدين ويدخل فيه، يجد في صدره ضيقا- وأى ضيق؟ - وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً وهذا الصنف تكون إجابة الداعي عنده ثقيلة على نفسه جدّا، فيشعر بضيق شديد، وحرج كثير، كأنه كلف من الأعمال ما لا يطيق، أو أمر بصعود السماء، وأصبح حالهم كحال الصاعد في طبقات الجو، والمرتفع في السماء كلما ارتفع وخف الضغط عنه شعر بضيق في النفس وحرج في القلب.
سبحانك ربي هذه نظرية علمية لم يقف عليها الناس إلا قريبا. وقد أخبر بها القرآن من أربعة عشر قرنا.
وهذا الإسلام الذي شرح الله صدر بعض عباده له، هو صراط ربك المستقيم، صراط الله العزيز الحميد الذي يعلم خلقه وما هم عليه، فهو العلاج الوحيد، والدواء المفيد الناجع لكل داء، فعليكم به أيها المسلمون إن أردتم النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
قد فصلنا الآيات، وبيناها على أتم وجه، لقوم يتذكرون ويتعظون، لهؤلاء السالكين طرق الهداية، المنتفعين بنور القرآن وآياته، لهؤلاء دار السلامة والسلام، والأمان والنعيم وهي دار الجنة، والله- سبحانه وتعالى- وليهم ومتولى أمرهم، وهو حسبهم من كل ما يعنيهم وذلك بسبب ما كانوا يعملون من صالح الأعمال في الدنيا.
662
واذكر يوم يحشر ربك المخلوقات جميعا إنسهم وجنهم، ويقول لهم: يا معشر الجن قد أكثرتم من إغوائكم للإنس حتى حشروا معكم، وقال أولياؤهم وأتباعهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض، فاستمتع الإنس بالجن حيث دلوهم على المعاصي وإرضاء الشهوات النفسية، واستمتع الجن بالإنس حيث كانوا قادة لهم ورؤساء فامتثلوا أمرهم، وسرّ الجن بذلك، وقالوا متحسرين: قد بلغنا أجلنا الذي أجلته لنا وحددته لنا، وهو يوم القيامة. قال الله لهم عند ذلك: النار مأواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله، إن ربك حكيم عليم.
من سنن الله في الكون مع ذكر بعض مواقف الآخرة [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٩ الى ١٣٢]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
المفردات:
نُوَلِّي: من الولاية والإمارة، أو: نجعل بعضهم أنصارا وأولياء لبعض.
ُصُّونَ
: يتلونها مع التوضيح والتبيين، وفي المصباح: قصصت الخبر قصّا من باب رد: حدثته على وجهه. دَرَجاتٌ: مراتب من أعمالهم وجزائها.
663
المعنى:
ومثل الذي ذكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض في الدنيا لأنهم متشابهون ومتحدون في الاتجاه والعمل، نولي بعض الظالمين بعضا بسبب ما كانوا يكسبون من أعمال الظلم المشتركة بينهم.
نولي بعضهم بعضا، ونجعلهم أنصارا وأولياء لبعض وأصدقاء. فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، والكافرون بعضهم أولياء بعض، وكل يقع على شاكلته، إذ الأرواح جنود مجندة.
وأما ولاية المشركين لبعض فبمقتضى السنن الكونية، إذ ولايتهم لبعض مترتبة على اتفاقهم في الخلق والعقيدة والمنفعة والتحزب، مع أن الله لم يأمرهم بشيء من ذلك.
وفي المأثور قيل: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم، وكما تكونون يولى عليكم. وعن ابن عباس «إذا رضى الله على قوم ولى أمرهم خيارهم، وإذا سخط على قوم ولى أمرهم شرارهم» فيكون الحاكم وبطانته مثلا في السوء يقلدهم غيرهم فيعم الفساد البلد، والمعنى: إنا نكل بعض الظالمين إلى بعض، ونسلطهم على أنفسهم، وهذا تهديد عام شامل لكل ظالم في الحكم أو غيره، وقال فضيل بن عياض: «إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجبا».
يا معشر الجن والإنس اقرّوا واعترفوا بإرسال الرسل لكم، وقد قاموا بمهمة الرسالة خير قيام، يقصون عليكم الآيات، ويوضحون الحجج والبينات، وينذرونكم لقاء يومكم هذا، ويبشرون من آمن بالله وعمل صالحا بالثواب العظيم، وينذرون من خالف وعصى بهذا اليوم الشديد وقعه، البالغ أثره، وهذه الرسل منكم، أى: من جنسكم في الخلق والتكليف والمخاطبة، أى: من مجموعكم.
وهنا بحث: هل للجن رسل من أنفسهم كما للإنس؟ أم الرسل من الإنس فقط؟
وقوله منكم من باب التغليب، كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وهما يخرجان من الماء الملح فقط، أو المراد برسل الجن من كان يستمع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ينذر قومه بما سمع: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ والثابت عن ابن عباس: كانت الرسل تبعث إلى الإنس، وإن محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى الجن والإنس، فقد قال الجن: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [سورة الأحقاف آية ٣٠].
664
فماذا قالوا عند ما قيل لهم: ألم يأتكم رسل منكم في الدنيا؟! قالوا: نعم... أتتنا الرسل وقصت علينا أحسن القصص، وبشرتنا وأنذرتنا ببليغ الكلم، يا عجبا لهم شهدوا على أنفسهم بهذا، وقد كانوا في الدنيا مخدوعين بها، مغرورين بمالها وجاهها وبريقها!!! فهم قد شهدوا على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين.
وللقيامة مواقف، فتارة يعترفون بإرسال الرسل إليهم، وتارة لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، وتارة تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بما كانوا يعملون وتارة يكذبون ويقولون: ما كنا مشركين.
ذلك الذي ذكر من إرسال الرسل للخلق، تقص الآيات، وتتلوا البينات، لإصلاح حال الأفراد والجماعات، في شئونهم الدنيوية والأخروية، كل ذلك بسبب أن الله لم يكن من سنته أن يهلك الأمم ظالما وهم غافلون عما يجب عليهم، بل لا بد من إرسال الرسل لتنير الطريق، وتهدى السبيل فمن عصى بعد ذلك استحق العقاب، ومن آمن وعمل صالحا استحق الثواب: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فالله لا يظلم أحدا من خلقه، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فاعتبروا أيها المسلمون، واعلموا أن ما نزل بكم إنما هو نتيجة لترك الدين وما فيه، واعلموا أن لكل عامل درجات ومراتب مما عمل، وجزاء عليه إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، وما ربك بغافل عما تعملون.
