تفسير سورة الأنعام

زاد المسير
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الأنعام

فصل في نزولها


روى مجاهد عن ابن عباس : أن ( الأنعام ) مما نزل بمكة، وهذا قول الحسن، وقتادة، وجابر بن زيد.
وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس، قال : نزلت سورة ( الأنعام ) جملة ليلا بمكة، وحولها سبعون ألف ملك.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هي مكية، نزلت جملة واحدة، ونزلت ليلا، وكتبوها من ليلتهم، غير ست آيات وهي ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. . . ﴾ إلى آخر الثلاث آيات [ الأنعام : ١٥١- ١٥٣ ] وقوله :﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. . . ﴾ الآية [ الأنعام : ٩١ ]. وقوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ ﴾ إلى آخر الآيتين [ الأنعام : ٩٣، ٩٤ ]. وذكر مقاتل نحو هذا. وزاد آيتين : قوله :﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِالْحَقّ ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ]، وقوله :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ. . . ﴾ [ الأنعام : ٢١ ].
وروي عن ابن عباس، وقتادة قالا : هي مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة ؛ قوله :﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. . . ﴾ الآية [ الأنعام : ٩١ ]. وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ]. وذكر أبو الفتح ابن شيطا : أنها مكية، غير آيتين نزلتا بالمدينة ﴿ قُلْ تَعَالَوْا. . ْ. ﴾ والتي بعدها [ الأنعام : ١٥١، ١٥٢ ].

مكية، غير آيتين نزلتا بالمدينة قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، والتي بعدها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأنعام (٦) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)
فأمّا التّفسير، فقال كعب: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمتها خاتمة هود وإنما ذكر السّماوات والأرض، لأنهما من أعظم المخلوقات. والمراد «بالجَعل» : الخلق. وقيل: إنّ «جعل» هاهنا: صلة والمعنى: والظلمات. وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال: أحدها: الكفر والإيمان، قاله الحسن.
والثاني: الليل والنهار، قاله السدي. والثالث: جميع الظّلمات والأنوار. قال قتادة: خلق السّماوات قبل الأرض، والظلماتِ قبل النور، والجنةَ قبل النار.
قوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: المشركين بعد هذا البيان بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أي:
يجعلون له عَدِيلاً، فيعبدون الحجارة المواتَ، مع إِقرارهم بأنه الخالق لِما وُصِف. يقال: عدلت هذا بهذا: إِذا ساويته به. قال أبو عبيدة: هو مقدَّم ومؤخَّر، تقديره: يعدلون بربهم. وقال النّصر بن شميل:
الباء: بمعنى «عن».
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعني: آدم، وذلك أنه لما شك المشركون في البعث، وقالوا: من يحيي هذه العظام؟ أعلمهم أنه خلقهم من طين، فهو قادر على إِعادة خلقهم.
قوله تعالى: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فيه ستة اقوال «١» : أحدها: أن الأجل الأول: أجل الحياة إلى الموت والأجل الثّاني: أجل الموت إلى البعث، روي عن ابن عباس، والحسن، وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، ومقاتل. والثاني: أن الأجل الأول: النوم الذي تُقْبَضُ فيه الروح، ثم ترجع في حال اليقظة والأجل المسمى عنده: أجل موت الإِنسان. رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن الأجل الأول: أجل الآخرة متى يأتي، والأجل الثاني: أجل الدنيا، قاله مجاهد في رواية.
والرابع: أن الأول: خلق الأشياء في ستة أيام، والثاني: ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة، قاله عطاء الخراساني. والخامس: أن الأول: قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه، والثاني: الحياة في الدنيا، قاله
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ١٤٨: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم قضى أجل الحياة الدنيا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو أجل البعث عنده. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب. لأنه تعالى ذكره نبّه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس إن الذي يعدل به كفاركم الآلهة والأنداد هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين، فجعلكم صورا أجساما أحياء بعد إذ كنتم طينا جمادا، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم ليعيدكم ترابا وطينا كالذي كنتم قبل أن ينشئكم ويخلقكم، وأجل مسمى عنده لإعادتكم أحياء وأجساما كالذي كنتم قبل مماتكم. وذلك نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: ٢٨].
ابن زيد، كأنه يشير إِلى أجل الذرية حين أحياهم وخاطبهم. والسادس: أن الأول: أجل من قد مات من قبل، والثاني: أجل من يموت من بعد، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ أي بعد هذا البيان تَمْتَرُونَ وفيه قولان: أحدهما: تشكّون قاله قتادة، والسدي. وفيما شكوا فيه قولان: أحدهما: الوحدانية. والثاني: البعث. والثاني: يختلفون: مأخوذ من المراء، ذكره الماورديّ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)
قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ فيه أربعة اقوال «١» : أحدها: هو المعبود في السماوات وفي الأرض، قاله ابن الأنباري. والثاني: وهو المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض، قاله الزجاج. والثالث: وهو الله في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، قاله ابن جرير.
والرابع: أنه مقدَّم ومؤخَّر. والمعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض، ذكره بعض المفسّرين.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤ الى ٥]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)
قوله تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ نزلت في كفار قريش. وفي «الآية» قولان:
أحدهما: أنها الآية من القرآن. والثاني: المعجزة، مثل انشقاق القمر.
والمراد بالحق: القرآن. والأنباء: الأخبار. والمعنى: سيعلمون عاقبة استهزائهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
قوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ القرن: اسم أهل كل عصر. وسمُّوا بذلك، لاقترانهم في الوجود: وللمفسرين في المراد بالقرن سبعة أقوال «٢» :
(٤٩٠) أحدها: أنه أربعون سنة، ذكره ابن سيرين عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ثمانون سنة، رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.
عزاه المصنف لابن سيرين عن النبي ﷺ وهذا مرسل فهو واه، ولم أقف على إسناده، وهو منكر، والمحفوظ ما بعده.
__________
(١) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ١٦٠: أصح الأقوال أنه: المدعو الله في السماوات وفي الأرض، أي يعبده ويوحده ويقرّ له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغبا ورهبا، إلا من كفر من الجن والإنس. وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي: هو إله من في السماء وإله من في الأرض وعلى هذا فيكون قوله يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ خبرا أو حالا.
(٢) الراجح من هذه الأقوال هو القول الثالث: حيث ورد مرفوعا وهو حديث قوي.
9
(٤٩١) والثالث: مائة سنة، قاله عبد الله بن بسر «١» المازني وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
والرابع: مائة وعشرون سنة، قاله زُرارة بن أوفى، وإياس بن معاوية. والخامس: عشرون سنة، حكاه الحسن البصري. والسادس: سبعون سنة، ذكره الفراء. والسابع: أن القرن: أهل كل مدة كان فيها نبيٌّ، أو طبقة من العلماء، قلَّتِ السّنون، أو كثرت بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:
(٤٩٢) «خيركم قرني» يعني: أصحابي «ثم الذين يلونهم» يعني: التابعين «ثم الذين يلونهم» يعني: الذين أخذوا عن التابعين. فالقرن: مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان فهو في كل قوم على مقدار أعمالهم.
واشتقاق القرن: من الاقتران. وفي معنى ذلك الاقتران قولان: أحدهما: أنه سمي قرنا، لأنه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه أهل ذلك الزمان في بقائهم. هذا اختيار الزجاج. والثاني: أنه سمي قرناً، لأنه يَقْرِنُ زماناً بزمانٍ، وأُمَّةً بأمَّةٍ، قاله ابن الأنباري. وحكى ابن قتيبة عن أبي عبيدة قال: يرون أن أقل ما بين القرنين: ثلاثون سنة.
قوله تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: أعطيناهم ما لم نُعطِكم. يقال: مكَّنتُه ومكَّنتُ له: إذا أقدرته على الشيء باعطاء ما يصح به الفعل من العدة. وفي هذه الآية رجوع من الخبر إلى الخطاب. فأما السماء: فالمراد بها المطر. ومعنى «أرسلنا» : أنزلنا. و «المدرار» : مفعال، من درَّ يَدِرُّ والمعنى: نرسلها كثيرة الدَّرِّ. ومِفعال: من أسماء المبالغة، كقولهم: امرأة مذكار: إذا كانت كثيرة الولادة للذكور، وكذلك مئناث. فان قيل: السماء مؤنَّثَة، فلم ذكَّر مدراراً؟! فالجواب:
أن حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه، أن يلزم التذكير في كلِّ حال، سواء كان وصفاً لمذكّر أو مؤنّث كقولهم: امرأة مذكار، ومعطار وامرأة مذكر، ومؤنث: وهي كفور، وشكور. ولو
ورد ذلك مرفوعا وهو حديث قوي. علقه البخاري في «التاريخ الكبير» ١/ ٣٢٣ و «الصغير» ١/ ٢١٦ قال: قال داود بن رشيد حدثنا أبو حياة شريح بن يزيد الحضرمي عن إبراهيم بن محمد بن زياد عن أبيه عن عبد الله بن بسر أن النبي ﷺ قال: «يعيش هذا الغلام قرنا»، فعاش مائة سنة. وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٦١١٩ بأتم منه وقال رواه الطبراني والبزار باختصار إلا أنه قال: قال رسول الله ﷺ «ليدركن قرنا» ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي، وهو ثقة اهـ.
وورد بنحوه عن الحسن بن أيوب الحضرمي قال: أراني عبد الله بن بسر شامة في قرنه فوضعت إصبعي عليها فقال: وضع رسول الله ﷺ إصبعه عليها وقال: «لتبلغن قرنا» أخرجه أحمد ٤/ ١٨٩ والطبراني كما في «المجمع» ١٦١٢٠. قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب، وهو ثقة، ورجال الطبراني ثقات اهـ. وانظر «الإصابة» ٢/ ٢٨١- ٢٨٢ (٤٥٦٥).
الخلاصة هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده.
حديث صحيح. لكن لفظ «يعني... » ليس من الحديث. أخرجه البخاري ٢٦٥١ و ٣٦٥٠ و ٦٤٢٨ و ٦٦٩٥ ومسلم ٢١٤ و ٢١٥ و ٢٥٣٥ وأبو داود ٤٦٥٧، والترمذي ٢٢٢٢ والنسائي ٧/ ١٧ و ١٨، والطيالسي ٨٥٢ وأحمد ٤/ ٤٢٧ و ٤٣٦ و ٤٤٠ وابن حبان ٦٧٢٩. والبيهقي ١٠/ ١٢٣ و ١٦٠ وفي «الدلائل» ٦/ ٥٥٢. من حديث عمران بن حصين. وله شواهد.
__________
(١) وقع في المطبوع «بشر» والمثبت عن كتب الحديث والتراجم.
10
بُنيتْ هذه الأوصاف على الفعل، لقيل: كافرة، وشاكرة، ومُذْكِرَة فلما عدل عن بناء الفعل، جرى مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة كقولهم: النعلَ لبستُها، والفأسَ كسرتُها، وكان إيثارهم التذكير للفرق بين المبني على الفعل، والمعدول عن مِثْلِ الأفاعيل. والمراد بالمدرار:
المبالغة في اتصال المطر ودوامه يعني: أنها تَدِرُّ وقت الحاجة إليها لا أنها تدوم ليلاً ونهاراً، فتفسد، ذكره ابن الأنباري.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ.
(٤٩٣) سبب نزولها: أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة، يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
قال ابن قتيبة: والقرطاس: الصحيفة، يقال للرامي إذا أصاب الصحيفة: قَرْطَسَ. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: القرطاس قد تكلموا به قديماً. ويقال: إن أصله غير عربي. والجمهور على كسر قافه، وضمها أبو رزين، وعكرمة، وطلحة، ويحيى بن يعمر.
فأما قوله تعالى: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فهو توكيد لنزوله، وقيل: إنما علَّقه باللمس باليد إبعاداً له عن السحر، لأن السحر يُتَخَيَّلُ في المرئيات دون الملموسات. ومعنى الآية: إنّهم يدفعون الصّحيح.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨)
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ قال مقاتل:
(٤٩٤) نزلت في النَّضْر بن الحارث، وعبد الله بن أبي أُمية، ونوفل بن خويلد.
و «لولا» بمعنى «هلاّ» أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ نصدقه: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً فعاينوه ولم يؤمنوا، لَقُضِيَ الْأَمْرُ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: لماتوا، ولم يؤخروا طرفة عين لتوبة، قاله ابن عباس.
والثاني: لقامت الساعة، قاله عكرمة، ومجاهد. والثالث: لعجل لهم العذاب، قاله قتادة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩]
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)
لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب، وهو محمد بن السائب الكلبي، وهو ساقط الرواية، ممن يضع الحديث. وعزاه البغوي ٢/ ١١٠ للكلبي ومقاتل، ومقاتل أيضا يضع الحديث. وانظر «أسباب النزول» ٤٢٢ للواحدي.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق وهو كذاب وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» ٣/ ٨ عن محمد بن إسحاق قال: دعا رسول الله ﷺ قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم، فيما بلغني، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث، وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله في ذلك من قولهم.
قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ أي: ولو جعلنا الرسول إليهم مَلكَاً، لجعلناه في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون رؤية المَلَك على صورته، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ أي: لشبَّهنا عليهم. يقال: ألبست الأمر على القوم، أُلبِسه أي: شبهته عليهم، وأشكلته. والمعنى: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكّوا، فلا يدرون أمَلَكٌ هو أم آدميٌ؟ فأضللناهم بما به ضلّوا قبل أن يُبعث المَلَك. وقال الزجاج: كانوا يلبسون على ضعفتهم في أمر النّبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم فقال تعالى: لو رأوا المَلَك رجلاً، لكان يلحقهم فيه من الَّلبْسِ مثلُ ما لحق ضعفتهم منه. وقرأ الزّهريّ، ومعاذ القارئ، وأبو رجاء: «وللبّسنا»، بالتشديد، «عليهم ما يلبّسون»، مشدّدة أيضا.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
قوله تعالى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا أي: أحاط. قال الزجاج: الحيق في اللغة: ما اشتمل على الإِنسان من مكروه فعله، ومنه: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «١» أي: لا ترجع عاقبة مكروهه إلا عليهم. قال السّدّيّ: وقع بهم العذاب الّذي استهزءوا به.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢)
قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المعنى: فان أجابوك، وإلا ف قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قال ابن عباس: قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين. قال الزجاج: ومعنى كتب: أوجب ذلك إيجاباً مؤكداً، وجائز أن يكون كتب في اللوح المحفوظ وإنما خُوطِبَ الخلقُ بما يعقلون، فهم يعقلون أن توكيد الشيء المؤخَّر أن يحفظ بالكتاب. وقال غيره: رحمته عامة فمنها تأخير العذاب عن مستحقِّه، وقبول توبة العاصي.
قوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ اللام: لام القسم. كأنه قال: والله ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه. وذهب قوم إلى أن «إلى» بمعنى: «في» ثم اختلفوا، فقال قوم: في يوم القيامة. وقال آخرون: في قبوركم إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: بالشرك، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، لِما سبق فيهم من القضاء. وقال ابن قتيبة: قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مردود إلى قوله: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين خسروا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣]
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)
قوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.
(١) سورة فاطر: ٤٣.
(٤٩٥) سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيباً في أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلاً، وترجع عما أنت عليه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
وفي معنى «سكن» قولان: أحدهما: أنه من السكنى. قال ابن الأعرابي: «سكن» بمعنى حلّ.
والثاني: أنه من السكون الذي يضاد الحركة. قال مقاتل: من المخلوقات ما يستقر بالنهار، وينتشر بالليل ومنها ما يستقر بالليل، وينتشر بالنهار. فان قيل: لم خص السكون بالذكر دون الحركة؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن السكون أعم وجوداً من الحركة. والثاني: أن كل متحرك قد يسكن، وليس كل ساكن يتحرك. والثالث: أن في الآية إضماراً والمعنى: وله ما سكن وتحرك كقوله تعالى تَقِيكُمُ الْحَرَّ «١» أراد: والبرد فاختصر.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤)
قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا.
(٤٩٦) ذكر مقاتل أن سبب نزولها، أن كفَّار قريش قالوا: يا محمد، ألا ترجع إلى دين آبائك؟
فنزلت هذه الآية. وهذا الاستفهام معناه الإنكار أي: لا أتخذ وليا غير الله أتولاه، وأعبده، وأستعينه.
قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الجمهور على كسر راء «فاطر». وقرأ ابن أبي عبلة برفعها.
قال أبو عبيدة: الفاطر، معناه: الخالق. وقال ابن قتيبة: المبتدئ.
(٤٩٧) ومنه «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على ابتداء الخلقة، وهو الإقرار بالله حين أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتُها، أي: أنا ابتدأتها. قال الزجاج: إن قيل:
كيف يكون الفطر بمعنى الخلق والانفطار الانشقاق في قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) «٢» فالجواب: إنما يرجعان إلى شيء واحد، لأن معنى «فطرهما» : خلقهما خلقاً قاطعاً. والانفطار، والفطور: تقطُّعٌ وتشقُّقٌ.
قوله تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قرأ الجمهور بضم الياء من الثاني ومعناه: وهو يرزق ولا
باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٣ من رواية الكلبي عن ابن عباس. وهذه رواية ساقطة، الكلبي متروك كذاب. وقد روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره لا شيء.
حديث صحيح. أخرجه البخاري ١٣٥٨ و ١٣٨٥ و ١٣٥٩. ومسلم ٢٦٥٨ ٢٣٨٠، وأبو داود ٤٧٠٥ و ٤٧٠٦ والترمذي ٣١٥٠، والطيالسي ٢٤٣٣ وأحمد ٢/ ٢٥٣ و ٢٨٢ و ٣٤٦ و ٤٨١. وابن حبان ١٢٨ و ١٢٩ من حديث أبي هريرة، وله شواهد.
__________
(١) سورة النحل: ٨١.
(٢) سورة الانفطار: ١.
يُرزق، لأن بعض العبيد يرزق مولاه. وقرأ عكرمة والأعمش «ولا يَطعم» بفتح الياء. قال الزجاج: وهذا الاختيار عند البصراء بالعربية، ومعناه: وهو يَرزق ويُطْعِمُ ولا يأكل.
قوله تعالى: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أي: أول مسلم من هذه الأمة وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال الأخفش: معناه: وقيل لي: لا تكوننَّ، فصارت: أمرت، بدلاً من ذلك لأنه حين قال: أمرت، قد أخبر أنه قيل له.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) زعم بعض المفسرين أنه كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذنوب، ثم نسخ ذلك بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «١»، والصحيح أن الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ، وإنما هو معلق بشرط، ومثله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «٢».
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦]
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
قوله تعالى: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم مَنْ يُصْرَفْ بضم الياء وفتح الراء، يعنون: العذاب. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يَصرِف» بفتح الياء وكسر الراء الضمير قوله: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ومما يحسّن هذه القراءة قوله تعالى: فَقَدْ رَحِمَهُ، فقد اتفق إسناد الضميرين إلى اسم الله عزّ وجلّ، ويعني بقوله: يصرف العذاب يَوْمَئِذٍ، يعني: يوم القيامة، وَذلِكَ يعني: صرف العذاب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٧]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ الضر: اسم جامع لكل ما يتضرَّرُ به الإِنسان، من فقر ومرض وغير ذلك والخير: اسم جامع لكلّ ما ينتقع به الإِنسان. وللمفسرين في الضر والخير قولان:
أحدهما: أن الضر السقم والخير: العافية. والثاني: أنّ الضّرّ: الفقر، والخير: الغنى.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٨]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)
قوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ القاهر: الغالب، والقهر: الغلبة. والمعنى: أنه قهر الخلق فصرّفهم على ما أراد طوعاً وكرهاً فهو المستعلي عليهم، وهم تحت التّسخير والتذليل.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٩]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً.
(١) سورة الفتح: ٣.
(٢) سورة الزمر: ٦٦.
(٤٩٨) سبب نزولها: أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ما نرى أحداً يصدِّقُك بما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ومعنى الآية: قل لقريش: أيُّ شيء أعظم شهادة؟ فان أجابوك، وإلا فقل: الله، وهو شهيد بيني وبينكم على ما أقول. وقال الزّجّاج: أمره الله تعالى أن يحتجّ عليهم بأنّ شهادة الله عزّ وجلّ في نُبُوَّته أكبر شهادة، وأن القرآن الذي أتى به، يشهد له أنه رسول الله، وهو قوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ففي الإِنذار به دليل على نبوته، لأنه لم يأت أحد بمثله، ولا يأتي وفيه خبر ما كان وما يكون ووعد فيه بأشياء، فكانت كما قال. وقرأ عكرمة، وابن السميفع، والجحدري «وأَوحَى إليَّ» بفتح الهمزة والحاء «القرآن» بالنّصب فأمّا «الإنذار»، فمعناه: التّخويف، ومعنى وَمَنْ بَلَغَ أي: من بلغ إليه هذا القرآن، فإني نذير له. قال القرظي: من بلغه القرآن فكأنّما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلَّمه.
(٤٩٩) وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية، كتب رسول الله ﷺ إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى هذا استفهام معناه الانكار عليهم. قال الفراء: وإنما قال: «أُخرى» ولم يقل: «آخر» لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث، كما قال:
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «١». وقال: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى «٢».
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٠]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠)
قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، في الكتاب قولان: أحدهما: أنه التوراة والإِنجيل وهذا قول الجمهور. والثاني: أنه القرآن.
وفي هاء يَعْرِفُونَهُ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله السدي.
(٥٠٠) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعبد الله بن سلام: إن الله قد أنزل على نبيه بمكة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأَنَا أشد معرفة بمحمّد ﷺ مني بابني. فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: إني أشهد أنه رسول الله حقا، ولا أدري ما يصنع النساء «٣».
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته هو الكلبي وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٤ عن الكلبي والكلبي ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.
باطل، عزاه السيوطي في «الدر» ٣/ ١٢- ١٣ لأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس، ولم أقف على إسناده وهو باطل لتفردهما به، ولأن السورة مكية وقد كتب النبي ﷺ إلى الملوك في العهد المدني وليس في مكة.
عزاه السيوطي في «الدر» ١/ ٢٧١ للثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس وهي رواية ساقطة. السدي هذا متروك متهم، والكلبي يضع الحديث. وورد من وجوه أخر واهية، لا تقوم بها حجة.
__________
(١) سورة الأعراف: ١٨١.
(٢) سورة طه: ٥٢. [.....]
(٣) أي ما أحدث النساء، فلعل الولد ليس من زوج المرأة.
والثاني: أنها ترجع إلى الدين والنبي. فالمعنى: يعرفون الإسلام أنّه دين الله عزّ وجلّ، وأن محمداً رسول الله، قاله قتادة. والثالث: أنها ترجع إلى القرآن. فالمعنى: يعرفون الكتاب الدال على صدقه ذكره الماوردي.
وفي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ قولان: أحدهما: أنهم مشركو مكة. والثاني: كفّار أهل الكتابين.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢١]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: اختلق على الله الكذب في ادعاء شريك معه.
وفي «آياته» قولان: أحدهما: أنها محمد والقرآن، قاله ابن السائب. والثاني: القرآن، قاله مقاتل.
والمراد بالظلم المذكور في هذه الآية: الشّرك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٢]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢)
قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً انتصب «اليوم» بمحذوف تقديره: واذكر يوم نحشرهم. قال ابن جرير: والمعنى: لا يفلحون اليوم، ولا يوم نحشرهم. وقرأ يعقوب: «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء فيهما. وفي الذين عني قولان: أحدهما: المسلمون والمشركون. والثاني: العابدون والمعبودون.
وقوله: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ سؤال توبيخ. والمراد بشركائهم: الأوثان وإِنما أضافها إليهم لأنّهم زعموا أنّها شركاء لله. وفي معنى تَزْعُمُونَ قولان: أحدهما: يزعمون أنهم شركاء مع الله. والثاني: يزعمون أنها تشفع لهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٣]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)
قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «ثم لم تكن» بالتاء، «فتنتُهم» بالرفع. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «تكن» بالتاء أيضا، «فتنتَهم» بالنصب وقد رُويت عن ابن كثير ايضاً. وقرأ حمزة، والكسائي: «يكن» بالياء، «فتنتَهم» بالنصب. وفي «الفتنة» أربعة أقوال «١» : أحدها: أنها بمعنى الكلام والقول. قال ابن عباس، والضحاك: لم يكن كلامُهُم. والثاني: أنها المعذرة. قال قتادة، وابن زيد: لم تكن معذرتهم. قال ابن الأنباري: فالمعنى:
اعتذروا بما هو مُهْلِكٌ لهم، وسبب لفضيحتهم. والثالث: أنها بمعنى البلية. قال عطاء الخراساني: لم تكن بليتهم. وقال ابو عبيد: لم تكن بليتهم التي ألزمتهم الحجة، وزادتهم لائمة. والرابع: أنها بمعنى الافتتان. والمعنى: لم تكن عاقبة فتنتهم.
قال الزجاج: لم يكن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤوا منه. ومثل ذلك في اللغة
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ١٦٦ والصواب من القول في ذلك أن يقال: معناه: ثم لم يكن قبلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فوصفت «الفتنة» موضع «القول» لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما الفتنة التي هي الاختبار والابتلاء ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلا عند الاختبار، وضعت «الفتنة» التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم ا. هـ.
أن ترى إنسانا يحب غاوياً، فاذا وقع في هَلَكَةٍ تبرأ منه فيقول: ما كانت محبتك لفلان إِلا أن انتفيت منه. قال: وهذا تأويل لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرُّفَ العربِ في ذلك. وقال ابن الأنباري: المعنى: أنهم افتتنوا بقولهم هذا، إذ كذبوا فيه، ونفوَا عن أنفسهم ما كانوا معروفين به في الدنيا.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «واللهِ ربِّنا» بكسر الباء. وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف: بنصب الباء. وفي هؤلاء القوم الذين هذا وصفهم قولان «١» : أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: المنافقون.
ومتى يحلفون؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان مسلماً، قالوا:
تعالوا نكابر عن شركنا، فحلفوا، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم إذا دخلوا النار، ورأوا أهل التّوحيد يخرجون، فحلفوا واعتذروا، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. والثالث: أنهم إذا سئلوا: أين شركاؤكم؟
تبرؤوا، وحلفوا: ما كنا مشركين، قاله مقاتل.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٤]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: باعتذارهم بالباطل. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي: ذهب ما كانوا يدّعون ويختلقون من أن الاصنام شركاء لله، وشفعاؤهم في الآخرة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ.
(٥٠١) سبب نزولها: أن نفراً من المشركين، منهم عتبة، وشيبة، والنضر بن الحارث، وأُميَّةُ وأُبيّ ابنا خلف، جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمعوا إليه، ثم قالوا للنضر بن الحارث: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بَِنيَّةً، ما أدري ما يقول؟ إلا أني أرى تحرك شفتيه، وما يقول إلا أساطير الأولين، مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
فأما «الأكنّة»، فقال الزجاج: هي جمع كنان، وهو الغطاء مثل عنان وأعنّة.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٥. تعليقا بقوله: قال ابن عباس في رواية أبي صالح... فذكره فهذه علة وثمّ علة ثانية: أبو صالح، اسمه باذام ضعفه غير واحد، ولم يلق ابن عباس وذكره الواحدي في «الوسيط» ٢/ ٢٦١ بقوله: نزلت. من غير عزو لقائل.
__________
(١) قال الحافظ ابن كثير، ٢/ ١٦٤: وقال الضحاك عن ابن عباس: هذه في المنافقين، وفي هذا نظر فإن هذه الآية مكية والمنافقون إنما كانوا بالمدينة والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ..
17
وأما: «أن يفقهوه»، فمنصوب على انه مفعول له. المعنى: وجعلنا على قلوبهم أكنَّة لكراهة أن يفقهوه، فلما حذفت اللام، نصبت الكراهة ولما حذفت الكراهة، انتقل نصبُها إلى «أنْ».
«الوقر» : ثِقَلُ السمع، يقال: في أذنه وَقْر، وَقد وُقِرَتِ الأذن تُوْقَر. قال الشاعر:
وكلامٌ سيّئ قد وُقِرَتْ أُذُني عنه وما بي من صَمَمْ «١»
والوقِر، بكسر الواو أن يُحَمَّل البعير وغيره مقدار ما يطيق، يقال: عليه وَقْر، ويقال: نخلة موقِر، وموقِرة، وإنما فُعل ذلك بهم مجازاة لهم باقامتهم على كفرهم، وليس المعنى أنهم لم يفهموه، ولم يسمعوه ولكنهم لما عدلوا عنه، وصرفوا فكرهم عما عليهم في سوء العاقبة، كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ أي: كل علامة تدل على رسالتك، لا يُؤْمِنُوا بِها. ثمّ أعلم الله عزّ وجلّ مقدار احتجاجهم وجدلهم، وأنهم إنما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا: إِنْ هذا، أي:
ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وفيها قولان:
أحدهما: أنها ما سُطِّر من أخبارهم وأحاديثهم. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: أساطير الأولين: كذبهم، وأحاديثهم في دهرهم. وقال أبو الحسن الاخفش: يزعم بعضهم أن واحدة الأساطير: أسطورة. وقال بعضهم: أسطارة ولا أُراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو عباديد ومذاكير وأبابيل. وقال ابن قتيبة: أساطير الأولين: أخبارهم وما سطر منها، أي: ما كتب، ومنه قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ «٢» أي: يكتبون، واحدها سطر، ثم أسطار، ثم أساطير جمع الجمع، مثل قول، وأقوال، وأقاويل.
والقول الثاني: أن معنى أساطير الأولين: الترهات. قال أبو عبيدة: واحد الأساطير: أسطورة، وإسطارة، ومجازها مجاز التُرهات. قال ابن الأنباري: الترهات عند العرب: طرق غامضة، ومسالك مشكلة، يقول قائلهم: قد أخذنا في ترهات البسابس، يعني: قد عدلنا عن الطريق الواضح إلى المشكل وعمّا يعرف إلى ما لا يعرف. و «البسابس» : الصحاري الواسعة، والتُّرَّهات: طرق تتشعب من الطريق الأعظم، فتكثر وتُشكِل، فجُعلت مثلا لما لا يصح وينكشف.
فان قيل: لم عابوا القرآن بأنه أساطير الأولين، وقد سطر الأولون ما فيه علم وحكمة، وما لا عيب على قائله؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنهم نسبوه إلى أنه ليس بوحي من الله. والثاني: أنهم عابوه بالإِشكال والغموض، استراحة منهم إلى البهت والباطل. فعلى الجواب الأول تكون «أساطير» من التسطير، وعلى الثاني تكون بمعنى الترهات، وقد شرحنا معنى التُّرَّهات.
قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ في سبب نزولها قولان:
(٥٠٢) أحدهما: أن أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عمّا جاء
أخرجه الحاكم ٢/ ٣١٥ والواحدي ٤٢٦ كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن سعد بن جبير عن ابن عباس به، وحبيب مدلس وقد عنعن ورواه عبد الرزاق في «تفسيره» ٧٨٥ والطبري ١٣١٧٣ و ١٣١٧٤ و ١٣١٧٥ من
__________
(١) البيت: للمثقب العبدي في قصيدة حكمية جيدة أثبتها صاحب «المفضليات» ٢٩٣.
(٢) سورة القلم: ١.
18
به، فنزلت فيه هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول عمرو بن دينار، وعطاء بن دينار، والقاسم بن مخيمرة.
(٥٠٣) وقال مقاتل: كان رسول الله ﷺ عند أبي طالب يدعوه إلى الإِسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبيّ ﷺ سوءاً، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إِليهم، فيقتلوه، فقال: ما لي عنه صبر فقالوا: ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك، فقال أبو طالب: حين تروح الإِبل، فان حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعتُه إليكم، وقال:
والله لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم حَتَّى أُوَسَّدَ في التُّرَابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ وابْشِرْ وقَرَّ بذاكَ مِنْكَ عُيُونا
وَعَرضْتَ دِيناً لاَ مَحَالَةَ أنَّه مِنْ خَيْرِ أدْيانِ البريَّةِ دِينا
لَولا المَلاَمَةُ أو حَذَاري سُبَّةُ لَوَجَدْتَني سَمْحَاً بذَاكَ مُبِيْنَا «١»
فنزلت فيه هذه الآية (٥٠٤) والثاني: أن كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتّباع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون بأنفسهم عنه، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال ابن الحنفية، والضحاك، والسدّي. فعلى القول الأول، يكون قوله تعالى: «وهم» كنايةً عن واحد وعلى الثاني: عن جماعة. وفي هاء «عنه» قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى النّبي صلى الله عليه وسلم. ثم فيه قولان «٢». أحدهما: ينهون عن أذاه والثاني: عن اتِّباعه. والقول الثاني: أنها تَرْجِع إلى القرآن، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. وَيَنْأَوْنَ بمعنى
طريق الثوري عن حبيب عمن سمع ابن عباس عن ابن عباس، وهذا أصح فالإسناد فيه راو مجهول ومع ذلك صححه الحاكم! وسكت عنه الذهب!. ولا يصح وما يأتي عن ابن عباس أرجح، وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٩٠ بتخريجنا.
عزاه المصنف لمقاتل، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٦ عن مقاتل بدون إسناد ومع ذلك فهو معضل، ومقاتل هو ابن سليمان متهم بالكذب والخبر لم يصح بكل حال وهو واه بمرة.
أخرجه الطبري ١٣١٦٣ والبيهقي ٢/ ٣٤١ من طريق علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس، وفيه إرسال بينهما. وله شواهد عند الطبري عن ابن الحنفية ١٣١٦٢ وعن السدي ١٣١٦٤. وفي الباب روايات.
__________
(١) نسب المصنف هذه الأبيات لأبي طالب ولم يصح ذلك من جهة الإسناد كما تقدم.
قوله «غضاضة» : الغض من الشيء التنقص «والتوسد» كناية عن الموت.
(٢) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ١٧٣: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال: تأويله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ عن اتباع محمد ﷺ من سواهم من الناس وينأون عن اتباعه. وذلك أن الآيات قبلها جرت بذكر جماعة المشتركين العادين به. والخبر عن تكذيبهم رسول الله ﷺ والإعراض عما جاءهم به من تنزيل الله ووحيه، فالواجب أن يكون قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ خبرا عنهم، إذا لم يأتنا ما يدل على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم، بل ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدل على صحة ما قلنا من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون خبرا عن خاص منهم. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وإن ير هؤلاء المشركون يا محمد، كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقولون: «إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأولين وأخبارهم». وهم ينهون من استماع التنزيل. وينأون عنك فيبعدون منك ومن أتباعك اهـ.
19
يبعدون. وفي هاء «عنه» قولان: أحدهما: أنها راجعة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني: إلى القرآن.
قوله تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ أي: وما يهلكون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بالتباعد عنه وَما يَشْعُرُونَ أنّهم يهلكونها.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٧]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ في معنى «وقفوا» ستة أقوال. أحدها: حُبِسُوا عليها، قاله ابن السائب. والثاني: عُرِضُوا عليها، قاله مقاتل. والثالث: عاينوها. والرابع: وقفوا عليها وهي تحتهم. والخامس: دخلوا إليها فعرفوا مقدار عذابها، تقول: وقفت على ما عند فلان، أي فهمته وتبيَّنته، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الزجاج، واختار الأخير. وقال ابن جرير: عَلَى هاهنا بمعنى «في».
السادس: جعلوا عليها وقفا، كالوقوف المؤبَّدة على سبلها، ذكره الماورديّ. والخطاب بهذه الآية للنّبي صلى الله عليه وسلم، والوعيد للكفار، وجواب «لو» محذوف، ومعناه: لو رأيتهم في تلك الحال، لرأيت عجباً.
قوله تعالى: وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم برفع الباء من «نكذبُ» والنون من «نكونُ».
قال الزجاج: والمعنى أنهم تمنَّوا الرد، وضمنوا أنهم لا يكذِّبون. والمعنى: يا ليتنا نُرَدُّ، ونحن لا نكذب بآيات ربِّنا، رُدِدْنا أو لم نُردَّ، ونكون من المؤمنين، لأنّا قد عاينّا مالا نكذب معه أبداً. قال:
ويجوز الرفع على وجه آخر، على معنى «يا ليتنا نرد»، يا ليتنا لا نكذب، كأنهم تمنوا الرد والتوفيق للتصديق. وقال الأخفش: إذا رفعت جعلته على مثل اليمين، كأنهم قالوا: ولا نكذب- واللهِ- بآيات ربِّنا، ونكون- والله- من المؤمنين. وقرأ حمزة إلا العجليَّ «١»، وحفص عن عاصم، ويعقوب: بنصب الباء من «نكذبَ»، والنون من «نكونَ». قال مكي بن أبي طالب: وهذا النصب على جواب التمني، وذلك بإضمار «أن»، حملاً على مصدر «نرد»، فأضمرت «أن» لتكون مع الفعل مصدراً، فعطف بالواو مصدراً على مصدر. وتقديره: يا ليت لنا ردّا، وانتفاء من التكذيب، وكوناً من المؤمنين. وقرأ ابن عامر برفع الباء من «نُكذبُ»، ونصب النون من «نكون» بالرّفع قد بيَّنا علته، والنصب على جواب التمني.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)
قوله تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ «بل» : ها هنا ردّ لكلامهم، أي: ليس الأمر على ما قالوا من أنهم لو ردُّوا لآمنوا. وقال الزجاج: «بل» استدراك وإيجاب بعد نفي تقول: ما جاء زيد بل عمرو.
وفي معنى الآية أربعة أقوال: أحدها: بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض، قاله الحسن. والثاني:
بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم، قاله مقاتل. والثالث: بدا لهم جزاء ما كانوا
(١) العجلي: هو أبو أحمد عبد الله بن صالح بن مسلم بن صالح العجلي الكوفي نزيل بغداد مقرئ مشهور ثقة.
أخذ القراءة عرضا عن حمزة الزيات وعن سليم عن حمزة أيضا، مات في حدود العشرين ومائتين.
يخفونه، قاله المبرد. والرابع: بدا للأتباع ما كان يُخفيه الرؤساء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن عباس: لعادوا إلى ما نُهوا عنه من الشرك، وإنهم لكاذبون في قولهم: وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قال ابن الانباري: كذَّبهم الله في إخبارهم عن أنفسهم أنهم إن رُدُّوا آمنوا ولم يكذبوا، ولم يكذِّبْهم في التمني.
قوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا هذا إِخبار عن منكري البعث.
(٥٠٥) قال مقاتل: لما أخبر النبيّ ﷺ كفار مكة بالبعث، قالوا هذا. وكان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: هذا حكاية قولهم، لو ردوا لقالوا «١».
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٠]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قال مقاتل: عُرِضُوا على ربهم قالَ أَلَيْسَ هذا العذاب بِالْحَقِّ. وقال غيره: أليس هذا البعث حقا؟ فعلى قول مقاتل: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بالعذاب، وعلى قول غيره: تَكْفُرُونَ بالبعث.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣١]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)
قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إنما وُصِفُوا بالخسران، لأنهم باعوا الإيمان بالكفر، فعظم خسرانهم. والمراد بلقاء الله: البعث والجزاء والساعة: القيامة والبغتة: الفجأة. قال الزجاج:
كلُّ ما أتى فجأة فقد بغت يقال: قد بغته الأمر يَبْغَتُه بَغْتاً وبغتةً: إذا أتاه فجأة. قال الشاعر:
وَلكَِنَّهم بانُوا وَلَمْ أَخْشَ بَغْتَةً وَأَفْظَعُ شيءٍ حِينَ يَفْجَؤُكَ البَغْتُ «٢»
قوله تعالى: يا حَسْرَتَنا الحسرة: التلهف على الشيء الفائت، وأهل التفسير يقولون: يا ندامتنا.
فإن قيل: ما معنى دعاء الحسرة، وهي لا تعقِلُ؟ فالجواب: أن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم ما تقع فيه، جعلته نداءً، فتدخِلُ عليه «يا» للتنبيه، والمراد تنبيه الناس، لا تنبيه المنادي. ومثله قولهم: لا أرينّك ها هنا. لفظه لفظ الناهي لنفسه، والمعنى للمنهي ومن هذا قولهم:
يا خَيْلَ الله اركبي، يراد: يا فرسان خيل الله. وقال سيبويه: إذا قلتَ: يا عجباه، فكأنك قلت: احضر وتعال يا عَجَبُ، فهذا زمانك. فأما التفريط فهو: التضييع. وقال الزجاج: التفريط في اللغة: تقدمه العجز. وفي المكني عنه بقوله: «فيها» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الدنيا، فالمعنى: على ما ضيعنا في الدنيا من عمل الآخرة، قاله مقاتل. والثاني: أنها الصَّفقة، لأن الخسران لا يكون إلّا في صفقة، وترك
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الحديث.
__________
(١) انظر «تفسير البغوي» ٢/ ٩٢ والقرطبي ٦/ ٣٧٧.
(٢) البيت ليزيد بن ضبة، وضبة أمه، واسم أبيه مقسم، «مجاز القرآن» ١/ ١٩٣ و «اللسان» بغت.
ذكرها اكتفاءً بذكر الخسران قاله ابن جرير. والثالث: أنها الطاعة ذكره بعض المفسرين.
فأما الأوزار، فقال ابن قتيبة: هي الآثام، وأصل الوزر: الحمل على الظهر. وقال ابن فارس:
الوزر: الثقل. وهل هذا الحمل حقيقة؟ فيه قولان: أحدهما: أنه على حقيقته. قال عمير بن هانئ:
يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح، كلمَّا كان هَوْلٌ عظَّمه عليه، وزاده خوفا، فيقول: بئس الجليس أنت، ما لي ولك؟ فيقول: أنا عملك، طالما ركبتني في الدنيا، فلأركبنك اليوم حتى أُخزيَك على رؤوس الناس، فيركبُه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه، فذلك قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ وهذا قول السدي، وعمرو بن قيس الملائي، ومقاتل. والثاني: أنه مثل، والمعنى: يحملون ثقل ذنوبهم، قاله الزجاج. قال. فجعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أَثْقَلِ ما يُتحَمَّل.
ومعنى أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ: بئس الشيء شيئا يزرونه، أي يحملونه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٢]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: وما الحياة الدنيا في سرعة انقطاعها، وقصر عمرها إلا كالشيء يلعب به. والثاني: وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو، فأما فعل الخير، فهو من عمل الآخرة، لا من الدنيا. والثالث: وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو، لاشتغالهم عما أمروا به. واللعب: ما لا يُجدي نفعاً.
قوله تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ اللام: لام القسم، والدار الآخرة: الجنة «أفلا يعقلون» فيعملون لها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو وحمزة، والكسائي، «يعقلون» بالياء، في الأنعام والأعراف ويوسف ويس، وقرءوا في القصص بالتاء. وقرأ نافع كل ذلك بالياء، وروى حفص، عن عاصم كل ذلك بالتاء، إلا في يس فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ «١»، بالياء وقرأ ابن عامر الذي في يس بالياء، والباقي بالتاء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٣]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(٥٠٦) أحدها: أن رجلا من قريش يقال له: الحارث بن عامر، قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتَّهِمَك اليوم، ولكنا إن نتَّبعْك نُتَخَطَّفْ من أرضنا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذِّب النبي في العلانية، فاذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمد من أهل الكذب، فنزلت فيه هذه الآية «٢».
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.
__________
(١) سورة يس: ٦٧.
(٢) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، وذكره الواحدي ٤٣٠.
22
والثاني: أن المشركين كانوا إذا رأوا النبي ﷺ قالوا فيما بينهم: إنه لَنبي، فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح «١».
(٥٠٧) والثالث: أن أبا جهل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نُكذب الذي جئت به، فنزلت هذه الآية، قاله ناجية بن كعب.
(٥٠٨) وقال أبو يزيد المدني: لقي رسولُ الله ﷺ أبا جهل، فصافحه أبو جهل فقيل له:
أتصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعاً لبني عبد مناف؟ فأنزل الله هذه الآية.
(٥٠٩) والرابع: أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل فقال الأخنس: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو، أم كاذب؟ فليس ها هنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسقاية، والحجابة، والنُّبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية، قاله السّدّيّ، ذكره الطبريّ مطوّلا.
فأما الذي يقولون، فهو التّكذيب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والكفر بالله. وفي الآية تسلية للنبيّ ﷺ وتعزية عما يواجهونه به.
قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قرأ نافع، والكسائي: «يُكْذِبُونَك» بالتخفيف وتسكين الكاف.
وفي معناها قولان: أحدهما: لا يُلْفُونَك كاذباً قاله ابن قتيبة. والثاني: لا يكذِّبون الشيء الذي جئت به، إنما يجحدون آياتِ الله، ويتعرَّضون لعقوباته. قال ابن الأنباري: وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة بأن العرب تقول: كذبْتُ الرجل: إذا نسبْتَه إلى الكذب وصنعة الأباطيل من القول وأكذبتُه: إذا أخبرتَ أن الذي يحدث به كذب، ليس هو الصانع له. قال: وقال غير الكسائي: يقال: أكذبتُ الرجل: إذا أدخلتَه في جملة الكذابين، ونسبتَه إلى صفتهم، كما يقال: أبخلتُ الرجل: إذا نسبتَه إلى البخل، وأجبنتُه: إذا وجدتَه جبانا. قال الشاعر:
فَطَائِفَةٌ قَدْ أكْفَرُونِي بِحُبِّكُمْ وَطَائِفَةٌ قالوا مُسِيءٌ ومذنب «٢»
ورد موصولا ومرسلا. أخرجه الترمذي ٣٠٦٤ والحاكم ٢/ ٣١٥ ح ٣٢٣٠ كلاهما عن ناجية بن كعب عن علي به، صححه الحاكم على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: لم يخرجا لناجية شيئا ا. هـ، وكرره الترمذي عن ناجية مرسلا، وكذا الطبري ١٣١٩٧ و ١٣١٩٨ وصوب الترمذي المرسل. والله أعلم. انظر والقرطبي ٢١٩٥ بتخريجنا.
أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير «ابن كثير» ٢/ ١٦٧ عن أبي يزيد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
وأخرجه أبو الشيخ كما في «الدر المنثور» ٣/ ١٨ عن أبي يزيد مرسلا نحوه.
أخرجه الطبري ١٣١٩٦ عن السدي مرسلا. وذكره الواحدي بقوله السدي. فذكره. وهذا ضعيف فالسدي فيه ضعف إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله.
- الخلاصة: أكثر الأقوال أنها نزلت في شأن أبي جهل، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
__________
(١) عزاه المصنف لأبي صالح، وليس بشيء.
(٢) البيت للكميت بن زيد الأسدي من قصيدته الرائعة في مدح آل البيت. [.....]
23
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة وابن عامر: «يكَذِّبونك» بالتشديد وفتح الكاف وفي معناها خمسة أقوال: أحدها: لا يكذِّبونك بحجة، وإنما هو تكذيب عِناد وبَهْتٍ، قاله قتادة، والسدي. والثاني: لا يقولون لك: إنك كاذب، لعلمهم بصدقك، ولكن يكذِّبون ما جئت به، قاله ناجية ابن كعب. والثالث: لا يكذِّبونك في السر، ولكن يكذِّبونك في العلانية، عداوةً لك، قاله ابن السائب، ومقاتل. والرابع: لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم: كذبت. والخامس:
لا يكذِّبونك بقلوبهم، لأنهم يعلمون أنك صادق، ذكر القولين الزجاج. وقال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً وإن اختلفت اللفظتان، إلا أن «فعّلتُ» : إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من «فعلت». ويؤكد أنَّ القراءتين بمعنىً، ما حكاه سيبويه أنهم قالوا: قلَّلتُ، وأقللت، وكثَّرتُ، وأكثرت بمعنىً. قال أبو علي: ومعنى «لا يكذِّبونك» : لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرتَ به مما جاء في كتبهم، ويجوز أن يكون معنى الحقيقة: لا يصادفونك كاذباً، كما تقول: أحمدت فلانا: إذا أصبتَه محموداً، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ بألسنتهم ما يعلمونه يقينا، لعنادهم. وفي «آيات الله» ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. والثاني:
محمد والقرآن، قاله ابن السّائب. والثالث: القرآن، قاله مقاتل.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ هذه تعزية له على ما يلقى منهم. قال ابن عباس:
فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا رجاء ثوابي، وَأُوذُوا حتى نُشروا بالمناشير، وحُرقوا بالنار حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا بتعذيب من كذبهم.
قوله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فيه خمسة أقوال: أحدها: لا خُلْفَ لمواعيده، قاله ابن عباس. والثاني: لا مبدِّل لما أخبر به وما أمر به، قاله الزجاج. والثالث: لا مبدل لحكوماته وأقضيته النافذة في عباده، فعبّرت الكلمات عن هذا المعنى، كقوله تعالى: وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي: وجب ما قضي عليهم. فعلى هذا القول، والذي قبله، يكون المعنى: لا مبدل لحكم كلمات الله، ولا ناقض لما حكم به، وقد حكم بنصر أنبيائه بقول: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «١». والرابع:
أن معنى الكلام معنى النهي، وإن كان ظاهره الإخبار فالمعنى: لا يُبدِّلَن أحد كلمات الله، فهو كقوله:
لا رَيْبَ فِيهِ. والخامس: أن المعنى: لا يقدر أحد على تبديل كلام الله، وإن زخرف واجتهد، لأن الله تعالى صانه برصين اللفظ، وقويم الحكم، أن يختلط بألفاظ أهل الزيغ، ذكر هذه الألفاظ الثلاثة ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: فيما صبروا عليه من الأذى فنُصروا. وقيل: إن «مِن» صلة.
(١) سورة المجادلة: ٢١.

