سورة الأنعام
وهي مائة وخمس أو ست وستون آية قال الثعلبي : هي مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ إلى آخر الثلاث آيات ﴿ وقل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية وهي الآيات المحكمات أي في هذه السورة وقال القرطبي : هي مكية إلا آيتين ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين، وقوله تعالى :﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات ﴾ نزلت في ثابت ابن قيس.
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتقديس، والأرض ترتج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم ) ١.
وعن ابن عباس وعلي أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا، وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة قال القرطبي : قال العلماء : هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة نها في معنى واحد من الحجة وأن تصرف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين.
ﰡ
(الحمد لله) بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله للدلالة على أن الحمد كله له وإن لم يحمدوه، وفيه تعليم اللفظ والمعنى مع تعريض الإستغناء ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون، والحمد اللغوي الوصف بالجميل ذكره الزمخشري في الفائق، وزاد صاحب المطالع وغيره كونه على جهة التعظيم والتبجيل أي ظاهراً وباطناً.
وأما الحمد الاصطلاحي فهو فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً، قاله الكرخي، وقد تقدم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا.
وقال أهل المعاني لفظه خبر ومعناه الأمر أي احمدوا الله، وإنما جاء بهذا النمط لأنه أبلغ في البيان من حيث إنه جمع الأمرين.
ثم وصف نفسه بأنه هو (الذي خلق السموات والأرض) إخباراً عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد، فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد، والخلق يكون بمعنى الإختراع وبمعنى التقدير، وقد تقدم تحقيق ذلك، وجمع السموات لتعدد طباقها وإن بعضها فوق بعض، وقدمها على الأرض لشرفها لأنها متعبد الملائكة ولم يقع فيها معصية، ولتقدمها في الوجود، قاله القاضي لقوله تعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها) فإنه صريح في أن بسط الأرض مؤخر عن تسوية السماء.
والأرض وإن كانت سبعة عند الجمهور فليس بعضها فوق بعض بل بعضها موال لبعض وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، فالسماء بغير عمد يرونها وفيه العبر والمنافع، والأرض مسكن الخلق وفيها أيضاً ذلك.
(وجعل الظلمات والنور) ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله خلق السموات والأرض ثم ذكر الأعراض بقوله هذا لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض، واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال جمهور المفسرين: المراد بالظلمات سواد الليل، وبالنور ضوء النهار وبه قال السدي، وقال الحسن: الكفر والإيمان، قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر انتهى.
وقيل المراد بهما الجهل والعلم، وقيل الجنة والنار والأولى أن يقال إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور، فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات).
وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها نظيره ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموضع المظلم يخالف كل واحد منهما صاحبه، والنور ضرب واحد لا يختلف كما تختلف الظلمات.
قال النحاس: (جعل) ههنا بمعنى خلق، وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد، وقال القرطبي: جعل هنا بمعنى خلق، لا يجوز غيره، قال ابن عطية: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفاً على الجمع والمفرد معطوفاً على المفرد، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل، ولهذا كان النهار مسلوخاً عن الليل.
(ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) " ثم " لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، قاله الزمخشري، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه لا الكفر به واتخاذ شريك له.
والباء متعلقة بيعدلون والتقديم للاهتمام ورعاية الفواصل وحذف المفعول لظهوره أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه وتعالى تلك النعم، ويكون من الكفرة الكفر.
قال علي: نزلت هذه الآية يعني الحمد لله إلى قوله يعدلون في أهل الكتاب، وقال قتادة: هم أهل الشرك وعن السدي مثله، وقال مجاهد: يعدلون أي يشركون وعن زيد قال: الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله وليس لله عدل ولا ند، وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولداً، وأصل العدل مساواة الشيء بالشيء، وقال النضر بن شميل: الباء بمعنى عن أي عن ربهم ينحرفون من العدول عن الشيء.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ١٢٢.
(ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده) جاء بكلمة ثم لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت فهي للترتيب الزماني على أصلها، وقضى بمعنى أظهر، وهي صفة فعل وإن كان بمعنى كتب وقدر، فهي للترتيب في الذكر لأنها صفة ذات وذلك مقدم على خلقهم.
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين فقيل قضى أجلاً يعني الموت وأجل مسمى القيامة والوقوف عند الله، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي وخصيف ومقاتل وغيرهم، وقيل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ وهو قريب من الأول.
وقيل الأول مدة الدنيا والثاني عمر الإنسان إلى حين موته، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وقيل الأول قبض الأرواح في النوم، والثاني قبضها عند
ويرشد إلى هذا قوله تعالى: (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) وقد صح عن رسول الله ﷺ أن صلة الرحم تزيد في العمر وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الأول أجل الدنيا، والثاني أجل الآخرة، وجاز الابتداء بالنكرة في قوله: (وأجل مسمى عنده) لأنها قد تخصصت بالصفة.
(ثم أنتم تمترون) استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه، فإن من خلقكم من طين وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون، وخلق لكم هذه الحواس والأطراف ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتاً وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت ويرد إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته.
قال الزجاج: هو متعلق بما تضمنه اسم الله، قال ابن عطية: هذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى، وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وآيات قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه
وقيل المعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا تخفى عليه خافية، وقال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه، قال الشيخ وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى لكن صناعة النحو لا تساعده عليه، وقال ابن جرير: هو الله في السموات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض. والأول أولى.
وتكون جملة (يعلم سركم وجهركم) مقررة لمعنى الجملة الأولى لأن كونه سبحانه إلهاً في السماء والأرض يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم وعلمه بما يكسبونه من الخير والشر، وجلب النفع ودفع الضرر، وقال السمين: في هذه الآية أقوال كثيرة لخصت جميعها في اثني عشر وجهاً ثم بينها، وذكر سليمان الجمل منها أربعة أوجه منها ما تقدم (ويعلم ما تكسبون) من خير أو شر، وهذا محمول على المكتسب لا على نفس الكسب، قاله الرازي.
والمراد بها إما الآيات التنزيلية فإتيانها نزولها، وإما الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات فإتيانها ظهورها لهم (إلا كانوا عنها معرضين) أي كانوا لها تاركين وبها مكذبين، والإعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله.
(بالحق لما جاءهم) قيل المراد بالحق هنا القرآن وقيل محمد - ﷺ - (فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون) أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزءوا به ليس بموضع للاستهزاء وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم، كما يقال اصبر فسوف يأتيك الخبر، عند إرادة الوعيد والتهديد، وفي لفظ الإنباء ما يرشد إلى ذلك، فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم الوقع، وحملها على العقوبات الآجلة أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته يأباه الآيات الآتية، قال ابن عطية: أي أنباء كونهم مستهزئين.
أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار في أسفارهم للتجارة إلى
وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان فيكون ما في الآية على تقدير مضاف أي من أهل القرن الذين وجدوا فيه، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم " (١).
(مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) مكن له في الأرض جعل له مكاناً فيها ومكنه في الأرض أي أثبته فيها قاله الزمخشري، وقال أبو عبيدة مكناهم ومكنا لهم لغتان فصيحتان نحو نصحته ونصحت له، وبهذا قال أبو علي والجرجاني، والجملة مستأنفة كأنه وقيل: كيف ذلك؟ وقيل الجملة صفة لقرن، والأول أولى أي مكناهم تمكيناً لم نمكنه لكم.
والمعنى أنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم ما لم نعطكم من الدنيا وطول الأعمار وقوة الأبدان والبسطة في الأجسام والسعة في الأرزاق وقد أهلكناهم جميعاً، فإهلاككم وأنتم دونهم بالأولى، ذكر معناه أبو البقاء.
وفيه التفات عن الغيبة في قوله: (ألم يروا) والالتفات له فوائد منها تطرية الكلام وصيانة السمع عن الزجر والملال لما جبلت علية النفوس من حب التنقلات والسآمة من الاستمرار على منوال واحد، هذه فائدته العامة ويختص كل موقع بنكت ولطائف باختلاف محله كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه وأعطاه فضل عنايته وخصصه بالمواجهة ذكره الكرخي.
(وأرسلنا السماء عليهم مدراراً) يريد المطر الكثير عبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها، والمدرار صيغة مبالغة تدل على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت
_________
(١) مسلم ٢٥٣٥ - البخاري ١٢٨٨.
(وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم) معناه من تحت أشجارهم ومنازلهم والمراد به كثرة البساتين أي أن الله وسع عليهم المنعم بعد التمكين لهم في الأرض فكفروها (فأهلكناهم) أي كل قرن من تلك القرون (بذنوبهم) ولم يغن ذلك عنهم شيئاً فسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب، وهذا كما ترى آخر ما به الاستشهاد والاعتبار.
وأما قوله: (وأنشأنا من بعدهم) أي من بعد إهلاكهم (قرناً آخرين) فصاروا بدلاً من الهالكين، ففي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه وقوة سلطانه وأنّه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء، وأن ما ذكر من إهلاك الأمم الكثيرة لم ينقص من ملكه شيئاً بل كل ما أهلك أمة أنشأ بدلها أخرى.
وفي هذه الآية ما يوجب الاعتبار والموعظة بحال من مضى من الأمم السالفة والقرون الخالية فإنهم مع ما كانوا فيه من القوة وكثرة الأتباع وخصب العيش، أهلكوا بسبب الكفر والإثم فكيف حال من هو أضعف منهم خلقاً وأقل عدداً وعدداً، وهذا يوجب الانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة.
والقرن لفظ يقع على معان كثيرة فيطلق على الجماعة من الناس ويطلق على المدة من الزمان قيل إطلاقه على هذين بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز، والراجح الثاني لأن المجاز خير من الاشتراك، وإذا قلنا بالراجح فالأظهر أن الحقيقة هي القوم.
ثم اختلف في كمية القرن فالجمهور أنه مائة سنة وقيل مائة وعشرون وقيل ثمانون وقيل سبعون قاله الفراء وقيل ستون وقيل أربعون وقيل ثلاثون وقيل عشرون، وقيل هو المقدار الوسط من أعمار أهل ذلك الزمان واستحسن هذا بأن أهل الزمن القديم كانوا يعيشون أربعمائة سنة وثلثمائة وألفاً وأكثر وأقل.
والقرطاس في اللغة أعم منهما وهو ما يكتب فيه وكسر القاف أشهر من ضمها والقرطس وزن جعفر لغة فيه، وفي القاموس مثلث القاف وكجعفر ودرهم: الكاغد، والكاغد بالدال المهملة وربما قيل بالمعجمة وهو معرب.
وفي القاموس الكاغد القرطاس، وفي السمين هو الصحيفة يكتب فيها يكون من ورق وكاغد وغيرهما ولا يقال قرطاس إلا إذا كان مكتوباً وإلا فهو طرس وكاغد (١).
(فلمسوه بأيديهم) حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين حاسة البصر وحاسة اللمس، فهو أبلغ من عاينوه لأنه أنفى للشك لأن السحر يجري على المرئي لا
_________
(١) اختصر المؤلف رحمه الله كلام ابن قتيبة، وإليك نصه بتمامه من " غريب القرآن " ١٥٠: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس) أي: صحيفة، وكذلك قوله: (تجعلونه قراطيس) أي: صحفاً. قال المرار.
عفت المنازل غير مثل الأنقس | بعد الزمان عرفته بالقرطس |
فوقفت تعترف الصحيفة بعدما | عمس الكتاب وقد يرى لم يعمس |
(لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) أي لقال الكفار هذا هو السحر، ولم يعلموا بما شاهدوا ولمسوا، وإذا كان هذا حالهم في المرئي المحسوس فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله - ﷺ - بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه، وفيه إظهار في مقام الإضمار.
(ولو أنزلنا ملكاً) على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم (لقضي الأمر) بهلاكهم أي لأهلكناهم إذا لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له لأن مثل هذه الآية البينة وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها فقد استحقوا الإهلاك والمعاجلة بالعقوبة، وهذه سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا استوجبوا العذاب واستؤصلوا به.
(ثم لا ينظرون) أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له طرفة عين لتوبة أو معذرة بل يعجل لهم العذاب، وقيل المعنى أن الله سبحانه لو أنزل ملكاً مشاهداً لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء بل تزهق أرواحهم عند ذلك، فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.
ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس كما جاء جبريل عليه السلام إلى النبي - ﷺ - في صورة دحية الكلبي، وكما جاء الملكان إلى داود عليه السلام في صورة رجلين، وكذلك إلى إبراهيم ولوط عليهما السلام.
وعند أن يجعله الله رجلاً أي على صورة رجل من بني آدم ليسكنوا إليه ويأنسوا به سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه.
وفي إيثار (رجلاً) على (بشراً) إيذان بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل.
(وللبسنا عليهم ما يلبسون) أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم أو على غيرهم قاله أبو البقاء لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه، قال الزجاج: المعنى للبسنا على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفائهم، وكانوا يقولون لهم إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم.
فأعلم الله عز وجل أنه لو نزل ملكاً في صورة رجل لوجدوا سبيلاً إلى اللبس كما يفعلون، واللبس الخلط يقال لبست عليه الأمر ألبسه لبساً أي خلطته وأصله التستر بالثوب ونحوه وفيه تأكيد لاستحالة جعل النذير ملكاً كأنه قيل لو فعلناه لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لبس الأمر عليهم.