تهديد وإنذار [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٥]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
665
المفردات:
يُذْهِبْكُمْ: يهلككم. مِنْ ذُرِّيَّةِ: من نسل قوم آخرين.
مَكانَتِكُمْ: حالكم التي أنتم عليها.
المعنى:
وربك الغنى عن خلقه وعن عبادتهم، والكل فقير إلى رحمته وعفوه، يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «١» وهو ذو الرحمة بأوليائه وأهل طاعته، رحمته وسعت كل شيء، إذ كل ما عداه محتاج إليه في وجوده وبقائه.
إن يشأ يذهبكم يا أهل مكة ويأت بخلق غيركم أفضل منكم وأطوع، وإن يشأ يستخلف من بعدكم من يشاء من الأقوام فإنه هو الغنى القادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم، يكونون أسمى منكم روحا وأصفى منكم نفسا، وقد صدق الله وعده، فأذهب المستكبرين المعاندين الجاحدين من زعماء الشرك، واستخلف من بعدهم قوما آخرين هم الصحابة والسابقون من الأنصار والمهاجرين، وبعد هذا الإنذار في الدنيا، إنذار في الآخرة، وهو: إن ما توعدون من جزاء وثواب آت لا شك فيه، وما أنتم بمعجزين الله بهرب ولا بمنع، وهو القاهر فوق عباده.
قل لهم يا محمد: يا قوم اعملوا على مكانتكم وطريقتكم التي أنتم عليها، إنى عامل على طريقتي ومكانتى التي هداني إليها ربي، ورباني عليها، ولسوف تعلمون من تكون له العاقبة الحسنة والنهاية العظمى. قال الزمخشري في تفسيره «الكشاف» : اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ تحتمل وجهين: اعملوا على تمكنكم وأقصى استطاعتكم.
وإمكانكم واعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، والمراد اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإنى ثابت على الإسلام، فسوف تعلمون الذي تكون له العقبى يوم القيامة، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «٢» وهذا إنذار لطيف المسلك دقيق المآخذ، مع التوجيه إلى النظر والفكر وحسن الأدب وبيان السبب في الحكم للنبي صلّى الله عليه وسلّم إذ لا يفلح الظالمون لأنفسهم بالكفر.
(١) سورة فاطر آية ١٥. [.....]
(٢) سورة سبأ آية ٢٤.
666
صور من جاهلية العرب [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٦ الى ١٤٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
667
المفردات:
ذَرَأَ أى: خلق وأبدع. أَوْلادِهِمْ الولد: يطلق على الذكر والأنثى.
لِيُرْدُوهُمْ: ليهلكوهم بالإغواء. وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ: يخلطوا عليهم دينهم.
حِجْرٌ الحجر: أصله المنع، ومنه سمى العقل حجرا لمنعه صاحبه، والمراد الحرام.
وَصْفَهُمْ أى: جزاء وصفهم.
المعنى:
أثر من آثار وسوسة الشيطان للإنسان وعمل من أعمال إبليس، وصورة من صور الجاهلية الجهلاء، التي كان عليها العرب قبل الإسلام.
وجعلوا لله مما خلق من الحرث والأنعام نصيبا مفروضا وقدرا محدودا، وجعلوا كذلك نصيبا لمن أشركوهم مع الله من الأوثان والأصنام، فقالوا: هذا لله بزعمهم وبقولهم الذي لا بينة معه ولا حجة فيه. وهذا لشركائنا ومعبوداتنا، نتقرب به إليها.
والمروي أنهم كانوا يجعلون في مالهم نصيبا لله ينفقونه لإطعام الفقراء والمساكين وإكرام الضيفان والصبيان، ونصيبا للآلهة يعطى لسدنتهم وخدمهم، وما ينفق على معابدهم، وما كان لشركائهم خاصة لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها لله، بل يجعلونه للسدنة وخدمة الأصنام والأوثان، وما كان لله فهو واصل إلى شركائهم، ألا ساء الحكم حكمهم وبئس ما يصنعون!؟؟
إذ هم اعتدوا على الله بالتشريع الفاسد، وأشركوا به غيره، وفضلوه عليه. والحال أن الله هو الذي خلق كل شيء، وما عملوه لا سند له من عقل أو شرع، أليست هذه جاهلية جهلاء وضلالة عمياء؟؟
ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله والآلهة زين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم. وكان مظهر التزين أنهم خوفوهم الفقر في الحاضر والمستقبل وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ «١» وخوفوهم العار، فقتلوا البنات خوف العار والفقر والزواج من غير الكفء.
(١) سورة الإسراء آية ٣١.
668
وثالثة الأثافى أنهم كانوا يمنّونهم بأن قتلهم أولادهم قربى إلى الآلهة كما فعل عبد المطلب حين نذر قتل ابنه عبد الله.
وقد سمى الله المزينين لهم من شياطين الإنس كالسدنة، أو شياطين الجن سماهم الله شركاء، لأنهم أطاعوهم طاعة الله مع التبجيل والاحترام، كما فعل أهل الكتاب مع رجال الدين:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «١»، زين هؤلاء قتل الأولاد ليردوا المشركين ويهلكوهم بالإغواء. وليخلطوا عليهم أمر دينهم الذي يدعونه وهو دين إسماعيل وملة إبراهيم. والواقع أنه ليس فيه شيء من هذا، ولو شاء الله ما فعلوا هذا أبدا، ولكن مشيئة الله للناس جميعا أن يكونوا واختيارهم وما جبلوا عليه من اختيار أى الطريقين بدون جبر ولا قهر.
أما أنت يا رسول الله فذرهم ولا يهمنك أمرهم ودعهم وما يفترون في حقك وحقنا. فعلى الله حسابهم.
ثم ذكر صورة ثالثة من صور الجاهلية المشوهة.
أنهم قسموا أموالهم وأقواتهم إلى ثلاثة أقسام:
(أ) فتارة أنعام وأقوات تكون محبوسة على معبوداتهم وأوثانهم، ويقولون هي محجوزة للآلهة لا يطعمها إلا من نشاء من رجال ونساء، وقولهم هذا بزعمهم وادعائهم الخالي من الحجة والبرهان.
(ب) أنعام حرمت ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها، وهي البحيرة والسائبة والحامى.
(ج) أنعام لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح بل يهلون بآلهتهم وحدها عند الذبح، وقد قسموا هذا التقسيم مفترين على الله كاذبين عليه، والله من ذلك برىء قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ «٢» ؟ والله سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه بما كانوا يفترون.