[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٥]

وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ.
(٥١٠) سبب نزولها: أنّ الحارث بن عامر أتى رسول الله ﷺ في نفر من قريش فقال: يا محمد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات، فإن فعلت آمنا بك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
و «كبر» : بمعنى «عظم». وفي إعراضهم قولان: أحدهما: عن استماع القرآن. والثاني: عن اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأما «النفق»، فقال ابن قتيبة: النفق في الأرض: المدخل، وهو السَّرب. والسُّلَّم في السماء: المصعد. وقال الزجاج: النفق: الطريق النافذ في الأرض. والنافقاء، ممدود: أحد جحِرة اليربوع يَخرِقه من باطن الأرض إلى جلدة الأرض، فاذا بلغ الجلدة أرقَّها، حتى إنْ رابه ريب، دفع برأسه ذلك المكان وخرج، ومنه سمي المنافق، لأنه أبطن غير ما أظهر، كالنافقاء الذي ظاهره غير بين، وباطنه حفر في الأرض. و «السلّم» مشتق من السلامة، وهو الشيء الذي يسلّمك إلى مصعدك.
والمعنى: فان استطعت هذا فافعل، وحذف «فافعل»، لأن في الكلام دليلا عليه. وقال أبو عبيدة:
السلّم: السبب والمرقاة، تقول: اتخذتني سُلَّماً لحاجتك، أي: سببا. وفي قوله تعالى: فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ قولان: أحدهما: بآية قد سألوك إيّاها، وذلك أنهم سألوا نزول ملك الموت، ومثل آيات الأنبياء، كعصا موسى، وناقة صالح. والثاني: بآية هي أفضل من آيتك.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لو شاء أن يطبعهم على الهدى لطبعهم. والثاني: لو شاء لأنزل ملائكة تضطرُّهم إلى الإيمان. ذكرهما الزجاج. والثالث: لو شاء لآمنوا كلهم، فأخبر إنما تركوا الإيمان بمشيئته، ونافذ قضائه.
قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تجهل أنه لو شاء لجمعهم على الهدى. والثاني: لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم، ويكفر بعضهم. والثالث: لا تكونن ممن لا صبر له، لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٦]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)
قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أي: إنما يجيبك من يسمع، والمراد به سماع قبول.
وفي المراد بالموتى قولان: أحدهما: أنهم الكفار، قاله الحسن، ومجاهد وقتادة، فيكون المعنى: إنما يستجيب المؤمنون فأما الكفار، فلا يستجيبون حتى يبعثهم الله تعالى: ثم يحشرهم كفاراً، فيجيبون اضطراراً. والثاني: أنهم الموتى حقيقة، ضربهم الله تعالى مثلاً والمعنى: أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله، فكذلك الذين لا يسمعون.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وراويته هو الكلبي، وقد كذبه غير واحد، فالخبر لا شيء.
قوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يعني: المؤمنين والكافرين، فيجازي الكلّ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٧]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧)
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قال ابن عباس: نزلت في رؤساء قريش.
و «لولا» : بمعنى «هلاّ» وقد شرحناها في سورة النساء.
وقال مقاتل: أرادوا بالآية مثل آيات الأنبياء. وقال غيره: أرادوا نزول ملك يشهد له بالنبوَّة.
وفي قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يعلمون بأنّ الله سبحانه وتعالى قادر على إنزال الآية. والثاني: لا يعلمون ما عليهم من البلاء في إنزالها، لأنهم إن لم يؤمنوا بها، زاد عذابهم. والثالث: لا يعلمون المصلحة في نزول الآية.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٨]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: يريد كل ما دبَّ على الأرض. قال الزجاج:
وذكر الجناحين توكيد، وجميع ما خُلق لا يخلو إما أن يدبّ، وإمّا أن يطير.
وقوله تعالى: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قال مجاهد: أصناف مصنفة. وقال أبو عبيدة: أجناس يعرفون الله ويعبدونه. وفي معنى «أمثالكم» أربعة أقوال: أحدها: أمثالكم في كون بعضها يفقه عن بعض، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في معرفة الله، قاله عطاء. والثالث: أمثالكم في الخلق والموت والبعث، قاله الزجاج. والرابع: أمثالكم في كونها تطلب الغذاء، وتبتغي الرزق، وتتوقَّى المهالك، قاله ابن قتيبة. قال ابن الانباري: وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله تعالى ركَّب في المشركين عقولاً، وجعل لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبَّروا أمر النبيّ ﷺ ويتمسكوا بطاعته، كما جعل للطير أفهاما يعرف بها بعضها إشارة بعض، وهدى الذَّكَرَ منها لإتيان الأنثى، وفي كل ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها.
قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ في الكتاب قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ.
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة، وابن زيد. والثاني: أنه القرآن. روى عطاء عن ابن عباس: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم.
فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المعنى: ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب، إما نصاً، وإما مجملاً، وإما دلالة، كقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «١» أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين.
قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فيه قولان «٢» : أحدهما: أنه الجمع يوم القيامة.
(١) سورة النحل: ٨٩.
(٢) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ١٨٨: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن كل دابة وطائر محشور إليه، وجائز أن يكون معنيا بذلك حشر القيامة، وجائز أن يكون معنيا به حشر الموت، وجائز أن يكون معنيا به الحشرات جميعا، ولا دلالة في ظاهر التنزيل، ولا في خبر الرسول ﷺ أي ذلك المراد بقوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إذ كان (الحشر) في كلام العرب الجمع، من ذلك قول الله تعالى ذكره جامعا خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت، كان أصوب القول في ذلك أن يعم بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها. وأن يقال: كل دابة وكل طائر محشور إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة، إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله: «ثم إلى ربهم يحشرون» ولم يخصص به حشر دون حشر. فإن قال قائل: فما وجه قوله وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بجناحيه وهل يطير الطائر إلا بجناحيه فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟ قيل: قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنزل هذا الكتاب بلسان قوم، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم. فإذا كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا: (كلمت فلانا بفمي)، و (مشيت إليه برجلي) و (ضربته بيدي) خاطبهم الله تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم، ويستعملونه في خطابهم، ومن ذلك قوله تعالى ذكره: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص: ٢٣].
(٥١١) روى أبو ذر قال: «انتطحت شاتان عند النّبيّ ﷺ فقال: يا أبا ذر، أتدري فيما انتطحتا؟
قلت: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما»
.
(٥١٢) وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدله أن يأخذ للجمَّاء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً، فيقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا.
والثاني: أن معنى حشرها: موتها، قاله ابن عباس، والضّحّاك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني ما جاء به محمد ﷺ صُمٌّ عن القرآن لا يسمعونه، وَبُكْمٌ عنه لا ينطقون به فِي الظُّلُماتِ أي: في الشرك والضلالة. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فيموت على الكفر وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٠]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «أرأيتم»
حسن. أخرجه أحمد ٥/ ١٧٣ والبزار ٣٥٠ و ٣٤٥١ «كشف» من حديث أبي ذر وفي إسناده ليث بن أبي سليم غير قوي، وبقية رجاله ثقات وقد توبع فقد أخرجه أحمد ٥/ ١٦٢ والطبري ١٣٢٢٦ وفيه راو لم يسم وأخرجه الطبري ١٣٢٢٧ عن منذر الثوري عن أبي ذر. وهذا منقطع بين أبي ذر ومنذر الثوري.
والصواب الرواية المتقدمة حيث رواه منذر عن أشياخ له عن أبي ذر. وبكل حال الحديث حسن بطرقه وفي الباب أحاديث تعضده وانظر ما بعده، وانظر «الشوكاني» ٨٩٤ بتخريجنا.
موقوف صحيح أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٧٨٦ ومن طريقه الطبري ١٣٢٢٥ عن أبي هريرة موقوفا، وإسناده صحيح. وورد بعضه مرفوعا. أخرجه مسلم ٢٥٨٢ والترمذي ٢٤٢٠ وعبد الرزاق ٣٤٧٦٥ وأحمد ٢/ ٣٢٣ وابن حبان ٨٣٦٣ عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) وله شواهد. انظر «تفسير الشوكاني» ٨٩٥ و «تفسير القرطبي ٢٨٩٦ بتخريجنا.
و «أرأيتكم» و «أرأيت» بالألف في كل القرآن مهموزاً وليَّن الهمزة نافع في الكل. وقرأ الكسائي بغير همز ولا ألف. قال الفراء: العرب تقول: أرأيتك، وهم يريدون: أخبرني.
فأمّا عذاب الله، ففي المراد به ها هنا قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس. والثاني:
العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية، قاله مقاتل. فأما الساعة، فهي القيامة. قال الزجاج: وهو اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد، وللوقت الذي يبعثون فيه.
قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أي: أتدعون صنماً أو حجراً لكشفِ ما بكم؟! فاحتج عليهم بما لا يدفعونه، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جواب لقوله تعالى: «أرأيتكم»، لأنه بمعنى أخبروا، كأنه قيل لهم: إن كنتم صادقين، فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم؟.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤١]
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١)
قوله تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ قال الزجاج: أعلمهم أنهم لا يدعون في الشدائد إلا إياه وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لأنهم عبدوا الأصنام. فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ المعنى: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم، وهذا على اتساع الكلام مثل قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «١»، أي: اهل القرية. وَتَنْسَوْنَ: يجوز أن يكون بمعنى «تتركون» ويجوز أن يكون المعنى: إنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٢]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ في الآية محذوف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أُمم من قبلك رسلا فخالفوهم، فأخذناهم بالبأساء وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الزمانة والخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها البؤس، وهو الفقر، قاله ابن قتيبة. والثالث: أنها الجوع، ذكره الزجاج. وفي الضرَّاء ثلاثة أقوال: أحدها: البلاء، والجوع، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني:
النقص في الأموال والأنفس، ذكره الزجاج. والثالث: الاسقام والأمراض، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي: لكي يتضرعوا. والتضرع: التذلل والاستكانة. وفي الكلام محذوف تقديره: فلم يتضرّعوا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٣]
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)
قوله تعالى: فَلَوْلا معناه: «فهلاَّ». والبأس: العذاب. ومقصود الآية: أن الله تعالى أعلم نبيه ﷺ أنه قد أرسل إلى قوم قبله بلغوا من القسوة أنهم أخذوا بالشدائد، فلم يخضعوا، وأقاموا على كفرهم، وزين لهم الشيطان ضلالتهم فأصرّوا عليها.
(١) سورة يوسف: ٨٢.