ثم قال سبحانه مؤنساً لنبيه - ﷺ - ومسلياً له
(كيف كان عاقبة المكذبين) بعدما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم عليه فهذه ديارهم خربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة فأنتم بهم لاحقون وبعد هلاكهم هالكون، والعاقبة مصدر أي منتهى الشيء وما يصير إليه والعاقبة إذا اطلقت اختصت بالثواب وبالإضافة قد تستعمل في العقوبة فصح أن تكون استعارة كقوله فبشرهم بعذاب أليم.
وقد أخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة منها رحمة يتراحم بها الخلق وتسعة وتسعون ليوم القيامة فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة " (١).
وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -:
" لما قضى الله الخلق وكتب كتاباً فوضعه عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي " (٢) وقد روى من طرق أخرى بنحو هذا.
قيل معنى الجملة القسم، وعلى هذا فقوله (ليجمعنكم) جوابه لما تضمنه معنى القسم وقال الزجاج: إنها بدل من الرحمة لأنه فسره بأنه أمهلكم
_________
(١) مسلم ٢٧٥٣.
(٢) صحيح الجامع الصغير ٥٠٩٠.
وقيل المعنى ليجمعنكم في القبور مبعوثين أو محشورين وقيل اللام بمعنى أن أي أن يجمعكم كما في قوله تعالى: (ليسجننه) أي أن يسجنوه وقيل زائدة وقيل: إن جملة ليجمعنكم مسوقة للترهيب بعد الترغيب وللوعيد بعد الوعد، أي إن أمهلكم برحمته فهو مجازيكم يجمعكم ثم يعاقب من يستحق عقوبته من العصاة.
(إلى يوم القيامة) إلى بمعنى (في) وقيل المعنى في قبوركم إلى اليوم الذي أنكرتموه وهو يوم القيامة (لا ريب فيه) أي لا شك في اليوم أو في الجمع.
(الذين خسروا أنفسهم) أي ليجمعن المشركين الذين غبنوا أنفسهم باتخاذهم الأصنام فعرضوا أنفسهم لسخط الله وأليم عقابه فكانوا كمن خسر شيئاً، وأصل الخسار الغبن يقال خسر الرجل إذا غبن في بيعه (فهم لا يؤمنون) لما سبق عليهم القضاء بالخسران فهو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان بحيث لا سبيل لهم إليه أصلاً.
وقال ابن جرير: كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار، فيكون المراد منه جميع ما حصل في الأرض من الدواب والحيوانات والطير وغير ذلك مما في البر والبحر، وهذا يفيد الحصر والمعنى أن جميع الموجودات ملك لله تعالى لا لغيره (وهو السميع) لأقوالهم وأصواتهم (العليم) بسرائرهم وأحوالهم.
(فاطر السموات والأرض) أي خالقهما ومبدعهما (١) (وهو يطعم ولا يطعم) أي يرزق ولا يرزق وخص الإطعام دون غيره من ضروب الإنعام
_________
(١) ومنه ما روى البخاري (٣/ ١٩٧) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو
-[١١٣]-
ينصرانه، أو يُمَجِّسانِهِ، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء " ورواه البخاري أيضاً (٣/ ١٧٦): ومسلم في " صحيحه " (٤/ ٢٠٤٧) بلفظ " ما من مولود إلا يولد على الفطرة " ثم يقول أبو هريرة: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله... ) الآية. ورواه أحمد في " المسند " عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه. إما شاكراً، وإما كفوراً " وفي رواية لمسلم (٤/ ٢٠٤٨) " ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة، حتى يعبر عنه لسانه " وفي رواية له أيضاً " حتى يبين عنه لسانه ".
(قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) أمره سبحانه بعدما تقدم من نفي اتخاذ غير الله ولياً أن يقول لهم ثانياً أنه مأمور بأن يكون أول من أسلم وجهه لله من قومه وأخلص من أمته، فهو من جملة أمته من حيث إنه مرسل لنفسه يعني يحب عليه الإيمان برسالة نفسه وبما جاء من الشريعة والأحكام كما أنه مرسل لغيره وهو أول من انقاد لهذا الدين، أو المعنى أول فريق أسلم وأفرد الضمير في أسلم باعتبار لفظ من، وقيل معنى أسلم استسلم لأمر الله.
ثم نهاه عز وجل أن يكون من المشركين فقال: (ولا تكونن) أي وقيل لي ولا تكونن (من المشركين) أي في أمر من أمور الدين ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك وقد جوز عطفه على الأمر.
وعن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله - ﷺ - يوماً فقال لي: " يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف " (١)، أخرجه الترمذي وزاد فيه رزين تعرّف إلى الله في الرّخاء يعرفك في الشدة قال ابن الأثير: وقد جاء نحو هذا ومثله بطوله في مسند أحمد.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٧٨٣٤.
وإنما قال فوق عباده لأنه تعالى وصف نفسه بقهره إياهم ومن صفة كل قاهر شيئاً أن يكون مستعلياً عليه انتهى، أي استعلاء يليق به وقيل هو القاهر مستعلياً أو غالباً ذكره أبو البقاء والمهدوي وفي القهر معنى زائدة ليس في القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد (وهو الحكيم) في أمره (الخبير) بأفعال عباده.
وقيل هو الجواب لأنه إذا كان الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شهادة له - ﷺ - وقيل: إنه قد تم الجواب عند قوله قل الله يعني الله أكبر شهادة ثم ابتدأ فقال شهيد أي هو شهيد بيني وبينكم.
والمراد بشهادة الله إظهار المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن حقيقة الشهادة ما بين به المدعى وهو كما يكون بالقول يكون بالفعل، ولا شك أن دلالة الفعل أقوى من دلالة القول لعروض الاحتمالات في الألفاظ دون الأفعال فإن دلالتها لا يعرض لها الاحتمال. وتكرير البين لتحقيق المقابلة.
(وأوحى إلي) أي أوحى الله إلي (هذا القرآن) الذي تلوته عليكم (لأنذركم) أي لأجل أن أخوفكم (به) وأحذركم مخالفة أمر الله وهذا بمنزلة
وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجوداً وقت النزول ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه.
وعن أنس قال: لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى وقيصر والنجاشي وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه.
وأخرج أبو نعيم والخطيب وابن النجار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من بلغه القرآن فكأنما شافهته به "، ثم قرأ هذه الآية، وعن محمد بن كعب القرظيّ قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ من بلغه القرآن حتى يفهمه ويعقله كان كمن عاين رسول الله ﷺ وكلمه.
وعن مجاهد قال: لأنذركم به يعني العرب ومن بلغ يعني العجم، قال السمين فيه ثلاثة أقوال (أحدها) لأنذر الذي بلغ القرآن (والثاني) لأنذر الذي بلغ الحلم (والثالث) لأنذركم به ولينذركم الذي بلغه القرآن.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - ﷺ - قال: " بلغوا عني ولو آية " (١) أخرجه البخاري وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول:
_________
(١) البخاري كتاب الأنبياء الباب ٥ - الترمذي كتاب العلم الباب ١٢.
وقال ابن عباس: تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم، أخرجه أبو داود موقوفاً، وقد امتثل بهذا الأمر عصابة أهل الحديث دون غيرهم كثر الله سوادهم ورفع عمادهم.
(أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها والاستفهام للتوبيخ والتقريع على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل أو بقلب الثانية أي لا تنبغي ولا تصح منكم هذه الشهادة لأن المعبود واحد لا تعدد فيه، وأما من قرأ على الخبر فقد حقق عليهم شركهم، وإنما قال آلهة أخرى لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كذا قال الفراء ومثله قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى) وقال: فما بال القرون الأولى ولم يقل الأول ولا الأولين.
(قل) فأنا (لا أشهد) بما تشهدون به أن معه آلهة أخرى بل أجحد ذلك وأنكره وذلك لكون هذه الشهادة باطلة ومثله فإن شهدوا فلا تشهد معهم (قل إنما هو إله واحد) لا شريك له وبذلك أشهد، وفي (ما) وجهان أظهرهما أنها كافة والثاني أنها موصولة قال أبو البقاء وهذا الوجه أليق بما قبله، قال السمين: ولا أدري ما وجه ذلك يعني الأولى هو الوجه الأول (وأني بريء مما تشركون) به وما موصولة أو مصدرية أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة أو من إشراككم بالله.
_________
(١) ابن ماجة كتاب المقدمة الباب ١٨ وكتاب المناسك الباب ٧٦.
(كما يعرفون أبناءهم) بيان لتحقق تلك المعرفة وكمالها وعدم وجود شك فيها فإن معرفة الآباء للأبناء هي البالغة إلى غاية الإيقان إجمالاً وتفصيلاً (الذين خسروا أنفسهم) أي أهلكوها وغبنوها وأوبقوها في نار جهنم بأنكارهم نبوة محمد - ﷺ - وقيل المعنى أن أولئك الذين آتاهم الله الكتاب هم الذين خسروا أنفسهم بسبب ما وقعوا فيه من البعد عن الحق وعدم العمل بالمعرفة التي ثبتت لهم.
ومعنى هذا الخسران كما قاله جمهور المفسرين أن الله جعل لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار، ذكره الكرخي (فهم) بعنادهم وتمردهم (لا يؤمنون) بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البيضاوي: الفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم
(على الله كذباً) فزعم أن له شريكاً من خلقه وإلهاً يعبدونه كما قال المشركون من عباد الأصنام أو قال إن في التوراة أو الإنجيل ما لم يكن فيهما كما قالت اليهود إن عزيراً ابن الله، وقالت النصارى أن له صاحبة وولداً.
(أو كذب بآياته) التي يلزمه الإيمان بها من المعجزة الواضحة البينة، قال عكرمة: قال النضر بن عبد الدار: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله هذه الآية (إنه) الضمير للشأن (لا يفلح الظالمون) القائلون على الله الكذب والمفترون عليه الباطل.
(ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤهم) الاستفهام للتقريع والتوبيخ للمشركين، وأضاف الشركاء إليهم لأنها لم تكن شركاء لله في الحقيقة بل لما سموها شركاء أضيفت إليهم وهي ما كانوا يعبدونه من دون الله أو مع الله (الذين كنتم تزعمون) أي تزعمونها شركاء، ووجه التوبيخ أن معبوداتهم غابت عنهم في تلك الحال أو كانت حاضرة، ولكن لا ينتفعون بها بوجه من الوجوه فكان وجودها كعدمها.
(إلا أن قالوا) يعني المنافقين والمشركين قالوا: وهم في النار هلم فلنكذب فلعله أن ينفعنا والاستثناء مفرغ (والله ربنا ما كنا مشركين) قال القاضي: يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفع من فرط الحيرة والدهشة، قال الزجاج: تأويل هذه الآية أن الله عز وجل أخبر بقصص المشركين وافتتانهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنساناً يحب غاوياً فإذا وقع في هلكه تبرأ منه فتقول ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه انتهى.
فالمراد بالفتنة على هذا كفرهم أي لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتخروا به وقاتلوا عليه إلا ما وقع منهم من الجحود والحلف على نفيه بقولهم والله الخ.
وهذا تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حالهم المختلفة، ودعواهم المتناقضة، وقيل لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة لأنها دار لا يجرى فيها غير الصدق، فالمعنى نفي شركهم عند أنفسهم وفي اعتقادهم. ويؤيد هذا قوله تعالى: (ولا يكتمون الله حديثاً).
(وجعلنا على قلوبهم أكنة) أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم، والأكنة الأغطية جمع كنان وهو الوعاء الجامع والغطاء الساتر كالأسنة والسنان كننت الشيء في كنة إذا جعلته فيها وأكننته أخفيته قال مجاهد في أكنة كالجعبة للنبل وجعل هنا للتصيير وبمعنى خلق أو ألقى، والجملة مستأنفة للإخبار بمضمونها أو حالية أي وقد جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة (أن يفقهوه) أي القرآن أو لئلا يفقهوه.
والحاصل أن المادة تدل على الثقل والرزانة ومنه الوقار للتؤدة والسكينة، وذكر الوقر والأكنة تمثيل لفرط بعدهم عن فهم الحق وسماعه كأن قلوبهم لا تعقل وأسماعهم لا تدرك قال قتادة: يسمعون بآذانهم ولا يعون منه شيئاً كمثل البهيمة التي لا تستمع النداء ولا تدري ما يقال لها.
(وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) أي بشيء من الآيات التي يرونها من المعجزات ونحوها لعنادهم وتمردهم (حتى) هي الابتدائية التي تقع بعدها الجمل والمعنى أنهم بلغوا من الكفر والعناد إلى أنهم (إذا جاءوك يجادلونك) أي مجادلين مخاصمين لا مؤمنين بها ولم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان بل (يقول الذين كفروا إن هذا) أي ما هذا القرآن (إلا أساطير الأولين) وقيل هي الجارة والمعنى حتى وقت مجيئهم مجادلين يقولون ذلك، وهذا غاية التكذيب ونهاية العناد.