(١) سورة التوبة آية ٣١.
(٢) سورة يونس آية ٥٩.
669
وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، والمراد بها البحائر المشقوقة الآذان والسوائب، وخالصة خلوصا مبالغا فيه لذكورنا فقط ومحرم على نسائنا، وكانت السوائب إذا ولدت ذكرا جعلوه للذكور خاصة، وإذا ولدت أنثى جعلت للنتاج، وإن كان ما في بطنها ميتا جعل شركة بين الذكر والأنثى، سيجزيهم الله جزاء وصفهم، إنه حكيم عليم.
ولقد نعى الله- سبحانه وتعالى- على مشركي العرب أمرين عظيمين: هما قتل الأولاد، ووأد البنات، وتحريم ما رزقهم الله من الطيبات، وحكم عليهم بالخسران والسفه، وعدم العلم والافتراء على الله، والضلال وعدم الاهتداء، إذ كيف تقتل ابنتك أو ابنك خشية الفقر أو العار، وتحرم طيبات أحلت لك؟
فأما الخسران فالولد نعمة من الله وزينة في الدنيا، فإذا سعى لإزالتها استحق الغضب من الله لاعتدائه، وقال الناس: إنه قتل ابنه خوف أن يأكل طعامه، وخسر عاطفة الأبوة، التي هي مصدر الرحمة والحنان. وجعلها مصدر الاعتداء والفناء... وأما السفه فهل هناك سفه أكثر من قتله ابنه وفلذة كبده خوف الفقر أو خوف العار؟ وربما كان الولد مصدر الخير لأهله، وهل من يفعل هذا لا يعد في مصاف الجهلاء؟ أعوذ بالله من عادات الجاهلية.
وأما الافتراء على الله، والكذب عليه، فقد جعلوه دينا وهم كاذبون، وأما ضلالهم فهم لم يرشدوا إلى الخير أصلا، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولم يسيروا وراء عقل ولا شرع.
أخرجه البخاري: «إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام».
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ.. إلى قوله.. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.
670
قدرة الله ونعمه والرد على المشركين [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤١ الى ١٤٤]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
671
المفردات:
أَنْشَأَ: خلق وأوجد بالتدريج. جَنَّاتٍ: بساتين الكروم والأشجار الملتفة الأغصان. سميت كذلك لأنها تجن الأرض، أى: تسترها. مَعْرُوشاتٍ:
محمولات على العرائش والدعائم التي توضع عليها كالسقف مثلا. حَمُولَةً:
ما أطاق الحمل والعمل من الإبل والبقر وغيرها. وَفَرْشاً: ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وصغار الإبل وغيرها، أو ما يتخذ صوفه للفرش. حَصادِهِ:
قطافه. الضَّأْنِ: ذوات الصوف من الغنم. الْمَعْزِ: وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار من الغنم.
المناسبة:
لما افترى الكفار على الله الكذب، وأحلوا وحرموا، وأشركوا معه غيره، دلهم على وحدانيته تعالى، ومظاهر قدرته، وأنه مصدر التشريع والتحريم لأنه هو الخالق وحده، المبدع لهذه الكائنات، وصاحب هذه النعم الجليلة.
المعنى:
وربكم القادر الرحيم بكم، الرحمن، هو الذي أنشأ تلك الجنان، وأبدع هذه البساتين، سواء منها المعروش القائم على العمد والسقف كبستان العنب، وغير المعروش كبقية الفواكه والأشجار، حتى العنب نفسه فيه المعروش وغير المعروش، وأنشأ النخل، وخص بالذكر لكثرته عند العرب، وشيوعه في بلادهم وانتفاعهم بكل ما فيه، حتى ضربوه مثلا للمؤمن ينتفع بكل أجزائه، وأنشأ الزرع الشامل لكل ما يزرع ويحرث مما هو أساس القوت وغيره كالقمح والشعير وغيرهما، وهذا النخل والزرع مع أنه يسقى بماء واحد، وفي تربة واحدة متشابهة في المنظر العام، إلا أنه يختلف في الأكل، فهذا الجيد، وذاك المتوسط أو الرديء، وهذا الحلو، وذلك المر... إلخ. فسبحانك يا رب!! أنت القادر الحكيم.
وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر العام، وغير متشابه في الطعم والأكل.
672
يا سبحان الله!! هذه التغيرات خلقت بطبعها أم لا بد لها من مغير؟ وهل هو الله سبحانه أو غيره من الشركاء والأصنام؟ أليس هو الله الرحمن الرحيم؟ ولو شاء لخلقنا ولم ينعم علينا بغذاء جميل المنظر، لذيذ الطعم، سهل التناول.
أليس هذا من مظاهر القدرة الكاملة والحكمة التامة والوحدانية الشاملة للذات والصفات والأفعال؟ فهذا الماء ذو الكثافة من رفعه في العود الأخضر إلى أعلى؟ حتى انتهى إلى ورق أخضر، ولون أزهر وجنى جديد، وطعم لذيذ، وشكل جميل، وهذا غذاء النحل يصير عسلا، وغذاء الظبى يصير مسكا، وغذاء الحيوان يصير روثا!! أين من يقولون خلق الكون بالطبع؟ أين من يكفرون بالرحمن؟! أين من يعصون الله في أرضه وتحت سمائه؟!! كلوا أيها الناس من ثمر هذا الزرع والجنات إذا أثمر، واشكروا نعمه عليكم، بأن تؤتوا حقه الذي فرض عليكم يوم حصاده وقطافه، قبل أن تشح به نفوسكم. ففيه حق معلوم للسائل والمحروم، وهذه هي الزكاة المطلقة التي وجبت في صدر الإسلام، ثم كانت الزكاة المقيدة المحددة الواجبة في الآيات المدنية، وها هي الأيام تثبت أن نظرية القرآن في وجوب الزكاة على الأغنياء كانت لمصلحة الأغنياء قبل الفقراء.
ولا تسرفوا فالإسراف خطأ مطلقا ولو في الشيء الحلال، ولا تسرفوا في الأكل، ولا تسرفوا في التصدق، وقد قيل: لا سرف في الخير ولا خير في السرف، والرأى هو التوسط.
وأنشأ من الأنعام كبارا تصلح للحمل والعمل، وصغارا كالفصلان والغنم والمعز مثلا، تفرش على الأرض للذبح، ويتخذ من شعرها ووبرها فرشا ولباسا.
كلوا مما رزقكم الله، وانتفعوا بلحمها ولبنها ووبرها وشعرها، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، فتحرموا ما أحل الله أو تحلوا ما حرم الله، فإن الشيطان عدوكم اللدود.