[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٤]

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)
قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ قال ابن عباس: تركوا ما وعظوا به. فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ يريد رخاء الدنيا وسرورها. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: «فتَّحنا» بالتشديد هنا وفي الأعراف، وفي الأنبياء: «فُتِّحت»، وفي القمر: «فتّحنا»، والجمهور على تخفيفهن. قال الزجاج:
أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير، حتى إذا ظنوا أن ما كان نزل بهم، لم يكن انتقاماً، وما فُتح عليهم، باستحقاقهم، أخذناهم بغتة، أي: فاجأهم عذابنا.
وقال ابن الانباري: إنما أراد بقوله تعالى: «كل شيء» : التأكيد، كقول القائل: أكلنا عند فلان كلَّ شيء، وكنا عنده في كل سرور، يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه والإطناب فيه، كقوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «١». وقال الحسن: من وُسِّع عليه فلم ير أنه لم يُمكر به، فلا رأي له ومن قُتِّر عليه فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ هذه الآية، وقال: مُكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجاتهم ثم أُخذوا.
قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ في المبلس خمسة اقوال: أحدها: أنه الآيس من رحمة الله عزّ وجلّ، رواه الضحاك عن ابن عباس وقال في رواية أخرى: الآيس من كل خير. وقال الفراء:
المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي يسكت عند انقطاع حجته، فلا يكون عنده جواب:
قد أبلس. قال العجَّاج:
يا صَاحِ هَلْ تعْرِفُ رَسْماً مُكْرَساً قَالَ نَعَمْ! أعْرِفُه! وأبْلَسَا «٢»
أي: لم يَحِرْ جواباً. وقيل: المكرس: الذي قد بعرت فيه الإبل، وبوَّلت، فيركب بعضه بعضاً.
والثاني: أنه المفتضح. قال مجاهد: الإبلاس: الفضيحة. والثالث: أنه المهْلك، قاله السدي. والرابع:
أنه المجهود المكروب الذي قد نزل به من الشّر ما لا يستطيعه، قاله ابن زيد. والخامس: أنه الحزين النادم، قاله أبو عبيدة، وأنشد لرؤبة:
وحَضَرتْ يوم الخميس الأخماس وفي الوجوه صُفرةٌ وإِبلاس
أي: اكتئاب، وكسوف، وحزن. وقال الزجاج: هو الشديد الحسرة، الحزين، اليائس. وقال في موضع آخر: المبلس: السّاكت المتحيّر.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٥]
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن السائب: دابرهم: الذي يتخلف في آخرهم.
والمعنى: أنهم استؤصلوا. وقال أبو عبيدة: دابرهم: آخرهم الذي يدبرهم: قال ابن قتيبة: هو كما
(١) سورة النمل: ٢٣.
(٢) في «اللسان» كرس، تكرس الشيء تكارس أي تراكم وتلازب. وأبلس: سكت غما.
يقال: اجتُثَّ أصلهم. قال المفسرون: وإنما حمد نفسه على قطع دابرهم، لأن ذلك إنعام على رسلهم الذين كذبوهم، وعلّم الحمد على كفايته شرّ الظّالمين.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٦]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أي: أذهبها وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ حتى لا تعرفون شيئا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟ في هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعود على الفعل، والمعنى: يأتيكم بما أخذ الله منكم، قاله الزجاج. وقال الفراء: إذا كنيت عن الأفاعيل، وإن كثرتْ، وحَّدتَ الكناية، كقولك للرجل: إقبالك وإدبارك يؤذيني. والثاني: أنها تعود إلى الهدى، ذكره الفراء.
فعلى هذا تكون الكناية عن غير مذكور، ولكن المعنى يشتمل عليه، لأن من أُخذ سمعه وبصره وُختم على قلبه لم يهتد. والثالث: أنها تعود على السمع، ويكون ما عُطف عليه داخلاً معه في القصة، لأنه معطوف عليه، ذكره الزّجّاج. والجمهور يقرءون: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ بكسر هاء «به».
وروى المسيبَّي عن نافع: «بهُ انظر» : بالضم. قال أبو علي: من كسر، حذف الياء التي تلحق الهاء في نحو: بهي عيب، ومن ضم، فعلى قول من قال: فخسفنا بهو بدارهو الأرض، فحذف الواو.
قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ قال مقاتل: يعني تكون العلامات في أُمور شتى، فيخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب، وبما صُنع بالأُمم الخالية ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ، أي:
يعرضون فلا يعتبرون.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٧]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً قال الزجاج: البغتة: المفاجأة والجهرة: أن يأتيهم وهم يرونه. هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أي: هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم، لأنكم كفرتم معاندين، فقد علمتم أنكم ظالمون.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
قوله تعالى: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ أي: بالثواب ومنذرين بالعقاب وليس إرسالهم ليأتوا بما يقترحونه من الآيات. ثم ذكر ثواب من صدق، وعقاب من كذب في تمام الآية والتي بعدها.
وقال ابن عباس: يفسقون: بمعنى يكافرون.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٠]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)
قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ.
(٥١٣) سبب نزولها: أن أهل مكة قالوا: يا محمد، لو أنزل الله عليك كنزاً فتستغني به، فانك فقير محتاج أو تكون لك جنة تأكل منها، فانك تجوع، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قال الزّجّاج: وهذه الآية متّصلة بقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فأعلمهم أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي، ولا يعلم الغيب فيخبرهم به إلا بوحي، ولا يقول: إنه مَلَكٌ، لأن الملك يشاهد من أمور الله تعالى ما لا يشاهده البشر. وقرأ ابن مسعود، وابن جبير، وعكرمة، والجحدري: «إني ملك» بكسر اللام. وفي الأعمى والبصير قولان:
أحدهما: أن الأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: الأعمى: الضال، والبصير: المهتدي، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد.
وفي قوله تعالى: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ قولان: أحدهما: فيما بُيِّن لكم من الآيات الدالة على وحدانيته وصدق رسوله. والثاني: فيما ضُرب لكم من مثل الأعمى والبصير وأنهما لا يستويان.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥١]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)
قوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ قال الزجاج: يعني بالقرآن، وإنما ذكر الذين يخافون الحشر دون غيرهم، وإن كان مُنْذِراً لجميع الخلق، لأن الحجة على الخائفين الحشر أظهر، لاعترافهم بالمعاد، فهم أحد رجلين: إما مسلم، فيُنذَر ليؤديَ حق الله عليه في إسلامه، وإما كتابي، فأهل الكتاب مجمعون على البعث. وذِكر الولي والشفيع، لأن اليهود والنصارى ذكرت أنها أبناء الله وأحبّاؤه، فأعلم عزّ وجلّ أن أهل الكفر ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع. وقال غيره: ليس لهم من دونه ولي، أي: ليس لهم غير الله ولي ولا شفيع، لأن شفاعة الشافعين بأمره.
وقال أبو سليمان الدمشقي: هذه الآية متعلقة بقوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ «١». روى سعد بن أبي وقّاص قال:.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٢]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، روى سعد بن أبي وقاص قال:
(٥١٤) نزلت هذه الآية في ستة: فيّ، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمار، والمقداد، وبلال.
قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء، فاطردهم عنك. فدخل على رسول الله ﷺ من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فنزلت هذه الآية.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة واهية، وتقدم الكلام على ذلك مرارا.
حسن. أخرجه الطبري ١٣٢٦٦ عن سعد وإسناده حسن وانظر ما بعده.
__________
(١) سورة الأنعام: ١٩.
31
(٥١٥) وقال خباب بن الأرتِّ: نزلت فينا، كنا ضعفاء عند النبيّ ﷺ يعلّمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا، فجاء الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، فقالا: إنا من أشراف قومنا، وإنا نكره أن يرونا معهم، فاطردهم إذا جالسناك. قال: «نعم». فقالوا: لا نرضى حتى تكتب بيننا كتاباً، فأتُي بأديم ودواة، ودعا علياً ليكتب، فلما أراد ذلك، ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بقوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إلى قوله: فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فرمى بالصحيفة ودعانا، فأتيناه وهو يقول: «سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة». فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على ركبته.
(٥١٦) وقال ابن مسعود: مرّ الملأ من قريش على رسول الله ﷺ وعنده خبَّاب، وصهيب، وبلال، وعمَّار، فقالوا: يا محمد، رضيتَ بهؤلاء، أتريد أن نكون تبعاً لهم؟! فنزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.
(٥١٧) وقال عكرمة: جاء عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل، في أشراف بني عبد مناف، إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم في صدورنا، وأدنى لاتِّباعنا إياه، فأتاه أبو طالب فحدثه بذلك، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، فنزلت هذه الآيات، فأقبل عمر يعتذر من مقالته.
(٥١٨) وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في الموالي، منهم بلال، وصهيب، وخبّاب، وعمّار، ومهجع، وسلمان، وعامر بن فهيرة، وسالم مولى أبي حذيفة وأن قوله:
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ نزلت فيهم أيضا.
(٥١٩) وقد روى العوفي عن ابن عباس: أنّ أناسا من الأشراف قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: نؤمن لك، وإذا صلينا فأخِّر هؤلاء الذين معك، فليصلوا خلفنا. فعلى هذا، إنما سألوه تأخيرهم عن الصّفّ، وعلى
ضعيف. أخرجه ابن ماجة ٤١٢٧ والطبري ١٣٢٦١، والواحدي في «الوسيط» ٢/ ٢٤٧ وفي «أسباب النزول» ٤٣٢ من حديث خباب بن الأرتّ وإسناده ضعيف أبو سعد قارئ الأزد وعبد الله بن عامر أبو الكنود كلاهما مجهول. وللمتن علة أخرى: وهي كون الخبر مدني والسورة مكية، ولذا استغربه الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ١٧٣ وقال: فالآية مكية، والخبر مدني اهـ قلت: قدوم الأقرع وعيينة كان في المدينة.
- وأصلح من ذلك كله ما أخرجه: مسلم ٢٤١٣ والنسائي في «التفسير» ١٨٣ وابن ماجة ٤١٢٨ وأبو يعلى ٨٢٦ والطبري ١٣٢٦٦ والواحدي ٤٣١ والحاكم ٣/ ٣١٩ عن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي ﷺ أنا وابن مسعود وبلال ورجل من هذيل، ورجلان لست أسميهما. فقال المشركون للنبي ﷺ اطردهم لا يجترءون علينا فنزلت» اهـ. وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٩٧ و ٧٩٨ بتخريجنا.
حديث حسن. أخرجه أحمد ٣٩٧٥ والبزار ٢٢٠٩ والطبراني ١٠٥٢٠ والواحدي ٤٣٣ من حديث ابن مسعود، وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٩٧: رجال أحمد رجال الصحيح غير كردوس، وهو ثقة. اهـ.
ويشهد له ما تقدم عن سعد من حديث ابن مسعود. انظر «تفسير الشوكاني» ٨٩٧ وابن كثير ٢/ ١٧٢ و ١٧٣.
بتخريجنا.
أخرجه الطبري ١٣٢٦٧ عن عكرمة مرسلا والمرسل من قسم الضعيف، وانظر «تفسير ابن كثير» ٢/ ١٧٣.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وراويته الكلبي يضع الحديث، والمتن منكر جدا بذكر سلمان فإن إسلامه كان في المدينة، والسورة مكية.
أخرجه الطبري ١٣٣٨٦ عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف جدا، فيه عطية العوفي ضعيف، وعنه مجاهيل.
32
الأقوال التي قبله، سألوه طردهم عن مجلسه.
قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ في هذا الدعاء خمسة أقوال «١» : أحدها: أنه الصلاة المكتوبة، قاله ابن عمر، وابن عباس. وقال مجاهد: هي الصلوات الخمس وفي رواية عن مجاهد، وقتادة قالا:
يعني صلاة الصبح والعصر. وزعم مقاتل أن الصلاة يومئذ كانت ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك. والثاني: أنه ذكر الله تعالى، قاله إبراهيم النخعي، وعنه كالقول الأول. والثالث: أنه عبادة الله، قاله الضحاك. والرابع: أنه تعلم القرآن غدوة وعشية، قاله أبو جعفر.
والخامس: أنه دعاء الله بالتوحيد، والإخلاص له، وعبادته، قاله الزجاج.
وقرأ الجمهور: «بالغداة» وقرأ ابن عامر ها هنا وفي سورة الكهف أيضا: «بالغُدْوَةِ» بضم الغين وإسكان الدال وبعدها واو. قال الفراء: والعرب لا تدخل الألف واللام على «الغدوة» لأنها معرفة بغير ألف ولام، ولا تضيفها العرب يقولون: أتيتك غداة الخميس، ولا يقولون: غُدوة الخميس، فهذا دليل على أنها معرفة. وقال أبو علي: الوجه: الغداة، لأنها تستعمل نكرة، وتتعرف باللام وأما غُدوة، فمعرفة. وقال الخليل: يجوز أن تقول: أتيتك اليوم غُدوة وبُكرة، فجعلها بمنزلة ضحوة، فهذا وجه قراءة ابن عامر.
فان قيل: دعاء القوم كان متصلاً بالليل والنهار، فلماذا خص الغداة والعشي؟
فالجواب: أنه نبه بالغداة على جميع النهار، وبالعشي على الليل، لأنه إذا كان عمل النهار خالصا له، كان عمل الليل أصفى.
قوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال الزّجّاج: أي يريدون الله، فشهد الله لهم بصحة النيات، وأنهم مخلصون في ذلك. وأما الحساب المذكور في الآية، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حساب الأعمال،
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ٢٠٣- ٢٠٤: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نبيه محمدا ﷺ أن يطرد قوما كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي «والدعاء لله» يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولا وكلاما، وقد يكون بالعمل له بالجوارح، الأعمال التي كان عليهم فرضها، وغيرها من النوافل التي ترضي عن العامل له عابده بما هو عامل له، وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشي، لأن الله قد سمى «العبادة» «دعاء» فقال تعالى ذكره وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: ٦] وقد يجوز أن يكون ذلك على خاص من الدعاء. ولا قول أولى بذلك بالصحة من وصف القوم بما وصفهم الله به: من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي فيعمون بالصفة التي وصفهم بها ربهم ولا يخصون منها بشيء من دون شيء.
فتأويل الكلام إذا: يا محمد أنذر بالقرآن الذي أنزلته إليك، الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير في العمل له دائبون إذا أعرض عن إنذارك واستماع ما أنزل الله عليك المكذبون بالله واليوم الآخر من قومك استكبارا على الله ولا تطردهم ولا تقصهم، فتكون ممن وضع الإقصاء في غير موضعه، فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه، وقرب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدنائه فإن الذين نهيتك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألون عفوه ومغفرته بصالح أعمالهم، وأداء ما ألزمهم من فرائضه، ونوافل تطوعهم، وذكرهم إياه بألسنتهم بالغداة والعشي يلتمسون بذلك القربة إلى الله، والدنو من رضاه ا. هـ.
33
قاله الحسن. والثاني: حساب الأرزاق. والثالث: أنه بمعنى الكفاية. والمعنى: ما عليك من كفايتهم، ولا عليهم كفايتك.
قوله تعالى: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ قال ابن الأنباري: عظم هذا الأمر على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخُوِّفَ بالدخول في جملة الظالمين، لأنه كان قد همّ بتقديم الرّؤساء على الضّعفاء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٣]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ المعنى: وكما ابتلينا قبلك الغني بالفقير، ابتلينا أيضاً بعضهم ببعض. و «فتنا» بمعنى: ابتلينا واختبرنا لِيَقُولُوا، يعني الكبراء: أَهؤُلاءِ
يعنون الفقراء والضعفاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهدى؟ وهذا استفهام معناه الانكار، كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة. قال ابن السائب: ابتلى الله الرؤساء بالموالي فاذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله، أنف أن يسلم، ويقول: سبقني هذا! قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أي: بالذين يشكرون نعمته إذا منَّ عليهم بالهداية.
والمعنى: إنما يهدي الله من يعلم أنه يشكر. والاستفهام في «أليس»، معناه التقرير، أي: إنه كذلك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٤]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)
قوله تعالى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال:
(٥٢٠) أحدها: أنها نزلت في رجال أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظيمة، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك.
(٥٢١) والثاني: أنها نزلت في الذين نُهي عن طردهم، فكان النبيّ ﷺ إذا رآهم بدأهم بالسّلام، وقال: «الحمد الله الذي جعل في أُمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام»، قاله الحسن وعكرمة.
(٥٢٢) والثالث: أنها نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة، ومصعب بن عمير، وسالم، وأبي سلمة، والأرقم بن أبي الأرقم، وعمار، وبلال، قاله عطاء.
(٥٢٣) والرابع: أن عمر بن الخطاب كان اشار على رسول الله ﷺ بتأخير الفقراء، استمالة
ليس له أصل عن أنس، وإنما ورد عن ماهان وهو أبو صالح الحنفي الكوفي أخرجه الطبري ١٣٢٩٤ و ١٣٢٩٥ عن ماهان مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٣٦ بدون إسناد عن ماهان. وعزاه في «الدر» ٣/ ٢٦ للفريابي وعبد بن حميد ومسدد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ماهان، وتفرد المصنف بنسبته لأنس.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٣٥ بدون سند عن عكرمة مرسلا وسيأتي في سورة الكهف.
عزاه المصنف لعطاء، فهو مرسل، ولم أقف على إسناده، ولا يصح.
عزاه المصنف للكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فخبره هذا لا شيء.
للرؤساء إلى الإسلام، فلما نزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، جاء عمر بن الخطّاب يعتذر من مقالته ويستغفر منها، فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن السائب.
(٥٢٤) والخامس: أنها نزلت مبِّشرة باسلام عمر بن الخطاب فلما جاء وأسلم تلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
فأما قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فمعناه: يصدِّقون بحججنا وبراهيننا.
قوله تعالى: فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه أُمر بالسلام عليهم تشريفا لهم وقد ذكرناه عن الحسن، وعكرمة. والثاني: أنه أُمر بابلاغ السلام إليهم عن الله تعالى، قاله ابن زيد. قال الزجاج: ومعنى السلام: دعاء للانسان بأن يسلم من الآفات. وفي السوء قولان: أحدهما: أنه الشرك.
والثاني: المعاصي.
وقد ذكرنا في سورة النساء معنى الجهالة.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي: «أنه من عمل منكم سوءاً» «فانه غفور» بكسر الألف فيهما. وقرأ عاصم، وابن عامر: بفتح الألف فيهما. وقرأ نافع. بنصب ألف «أنه» وكسر ألف «فانه غفور». قال أبو علي: من كسر ألف «إنه» جعله تفسيرا للرحمة ومن كسر ألف «فانه غفور» فلأن ما بعد الفاء حكمه الابتداء، ومن فتح ألف «أنه من عمل» جعل «أنَّ» بدلا من الرحمة، والمعنى: كتب ربكم «أنه من عمل»، ومن فتحها بعد الفاء أضمر خبراً تقديره: فله «أنه غفور رحيم» والمعنى: فله غفرانه. وكذلك قوله تعالى: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «١» معناه: فله أن له نار جهنم، وأما قراءة نافع، فانه أبدل من الرحمة: واستأنف ما بعد الفاء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٥]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين، كذلك نبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل. قال ابن قتيبة: ومعنى تفصيلها:
إتيانها متفرقة شيئاً بعد شيء.
قوله تعالى: وَلِتَسْتَبِينَ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «ولتستبين» بالتاء، «سبيل» بالرفع. وقرأ نافع، وزيد عن يعقوب: بالتاء أيضا، إلا أنهما نصبا السبيل. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «وليستبين» بالياء، «سبيل» بالرفع. فمن قرأ وَلِتَسْتَبِينَ بالياء أو التاء، فلأن السبيل تذكر وتؤنث على ما بينا في آل عمران، ومن نصب اللام، فالمعنى: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين. وفي سبيلهم التي بُيِّنت له، قولان: أحدهما: أنها طريقهم في الشرك، ومصيرهم إلى الخزي، قاله ابن عباس. والثاني: أنها مقصودهم في طرد الفقراء عنه، وذلك إنما هو الحسد، لا إيثار مجالسته واتِّباعه، قاله أبو سليمان.
لم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه، فالمتن منكر، وليس له أصل.
__________
(١) سورة التوبة: ٦٣.
فان قيل: كيف انفردت لام «كي» في قوله: «ولتستبين» وسبيلها أن تكون شرطاً لفعل يتقدمها أو يأتي بعدها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري بجوابين: أحدهما: أنها شرط لفعل مضمر، يراد به: ونفعل ذلك لكي تستبين. والثاني: أنها معطوفة على لام مضمرة، تأويله: نفصّل الآيات لينكشف أمرهم، ولتستبين سبيلهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٦]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام. وفي معنى تَدْعُونَ قولان: أحدهما: تدعونهم آلهة. والثاني: تعبدون قاله ابن عباس. وأهواؤهم: دينهم. قال الزجاج: أراد إنما عبدتموها على طريق الهوى، لا على طريق البيّنة والبرهان. ومعنى «إذاً» معنى الشرط والمعنى: قد ضللت إن عبدتها. وقرأ طلحة، وابن أبي ليلى: «قد ضللت» بكسر اللام.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٧]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي.
(٥٢٥) سبب نزولها أن النضر بن الحارث وسائر قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بالعذاب الذي تَعِدُنا به، استهزاءً وقام النضر عند الكعبة وقال: اللهم إن كان ما يقول حقا، فائتنا بالعذاب فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس.
فأما البينة، فهي الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل. قال الزجاج: أنا على أمر بيِّن، لا متبعٌ لهوى. قوله تعالى: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ في هاء الكناية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الرب.
والثاني: ترجع إلى البيان. والثالث: ترجع إلى العذاب الذي طلبوه استهزاءً.
قوله تعالى: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي: ما بيدي. وفي الذي استعجلوا به قولان:
أحدهما: أنه العذاب قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنه الآيات التي كانوا يقترحونها ذكره الزجاج. قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فيه قولان: أحدهما: أنه الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بايجاب الثواب والعقاب. والثاني: أنه القضاء بانزال العذاب على المخالف.
قوله تعالى: يَقُصُّ الْحَقَّ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع «يَقُصُّ الحق» بالصاد المشددة، من القصص والمعنى: أن كل ما أخبر به فهو حق. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
«يقضي الحق» من القضاء والمعنى: يقضي القضاء الحقّ.
باطل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من رواية الكلبي، وهذا إسناد موضوع. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٣٧ بدون سند عن الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.

[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٨]

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)
قوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي: من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قال ابن عباس: يقول: لم أمهلكم ساعة، ولأهلكتكم.
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: إن شاء عاجلهم، وإن شاء أخَّر عقوبتهم. والثاني: أعلم بما يؤول إليهم أمرهم، وأنه قد يهتدي منهم قوم، ولا يهتدي آخرون فلذلك يؤخّرهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٩]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)
قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قال ابن جرير: المفاتح: جمع مفتح يقال: مفتح ومفتاح، فمن قال: مفتح، جمعه: مفاتح. ومن قال: مفتاح، جمعه: مفاتيح. وفي «مفاتح الغيب» سبعة أقوال:
أحدها: أنها خمس لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ.
(٥٢٦) روى البخاري في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله».
(٥٢٧) قال ابن مسعود: أُوتي نبيُّكم علم كل شيء إلا مفاتيحَ الغيب.
والثاني: أنها خزائن غيب السماوات من الأقدار والأرزاق، قاله ابن عباس. والثالث: ما غاب عن الخلق من الثواب والعقاب، وما تصير إليه الأمور، قاله عطاء. والرابع: خزائن غيب العذاب، متى ينزل، قاله مقاتل. والخامس: الوُصلة إلى علم الغيب إذا اسْتُعْلم، قاله الزجاج. والسادس: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال. والسابع: ما لم يكن، هل يكون، أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون، وما لا يكون إن كان، كيف يكون؟ فأما البَرُّ، فهو القفر.
وفي البحر قولان: أحدهما: أنه الماء، قاله الجمهور. والثاني: أنه القرى، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها قال الزجاج: المعنى: أنه يعلمها ساقطة وثابتة، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، ليس تأويله: اعرفه في حال مجيئه فقط. فأما ظلمات الأرض، فالمراد بها بطن الأرض.
وفي الرطب واليابس، خمسة أقوال: أحدها: أن الرطب: الماء، واليابس: البادية. والثاني:
الرّطب. ما ينبت، واليابس: ما لا يُنبِت. والثالث: الرطب: الحي، واليابس: الميت. والرابع:
الرطب: لسان المؤمن يذكر الله، واليابس: لسان الكافر لا يتحرك بذكر الله. والخامس: أنهما الشيء
حديث صحيح. أخرجه البخاري ١٠٣٩ و ٤٣٧٩ و ٤٦٢٧ و ٤٦٩٧ و ٤٧٧٨، وأحمد ٢/ ٢٤ و ٥٢ و ٥٨ و ٨٥ و ٨٦، وابن حبان ٧٠ و ٧١ والطبراني ١٣٢٤٦. من حديث ابن عمر.
جيد. أخرجه الطبري ١٣٣٠٩ ك عن ابن مسعود، وإسناده قوي.
ينتقل من إحدى الحالتين إلى الأخرى، فهو يعلمه رطباً، ويعلمه يابساً.
وفي الكتاب المبين قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ قاله مقاتل. والثاني: أنه علم الله المتقَنُ ذكره الزجاج.
فان قيل: ما الفائدة في إِحصاء هذه الأشياء في كتاب؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرهن ابن الأنباري:
أحدها: أنه أحصاها في كتاب، لتقف الملائكة على نفاذ علمه. والثاني: أنه نبه بذلك عباده على تعظيم الحساب، وأعلمهم أنه لا يفوته ما يصنعون، لأن من يثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب، فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع. والثالث: أن المراد بالكتاب: العلم فالمعنى: أنها مثبتة في علمه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٠]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ يريد به النوم، لأنه يقبض الأرواح عن التصرف، كما يقبض بالموت. وقال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم. وجرحتم: بمعنى كسبتم. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ أي: يوقظكم فيه، أي: في النهار. لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي: لتبلغوا الأجل المسمى لانقطاع حياتكم، فدل باليقظة بعد النوم على البعث بعد الموت.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦١]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١)
قوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً الحفظة: الملائكة، واحدهم: حافظ، والجمع: حفظة، مثل كاتب وكتبة، وفاعل وفعلة. وفيما يحفظونه قولان: أحدهما: أعمال بني آدم قاله ابن عباس. والثاني:
أعمالهم وأجسادهم، قاله السدي.
قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وقرأ حمزة: «توفاه رسلنا» وحجته أنه فعل مسند إلى مؤنث غير حقيقي، وإنما التأنيث للجمع، فهو مثل: وَقالَ نِسْوَةٌ «١». وفي المراد بالرسل ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم أعوان مَلَك الموت، قاله ابن عباس. وقال النخعي: أعوانه يتوفَّون النفوس، وهو يأخذها منهم.
والثاني: أن المراد بالرسل: مَلَك الموت وحده، قاله مقاتل. والثالث: أنهم الحفظة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ قال ابن عباس: لا يضيِّعون.
فان قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وبين قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «٢» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه يجوز أن يريد بالرّسل ملك كالموت وحده، وقد يقع الجمع على الواحد. والثاني: أن أعوان مَلَك الموت يفعلون بأمره، فأضيف الكل إلى فعله. وقيل: تَوَفيّ أعوان ملك الموت بالنزع، وتوفِّي ملك الموت بأن يأمر الأرواح فتجيب، ويدعوها فتخرج، وتوفِّي الله تعالى بأن يخلق الموت في الميّت.
(١) سورة يوسف: ٣٠.
(٢) سورة السجدة: ١١.

[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٢]

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
قوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ يعني العباد. وفي متولي الردِّ قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، رَدَّتهم بالموت إلى الله تعالى. والثاني: أنه الله عزّ وجلّ، ردهم بالبعث في الآخرة. وفي معنى ردهم إلى الله تعالى، قولان: أحدهما: أنهم ردوا إلى المكان الذي لا يملك الحكم فيه إلا الله وحده.
والثاني: أنهم ردوا إلى تدبيره وحده لأنه لما أنشأهم كان منفرداً بتدبيرهم، فلما مكنهم من التصرف صاروا في تدبير أنفسهم، ثم كفهم عنه بالموت فصاروا مردودين إلى تدبيره.
قوله تعالى: أَلا لَهُ الْحُكْمُ يعني القضاء. وبيان سرعة الحساب، في سورة البقرة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ، مشدَّدَين. وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: بسكون النون وتخفيف الجيم.
قال الزجاج: والمشدَّدة أجود للكثرة. وظلمات البر والبحر: شدائدها والعرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شدة: يوم مظلم، حتى إنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل.
قال الشاعر:
فِدَىً لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي إذا كَانَ يَوْماً ذا كَواكَب أشْنَعَا «١»
قوله تعالى: تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً أي: مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر إلى الشيء، والحاجة. قوله تعالى: وَخُفْيَةً قرأ عاصم إلا حفصا: «وخِفية» بكسر الخاء وكذلك في سورة الأعراف. وقرأ الباقون بضم الخاء، وهما لغتان. قال الفراء: وفيها لغة أخرى بالواو، ولا تصلح في القراءة:
خِفْوة، وخَفْوة. ومعنى الكلام، أنكم تدعونه في أنفسكم، كما تدعونه ظاهراً: «لئن أنجيتنا»، كذلك قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو: «لئن أنجيتنا»، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي:
«لئن أنجانا» بألف، لمكان الغيبة في قوله: «تدعونه». وكان حمزة، والكسائي، وخلف، يميلون الجيم. قوله تعالى: مِنْ هذِهِ يعني: في أي شدة وقعتم، قلتم: «لئن أنجيتنا من هذه». قال ابن عباس: و «الشّاكرون» ها هنا: المؤمنون. وكانت قريش تسافر في البر والبحر، فاذا ضلوا الطريق وخافوا الهلاك، دعَوُا الله مخلصين، فأنجاهم. فأما «الكرب» فهو الغم الذي يأخذ بالنّفس، ومنه اشتقّت الكربة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٥]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)
(١) البيت أنشده سيبويه في «الكتاب» ١/ ٢١ ونسبه لمقاس العائذي. وأراد باليوم يوما من أيام الحرب، وصفه بالشدة فجعله كالليل تبدو فيه الكواكب، إما لكثرة السلاح الصقيل فيه، وإما لما ذكره من النجوم.
39
قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ فيه قولان:
أحدهما: أن الذي فوقهم: العذاب النازل من السماء، كما حُصب قوم لوط، وأصحاب الفيل. والذي من تحت أرجلهم: كما خُسف بقارون، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل. وقال غيرهم: ومنه الطوفان، والريح، والصيحة، والرجفة. والقول الثاني: أن الذي من فوقهم: من قِبَل أمرائهم. والذي من تحتهم من سَفَلتهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال في رواية أخرى: الذي من فوقهم: أئمة السوء والذي من تحت أرجلهم: عبيد السوء.
قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً قال ابن عباس: يَبُثُّ فيكم الأهواء المختلفة، فتصيرون فِرَقاً. قال ابن قتيبة: يلبسكم: من الالتباس عليهم. والمعنى: حتى تكونوا شِيعَاً، أي: فرقا مختلفين. ثم يذيق بعضكم بأس بعض بالقتال والحرب. وقال الزجاج: يلبسكم، أي: يخلط أمركم خلط اضطراب، لا خلط اتفاق. يقال: لَبَسْتُ عليهم الأمر، ألبسه: إذا لم أبيِّنه. ومعنى شيعاً: أي يجعلكم فرقاً، فاذا كنتم مختلفين، قاتل بعضكم بعضاً.
قوله تعالى: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أي: يقتل بعضكم بيد بعض.
وفيمن عُني بهذه الآية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها في المسلمين أهل الصلاة، هذا مذهب ابن عباس، وأبي العالية، وقتادة.
(٥٢٨) وقال أُبي بن كعب في هذه الآية: هن أربع خلال، وكلُّهن عذاب، وكلُّهن واقع قبل يوم القيامة، فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله ﷺ بخمس وعشرين سنة، أُلبسوا شيعاً، وأذيق بعضهم بأس بعض. وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف، والرجم.
والثاني: أن العذاب للمشركين، وباقي الآية للمسلمين، قاله الحسن.
(٥٢٩) وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: «سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يصيبكم بعذاب أصابه مَن كان قبلكم، فأعطانيها، وسألته إن لا يسلِّط عليكم عدواً يستبيح بيضتكم، فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض، فمنعنيها».
والثالث: أنها تهدُّدٌ للمشركين، قاله ابن جرير الطّبريّ، وأبو سليمان الدّمشقي.
موقوف. أخرجه أحمد ٥/ ١٣٥ عن أبي بن كعب موقوفا، وإسناده غير قوي، فيه أبو جعفر الرازي، وهو صدوق، لكنه سيء الحفظ. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٢١ وقال رواه أحمد ورجاله ثقات.
صحيح. أخرجه مسلم ٢٨٩٠ وابن أبي شيبة ١٠/ ٣٢٠ وأحمد ١/ ١٧٥ و ١٨١ و ١٨٢، وأبو يعلى ٧٣٤ وابن حبان ٧٢٣٧ من حديث سعد، وبعضهم اختصره. وأخرجه الطبري ٣٣٧٠ رواية نافع بن خالد الخزاعي عن أبيه أن النبي.. وفي الباب أحاديث منها: حديث ثوبان عند مسلم ٢٨٨٩ وأبو داود ٤٢٥٢ والترمذي ٢١٧٦ وابن ماجة ٣٩٥٢ وأحمد ٥/ ٢٧٨ و ٢٨٤ وابن حبان ٧٢٣٨ والبيهقي في «الدلائل» ٦/ ٥٢٦- ٥٢٧ والبغوي ٣٩١٠. وحديث خباب بن الأرت عند الترمذي ٢١٧٥ والنسائي ٣/ ٢١٦- ٢١٧ وأحمد ٥/ ١٠٨ و ١٠٩ وابن حبان ٧٢٣٦ والمزي في تهذيب «الكمال» ١٤/ ٤٤٧- ٤٤٨ والطبراني ٣٦٢١ و ٣٦٢٢ و ٣٦٢٤ و ٣٦٢٦. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح اهـ.
40

[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٦]

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦)
قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ في هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كناية عن القرآن. والثاني:
عن تصريف الآيات. والثالث: عن العذاب.
قوله تعالى: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فيه قولان:
أحدهما: لست حفيظاً على أعمالكم لأُجازيكم بها، إنما أنا منذر، قاله الحسن.
والثاني: لست حفيظاً عليكم، أخذكم بالإيمان، إنما أدعوكم إلى الله تعالى، قاله الزجاج.
فصل: وفي هذا القدر من الآية قولان: أحدهما: أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة، ثم نسخ ذلك بآية السيف. والثاني: أن معناه: لست حفيظاً عليكم، إنما أُطالبكم بالظواهر من الإِقرار والعمل، لا بالأسرار فعلى هذا هو محكم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٧]
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي: لكل خبر يخبر الله به وقت يقع فيه من غير خلف ولا تأخير. قال السدي: فاستقر نبأ القرآن بما كان يَعِدهم من العذاب يوم بدر. وقال مقاتل: منه في الدنيا يوم بدر، وفي الآخرة جهنّم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٨]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)
قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فيمن أريد بهذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها:
المشركون. والثاني: اليهود. والثالث: أصحاب الأهواء. والآيات: القرآن. وخوض المشركين فيه:
تكذيبهم به واستهزاؤهم، ويقاربه خوض اليهود، وخوض أهل الأهواء، والمراء، والخصومات.
قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: فاترك مجالستهم، حتى يكون خوضهم في غير القرآن. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ وقرأ ابن عامر: «يُنَسِّينَّكَ»، بفتح النون، وتشديد السين، والنون الثانية. ومثل هذا: غَرّمْتُهُ وأغرمتُه. وفي التنزيل: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ «١» والمعنى: إذا أنساك الشيطان، فقعدت معهم ناسياً نَهْيَنَا لك، فلا تقعد بعد الذكرى. والذكر والذكرى: واحد. قال ابن عباس: قم إذا ذكرت والظّالمون:
المشركون.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٩]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)
قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٥٣٠) أحدها: أن المسلمين قالوا: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه
عزاه المصنف لابن عباس ولم أقف عليه وهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
__________
(١) سورة الأعراف: ٥٥.
فمنعناهم، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا أن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية.
(٥٣١) والثاني: أن المسلمين قالوا: إنا نخاف الإثم إن لم ننههم عن الخوض، فنزلت هذه الآية.
(٥٣٢) والثالث: أن المسلمين قالوا: لو قمنا عنهم إذا خاضوا، فانا نخشى الإثم في مجالستهم، فنزلت هذه الآية. هذا عن مقاتل، والأولان عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: يتقون الشرك. والثاني: يتقون الخوض. قوله تعالى: مِنْ حِسابِهِمْ يعني: حساب الخائضين. وفي «حسابهم» قولان: أحدهما: أنه كفرهم وآثامهم. والثاني: عقوبة خوضهم.
قوله تعالى: وَلكِنْ ذِكْرى أي: ولكن عليكم أن تذكروهم، وفيما تذكرونهم به، قولان:
أحدهما: المواعظ. والثاني: قيامكم عنهم. قال مقاتل: إذا قمتم عنهم، منعهم من الخوض الحياء منكم، والرغبة في مجالستكم. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: يتقون الاستهزاء.
والثاني: يتقون الوعيد.
فصل: وقد ذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة، لأنها اقتضت جواز مجالسة الخائضين والاقتصار على تذكيرهم، ثم نسخت بقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ «١». والصحيح أنها محكمة، لأنها خبر، وإنما دلت على أن كل عبد يختص بحساب نفسه، ولا يلزمه حساب غيره.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٠]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
قوله تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فيهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار.
والثاني: اليهود والنصارى. وفي اتخاذهم دينهم لعباً ولهواً، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه استهزاؤهم بآيات الله إذا سمعوها. والثاني: أنهم دانوا بما اشتَهوا، كما يلهون بما يشتهون. والثالث: أنهم يحافظون على دينهم إذا اشتَهوا، كما يلهون إذا اشتَهوا. قال الفراء: ويقال: إنه ليس من قوم إلا ولهم عيد، فهم يلهون في أعيادهم، إلّا أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، فان أعيادهم صلاة وتكبير وبرٌ وخير.