والأساطير قال الزجاج: واحدها أسطار، وقال الأخفش أسطورة، وقال أبو عبيدة: أسطارة وقال النحاس: أسطور، وقال القشيري: أسطير، وقيل هو جمع لا واحد له كعبابيد وأبابيل، وظاهر كلام الراغب أنه جمع سطر، والمعنى ما سطره الأولون في الكتب من القصص والأحاديث قال الجوهري الأساطير الأباطيل والترهات، وقال السدي أساجيع الأولين، وقال ابن عباس: أحديث الأولين، وقال قتادة: كذب الأولين وباطلهم.
وعن ابن عباس قال: ينهون عنه الناس أن يؤمنوا به وينأون عنه أي يتباعدون بأنفسهم فلا يؤمنون، وعنه قال: نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله - ﷺ - ويتباعد عما جاء به وعن القاسم بن المخيمرة وعطاء نحوه والأول أولى.
(وإن) أي ما (يهلكون) بما يقع منهم من النهي والنأي (إلا أنفسهم) بتعريضها لعذاب الله وسخطه (و) الحال أنهم (ما يشعرون) بهذا البلاء الذي جلبوه على أنفسهم.
(فقالوا يا ليتنا نرد) إلى الدنيا (ولا نكذب بآيات ربنا) أي الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها إذ هي التي تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها أو بجميع آياته المنتظمة لتلك الآيات انتظاماً أولياً (ونكون من المؤمنين) (١) بها والعاملين بما فيها والأفعال الثلاثة داخلة تحت التمني أي تمنوا الرد، وأن لا يكذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين برفع الأفعال الثلاثة كما هي قراءة الكسائي وأهل المدينة، وقرئ بنصب نكذب ونكون بإضمار أن بعد الواو على جواب التمني، واختار سيبويه القطع في ولا نكذب فيكون غير داخل في التمني، والتقدير ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب أي لا نكذب رددنا أو لم نرد، قال وهو مثل دعني ولا أعود أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني.
واستدل أبو عمرو بن العلاء على خروجه من التمني بقوله: (وإنهم لكاذبون) لأن الكذب في التمني لا يكون، وقرأ ابن عامر ونكون بالنصب وأدخل الفعلين الأولين في التمني، وقرأ أبي ولا نكذب بآيات ربنا أبداً. وقرأ
_________
(١) إن أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله - ﷺ -، ويتباعد عما جاء به، فنزلت فيه هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول عمرو بن دينار، وعطاء بن دينار، والقاسم ابن مخيمرة. وقال مقاتل: كان رسول الله - ﷺ - عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي - ﷺ - سوءاً، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم، فيقتلوه، فقال: ما لي عنه صبر؛ فقالوا: ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك؛ فقال أبو طالب: حين تروح الإبل، فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم، وقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم | حتى أوسد في التراب دفينا |
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة | وابشر وقر بذاك منك عيونا |
وعرضت ديناً لا محالة أنه | من خير أديان البرية دينا |
لولا الملامة أو حذاري سبة | لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً |
وقيل ما كانوا يكتمون من أعمالهم القبيحة كما قال تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) وقال المبرد: بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه وهو مثل القول الأول، وقيل المعنى أنه ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كانوا يخفونه عنهم من أمر البعث والقيامة.
(ولو ردوا) إلى الدنيا حسبما تمنوا (لعادوا لما نهوا عنه) من القبائح التي رأسها الشرك كما عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند - عن قتادة قال: لو وصل الله لهم دنيا كدنياهم التي كانوا فيها لعادوا إلى أعمالهم السوء التي كانوا نهوا عنها، وقال ابن عباس: أخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى أي ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حيل بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.
(وإنهم لكاذبون) أي متصفون بهذه الصفة لا ينفكون عنها بحال من الأحوال ولو شاهدوا ما شاهدوا، وقيل كاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من الصدق والإيمان.
والاستفهام في (قال أليس هذا بالحق) للتقريع والتوبيخ أي أليس هذا البعث الذي تنكرونه كائناً موجوداً وهذا الجزاء الذي تجحدونه حاضراً والجملة مستأنفة أو حالية كأنه قيل وقفوا عليه قائلاً لهم أليس الخ (قالوا بلى وربنا) اعترفوا بما أنكروا وأكدوا اعترافهم بالقسم (قال فذوقوا العذاب) الذي تشاهدونه وهو عذاب النار، وإنما خص لفظ الذوق لأنهم في حال يجدون ألم العذاب وجدان الذائق في شدة الإحساس (بما كنتم تكفرون) أي بسبب جحدكم وكفركم بالبعث بعد الموت أو بكل شيء مما أمرتم بالإيمان به في دار الدنيا.
(حتى) غاية للتكذيب لا للخسران فإنه لا غاية له (إذا جاءتهم الساعة) القيامة وسميت ساعة لسرعة الحساب فيها أو لأنها تفجأ الناس (بغتة) أي فجأة في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله، يقال بغتهم الأمر يبغتهم بغتاً وبغتة، قال سيبويه: وهي مصدر ولا يجوز أن يقاس عليه فلا يقال جاء فلان سرعة والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتداد له ولا جعل بال منه، حتى لو استشعر الإنسان به ثم جاء بسرعة لا يقال فيه بغتة.
والألف واللام في الساعة للغلبة كالنجم والثريا لأنها غلبت على يوم القيامة وقيل المراد بالساعة وقت مقدمات الموت فالكلام على حذف المضاف أي جاءتهم مقدمات الساعة وهي الموت وما فيه من الأهوال، وقيل وهذا التحسر وإن كان يعتريهم عند الموت لكن لما كان الموت من مبادي الساعة سمي باسمها ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من مات فقد قامت قيامته " والأول أظهر.
(قالوا) أي منكرو البعث وهم كفار قريش. ومن سلك سبيلهم في الكفر والاعتقاد (يا حسرتنا) أوقعوا النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة ليدل ذلك على كثرة تحسرهم، والمعنى يا حسرتنا احضري فهذا أوانك
(على ما فرطنا فيها) أي على تفريطنا في الساعة أي في الاعتداد لها والاحتفال بشأنها والتصديق بها، ومعنى فرطنا ضيعنا وأصله التقدم يقال فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وأنا فرطكم على الحوض " (١) ومنه الفارط أي المتقدم فكأنهم أرادوا بقولهم على ما قدمنا من عجزنا عن التصديق بالساعة والاعتداد لها وقيل التفريط، التقصير في الشيء مع القدرة على فعله.
وقال ابن جرير الطبري: إن الضمير في فرطنا فيها يرجع إلى الصفقة وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر والدنيا بالآخرة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا في صفقتنا وإن لم تذكر في الكلام فهو دال عليها لأن الخسران لا يكون إلا فيها وقيل الضمير راجع إلى الحياة أي على ما فرطنا في حياتنا وقيل إلى الدنيا لأنها موضع التفريط في الأعمال الصالحة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله يا حسرتنا قال: " الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة فتلك الحسرة ".
(وهم يحملون أوزارهم) أي يقولون تلك المقالة والحال أنهم يحملون ذنوبهم وأثقال خطاياهم. والأوزار جمع وزر، يقال وزر يزر فهو وازر وموزور، وأصله من الوزر، قال أبو عبيدة: يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيها
_________
(١) النسائي كتاب الطهارة باب ١٠٩.
والحاصل أن هذه المادة تدل على الرزانة والعظمة والمعنى أنها لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها.
(على ظهورهم) جعلها محمولة على الظهور تمثيل ومجاز عما يقاسونه من شدة العذاب وقيل المعنى أوزارهم لا تزايلهم، وقيل خص الظهر لأنه يطيق من الحمل ما لا يطيقه من سائر الأعضاء كالرأس والكاهل (ألا ساء ما يزرون) أي بئس ما يحملون، وقال قتادة يعملون وقال ابن عباس بئس الحمل حملوا.
وقيل: إن أمر الدنيا والعمل لها لعب ولهو فأما فعل الخير والعمل الصالح فهو من فعل الآخرة وإن كان وقوعه في الدنيا، وقيل غير ذلك، والأول أولى وقيل اللعب ما يشغل النفس عما تنتفع به، واللهو صرفها عن الجد إلى الهزل.
(وللدار الآخرة) يعني الجنة التي هي محل الحياة الأخرى، وقرئ ولدار الآخرة بالإضافة وفيه تأويلات ذكرهما السمين، واللام فيه لام القسم وسميت آخرة لتأخرها عن الدنيا أي هي (خير) من الحياة الدنيا لأن منافعها خالصة عن المضار، ولذاتها غير متعقب: للآلام، بل مستمرة على الدوام (للذين يتقون) الشرك واللعب واللهو أو المعاصي، وفيه دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو (أفلا تعقلون) أن الآخرة خير من الدنيا فتعملون لها.
(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) هذا الكلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وإله وسلم عما ناله من الغم والحزن بتكذيب الكفار له، ودخول قد للتكثير فإنها قد تأتي لإفادته كما تأتي رب. والضمير في أنه للشأن.
(فإنهم) الفاء للتعليل (لا يكذبونك) في السر لعلمهم أنك صادق.
وقرئ مشدداً ومخففاً، ومعنى المشدد لا ينسبونك إلى الكذب ولا يردون عليك ما قلته في السر، لأنهم عرفوا أنك صادق، ومعنى المخفف أنهم لا يجدونك كذاباً يقال أكذبته وجدته كذاباً وأبخلته وجدته بخيلاً، وحكى الكسائي عن العرب أكذبت الرجل أخبرت أنه جاء بالكذب، وكذبته أخبرت أنه كاذب.
وقال الزجاج: كذبته إذا قلت له كذبت، وأكذبته إذا أردت أن ما جاء به كذب.
والمعنى أن تكذيبهم ليس يرجع إليك فإنهم يعترفون لك بالصدق ولكن تكذيبهم راجع إلى ما جئت به ولهذا قال: (ولكن الظالمين) وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التوبيخ لهم والإزراء عليهم، ووصفهم بالظلم لبيان أن هذا الذي وقع منهم ظلم بين (بآيات الله) أي القرآن (يجحدون) في العلانية، كما قال تعالى (وجحدوا بها واستيقنته أنفسهم ظلما وعلوا) قال قتادة يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
وعن أبي يزيد المدني أن أبا جهل قال: والله إني لأعلم أنه صادق، ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف. والجحد والجحود نفي ما في القلب إثباته أو إثبات مت في القلب نفيه، وقيل الجحد إنكار المعرفة، فليس مرادفا للنفي من كل وجه
(فصبروا على ما كذبوا به) أي على تكذيب قومهم إياهم (وأوذوا) أي وصبروا على أذاهم (حتى أتاهم نصرنا) بإهلاك من كذبهم، والظاهر أن هذه الغاية متعلقة بقوله فصبروا أي كان غاية صبرهم نصر الله إياهم.
وفيه التفات من ضمير الغيبة إلى التكلم إذ قبله بآيات الله فلو جاء على ذلك لقيل نصره وفائدة الالتفات إسناد النصر إلى المتكلم المشعر بالعظمة أي فاقتد بهم ولا تحزن، واصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم فإنا لا نخلف الميعاد، ولكل أجل كتاب [إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا] [ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون] [كتب الله لأغلبن أنا ورسلي].
(ولا مبدل لكلمات الله) بل وعده كائن وأنت منصور على المكذبين ظاهر عليهم وقد كان ذلك ولله الحمد (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) ما
وهذه جملة قسمية جيء بها لتحقيق ما منحوا من النصر، وتأكيد ما في ضمنه من الوعد لرسول الله - ﷺ - أو لتقرير جميع ما ذكر من تكذيب الأمم وما ترتب عليه من الأمور، قال الأخفش: من هنا صلة أي زائدة، وقال غيره بل هي للتبعيض لأن الواصل إلى رسول الله - ﷺ - قصص بعض الأنبياء وأخبارهم، وسيبويه لا يجيز زيادتها في الواجب.
ثم علق ذلك بما هو محال فقال: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض) فتأتيهم بآية منه (أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية) منها فافعل، ولكنك لا تستطيع ذلك فدع الحزن ولا تذهب نفسك عليهم حسرات وما أنت عليهم بمصيطر، والنفق السرب والمنفذ ومنه النافقاء لجحر اليربوع ومنه المنافق وقد تقدم في البقرة ما يغني عن الإعادة، والسلم الدرج الذي يرتقي عليه وهو مذكر لا يؤنث وقال الفراء أنه يؤنث قال الزجاج: وهو مشتق من السلامة لأنه يسلك به إلى موضع الأمن وقيل المصعد وقيل السبب.
ثم قيل: إن الخطاب وإن كان لرسول الله - ﷺ - فالمراد به أمته لأنها كانت تضيق صدورهم بتمرد الكفرة وتصميمهم على كفرهم، ولا يشعرون أن لله
ولهذا قال: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) ولكنه لم يشأ ذلك ولله الحكمة البالغة (فلا تكونن من الجاهلين) فإن شدة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك هو صنيع أهل الجهل ولست منهم فدع الأمور مفوضة إلى عالم الغيب والشهادة فهو أعلم بما فيه المصلحة، ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات التي لو بدا لهم بعضها لكان إيمانهم بها اضطراراً لخروجه عن الحكمة التشريعية المؤسسة على الاختيار، وإنما نهاه عن هذه وغلظ له الخطاب تبعيداً له عن هذه الحالة.