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «١» وهذه الأنعام ثمانية أزواج، فهي إبل وبقر وغنم ومعز، وكل منها ذكر وأنثى، وقد أنشأ الله من الضأن
(١) سورة البقرة آية ١٦٩.
673
اثنين: الكبش والنعجة، ومن المعز اثنين: التيس والعنزة، ومن الإبل اثنتين: الجمل والناقة، ومن البقر اثنتين: الثور والبقرة، قل لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا: أحرّم الله الذكرين من الكبش والتيس؟ أم حرم الأنثيين من النعجة والعنزة؟ نبئونى بعلم إن كنتم صادقين!! أم الله حرم الذكرين من الجمل والثور؟ أم حرم الأنثيين من الناقة والبقرة؟!! أم حرم الله ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ وقد كان المشركون في الجاهلية يحرمون بعض الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، فاحتج- سبحانه وتعالى- عليهم بأن لكل من الضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى، فإن كان قد حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما، وإن كان حرم- جل شأنه- الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، وجب تحريم الأولاد كلها.
والله- تعالى- ما حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع، وإنهم لكاذبون في دعوى التحريم، وقد فصل الله ذلك أتم تفصيل، مبالغة في الرد عليهم، ثم زاد في الإنكار فقال: بل أكنتم حضورا؟ أو قد وصاكم الله بهذا؟ كلا ما حصل هذا ولا ذاك، وإنما أنتم تفترون على الله الكذب، وتقولون على الله ما لا تعلمون، وبعد أن نفى طريق العلم. وهو التلقي من الرسل، أو من الله، أثبت أنه لا أحد أظلم ممن ثبت أنه افترى على الله الكذب، فيضل الناس بغير علم.
أما جزاؤكم: فإن الله لا يهدى القوم الظالمين، ولا يوفقهم إلى الخير أصلا.
ما حرمه القرآن وما حرمته التوراة من المأكولات [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
674
المفردات:
مُحَرَّماً: محظورا أو ممنوعا. طاعِمٍ يَطْعَمُهُ: آكل يأكله.
مَسْفُوحاً: مصبوبا سائلا يجرى من المذبوح. رِجْسٌ قذر قبيح.
شُحُومَهُما: المراد الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش، وكذا الشحم الذي يكون على الكلية. الْحَوايا: مجتمع الأمعاء في البطن. بَأْسُهُ: عذابه.
المعنى:
قل يا محمد: لا أجد فيما أوحى إلى محرما إلا هذه الأشياء، لا ما تحرمونه أنتم بشهوتكم، ووسوسة الشياطين لكم، والآية مكية، وقد أشارت إلى المحرمات بالجملة، ثم فصلت المحرمات في آية المائدة رقم (٣) وحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة «أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» على ما هو مفضل في كتاب الصيد والذبائح من كتب الفقه.
لا أجد في الذي أوحى إلى شيئا محرما على طاعم وآكل يأكله إلا هذه الأربعة، والمحرم في لسان الشرع: هو المحظور الممنوع، وفي اللغة عام يشمل المكروه، ولهذا اختلف العلماء فيما حرمه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
675
إنما حرم عليكم الميتة وهي ما ماتت حتف أنفها بغير ذبح شرعي، وذلك يشمل المخنوقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ونحوها، والدم المسفوح السائل يجرى من المذبوح، أما الجامد كالكبد والطحال فحلال،
وفي الحديث: «أحل لنا ميتتان:
السمك والجراد، ودمان: الكبد والطحال»

ولحم الخنزير وما يشبهه كالكلب فإن هذا كله رجس وقذارة، تعافها النفوس الطيبة وهو ضار بالبدن، وحرم كذلك ما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب والأزلام.
والمعنى:
إلا أن يكون ميتة... أو فسقا أهل لغير الله به: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ... ومن أصابته ضرورة ملحة إلى أكل المحرم فهو حلال له بشرط ألا يكون باغيا له وقاصده لذاته، وبشرط ألا يكون معتديا ومتجاوزا حد الضرورة، فإن ربك غفور للذنوب رحيم بالعباد، فلا يؤاخذ شخصا يأكل ما يسد به مخمصته، أو يدفع ضرر هلاكه.
هذا ما حرم في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالإجمال، وما حرمه الله على اليهود خاصة كان تحريما مؤقتا، عقوبة لهم لا لذاته: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [سورة النساء آية ١٦٠].
وعلى الذين هادوا- خاصة- حرمنا عليهم كل ذي ظفر، أى: ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط، كما ورد، وحرمنا عليهم من البقر والغنم دون غيرهما شحومها الزائدة التي تنتزع بسهولة، وهو ما على الكرش والكلى، أما الشحوم التي على الظهر وفي الذيل أو ما اختلط بعظم فحلال، بدليل قوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما وإلا ما حملته الأمعاء، فتلخص أن المحرم عليهم من الشحوم هو شحم الكرش والكلى فقط.
وإنما حرم الله عليهم ذلك عقوبة لهم في قتلهم الأنبياء بغير حق، وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا، واستحلالهم أموال الناس بالباطل.
وفي ذكر هذا تكذيب لليهود في قولهم: إن الله لم يحرم علينا شيئا، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه.
676
ولما كان هذا إخبارا عن شيء جرى قديما لم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولا لأحد من قومه علم به قال: وَإِنَّا لَصادِقُونَ ومن أصدق من الله حديثا؟ فإن كذبوك بعد هذا، وقالوا: إن الله رحيم واسع الرحمة، كريم، فكيف يحرم ما أحله؟ قل لهم: نعم ربكم ذو رحمة واسعة، ولكن من عصى وبغى لا بد من عقابه، فإنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين في حق أنفسهم وحق الله.
شبهة واهية [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٠]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
المفردات:
تَخْرُصُونَ الخرص: الحزر والتخمين، والمراد: تكذبون. الْحُجَّةُ:
الدلالة المبينة للدين الحق. هَلُمَّ أى: أحضروا. يَعْدِلُونَ: يتخذون له عدلا مساويا.
677
المعنى:
بعد أن ألزمهم بالحجة، أخبر الله عنهم أنهم سيتمسكون بحجة أوهى من بيت العنكبوت، فقال: سيقولون... ولما قالوا بالفعل حكى عنهم في آية أخرى: وقالوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا.