فصل: ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، قولان: أحدهما: أنه خرج مخرج


ذكره البغوي في «تفسيره» ٢/ ١٣٣ عن ابن عباس بدون إسناد ولم أقف على إسناده والظاهر أنه من رواية الكلبي أو الضحاك وكلاهما يروي عن ابن عباس تفسيرا واهيا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث.
__________
(١) سورة النساء: ١٤٠. [.....]
التّهديد، كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «١». فعلى هذا هو محكم، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد. والثاني: أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف وإلى هذا ذهب قتادة، والسدي.
قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أي: عظ بالقرآن. وفي قوله: أَنْ تُبْسَلَ قولان: أحدهما: لئلا تبسل نفس، كقوله تعالى: أَنْ تَضِلُّوا «٢». والثاني: ذكرّهم إبسال المبسلين بجناياتهم لعلَّهم يخافون.
وفي معنى «تبسل» سبعة اقوال: أحدها: تُسْلَم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، والسدي. وقال ابن قتيبة: تُسْلَم إلى الهلكة. قال الشاعر:
وإبسالي بَنّي بِغَيْرِ جُرْمٍ بَعَوْناه ولا بِدِمٍ مُرَاقِِ «٣»
أي: بغير جرم أجرمناه والبَعْوُ: الجناية. وقال الزجاج: تُسْلَمُ بعملها غير قادرة على التخلص.
والمستبسل: المستسلم الذي لا يعلم أنه يقدر على التخلص. والثاني: تُفْضَح، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: تُدفع، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: تُهلَكُ، روي عن ابن عباس أيضاً.
والخامس: تُحبس وتُؤخذ، قاله قتادة، وابن زيد. والسادس: تُجزى، قاله ابن السائب، والكسائي.
والسابع: تُرتهن، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: تُرتهن وتسلم وأنشد:
هُنَالِكَ لا أرْجُو حَياةً تَسُرُّنِي سَمِيْرَ اللَّيالي مُبْسَلاً بالجَرَائِر «٤»
سمير الليالي: أبَدَ الليالي. فأما الولي: فهو الناصر الذي يمنعها من عذاب الله. والعدل: الفداء.
قال ابن زيد: وإن تفتد كلَّ فداء لا يقبل منها. فأما الحميم، فهو الماء الحار. قال ابن قتيبة: ومنه سمي الحمّام.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢)
قوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أنعبد ما لا يضرنا إن لم نعبده، ولا ينفعنا إن عبدناه، وهي الأصنام. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي: نرجع إلى الكفر بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى الإسلام، فنكون كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ. وقرأ حمزة: «استهواه الشياطين»، على قياس قراءته: «توفاه رُسْلُنا». وفي معنى «استهوائها» قولان: أحدهما: أنها هوت به وذهبت، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: تُشبَّه له الشياطين، فيتبعها حتى تهوي به في الأرض، فتضلّه. والثاني: زيَّنت له هواه، قاله الزجاج. قال:
و «حيران» منصوب على الحال، أي: استهوته في حال حيرته. قال السّدّيّ: قال المشركون للمسلمين:
(١) سورة المدثر: ١١.
(٢) سورة النساء: ١٧٦.
(٣) البيت لعوف بن الأحوص الكلابي «مجاز القرآن» ١/ ١٩٤ و «اللسان» بسل.
(٤) البيت للشنفرى وهو شاعر جاهلي من صعاليك العرب وفتاكهم «مجاز القرآن» ١/ ١٩٥، «اللسان» بسل.
قوله: سمير الليالي ويروى «سجيس الليالي». وهما بمعنى: ومعنى «مبسلا بالجرائر» : أنه أسلم إلى عدوه بما جنى عليهم.
اتَّبِعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فقال تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ فنكون كرجل كان مع قوم على طريق، فضلّ، فحيرته الشياطين، وأصحابه على الطريق يدعونه: يا فلان هلم إلينا، فانا على الطريق، فيأبى.
(٥٣٣) وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق، دعاه أبوه وأُمه إلى الإسلام فأبى. قال مقاتل: والمراد بأصحابه: أبواه «١».
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى هذا رد على من دعا إلى عبادة الأصنام، وزجرٌ عن إجابته، كأنه قيل له: لا تفعل ذلك، لأن هدى الله هو الهدى، لا هدى غيره.
قوله تعالى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ قال الزجاج: العرب تقول: أمرتك أن تفعل، وأمرتك لتفعل، وأمرتك بأن تفعل. فمن قال: «بأن» فالباء للالصاق. والمعنى: وقع الأمر بهذا الفعل، ومن قال: «أن تفعل» فعلى حذف الباء ومن قال: «لتفعل» فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الامر. قال: وفي قوله: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وجهان: أحدهما: أُمرنا لأن نسلم، ولأن نقيم الصلاة. والثاني: أن يكون محمولاً على المعنى، لأن المعنى: أُمرنا بالإسلام، وبإقامة الصّلاة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٣]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ فيه أربعة أقوال: أحدها: خلقهما للحق. والثاني: خلقهما حقاً. والثالث: خلقهما بكلامه وهو الحق. والرابع: خلقهما بالحكمة.
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قال الزجاج: الأجود أن يكون منصوباً على معنى:
واذكر يوم يقول كن فيكون، لأن بعده وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ فالمعنى: واذكر هذا وهذا. وفي الذي يقول له كن فيكون، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم القيامة، قاله مقاتل. والثاني: ما يكون في القيامة. والثالث:
أنه الصور، وما ذكر من أمر الصور يدل عليه، قالهما الزجاج. قال: وخُصَّ ذلك اليوم بسرعة إيجاد الشيء، ليدل على سرعة أمر البعث.
قوله تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ أي: الصدق الكائن لا محالة وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ.
وروى إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمرو «ننفخ» بنونين. ومعنى الكلام: أن الملوك يومئذ لا ملك لهم، فهو المنفرد بالملك وحده، كما قال: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «٢». وفي «الصور» قولان:
أحدهما: أنه قرن ينفخ فيه.
باطل. عزاه المصنف لابن عباس، وهو من رواية أبي صالح كما في «تفسير القرطبي» ٧/ ٢٠ وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته الكلبي يضع الحديث، والمتن باطل.
__________
(١) قول مقاتل هذا باطل وهو من بدع التأويل.
(٢) سورة الانفطار: ١٩.
44
(٥٣٤) روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله ﷺ عن الصور، فقال: «هو قرن ينفخ فيه. وقال مجاهد: الصّور كهيئة البوق. وحكى ابن قتيبة: أن الصور: القرن، في لغة قوم من أهل اليمن، وأنشد:
نحن نطحنا غَدَاةَ الجَمْعَيْن بالضَّابِحَاتِ في غُبارِ النَّقْعَيْن
نَطْحاً شَدِيدَاً لا كَنَطْحِ الصّورَيْن «١»

وأنشد الفراء:
لَوْلاَ ابنُ جَعْدَةَ لَم يُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُم وَلاَ خُرَاسَانُ حتَّى يُنْفَخَ الصُّوْرُ «٢»
وهذا اختيارُ الجمهور.
والثاني: أن الصور جمع صورة يقال: صورة وصور، بمنزلة سورة وسور، كسورة البناء والمراد نفخ الأرواح في صُوَرِ الناس، قاله قتادة، وأبو عبيدة. وكذلك قرأ الحسن، ومعاذ القارئ، وأبو مِجْلَز، وأبو المتوكل «في الصُّوَر» بفتح الواو. قال ثعلب: الأجود أن يكون الصور: القرن، لأنه قال عزّ وجلّ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ثم قال: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ولو كان الصُّوَر، كان: ثم نُفخ فيها، أو فيهن وهذا يدل على أنه واحد وظاهر القرآن يشهد أنه يُنفخ في الصُّور مرتين.
(٥٣٥) وقد روى أهل التفسير عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الصّور قرن ينفخ فيه
حسن صحيح. أخرجه أبو داود ٤٧٤٢ والترمذي ٢٤٣٠ و ٣٢٤٤ والنسائي في «الكبرى» ١١٣١٢ و ١١٣٨١ و ١١٤٥٦ وأحمد ٢/ ١٦٢ و ١٩٢ والدارمي ٢/ ٣٢٥ وابن حبان ٧٣١٢ والحاكم ٢/ ٤٣٦ و ٥٠٦ و ٤/ ٥٦٠ وأبو نعيم في «الحلية» ٧/ ٢٤٣ والمزي في «تهذيب الكمال» ٤/ ١٣٠ وابن المبارك في «الزهد» ١٥٩٩.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الترمذي كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
هو بعض حديث الصور المطول. أخرجه الطبراني في «الطوال» ٣٦، وأبو الشيخ في «العظمة» ٣٨٨ و ٣٨٩ و ٣٩٠، والبيهقي في «البعث» ٦٦٨ و ٦٦٩، والطبري ٢/ ٣٣٠ و ٣٣١ و ١٧/ ١١٠ و ٢٤/ ٣٠ و ٦١ و ٣٠/ ٢٦ و ٣١ و ٣٢ وإسحاق بن راهويه كما في «المطالب العالية» ٢٩٩١ من طرق عن إسماعيل بن رافع، وهو واه، فرواه تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة وتارة عن محمد بن يزيد ابن أبي زيادة عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع، ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد، وهو واه. جاء في الميزان ٨٧٢: ضعفة أحمد ويحيى وجماعة، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر اهـ.
باختصار. وقد اضطرب فيه كما سبق. وقد نص الحفاظ على وهن هذا الحديث بطوله فقال الحافظ في «المطالب العالية» ٢٩٩١: فيه ضعف ا. هـ. وقال البوصيري، في ١/ ٢١: تابعيه مجهول. وجاء في الفتح
__________
(١) الرجز في «غريب القرآن» : ٢٦ بدون نسبة، والأول والثالث في «اللسان» صور. والضابحات: الخيل.
(٢) البيت: بدون نسبة في «معاني القرآن» للفراء ١/ ٢٤٠ واللسان: صور. وابن جعدة هو عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي. والقهندز: بضم القاف والهاء وسكون النون وضم الدال من لغة خراسان، يعنون بها الحصن أو القلعة. وقد استشهد الفراء وابن جرير على أن العرب تقول: نفخ في الصور، ونفخ الصور.
45
ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع. والثانية: نفخة الصعق. والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين». قال ابن عباس: وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي الأولى، يعني: نفخة الصعق.
قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه، وَالشَّهادَةِ وهو ما شاهدوه ورأوه. وقال الحسن: يعني بذلك السر والعلانية.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٤]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ في «آزر» أربعة أقوال: أحدها: أنه أسم أبيه، روي عن ابن عباس، والحسن، والسدي، وابن إسحاق. والثاني: أنه اسم صنم، فأما اسم أبي إبراهيم، فتارح، قاله مجاهد. فيكون المعنى: أتتخذ آزر أصناماً؟ فكأنه جعل أصناماً بدلاً من آزر، والاستفهام معناه الإنكار. والثالث: أنه ليس باسم، إنما هو سبّ بعيب، وفي معناه قولان: أحدهما: أنه المعوَّج، كأنه عابه بزيغه وتعويجه عن الحق، ذكره الفراء. والثاني: أنه المخطئ، فكأنّه قال: يا مخطئ أتتخذ أصناماً؟ ذكره الزجاج. والرابع: أنه لقب لأبيه، وليس باسمه، قاله مقاتل بن حيان. قال ابن الانباري:
قد يغلب على اسم الرجل لقبه، حتى يكون به أشهر منه باسمه. والجمهور على قراءة «آزر» بالنصب.
وقرأ الحسن، ويعقوب بالرفع. قال الزجاج: من نصب، فموضع «آزر» خفضٌ بدلاً من أبيه ومن رفع فعلى النداء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٥]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ أي: وكما أريناه البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه، نريه مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقيل: «نري» بمعنى أرينا. قال الزجاج: والملكوت بمنزلة المُلك، إلا أن الملكوت أبلغ في اللغة، لأن الواو والتاء يزادان للمبالغة ومثل الملكوت: الرغبوت والرهبوت.
قال مجاهد: ملكوت السماوات والأرض: آياتها تفرّجت له السماوات السبع، حتى العرشُ، فنظر فيهن، وتفرجت له الأرضون السبع، فنظر فيهن. وقال قتادة: ملكوت السّماوات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار. وقال السدي: أُقيم على صخرة، وفتحت له السماوات والأرض، فنظر إلى ملك الله عزّ وجلّ، حتى نظر إلى العرش، وإلى منزله من الجنّة، وفتحت
١١/ ٣٦٨- ٣٦٩ عقب حديث ٦٥١٨ ما ملخصه: وأخرجه عبد بن حميد وأبي يعلى في «الكبير» وعلي بن معبد في «الطاعة والمعصية» ومداره على إسماعيل بن رافع، واضطرب في سنده مع ضعفه، وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في «تفسيره» عن محمد بن عجلان عن محمد القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع، وخفي عليه أن الشامي أضعف منه، ولعله سرقه من إسماعيل فلزقه بابن عجلان وقد قال الدارقطني: يضع الحديث. وقد قال الحافظ ابن كثير: جمعه إسماعيل بن رافع من عدة آثار فساقه كله مساقا واحدا ا. هـ. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو بكر بن العربي في «سراجه» وتبعه القرطبي في «التذكرة» وقول عبد الحق في تضعيفه أولى، وضعفه قبله البيهقي اهـ كلام الحافظ، وتكلم عليه أيضا ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية» ٢/ ٢٢٣ و ٢٢٤.
وخلاصة القول: أنه حديث ضعيف بهذا التمام، وبعض ألفاظه في الصحيحين وغيرهما وبعضه في الكتاب المعتبرة وبعضه الآخر منكر لا يتابع عليه انظر «تفسير ابن كثير» ٢/ ١٩٠.
له الأرضون السبع، حتى نظر إلى الصخرة التي عليها الأرضون.
قوله تعالى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ هذا عطف على المعنى، لأن معنى الآية: نريه ملكوت السّماوات والأرض ليستدل به، وليكون من الموقنين. وفي ما يوقِن به ثلاثة أقوال: أحدها: وحدانية الله وقدرته. والثاني: نبوته ورسالته. والثالث: ليكون موقنا بعلم كل شيء حساً، لا خبراً.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٦]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦)
قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قال الزجاج: يقال: جن عليه الليل، وأجنه الليل: إذا أظلم، حتى يستر بظلمته ويقال لكل ما ستر: جنّ، وأجنّ، والاختيار أن يقال: جنّ عليه الليل، وأجنه الليل.
الإشارة إلى بذء قصة إبراهيم عليه السلام: روى أبو صالح عن ابن عباس قال: وُلد إبراهيم في زمن نُمروذ، وكان لنمروذ كُهَّان، فقالوا له: يولد في هذه السنة مولود يفسد آلهة أهل الأرض، ويدعوهم إلى غير دينهم، ويكون هلاك أهل بيتك على يديه، فعزل النساء عن الرجال، ودخل آزر إلى بيته، فوقع على زوجته، فحملت، فقال الكهان لنمروذ: إن الغلام قد حمل به الليلة. فقال: كل من ولدت غلاما فاقتلوه. فلما أخذ أُم إبراهيم المخاضُ، خرجت هاربة، فوضعته في نهر يابس، ولفّته في خرقة، ثم وضعته في حَلْفاء، وأخبرت به أباه، فأتاه، فحفر له سرباً، وسد عليه بصخرة، وكانت أُمه تختلف إليه فترضعه، حتى شب وتكلم، فقال لأُمه: من ربي؟ فقالت: أنا. قال: فمن ربكِ؟ قالت:
أبوك. قال: فمن رب أبي؟ قالت: اسكت. فسكت، فرجعت إلى زوجها، فقالت: إن الغلام الذي كنا نتحدث أنه يغير دين أهل الأرض، ابنك. فأتاه، فقال له مثل ذلك. فلما جنَّ عليه الليل، دنا من باب السرب، فنظر فرأى كوكباً. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم «رأى»، بفتح الراء والهمزة وقرأ أبو عمرو: «رَإى» بفتح الراء وكسر الهمزة، وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم.
«رِإى»، بكسر الراء والهمزة، واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن، وهو آت في ستة مواضع: رَأَى الْقَمَرَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ وفي النحل وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا «١» وفي الكهف: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ «٢»، وفي الأحزاب: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ «٣». وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة إلا العبسي، وخلف في اختياره: بكسر الراء وفتح الهمزة في الكل، وروى العبسي كسرة الهمزة أيضاً، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: وابن عامر، والكسائي: بفتح الراء والهمزة. فان اتصل ذلك بمكني، نحو: رآك، ورآه، ورآها فان حمزة، والكسائي، وخلف، والوليد عن ابن عامر، والمفضل، وأبان، والقزاز عن عبد الوارث، والكسائي عن أبي بكر: يكسرون الراء، ويميلون الهمزة.
وفي الكوكب الذي رآه قولان: أحدهما: أنه الزهرة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني:
المشتري، قاله مجاهد، والسدي.
قوله تعالى: قالَ هذا رَبِّي فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على ظاهره. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قال هذا ربي، فعبده حتى
(١) سورة النحل: ٨٥ و ٨٦.
(٢) سورة الكهف: ٥٣.
(٣) سورة الأحزاب: ٢٢.
غاب، وعبد القمر حتى غاب، وعبد الشمس حتى غابت واحتج أرباب هذا القول بقوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي وهذا يدل على نوع تحيير، قالوا: وإنما قال هذا في حال طفولته على ما سبق إلى وهمه، قبل أن يثبت عنده دليل. وهذا القول لا يرتضى، والمتأهِلّون للنبوة محفوظون من مثل هذا على كل حال. فأما قوله: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي فما زال الأنبياء يسألون الهدى، ويتضرّعون في دفع الضّلال عنهم، كقولهم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «١»، ولأنه قد آتاه رشده من قبل، وأراه ملكوت السّماوات والأرض ليكون موقناً، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التحيير؟! والثاني: أنه قال ذلك استدراجاً للحجة، ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها عند أفولها، ولا بد أن يضمر في نفسه: إما على زعمكم، أو فيما تظنون، فيكون كقوله: أَيْنَ شُرَكائِيَ «٢»، وإما أن يضمر: يقولون، فيكون كقوله تعالى: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «٣»، أي: يقولان ذلك، ذكر نحو هذا أبو بكر بن الانباري، ويكون مراده استدراج الحجة عليهم، كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون صنما، فأظهر تعظيمه، فأكرموه، وصدروا عن رأيه، فدهمهم عدو، فشاورهم ملِكهم، فقال: ندعو إلهنا ليكشف ما بنا، فاجتمعوا يدعونه، فلم ينفع، فقال: ها هنا إله ندعوه، فيستجيب، فدعَوُا الله، فصرف عنهم ما يحذرون، وأسلموا. والثالث: أنه قال مستفهما، تقديره: أهذا ربي؟ فأضمرت ألف الاستفهام، كقوله:
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «٤» ؟ أي: أفَهُمُ الخالدون؟ قال الشاعر:
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأيْتَ بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظَّلام مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ «٥»
أراد: أكذبتك؟ قال ابن الأنباري: وهذا القول شاذ، لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان فارقاً بين الإخبار والاستخبار وظاهر قوله: هذا رَبِّي أنه إشارة إلى الصانع. وقال الزجاج: كانوا أصحاب نجوم، فقال: هذا ربي، أي هذا الذي يدبرني، فاحتج عليهم أن هذا الذي تزعمون أنه مدبر، لا نرى فيه إلّا مدَّبر. و «أفل» بمعنى: غاب يقال: أفل النجم يأفُل ويأفِل أفولاً.
قوله تعالى: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي: حبَّ ربٍّ معبود، لأن ما ظهر وأفل كان حادثا مدبّرا.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ قال ابن قتيبة: سمي القمر قمراً لبياضه والأقمر: الأبيض وليلة قمراء، أي: مضيئة. فأما البازغ، فهو الطالع. ومعنى لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي: لئن لم يثبِّتني على الهدى. فان قيل: لم قال في الشمس: هذا، ولم يقل: هذه؟ فعنه أربعة أجوبه: أحدها: أنه رأى ضوء الشمس، لا عينها، قاله محمد بن مقاتل. والثاني: أنه أراد: هذا الطالع ربي، قاله الأخفش. والثالث: أن الشمس بمعنى الضياء والنور، فحمل الكلام على المعنى. والرابع: أن الشمس ليس في لفظها علامة من علامات التأنيث، وإنما يشبه لفظها لفظ المذكَّر، فجاز تذكيرها. ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
(١) سورة إبراهيم: ٣٥.
(٢) سورة النحل: ٢٧.
(٣) سورة البقرة: ١٢٧. [.....]
(٤) سورة الأنبياء: ٣٤.
(٥) البيت للأخطل من قصيدة يهجو بها جريرا، ديوانه ٤١ و «اللسان» كذب.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)
قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ قال الزجاج: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين عزّ وجلّ. وباقي الآية قد تقدم.
وقوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قال ابن عباس: جادلوه في آلهتهم، وخوَّفوه بها، فقال منكراً عليهم: أَتُحاجُّونِّي. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أَتُحاجُّونِّي وتَأْمُرُونِّي بتشديد النون. وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيفها، فحذفا النون الثانية لالتقاء النونين. ومعنى أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي: في توحيده. وَقَدْ هَدانِ، أي: بيَّن لي ما به اهتديت. وقرأ الكسائي: «هداني»، بامالة الدال. والإمالة حسنة فيما كان أصله الياء، وهذا من هدى يَهدي.
قوله تعالى: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي: لا أرهب آلهتكم، وذلك أنهم قالوا: نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء، فقال: لا أخافها لأنها لا تضر ولا تنفع إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً فله أخاف وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: عَلِمه علماً تاما.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)
قوله تعالى: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ أي: من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخافون أنتم أنكم أشركتم بالله الذي خلقكم ورزقكم، وهو قادر على ضركم ونفعكم ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي: حجة فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي: بأن يأمن العذاب، الموحّدُ الذي يعبد من بيده الضر والنفع؟ أم المشرك الذي يعبد ما لا يضر ولا ينفع؟ ثم بين الأحق من هو بقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أي: لم يخلطوه بشرك.
(٥٣٦) روى البخاري، ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك؟ فقال: إنّما هو الشّرك، ألم تسمعوا ما قاله لقمان لابنه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «١» ؟
حديث صحيح. أخرجه البخاري ٣٢ و ٣٤٢٨ و ٣٤٢٩ و ٤٧٧٦ و ٦٩١٨ و ٦٩٣٧ ومسلم ١٢٤، والترمذي ٣٠٦٧ والنسائي في «الكبرى» ١١٣٩٠ والطيالسي ٢٧٠ وأحمد ١/ ٣٨٧ و ٤٢٤ و ٤٤٤، والطبري ١٣٤٨٣ و ١٣٤٨٤ و ١٣٤٨٧. وابن حبان ٢٥٣ وابن مندة في «الإيمان» ٢٦٥ و ٢٦٦ و ٢٦٧ و ٢٦٨ والبيهقي ١٠/ ١٨٥ من حديث ابن مسعود.
__________
(١) سورة لقمان: ١٣.
وفيمن عني بهذه الآية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إبراهيم وأصحابه، وليست في هذه الأمة، قاله علي بن أبي طالب. وقال في رواية أخرى: هذه الآية لإبراهيم خاصة، ليس لهذه الأمة منها شيء.
والثاني: أنه من هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة. والثالث: أنها عامة، ذكره بعض المفسرين. وهل هي من قول ابراهيم لقومه، أم جواب من الله تعالى؟ فيه قولان.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٣]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا يعني ما جرى بينه وبين قومه من الاستدلال على حدوث الكوكب والقمر والشمس، وعيبهم، إذ سووا بين الصغير والكبير، وعبدوا من لا ينطق، وإلزامه إياهم الحجة.
آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها بالإلهام. وقال مجاهد: الحجة قول ابراهيم: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ؟
قوله تعالى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عمرو وابن عامر: «درجاتِ من نشاء»، مضافا. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ دَرَجاتٍ، منوّنا، وكذلك قرءوا في (يوسف). ثم في المعنى قولان: أحدهما: أن الرفع بالعلم والفهم والمعرفة. والثاني: بالاصطفاء للرسالة. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ قال ابن جرير: حكيم في سياسة خلقه، وتلقينه أنبياءه الحج على أممهم المكذبة عَلِيمٌ بما يؤول إليه أمر الكلّ.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٧]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧)
قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولداً لصلبه وَيَعْقُوبَ ولدا لإسحاق كُلًّا من هؤلاء المذكورين هَدَيْنا أي: أرشدنا.
قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ في «هاء الكناية»، قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى نوح رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، ومقاتل، وابن جرير الطبري. والثاني: إلى إبراهيم، قاله عطاء.
وقال الزجاج: كلا القولين جائز، لأن ذكرهما جميعاً قد جرى، واحتج ابن جرير للقول الأول بأن الله تعالى، ذكر في سياق الآيات لوطاً، وليس من ذرية إبراهيم، وأجاب عنه أبو سليمان الدمشقي بأنه يحتمل أن يكون أراد: ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة، ثم قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ من أبين دليل على انه إبراهيم، لأن افتتاح الكلام إنما هو بذكر ما أثاب به إبراهيم. فأما «يوسف» فهو اسم أعجمي. قال الفراء: «يوسف». بضم السين من غير همز، لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: «يؤسف»، بالهمز، وبعض العرب يقول: «يوسِف» بكسر السين، وبعض بني عُقيل يقول:
«يوسَف» بفتح السين.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه، بأن
رفعنا درجته، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتقياء، كذلك نجزي المحسنين. فأما عيسى، وإلياس، واليسع، ولوطا، فأسماء أعجمية، وجمهور القرّاء يقرءون «اليسع» بلام واحدة مخففة، منهم ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو وابن عامر. وقرأ حمزة، والكسائيّ ها هنا وفي (ص) «إلِلْيَسَّعَ» بلامين مع التشديد. قال الفراء: وهي أشبه بالصواب، وبأسماء الأنبياء من بني إسرائيل، ولأن العرب لا تدخل على «يَفْعَل»، إذا كان في معنى فلان، ألفاً ولاماً، يقولون: هذا يسع قد جاء، وهذا يعمر، وهذا يزيد، فهكذا الفصيح من الكلام. وأنشدني بعضهم.
وَجَدْنا الوَلِيْد بنَ اليَزْيِد مباركاً شَدِيْداً بأحْناءِ الخِلافَةِ كاهِلُه «١»
فلما ذكر الوليد بالألف واللام، أتبعه يزيد بالألف واللام، وكلٌ صواب. وقال مكي: من قرأه بلام واحدة، فالأصل عنده: يسع، ومن قرأه بلامين، فالأصل عنده: لَيْسَعُ، فأدخلوا عليه حرف التعريف. وباقي أسماء الأنبياء قد تقدم بيانها، والمراد بالعالمين: عالمو زمانهم.
قوله تعالى: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ «من» ها هنا للتبعيض. قال الزجاج: المعنى: هدينا هؤلاء، وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم. وَاجْتَبَيْناهُمْ مثل اخترناهم واصطفيناهم، وهو مأخوذ من جبيت الشيء:
إذا أخلصته لنفسك. وجبيت الماء في الحوض: إذا جمعته فيه. فأمّا الصّراط المستقيم، فهو التّوحيد.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٨]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
قوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ قال ابن عباس: ذلك دين الله الذي هم عليه يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَلَوْ أَشْرَكُوا يعني الأنبياء المذكورين لَحَبِطَ أي: لبطل وزال عملهم، لأنه لا يقبل عمل مشرك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٩]
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني الكتاب التي أنزلها عليهم. والحكم: الفقه والعلم فَإِنْ يَكْفُرْ بِها يعني بآياتنا. وفيمن أُشير إليه ب «هؤلاء» ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنهم أهل مكة، قاله ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة. والثاني: أنهم قريش، قاله السدي. والثالث: أمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن.
(١) البيت منسوب لابن ميادة الرماح بن أبرد، معاني القرآن ١/ ٣٤٢. وأحناء: جمع الحنو هو الجهة والجانب.
الكاهل اسم لما بين الكتفين ويعبر بشدة الكاهل عن القوة.
(٢) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ٢٦١: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: عني بقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ، كفار قريش فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرا عنهم أولى وأحق من أن يكون خبرا عن غيرهم. فتأويل الكلام إذا كان ذلك كذلك، فإن كفر قومك من قريش، يا محمد بآياتنا، وكذبوا وجحدوا حقيقتها فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رسلنا وأنبياءنا من قبلك الذين لا يجحدون حقيقتها ولا يكذبون بها ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها. ا. هـ.
قوله تعالى: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قال أبو عبيدة: فقد رزقناها قوماً. وقال الزجاج: وكلنا بالإيمان بها قوماً. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم أهل المدينة من الأنصار، قاله ابن عباس، وابن المسيب، وقتادة، والسدي. والثاني: الأنبياء والصالحون، قاله الحسن. وقال قتادة: هم النبيُّون الثمانية عشر، المذكورون في هذا المكان، وهذا اختيار الزجاج، وابن جرير. والثالث: أنهم الملائكة، قاله أبو رجاء. والرابع: أنهم المهاجرون والأنصار.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٠]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يعني النبيين المذكورين. وفي قوله تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قولان: أحدهما: بشرائعهم وبسننهم فاعملْ، قاله ابن السائب. والثاني: اقتدِ بهم في صبرهم، قاله الزجاج. وكان ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، يثبتون الهاء من قوله: «اقتده» في الوصل ساكنة. وكان حمزة، والكسائيّ وخلف، ويعقوب، والكسائي عن أبي بكر، واليزيدي في اختياره، يحذفون الهاء في الوصل. ولا خلاف في إثباتها في الوقف، وإسكانها فيه. قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً يعني على القرآن. والذكرى: العظة. والعالمون ها هنا: الجنّ والإنس.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩١]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)
قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ في سبب نزولها سبعة أقوال «١» :
(١) قال الطبري في تفسيره ٥/ ٢٦٤: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال، عني بقوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مشركو قريش، وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا، فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا مع ماضي الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتاب، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود: الإقرار بصحف إبراهيم وموسى، وزبور داود وإذا لم يأت بما روى من الخبر بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبر صحيح متصل السند، ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع، وكان الخبر من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة الأوثان، وكان قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ موصولا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولكني أظن أن الذين تأولوا ذلك خبرا عن اليهود، وجدوا قوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ فوجهوا تأويل ذلك إلى أن لأهل التوراة فقرأوه على وجه الخطاب لهم تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ فجعلوا ابتداء الآية خبرا عنهم إذا كانت خاتمتها خطابا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل، لما وصفت قبل من أن قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل فالأولى أن يكون ذلك خبرا عنهم. والأصوب من القراءة، في قوله: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً منها. أن يكون بالياء لا بالتاء، على معنى: أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، ويكون الخطاب بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ لمشركي قريش، وهذا هو المعنى الذي قصده كمجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك، وكذلك كان يقرأ. اهـ.
52
(٥٣٧) أحدها: أن مالك بن الصيف رأس اليهود، أتى رسول الله ﷺ ذات يوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين» ؟ قال: نعم.
قال: «فأنت الحبر السمين». فغضب، ثم قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال سعيد بن جبير، وعكرمة: نزلت في مالك بن الصيف.
(٥٣٨) والثاني: أن اليهود قالوا: يا محمد، أنزل الله عليك كتاباً؟ قال: «نعم». قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فنزلت هذه الآية، رواه الوالبي عن ابن عباس.
(٥٣٩) والثالث: أن اليهود قالوا: يا محمد، إن موسى جاء بألواح يحملها من عند الله، فائتنا بآية كما جاء موسى، فنزل: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ، إلى قوله:
عَظِيماً «١». فلما حدَّثهم بأعمالهم الخبيثة، قالوا: والله ما أنزل الله عليك ولا على موسى وعيسى، ولا على بشر، من شيء، فنزلت هذه الآية، قاله محمد بن كعب.
والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، آتاهم الله علما، فلم ينتفعوا به، قاله قتادة.
(٥٤٠) والخامس: أنها نزلت في فنحاص اليهودي، وهو الذي قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قاله السدي.
(٥٤١) والسادس: أنها نزلت في مشركي قريش، قالوا: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والسابع: أن أولها، إلى قوله: مِنْ شَيْءٍ في مشركي قريش. وقوله تعالى: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى في اليهود، رواه ابن كثير عن مجاهد.
وفي معنى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: ما عظَّموا الله حق عظمته، قاله ابن
ضعيف. أخرجه الطبري ١٣٥٣٩ من رواية جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير مرسلا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٤٠ عن سعيد بن جبير بدون إسناد.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وهي رواية واهية فيه انقطاع بين علي الوالبي وابن عباس.
- أخرجه الطبري ١٣٥٤٤ من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٣٨ من رواية الوالبي عن ابن عباس.
مرسل. أخرجه الطبري ١٣٥٤٢ عن محمد بن كعب القرظي مرسلا والمرسل من قسم الضعيف.
مرسل. أخرجه الطبري ١٣٥٤١ عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
الخلاصة هذه الروايات وإن كانت ضعيفة أو مرسلة لكنها تتأكد بمجموعها ومع ذلك اختار ابن جرير القول الآتي، انظر التعليق على ذلك.
مرسل أخرجه الطبري ١٣٥٤٧ عن مجاهد مرسلا والمرسل من قسم الضعيف.
__________
(١) سورة النساء: ١٥٣- ١٥٦.
53
عباس، والحسن، والفراء، وثعلب، والزجاج. والثاني: ما وصفوه حقّ صفته، قاله أبو العالية، واختاره الخليل. والثالث: ما عرفوه حق معرفته، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: «يجعلونه قراطيس» معناه: يكتبونه في قراطيس. وقيل: إنما قال: قراطيس، لأنهم كانوا يكتبونه في قراطيس مقطَّعة، حتى لا تكون مجموعة، ليخفوا منها ما شاؤوا.
قوله تعالى: «يبدونها» قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يجعلونه قراطيس يبدونها» و «يخفون» بالياء فيهن. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالتاء فيهن. فمن قرأ بالياء، فلأن القوم غُيّب، بدليل قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. ومن قرأ بالتاء، فعلى الخطاب والمعنى: تبدون منها ما تحبون، وتخفون كثيراً، مثل صفة محمّد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم، ونحو ذلك مما كتموه.
قوله تعالى: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ في المخاطب بهذا قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، قاله الجمهور. والثاني: أنه خطاب للمسلمين، قاله مجاهد. فعلى الأول:
عُلِّموا ما في التوراة وعلى الثاني: عُلِّموا على لسان محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ هذا جواب لقوله: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ وتقديره: فإن أجابوك، وإلا فقل:
الله أنزله.
قوله تعالى: ثُمَّ ذَرْهُمْ تهديد. وخوضهم: باطلهم. وقيل: إن هذا أمر بالإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٢]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
قوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ يعني القرآن. قال الزجاج: والمبارك: الذي يأتي من قِبَله الخير الكثير. والمعنى: أنزلناه للبركة والإنذار.
قوله تعالى: مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتاب.
قوله تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى قرأ عاصم إلا حفصا: «ولينذر» بالياء فيكون الكتاب هو المنذر.
وقرأ الباقون: بالتاء، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. فأما أم القرى، فهي مكة. قال الزجاج: والمعنى: لتنذر أهل أم القرى. وفي تسميتها بأم القرى أربعة أقوال: أحدها: أنها سميت بذلك، لأن الأرض دُحيت من تحتها، قاله ابن عباس. والثاني: لأنها أقدمُها، قاله ابن قتيبة. والثالث: لأنها قبلة جميع الناس، يَؤُمُّونها. والرابع: لأنها كانت أعظم القرى شأناً، ذكرهما الزجاج.
قوله تعالى: وَمَنْ حَوْلَها قال ابن عباس: يريد الأرض كلها.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن. والثاني: إلى النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: من آمن بالآخرة آمن به ومن لم يؤمن به، فليس إيمانه بالآخرة حقيقة، ولا يعتد به، ألا ترى إلى قوله: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فدل على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصّلوات.