_________
(١) روى البخاري في " صحيحه " (٦/ ٤٥٦) و (٧/ ١٢٦) و (١٢/ ٢٨١) عن خباب بن الأرتّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله - ﷺ - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: " كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ".
(قل إن الله قادر على أن ينزل) على رسوله (آية) تضطرهم إلى الإيمان ولكنه ما نزل ذلك لتظهر فائدة التكليف الذي هو الابتلاء والامتحان وأيضاً لو أنزل آية كما طلبوا لم يمهلهم بعد نزولها بل سيعاجلهم بالعقوبة إذا لم يؤمنوا قال الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن الله قادر على ذلك وأنه تركه لحكمة بالغة لا تبلغها عقولهم، وأن نزولها بلاء عليهم لعدم نفعهم ووجوب هلاكهم إن جحدوا كما هو سنة الله.
(ولا طائر يطير) يقال طار إذا أسرع قال أهل العلم جميع ما خلق الله
وقيل إن اعتدال الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران ومع عدم الاعتدال يميل فأعلمنا سبحانه أن الطيران بالجناحين، وقيل ذكر الجناحين للتأكيد كضرب بيده وأبصر بعينيه ونحو ذلك، والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء وأصله الميل إلى ناحية من النواحي، والمعنى ما من دابة من الدواب التي تدب في أي مكان من أمكنة الأرض ولا طائر يطير في أي ناحية من نواحيها.
(إلا أمم أمثالكم) أي طوائف متخالفة وجماعات كل أمة منها مثلكم خلقهم الله كما خلقكم ورزقهم كما رزقكم، داخلة تحت علمه وتقديره وإحاطته بكل شيء وقيل أمثالكم في ذكر الله والدلالة عليه، وقيل أمثالكم في كونهم محشورين، روي ذلك عن أبي هريرة.
وقال سفيان ابن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاووس، وقيل أمثالكم في أن لها أسماء تعرف بها قاله مجاهد، وقال الزجاج: أمثالكم في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائناً ما كان.
وعن قتادة قال: الطير أمة والأنس أمة والجن أمة، وعن السدي قال: خلق أمثالكم وعن ابن جريج قال الذرة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من
(ما فرطنا) أي ما أغفلنا ولا أهملنا ولا ضيعنا (في الكتاب من) مزيدة لاستغراق (شيء) والجملة اعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ فإن الله أثبت فيه جميع الحوادث، وعلى هذا فالعموم ظاهر، وقيل المراد به القرآن أي ما تركنا في القرآن من شيء من أمر الدين إما تفصيلاً أو إجمالاً، ومثله قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) وقال: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم).
ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله - ﷺ -، وكل حكم سنه الرسول لأمته قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز بهذه الآية وبنحو قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) وبقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
(ثم إلى ربهم يحشرون) يعني الأمم المذكورة من الدواب والطير، وضميرها بصيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم في وجوه المماثلة السابقة، وفيه دلالة على أنها تحشر كما يحشر بنو آدم وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء ومنهم أبو ذر وأبو هريرة والحسن وغيرهم، وذهب ابن عباس إلى أن حشرها موتها وبه قال الضحاك والأول أرجح للآية ولما صح في السنة المطهرة من أنه يقاد
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٥١٩٧.
وذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بالحشر المذكور في الآية حشر الكفار، وما تخلل كلام معترض قالوا وأما الحديث فالمقصود به التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص، واستدلوا أيضاً بأن في هذا الحديث خارج الصحيح عن بعض الرواة زيادة ولفظه " حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء وللحجر لما ركب على الحجر وللعود لما خدش العود " قالوا والجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها.
وعن أبي هريرة قال: ما من دابة ولا طائر إلا سيحشر إلى يوم القيامة ثم يقتص لبعضها من بعض حتى يقتص للجلحاء منِ ذات القرن ثم يقال لها كوني تراباً فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً وإن شئتم فاقرأوا (ما من دابة في الأرض) الآية وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء " (١).
_________
(١) الطبري ١١/ ٣٤٧، والحاكم ٢/ ٣١٦ وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وأورده ابن كثير في " تفسيره " ٢/ ١٣١ ثم قال: وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور، وخرجه السيوطي في " الدر المنثور " ٣/ ١١ وزاد نسبته لأبي عبيد وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وروى مسلم في " صحيحه " ٤/ ١٩٩٧ عن أبي هريرة مرفوعاً " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة
الجلحاء من الشاة القرناء " والجلحاء: الشاة إذا لم تكن ذات قرن، والقرناء: الشاة الكبيرة القرن.
(في الظلمات) أي في ظلمات الكفر والجهل والحيرة والعناد والتقليد لا يهتدون لشيء مما فيه صلاحهم، والمعنى كائنين في الظلمات التي تمنع من إبصار المبصرات فضموا إلى الصمم والبكم عدم الانتفاع بالأبصار لتراكم الظلمة عليهم فكانت حواسهم كالمسلوبة التي لا ينتفع بها بحال، وقد تقدم في البقرة تحقيق المقام بما يغني عن الإعادة.
ثم بين الله سبحانه أن الأمر بيده ما شاء فعل فقال: (من يشاءِ الله يضلله) أي أضله عن الإيمان (ومن يشاء) أن يهديه (يجعله على صراط مستقيم) أي على دين الإسلام لا يذهب به إلى غير الحق ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة، وفيه دليل على أن الهادي والمضل هو الله تعالى، وهذا عدل منه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
واستعمال أرأيت في الأخبار مجاز، ووجه المجاز أنه لما كان العلم بالشيء سبباً للإخبار عنه أو الإبصار به طريقاً إلى الإحاطة به علماً وإلى صحة الإخبار عنه استعملت الصيغة التي لطلب العلم أو لطلب الإبصار في طلب الخبر لاشتراكهما في الطلب ففيه مجازان. استعمال رأى التي بمعنى علم أو أبصر في الإخبار، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار، قاله الشهاب.
وقد أطال السمين في بيان تركيب هذه الكلمة ومذاهب النحاة فيها إطالة كثيرة لا فائدة من ذكره ههنا.
(إن أتاكم) كما أتى غيركم من الأمم (عذاب الله) من الغرق والخسف والمسخ والصواعق ونحو ذلك من العذاب قبل الموت (أو أتتكم الساعة) أي القيامة وقد ذكر سليمان الجمل في جواب هذا الشرط خمسة أوجه منها أنه محذوف تقديره فمن تدعون أو فأخبروني عنه أو فادعوه أو دعوتم الله، ودل عليه قوله: (أغير الله تدعون) هذا على طريقة التبكيت والتوبيخ أي أتدعون غير الله في هذه الحالة من الأصنام التي تعبدونها أم تدعون الله سبحانه لكشف ما حل بكم، قاله أبو حيان (إن كنتم صادقين) في دعواكم أن الأصنام تضر وتنفع وأنها آلهة كما تزعمون، وهذا تأكيد لذلك التوبيخ.
(فأخذناهم) أي عاقبناهم (بالبأساء والضراء) أي البؤس والضرر قال سعيد بن جبير: خوف السلطان وغلاء السعر، وقيل شدة الجوع، وقيل المكروه، وقيل الفقر الشديد، وأصله من البؤس وهو الشدة وقيل البأساء المصائب في الأموال، والضراء المصائب في الأبدان من الأمراض والأوجاع والزمانة، وبه قال الأكثر وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما على أفعل كما هو القياس، فإنه لم يقل أضرر ولا أبأس صفة بل للتفضيل قاله الشهاب (لعلهم يتضرعون) أي يدعون الله بضراعة وهي الذل يقال ضرع فهو ضارع، وهذا الترجي بحسب عقول البشر.
(ولكن قست) أي صلبت وغلظت فلم تضرع ولم تخشع (قلوبهم) واستمرت على ما هي عليه من القساوة ولم تلن للإيمان، وهذا استدراك وقع بين الضدين قال أبو السعود: فهذا من أحسن مواقع الاستدراك.
(وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) أي أغواهم بالتصميم على الكفر والاستمرار على المعاصي، والجملة استئنافية أخبر تعالى عنهم بذلك أو داخلة في حيز الاستدراك وهو الظاهر، وهذا رأي الزمخشري فإنه قال: لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا قسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم.
(حتى إذا فرحوا بما أوتوا) من الخير والرزق على أنواعه والسعة والرخاء
قال محمد بن النصر الحارثي: أمهلوا عشرين سنة ولا يخفى أن هذا مخالف لمعنى البغتة لغة ومحتاج إلى نقل عن الشارع، وإلا فهو كلام لا طائل تحته، قال الحسن مكر بالقوم ورب الكعبة، وقال أهل المعاني: إنما أخذوا في حال الرخاء والسلامة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال العافية والتصرف في ضروب اللذة فأخذناهم في آمن ما كانوا، وأعجب ما كانت الدنيا إليهم.
(فإذا) هي الفجائية قال سيبويه إنها ظرف مكان، وقال جماعة منهم الراسي إنها ظرف زمان ومذهب الكوفيين أنها حرف (هم مبلسون) أي مهلكون في مكان إقامتهم أو في زمانها قاله السدي، والمبلس الحزين الآيس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال ومن ذلك اشتق اسم إبليس يقال أبلس الرجل إذا سكت وأبلست الناقة إذا لم ترع.
والمعنى فإذا هم محزونون متحيرون آيسون من الفرح، قال ابن زيد: المبلس المجهود الكروب الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه، والمبلس أشد من المستكين وقال الفراء: هو اليائس المنقطع رجاؤه، وقال أبو عبيدة: هو النادم الحزين، والإبلاس هو الإطراق من الحزن والندم.
وعن عقب: بن عامر أن النبي ﷺ قال: " إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج " (١) ثم تلا يعني هذه الآية ذكره البغوي بلا سند، وأسنده الطبري وغيره.
_________
(١) أحمد بن حنبل ٤/ ١٤٥.
(والحمد لله رب العالمين) على نصر الرسل وإهلاك الكافرين قال الزجاج: حمد نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم، وفيه تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه عند نزول المنعم التي من أجلها إهلاك الظلمة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فإنهم أشد على عباد الله من كل شديد، اللهم أرح عبادك المؤمنين من ظلم الظالمين واقطع دابرهم وأبدلهم بالعدل الشامل لهم آمين.
(من إله غير الله يأتيكم به) الاستفهام للتوبيخ ووحد الضمير في (به)
(انظر كيف نصرف الآيات) أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنظر في تصريف الآيات الباهرات وعدم قبولهم لها تعجيباً له من ذلك، ويدخل معه غيره، والتصريف المجيء بها على جهات مختلفة من أسلوب إلى أسلوب، تارة إنذار، وتارة إعذار، وتارة ترغيب، وتارة ترهيب (ثم هم يصدفون) أي يعرضون قاله مجاهد، يقال صدف عن الشيء إذا أعرض عنه صدفاً وصدوفاً. وقال ابن عباس: يعدلون عنها مكذبين لها، وهو محط التعجيب والعمدة فيه.
(هل يهلك إلا القوم الظالمون) الاستفهام للنفي أي ما يهلك هلاك تعذيب وغضب وسخط إلا المشركون، وقال الزجاج: معناه هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم والاستثناء مفرغ.
(فمن آمن) بما جاءت به الرسل (وأصلح) حال نفسه بفعل ما يدعونه إليه (فلا خوف عليهم) بوجه من الوجوه بلحوق العذاب (ولا هم يحزنون) بحال من الأحوال بفوات الثواب، وهذا حال من آمن وأصلح وأما حال المكذبين فبينه بقوله:
(و) أمره أن يقول لهم أيضاً (لا) أدعي أني (أعلم الغيب) من
والمعنى أني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة حتى تقترحوا عليّ ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيء مما ذكر قطعاً، بل إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله تعالى والعمل بمقتضاه فحسب كما سيأتي.
وليس في هذا ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وقد اشتغل بهذه المفاضلة قوم من أهل العلم ولا يترتب على ذلك فائدة دينية ولا دنيوية، بل الكلام في مثل هذا من الاشتغال بما لا يعني ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
(إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) وقد تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء عملاً بما يفيده القصر في هذه الآية والمسألة مدونة في الأصول والأدلة عليها معروفة، وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " أوتيت القرآن ومثله معه " (١).
(قل هل يستوي الأعمى والبصير) هذا الاستفهام للإنكار والمراد أنه لا يستوي الضال والمهتدي أو المسلم والكافر أو العالم والجاهل أو من اتبع ما أوحي إليه ومن لم يتبعه، والكلام تمثيل، قال قتادة الأعمى الكافر الذي عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه، والبصير العبد المؤمن الذي أبصر بصراً نافعاً فوحد الله وحده وعمل بطاعة ربه وانتفع بما آتاه الله.
(أفلا تتفكرون) في ذلك الكلام الحق حتى تعرفوا عدم الاستواء بينهما فإنه لا يلتبس على من له أدنى عقل وأقل تفكر.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٢٦٤٠.