لو شاء الله ألا نشرك نحن ولا آباؤنا من قبل وألا نحرم شيئا من البحيرة والسائبة والحام، لما أشركنا ولما أشرك آباؤنا من قبل، ولما حرموا شيئا، ولكن شاء أن نشرك به غيره من الأولياء والشفعاء ليقربونا إلى الله زلفى، بدليل وقوعه بالفعل، وكذلك تحريمنا بعض الأنعام والحرث، والله عالم بكل ما يحصل، قادر على تغييره بما يشاء وإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى، وعلى رضاه وأمره بها: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. [سورة النحل آية ٣٥].
مثل ذلك التكذيب الذي صدر من المشركين العرب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به من الوحدانية لله، وقصر التشريع عليه- سبحانه وتعالى- كذب الذين من قبلهم رسلهم تكذيبا غير مبنى على حجة من العلم والعقل، إذ لو كانت مشيئة الله- تعالى- معناها رضاه عن عملهم، لما عاقبهم على أعمالهم حتى ذاقوا بأسه، وقال فيهم: أخذناهم بذنوبهم.
قل: هل عندكم من علم وحجة تحتجون بها وتعتمدون عليها، فتخرجوها لنا حتى تقرع الحجة بالحجة، وحتى يعرف الراجح بدليله وحجته من غيره الذي لم يعتمد على حجة وبرهان؟ الواقع أنكم ما تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، فلا يقين معكم ولا حجة عندكم، إن أنتم إلا تخرصون وتكذبون، قل لهم يا محمد: فلله الحجة البالغة، بما بيّن من الآيات، وأيد الرسل بالمعجزات، وألزم أمره كل مكلف، فأما إرادته وعلمه وكلامه فغيب لم يطلع عليه أحد.
ألم تر أن العبد لو أراد أن يفعل الخير لفعل، ولا مانع يمنعه، مع العلم بأن هناك لافتات بالخط الواضح العريض كتب عليها: «يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر
678
أقصر» كان، وللخير ثواب عظيم وللشر عقاب وعذاب أليم يوم القيامة، ذلك هو أساس التكليف ومناط الثواب والعقاب.
ولقد ذم الله هؤلاء المشركين لتعنتهم بالباطل، والحجج الواهية، لأنهم قالوا هذا عن هزؤ وسخرية، ولم يجتهدوا وينظروا نظر عقل وتدبر، ولو شاء الله لهداكم، وجعلكم من عباده المتقين، ولكن أراد أن يخلقكم ويترككم واختياركم فلا سلطان ولا قهر فيما كلفكم به، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، قل لهم: أحضروا شهداءكم الذين يشهدون لكم أن الله حرم هذا وإن شهدوا على سبيل الفرض فلا تشهد معهم، فهم الكاذبون ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، والذين لا يؤمنون بالآخرة وأحوالها، وما فيها من حساب أمام الله- سبحانه- وهم بربهم يعدلون..
أصول المحرمات والفضائل في الإسلام [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥١ الى ١٥٣]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)
679
المفردات:
تَعالَوْا: أقبلوا، والأصل أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه، ثم كثر واتسع فيه حتى عم. أَتْلُ: أقرأ. إِمْلاقٍ: فقر. الْفَواحِشَ:
ما عظم جرمه وذنبه، كالكبائر أو الخطيئة التي بلغت الغاية في الفحش. أَشُدَّهُ
كمال رجولته، وتمام حنكته ومعرفته.
المعنى:
لما بيّن الله- سبحانه وتعالى- فساد رأى المشركين فيما أحلوا وحرموا، وبين المحرمات شرعا- بالإجمال- في الطعام، أخذ في هذه الآية يبين أصول الفضائل، وأنواع البر، وأصول المحرمات والكبائر، ليعلم الناس أسس هذا الدين؟ وكيف دعا إلى الخير والبر، من أربعة عشر قرنا؟ في وقت سادت فيه الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء!! أليست هذه الآيات من دلائل الإعجاز وعلامات صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم؟
قل لهم: أقبلوا علىّ واحضروا، أقرأ عليكم الذي حرمه ربكم لتجتنبوه وتتمسكوا بضده، أقبلوا على أيها القوم. لتروا ما حرّم عليكم من ربكم، الذي له وحده حق التشريع والتحليل والتحريم، وأنا رسوله ومبلغ عنه فقط، تقدموا واقرءوا حقا يقينا لا شك فيه، كما أوحى إلىّ ربي، لا ظنّا ولا كذبا- كما زعمتم- وها هي ذي الوصايا العشر: خمس بصيغة النهى، وخمس بصيغة الأمر.
١- الإيمان بالله وعدم الإشراك به أساس الإسلام ولبه، ودعامته وروحه، ولذا بدأ به: ألا تشركوا بالله شيئا من مخلوقاته، وإن عظم في الخلق والشكل كالشمس والقمر، أو في المكانة كالملائكة والنبيين، فالكل- مهما كان- مخلوق مسخر له تعالى:
680
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً «١» فيجب عليكم أن تخصوه وحده بالعبادة والتعظيم الحقيقي، والتقديس والدعاء والإجلال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء آية ٤٤].
٢- وبالوالدين إحسانا: أى أحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا، بإخلاص لله سبحانه، فما بالكم بالإساءة مهما قلت؟! وأما العقوق فكبيرة من الكبائر، والقرآن الكريم قرن الأمر بعبادة الله بالإحسان للوالدين، وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «٢». أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «٣»
ولقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أى العمل أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها».
قلت: ثم أى؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أى؟ قال: «الجهاد في سبيل الله».
وهذا دليل على عظم العناية بحقوقهما وعلى أن مكانتهما تستحق ذلك، فهما قد خلقا الجسم في الظاهر، والله سبحانه هو الخالق حقيقة وفي الواقع والمراد بالإحسان إليهما معاملتهما معاملة كريمة، معاملة مبنية على العطف والمحبة، لا الخوف والرهبة، فبرهما سلف لك ودين،
فقد ورد في الحديث «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم»
. وأنت في شبابك قد لا تحتاج إلى الغير. ولكن في كبرك محتاج إلى من يعينك، ويقوم بأمورك، ومحبة الوالد لولده غريزة من الغرائز، فلم يوص عليها الشرع، ومحبة الولد لوالديه جزاء ومكافأة لهما، ولذا نبه القرآن عليهما وشدد، على أن عقوق الوالدين يفسد الأبناء وتكوينهم وينشئهم على الغلظة وعدم الشفقة، وعلى الوالدين حسن الرعاية والعناية والعطف عليهم، وعدم التحكم في المسائل الشخصية الخاصة إلا بقدر محدود.