[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٣]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أن أولها، إلى قوله: وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ نزل في مُسيلمة الكذاب. وقوله تعالى:
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (٥٤٢) نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان قد تكلم بالإسلام، وكان يكتب لرسول الله ﷺ في بعض الأحايين فاذا أُملي عليه: «عزيز حكيم» كتب: «غفور رحيم» فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هذا وذاك سواء. فلما نزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: خَلْقاً آخَرَ عجب عبد الله بن سعد، فقال: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كذا أنزلت عليَّ، فاكتبها» فشك حينئذ، وقال: لئن كان محمد صادقاً، لقد أوحي إليَّ كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً، لقد قلت كما قال، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال عكرمة: ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة.
والقول الثاني: أن جميع الآية في عبد الله بن سعد، قاله السّدّيّ.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٤٢ عن ابن عباس من رواية الكلبي معلقا والكلبي متروك متهم. وأخرجه الطبري ١٣٥٥٩ من مرسل عكرمة.
وكرره ١٣٥٦٠ من مرسل السدي، وأخرجه الحاكم ٣/ ٤٥ والواحدي في «أسباب النزول» ٤٤٢ من مرسل شرحبيل بن سعد. فالحديث بهذه الطرق مع اختلاف مخارجها. والله أعلم- ربما يتقوى ولكن لا تبلغ درجة ما يحتج به. انظر «تفسير الشوكاني» ٩١٢، و «تفسير القرطبي» ٢٩٢٩ بتخريجنا.
__________
(١) قال الطبري في «تفسيره» : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ولا تمانع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: «إني قد قلت مثل ما قال محمد». وأنه ارتد عن إسلامه والتحق بالمشركين. فكان لا شك بذلك من قيله مفتريا كذبا وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسي الكذابين ادعيا على الله كذبا أنه بعثهما نبيين، وقال كل واحد منهما إن الله أوحى إليه. وهو كاذب في قيله. فإن كان ذلك كذلك، فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقا على الله كذبا. وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره: «أوحى الله إلي». وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئا. فأما التنزيل فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم. وجائز أن يكون عني به جميع المشركين من العرب. إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم يغيروه. فعيّرهم الله بذلك. وتوعدهم بالعقوبة على تركهم نكير ذلك، ومع تركهم نكيره هم بنبيه محمد ﷺ كاذبون، ولنبوته جاحدون، ولآيات الله وتنزيله دامغون، فقال لهم جل ثناؤه: «ومن أظلم ممن ادعى على النبوة كاذبا» وقال:
أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فينقض قوله بقوله، ويكذب بالذي تحققه وينفي ما يثبته، وذلك إذا تدبره العاقل الأريب علم أن فاعله من عقله عديم ا. هـ.
(٥٤٣) والثالث: أنها نزلت في مسيلمة، والأسود العنْسيّ، قاله قتادة.
فان قيل: كيف أفرد قوله: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ من قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى وذاك مفترٍ أيضا؟
فعنه جوابان: أحدهما: أن الوصفين لرجل واحد، وصف بأمر بعد أمر ليدل على جرأته. والثاني: أنه خص بقوله: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ بعد أن عم بقوله: افْتَرى عَلَى اللَّهِ لأنه ليس كل مفترٍ على الله يدعي أنه أوحي إليه، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي: سأقول. قال ابن عباس: يعنون الشّعر، وهم المستهزئون. وقيل: هو قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح. قال الزجاج: وهذا جواب لقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا.
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فيهم ثلاثة أقوال:
(٥٤٤) أحدها: أنهم قوم كانوا مسلمين بمكة، فأخرجهم الكفار معهم إلى قتال بدر، فلما أبصروا قلّة أصحاب رسول الله ﷺ رجعوا عن الإيمان فنزل فيهم هذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنهم الذين قالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قاله أبو سليمان. والثالث: الموصوفون في هذه الآية، وهم المفترون والمدَّعون الوحي إليهم، ومماثلة كلام الله. قال الزجاج: وجواب «لو» محذوف، والمعنى: لو تراهم في غمرات الموت لرأيت عذاباً عظيماً. ويقال لكل من كان في شيء كبير: قد غمر فلاناً ذلك. قال ابن عباس: غمرات الموت: سكراته. قال ابن الانباري: قال اللغويون:
سميت غمرات لأن أهوالها يغمرن من يقعن به.
قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بالضرب، قاله ابن عباس.
والثاني: بالعذاب، قاله الحسن، والضحاك. والثالث: باسطوها لقبض الأرواح من الأجساد، قاله الفراء. وفي الوقت الذي يكون هذا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عند الموت. قال ابن عباس: هذا عند الموت، الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وملك الموت يتوفاهم. والثاني: يوم القيامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: في النار، قاله الحسن.
قوله تعالى: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ فيه إضمار «يقولون» وفي معناه قولان:
أحدهما: استسلموا لإخراج أنفسكم. والثاني: أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم.
قوله تعالى: تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ قال أبو عبيدة: الهون: مضموم، وهو الهوان وإذا فتحوا أوله، فهو الرِّفق والدَّعة. قال الزجاج: والمعنى: تجزَون العذاب الذي يقع به الهوان الشّديد.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٤]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٣٥٦١ عن قتادة مرسلا فهو ضعيف والمتن منكر، فالسورة مكية، وخبر مسيلمة مدني.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة لأن مدارها على الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى.
(٥٤٥) سبب نزولها: أن النضر بن الحارث قال: سوف تشفع لي اللاَّت والعزى، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة.
ومعنى فرادى: وُحداناً. وهذا إخبار من الله تعالى بما يوبِّخ به المشركين يوم القيامة. قال أبو عبيدة: فرادى، أي: فرد فرد. وقال ابن قتيبة: فرادى: جمع فرد. وللمفسرين في معنى «فرادى» خمسة اقوال متقاربة المعنى: أحدها: فرادى من الأهل والمال والولد، قاله ابن عباس. والثاني: كل واحد على حدة، قاله الحسن. والثالث: ليس معكم من الدنيا شيء، قاله مقاتل. والرابع: كل واحد منفرد عن شريكه في الغيّ، وشقيقه، قاله الزجاج. والخامس: فرادى من المعبودين، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه ثلاثة اقوال: أحدها: لا مال ولا أهل ولا ولد. والثاني:
حفاةً عراةً غرلاً. والغرل: القلف. والثالث: أحياءً. وخولناكم: بمعنى ملّكناكم. وَراءَ ظُهُورِكُمْ أي: في الدنيا. والمعنى أن ما دأبتم في تحصيله في الدنيا فني، وبقي الندم على سوء الاختيار. وفي شفعائهم، قولان: أحدهما: أنها الأصنام. قال ابن عباس: شفعاؤكم، أي: آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم. وزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ أي: عندكم شركاء. وقال ابن قتيبة: زعمتم أنهم لي في خلقكم شركاء. والثاني: أنها الملائكة كانوا يعتقدون شفاعتها، قاله مقاتل.
قوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: بالرفع. وقرأ نافع، والكسائي، وحفص عن عاصم: بنصب النون على الظرف. قال الزجاج:
الرفع أجود، ومعناه: لقد تقطَّع وصلكم، والنصب جائز ومعناه: لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم. وقال ابن الانباري: التقدير: لقد تقطع ما بينكم، فحذف «ما» لوضوح معناها. قال أبو علي:
الذين رفعوه، جعلوه اسماً، فأسندوا الفعل الذي هو «تقطَّع» إليه والمعنى: لقد تقطع وصلكم. والذين نصبوا، أضمروا اسم الفاعل في الفعل، والمضمر هو الوصل فالتقدير: لقد تقطع وصلكم بينكم.
وفي الذي كانوا يزعمون قولان: أحدهما: شفاعة آلهتهم. والثاني: عدم البعث والجزاء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٥]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى في معنى الفلق قولان: أحدهما: أنه بمعنى الخلق، فالمعنى: خالق الحب والنوى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل. والثاني: أن الفلق بمعنى الشق. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنه الشقان اللَّذان في الحب والنوى، قاله مجاهد، وأبو مالك. قال ابن السائب: الحب: ما لم يكن له نوى، كالبرّ
ضعيف أخرجه الطبري ١٣٥٧٧ عن عكرمة مرسلا فهو ضعيف. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٤٧٨ عن عكرمة مرسلا.
والشعير والنوى: مثل نوى التمر.
قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قد سبق تفسيره في (آل عمران).
قوله تعالى: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: كيف تُصرفون عن الحقّ بعد هذا البيان.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٦]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)
قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ في معنى الفلق قولان قد سبقا. فأما الإصباح، فقال الأخفش: هو مصدر من أصبح. وقال الزجاج: الإصباح والصبح واحد. وللمفسرين في الإصباح، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه إضاءة الفجر، قاله مجاهد. وقال ابن زيد: فلق الإصباح من الليل. والثالث: أنه نوَّر النهار، قاله الضحاك. وقرأ أنس بن مالك، والحسن، وأبو مجلز، وأيوب، والجحدري: «فالق الأَصباح» بفتح الهمزة. قال أبو عبيدة: ومعناه جمع صبح.
قوله تعالى: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «جاعل» بألف، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «وجعل» بغير ألف. «الليلَ» نصباً. قال أبو عليّ: من قرأ: «وجاعل» فلأجل «فالق» وهم يراعون المشاكلة. ومن قرأ: «جعل» فلأنّ «فاعلا» ها هنا. بمعنى: «فعل» بدليل قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً. فأما السكن، فهو ما سكنْتَ إليه. والمعنى: أن الناس يسكنون فيه سكون راحة. وفي الحسبان قولان:
أحدهما: أنه الحساب، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة: يقال: خذ من كل شيء بحسبانه، أي:
بحسابه. وفي المراد بهذا الحساب، ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يجريان إلى أجل جُعل لهما، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: يجريان في منازلهما بحساب، ويرجعان إلى زيادة ونقصان، قاله السدي. والثالث: أن جريانهما سبب لمعرفة حساب الشهور، والأعوام، قاله مقاتل.
والقول الثاني: أن معنى الحسبان: الضياء، قاله قتادة. قال الماوردي: كأنه أخذه من قوله تعالى:
وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ «١» أي: ناراً. قال ابن جرير: وليس هذا من ذاك في شيء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ جعل، بمعنى خلق. وإنما امتنَّ عليهم بالنجوم، لأن سالكي القفار وراكبي البحار، إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم فَمُسْتَقَرٌّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، إلا رُويساً: بكسر القاف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بفتحها.
قال الزجاج: من كسر، فالمعنى: «فمنكم مستقِر» ومن نصب، فالمعنى: «فلكم مستقَرّ». فأما مستودع،
(١) سورة الكهف: ٤٠.
فبالفتح، لا غير. ومعناه على فتح القاف: «ولكم مستودع» وعلى كسرها «ومنكم مستودع». وللمفسّرين في معنى المستقر والمستودع تسعة أقوال «١» : أحدها: فمستقر في الأرحام، ومستودع في الأصلاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، والنخعي، وقتادة، والسدي، وابن زيد. والثاني: المستقر في الأرحام، والمستودع في القبر، قاله ابن مسعود. والثالث:
المستقر في الأرض، والمستودع في الأصلاب، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والرابع: المستقر والمستودع في الرحم، رواه قابوس عن أبيه عن ابن عباس. والخامس: المستقر حيث يأوي، والمستودع حيث يموت، رواه مقسم عن ابن عباس. والسادس: المستقر في الدنيا والمستودع في القبر. والسابع: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وهو عكس الذي قبله، رويا عن الحسن.
والثامن: المستقر في الدنيا، والمستودع عند الله تعالى، قاله مجاهد. والتاسع: المستقر في الأصلاب، والمستودع في الأرحام، قاله ابن بحر، وهو عكس الأول.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٩]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ أي: بالمطر. وفي قوله تعالى: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ قولان: أحدهما: نبات كل شيء من الثمار، لأن كل ما ينبت، فنباته بالماء.
والثاني: رزق كل شيء وغذاؤه. وفي قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ قولان: أحدهما: من الماء، أي:
به. والثاني: من النبات. قال الزجاج: الخَضِر بمعنى الأخضر يقال: اخضرَّ، فهو أخْضر، وخَضِر، مثل أعوَّر، فهو أعْوَر، وعَوِر.
قوله تعالى: نُخْرِجُ مِنْهُ أي: من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً كالسنبل والشعير. والمتراكب:
الذي بعضه فوق بعض. قوله تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وروى الخفّاف عن أبي عمرو:
«قُنوان» بضم القاف وروى هارون عنه بفتحها. قال الفراء: معناه: ومن النخل ما قنوانه دانية وأهل الحجاز يقولون: «قِنوان» بكسر القاف وقيس يضمّونها وضبّة، وتميم يقولون: «قنيان» أنشدني المفضّل عنهم:
(١) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٢٠٢: «فمستقر» أي في الأرحام و «مستودع» أي في الأصلاب وهذا القول هو الأظهر والله أعلم ا. هـ. وقال الطبري في «تفسيره» ٥/ ٢٨٦: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه عمّ بقوله: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ كل خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة، فمستقرا ومستودعا ولم يخص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أن في بني آدام مستقرا في الرحم، ومستودعا في الصلب، ومنهم من هو مستقر على ظهر الأرض أو بطنها، ومستودع في أصلاب الرجال، ومنهم مستقر في القبر، مستودع على ظهر الأرض. فكلّ «مستقر» أو «مستودع». بمعنى من هذه المعاني، فداخل في عموم قوله فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ومراد به، إلا أن يأتي خبر يجب التسليم له بأنه معنى به معنى دون معنى، وخاص دون عام. ا. هـ.
59
فأثَّتْ أعَالِيْهِ وآدَتْ أصُوْلُه وَمَالَ بِقِنْيانٍ من البُسْرِ أحْمَرَا «١»
ويجتمعون جميعاً، فيقولون: «قِنو» و «قُنو» ولا يقولون: «قِني» ولا «قُني» وكلب تقول: «ومال بقنيان». قلت: هذا البيت لامرئ القيس رواه أبو سعيد السكري: «ومال بِقِنوان» مكسورة القاف مع الواو، ففيه أربع لغات: قِنوان، وقُنوان، وقنيان، وقنيان و «أثّت» : كثرت ومنه: شعر أثيث.
و «آدت» : اشتدت. وقال ابن قتيبة: القنوان: عذوق النخل، واحدها: قنو، جمع على لفظ تثنية ومثله: صنو وصنوان في التثنية، وصنوان في الجميع. وقال الزجاج: قِنوان: جمع قِنو، وإذا ثنيته فهما قِنوان، بكسر النون. ودانية، أي: قريبة المتناول، ولم يقل: «ومنها قنوان بعيدة» لأن في الكلام دليلاً أن البعيدة السحيقة قد كانت غير سحيقة، فاجتزئ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة كقوله تعالى:
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «٢». وقال ابن عباس: القُنوان الدانية: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض.
قوله تعالى: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ قال الزجاج: هو نسق على قوله: «خضراً» وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ المعنى: وأخرجنا منه شجر الزيتون والرمان وقد روى أبو زيد عن المفضّل: «وجنات» بالرفع.
قوله تعالى: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مشتبها في المنظر وغير متشابه في الطعم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: مشتبهاً ورقه، مختلفاً ثمره، قاله قتادة، وهو في معنى الأول. والثالث: منه ما يشبه بعضه بعضاً، ومنه ما يخالف. قال الزجاج: وإنما قرن الزيتون بالرمان، لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره. قال الشاعر.
بُورِكَ الميّت الغَريبُ كما بو رِكَ نَضْحُ الرُّمَّانِ والزَّيْتُونِ «٣»
ومعناه: أن البركة في ورقه اشتمالُه على عوده كلِّه.
قوله تعالى: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ، وكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ، ولِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ: بالفتح في ذلك. وقرأ حمزة.
والكسائي، وخلف: بالضّمّ فيهنّ. قال الزّجّاج: يقال: ثمرة، ثمر، وثِمَار، وثُمُر فمن قرأ: «إلى ثُمُره» بالضم أراد جمع الجمع. وقال أبو علي: يحتمل وجهين: أحدهما: هذا، وهو أن يكون الثمر جمع ثمار، والثاني: أن تكون الثمر جمع ثمرة، وكذلك: أكمة، وأُكُم، وخشبة وخُشُب. قال الفراء:
يقول: انظروا إليه أول ما يَعْقِد، وانظروا إلى ينعه، وهو نضجه وبلوغه. وأهل الحجاز يقولون: يَنْعَ، بفتح الياء، وبعض أهل نجد يضمونها. قال ابن قتيبة: يقال: ينَعت الثّمر، وأينعت: إذا أدركت، وهو اليُنْع واليَنْع. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، والأعمش، وابن محصن: «ويُنعِه» بضم الياء. قال الزجاج: الينع: النُضج. قال الشاعر:
(١) البيت لامرئ القيس. ديوانه ٦٧. «اللسان» قنا. وقوله: أثت أعاليه: عظمت والتفت من ثقل حملها. وقوله:
آدت أي تثنت ومالت.
(٢) سورة النحل: ٨١.
(٣) البيت منسوب إلى أبي طالب بن عبد المطلب «اللسان» نضح.
60
في قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعا «١»
وبيَّن الله تعالى لهم بتصريف ما خلق، ونقله من حال إلى حال لا يقدر عليه الخلق، أنه كذلك يبعثهم.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس: يصدِّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى. وقال مقاتل: يصدّقون بالتّوحيد.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)
قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ جعلوا، بمعنى وصفوا. قال الزجاج: نصبُ «الجن» من وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولاً، فيكون المعنى: وجعلوا لله الجنَ شركاء ويكون الجن مفعولاً ثانيا، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «٢». والثاني: أن يكون الجن بدلاً من شركاء، ومفسراً للشركاء. وقرأ ابو المتوكل، وأبو عمران، وأبو حياة، والجحدري: «شركاء الجنُ» برفع النون وقرأ ابن عبلة، ومعاذ القارئ: «الجنِّ» بخفض النون. وفي معنى جعلهم الجن شركاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان، فجعلوهم شركاء لله، قاله الحسن، والزجاج.
والثاني: قالوا: إن الملائكة بنات الله فهم شركاؤه، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً فسمى الملائكة جنَّاً لاجتنانهم، قاله قتادة والسدي، وابن زيد. والثالث: أن الزنادقة قالوا: الله خالق النور والماء والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب، وفيهم نزلت هذه الآية.
قاله ابن السائب «٣».
قوله تعالى: وَخَلَقَهُمْ في الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الجاعلين له الشركاء، فيكون المعنى: وجعلوا للذي خلقهم شركاء لا يخلقون. والثاني: أنها ترجع إلى الجن، فيكون المعنى: والله خلق الجن، فكيف يكون الشريك لله مُحدِثا؟ ذكرهما الزجاج.
قوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ وقرأ نافع: «وخرّقوا» بالتشديد، للمبالغة والتكثير، لأن المشركين ادَّعوا الملائكةَ بناتِ الله، والنصارى المسيحَ. واليهود عزيراً. وقرأ ابن عباس، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «وحرّفوا» بحاء غير معجمة وبتشديد الراء وبالفاء. وقرأ ابن السّميفع، والجحدريّ:
«وخارقوا» بألف وخاء معجمة قال السدي: أما «البنون»، فقول اليهود، عزير ابن الله، وقول النصارى:
المسيح ابن الله، وأما «البنات» فقول مشركي العرب: الملائكة بناتُ الله. قال الفراء: خرّقوا، واخترقوا، وخلقوا، واختلقوا، بمعنى افتروا. وقال أبو عبيدة: خرقوا: جعلوا. قال الزّجّاج: ومعنى:
(١) البيت منسوب إما للأحوص أو إلى يزيد بن معاوية. وهو في «اللسان» دسكر و «مجاز القرآن» ١/ ٢٠٢.
الدسكرة: بناء كالقصر. كانت الأعاجم تتخذه للشرب والملاهي. [.....]
(٢) سورة الصافات: ١٥٨.
(٣) عزاه المصنف للكلبي، وهو ساقط العدالة، يضع الحديث، فخبره لا شيء.
- وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٤٣ عن الكلبي بدون إسناد.
«بغير علم» أنهم لم يذكروه من علم، إنما ذكروه تكذّبا.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)
قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ قال الزجاج: أي: من أين يكون له ولد، والولد لا يكون إلا من صاحبة؟! واحتج عليهم في نفي الولد بقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فليس مثل خالق الأشياء، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟! فاذا نُسب إليه الولد، فقد جعُل له مثل.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٣]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ في الإدراك قولان «١» : أحدهما: أنه بمعنى الإحاطة.
والثاني: بمعنى الرؤية. وفي «الأبصار» قولان: أحدهما: أنها العيون، قاله الجمهور. والثاني: أنها العقول، رواه عبد الرّحمن بن مهدي عن أبي حصين القارئ. ففي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: لا تحيط به الأبصار، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء. وقال الزجاج:
معنى الآية: الإحاطة بحقيقته، وليس فيها دفع للرؤية، لِما صح عن رسول الله ﷺ من الرؤية، وهذا مذهب أهل السُنَّة والعلم والحديث. والثاني: لا تدركه الأبصار إذا تجلَّى بنوره الذي هو نوره، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: لا تدركه الأبصار في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال
(١) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٢٠٤- ٢٠٥- ٢٠٦. الآية لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ. فيه أقوال للأئمة من السلف أحدها: لا تدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد كما قال مسروق، عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب. فإن الله يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ. وقد خالفهما ابن عباس فعنه إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين. وقال آخرون: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ: أي جميعها، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة. وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الآية: أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، أما الكتاب فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وقال تعالى عن الكافرين كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. قال الإمام الشافعي: فدلّ هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى وأما السنة فقد تواترت الأخبار أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات، وفي روضات الجنان. جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين. وقيل: المراد بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي العقول وهذا غريب جدا. وخلاف ظاهر الآية، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية والله أعلم. وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أحصن من الرؤية، ولا يلزم نفي الأحصن انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي، ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته. فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى. وقال آخرون:
المراد بالإدراك الإحاطة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم. قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً. ونفي هذا الإدراك الخاص، لا ينفي الرؤية يوم القيامة، يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه- تعالى وتقدس وتنزه- فلا تدركه الأبصار ا. هـ.
الحسن، ومقاتل، ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا، قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «١» فقيَّد النظر إليه بالقيامة، وأطلق في هذه الآية، والمطلق يحمل على المقيد. وقوله تعالى:
وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ فيه القولان: قال الزجاج: وفي هذا الإعلام دليل على أنَّ خَلْقَه لا يدركون الأبصار، أي: لا يعرفون حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه، دون أن يبصر من غيرهما من أعضائه فأعلم الله أن خلقاً من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه، ولا يحيطون بعلمه فكيف به عزّ وجلّ؟! فأما «اللطيف»، فقال أبو سليمان الخطابي: هو البرّ بعباده، الذي يلطف لهم من حيث لا يعلمون، ويسبِّب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون. قال ابن الاعرابي: اللطيف: الذي يوصل إليك أرَبَك في رِفق ومنه قولهم: لطف الله بك ويقال: هو الذي لَطُفَ عن أن يُدرَك بالكيفية.
وقد يكون اللطف بمعنى الدقة والغموض، ويكون بمعنى الصغر في نعوت الأجسام، وذلك مما لا يليق بصفات الباري سبحانه. وقال الأزهري: اللطيف من أسماء الله، معناه: الرفيق بعباده والخبير: العالم بكنه الشيء، المطّلع على حقيقته.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٤]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)
قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصائر: جمع بصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به. قال الزجاج: والمعنى: قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ نفع ذلك وَمَنْ عَمِيَ فعلى نفسه ضرر ذلك، لأن الله عزّ وجلّ غني عن خلقه. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ والوكيل، وهذا قبل الأمر بالقتال.
(فصل:) وذكر المفسرون أن هذه الآية نسخت بآية السيف. وقال بعضهم: معناها: لست رقيباً عليكم، أحصي أعمالكم فعلى هذا لا وجه للنّسخ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٥]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ قال الأخفش: وَكَذلِكَ معناها: وهكذا. وقال الزجاج: المعنى: وَمِثْلُ ما بيَّنَّا فيما تُلي عليك، نُبيِّن الآيات، قال ابن عباس: نصرِّف الآيات، أي نبيِّنها في كل وجه، ندعوهم بها مرَّة، ونخوفهم بها أُخرى. وَلِيَقُولُوا يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن «دارست». قال ابن الانباري: معنى الآية: وكذلك نصرف الآيات، لنلزمهم الحجة، وليقولوا:
دارست وإنما صرّف الآيات ليسعد قوم بفهمها والعمل بها، ويشقى آخرون بالإعراض عنها فمن عمل بها سعد، ومن قال: دارست، شقي. قال الزجاج: وهذه اللام في «ليقولوا» يسميها أهل اللغة لام الصيرورة. والمعنى: أن السّبب الذي أدّاهم إلى أن يقولوا: دارست!، هو تلاوة الآيات، وهذا كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «٢» وهم لم يطلبوا بأخذه أن يعاديهم، ولكن كان عاقبة الأمر أن صار لهم عدواً وحزناً. ومثله أن تقول: كتب فلان الكتاب لحتفه، فهو لم يقصد أن يُهلك نفسه بالكتاب. ولكن العاقبة كانت الهلاك. فأما «دارست» فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «دارست»
(١) سورة القيامة: ٢٢- ٢٣.
(٢) سورة القصص: ٨.
بالألف وسكون السين وفتح التاء ومعناها: ذاكرت أهل الكتاب. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي:
«درست» بسكون السين وفتح التاء، من غير ألف، على معنى: قرأت كتب أهل الكتاب. قال المفسرون: معناها: تعلمت من جبر، ويسار. وسنبين هذا في قوله: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «١» إن شاء الله. وقرأ ابن عامر، ويعقوب: «درست» بفتح الراء والسين وسكون التاء من غير ألف. والمعنى: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد درست. أي: قد مضت وامّحت. وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته. وقد روي عن نافع أنه قال: «دُرِسَت» برفع الدال وكسر الراء وتخفيف التاء، وهي قراءة ابن يعمر ومعناها قُرئت. وقرأ أبي بن كعب: «دَرُسَتْ» بفتح الدال والسين وضم الراء وتسكين التاء.
قال الزجاج: وهي بمعنى: «دَرَسَتْ» أي: امّحت إلا أن المضمومة الراء أشدّ مبالغة. وقرأ معاذ القارئ، وأبو العالية، ومورِّق: «دُرِّسْتَ» برفع الدال، وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرّف: «دَرَسَ» بفتح الراء والسين بلا ألف ولا تاء. وروى عصمة عن الأعمش:
«دارس» بألف.
قوله تعالى: وَلِنُبَيِّنَهُ يعني: التصريف لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما تبين لهم من الحق فيقبلوه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)
قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قال المفسرون: نسخ بآية السيف.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا فيه ثلاثة اقوال حكاها الزجاج: أحدها: لو شاء لجعلهم مؤمنين. والثاني: لو شاء لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان. والثالث: لو شاء لا ستأصلهم، فقطع سبب شركهم. قال ابن عباس: وباقي الآية نسخ بآية السيف.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٨]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في سبب نزولها قولان:
(٥٤٦) أحدهما: أنه لما قال للمشركين: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «٢» قالوا: لتنتهينَّ يا محمد عن سبِّ آلهتنا وعيبها، أو لنهجونَّ إلهك الذي تعبده، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ضعيف. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس. وأخرجه الطبري ١٣٧٤٢ من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وفيه إرسال بينهما وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٤٤ من رواية الوالبي عن ابن عباس.
__________
(١) سورة النحل: ١٠٣.
(٢) سورة الأنبياء: ٩٨.
(٥٤٧) والثاني: أن المسلمين كانوا يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوماً جهلة لا علم لهم بالله، قاله قتادة.
ومعنى «يدعون» : يعبدون، وهي الأصنام. فَيَسُبُّوا اللَّهَ أي: فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك إلى الله تعالى، لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى، لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم، وإن أشركوا به. وقوله تعالى: عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ، أي: ظلماً بالجهل. وقرأ يعقوب: «عُدُوّاً»، بضم العين والدال وتشديد الواو. والعرب تقول في الظلم: عدا فلان عَدْواً وعُدُوّاً وعُدواناً. وعدا، أي: ظلم.
قوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أي: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام، وطاعة الشيطان، كذلك زينا لكل جماعة اجتمعت على حق أو باطل عملهم من خير أو شر. قال المفسرون:
وهذه الآية نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٩]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)
قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ في سبب نزولها قولان:
(٥٤٨) أحدهما: أنه لما نزل في (الشعراء) : إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً «١» قال المشركون:
أنزلها علينا حتى والله نؤمن بها فقال المسلمون: يا رسول الله، أنزلها عليهم لكي يؤمنوا فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(٥٤٩) والثاني: أن قريشاً قالوا: يا محمد، تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، فينفجر منها اثنتا عشرة عيناً، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا بمثل هذه الآيات حتى نصدَّقك: فقال: «أي شيء تحبون؟» قالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهباً. قال: «فان فعلت تصدقوني؟» فقالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتّبعنّك أجمعين. فقام رسول الله ﷺ يدعو، فجاءه جبريل فقال: إن شئت أصبح الصّفا ذهبا، ولكني لم أرسل آية فلم يصدَّق بها، إلا أنزلت العذاب، وإن شئت تركتُهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله ﷺ «اتركهم حتى يتوب تائبهم»، فنزلت هذه الآية إلى قوله:
يَجْهَلُونَ، هذا قول محمد بن كعب القرظي.
وقد ذكرنا معنى جَهْدَ أَيْمانِهِمْ في (المائدة) وإنما حلفوا على ما اقترحوا من الآيات،
ضعيف. أخرجه الطبري ١٣٧٤٣ عن قتادة مرسلا فهو ضعيف، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٤٥ عن قتادة مرسلا.
موضوع. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، ورواية أبي صالح هو الكلبي وكلاهما روى عن ابن عباس تفسير موضوعا.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٣٧٥٠ والواحدي ٤٤٧ عن محمد بن كعب القرظي مرسلا ومع إرساله في إسناده أبو معشر نجيح السندي، وهو ضعيف فالخبر واه. وورد عن الكلبي، وهو لا شيء لأنه متروك متهم.
__________
(١) سورة الشعراء: ٤.
كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «١».
قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من خلقه وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها أي: يدريكم أنها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وخلف في اختياره: بكسر الألف، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله «يشعركم» للمشركين، ويكون تمام الكلام عند قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ ويكون المعنى: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون «إنها» مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم. وقال أبو علي: التقدير: وما يشعركم إيمانهم؟
فحذف المفعولُ. والمعنى: لو جاءت الآية التي اقترحوها، لم يؤمنوا. فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: «وما يشعركم إنها» فقلت: ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع إنما قال: وَما يُشْعِرُكُمْ ثم ابتدأ فأوجب، فقال: «إنها إذا جاءت لا يؤمنون» ولو قال: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ
كان ذلك عذراً لهم. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي: «أنها» بفتح الألف فعلى هذا، المخاطب بقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما:
وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وفي قراءة أُبي: «لعلها إذا جاءت لا يؤمنون». والعرب تجعل «أن» بمعنى «لعل». يقولون: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً، أي: لعلك. قال عدي بن زيد:
أعَاذِلُ ما يُدْرِيْكِ أنَّ مَنِيَّتي إلى سَاعَةٍ في اليَوْمِ أو في ضُحَى غَدِ
أي: لعل منيتي. وإلى هذا المعنى ذهب الخليل، والفراء في توجيه هذه القراءة.
والثاني: أن المعنى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون، وتكون «لا» صلة كقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «٢» وقوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «٣»، ذكره الفراء ورده الزجاج واختار الأول. والأكثرون على قراءة: «يؤمنون» بالياء منهم ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم وقرأ ابن عامر، وحمزة: بالتاء، على الخطاب للمشركين. قال أبو علي: من قرأ بالياء، فلأنَّ الذين أقسموا غُيَّبٌ، ومن قرأ بالتاء، فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٠]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ التقليب: تحويل الشيء عن وجهه. وفي معنى الكلام، أربعة أقوال: أحدها: لو أتيناهم بآية كما سألوا، لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها، وحُلْنا بينهم وبين الهدى، فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها، عقوبة لهم على ذلك. وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد. والثاني: أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرجوع إلى الدنيا فالمعنى:
لو رُدُّوا لحُلْنا بينهم وبين الهدى كما حُلْنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا، روى هذا المعنى ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: ونقلّب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان بالآيات كما لم يؤمن أوائلهم
(١) سورة الإسراء: ٩٠.
(٢) سورة الأعراف: ١٢.
(٣) سورة الأنبياء: ٩٥.
من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات، قاله مقاتل. والرابع: أن ذلك التقليب في النار، عقوبة لهم، ذكره الماوردي.
وفي هاء «به» أربعة أقوال. أحدها: أنها كناية عن القرآن. والثاني: عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والثالث: عما ظهر من الآيات. والرابع: عن التقليب.
وفي المراد ب «أول مرة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن المرة الأولى: دار الدنيا. والثاني: أنها معجزات الأنبياء قبل محمّد عليه السلام. والثالث: أنها صرف قلوبهم عن الإيمان قبل نزول الآيات أن لو نزلت والطغيان والعمه مذكوران في (البقرة).
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١١]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ.
(٥٥٠) سبب نزولها: أن المستهزئين أتوا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة، فقالوا له: ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحق ما تقول، أم باطل؟ أو أرنا الملائكة يشهدون لك أنك رسول الله، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ومعنى الآية: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ كما سألوا وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى فشهدوا لك بالنبوة وَحَشَرْنا أي: جمعنا: عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ في الدنيا قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، فأخبر أن وقوع الإيمان بمشيئته، لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا لم يؤمنوا. فأمّا قوله تعالى:
«قِبَلاً»، فقرأ ابن عامر، ونافع: بكسر القاف وفتح الباء. قال ابن قتيبة: معناها: معاينة. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة والكسائي: «قُبُلا» بضم القاف والباء. وفي معناها، ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه جمع قبيل، وهو الصِّنْف فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلاً قبيلاً، قاله مجاهد، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: أنه جمع قبيل أيضاً، إلا أنه: الكفيل فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء، فكَفَلَ بصحة ما تقول، اختاره الفراء، وعليه اعتراض، وهو أن يقال: إذا لم يؤمنوا بانزال الملائكة، وتكليم الموتى، فَلأَنْ لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول، أولى. فالجواب: أنه لو كَفَلَت الأشياء المحشورة، فنطق ما لم ينطق، كان ذلك آية بينة. والثالث: أنه بمعنى المقابل، فيكون المعنى: وحشرنا عليهم كل شيء، فقابلهم، قاله ابن زيد. قال أبو زيد: يقال: لقيت فلاناً قِبَلاً وقَبَلاً وقُبُلاً وقبيلا وقبليّا ومقابلة، وكله واحد، وهو المواجهة. قال أبو علي: فالمعنى في القرآن- على ما قاله أبو زيد- واحد، وإن اختلفت الألفاظ.
قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ فيه قولان: أحدهما: يجهلون أن الاشياء لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى. والثاني: أنهم يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا، راجع ترجمتهما في «الميزان».