وقيل ومعنى يخافون يعلمون ويتيقنون أنهم محشورون فيشمل كل من آمن بالبعث من المسلمين وأهل الذمة وبعض المشركين. وقيل معنى الخوف على حقيقته والمعنى أنه ينذر به من يظهر عليه الخوف من الحشر عند أن يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكره وإن لم يكن مصدقاً به في الأصل لكنه يخاف أن يصح ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن من كان كذلك يكون الموعظة فيه أنجع والتذكير له أنفع.
(ليس لهم من دونه ولي) أي حال كونهم لا ولي لهم يواليهم ولا نصير يناصرهم (ولا شفيع) يشفع لهم من دون الله وفيه رد على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم وهم أهل الكتاب أو أن أصنامهم تشفع لهم وهم المشركون أو أن المشايخ يشفعون لمريديهم وهم المتصوفة لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله لقوله عز وجل: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) عن ابن مسعود قال مر الملأ من قريش على النبي - ﷺ - وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك، أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا أنحن نكون
(يريدون وجهه) أي يتوجهون بذلك إليه لا إلى غيره والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته وتقييده به لتأكيد عليته للنهي، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد.
(ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) هذا كلام معترض بين النهي وجوابه متضمن لنفي الحامل على الطرد أي حساب هؤلاء الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب ذلك منك هو على أنفسهم ما عليك منه شيء وحسابك على نفسك ما عليهم منه شيء فعلام تطردهم.
هذا على فرض صحة وصف من وصفهم بقوله: (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) وطعن عندك في دينهم وحسبهم، فكيف وقد زكاهم الله عز وجل بالعبادة والاخلاص وهذا هو مثل قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقوله: (وأن ليس للإنسان إلا مع سعى) وقوله (إن حسابهم إلا على ربي).
(فتطردهم) هو من تمام الاعتراض أي إذا كان الأمر كذلك فاقبل
أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة أنا وعبد الله بن مسعود وبلال ورجل من هذيل ورجلين لست اسميهما فقال المشركون للنبي - ﷺ - اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا، فوقع في نفس رسول الله - ﷺ - ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله هذه الآية، وقد روي في بيان السبب روايات موافقة لما ذكرنا في المعنى.
(أهؤلاء) الذين (من الله عليهم من بيننا) أي إكرمهم بإصابة الحق دوننا قال النحاس: وهذا من المشكل لأنه يقال كيف فتنوا ليقولوا هذا القول وهو إن كان على طريقة الإنكار فهو كفر، وأجاب بجوابين الأول أن ذلك واقع منهم على طريقة الاستفهام لا على سبيل الإنكار والثاني أنهم لما اختبروا بهذا كان عاقبة هذا القول منهم كقوله (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً) قال ابن عباس: قالوا ذلك استهزاء وسخرية وقال ابن جرير: لو كان لهم كرامة على الله ما أصابهم هذا الجهد.
(أليس الله بأعلم) هذا الاستفهام للتقرير والمعنى أن مرجع الاستحقاق لنعم الله سبحانه هو الشكر وهو أعلم (بالشاكرين) له فما بالكم تعترضون بالجهل وتنكرون الفضل.
وقد كان النبي - ﷺ - بعد نزول هذه الآية إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقيل إن هذا السلام هو من جهة الله أي: أبلغهم منا السلام، عن ماهان قال: أتى قوم النبي - ﷺ - فقالوا إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فما رد عليهم شيئاً فانصرفوا فأنزل الله هذه الآية فدعاهم فقرأها عليهم (١). وقيل: إن الآية على إطلاقها في كل مؤمن لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(كتب ربكم على نفسه الرحمة) أي أوجب ذلك إيجاب فضل وإحسان وقيل كتب ذلك في اللوح المحفوظ قيل هذا من جملة ما أمره الله سبحانه بإبلاغه إلى أولئك الذين أمره بإبلاغ السلام إليهم تبشيراً بسعة مغفرة الله
_________
(١) رواه الطبري في تفسيره ١١/ ٣٩٠/٣٩١ من طريق مجمع بن صمعان قال سمعت ماهان.
وذكره السيوطي في الدر المنثور وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد.
وماهان عابد ثقة قتله الحجاج سنة ٨٣ هجرية.
(أنه) أي الشأن (من عمل منكم سوءاً بجهالة) قيل المعنى أنه فعل فعل الجاهلين لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة مع علمه بذلك أو ظنه فقد فعل فِعْلَ أهل الجهل والسفه لا فعل أهل الحكمة والتدبير، وقيل المعنى أنه عمل ذلك وهو جاهل لما يتعلق به من المضرة والعقاب وما فاته من الثواب فتكون فائدة التقييد بالجهالة الإيذان بأن المؤمن لا يباشر ما يعلم أنه يؤدي إلى الضرر، قال مجاهد: كل من عمل ذنباً أو خطيئة فهو بها جاهل.
(ثم تاب من بعده) أي من بعد عمله وارتكابه ذلك السوء (وأصلح) ما أفسده بالمعصية في المستقبل فراجع بالصواب وأخلص التوبة وعمل الطاعة (فإنه) أي فأمره أو فله أن الله (غفور رحيم) واختار الأول سيبويه والثاني أبو حاتم.
(قد ضللت إذاً) أي إن اتبعت أهواءكم فيما طلبتموه من عبادة معبوداتكم وطرد من أردتم طرده، قال الجوهري: الضلال والضلالة ضد الرشاد وقد ضللت أضل، قال الله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي) قال فهذه يعني المفتوحة لغة نجد وهي الفصيحة وأهل العالية تقول ضللت بالكسر أضل انتهى.
(وما أنا من المهتدين) إن فعلت ذلك، وهذه الجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها والمجيء بها إسمية عقب تلك الفعلية للدلالة على الدوام والثبات.
(وكذبتم به) أي بالرب أو بالعذاب أو بالقرآن أو بالبينة، وتذكير الضمير باعتبار المعنى، وهذه الجملة إما حالية بتقدير قد أي والحال أن قد كذبتم به أو جملة مستأنفة مبنية لما هم عليه من التكذيب بما جاء به رسول الله - ﷺ - من الحجج الواضحة والبراهين البينة.
(ما عندي ما تستعجلون به) أخبرهم بأنه لم يكن عنده ما يتعجلون به من العذاب فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم:
(أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً) وقولهم: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) وقولهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) وقيل كانوا يستعجلون بالآيات التي اقترحوها وطلبوها وقيل كانوا يستعجلون بقيام الساعة ومنه قوله تعالى: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها).
(إن) أي ما (الحكم) في شيء (إلا لله) سبحانه وحده ليس معه حاكم، ومن ذلك ما تستعجلون به من العذاب أو الآيات المقترحة والمراد الحكم الفاصل بين الحق والباطل (يقص) هو من القصص أي يقص القصص (الحق) أو من قص أثره أي يتبع الحق فيما يحكم به، وقرئ يقضي بالضاد المعجمة والياء من القضاء أي يقضي القضاء الحق بين عباده (وهو خير الفاصلين) بين الحق والباطل بما يقضي به بين عباده ويفصله لهم في كتابه.
ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم:
(لقضي الأمر بيني وبينكم) أي لقضى الله الأمر بيننا بأن ينزله الله سبحانه بكم بسؤالي له وطلبي ذلك أو لو كان العذاب عندي وفي قبضتي لأنزلته بكم وعند ذلك يقضى الأمر بيني وبينكم (والله أعلم بالظالمين) وبالوقت الذي ينزل فيه عذابهم وبما يقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجاً لهم وإعذاراً إليهم.
(لا يعلمها إلا هو) جملة مؤكدة لمضمون الجملة الأولى وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، وهذا بيان لاختصاص المقدورات الغيبية به تعالى من حيث العلم إثر بيان اختصاص كلها
وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: " من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد " (١).
قال ابن مسعود: أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب. وقال ابن عباس: إنها الأقدار والأرزاق وقال الضحاك: خزائن الأرض وعلم نزول العذاب، وقال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب، وقيل هو انقضاء الآجال وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم، وقيل هو علم ما لم يكن بعد أن يكون إذ يكون كيف يكون وما لا يكون إن لو كان كيف يكون، واللفظ أوسع من ذلك ويدخل فيه ما ذكروه دخولاً أولياً.
وعن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يدري أحد متى يجيء المطر " (٢)، أخرجه البخاري وله ألفاظ وفي رواية ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله.
(ويعلم ما في البر والبحر) خصهما بالذكر لأنهما من أعظم مخلوقات الله أي يعلم ما فيهما من حيوان وجماد علماً مفصلاً لا يخفى عليه منه شيء أو
_________
(١) أبو داود كتاب الطب باب ٢١.
(٢) صحيح الجامع الصغير ٥٧٦٠.
وقال الجمهور: هو البر والبحر المعروفان لأن جميع الأرض إما بر، وإما بحر وفي كل واحد منهما من عجائب وغرائب ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه.
(وما تسقط من ورقة) أي من ورق الشجر وما يبقى عليه وهو تخصيص بعد التعميم (إلا يعلمها) ويعلم زمان سقوطها ومكانه وقيل المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال والأرزاق، وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم، قال ابن عطية: هذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه.
(ولا حبة) كائنة (في ظلمات الأرض) أي في الأمكنة المظلمة وقيل في بطن الأرض قبل أن ينبت، وقيل هي الحبة في الصخرة التي في أسفل الأرضين (ولا رطب ولا يابس) بنوع دون نوع (إلا في كتاب مبين) هو اللوح المحفوظ فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من (إلا يعلمها) وقيل هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة قاله الخطيب.
وقال الزمخشري: هو كالتكرير لقوله: (إلا يعلمها) لأن معناهما واحد، قال الشيخ ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد، وحسن كونه فاصلاً.
وقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " مع كل إنسان ملك إذا نام يأخذ نفسه، فإذا أذن الله في قبض روحه قبضها وإلا ردها إليه فذلك قوله تعالى يتوفاكم بالليل " (١).
(ويعلم ما جرحتم بالنهار) أي ما كسبتم بجوارحكم من الخير والشر، والتقييد بالظرفين جرى على الغالب إذ الغالب أن النوم في الليل والكسب في النهار (ثم يبعثكم فيه) أي في النهار يعني اليقظة برد أرواحكم، قال القاضي: أطلق البعث ترشيحاً للتوفي، وقيل يبعثكم من القبور فيه أي في شأن ذلك الذي قطعتم فيه أعماركم من النوم بالليل والكسب بالنهار.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه، وقيل ثم يبعثكم فيه أي في المنام، ومعنى
_________
(١) ابن كثير ٢/ ١٣٨.
(ليقضى أجل مسمى) أي معين لكل فرد من أفراد العباد من حياة ورزق، وقال مجاهد هو الموت (ثم إليه مرجعكم) أي رجوعكم بعد الموت (ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
(ويرسل عليكم حفظة) أي ملائكة جعلهم الله حافظين لكم، ومنه قوله تعالى: (وإن عليكم لحافظين) والمعنى أنه يرسل عليكم من يحفظكم من الآفات ويحفظ أعمالكم، قال السدي: هم المعقبات من الملائكة يحفظونه ويحفظون عمله، والحفظة جمع حافظ مثل كتبة جمع كاتب، وعليكم متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستعلاء وتقديمه على حفظة ليفيد العناية بشأنه وأنه أمر حقيق بذلك، وقيل هو متعلق بحفظة.
(حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) يحتمل أن تكون حتى للغاية ويحتمل أن تكون للابتداء، والمراد بمجيء الموت مجيء علامته، والرسل هم أعوان ملك الموت من الملائكة؛ قاله ابن عباس، ومعنى توفته استوفت روحه وقيل المراد ملك الموت وحده، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له.
(وهم لا يفرطون) أي لا يقصرون ولا يضيعون وأصله من التقدم، وقال أبو عبيدة: لا يتوانون وقرئ لا يفرطون بالتخفيف أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به من الإكرام والإهانة.
(إلى الله) أي إلى حكمه وجزائه وبه قال جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون هذا الرد إلى الله بعد الموت فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أن الملائكة يصعدون بأرواح الموتى من سماء إلى سماء حتى تنتهي بها إلى السماء السابعة، وفي رواية إلى السماء التي فيها الله، ثم ترد إلى عليين أو سجين.
وفي الآية دليل على علوه تعالى من خلقه والله أعلم، وقيل ردوا أي الخلق أو الملائكة قال الكلبي: يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة أو العذاب ويصعدون بها إلى السماء حكاه القرطبي.
(مولاهم) مالكهم الذي يلي أمورهم أو خالقهم ومعبودهم (الحق) صفة لاسم الله وقرئ الحق بالنصب على إضمار فعل أي أعني أو أمدح أو على المصدر، وإنما قال ذلك لأنهم كانوا في الدنيا تحت أيدي موال بالباطل، والله مولاهم وسيدهم بالحق.
(ألا له الحكم) أي لا حكم إلا له لا لغيره لا بحسب الظاهر ولا بحسب الحقيقة (وهو أسرع الحاسبين) لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر والروية والتدبر.