٣- ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم: أليس وأد البنات، وقتل الذكور سبة وعارا؟ أليس دليلا على الجاهلية والقسوة بل ومنتهى الغلظة؟ التي تخالف غرائز الإنسان وطبائعه؟ ولم تقتلون؟ ألفقر حاصل؟ أم لفقر متوقع؟ أم لعار سيلحق؟ فالله يرزقكم وإياهم، فلا تخافوا الفقر الحاصل والله يرزقهم وإياكم، فلا تخشوا الفقر المتوقع، وأما العار خوف الفضيحة، فيرجع إلى البيئة وحسن التنشئة.
٤- ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن: نعم لا تأتوا الفواحش وما عظم جرمه وإثمه، بل ولا تأخذوا بأسبابه، ولا تقربوا من مقدماته، ومن هنا كان النظر إلى
(١) سورة مريم آية ٩٣.
(٢) سورة الإسراء آية ٢٣.
(٣) سورة لقمان آية ١٤.
681
الأجنبية والاختلاط بها حراما، لأنه مقدمة للزنا والباب إليه، ونحن منهيون عن القرب من الفواحش- كالزنا وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات- سواء ما ظهر منها، وما بطن، وكانوا في الجاهلية لا يرون بأسا في الزنا سرا، أما في العلانية فكانوا يعدونه قبيحا، فحرم الله النوعين،
وقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحد أغير من الله، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن».
٥- ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فالقتل جريمة كبرى، واعتداء شنيع على صنع الخالق الذي أتقن كل شيء خلقه، ومن هنا كان من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله- سبحانه وتعالى-
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله»
وفي الحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاثة أمور: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق»
فكل نفس مسلمة قتلها حرام إلا إن ارتكبت إحدى ثلاث، الزنا مع الإحصان، والقتل عمدا، والردة عن الإسلام، وأما الكافر والمعاهد المقيم بيننا فله حرمة، فلا يقتل ما دام لم تكن منه إساءة للدين من قرب أو بعد، أو إساءة للوطن كذلك، ذلكم وصاكم به الله، وأرشدكم، لتعقلوا الخير والمنفعة في فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، إذ هو مما تدركه العقول، وفي هذا تعريض بأن ما هم عليه لا يعقل له معنى، ولا تظهر له فائدة عند ذوى العقول الراجحة.
٦- ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ولا تأكلوا من ماله إذا تعاملتم معه إلا على الصورة التي هي أحسن في حفظ ماله وتثميره، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه، وما به يصلح معاشه، والنهى عن القرب عن الشيء أبلغ من النهى عن الشيء نفسه، لا تقربوه حتى يبلغ أشده. أى: حتى يبلغ مبلغ الرجال. ويصير ذا حنكة وتجربة تمكنه من إدارة ماله. على وجه حسن. ويكون ذلك عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة. فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [سورة النساء آية ٦].
٧، ٨- وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، نعم أوفوا الكيل إذا كلتم، أى: إذا بعتم أو اشتريتم، وكذلك زنوا بالقسطاس المستقيم في البيع والشراء، فالتطفيف في الكيل والزيادة في الوزن والنقص فيهما كل ذلك من الكبائر، لما يترتب عليه من هضم
682
للحقوق وضياع للأموال، واعتداء على الغير بوجه غير مشروع: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ.
لا نكلف نفسا إلا وسعها وجهدها وطاقتها، فهذه الوصايا كلها في مقدور المؤمن العادي، وأما خصوص الكيل والميزان، فالمأمور به ما يدخل تحت وسعه وإمكانه، وما عداه فمعفو عنه.
٩- وإذا قلتم فاعدلوا، ولو كان ذا قربى، أى: فاعدلوا في القول ولا تتجاوزوا فيه الحد المقبول شرعا، ولو كان الذي تقولون فيه من ذوى القربى. إذ بالعدل تبنى أسس الدولة، وتصلح شئون الأمم والأفراد. فهو ركن العمران، وأساس النجاح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سورة المائدة آية ٨].
١٠- وبعهد الله أوفوا: أى وأوفوا بعهد الله إذا تعاهدتم، سواء أكان عهدا بين الله والناس على ألسنة الرسل في الكتب المنزلة، أو بين الناس وبعضهم: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ذلكم وصاكم الله بهذا لعلكم تذكرون وتتعظون، أى:
رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر الله به.
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، نعم هذا هو القرآن الذي أدعوكم إليه. صراط الله المستقيم، الذي لا عوج فيه، بل فيه سعادة الدنيا والآخرة وهو حبل الله المتين، من تمسك به نجا، ومن اعتصم به هدى، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ولا تتبعوا السبل فتضلوا عن طريق الحق والخير:
«ولقد خط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا أخرى عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه السبل، ليس فيها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.
نعم الحق واحد، والنور واحد، والإله واحد، والباطل متعدد الألوان والأشكال، والظلمات كثيرة الأنواع: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ولا تتبعوا
683
الطرق المختلفة في الدين أو غيره فتفرقكم أيدى سبأ، وتصبحوا نهبا للخلافات والأحزاب، التي تمزقكم شر ممزق: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تتقون الله وتخشونه في كل أوامره وفعلها، ونبذ النواهي وتركها، ولقد كرر التوجيه على سبيل التوكيد، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع لنواحى الدين في تكاليفه، ختم ذلك بالتقوى التي هي السبيل الأقوى، واتخاذ الوقاية من النار، إذ من اتبع صراطه المستقيم نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية.
روى عن ابن مسعود- رضى الله عنه- أنه قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد صلّى الله عليه وسلّم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات: قُلْ تَعالَوْا.. إلى قوله تعالى: تَتَّقُونَ وروى عن الربيع بن خيثم: «أيسرك أن تلقى صحيفة من محمد صلّى الله عليه وسلّم بخاتمه؟ قلت: نعم. فقرأ هذه الآيات من آخر سورة الأنعام: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ.. إلى قوله: تَتَّقُونَ.
القرآن مع من يؤمن به ويكفر [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٤ الى ١٥٧]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
684
المفردات:
طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا: هم اليهود والنصارى. دِراسَتِهِمْ: قراءتهم وعملهم. بَيِّنَةٌ البينة والبيان: ما به يظهر الحق. وَصَدَفَ عَنْها: ومنع الناس عنها.
المعنى:
لقد تكلم القرآن الكريم على أسس الدين وأصوله، ووصاياه، ثم قفّى ذلك بالحديث عن القرآن وأثره، ورد بعض شبه المعاندين، وافتتح ذلك بالكلام على التوراة، فهي أشبه بالقرآن من الإنجيل والزبور، لاشتمالها على الأحكام كثيرا.