[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٢]

وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي: وكما جعلنا لك ولأُمتك شياطين الإنس والجن أعداءً، كذلك جعلنا لمن تقدَّمك من الأنبياء وأُممهم والمعنى: كما ابتليناك بالأعداء، ابتلينا مَنْ قبلك، ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى. قال الزّجّاج: «عدوّ» : في معنى أعداء، و «شياطين الإنس والجن» : منصوب على البدل من «عدو»، ومفسر له ويجوز أن يكون: «عدواً» منصوب على أنه مفعول ثان، المعنى: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداءً لأُممهم «١». وفي شياطين الإنس والجن ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مردة الإنس والجن، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أن شياطين الإنس: الذين مع الإنس، وشياطين الجن: الذين مع الجن، قاله عكرمة، والسدي. والثالث: أن شياطين الإنس والجن: كفارهم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: يُوحِي أصل الوحي: الإعلام والدلالة بِسَتر وإخفاء. وفي المراد به ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: يأمر. والثاني: يوسوس. والثالث: يشير.
وأما زُخْرُفَ الْقَوْلِ، فهو ما زُيِّن منه، وحُسِّن، ومُوِّه، وأصل الزخرف: الذهب. قال أبو عبيدة: كل شيء حسَّنته وزيَّنتَه وهو باطل، فهو زخرف. وقال الزجاج: «الزخرف» في اللغة: الزينة فالمعنى: أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة و «غروراً» منصوب على المصدر وهذا المصدر محمول على المعنى، لأن معنى إيحاء الزخرف من القول: معنى الغرور، فكأنه قال: يَغرُّون غُروراً.
وقال ابن عباس: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً: الأمانيُّ بالباطل. قال مقاتل: وَكّلَ إبليسُ بالإنس شياطين يُضِلُّونَهم، فاذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن قال أحدهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضللْ أنت صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحي بعضهم إلى بعض. وقال غيره: إن المؤمن إذا أعيا شيطانه، ذهب إلى متمرد من الإنس، وهو شيطان الإنس، فأغراه بالمؤمن ليفتنه. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين. وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد عليَّ من شيطان الجن، لأنّي كإذا تعوَّذت من ذاك ذهب عني، وهذا يجرني إلى المعاصي عِياناً.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الوسوسة. والثاني: ترجع إلى الكفر. والثالث: إلى الغرور، وأذى النبيّين.
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ قال مقاتل: يريد كفار مكة وما يفترون من الكذب. وقال غيره: فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم، وما يختلقون من كذب، وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف.
(١) قال الحافظ ابن كثير «تفسيره» ٢/ ٢١١ الآية شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: الشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء قبحهم الله ولعنهم.

[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٣]

وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
قوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أي: ولتميل والهاء: كناية عن الزخرف والغرور. والأفئدة: جمع فؤاد، مثل غراب وأغربة. قال ابن الأنباري: فعلنا بهم ذلك لكي تصغى إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، «وليرضوا» الباطل، وَلِيَقْتَرِفُوا أي: ليكتسبوا، وليعملوا ما هم عاملون.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٤]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)
قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً.
(٥٥١) سبب نزولها: أن مشركي قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حَكَمَاً إن شئت من أحبار اليهود، وإن شئت من أحبار النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي.
فأما الحَكَمُ، فهو بمعنى الحاكم والمعنى: أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم؟! والْكِتابَ:
القرآن، و «المفصل» : المبين الذي بان فيه الحق من الباطل، والأمر من النهي، والحلال من الحرام.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فيهم قولان: أحدهما: علماء أهل الكتابين، قاله الجمهور. والثاني: رؤساء أصحاب النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلم، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأشباههم، قاله عطاء. قوله تعالى:
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ قرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: «منزّل» بالتشديد وخفّفها الباقون.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٥]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)
قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع: «كلمات» على الجمع وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، «كلمة» على التوحيد وقد ذكرت العرب الكلمة، وأرادت الكثرة يقولون: قال قُسّ في كلمته، أي: في خطبته، وزهير في كلمته، أي: في قصيدته. وفي المراد بهذه الكلمات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها القرآن، قاله قتادة. والثاني: أقضيتُه وعداته. والثالث: وعده ووعيده وثوابه وعقابه. وفي قوله تعالى: صِدْقاً وَعَدْلًا قولان: أحدهما:
صدقاً فيما أخبر، وعدلاً فيما قضى وقدَّر. والثاني: صدقاً فيما وعد وأوعد، وعدلاً فيما أمر ونهى.
وفي قوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ قولان: أحدهما: لا يقدر المفترون على الزيادة فيها والنقصان منها.
والثاني: لا خُلف لمواعيده، ولا مغير لحكمه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٦]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦)
قوله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ.
لم أقف عليه، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد. وذكره الماوردي في «تفسيره» ٢/ ١٦٠ بدون سند ولا عزو لقائل.
(٥٥٢) سبب نزولها: أن الكفار قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل ربُّكم؟
فنزلت هذه الآية، ذكره الفراء.
والمراد ب أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ: الكفار، وفي ماذا يطيعهم فيه أربعة أقوال: أحدها: في أكل الميتة. والثاني: في أكل ما ذبحوا للأصنام. والثالث: في عبادة الأوثان. والرابع: في اتباع ملل الآباء. وسَبِيلِ اللَّهِ: دينه. قال ابن قتيبة: ومعنى يَخْرُصُونَ: يحدسون ويوقعون ومنه قيل للحازر: خارص. فان قيل: كيف يجوز تعذيب من هو على ظنٍ من شركه، وليس على يقينٍ من كفره! فالجواب: انهم لما تركوا التماس الحجة، واتبعوا أهواءهم، واقتصروا على الظن والجهل، عُذِّبوا، ذكره الزّجّاج.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٧]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ قال الزجاج: موضع «مَنْ» رفع بالابتداء، ولفظها لفظ الاستفهام والمعنى: إن ربك هو أعلم أيُّ الناس يَضل عن سبيله. وقرأ الحسن: «من يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد، وهي رواية ابن أبي شريح. قال أبو سليمان: ومقصود الآية: لا تلتفت إلى قسم من أقسم أنه يؤمن عند مجيء الآيات، فلن يؤمن إلا من سبق له القدر بالإيمان.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٨]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)
قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
حديث قوي. ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة. فقد أخرجه أبو داود ١٨١٨ وابن ماجة ٣١٧٣ والحاكم ٤/ ١١٣ و ٢٣١ والطبري ١٣٨١٣ و ١٣٨٢٦ والبيهقي ٩/ ٢٤١ من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس: إن المشركين قالوا للمسلمين... الحديث. وهذا إسناد، رجاله ثقات، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة، وقد صحح الحافظ ابن كثير هذا الإسناد، وكدا صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وورد من وجه آخر نحوه، أخرجه النسائي في «التفسير» ١٩١ والطبري ١٣٨١٥ عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس، وإسناده غير قوي لأجل هارون بن عنترة.
وله شاهد من مرسل الحضرمي، أخرجه الطبري ١٣٨١٨ ومن مرسل الضحاك ١٣٨٢٠ لكن في الطريق جويبر بن سعيد، وهو متروك ولكن توبع جويبر برقم ١٣٨٢٨. وله شاهد من مرسل مجاهد ١٣٨٢١ و ١٣٨٢٢ ومن مرسل قتادة ١٣٨٢٣ و ١٣٨٢٥ من مرسل السدي. وله شاهد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري ١٣٨١٧ لكن فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح من هذا الوجه.
وورد بذكر اليهود بدل المشركين، أخرجه الترمذي ٣٠٦٩ من طريق زياد بن عبد الله البكائي عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وإسناده ضعيف لضعف عطاء بن السائب، فإنه اختلط، وزياد لين الحديث وقد اضطرب عطاء فيه فقد أخرجه أبو داود ٢٨١٩ والطبراني ١٣٨٢٩ والطبري ١٢٢٩٥، والبيهقي ٩/ ٢٤٠ كلهم عن عمران بن عيينة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «جاءت اليهود... وذكر اليهود فيه نظر من وجوه ثلاثة. أحدها: أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا. الثاني: أن الآية مكية.
الثالث: اضطراب الروايات عن ابن السائب. الخلاصة: ذكر النبي ﷺ في الخبر ضعيف، وكون الذين جادلوا هم اليهود، ضعيف منكر والله أعلم. انظر «أحكام القرآن»
٨٦١ و «فتح القدير» ٩٣٢ بتخريجنا.
(٥٥٣) سبب نزولها: أن الله تعالى لما حرم الميتة، قال المشركون للمؤمنين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم، يريدون الميتة، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٩]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)
قوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا قال الزجاج: المعنى: وأي شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا؟
وموضع «أن» نصب، لأن «في» سقطت، فوصل المعنى إلى «أن» فنصبها.
قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «فصَّل لكم ما حرم عليكم» مرفوعتان وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، ويعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: «فَصَّل» بفتح الفاء، «ما حَرَّم» بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «فَصَّل» بفتح الفاء، «ما حُرِّم» بضم الحاء. قال الزجاج: أي: فُصِّل لكم الحلال من الحرام، وأُحل لكم في الاضطرار ما حُرِّم.
وقال سعيد بن جبير: فُصِّل لكم ما حُرِّم عليكم، يعني: ما بُيِّن في (المائدة) من الميتة، والدم، إلى آخر الآية. «وإن كثيراً ليضَلون بأهوائهم» يعني: مشركي العرب يَضلون في أمر الذبائح وغيره، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «ليضلون»، وفي (يونس) :«ربنا ليَضِلوا» وفي (ابراهيم) :«أنداداً ليَضلوا» وفي (الحج) :
«ثاني عطفه ليَضل» وفي (لقمان) :«ليَضل عن سبيل الله بغير علم» وفي (الزمر) :«أنداداً ليَضل»، بفتح الياء في هذه المواضع الستة وضمهن عاصم وحمزة، والكسائي. وقرأ نافع، وابن عامر: «ليَضَلون بأهوائهم». وفي (يونس) «ليَضلوا» بالفتح وضما الأربعة الباقية. فمن فتح، أراد: أنهم هم الذين ضلوا ومن ضم، أراد: أنهم أضلوا غيرهم، وذلك أبلغ في الضلال، لأن كل مضلّ ضالّ؟ وليس كلّ ضال مضلّا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٠]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
قوله تعالى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ، في الإثم ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الزنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس فعلى هذا، في ظاهره وباطنه قولان: أحدهما:
أن ظاهره: الإعلان به، وباطنه: الاستسرار به، قاله الضحاك، والسدي. قال الضحاك: وكانوا يرون الاستسرار بالزنا حلالاً. والثاني: أن ظاهره نكاح المحرمات، كالأُمهات، والبنات، وما نكح الآباء.
وباطنه: الزنا، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: أنه عام في كل إثم. والمعنى: ذروا المعاصي، سرَّها وعلانيتها وهذا مذهب أبي العالية، ومجاهد، وقتادة، والزجاج. وقال ابن الأنباري: المعنى: ذروا الإثم من جميع جهاته.
والثالث: أن الإثم: المعصية، إلّا أنّ المراد به ها هنا أمر خاصّ. قال ابن زيد: ظاهره ها هنا:
نزع أثوابهم، إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة، وباطنه: الزّنا.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهذه الرواية واهية، لكن المتن محفوظ، انظر ما قبله.

[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢١]

وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ سبب نزولها مجادلة المشركين للمؤمنين في قولهم: أتأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله! على ما ذكرنا في سبب قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا قول ابن عباس.
(٥٥٤) وقال عكرمة: كتبت فارس إلى قريش: إن محمداً وأصحابه لا يأكلون ما ذبحه الله، ويأكلون ما ذبحوا لأنفسهم فكتب المشركون إلى أصحاب النبيّ ﷺ بذلك، فوقع في أنفس ناسٍ من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت هذه الآية.
وفي المراد بما لم يذكر اسم الله عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه الميتة، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنه الميتة والمنخنقة، إلى قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، روي عن ابن عباس.
والثالث: أنها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها، قاله عطاء. والرابع: أنه عام فيما لم يسمَّ الله عند ذبحه وإلى هذا المعنى ذهب عبد الله بن يزيد الخطمي، ومحمد بن سيرين.
(فصل:) فان تعمَّد ترك التسمية، فهل يباح؟ فيه عن أحمد روايتان «١». وإن تركها ناسياً أُبيحت.
وقال الشافعي: لا يحرم في الحالين جميعاً. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: فاذا قلنا: إن ترك التسمية عمداً يمنع الإباحة، فقد نُسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ «٢». وعلى قول الشافعي: الآية محكمة.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يعني: وإنَّ أكلَ ما لم يُذكر عليه اسم الله لفسق، أي: خروج عن الحقّ والدّين. وفي المراد بالشياطين ها هنا قولان: أحدهما: أنهم شياطين الجن، روي عن ابن عباس الثاني: قوم من أهل فارس، وقد ذكرناه عن عكرمة. فعلى الأولى: وحيهم الوسوسة، وعلى الثاني:
وحيهم الرسالة. والمراد ب «أوليائهم» الكفار الذين جادلوا رسول الله ﷺ في ترك أكل الميتة «٣». ثم
ضعيف منكر. أخرجه الطبري ١٣٨٠٩ عن عكرمة مرسلا فهو ضعيف، وكرره ١٣٨١٠ عن عكرمة بنحوه مرسلا أيضا، وذكره «فارس» منكر، وتقدم الراجح.
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المفتي» ١٣/ ٢٩٠- ٢٩١: التسمية على الذبيحة، المشهور من مذهب أحمد أنها شرط مع الذكر، وتسقط بالسهو، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق، وممن أباح ما نسيت التسمية عليه: عطاء وطاوس وابن المسيب والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة الرأي. وعن أحمد أنها مستحبة غير واجبة في عمد ولا سهو، وبه قال الشافعي. ولنا قول ابن عباس: من نسي التسمية فلا بأس، وروى سعيد بن منصور بإسناده عن راشد بن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ذبيحة المسلم، حلال، وإن لم يسم إذا لم يتعمد». قال: ويفارق الصيد، لأن ذبحه في غير محل فاعتبرت التسمية تقوية له.
(٢) سورة المائدة: ٥. [.....]
(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ٣٢٨ الآية وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال:
إن الله أخبر أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أولياء منهم. وجائز الجنسان أن يكون شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس، وجائز أن يكون كلاهما تعاونا على ذلك، كما أخبر الله عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: ١١٢]. بل ذلك الأغلب من تأويله عندي، لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس كما جعل لأنبيائه من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيّن من الأقوال الباطلة ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرم الله من الميتة عليهم ا. هـ.
فيهم قولان: أحدهما: أنهم مشركو قريش. والثاني: اليهود وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٢]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)
قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال:
(٥٥٥) أحدها: أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله ﷺ بفرث، وحمزة لم يؤمن بَعْدُ، فأُخبر حمزةُ بما فعل أبو جهل، فأقبل حتى علا أبا جهل بالقوس، فقال له: أما ترى ما جاء به؟ سفَّه عقولنا، وسبَّ آلهتنا، فقال حمزة: ومن أسفهُ منكم؟
تعبدون الحجارة من دون الله؟! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
(٥٥٦) والثاني: أنَّها نزلت في عمَّار بن ياسر، وأبي جهل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة.
(٥٥٧) والثالث: في عمر بن الخطاب، وأبي جهل، قاله زيد بن أسلم، والضّحّاك.
والرابع: في النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي جهل، قاله مقاتل.
والخامس: أنها عامة في كل مؤمن وكافر، قاله الحسن في آخرين.
وفي قوله تعالى: كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ قولان: أحدهما: كان ضلا فهديناه، قاله مجاهد.
والثاني: كان جاهلاً، فعلَّمناه، قاله الماوردي. وقرأ نافع: «ميّتاً» بالتشديد قال أبو عبيدة: الميتة،
لم أره مسندا. وذكره الواحدي في أسباب النزول ٤٥٠ بدون إسناد عن ابن عباس فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد، والصحيح عموم الآية.
واه. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة. وأخرجه الطبري ١٣٨٤٢ عن عكرمة مرسلا، فهو ضعيف وفيه انقطاع وكرره ١٣٨٤١ عن عكرمة بنحوه مرسلا وفيه راو لم يسم.
والصحيح عموم الآية، ولا يصح تخصيصها بروايات واهية.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٣٨٤٠ عن الضحاك مرسلا، فهو ضعيف. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٤٥١ عن زيد بن أسلم مرسلا، ومع إرساله فيه مبشر بن عبيد وهو ممن يضع الحديث.
مخففة: من ميّتة، والمعنى واحد. وفي «النور» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الهدى، قاله ابن عباس.
والثاني: القرآن، قاله الحسن. والثالث: العلم. وفي قوله تعالى: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ثلاثة أقوال:
أحدها: يهتدي به في الناس، قاله مقاتل. والثاني: يمشي به بين الناس إلى الجنة. والثالث: ينشر به دينه في الناس، فيصير كالماشي! ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ المثل: صلة والمعنى: كمن هو في الظلمات. وقيل: المعنى: كمن لو شُبّه بشيء كان شبيهُه من في الظلمات. وقيل: المراد بالظّلمات ها هنا: الكفر.
قوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ أي: كما بقي هذا في ظلماته لا يتخلص منها، كذلك زين لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الشّرك والمعاصي.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ: أي: وكما زينا للكافرين عملهم، فكذلك جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها، وقيل معناه: وكما جعلنا فُسَّاق مكة أكابرها، فكذلك جعلنا فُسَّاق كل قرية أكابرها.
وإنما جعل الأكابر فُسَّاقَ كلِّ قرية، لأنهم أقرب إلى الكفر بما أعطوا من الرياسة والسعة. وقال ابن قتيبة: تقدير الآية: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر و «أكابر» لا ينصرف، وهم العظماء.
قوله تعالى: لِيَمْكُرُوا فِيها قال أبو عبيدة: المكر: الخديعة، والحيلة، والفجور، والغدر، والخلاف. قال ابن عباس: ليقولوا فيها الكذب. قال مجاهد: أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعةً، ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم، يقولون للناس: هذا شاعر، وكاهن.
قوله تعالى: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ أي: ذلك المكر بهم يحيق.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٤]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
قوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ.
(٥٥٨) سبب نزولها: أن أبا جهل قال: زاحمتنا بنو عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كَفَرَسَيْ رِهَان، قالوا: منَّا نبيٌ يوحى إليه. والله لا نؤمن به ولا نَتَّبعِهُ أو أن يأتيَنَا وحي كما يأتيه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قال الزجاج: الهاء والميم تعود على الأكابر الذين جرى ذكرهم. وقال أبو سليمان: تعود على المجادلين في تحريم الميتة، قال مقاتل: والآية: انشقاق القمر، والدخان، قال ابن عباس في قوله تعالى: مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قال: حتى يوحى إلينا، ويأتينا جبريل، فيخبرنا أن محمداً صادق. قال
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الحديث، كذبه غير واحد. وأصل الحديث له شواهد واهية، دون ذكر نزول الآية.
الضحاك: سأل كل واحد منهم أن يختص بالرسالة والوحي.
قوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالاته» وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: «رسالتَه» بنصب التاء على التوحيد والمعنى: أنهم ليسوا لها بأهل، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النبوة حقاً لكنتُ أولى بها منك، لأني أكبرُ منك سناً، وأكثرُ منك مالاً، فنزل قوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالاته». وقال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل مبعثهم مطاعين في قومهم، لأن الطعن كان يتوجه عليهم، فيقال: إنما كانوا رؤساء فاتُّبِعوا، فكان الله أعلم حيث جعل الرسالة ليتيم أبي طالب، دون أبي جهل والوليد، وأكابر مكة.
قوله تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ قال أبو عبيدة: الصَّغَار: أشد الذل. وقال الزجاج:
المعنى: هم، وإن كانوا أكابر في الدّنيا، فسيصيبهم صغار عند الله، أي: صغار ثابت لهم عند الله.
وجائز أن يكون المعنى: سيصيبهم عند الله صغار، وقال الفراء: معناه: صغار من عند الله، فحذفت «مِنْ». وقال ابو رَوقْ: صغار في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٥]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ قال مقاتل: نزلت في رسول الله ﷺ وأبي جهل.
قوله تعالى: يَشْرَحْ صَدْرَهُ قال ابن الاعرابي: الشرح: الفتح. قال ابن قتيبة: ومنه يقال:
شرحتُ لك الأمر، وشرحتُ اللحم: إذا فتحتَه. وقال ابن عباس: «يشرحْ صدره» أي: يوسعْ قلبه للتوحيد والإيمان.
(٥٥٩) وقد روى ابن مسعود أنّ النبيّ ﷺ قرأ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فقيل له: يا رسول الله، وما هذا الشرح؟ قال: «نور يقذفه الله في القلب، فينفتح القلب». قالوا: فهل لذلك من أمارة؟ قال: «نعم». قيل: وما هي؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله».
قوله تعالى: ضَيِّقاً قرأ الأكثرون بالتشديد. وقرأ ابن كثير: «ضيقا»، وفي (الفرقان) :
متن باطل بأسانيد واهية. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٨٥٢ والطبري ١٣٨٥٦ و ١٣٨٥٧ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ١/ ٢٥٧ عن أبي جعفر المدائني مرسلا. ومع إرساله أبي جعفر المدائني ذكره الذهبي في «الميزان» ٤٦٠٨ وقال: قال أحمد وغيره: أحاديثه موضوعة. وورد من حديث ابن مسعود عند الحاكم ٤/ ٣١١ والبيهقي في الشعب ١٠٥٥٢ وإسناده ضعيف لضعف عدي بن الفضل، وقد سكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: ابن الفضل ساقط اهـ. وفيه المسعودي اختلط بأخرة. وأخرجه الطبري ١٣٨٥٩ عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، وإسناده منقطع، وفيه سعيد بن عبد الملك الحراني، وهو متروك روى أحاديث كذب. وكرره الطبري ١٣٨٦١ عن عبد الرحمن- هو المسعودي- عن ابن مسعود، وهذا معضل بينهما. فهذه روايات واهية ليست بشيء، والأشبه كونه من كلام أبي جعفر المدائني، حيث رواه الطبري عنه من طرق. انظر «تفسير الشوكاني» ٩٤٠ بتخريجنا.
«ضَيْقاً» «١» بتسكين الياء خفيفة. قال أبو علي: الضَّيِّق، والضَّيْق: مثل الميّت، والميْت.
قوله تعالى: حَرَجاً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: حَرَجاً بفتح الراء. وقرأ نافع، وابو بكر عن عاصم: بكسر الراء، قال الفراء: وهما لغتان. وكذلك قال يونس بن حبيب النحوي: هما لغتان، إلا أن الفتح أكثر على ألسنة العرب من الكسر، ومجراهما مجرى الدَّنَفِ والدَّنِفَ. وقال الزجاج: الحرج في اللغة: أضيق الضّيق.
قوله تعالى: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
«يصَّعد» بتشديد الصاد والعين وفتح الصاد من غير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «يصّاعد» بتشديد الصاد وبعدها ألف. وقرأ ابن كثير: «يَصْعَد» بتخفيف الصاد والعين من غير ألف والصاد ساكنة، وقرأ ابن مسعود، وطلحة: «تصْعَدُ» بتاء من غير ألف. وقرأ أُبيُّ بن كعب: «يتصاعد» بألف وتاء. قال الزّجّاج: قوله تعالى: «كأنما يصّاعد في السماء» و «يصَّعَّد»، أصله: «يتصاعد»، و «يتصعد»، إلا أن التاء تدغم في الصاد لقربها منها، والمعنى كأنه قد كُلِّف أن يَصْعَدَ إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه. ويجوز أن يكون المعنى: كأن قلبه يصعد في السماء نُبُوّاً عن الإسلام والحكمة. وقال الفراء: ضاق عليه المذهب، فلم يجد إلا أن يصعد في السماء، وليس يقدر على ذلك. وقال ابو علي:
«يَصَّعَّد» و «يَصّاعد» : من المشقة، وصعوبة الشيء، ومنه قول عمر: ما تَصَعَّدني شيء كما تصعدتني خطبة النكاح، أي: ما شق عليَّ شيء مشقتها.
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: مثل ما قصصنا عليك. يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ وفيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه الشيطان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. يعني: أن الله يسلِّطه عليهم. والثاني: أنه المأثم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه مالا خير فيه، قاله مجاهد. والرابع: العذاب، قاله عطاء، وابن زيد، وأبو عبيدة. والخامس: أنه اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، قاله الزجاج. وهذه الآية تقطع كلام القَدَريَّة، إذ قد صرحت بأن الهداية والإضلال متعلّقة بإرادة الله تعالى.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٦]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
قوله تعالى: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن مسعود. والثاني:
التوحيد، قاله ابن عباس. والثالث: ما هو عليه من الدِّين، قاله عطاء.
ومعنى استقامته: أنه يؤدِّي بسالكه إلى الفوز، قال مكي بن أبي طالب: و «مستقيماً» : نصب على الحال من «صراط»، وهذه الحال يقال لها: الحال المؤكدة، لأن صراط الله، لا يكون إلا مستقيماً، ولم يؤت بها لتفرق بين حالتين، إذ لا يتغير صراط الله عن الاستقامة أبدا، وليست هذه الحال كالحال من قولك: «هذا زيد راكباً»، لأن زيداً قد يخلو من الرّكوب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٧]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)
قوله تعالى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ يعني الجنة. وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال: أحدها: أن السّلام،
(١) سورة الفرقان: ١٣.
هو الله، وهي داره، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة والسدي. والثاني: أنها دار السلامة التي لا تنقطع، قاله الزجاج. والثالث: أن تحية أهلها فيها السلام، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والرابع: أن جميع حالاتها مقرونة بالسلام، ففي ابتداء دخولهم: ادْخُلُوها بِسَلامٍ «١»، وبعد استقرارهم: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ
«٢». وقوله تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «٣» وعند لقاء الله سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ «٤»، وقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «٥». ومعنى: عِنْدَ رَبِّهِمْ أي:
مضمونة لهم عنده، وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي: متولي إيصال المنافع إليهم، ودفع المضار عنهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطّاعات.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٨]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)
قوله تعالى: «ويوم نحشرهم جميعاً» يعني الجن والإنس. وقرأ حفص عن عاصم: «يحشرهم» بالياء. قال أبو سليمان: يعني: المشركين وشياطينهم الذين كانوا يوحون إليهم بالمجادلة لكم فيما حرَّمه الله من الميتة. قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ فيه إضمار، فيقال لهم: يا معشر والمعشر: الجماعة أمرهم واحد، والجمع: المعاشر. وقوله: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي: من إغوائهم وإضلالهم.
وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني الذين أضلهم الجن: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فيه ثلاثة أقوال:
(٥٦٠) أحدها: أن استمتاع الإنس بالجن: أنهم كانوا إذا سافروا، فنزلوا وادياً، وأرادوا مبيتاً، قال أحدهم: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله واستمتاع الجن بالإنس: أنهم كانوا يفخرون على قومهم، ويقولون: قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، والفراء.
والثاني: أن استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي.
واستمتاع الإنس بالجن: أن الجن زَيَّنَتْ لهم الأمور التي يهوَوْنَها، وشَّهوْها إليهم حتى سهل عليهم فعلها، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال محمد بن كعب، والزجاج.
والثالث: أن استمتاع الجن بالإنس: إغواؤهم إياهم. واستمتاع الإنس بالجن: ما يتلقَّون منهم من السحر والكهانة ونحو ذلك. والمراد بالجن في هذه الآية: الشياطين.
قوله تعالى: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا فيه قولان: أحدهما: الموت، قاله الحسن، والسّدّيّ.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية الكلبي، وهي رواية ساقطة. وكذا عزاه لمقاتل، وهو متهم. وأخرجه الطبري ١٣٨٩٣ عن ابن جريج قوله. ويأتي شيء من هذا في سورة الجن.
__________
(١) سورة الحجر: ٤٦.
(٢) سورة الرعد، ٢٣- ٢٤.
(٣) سورة الواقعة: ٢٦.
(٤) سورة يس: ٥٨.
(٥) سورة الأحزاب: ٤٤.
والثاني: الحشر، ذكره الماوردي. قوله تعالى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ قال الزجاج: المثوى: المقام و «خالدين» منصوب على الحال. المعنى: النار مقامكم في حال خلود دائم إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ هو استثناء من يوم القيامة، والمعنى: خالِدِينَ فِيها مذ يبعثون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من مقدار حشرهم من قبورهم، ومدتهم في محاسبتهم. ويجوز أن تكون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يزيدهم من العذاب. وقال بعضهم: إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب وقيل في هذا غير قول، ستجدها مشروحة في (هود) إن شاء الله.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٩]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً في معناه أربعة اقوال «١» : أحدها: نجعل بعضهم أولياء بعض، رواه سعيد عن قتادة. والثاني: نُتْبِعُ بعضهم بعضاً في النار بأعمالهم من الموالاة، وهي المتابعة، رواه معمر عن قتادة. والثالث: نسلِّط بعضهم على بعض، قاله ابن زيد. والرابع: نكل بعضهم إلى بعض ولا نعينهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: من المعاصي.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٠]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)
قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ
قرأ الحسن، وقتادة: «تأتكم» بالتاء، سُلٌ مِنْكُمْ
. واختلفوا في الرسالة إلى الجن على أربعة اقوال «٢» : أحدها: أن الرسل كانت تبعث إلى الإِنس خاصة، وأن الله تعالى بعث محمّدا ﷺ إلى الإِنس والجن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن رسل الجن، هم الذين سمعوا القرآن، فولَّوا إلى قومهم منذرين، روي عن ابن عباس أيضاً. وقال مجاهد: الرسل من الإِنس، والنذر من الجن، وهم قوم يسمعون كلام الرسل، فيبلِّغون الجن ما
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ٣٤٤: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: معناه وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعض أولياء لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول المشركين، فقال جل ثناؤه:
وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وأخبر جل ثناؤه: أن بعضهم أولياء بعض، ثم عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضا بتوليته إياهم، فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض يستمتاع بعضهم ببعض، كذلك نجعل بعضهم أولياء بعض في كل الأمور بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من معاصي الله ويعملونه. ا. هـ.
(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٢٢٥ الآية لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ: هذا استفهام تقريرا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
، أي من جملتكم والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة، من السلف والخلف، وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلا، واحتج بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر، لأنها محتملة وليس بصريحة. وهي- والله أعلم- كقوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ أي المالح والحلو بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ إلى أن قال يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من الملح لا من الحلو، وهذا واضح ولله الحمد. ا. هـ.
سمعوا. والثالث: أن الله تعالى بعث إليهم رسلاً منهم، كما بعث إلى الإِنس رسلاً منهم، قاله الضحاك ومقاتل وأبو سليمان، وهو ظاهر الكلام. والرابع: أن الله تعالى لم يبعث إليهم رسلاً منهم وإنما جاءتهم رسل الإِنس، قاله ابن جريج والفراء والزجاج. قالوا: ولا يكون الجمع في قوله تعالى: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
مانعاً أن تكون الرسل من أحد الفريقين، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، وإنما هو خارج من الملح وحده. وفي دخول الجن الجنة إذا آمنوا قولان: أحدهما: يدخلونها، ويأكلون ويشربون، قاله الضّحّاك. والثاني: ثوابهم أن يجاروا من النار ويصيروا تراباً، رواه سفيان عن ليث.
قوله تعالى: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
أي: يقرءون عليكم كتبي، يُنْذِرُونَكُمْ
أي: يخوّفونكم بيوم القيامة.
وفي قوله تعالى: هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
قولان: أحدهما: أقررنا على أنفسنا بانذار الرسل لنا.
والثاني: شهد بعضنا على بعض بانذار الرسل إياهم. ثم أخبرنا الله تعالى بحالهم، فقال: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
أي: بزينتها وإمهالهم فيها شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
أي: أقروا أنهم كانوا في الدنيا كافرين. وقال مقاتل: ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشّرك والكفر.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣١]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١)
قوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ قال الزجاج: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل، وأمر عذاب من كذب، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، أي: لا يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولاً. قال ابن عباس: «بظلم» أي: بشرك وَأَهْلُها غافِلُونَ لم يأتهم رسول.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٢]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
قوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: لكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات، أي: منازل يبلغها بعمله، إن كان خيراً فخيراً، وإن كان شراً فشراً. وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط، كتفاضل الدرج.
قوله تعالى: عَمَّا يَعْمَلُونَ قرأ الجمهور بالياء وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٤]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)
قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ يريد: الغني عن خلقه ذُو الرَّحْمَةِ قال ابن عباس: بأوليائه وأهل طاعته. وقال غيره: بالكل. ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ بالهلاك وقيل: هذا الوعيد لأهل مكة وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ أي: ابتدأكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ يعني: آباءهم الماضين. إِنَّ ما تُوعَدُونَ به من مجيء السّعة والحشر لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: بفائتين. قال أبو عبيدة: يقال: أعجزني كذا، أي: فاتني وسبقني.