فظلمة البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى طريق الصواب. وظلمة البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضاً الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك، فالمقصود أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى الله تعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد وهو المراد من قوله:
(تدعونه تضرعاً وخفية) أي حال دعائكم له دعاء تضرع وخفية أو متضرعين ومخفين والمراد بالتضرع هنا دعاء الجهر قائلين (لئن أنجانا من هذه) الشدة التي نزلت بنا وهي الظلمات المذكورة (لنكونن من الشاكرين) له على ما أنعم به علينا من تخليصنا من هذه الشدائد، قال ابن عباس: أي من كرب البر والبحر، وإذا ضل الرجل الطريق دعا الله لئن أنجانا الآية.
(ثم أنتم) بعد أن أحسن الله إليكم بالخلاص من الشدائد وذهاب الكروب (تشركون) بعبادته تعالى شركاء لا ينفعونكم ولا يضرونكم ولا يقدرون على تخليصكم من كل ما ينزل بكم، فكيف وضعتم هذا الشرك، وضع ما وعدتم به عن أنفسكم من الشكر.
(أو يلبسكم شيعاً) من لبس الأمر إذا خلطه وقرئ بضم الياء أي يجعل ذلك لباساً لكم قيل والأصل أو يلبس عليكم أمركم فحذف أحد المفعولين مع حرف الجر كما في قوله تعالى: (وإذا كالوهم أو وزنوهم
والشيع جمع شيعة أي الفرق وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة وأشياع، وأصله من التشيع وفي القاموس شيعة الرجل بالكسر أتباعه وأنصاره والفرقة على حده وتقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا (١) وأهل بيته حتى صار اسماً لهم خاصة، والجمع أشياع وشيع كعقب انتهى قال مجاهد يعني أهواء متفرقة وهو ما كان فيهم من الفتن والاختلاف.
(ويذيق بعضكم بأس بعض) أي يصيب بعضكم بشدة بعض من قتل وأسر ونهب، وقال ابن زيد: هو الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف والأهواء وسفك بعضهم دماء بعض (انظر كيف نصرف الآيات) أي نبين لهم الحجج والدلالات من وجوه مختلفة (لعلهم يفقهون) الحقيقة فيعودون إلى الحق الذي بيناه لهم ببيانات مختلفة متنوعة.
أخرج البخاري وغيره عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قال رسول الله - ﷺ -: أعوذ بوجهك (أو من تحت أرجلكم) قال أعوذ بوجهك (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) قال هذا أهون أو أيسر " (٢).
وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم في حديث طويل عن ثوبان وفيه: " وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً
_________
(١) أي مع الغلو فيه.
(٢) ابن كثير ٢/ ١٣٩.
وأخرج مسلم وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي - ﷺ - أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً ثم انصرف إلينا فقال: " سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة (٢) فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها " (٣).
وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي - ﷺ - في هذه الآية فقال النبي - ﷺ -: " أما إنها كائنة- ولم يأت تأويلها بعد " (٤). والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ١٤٠.
(٢) أي بالقحط.
(٣) ابن كثير ٢/ ١٤٠.
(٤) ابن كثير ٢/ ١٤٠.
(قل لست عليكم بوكيل) أي بحفيظ على أعمالكم حتى أجازيكم عليها قيل وهذه الآية منسوخة بآية القتال وقيل ليست بمنسوخة إذ لم يكن أيمانهم في وسعه.
(وسوف تعلمون) ذلك في الدنيا بحصوله ونزوله بكم، وقد علموا يوم بدر بحصول ما كان النبي - ﷺ - يتوعدهم به أو في الآخرة أو فيهما معاً، وسوف للتأكيد كما في قوله تعالى: (ولتعلمن نبأه بعد حين).
(فأعرض عنهم) أي فدعهم ولا تقعد معهم بسماع مثل هذا المنكر العظيم (حتى يخوضوا في حديث غيره) أي مغاير له، الضمير للآيات والتذكير باعتبار كونها قرآنا أو باعتبار كونها حديثاً فإن وصف الحديث بمغايرتها
وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وتقليداتهم الفاسدة وبدعهم الكاسدة، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم وذلك يسير عليه غير عسير، وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر.
وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه فيعمل بذلك مدة عمره ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق وهو من أبطل الباطل وأنكر المنكر.
قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله، وعن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله، وعن محمد بن علي قال: إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله.
وقال مقاتل: كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي
(وإما ينسينك الشيطان) فقعدت معهم (فلا تقعد بعد الذكرى) أي إذا ذكرت فقم عنهم ولا تقعد (مع القوم الظالمين) أي المشركين، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر نعياً عليهم أنهم بذلك الخوض واضعون للتكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك.
قال مجاهد: نهى محمد - ﷺ - أن يقعد معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر فليقم وذلك قول الله يعني هذه الآية، وعن ابن سيرين: أنه كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الأهواء.
وقرئ بتشديد السين والمعنى إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فلا تقعد إذا ذكرت مع الذين ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بالآيات والتكذيب بها، قيل وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للنبي - ﷺ - فالمراد التعريض لأمته لتنزهه عن أن ينسيه الشيطان، وقيل لا وجه لهذا فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني، ونحو ذلك.
(وما على الذين يتقون) مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله (من حسابهم) أي الكفار (من شيء) وقيل المعنى ما على الذين يتقون ما يقع منهم من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء، وعلى هذا التفسير ففي الآية الترخيص للمتقين في مجالسة الكفار إذا اضطروا إلى ذلك.
قيل: وهذا الترخيص كان في أول الإسلام، وأن الوقت وقت تقية ثم نزل قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) فنسخ ذلك، والحق أنها محكمة بإجماع أهل العلم خلافاً للكلبي كما تقدم في سورة النساء.
عن عمر بن عبد العزيز: أنه أُتِيَ بقوم قعدوا على شراب معهم رجل صائم فضربه وقال: لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وقيل مجالستهم مباحة بشرط الوعظ والنهي عن المنكر.
(ولكن ذكرى) قال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى، والمعنى على الاستدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم الذكرى للكافرين بالموعظة والبيان لهم بأن ذلك لا يجوز، أما على التفسير الأول فلأن مجرد اتقاء مجالس هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما على التفسير الثاني فالترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير، وفيه وجوه أخرى.
(لعلهم يتقون) الخوض في آيات الله إذا وقعت منكم الذكرى لهم، وأما جعل الضمير للمتقين فبعيد جداً.
(وذر الذين اتخذوا دينهم) أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الذي كان يحق عليهم العمل به والدخول فيه ودعوا إليه وهو دين الإسلام (لعباً ولهواً) حيث سخروا به واستهزؤوا فيه، فلا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت وإن كنت مأموراً بإبلاغهم الحجة، وقيل هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقيل المعنى أنهم اتخذوا دينهم الذي هم عليه لعباً ولهواً كما في فعلهم بالأنعام من تلك الجهالات والضلالات المتقدم ذكرها.
وقيل المراد بالدين هنا العيد أي اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً قال قتادة أي أكلاً وشرباً وكذا من جعل طريقته الخمر والزمر والرقص ونحوه، وفي البيضاوي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلاً وآجلاً كعبادة الصنم وتحريم البحائر والسوائب، والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم، وقال مجاهد: هو مثل قوله: (ذرني ومن خلقت وحيداً) يعني أنه للتهديد، وعلى هذا تكون الآية محكمة.
(وغرتهم الحياة الدنيا) حتى آثروها على الآخرة وأنكروا البعث وقالوا [إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمعوثين] (وذكر به) أي بالقرآن أو بالحساب أي لـ (أن) لا (تبسل نفس) الإبسال تسليم المرء نفسه للهلاك ومنه أبسلت ولدي أي رهنته في الدم، لأن عاقبته ذلك الهلاك، وأصل الإبسال والبسل في اللغة التحريم والمنع، يقال هذا عليك بسل أي حرام ممنوع، ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه ممتنع، والباسل الشجاع لامتناعه
قال أبو عبيد: المتبسل الذي يسلم نفسه على الموت أو الضرب وإن استبسل أي أن يطرح نفسه في الحرب ويريد أن يقتل، فالمعنى وذكر به خشية أو مخافة أو كراهة أن تهلك نفس (بما كسبت) أي ترتهن وتسلم للهلكة وتحبس في جهنم وتحرم من الثواب بسبب ما كسبت من الآثام.
وعن ابن عباس: أن تبسل أن تفضح وأبسلوا فضحوا وقال قتادة: تحبس في جهنم وقال الضحاك: تحرق بالنار وقال ابن زيد: تؤخذ به.
(ليس لها) أي لتلك النفس التي هلكت (من دون الله) من لابتداء الغاية وقيل: إنها زائدة نقله ابن عطية وليس بشيء، والأول أظهر (ولي) قريب ناصر يلي أمرها (ولا شفيع) يشفع في الآخرة ويمنع عنها العذاب.
(وإن تعدل كل عدل) العدل هنا الفدية والمعنى وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية (لا يؤخذ منها) ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك (أولئك) أي المتخذون دينهم لعباً ولهواً وهو مبتدأ، وخبره (الذين أبسلوا) أي أسلموا للهلاك (بما كسبوا) أي بجرائرهم.
وجملة (لهم شراب من حميم) مستأنفة كأنه قيل كيف هؤلاء فقيل لهم شراب، الآية وهو الماء الحار البالغ نهاية الحرارة ومثله قوله تعالى: (يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم) وهو هنا شراب يشربونه فيقطع أمعاءهم (وعذاب أليم) مؤلم (بما كانوا يكفرون) أي بسبب كفرهم.
(ونرد على أعقابنا) جمع عقب أي كيف ندعو من كان كذلك ونرجع إلى الضلالة التي أخرجنا الله منها، قال أبو عبيدة: يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها قد رد على عقبيه، وقال المبرد: تعقب بالشر بعد الخير، وأصله من المعاقبة والعقبى وهما ما كان تالياً للشيء واجباً أن يتبعه، ومنه (والعاقبة للمتقين) ومنه عقب الرجل ومنه العقوبة لأنها تالية للذنب.
(بعد إذ هدانا الله) إلى دين الإسلام والتوحيد (كالذي استهوته الشياطين في الأرض) هوى يهوى إلى الشيء أسرع إليه، قال الزجاج: هو من هوى النفس أي زين له الشيطان هواه واستهوته الشياطين هوت به أي نرد حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين، أي ذهبت به مردة الجن فألقته في هوية من الأرض بعد أن كان بين الإنس، وعلى هذا أصله من الهوى وهو النزول من أعلى إلى أسفل.
(حيران) أي حال كونه متحيراً تائهاً لا يدري كيف يصنع، والحيران
(له أصحاب يدعونه إلى الهدى) صفة لحيران أو حال أي له رفقة يقولون له (ائتنا) فلا يجيبهم ولا يهتدي بهديهم وبقي حيران لا يدري أين يذهب.
(قل) أمره سبحانه بأن يقول لهم (إن هدى الله) أي دينه الذي ارتضاه لعباده (هو الهدى) وما عداه باطل (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه).
(وأمرنا لنسلم) هي لام العلة والمعلل هو الأمر أي أمرنا لأجل أن نسلم، قاله الزمخشري وقال الفراء: أمرنا بأن نسلم لأن العرب تقول أمرتك لتذهب وبأن تذهب بمعنى، وقال النحاس: سمعت ابن كيسان يقول هي لام الخفض وقيل زائدة.
(لرب العالمين) لأنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره
(وهو الذي إليه تحشرون) يوم القيامة فكيف تخالفون أمره مستأنفة موجبة لامتثال ما أمر به من الأمور الثلاثة.
(وهو الذي خلق السموات والأرض) خلقاً (بالحق) أو حال كون الخلق بالحق فكيف تعبدون الأصنام المخلوقة أو إظهاراً للحق، وعلى هذا الباء بمعنى اللام وقيل كل ذلك بالحق وقيل خلقهما بكلامه الحق، وهو قوله كن وقيل بالحكمة أو محقاً لا هازلاً ولا عبثاً.
(و) اذكروا أو اتقوا (يوم يقول) للسموات والأرض (كن) والمراد بالقول المذكور حقيقته أو المراد به التمثيل والتشبيه تقريباً للعقول، لأن سرعة قدرته تعالى أقل زمناً من زمن النطق بكن والأول أولى (فيكون) تام وفي فاعله أوجه.
(أحدها) أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة.
(الثاني) أنه ضمير الصور المنفوخ فيه ودل عليه يوم ينفخ في الصور.
(الثالث) أنه ضمير اليوم أي فيكون ذلك اليوم العظيم.
(الرابع) أن الفاعل هو (قوله) و (الحق) صفته أي فيوجد قوله الحق ويكون الكلام على هذا قد تم على الحق.
والمعنى قوله للشيء إذا أراده كن فيكون حق وصدق، وقيل المعنى لا يكون شيء من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب، وقيل المعنى وأمره المتعلق بالأشياء الحق أي المشهود له بأنه حق وقيل المعنى قوله المتصف بالحق كائن يوم يقول، الآية وقرئ فنكون بالنون وهو إشارة إلى
(وله الملك يوم ينفخ في الصور) أي له الملك في هذا اليوم وقيل هو بدل من اليوم الأول أخبر عن ملكه يومئذ وإن كان الملك له خالصاً في كل وقت في الدنيا والآخرة لأنه لا منازع له يومئذ يدعى الملك، والصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء، وهو لغة أهل اليمن، وكذا قال الجوهري: أن الصور القرن أي المستطيل وفيه جميع الأرواح وفيه ثقب بعددها فإذا نفخ خرجت كل روح من ثقبها ووصلت لجسدها فتحله الحياة.