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وهو: كذا وكذا، إلى آخر الوصايا العشر السابقة، ثم أخبركم بأنا آتينا موسى الكتاب من قبل تماما للنعمة والكرامة والخير والهداية على المؤمن المحسن.
نعم كان تماما على من أحسن، ويؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ: (تماما على الذين أحسنوا)، أى: في اتباعه والنظر فيه، والاهتداء بهديه وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء، من أحكام الشريعة: عبادتها ومعاملتها، وهدى لمن اهتدى به، ورحمة لمن تمسك به، ليجعل قومه محل رجاء للإيمان بالله، والفوز في دار الكرامة ودار السلام.
أرأيت إلى القرآن وهو يصف التوراة بهذا؟
وهذا القرآن الذي تليت عليكم آياته البينات بأسلوبه العربي المعجز، هو الكتاب لا ريب فيه وأنزلناه كثير البركات عظيم الشأن، كثير الخير، في الدين والدنيا، قد جاء بأكثر مما جاءت به التوراة، فاتبعوا ما هداكم إليه واجتنبوا ما نهاكم عنه، فهو حبل الله المتين، ونوره اليقين، جمع طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، فاعملوا به لعلكم ترحمون في حياتكم ومماتكم.
أنزلنا إليكم هذا الكتاب المرشد إلى توحيد الله، والهادي إلى سبيله، والموصل إلى تزكية النفوس وتطهيرها من أدران الشرك والفسوق والعصيان، لئلا تقولوا أيها العرب
685
يوم الحساب: إنما أنزل الكتاب على اليهود والنصارى من قبلنا، وإن كنا عن دراستهم وقراءة كتبهم وتفهمها لغافلين، لا ندري ما هي؟ لأنها بلسان غير عربي. ولأنا مشغولون. بغيرها ولم ندع إليها.
ولئلا تقولوا كذلك: لو أنا أنزل علينا الكتاب الهادي إلى سواء السبيل لكنا أهدى منهم، وأحسن حالا لصفاء نفوسنا، وقوة عزائمنا، وذكاء عقولنا وإرهاف إحساسنا وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ
فرد الله عليهم بقوله تبكيتا لهم وتأنيبا: إن صدقتم فيما تقولون، فقد جاءكم كتاب بيّن الحق واضح الحجج، قوى البرهان، تام الأصول والفروع والأحكام، فهو البينة الفاصلة، والحجة الكاملة، وهو هاد لمن تدبره واتعظ به، ورحمة عامة للناس، لما فيه من الدعوة إلى المثل العليا زيادة عن الدعوة إلى الدين الحق، وإذا كان الأمر كذلك، فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله؟. نعم لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله! التي على هذا الوصف ومنع الناس عنها، وعن النظر فيها والإيمان بها وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ سنجزى الذين يمنعون الناس عن الإيمان بآياتنا العذاب السيئ الشديد، إذ هم يحملون أوزارهم وأوزارا مع أوزارهم: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ.
تهديد وإنذار [سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٨]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
المفردات:
يَنْظُرُونَ: ينتظرون.
686
المعنى:
بعد ما وصف الله القرآن وأثره، وأنذر من يكذبه بصارم العقاب، أتبع هذا بحقيقة المشركين وما ينتظرون، هل ينتظر هؤلاء إلا أن تأتيهم الملائكة كما اقترحوا؟ أو يأتى ربك كما طلبوا وقالوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا، أو تأتيهم بعض آيات ربك التي اقترحوها بكفرهم كقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا.. ونحو ذلك، فهم في الحقيقة لا ينتظرون إلا مجيء الملائكة، أو مجيء ربك، أو مجيء بعض آيات ربك، فهم متمادون في التكذيب، ولا أمل فيهم أبدا، ولا خير فيهم أصلا، وقيل: هم لا ينتظرون إلا ملائكة الموت أو أمر الله، أى: وعده ووعيده. لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[سورة النحل آية ٢٣] يوم يأتى بعض آيات ربك: الآيات الدالة على قرب قيام الساعة، أو بعض الآيات الموجبة للإيمان الاضطراري، لا ينفع هذا الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل، فإن الإيمان تكليف وعمل واختيار، وليس في هذا الوقت واحد منها، ولا ينفع هذا الإيمان نفسا آمنت من قبل، ولم تعمل عملا صالحا. إذ ليس الإيمان وحده كافيا في سقوط العذاب عن الشخص، بل لا بد من إيمان وعمل، ولذلك كان القرآن دائما يقرن الإيمان بالعمل: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
وقد ورد في الحديث أن بعض الآيات هي طلوع الشمس من المغرب
، واضطراب هذا الكون... أخرج أحمد،
والترمذي عن أبى هريرة: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض».
قل لهم يا محمد: انتظروا ما تتوقعون من إماتة الدعوة، وقتل الرسول، وهلاك الدين، إنا منتظرون أمر ربنا ووعده الصادق لنا، ووعيده المتحقق لأعدائنا فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ.
687
وهذا تهديد ووعيد شديد، إذ هم ينتظرون أمرا قد قضى الله فيه، إذ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
عاقبة الاختلاف والجزاء على العمل [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
روى أبو داود والترمذي عن معاوية قال ما معناه: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة (ملة) وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار، وفرقة واحدة في الجنة، وهي الجماعة».
وعلى هذا تكون الآية الكريمة شاملة لأهل الكتاب، ولغيرهم من فرق المسلمين، وهي مسوقة للتحذير من الاختلاف واتباع الآراء والبدع والمتشابهات، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على شرع أنبيائهم وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [سورة آل عمران آية ١٠٥] وقد ورد: اللهم إيمانا كإيمان العوام، إيمان بعيد عن الشبه والخلافات الضارة.
إن الذين فرقوا دينهم واختلفوا فيه، وأقروا ببعض وكفروا ببعض، وأوّلوا نصوصه على حسب أهوائهم ونزعاتهم، وكانوا شيعا كل شيعة تدين برأى إمامهم، وتتعصب له، لست أنت يا رسول الله من قتالهم وسؤالهم وعقابهم في شيء، وإنما عليك تبليغ الرسالة، وإظهار شعائر الدين الحق الذي أمرت بالدعوة إليه، أنت يا محمد برىء منهم وهم منك براء، إنما أمرهم وحسابهم على الله وحده، ثم ينبئهم في الآخرة ويجازيهم أحسن الجزاء بما كانوا يفعلون.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس- رضى الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه قال: «إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات فمن همّ بحسنة ولم يفعلها كتبت له عند الله حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة».