[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٥]

قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
قوله تعالى: عَلى مَكانَتِكُمْ وقرأ أبو بكر عن عاصم: «مكاناتكم» على الجمع. قال ابن قتيبة:
أي: على موضعكم، يقال: مكان ومكانة، ومنزل ومنزلة. وقال الزجاج: اعملوا على تمكنكم. قال:
ويجوز أن يكون المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه. تقول للرجل إذا أمرته أن يثبت على حال: كن على مكانتك.
قوله تعالى: إِنِّي عامِلٌ أي: عامل ما أمرني به ربي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو. وابن عامر، وعاصم: «تكون» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي: بالياء. وكذلك خلافهم في (القصص)، ووجه التأنيث، اللفظ، ووجه التذكير، أنه ليس بتأنيث حقيقي. وعاقبة الدار: الجنة. والظالمون ها هنا: المشركون. فان قيل: ظاهر هذه الآية أمرهم بالاقامة على ما هم عليه، وذلك لا يجوز. فالجواب: أن معنى هذا الأمر المبالغة في الوعيد فكأنه قال: أقيموا على ما أنتم عليه، إن رضيتم بالعذاب، قاله الزجاج.
(فصل:) وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أن المراد بها التهديد فعلى هذا هي محكمة. والثاني:
أن المراد بها ترك القتال، فعلى هذا هي منسوخة بآية السيف.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٦]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦)
قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ قال ابن قتيبة: ذرأ، بمعنى خلق. مِنَ الْحَرْثِ وهو الزرع. (والأنعام) : الإبل والبقر والغنم، وكانوا إذا زرعوا، خطوا خطاً، فقالوا: هذا لله، وهذا لآلهتنا، فإذا حصدوا ما جعلوه لله، فوقع منه شيء فيما جعلوه لآلهتهم، تركوه وقالوا: هي إليه محتاجة وإذا حصدوا ما جعلوه لآلهتهم، فوقع منه شيء في مال الله، أعادوه إلى موضعه. وكانوا يجعلون من الأنعام شيئا لله فاذا ولدت إناثها ميِّتاً أكلوه، وإذا ولدت أنعام آلهتهم ميِّتاً عظموه فلم يأكلوه. وقال الزجاج:
معنى الآية: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيباً، وجعلوا لشركائهم نصيباً، يدل عليه قوله تعالى: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فدل بالإِشارة إلى النصيبين على نصيب الشركاء وكانوا إذا زكا ما لله، ولم يزكُ ما لشركائهم، ردوا الزاكي على أصنامهم، وقالوا: هذه أحوج، والله غني وإذا زكا ما للأصنام، ولم يزكُ ما لله، أقروه على ما به. قال المفسرون: وكانوا يَصرفون ما جعلوا لله إلى الضِّيفان والمساكين. فمعنى قوله: فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي: إلى هؤلاء. ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على خُدَّامها. فأما نصيبها في الأنعام، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان للنفقة عليها أيضاً. والثاني: أنهم كانوا يتقربون به، فيذبحونه لها. والثالث: أنه البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وقال الحسن: كان إذا هلك ما لأوثانهم غَرِموه، وإذا هلك ما لله لم يَغْرَمُوه. وقال
ابن زيد: كانوا لا يأكلون ما جعلوه لله حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم، ولا يذكرون الله على ما جعلوه للأوثان. فأما قوله: «بزَعمهم» فقرأ الجمهور: بفتح الزاي وقرأ الكسائي، والأعمش: بضمها. وفي الزعم ثلاث لغات: ضم الزاي، وفتحها، وكسرها ومثله: السُّقط، والسَّقط والسِّقط والفَتْك والفُتْك، والفِتْك والزَّعم، والزُّعم، والزِّعم، قال الفراء: فتح الزاي في الزَّعم، لأهل الحجاز وضمها لأسد وكسرها لبعض قيس فيما يحكي الكسائيّ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٧]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ أي: ومثل ذلك الفعل القبيح فيما قسموا بالجهل زيَّن. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون «وكذلك» مستأنفاً، غير مشارٍ به إلى ما قبله فيكون المعنى: وهكذا زيّن.
وقرأ الجمهور: «زَيَّن» بفتح الزاي والياء، ونصب اللام من «قَتْلَ»، وكسر الدال من «أولادِهم»، ورفع «الشّركاء» ووجه هذه القراءة ظاهر. وقرأ ابن عامر: بضم زاي «زين»، ورفع اللام، ونصب الدال من «أولادهم»، وخفض «الشركاء». قال أبو علي: ومعناها: قتلُ شركائهم أولادَهمُ ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به، وهذا قبيح، قليل في الاستعمال. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن: «زُيِّن» بالرفع، «قتلُ» بالرفع أيضاً، «أولادِهم» بالجر، «شركاؤُهم» رفعاً. قال الفراء: رفع القتل إذا لم يسمَّ فاعله، ورفع الشركاء بفعل نواه، كأنه قال: زيَّنه لهم شركاؤهم. وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة كأنه قيل: مَن زيَّنه؟ فقال: شركاؤهم. قال مكي بن أبي طالب: وقد روي عن ابن عامر أيضاً أنه قرأ بضم الزاي، ورفع اللام، وخفض الأولاد والشركاء فيصير الشركاء اسماً للأولاد، لمشاركتهم للآباء في النسب والميراث والدِّين.
وللمفسرين في المراد بشركائهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الشياطين، قاله الحسن، ومجاهد، والسدِّي. والثاني: شركاؤهم في الشرك، قاله قتادة. والثالث: قوم كانوا يخدمون الاوثان، قاله الفراء، والزجاج. والرابع: أنهم الغُواة من الناس، ذكره الماوردي. وإنما أضيف الشركاء إليهم، لأنهم هم الذين اختلقوا ذلك وزعموه.
وفي الذي زيَّنوه لهم من قتل أولادهم قولان: أحدهما: أنه وأدْ البنات أحياءً خيفة الفقر، قاله مجاهد. والثاني: أنه كان يحلف أحدهم أنه إن ولد له كذا وكذا غلاماً أن ينحر أحدهم، كما حلف عبد المطلب في نحر عبد الله، قاله ابن السائب، ومقاتل.
قوله تعالى: لِيُرْدُوهُمْ أي: ليهلكوهم. وفي هذه اللام قولان: أحدهما: أنها لام «كي».
والثاني: أنها لام العاقبة، كقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا «١» أي: آل أمرهم إلى الردى، لا أنهم قصدوا ذلك. قوله تعالى: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي: ليخلطوا. قال ابن عباس: ليُدخلوا عليهم الشك في دينهم وكانوا على دين إسماعيل، فرجعوا عنه بتزيين الشّياطين.
(١) سورة القصص: ٨.
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا دفنوا بناتهم قالوا: إن الله أمرنا بذلك فقال: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ أي: يكذبون وهذا تهديد ووعيد، فهو محكم، وقال قوم: مقصوده ترك قتالهم، فهو منسوخ بآية السيف.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٨]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨)
قوله تعالى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ الحرث: الزرع، والحجر: الحرام والمعنى:
أنهم حرَّموا أنعاماً وحرثاً جعلوه لأصنامهم. قال ابن قتيبة: وإنما قيل للحرام: حجر، لأنه حُجر على الناس أن يصيبوه. وقرأ الحسن، وقتادة: «حُجْر» بضم الحاء. قال الفراء: يقال: حِجْر، وحُجْر، بكسر الحاء وضمها وهي في قراءة ابن مسعود: «حرج»، مثل: «جذب» و «جبذ». وفي هذه الأنعام التي جعلوها للأصنام قولان: أحدهما: أنها البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. والثاني: أنها الذبائح للأوثان، وقد سبق ذكرهما.
قوله تعالى: لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ هو كقولك: لا يذوقها إلا من نريد. وفيمن أطلقوا له تناولها قولان: أحدهما: أنهم منعوا منها النساء، وجعلوها للرجال، قاله ابن السائب. والثاني: عكسه، قاله ابن زيد. قال الزجاج: أعلم الله عزّ وجلّ أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة فيه ولا برهان. وفي قوله تعالى: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحام، قاله ابن عباس. والثاني:
البحيرة، كانوا لا يحجُّون عليها، قاله أبو وائل. والثالث: البحيرة، والسائبة، والحام، قاله السدي.
قوله تعالى: وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا هي قربان آلهتهم، يذكرون عليها اسم الأوثان خاصة. وقال أبو وائل. هي التي كانوا لا يحجُّون عليها وقد ذكرنا هذا عنه في قوله تعالى: حُرِّمَتْ ظُهُورُها، فعلى قوله، الصفتان لموصوف واحد. وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء لا إن رُكِبوا ولا إن حملوا ولا إن حلبوا، ولا إن نتجوا. وفي قوله تعالى: افْتِراءً عَلَيْهِ قولان: أحدهما: أن ذكر أسماء أوثانهم وترك ذكر الله! هو الافتراء. والثاني: أن إضافتهم ذلك إلى الله تعالى، هو الافتراء لأنهم كانوا يقولون: هو حرّم ذلك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٩]
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)
قوله تعالى: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعني بالأنعام: المحرمات عندهم، من البحيرة، والسائبة، والوصيلة. وللمفسرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنه اللبن،
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ٣٥٨- ٣٥٩: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام- يعني أنعامهم-: «هذا محرم على أزواجنا» و «الأزواج» إنما هي نساؤهم في كلامهم، وهن لا شك بنات من هن أولاده، وحلائل من هن أزواجه. وفي قوله الله عز وجل: وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا الدليل الواضح على أن تأنيث «الخالصة» كان لما وصفت من المبالغة في وصف ما في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور، لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل: «ومحرمة على أزواجنا» ولكن لما كان التأنيث في «الخالصة» لما ذكرت، ثم لم يقصد في «المحرم» ما قصد في «الخالصة» من المبالغة، رجع فيها إلى تذكير «ما» واستعمال ما هو أولى به من صفته ا. هـ.
قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: الأجنَّة، قاله مجاهد. والثالث: الولد واللبن، قاله السدي، ومقاتل.
قوله تعالى: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا قرأ الجمهور: «خالصة» على لفظ التأنيث. وفيها أربعة أوجه. أحدها: أنه إنما أُنثت، لأن الأنعام مؤنثة، وما في بطونها مثلها، قاله الفراء. والثاني: أن معنى «ما» التأنيث، لأنها في معنى الجماعة فكأنه قال: جماعة ما في بطون هذه الأنعام خالصة، قاله الزجاج. والثالث: أن الهاء دخلت للمبالغة في الوصف، كما قالوا: «علاّمة» و «نسّابة».
والرابع: أنه أُجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكَّرة كقولك: عطاؤك عافية، والرخص نعمة، ذكرهما ابن الأنباري. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والضحاك، والأعمش، وابن أبي عبلة: «خالصٌ» بالرفع، من غير هاء. قال الفراء: وإنما ذُكِّر لتذكير «ما». وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، وابن يعمر: «خالصُهُ» برفع الصاد والهاء على ضمير مذكَّر، قال الزجاج: والمعنى: ما خلص حياً. وقرأ قتادة: «خالصةً» بالنصب. فأما الذكور، فهم الرجال، والأزواج: النساء.
قوله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً قرأ الأكثرون: «يكن» بالياء، «ميتة» بالنصب وذلك مردود على لفظ «ما». والمعنى وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. وقرأ ابن كثير: «يكن» بالياء، «ميتةٌ» بالرفع.
وافقه ابن عامر في رفع الميتة غير أنه قرأ: «تكن» بالتاء. والمعنى: وإن تحدث وتقع، فجعل «كان» :
تامة لا تحتاج إلى خبر. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «تكن» بالتاء، «ميتةً» بالنصب. والمعنى: وإن تكن الأنعام التي في البطون ميتة.
قوله تعالى: فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ يعني الرجال والنساء. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ قال الزجاج:
أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٠]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ وقرأ ابن كثير، وابن عامر: «قتَّلوا» بالتشديد. قال ابن عباس: نزلت في ربيعة، ومضر، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياءً في الجاهلية من العرب. وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه. قال الزجاج: وقوله:
«سفهاً» منصوب على معنى اللام. تقديره: للسفه تقول: فعلت ذلك حذر الشر. وقرأ ابن السّميفع، والجحدريّ، ومعاذ القارئ: «سفهاء» برفع السين وفتح الفاء والهمزة بالمدّ وبالنصب والهمز.
قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ: أي: كانوا يفعلون ذلك للسفه من غير أن أتاهم علم في ذلك وحرَّموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث، وزعموا أن الله أمرهم بذلك.

[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤١]