قال مجاهد: الصور كهيئة البوق وقرئ الصور جمع صورة والمراد الخلق وبه قال الحسن ومقاتل قال أبو عبيدة: وهذا وإن كان محتملاً يرد بما في الكتاب والسنة قال الله تعالى: (ثم نفخ فيه أخرى).
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وعبد بن حميد وابن المبارك عن عبد الله ابن عمرو قال سئل النبي - ﷺ - عن الصور فقال: " قرن ينفخ فيه " (١)، وأجمع عليه أهل السنة، والأحاديث الواردة في كيفية النفخ ثابتة في كتب الحديث لا حاجة لنا إلى إيرادها ههنا.
(عالم الغيب والشهادة) صفة للذي خلق السموات والأرض أو هو يعلم ما غاب من عباده وما يشاهدونه فلا يغيب عن علمه شيء (وهو الحكيم) في جميع ما يصدر عنه (الخبير) بكل شيء.
_________
(١) رواه الإمام أحمد في " المسند " ١٠/ ١٠، ١١، والترمذي: ٣/ ٢٩٥، وصححه، وأبو داود في " سننه " ٤/ ٣٢٦، ورواه الحاكم في " المستدرك " ٢/ ٤٣٦، ٥٠٦ و ٤/ ٥٦٠، وصححه ووافقه الذهبي.
وقال البخاري في تاريخه الكبير: إبراهيم بن آزر وهو في التوراة تارخ والله سماه آزر، وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارخ ليعرف بذلك وكان من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة.
وقال سليمان التيمي: إن آزر سب وعتب ومعناه في كلامهم المعوج، وقال الضحاك: معنى آزر الشيخ الهرم بالفارسية، وهذا على مذهب من يجوز أن في القرآن ألفاظاً قليلة فارسية، وقال الفراء: هي صفة ذم بلغتهم كأنه قال يا مخطئ وروى مثله عن الزجاج وعن السدي قال اسم أبيه تارخ واسم الصنم آزر.
وقال ابن عباس: الآزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه يازر، وأمه اسمها مثلى، وامرأته اسمها سارة وسريته أم إسمعيل اسمها هاجر، وقال سعيد بن
والصحيح أن آزر اسم لأبي إبراهيم لأن الله سماه به وعليه جرى جمهور المفسرين، وما نقل عن النسابين والمؤرخين أن اسمه تارخ ففيه نظر، لأنهم إنما نقلوه من أهل الكتاب ولا عبرة بنقلهم.
وقد أخرج البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة " (١)، الحديث وسماه النبي - ﷺ - آزر أيضاً ولا قول لأحد مع قول الله تعالى ورسوله كائناً من كان.
والمعنى أذكر إذ قال إبراهيم لآزر (أتتخذ أصناماً) جمع صنم وهو والتمثال والوثن بمعنى، وهو الذي يتخذ من خشب أو حجارة أو حديد أو ذهب أو فضة على صورة الإنسان أي أتجعلها (آلهة) لك تعبدها من دون الله الذي خلقك ورزقك (إني أراك) الرؤية إما علمية وإما بصرية، والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ (وقومك) المتبعين لك في عبادة الأصنام (في ضلال) عن طريق الحق (مبين) واضح بين لأن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٨٠١٤.
(ملكوت السموات والأرض) أي ملكهما وزيدت التاء والواو للمبالغة
قال ابن عباس: كشف ما بين السموات حتى نظر إليهن على صخرة والصخرة على حوت وهو الحوت الذي منه طعام الناس، والحوت في سلسلة والسلسة في خاتم العزة (١).
وقال مجاهد: سلطانهما، وقيل المراد بملكوتهما الربوبية والإلهية أي نريه ذلك ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها، قال قتادة: ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار.
وهذه الأقوال لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها، بل إطلاعه على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شؤونه عز وجل، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حساً كما ينبىء عنه اسم الإشارة المفصح عن كون المشار إليه أمراً بديعاً فإن الإراءة البصرية المعتادة بمعزل من تلك المثابة.
(وليكون من الموقنين) أي ليستدل به ويكون من أهل اليقين عياناً كما أيقن بياناً واليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال الشبهة، قال ابن عباس: جلالَهُ الأمر سراً وعلانية فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، أو المعنى أريناه ذلك ليكون ممن يوقن علم كل شيء حساً وخبراً.
_________
(١) هذا لا يصح لأنه من عالم الغيب والغيب نقف فيه عند خبر المعصوم.
(قال هذا ربي) جملة مستأنفة كأنه قيل فماذا قال عند رؤية الكوكب قيل وكان هذا منه عند قصور النظر لأنه في زمن الطفولية وقيل كان بعد بلوغ إبراهيم، وعليه جمهور المحققين.
ثم اختلف في تأويل هذه الآية فقيل أراد قيام الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدونه لأجل إلزامهم، وقيل معناه أهذا ربي؟ أنكر أن يكون مثل هذا رباً، ومثله قوله تعالى: (أفإن مت فهم الخالدون) أي أفهم الخالدون؟ وقيل المعنى وأنتم تقولون هذا ربي فأضمر القول وقيل المعنى على حذف مضاف أي هذا دليل ربي.
(فلما أفل) أي غرب وغاب، والأفول غيبة النيرات (قال) إبراهيم (لا أحب الآفلين) يعني لا أحب رباً يغيب ويطلع فإن الغروب تغير من حال إلى حال، وهو دليل الحدوث فلم ينجع فيهم ذلك.
(فلما أفل) أي غاب (قال لئن لم يهدني ربي) أي لئن لم يثبتني على الهداية ويوفقني للحجة، وليس المراد أنه لم يكن مهتدياً لأن الأنبياء لم يزالوا على الهداية من أول الفطرة، وفي الآية دليل على أن الهداية من الله تعالى لأن إبراهيم أضاف الهداية إليه سبحانه وتعالى (لأكونن من القوم الضالين) الذين لا يهتدون للحق فيظلمون أنفسهم ويحرمونها حظها من الخير.
(فلما أفلت) أي غابت الشمس وقويت عليهم الحجة ولم يرجعوا (قال يا قوم إني بريء مما تشركون) أي من الأشياء التي تجعلونها شركاء لله وتعبدونها من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث، قال بهذا لما ظهر له أن هذه الأشياء مخلوقة لا تنفع ولا تضر مستدلاً على ذلك بأفولها الذي هو دليل حدوثها.
(ولا أخاف ما تشركون به) قال هذا لما خوفوه من آلهتهم بأنها ستغضب عليه وتصيبه بمكروه أي: إني لا أخاف ما هو مخلوق من مخلوقات الله لا يضر ولا ينفع، وإنما يكون الخوف ممن يقدر على النفع والضرر، والضمير في به يجوز رجوعه إلى الله وإلى معبوداتهم المدلول عليها بما في ما تشركون به.
(إلا أن يشاء ربي شيئاً) أي إلا وقت مشيئة ربي بأن يلحقني شيئاً من الضرر بذنب عملته فالأمر إليه وذلك منه لا من معبوداتكم الباطلة التي لا تضر ولا تنفع، والمعنى على نفي حصول ضرر من معبوداتهم على كل حال،
ثم علل ذلك بقوله (وسع ربى كل شيء علماً) يعني أن علمه محيط بكل شيء فلا يخرج شيء عن علمه قال أبو البقاء: لأن ما يسع الشيء فقد أحاط به، والعالم بالشيء محيط بعلمه فإذا شاء الخير كان حسب مشيئته، وإذا شاء إنزال شر بي كان حسب مشيئته ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ثم قال لهم مكملاً للحجة عليهم ودافعاً لما خوفوه به (أفلا تتذكرون) أي تعتبرون أن هذه الأصنام جمادات لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الذي خلق السموات والأرض ومن فيهما.
(وكيف أخاف ما أشركتم) أي كيف أخاف ما لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق ولا يبصر ولا يسمع ولا يقدر شيئاً استئناف مسوق لنفي الخوف عنه بالطريق الإلزامي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر بقوله سابقاً ولا أخاف ما تشركون به.
(ولا تخافون أنكم أشركتم بالله) أي والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله وهو الضار النافع الخالق الرازق، أورد عليهم هذا الكلام الإلزامي الذي لا يجدون عنه مخلصاً ولا متحولاً، والاستفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم.
(ما لم ينزل به عليكم سلطاناً) أي ما ليس لكم فيه حجة وبرهان يعني لا تخافون أنكم جعلتم الأشياء التي لم ينزل بها عليكم سلطاناً شركاء لله، والمعنى أن الله سبحانه لم يأذن بجعلها شركاء له ولا نزل عليهم بإشراكها حجة يحتجون بها، فكيف عبدوها واتخذوها آلهة وجعلوها شركاء الله سبحانه.
(فأي الفريقين أحق بالأمن) المراد فريق المؤمنين وفريق المشركين أي إذا كان الأمر على ما تقدم من أن معبودي هو الله المتصف بتلك الصفات، ومعبودكم هي تلك المخلوقات والجمادات، فكيف تخوفوني بها وكيف أخافها وهي بهذه المنزلة، ولا تخافون من إشراككم بالله سبحانه، وبعد هذا فأخبروني أي الفريقين أحق بالأمن من العذاب وعدم الخوف في يوم القيامة الموحد أم المشرك، ولم يقل أينا أحق أنا أم أنتم احترازاً عن تزكية نفسه، والمراد من الأحق الحقيق.
(إن كنتم تعلمون) بحقيقة الحال وتعرفون البراهين الصحيحة وتميزونها عن الشبه الباطلة، ثم قال الله سبحانه قاضياً بينهم ومبيناً لهم:
وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ذلك، ويغني عن الجميع في تفسير الآية ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " (١).
والعجب من صاحب الكشاف حيث يقول في تفسير هذه الآية وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس، وهو لا يدري أن الصادق المصدوق قد فسرها بهذا، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
وفي زاده على البيضاوي وذهب المعتزلة إلى أن المراد بالظلم في الآية المعصية لا الشرك بناء على أن خلط أحد الشيئين بالآخر يقتضي اجتماعهما ولا
_________
(١) ابن كثير ٢/ ١٥٢ - ١٥٣.
والإشارة بقوله: (أولئك) إلى الموصول المتصف بما ذكر (لهم الأمن) يوم القيامة من عذاب النار، وفي الآية دليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئاً كانت عاقبته الأمن من عذاب النار، والجملة وقدت خبراً عن اسم الإشارة هذا أوضح ما قيل مع احتمال غيره من الوجوه (وهم مهتدون) إلى الحق ثابتون عليه، وغيرهم على ضلال وجهل.
والإشارة بقوله:
(آتيناها إبراهيم) أي أعطيناها إياه وأرشدناه إليها حجة (على قومه نرفع درجات من نشاء) بالهداية والعلم والفهم والعقل والفضيلة والإرشاد إلى الحق وتلقين الحجة أو بما هو أعم من ذلك، وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح قال الضحاك: إن للعلماء درجات كدرجات الشهداء (إن ربك حكيم) في كل ما يصدر عنه (عليم) بحال عباده أن منهم من يستحق الرفع ومنهم من لا يستحقه، خطاب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم على ما قاله السمين وأبو حيان.
(كلا) أي كل واحد منهما (هدينا) إلى سبيل الرشاد وطريق الحق والصواب الذي أوتيه إبراهيم فإنهما مقتديان به (ونوحاً هدينا) بين آدم ونوح ألف ومائة سنة، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة ونوح ابن لمك وكان بين إدريس ونوح ألف سنة، وإبراهيم ولد على رأس ألفي سنة من آدم وبينه وبين نوح عشرة قرون، وعاش إبراهيم مائة وخمساً وسبعين سنة، وولده إسمعيل عاش مائة وثلاثين سنة، وكان له حين مات أبوه تسع وثمانون سنة. وأخوه إسحق ولد بعده بأربع عشرة سنة وعاش مائة وثمانين سنة.
ويعقوب بن إسحاق عاش مائة وسبعاً واربعين، ويوسف بن يعقوب عاش مائة وعشرين سنة، وبينه وبين موسى أربعمائة سنة، وبين موسى وإبراهيم خمسمائة وخمس وستون سنة، وعاش موسى مائة وعشرين سنة، وبين موسى وداود خمسمائة وتسع وستون سنة وعاش مائة سنة، وولده
وأيوب عاش ثلاثاً وستين سنة وكانت مدة بلائه سبع سنين، ويونس هو ابن متى وهي أمه ذكره السيوطي في التحبير في علم التفسير.
(من قبل) أي من قبل إبراهيم بعشرة قرون، وأرشدناه للحق والصواب ومننا عليه بالهداية (ومن ذريته) أي من ذرية إبراهيم لأن مساق النظم الكريم لبيان شؤونه العظيمة من إيتاء الحجة ورفع الدرجات وهبة الأولاد الأنبياء وإبقاء هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة، كل ذلك لإلزام من ينتمي إلى ملته عليه السلام من المشركين واليهود.