من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة، والفعلة الطيبة، جازاه الله عليها عشر حسنات والمضاعفة بعد ذلك إلى سبعمائة أو ما شاء بعد ذلك من زيادة فالله أعلم بها، تختلف على حسب مشيئته تعالى وعلمه بأحوال المحسنين، إذ من يبذل درهما ونفسه غير راضية لا يكون كمن ينفقه طيبة به نفسه، مسرورة بعملها.
ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها فقط، وهم لا يظلمون، أى: لا ينقصون من أعمالهم شيئا: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٤٧].
التوحيد والإخلاص في العقيدة [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦١ الى ١٦٤]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
689
المفردات:
دِيناً قِيَماً: يقوم به أمر الناس ونظامهم في الدنيا والآخرة، أو قائما مستقيما لا عوج فيه. حَنِيفاً: مائلا عن الضلالة إلى الاستقامة، والمراد: مائلا عن الأديان الباطلة إلى دين الإسلام. وَنُسُكِي: عبادتي من حج وغيره. وَمَحْيايَ وَمَماتِي المراد: ما آتيه في حياتي وموتى. وازِرَةٌ الوزر: الحمل الثقيل، والمراد النفس الآثمة المذنبة.
المعنى:
هذا ختام سورة جامعة لأصول التوحيد، شارحة للعقيدة الإسلامية وبخاصة أحوال البعث والجزاء، وإثبات الرسالة وما يتبع ذلك، ولهذا كان ختامها خلاصة لما تقدم.
قل يا محمد: إننى هداني ربي، ووفقني إلى صراط مستقيم لا عوج فيه، هو الدين القيم الموصل إلى سعادة الدارين، الذي يقوم به أمر الناس في معاشهم ومعادهم، وبه يصلحون، هذا الدين هو ملة أبيكم إبراهيم الخليل، فالتزموه حال كونه حنيفا مائلا عن جميع وسائل الشرك والباطل إلى الدين الحق الذي من دعائه في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وما كان إبراهيم من المشركين أبدا، فأما من يتخذ الأصنام آلهة ويعتقد أن الملائكة بنات الله، أو عزير أو المسيح ابن الله، فهؤلاء هم المشركون، وليسوا على ملة إبراهيم: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا «١» هذا الدين هو دين الإخلاص والعمل لله، هو الذي ارتضاه لأنبيائه ورسله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «٢». وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «٣» هذا هو التوحيد الخالص في العقيدة.
قل لهم يا محمد: إن صلاتي ودعائي، ونسكي وعبادتي وما آتيه في حياتي كلها! بل وحياتي وموتى، كل ذلك خالص لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال أمر الله.
(١) سورة النساء آية ١٢٥.
(٢) سورة آل عمران آية ١٩.
(٣) سورة آل عمران آية ٨٥.
690
والآية الشريفة جامعة لكل أعمال المسلم، فيجب عليه أن يوطد العزم، ويعقد النية على صلاته وعبادته، وحياته وما يأتيه فيها، وموته وما يلاقي فيه، كل ذلك لله لا لشيء آخر، فإن عاش فلله، له الحكم، وله الأمر.
ولست أبالى حين أقتل مسلما على أى جنب كان في الله مصرعي
فالمسلم لا يحرص على الحياة، ولا يرهب الموت، بل يكون الموت في سبيل الله أسمى أمانيه، لا يقعد عن الجهاد، ولا يتوانى عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهكذا كان جند الرحمن، الصحابة- رضوان الله عليهم- قل لهم يا محمد: أغير الله أبغى رباّ؟ وأشركه في العبادة وأتوجه إليه في الدعاء، والله سبحانه رب كل شيء، وخالق كل شيء. فالقرآن صريح جدّا في أن كل قربى أو عبادة أو دعاء لا يكون إلا لله وحده، وهذا هو الدين الخالص.
ولا تكسب كل نفس إثما أو ذنبا إلا كان عليها جزاؤه ووزره، ولا تزر نفس وزر غيرها أبدا، بل كل نفس بما كسبت رهينة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، فهذا هو الدين. دين العمل والجد لا دين الأمانى والغرور الكاذب.
وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح للمجتمع البشرى، ومن أعلى مزايا الدين الإسلامى، ومن أقوى معاول الهدم للوثنية في أى صورة من صورها.
ثم إلى ربكم مرجعكم لا إلى غيره، ثم هو وحده ينبئكم ويجازيكم على أعمالكم التي كنتم فيها تختلفون.
سنة الله في الخلق [سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٥]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
691
المعنى:
هذا هو الدواء ليس غير، وهذا هو العلاج فحسب، به تهدأ النفوس وتطمئن القلوب.
فنحن خلائف من تقدمنا، فليس لنا بقاء، وكما وصلت إليها ستخرج منها، ونحن خلائف فلا ملك لنا ولا تصريف في الواقع: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «١» إذا كان هذا فلم هذا التناحر، والتهالك، والتباغض، والتكالب؟ ولماذا تبخلون بما جعلكم مستخلفين فيه؟
والله- سبحانه- رفع بعضكم فوق بعض درجات في العلم، والعمل، والغنى والفقر، ليبلوكم جميعا، كل بما عنده، فيختبر الغنى. هل يؤدى زكاة ماله؟ هل يتصدق بالفضل من ماله؟ هل يعطف على الفقير والمحتاج والمسكين أم هو نهم جشع، صلد، صلب كالحجر؟ نعم ويبلو الفقير هل يصبر ويرضى أم يشكو ويكفر؟
وإذا كان الله- سبحانه- قد رفع بعضنا فوق بعض، فما علينا إلا العمل والجد والصبر والرضا بقضاء الله وقدره، واعتقاد أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ «٢».
وعلى الجملة فهذا علاج نفسي لسل السخائم والتحاسد، والعلاج الاقتصادى معروف تشير إليه الآية أيضا وهو الاشتراكية الإسلامية الممثلة في الزكاة المطلقة والمقيدة والنظم المالية المعروفة في الفقه الإسلامى فقط والذي يوحى به مجتمعنا الإسلامى العربي.
إن ربك سريع العقاب، شديد العذاب، لا يهمل وإن أمهل، يمكّن للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. يخلق في الضعيف المسكين قوة يحار لها الملك الجبار، فاعتبروا بما مر بنا في هذه الأيام: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «٣». وإنه لغفور لكل تائب رحيم بكل محسن.
(١) سورة الحديد آية ٧.
(٢) سورة الحديد آية ٢٤.
(٣) سورة الشورى آية ٣٠. [.....]
692
Icon