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن المعروشات ما انبسط على وجه الأرض، فانتشر مما يعرَّش، كالكرم، والقرع، والبِطيخ وغير معروشات: ما قام على ساق، كالنخل، والزرع، وسائر الأشجار. والثاني: أن المعروشات: ما أنبته الناس وغير معروشات: ما خرج في البراري والجبال من الثمار، رويا عن ابن عباس. والثالث: أن المعروشات، وغير المعروشات: الكرم، منه ما عرش، ومنه ما لم يعرش، قاله الضحاك. والرابع: أن المعروشات: الكروم التي قد عُرّش عنبها، وغير المعروشات: سائر الشّجر الذي لا يعرّش، قاله أبو عبيدة.
والأُكُلُ: الثمر. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً قد سبق تفسيره.
قوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ هذا أمر إباحة وقيل: إنما قدَّم الأكل لينهى عن فعل الجاهلية في زروعهم من تحريم بعضها.
قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قرأ ابن عامر، وعاصم وأبو عمرو: بفتح الحاء، وهي لغة أهل نجد، وتميم. وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي: بكسرها، وهي لغة أهل الحجاز، ذكره الفراء. وفي المراد بهذا الحق قولان «١» : أحدهما: أنه الزكاة، روي عن أنس بن مالك، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وطاوس، وجابر بن زيد، وابن الحنفية، وقتادة في آخرين فعلى هذا، الآية محكمة. والثاني: أنه حق غير الزكاةُ فرض يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر، وترك ما سقط من الزرع والثمر، قاله عطاء ومجاهد.
وهل نُسخ ذلك، أم لا؟ إن قلنا: إنه أمر وجوب، فهو منسوخ بالزكاة وإن قلنا: إنه أمر استحباب، فهو باقي الحكم. فان قيل: هل يجب إيتاء الحق يوم الحصاد؟ فالجواب: إن قلنا: إنه
(١) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» ٢/ ٢٨٢. الآية وَآتُوا حَقَّهُ: اختلف في تفسير هذا الحق على ثلاثة أقوال: الأول: أنه الصدقة المفروضة، قاله سعيد بن المسيب وغيره، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية. الثاني: أنها الصدقة في المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصرام وهي إطعام من حضر والإيتاء لمن غير قاله مجاهد. الثالث: أن هذا منسوخ بالزكاة قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقد زعم قوم أن هذا اللفظ مجمل ولم يحصلوا القول فيه، وحقيقة الكلام عليه: أن قوله آتُوا مفسر، وقوله حَقَّهُ مفسر في المؤتى، مجمل في المقدار. وإنما يقع النظر في رفع الإشكال الذي أنشأه احتمال هذه الأقوال. وقد بينا فيما سبق وجه أنه ليس في الماء حق سوى الزكاة، وتحقيقه في القسم الثاني من علوم القرآن، وفي سورة البقرة من هذا التأليف، وثبت أن المراد بذلك ها هنا الصدقة المفروضة. وقد أفادت هذه الآية وجوب الزكاة فيما سمى الله سبحانه، وأفادت بيان ما يجب فيه من مخرجات الأرض التي أجملها الله في قوله وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [البقرة: ٢٦٧] وفسرها ها هنا، فكانت آية البقرة عامة في المخرج كله مجملة في القدر، فبينه رسول الله ﷺ الذي أمر بأن يبين للناس ما نزل إليهم.
إطعام من حضر من الفقراء، فذلك يكون يوم الحصاد وإن قلنا: إنه الزكاة، فقد ذُكرت عنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن الأمر بالإِيتاء محمول على النخيل، لأن صدقتها تجب يوم الحصاد. فأما الزروع، فالأمر بالإيتاء منها محمول على وجوب الإخراج إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد فيؤخَّر إلى زمان التنقية، ذكره بعض السلف. والثاني: أن اليوم ظرف للحق، لا للايتاء فكأنه قال: وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية. والثالث: أن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه، إنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه. وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه، فأفادت الآية أن الوجوب فيما يحصل في اليد، دون ما يتلف، ذكر الجوابين القاضي أبو يعلى.
وفي قوله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا ستة أقوال «١» : أحدها: أنه تجاوز المفروض في الزكاة إلى حد يُجحف به، قاله أبو العالية، وابن جريج. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة، ثم قسمها في يوم واحد، فأمسى ولم يترك لأهله شيئا، فكره الله تعالى له ذلك، فنزلت: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. والثاني: أنّ الإسراف: يمنع الصدقة الواجبة! قاله سعيد بن المسيب. والثالث: أنه الإِنفاق في المعصية، قاله مجاهد، والزهري. والرابع: أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام، قاله عطيّة، وابن السائب. والخامس: أنه خطاب للسلطان لئلا يأخذ فوق الواجب من الصدقة، قاله ابن زيد. والسادس: أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزّكاة، قاله ابن بحر.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٢]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢)
قوله تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً هذا نسق على ما قبله والمعنى: أنشأ جنّاتٍ وأنشأ حمولة وفرشاً. وفي ذلك خمسة أقوال: أحدها: أن الحمولة: ما حمل من الإبل، والفرشَ: صغارها، قاله ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وابن قتيبة. والثاني: أن الحمولة: ما انتفعت بظهورها، والفرش: الراعية، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أن الحمولة: الإبل: والخيل، والبغال، والحمير، وكل شيء يُحمَل عليه. والفرش: الغنم: رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع:
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥/ ٣٧١: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: وَلا تُسْرِفُوا عن جميع معاني «الإسراف» ولم يخصص منها معنى دون معنى وإذ كان ذلك كذلك، وكان «الإسراف» في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حده في الزيادة، وإما بتقصير عن حده الواجب، كان معلوما أن المفرق ماله مباراة، والباذل له للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرف بتجاوزه حد الله إلى ما ليس له. وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه. وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله وألزمه منها، وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه. كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: وَلا تُسْرِفُوا في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم إذا كان ما قبله من الكلام أمرا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده. فإن الآية قد كانت تنزل على رسول الله ﷺ بسبب خاص من الأمور والحكم بها على العام، بل عامة آي القرآن كذلك، فكذلك قوله وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ا. هـ.
الحمولة: من الإبل، والفرش: من الغنم، قاله الضحاك. والخامس: الحمولة: الإبل والبقر. والفرش:
الغنم، وما لا يحمل عليه من الإبل، قاله قتادة. وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: «حُمولة» بضم الحاء.
قوله تعالى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال الزجاج: المعنى: لا تحرِّموا ما حرمتم مما جرى ذكره، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي: طرقه. قال: وقوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من قوله تعالى: حَمُولَةً وَفَرْشاً. والزوج، في اللغة: الواحد الذي يكون معه آخر. قلت: وهذا كلام يفتقر إلى تمام، وهو أن يقال: الزوج: ما كان معه آخر من جنسه، فحينئذ يقال لكل واحد منهما: زوج.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٣ الى ١٤٥]
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)
قوله تعالى: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الضأن: ذوات الصوف من الغنم، والمعز: ذوات الشعر منها.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: من «المعَز» بفتح العين. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي: بتسكين العين. والمراد بالأنثيين: الذكر والأنثى. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ من الضأن والمعز حرم الله عليكم أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منها؟ المعنى: فان كان ما حرّم الله عليكم الذكرين. فكل الذكور حرام، وإن كان حرم الأنثيين، فكل الإناث حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فهي تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فيكون كل جنين حراماً. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ألَحِقَكم التحريم من جهة الذّكرين، أم من جهة الأنثيين؟ فان قالوا: من جهة الذكرين حَرُم عليهم كل ذكر، وإن قالوا: من جهة الأنثيين، حرمت عليهم كل أُنثى، وإن قالوا: من جهة الرحم، حَرُمَ عليهم الذكر والأنثى. وقال ابن جرير الطبري: إن قالوا: حَرَّم الذكرين، أوجبوا تحريم كل ذكر من الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض الذكران منها وظهوره، وفي ذلك فساد دعواهم. وإن قالوا: حرَّم الأنثيين أوجبوا تحريم لحوم كل أُنثى من ولد الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره. وإن قالوا: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها. قال المفسرون: فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها، لأنهم كانوا يحرِّمون أجناساً من النعم، بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال.
وفي قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ إبطال لما حرَّموه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة والحام. وفي قوله تعالى: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ، إبطال قولهم: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا.
قوله تعالى: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ قال الزجاج: المعنى: فسروا ما حرمتم بعلم، أي: أنتم لا علم
أحدهما: أنها محكمة. ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها خبر، والخبر لا يدخله النسخ. والثاني: أنها جاءت جواباً عن سؤال سألوه فكان الجواب بقدر السؤال، ثم حُرِّم بعد ذلك ما حُرِّم. والثالث: أنه ليس في الحيوان محرم إلا ما ذُكر فيها.
والقول الثاني: أنها منسوخة بما ذكر في (المائدة) من المنخنقة والموقوذة، وفي السُنَّةِ من تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير. وقيل: إن آية (المائدة) داخلة في هذه الآية، لأنّ تلك الأشياء كلّها ميتة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٦]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦)
قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وقرأ الحسن، والأعمش: «ظُفْرٍ» بسكون الفاء وهذا التحريم تحريم بلوى وعقوبة. وفي ذي الظفر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ما ليس بمنفرج الأصابع، كالإبل، والنعام، والإوَزِّ، والبط، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسّدّيّ. والثاني: أنّه الإبل فقط، قاله ابن زيد. والثالث: كل ذي حافر من الدواب، ومخلب من الطير، قاله ابن قتيبة. قال: وسمي الحافر ظفراً على الإستعارة والعرب تجعل الحافر والأظلاف موضع القدم، استعارة وأنشدوا:
سَأمْنْعُها أوْ سَوْفَ أجْعَلُ أمْرَهَا إلى مَلِكٍ أظلافُه لم تُشقَّق «١»
أراد قدميه وإنما الأظلاف للشاء والبقر. قال ابن الأنباري: الظّفر ها هنا، يجري مجرى الظفر للانسان. وفيه ثلاث لغات أعلاهن: ظُفُر ويقال: ظُفْر، وأُظفور. وقال الشاعر:
ألم تر أنَّ الموتَ أدْرَك مَنْ مَضَى فلم يُبْقِ منه ذا جناح وذا ظُفُر
وقال الآخر:
لقد كنتُ ذا نابٍ وظُفْرٍ على العِدَى فأصبحتُ ما يَخْشَوْنَ نابي ولا ظُفْري
وقال الآخر:
ما بين لُقمته الأولى إذا انحَدَرَتْ وبين أخرى تليها قِيْدُ أُظْفُور «٢»
وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إنما حرّم من ذلك شحوم الثروب خاصة، قاله قتادة. والثاني: شحوم الثروب والكلى، قاله السدي، وابن زيد. والثالث: كل شحم لم يكن مختلطا
(١) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» ١١٦ وفي السمط ٧٤٦ منسوب لعقفان بن قيس بن عاصم بن عبيد اليربوعي. وقوله: أظلافه لم تشقق: أي أنه منتعل مترفه، فلم تشقق قدماه.
(٢) البيت غير منسوب في «اللسان» ظفر «أساس البلاغة».
بعظم، ولا على عظم، قاله ابن جريج. وفي قوله تعالى: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ما علق بالظهر من الشحوم، قاله ابن عباس. والثاني: الأَليْةَ، قاله أبو صالح، والسدي.
والثالث: ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما، قاله قتادة. فأما الحوايا، فللمفسرين فيها أقوال تتقارب معانيها. قال ابن عباس، والحسن، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة: هي المباعر. وقال ابن زيد: هي بنات اللبن، وهي المرابض التي تكون فيها الأمعاء. وقال الفراء: الحوايا:
هي المباعر، وبنات اللبن، وقال الاصمعي: هي بنات اللبن، واحدها: حاوياء، وحاوية، وحَويّة. قال الشاعر:
أقْتُلُهم ولا أرى مُعاويه الجاحِظَ العَيْنِ العَظيمَ الحاويهْ «١»
وقال الآخر:
كأنَّ نقيق الحَبِّ في حاويائه فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ العقارِب «٢»
وقال أبو عبيدة: الحوايا اسم لجميع ما تحوّى من البطن، أي: ما استدار منها. وقال الزجاج:
الحوايا: اسم لجميع ما تحوّى من الأمعاء، أي: استدار. وقال ابن جرير الطبري: الحوايا: ما تحوّى من البطن. فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن، وهي المباعر، وتسمى: المرابض، وفيها الأمعاء.
قوله تعالى: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فيه قولان: أحدهما: أنه شحم البطن والألَيْة، لأنهما على عظم، قاله السدي. والثاني: كل شحم في القوائم، والجنب، والرأس. والعينين، والأذنين، فهو مما اختلط بعظم، قاله ابن جريج. واتفقوا على أن ما حملت ظهورهما حلال، بالاستثناء من التحريم. فأما ما حملت الحوايا، أو ما اختلط بعظم، ففيه قولان: أحدهما: أنه داخل في الاستثناء، فهو مباح والمعنى: وأُبيح لهم ما حملت الحوايا من الشّحم وما اختلط بعظم، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أنه نسق على ما حرِّم، لا على الاستثناء فالمعنى: حرَّمنا عليهم شحومهما، أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور، فانه غير محرم، قاله الزجاج. فأما «أو» المذكورة هاهنا، فهي بمعنى الواو، كقوله تعالى آثِماً أَوْ كَفُوراً.
قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ أي: ذلك التحريم عقوبة لهم على بغيهم. وفي بغيهم قولان:
أحدهما: أنه قتلهم الأنبياء، وأكلهم الربا. والثاني: أنه تحريم ما أحلّ لهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٧]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ.
(٥٦١) قال ابن عباس: لمّا قال رسول الله ﷺ للمشركين: «هذا ما أُوحي إليَّ أنَّه محرَّم على المسلمين وعلى اليهود»، قالوا: فانك لم تصب، فنزلت هذه الآية.
لم أقف على إسناده، وتفرد المصنف بذكره دليل وهنه.
__________
(١) البيت منسوب لعلي رضي الله عنه «اللسان» حوي.
(٢) البيت منسوب إلى جرير وهو في ديوانه: ٨٣ «واللسان» حوى.
وفي المكذبين قولان: أحدهما: المشركون، قاله ابن عباس. والثاني: اليهود، قاله مجاهد.
والمراد بذكر الرحمة الواسعة، أنه لا يعجل بالعقوبة. والبأس: العذاب. وفي المراد بالمجرمين قولان: أحدهما: المشركون. والثاني: المكذّبون.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٨]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨)
قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي: إذا لزمتْهم الحجة، وتيقَّنوا باطل ما هم عليه من الشّرك وتحريم ما لم يحرِّمه الله لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا، فجعلوا هذا حجة لهم في إقامتهم على الباطل فكأنهم قالوا: لو لم يرض ما نحن عليه، لحال بيننا وبينه، وإنما قالوا ذلك مستهزئين، ودافعين للاحتجاج عليهم، فيقال لهم: لم تقولون عن مخالفيكم: إنهم ضالُّون، وإنما هم على المشيئة أيضاً؟
فلا حجة لهم، لأنهم تعلَّقوا بالمشيئة، وتركوا الأمر، ومشيئة الله تعم جميع الكائنات، وأمره لا يعمّ مراداته، فعلى العبد اتباع الأمر، وليس له أن يتعلَّل بالمشيئة بعد ورود الأمر.
قوله تعالى: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال ابن عباس: أي: قالوا لرسلهم مثلما قال هؤلاء لك، حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي: عذابنا. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي: كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرَّمتم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ لا اليقين و «إن» بمعنى «ما». و «تخرصون» : تكذبون.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٩]
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)
قوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ قال الزجاج: حجَّته البالغة: تبيينه أنه الواحد، وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة. قال السدي: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ يوم أخذ الميثاق.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٠]
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
قوله تعالى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ قال الزجاج: زعم سيبويه أن هَلُمَّ هاء ضمت إليها «لُمَّ»، وجعلتا كالكلمة الواحدة فأكثر اللغات أن يقال: «هلمَّ» : للواحد والاثنين والجماعة بذلك جاء القرآن. ومن العرب من يثنِّي ويجمع ويؤنث، فيقول للذكر: «هلمَّ» وللمرأة: «هلمِّي»، وللاثنين «هلمَّا»، وللثنتين: «هلمَّا»، وللجماعة: «هلمُّوا»، وللنسوة: «هلمُمْن». وقال ابن قتيبة: هَلُمَّ، بمعنى: «تعال». وأهل الحجاز لا يثنُّونها ولا يجمعونها، وأهل نجد يجعلونها من «هَلْمَمَتْ» فيثنُّون ويجمعون ويؤنِّثون، وتوصل باللام، فيقال: «هلم لك»، «وهلم لكما». قال: وقال الخليل: أصلها «لُم»، وزيدت الهاء في أولها. وخالفه الفراء فقال: أصلها «هل» ضم إليها «أُمّ»، والرفعة التي في اللام من همزة «أُمّ» لما تركت انتقلت إلى ما قبلها وكذلك «اللهم» يرى أصلها: «يا ألله أمِّنا بخير» فكثرت في الكلام، فاختلطت، وتركت الهمزة. وقال ابن الانباري: معنى «هلم» : أقبل وأصله: «أُمَّ يا رجل»، أي: «اقصد»، فضموا «هل» إلى «أم» وجعلوهما حرفاً واحداً، وأزالوا «أم» عن التّصرّف،
وحوّلوا ضمّة همزة «أم» إلى اللام، وأسقطوا الهمزة، فاتصلت الميم باللام. وإذا قال الرجل للرجل «هلم»، فأراد أن يقول: لا أفعل، قال: «لا أهَلُمّ ولا أُهَلِمُّ». قال مجاهد: هذه الآية جواب قولهم: إن الله حرم البحيرة، والسائبة. قال مقاتل: الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا الحرث والأنعام، فَإِنْ شَهِدُوا أن الله حرَّمه فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي: لا تصدّق قولهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥١]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)
قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً «ما» بمعنى «الذي».
وفي «لا» قولان: أحدهما: أنها زائدة كقوله تعالى: أَلَّا تَسْجُدَ. والثاني: أنها ليست زائدة، وإنّما هي باقية فعلى هذا القول، في تقدير الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون قوله: «أن لا تشركوا»، محمولا على المعنى فتقديره: أتل عليكم أن لا تشركوا، أي أتل تحريم الشرك. والثاني: أن يكون المعنى: أوصيكم أن لا تشركوا، لأنّ قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً محمول على معنى: أوصيكم بالوالدين إحساناً، ذكرهما الزجاج. والثالث: أن الكلام تم عند قوله: حَرَّمَ رَبُّكُمْ. ثم في قوله:
«عليكم» قولان: أحدهما: أنها إغراء، كقوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ «١»، فالتقدير: عليكم أن لا تشركوا، ذكره ابن الانباري. والثاني: أن يكون بمعنى: فُرض عليكم، ووجب عليكم أن لا تشركوا. وفي هذا الشرك قولان: أحدهما: أنه ادعاء شريك مع الله عزّ وجلّ. والثاني: أنه طاعة غيره في معصيته.
قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ يريد دفن البنات أحياءً، مِنْ إِمْلاقٍ أي: من خوف فقر.
قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ فيه خمسة اقوال:
أحدها: أن الفواحش: الزنا، وما ظهر منه: الإعلان به، وما بطن: الاستسرار به، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي. والثاني: أن ما ظهر: الخمر، ونكاح المحرمات. وما بطن: الزنا، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. والثالث: أن ما ظهر: الخمر، وما بطن: الزنا، قاله الضحاك. والرابع: أنه عام في الفواحش. وظاهرها: علانيتها، وباطنها: سِرُّها، قاله قتادة. والخامس: أن ما ظهر: أفعال الجوارح، وما بطن: اعتقاد القلوب، ذكره الماوردي في تفسير هذا الموضع، وفي تفسير قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ «٢».
والنفس التي حرَّم الله: نفس مسلم أو معاهد. والمراد بالحقّ: ادن الشّرع.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٢]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)
(١) سورة المائدة: ١٠٥.
(٢) سورة الأنعام: ١٢٠.
91
قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
إنما خص مال اليتيم، لأن الطمع فيه، لقلِّة مراعيه وضعف مالكه أقوى. وفي قوله: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
أربعة أقوال: أحدها: أنه أكل الوصي المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: التجارة فيه، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي. والثالث: أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه، قاله ابن السائب.
والرابع: أنه حفظه عليه، وتثميره له، قاله الزجاج. قال: و «حتى» محمولة على المعنى فالمعنى:
احفظوه عليه حتى يبلغ أشده، فاذا بلغ أشده، فادفعوه إليه.
فأما الأشُدُّ، فهو استحكام قوة الشباب والسنِّ. قال ابن قتيبة: ومعنى الآية: حتى يتناهى في النبات إلى حدِّ الرجال. يقال: بلغ أشده: إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان. وقال أبو عبيدة:
الأَشُدُّ لا واحد له منه فان أُكرهوا على ذلك، قالوا: شَدَّ، بمنزلة: ضَبَّ والجمع: أضبّ. قاله ابن الانباري: وقال جماعة من البصريين: واحد الأشُدِّ: شُدٌ، بضم الشين. وقال بعض البصريين: واحد الأشُدِّ: شِدّةٌ، كقولهم: نِعمة، وأنْعُم. وقال بعض أهل اللغة: الأشُدُّ: اسم لا واحد له. وللمفسرين في الأشُد ثمانية أقوال: أحدها: أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني: ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أربعون سنة، روي عن عائشة عليها السلام. والرابع: ثماني عشرة سنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والخامس: خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة. والسادس: أربعة وثلاثون سنة، قاله سفيان الثوري. والسابع: ثلاثون سنة، قاله السدي. وقال: ثم جاء بعد هذه الآية: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ «١» فكأنه يشير إلى النسخ. والثامن: بلوغ الحلم، قاله زيد بن أسلم، والشعبي، ويحيى بن يعمر، وربيعة، ومالك بن أنس، وهو الصحيح. ولا أظن بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسروا هذه الآية بما ذُكر عنهم، وإنما أظن أن الذين جمعوا التفاسير، نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إلى هذا المكان، وذلك نهاية الأشُدِّ، وهذا ابتداء تمامه وليس هذا مثل ذاك. قال ابن جرير: وفي الكلام محذوف، ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حُذف، لأن المعنى: حتى يبلغ أشده فإذا بلغ اشده، وآنستم منه رشدا، فادفعوا إليه ماله. وهذا الذي ذكره ابن جرير ليس بصحيح، لأنّ إيناس الرّشد استفيد من سورة (النساء) وكذلك أولياء اليتامى، فحُمل المطلق على المقيد.
قوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
أي: أتمّوه ولا تنقصوا منه. وَالْمِيزانَ
أي: وَزْنَ الميزان.
والقسط: العدل. لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
أي: ما يسعها. ولا تضيق عنه. قال القاضي أبو يعلى:
لما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل، كُلّفنا الاجتهاد في التحري، دون تحقيق الكيل والوزن. قوله تعالى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
أي: إذا تكلمتم أو شهدتم، فقولوا الحق، ولو كان المشهود له أو عليه ذا قرابة. وعَهْد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به، وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
أي: لتذَّكَّروه وتأخذوا به. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «تذّكّرون» و «يذّكّرون» و «يذّكّر الإنسان» و «أن يذّكّر»، و «ليذّكّروا» مشدّدا ذلك
(١) سورة النساء: ٦.
92
كلُّه. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، وابن عامر كل ذلك بالتشديد، إلا قوله تعالى: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ فانهم خففوه. روى أبان، وحفص عن عاصم: «يذكرون» خفيفة الذال في جميع القرآن. قرأ حمزة، والكسائي: «يذّكّرون» مشدداً إذا كان بالياء، ومخفّفا إذا كان بالتاء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٣]
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)
قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو: «وأنّ» بفتح الألف مع تشديد النون. قال الفراء: إن شئت جعلت «أن» مفتوحة بوقوع «أتل» عليها وإن شئت جعلتها خفضاً، على معنى: ذلكم وصاكم به، وبأن هذا صراطي مستقيماً. وقرأ ابن عامر بفتح الألف أيضاً، إلا أنه خفف النون، فجعلها مخففة من الثقيلة وحكم إعرابها حكم تلك. وقرأ حمزة، والكسائي: بتشديد النون مع كسر الألف. قال الفراء: وكسر الألف على الاستئناف. وفي الصراط قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني: الإسلام. وقد بينا إعراب قوله: «مستقيما». فأما «السُّبُل»، فقال ابن عباس: هي الضلالات. وقال مجاهد: البدع والشبهات. وقال مقاتل: أراد ما حرَّموا على أنفسهم من الأنعام والحرث. فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أي: فتضلِّكم عن دينه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٤]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)
قوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قال الزّجّاج: «ثمّ» ها هنا للعطف على معنى التلاوة فالمعنى: أتل ما حرم ربكم، ثم اتل عليكم ما آتاه الله موسى. وقال ابن الانباري: الذي بعد «ثم» مقدَّم على الذي قبلها في النية والتقدير: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ في قوله تعالى: تَماماً قولان:
أحدهما: أنها كلمة متصلة بما بعدها تقول: أعطيتك كذا تماماً على كذا، وتماما لكذا، وهذا قول الجمهور. والثاني: أن قوله: تَماماً كلمة قائمة بنفسها، غير متصلة بما بعدها والتقدير: آتينا موسى الكتاب تماماً، أي: في دفعة واحدة، لم نفرِّق إنزاله كما فُرِّق إنزال القرآن، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وفي المشار إليه بقوله: أَحْسَنُ
أربعة أقوال: أحدها: أنه الله عزّ وجلّ: ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه، قاله ابن زيد. والثاني: تماما على إحسان الله تعالى إلى موسى وعلى هذين القولين، يكون «الذي» بمعنى «ما». والقول الثاني: أنه إبراهيم الخليل عليه السلام فالمعنى: تماماً للنعمة على إبراهيم الذي أحسن في طاعة الله، وكانت نُبُوَّة موسى نعمة على إبراهيم، لأنه من ولده، ذكره الماوردي. والقول الثالث: أنه كل محسن من الانبياء، وغيرهم.
وقال مجاهد: تماماً على المحسنين، أي: تماماً لكل محسن. وعلى هذا القول، يكون «الذي» بمعنى «مَن»، و «على» بمعنى لام الجر ومن هذا قول العرب: أتم عليه، وأتم له. قال الراعي:
رعته أشهرا وخلا عليها «١» أي: لها. قال ابن قتيبة: ومثل هذا أن تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحج تريد: للغازين والحاجِّين. والقول الرابع: أنه موسى. ثم في معنى: «أحسن» قولان: أحدهما: أَحْسَنَ في الدنيا بطاعة الله عزّ وجلّ. قال الحسن، وقتادة: تماما لكرامته في الجنة إلى إحسانه في الدنيا. وقال الربيع: هو إحسان موسى بطاعته. وقال ابن جرير: تماماً لنعمنا عنده على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا. والثاني:
أحسن في العلم وكُتُبَ اللهِ القديمةِ وكأنه زيد على ما أحسنه من التوراة ويكون «التمام» بمعنى الزيادة، ذكره ابن الانباري. فعلى هذين القولين، يكون «الذي» بمعنى: «ما».
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، والحسن، وابن يعمر: «على الذي أحسنُ»، بالرفع.
قال الزجاج: معناه: على الذي هو أحسن الأشياء. وقرأ عبد الله بن عمرو، وأبو المتوكل، وأبو العالية: «على الذي أُحْسِنَ» برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون وهي تحتمل الإحسان، وتحتمل العلم.
قوله تعالى: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي: تبياناً لكل شيء من أمر شريعتهم مما يحتاجون إلى علمه، لكي يؤمنوا بالبعث والجزاء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٥]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥)
قوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ يعني القرآن، فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا أن تخالفوه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. قال الزّجّاج: لتكونوا راجين للرّحمة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٦]
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦)
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا. سبب نزولها:
(٥٦٢) أن كفار مكة قالوا: قاتل الله اليهود والنصارى، كيف كذّبوا أنبياءهم فو الله لو جاءنا نذير وكتاب، لكنَّا أهدى منهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قال الفراء: «أن» في موضع نصب في مكانين: أحدهما: أنزلناه لئلا تقولوا. والآخر: من قوله:
واتقوا أن تقولوا. وذكر الزجاج عن البصريين، أن معناه: أنزلناه، كراهة أن تقولوا ولا يجيزون إضمار «لا». فأما الخطاب بهذه الآية، فهو لأهل مكة والمراد إثبات الحجة عليهم بانزال القرآن كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنصارى، وكنا غافلين عمّا فيهما. و «دراستهم» :
قراءتهم الكتاب. قال الكسائي. وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ لا نعلم ما هي، لأن كتبهم لم تكن بلُغَتِنَا، فأنزل الله كتاباً بلغتهم لتنقطع حجّتهم.
باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث فالخبر لا شيء والمتن باطل.
__________
(١) البيت منسوب للراعي النميري وهو عبيد بن حصين وتمامه: فطار النيّ فيها واستنارا. «أدب الكاتب» لابن قتيبة ٣٣٦. ورعته رعت هذه الناقة هذا النبات أشهرا وتخلت به لم يرعه غيرها.

[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٧]

أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
قوله تعالى: لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ قال الزجاج: إنما كانوا يقولون هذا، لأنهم مُدِلُّون بالأذهان والأفهام، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم، وهم أُمِّيُّون لا يكتبون. فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ أي: ما فيه البيان وقطع الشبهات. قال ابن عباس: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ أي: حجة، وهو النبي، والقرآن، والهدى، والبيان، والرحمة، والنعمة. فَمَنْ أَظْلَمُ أي: أكفر مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ يعني محمداً والقرآن. وَصَدَفَ عَنْها: أعرض فلم يؤمن بها. وسوء العذاب: قبيحه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٨]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ أي: ينتظرون إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تأتيهم» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي: «يأتيهم» بالياء. وهذا الإتيان لقبض أرواحهم. وقال مقاتل: المراد بالملائكة: ملك الموت وحده.
قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ قال الحسن: أو يأتي أمْرُ ربك. وقال الزجاج: أو يأتيَ إهلاكه وانتقامه، إمِّا بعذاب عاجل، أو بالقيامة. قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وروى عبد الوارث إلا القزاز: بتسكين ياء «أو يأتي»، وفتحها الباقون. وفي هذه الآية أربعة أقوال:
(٥٦٣) أحدها: أنه طلوع الشمس من مغربها، رواه أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن مسعود في رواية زرارة بن أوفى عنه، وعبد الله بن عمرو، ومجاهد وقتادة، والسدي.
(٥٦٤) وقد روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ ﷺ أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فاذا طلعت ورآها الناس، آمن مَن عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً».
(٥٦٥) وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تزال التّوبة مقبولة حتى
أخرجه الترمذي ٣٠٧١ وأحمد ٣/ ٣١ وأبو يعلى ١٣٥٣ وإسناده ضعيف فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ وعطية العوفي ضعيف وحسنه الترمذي، وذكر أن بعضهم رواه موقوفا ا. هـ. من حديث أبي سعيد الخدري ومع ذلك فمثله لا يقال بالرأي.
حديث صحيح أخرجه البخاري ٤٦٣٥ و ٤٦٣٦ و ٦٥٠٦ و ٧١٢١، ومسلم ١٥٧ وأبو داود ٤٣١٢ والنسائي في «الكبرى»
١١١٧٧ وابن ماجة ٤٠٦٨ وأحمد ٢/ ٢٣١ و ٣١٣ و ٣٥٠ و ٣٩٨ و ٥٣٠ وأبو يعلى ٦٠٨٥ وابن حبان ٦٨٣٨ والطبري ١٤٢٠٨ و ١٤٢١٤ و ١٤٢١٥ من حديث أبي هريرة.
حسن. أخرجه أحمد ١/ ١٩٢ والطبراني ١٩/ ٣٨١ وفي «مسند «الشاميين» ١٦٧٤ والطبري ١٤٢١٧ و ١٤٢١٨ من حديث معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص وإسناده حسن، رجاله
تطلع الشمس من مغربها، فاذا طلعت، طُبع على كلّ قلب بما فيه، وكفي الناس العمل».
والثاني: أنه طلوع الشمس والقمر من مغربهما، رواه مسروق عن ابن مسعود. والثالث: أنه إحدى الآيات الثلاث، طلوع الشمس من مغربها، والدابة، وفتح يأجوج ومأجوج، روى هذا المعنى القاسم عن ابن مسعود. والرابع: أنه طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال، ودابة الأرض، قاله أبو هريرة والأول أصح.
والمراد بالخير ها هنا: العمل الصالح وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ، لظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان. وقال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه، قبِل منه، كما يقبل منه قبل الآية. وقيل: إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها، أن الملحدة والمنجمين، زعموا أن ذلك لا يكون، فيريهم الله تعالى قدرته، ويطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق، ولتحقق عجز نمرود حين قال له إبراهيم: فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ «١».
(فصل:) وفي قوله: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ قولان: أحدهما: أن المراد به التهديد، فهو محكم.
والثاني: أنه أمر بالكف عن القتال، فهو منسوخ بآية السيف.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «فرّقوا» مشددة. وقرأ حمزة، والكسائي: «فارقوا» بألف. وكذلك قرءوا في (الروم) فمن قرأ: «فرّقوا»، أراد: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. ومن قرأ: «فارقوا»، أراد: باينوا. وفي المشار إليهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة، قاله أبو هريرة. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والسدي. والثالث: اليهود، قاله مجاهد. والرابع: جميع المشركين، قاله الحسن. فعلى هذا القول، دينهم: الكفر الذي يعتقدونه ديناً، وعلى ما قبله، دينهم: الذي أمرهم الله به. والشِّيَع: الفرق والأحزاب. قال الزجاج: ومعنى «شيّعتُ» في اللغة: اتبعت. والعرب تقول:
شاعكم السلام، وأشاعكم، أي: تبعكم. قال الشاعر:
ألا يا نَخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ بَرُوْدِ الظِّلِّ شَاعَكُم السَّلاَمُ «٢»
وتقول: أتيتك غداً، أو شِيَعة، أي: أو اليوم الذي يتبعه. فمعنى الشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضاً، وليس كلهم متّفقين.
ثقات. وأخرجه أحمد ٤/ ٩٩ من حديث معاوية، وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» ٥/ ٢٥١: رجال أحمد ثقات.
__________
(١) سورة البقرة: ٢٥٨.
(٢) البيت غير منسوب في «أساس البلاغة» «واللسان» شيع.
وفي قوله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قولان: أحدهما: لست من قتالهم في شيء ثم نسخ بآية السيف، وهذا مذهب السدي. والثاني: لست منهم، أي: أنت بريء منهم، وهم منك برآء، إنما أمرهم إلى الله في جزائهم، فتكون الآية محكمة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: «عَشْرٌ» بالتنوين، «أمثالُها» بالرفع. قال ابن عباس: يريد من عَمِلَها، كتبت له عشر حسنات. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا جزاء مِثْلَها. وفي الحسنة والسيئة ها هنا قولان:
أحدهما: أن الحسنة: قول لا إله إلا الله. والسيئة: الشرك، قاله ابن مسعود، ومجاهد، والنخعي. والثاني: أنه عام في كل حسنة وسيئة.
(٥٦٦) روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي ذرّ عن النبيّ ﷺ قال: «يقول الله عزّ وجلّ: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أَزِيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أَغْفِر».
فان قيل: إذا كانت الحسنة كلمة التوحيد، فأي مثل لها حتى يجعل جزاءُ قائلها عشر أمثالها؟
فالجواب: أن جزاء الحسنة معلوم القدر عند الله، فهو يجازي فاعلها بعشر أمثاله، وكذلك السيئة. وقد أشرنا إلى هذا في (المائدة) عند قوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «١». فان قيل: المثل مذكَّر، فلم قال: عَشْرُ أَمْثالِها والهاء إنما تسقط في عدد المؤنث؟ فالجواب: أن الأمثال خلقت حسنات مؤنثة وتلخيص المعني: فله عشر حسنات أمثالها، فسقطت الهاء من عشر، لأنها عدد مؤنَّث، كما تسقط عند قولك: عشر نعال، وعشر جباب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦١]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)
قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال الزجاج: أي: دلَّني على الدين الذي هو دين الحق. ثم فسَّر ذلك بقوله: دِيناً قِيَماً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «قيما» مفتوحة القاف،
صحيح. أخرجه مسلم ٢٦٨٧. وأخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٥٩ وابن المبارك في «الزهد» ١٠٣٥ ولصدره شاهد من حديث أبي هريرة عند البخاري ٧٥٠١ ومسلم ١٢٨ وأحمد ٢/ ٢٤٢ وابن حبان ٣٨٠، ٣٨١، ٣٨٢، وابن مندة في «الإيمان» ٣٧٥. ولعجزه «ومن تقرب مني... » شاهد من حديث أنس عند البخاري ٧٥٣٦ وعبد الرزاق ٣٠٥٧٥ والطيالسي ٢٠١٢ وأحمد ٣/ ١٢٢ و ١٢٧ و ٢٧٢، ٢٨٣ وأبو يعلى ٣١٨٠. ويشهد لعجزه أيضا حديث أبي هريرة عند البخاري ٧٤٠٥ ومسلم ٢٦٧٥ وابن حبان ٣٧٦ وأحمد ٢/ ٤٣٥ و ٥٠٩. ولفظ الحديث: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «يقول الله: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة بمثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة».
__________
(١) سورة المائدة: ٣٢.
مشددة الياء. والقيم: المستقيم. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «قِيَماً» بكسر القاف وتخفيف الياء. قال الزجاج: وهو مصدر، كالصِّغَر والكِبَر. وقال مكي: من خففه بناه على «فِعَل» وكان أصله أن يأتي بالواو، فيقول: «قِوَماً» كما قالوا: عِوَض، وحِوَل، ولكنه شذ عن القياس. قال الزجاج:
ونصب قوله: دِيناً قِيَماً محمول على المعنى، لأنه لما قال: «هداني» دل على عرّفني ديناً ويجوز أن يكون على البدل من قوله: إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، فالمعنى: هداني صراطاً مستقيماً ديناً قيماً.
و «حنيفاً» منصوب على الحال من إبراهيم، والمعنى: هداني ملّة إبراهيم في حال حنيفيّته.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦٢ الى ١٦٣]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي يريد: الصلاة المشروعة. والنّسك: جمع نسيكة. وفي النّسك ها هنا أربعة أقوال: أحدها: أنها الذبائح قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن قتيبة.
والثاني: الدين، قاله الحسن. والثالث: العبادة. قال الزجاج: النسك كلُّ ما تُقُرِّب به إلى الله عزّ وجلّ، إلا أن الغالب عليه أمر الذبح. والرابع: أنه الدين، والحج، والذبائح، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَمَحْيايَ وَمَماتِي الجمهور على تحريك ياء «محياي»، وتسكين ياء «مماتي». وقرأ نافع: بتسكين ياء «محياي»، ونصب ياء «مماتي»، ثم للمفسرين في معناه قولان:
أحدهما: أن معناه: لا يملك حياتي ومماتي إلا الله.
والثاني: حياتي لله في طاعته، ومماتي لله في رجوعي إلى جزائه. ومقصود الآية أنه أخبرهم أن أفعالي وأحوالي لله وحده، لا لغيره كما تشركون أنتم به.
قوله تعالى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قال الحسن، وقتادة: أوّل المسلمين من هذه الأمّة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٤]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا.
(٥٦٧) سبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر، ونحن لك الكُفلاء بما أصابك من تبعة، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها أي: لا يُؤْخذُ سواها بعملها. وقيل: المعنى: إلا عليها عقاب معصيتها، ولها ثواب طاعتها. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى قال الزجاج: لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى. والمعنى: لا يؤخذ أحد بذنب غيره. قال أبو سليمان: ولما ادَّعت كل فرقة من اليهود والنصارى والمشركين أنهم أولى بالله من غيرهم. عرفهم أنه الحاكم بينهم بقوله تعالى:
باطل، عزاه المصنف لمقاتل وهو من يضع الحديث وقد وضع مقاتل وهو ابن سليمان وكذا الكلبي لكل آية سببا لنزولها، وليس هذا بشيء.
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، ونظيره: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «١».
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٥]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ قال أبو عبيدة: الخلائف: جمع خليفة. قال الشماخ:
تُصيْبُهُمُ وتُخْطُئُني المَنايا وأخْلُفُ في رُبُوعٍ عَنْ رُبوع «٢»
وللمفسرين فيمن خلفوه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم خلفوا الجن الذين كانوا سكان الأرض قاله ابن عباس. والثاني: أن بعضهم يخلف بعضاً قاله ابن قتيبة. والثالث: أن أمة محمد خلفت سائر الأمم، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أي: في الرزق، والعلم، والشرف، والقوة، وغير ذلك لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم، فيظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب.
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ فيه قولان: أحدهما: أنه سماه سريعاً، لأنه آتٍ، وكل آتٍ قريبٌ. والثاني: أنه إذا شاء العقوبة، أسرع عقابه.
(١) سورة الحج: ١٧.
(٢) البيت للشماخ ديوانه: ٥٨ «واللسان» ربع. الربوع: جمع ربع وهو جماعة الناس الذين ينزلون ربعا يسكنونه، يقول: أبقى في قوم بعد قوم.
Icon