وقال الفراء: من ذرية نوح واختاره ابن جرير والطبري والقشيري وابن عطية وجمهور المفسرين لأنه أقرب، ولأن يونس ولوطاً ليسا من ذرية إبراهيم، فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها، وأما المذكورون في الآية الثالثة فعطف على نوحاً وقال الزجاج: كلا القولين جائز لأن ذكرهما جميعاً قد جرى.
(داود) هو ابن ميشا وكان ممن آتاه الله الملك والنبوة (وسليمان) كذلك وهو ابن داود (وأيوب) هو ابن اموص بن رازخ بن روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم (ويوسف) هو ابن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم (وموسى) هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب (وهرون) هو أخو موسى وكان أكبر منه بسنة، وإنما عد الله سبحانه هداية هؤلاء الأنبياء من النعم التي عددها إبراهيم لأن شرف الأبناء متصل بالآباء.
(وكذلك) الجزاء (نجزي المحسنين)
وقال القتيبي: هو من سبط يوشع بن نون، قال محمد بن كعب: الخال والد، والعم والد نسب الله عيسى إلى أخواله فقال: (ومن ذريته) حتى بلغ إلى قوله زكريا ويحيى وعيسى.
أخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحيى بن يعمر على الحجاج فذكر الحسين رضي الله عنه فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي - ﷺ - فقال يحيى: كذبت فقال: لتأتيني على ما قلت ببينة فتلا (ومن ذريته إلى قوله وعيسى) فأخبر الله أن عيسى من ذرية آدم بأمه فقال صدقت، وقد رويت هذه القضية بألفاظ وطرق، وفيه دليل على أن النسب يثبت من قبل الأم أيضاً لأنه جعله من ذرية نوح وهو لا يتصل به إلا بالأم.
(كل من الصالحين) أي كل من ذكرنا وسمينا من أهل الصلاح
(واليسع) هو ابن أخطوب بن العجوز وقد توهم قوم أن اليسع هو إلياس وهو وهم فإن الله أفرد كل واحد منهما، وقال وهب اليسع صاحب إلياس وكانا قبل يحيى وعيسى وزكريا وقيل اليسع هو الخضر (ويونس) هو ابن متى (ولوطاً) هو ابن هاران أخي إبراهيم (وكُلّا فضلنا على العالمين) أي وكل واحد فضلناه بالنبوة على عالمي زمانه، والجملة معترضة.
ويستدل بهذه الآية من يقول: إن الأنبياء أفضل من الملائكة لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله فيدخل فيه الملك، وقد ذكر سبحانه هنا ثمانية عشر نبياً من غير ترتيب لا بحسب الفضل ولا بحسب الزمان لأن الواو لا تقتضي الترتيب.
(وإخوانهم واجتبيناهم) أي اخترناهم، الاجتباء الاصطفاء أو التخليص أو الاختيار مشتق من جبيت الماء في الحوض أي جمعته، فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك، والجابية الحوض (وهديناهم) أي أرشدناهم (إلى صراط مستقيم) أي إلى دين الحق.
(ولو اشركوا) أي هؤلاء المذكورون بعبادة غير الله (لحبط عنهم) الحبوط البطلان والذهاب، وقد تقدم تحقيقه في البقرة (ما كانوا يعملون) من الطاعات قبل ذلك لأن الله لا يقبل مع الشرك من الأعمال شيئاً.
و (هؤلاء) إشارة إلى كفار قريش بمكة المعاندين لرسول الله - ﷺ - (فقد وكلنا بها قوماً) أي أرصدنا لها وأعددنا وألزمنا بالإيمان بها قوماً.
(ليسوا بها بكافرين) وهم المهاجرون والأنصار، والباء زائدة، قال ابن عباس: فإن يكفر أهل مكة بالقرآن فقد وكلنا به أهل المدينة والأنصار، وقال قتادة: هم الأنبياء الثمانية عشر، وقال أبو رجاء العطاردي: هم الملائكة، وفيه بعد، لأن اسم القوم لا ينطبق إلا على بني آدم، وقيل هم الفرس، قال ابن زيد: كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكاً أو نبياً أو من الصحابة أو التابعين، والأولى أن المراد بهم الأنبياء المذكورون سابقاً لقوله فيما بعد:
والاقتداء طلب موافقة الغير في فعله، وقيل المعنى اصبر كما صبروا، وقيل اقتد بهم في التوحيد وإن كانت جزئيات الشرائع مختلفة، وقيل في جميع الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية، والصفات الرفيعة الكاملة، وفيها دلالة على أنه - ﷺ - مأمور بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء فيما لم يرد عليه فيه نص.
وقد احتج أهل العلم بهذه الآية على أن رسول الله - ﷺ - أفضل من جميع الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال التي كانت متفرقة في جميعهم.
(قل لا أسألكم عليه) أي على القرآن أو على التبليغ، فإن سياق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر لهما ذكر (أجراً) عوضاً من جهتكم، قال ابن عباس: قل لهم يا محمد لا أسألكم على ما أدعوكم إليه عرضاً من عروض الدنيا وكان ذلك من جملة هداهم.
(إن هو) أي ما القرآن (إلا ذكر للعالمين) أي موعظة وتذكير للخلق كافة الموجودين عند نزوله ومن سيوجد من بعد، وفيه دليل على أنه - ﷺ - كان مبعوثاً إلى جميع الخلق من الجن والإنس وأن دعوته عمت جميع الخلائق.
_________
(١) وسيأتي تفصيله في تفسير سورة ص إن شاء الله.
(إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) قال ابن عباس: قالت اليهود
_________
(١) وروي أن مالك بن الصيف رأس اليهود، أتى رسول الله - ﷺ - ذات يوم، فقال له رسول الله - ﷺ -: " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ " قال: نعم، قال: " فأنت الحبر السمين ". فغضب، ثم قال: (ما أنزل الله على بشر من شي) فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ وكذلك قال سعيد بن جبير، وعكرمة: نزلت في مالك بن الصيف.
رجح هذا القول ابن كثير، وقال: إنه الأصح، لأن الآية مكية، واليهود ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا يبعدون إرسال رسول من البشر كما قال:. (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس) [يونس: ٢]. وقال تعالى:. (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً) [الإسراء: ٩٤، ٩٥].
ولما وقع منهم هذا الإنكار وهم من اليهود أمر الله نبيه - ﷺ - أن يورد عليهم حجة لا يطيقون دفعها فقال: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى).
وهم يعترفون بذلك ويذعنون له، وكان في هذا من التبكيت لهم والتقريع ما لا يقادر قدره مع إلجائهم إلى الإعتراف بما أنكروه من وقوع إنزال الله على البشر وهم الأنبياء عليهم السلام، فبطل جحدهم وتبين فساد إنكارهم، وقيل: إن القائلين بهذه المقالة هم كفار قريش فيكون إلزامهم بإنزال الله الكتاب على موسى من جهة أنهم يعترفون بذلك ويعلمونه بالأخبار من اليهود وقد كانوا يصدقونهم.
(نوراً وهدى للناس) أي التوراة ضياء من ظلمة الضلالة، وبيان يفرق بين الحق والباطل من دينهم، وذلك قبل أن تغير وتبدل (تجعلونه) بالتاء والياء أي الكتاب الذي جاء به موسى في (قراطيس) أو ذا قراطيس أو نزلوه منزلة القراطيس، وقد تقدم تفسير القرطاس أي يضعونه فيها ويكتبونه مقطعاً وورقات مفرقة ليتم لهم ما يريدونه من التحريف والتبديل والإبداء والإخفاء وكتم صفة النبي - ﷺ - المذكورة فيه، وهذا ذم لهم قال مجاهد هم اليهود.
(تبدونها) أي القراطيس المكتوبة (وتخفون كثيراً) مما كتبوه في القراطيس ومما أخفوه أيضاً آية الرجم، وكانت مكتوبة عندهم في التوراة.
وقيل الخطاب للمشركين من قريش وغيرهم فتكون " ما " عبارة عما علموه من رسول الله - ﷺ -، قال الحسن: جعل لهم علم ما جاء به محمد - ﷺ - فضيعوه ولم ينتفعوا به، وقال مجاهد: هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان محمد - ﷺ -، والأول أولى، وقال قتادة: هم اليهود آتاهم علماً فلم يقتدوا به ولم يأخذوا به، ولم يعملوا، فذمهم الله في علمهم ذلك.
ثم أمر الله رسوله بأن يجيب عن ذلك الإلزام الذي ألزمهم به حيث قال: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فقال: (قل) أنزله (الله) فإنهم لا يقدرون أن يناكروك، وقيل قل أنت الله الذي أنزله، والأول أولى.
(ثم ذرهم في خوضهم) أي في باطلهم وكفرهم بالله حال كونهم (يلعبون) أي يصنعون صنع الصبيان الذين يلعبون، وقيل معناه يسخرون ويستهزئون، وفيه وعيد وتهديد بالمشركين وقيل هذا منسوخ بآية السيف، وفيه بعد ظاهر.
(ولتنذر أم القرى) خصها وهي مكة لكونها أعظم القرى شأناً، ولكونها أول بيت وضع للناس، ولكونها قبلة هذه الأمة ومحل حجهم، قال قتادة: بلغني أن الأرض دحيت من مكة ولهذا سميت بأم القرى وقيل لأنها سرة الأرض، والمراد بإنذارها إنذار أهلها وهو مستتبع لإنذار سائر أهل الأرض فهو على تقدير مضاف محذوف.
(ومن حولها) يعني جميع البلاد والقرى شرقاً وغرباً، وفيه دليل على عموم رسالته - ﷺ - إلى أهل الأرض كافة.
(والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) أي أن من حق من صدق بالدار الآخرة أن يؤمن بهذا الكتاب ويصدقه ويعمل بما فيه، لأن التصديق بالآخرة يوجب قبول من دعا الناس إلى ما ينال به خيرها ويندفع بها ضرها.
(وهم على صلاتهم يحافظون) خص المحافظة على الصلاة من بين سائر الواجبات لكونها عمادها وبمنزلة الرأس لها، وكونها أشرف العبادات بعد الإيمان بالله تعالى، فإذا كان العبد محافظاً عليها حافظ على جميع العبادات والطاعات، والمعنى يداومون عليها في أوقاتها، والحاصل أن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد - ﷺ -، وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة.
(ومن أظلم) هذه الجملة مقررة لمضمون ما تقدم من الاحتجاج عليهم بأن الله أنزل الكتب على رسله أي كيف تقولون ما أنزل الله على بشر من شيء وذلك يستلزم تكذيب الأنبياء عليهم السلام، ولا أحد أظلم وأعظم خطأً وأجهل فعلاً (ممن افترى على الله كذباً) فزعم أنه نبي وليس بنبي (أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء) عطف خاص على عام، قاله أبو حيان أو عطف تفسير.
والأحسن أنه من عطف المغاير باعتبار العنوان وتكون أو للتنويع، وقد صان الله أنبياءه عما يزعمون عليهم، وإنما هذا شأن الكذابين رؤوس الضلال كمسيلمة الكذاب، ادعى النبوة باليمامة من اليمن، والأسود العنسي صاحب صنعاء وسجاح.
قال شرحبيل بن سعد: نزلت في عبد الله بن أبي سرح لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة ثم استأمن له، وقال ابن جريج: نزلت في مسيلمة الكذاب من ثمامة ونحوه ممن دعا إلى مثل ما دعا إليه، وقيل في مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة وكان صاحب نير نجات وكهانة وسجع ادعى النبوة في اليمن.
عن عكرمة قال: لما نزلت (والمرسلات عرفاً) قال النضر وهو من بني
(ومن قال سأنزل) معطوف على من افترى أي ومن أظلم ممن افترى أو ممن قال أوحي إلي وممن قال سأنزل أي سآتي وأنظم وأجمع وأتكلم (مثل ما أنزل الله) وهم القائلون لو نشاء لقلنا مثل هذا، وقيل هو عبد الله ابن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي لرسول الله - ﷺ - فأملى عليه رسول الله - ﷺ - (ثم أنشأناه خلقاً آخر) فقال عبد الله: (فتبارك الله أحسن الخالقين) فقال رسول الله - ﷺ -: هكذا أنزل، فشك عبد الله حينئذ وقال لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال، ثم ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، ثم أسلم يوم الفتح كما هو معروف.
قال أهل العلم: وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذباً في ذلك الزمان وبعده لأنه لا يمنع خصوص السبي من عموم الحكم.
(ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) الخطاب لرسول الله - ﷺ - أو
لكل من يصلح له، والمراد كل ظالم ويدخل فيه الجاحدون لما أنزل الله والمدعون للنبوات افتراء على الله دخولاً أولياً وجواب لو محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً، والغمرات جمع غمرة وهي الشدة، وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، ومنه غمرة الماء، ثم استعملت في الشدائد ومنه غمرة الحرب قال الجوهري: والغمرة الشدة والجمع غمر مثل نوبة ونوب، قال ابن عباس: غمرات الموت سكراته.
(والملائكة باسطوا أيديهم) بقبض أرواح الكفار كالمتقاضي الملظ الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة من غير إمهال وتنفيس، قال ابن عباس: هذا ملك الموت عليه السلام، وقيل باسطوا أيديهم للعذاب وفي أيديهم مطارق الحديد، قاله الضحاك ومثله قوله تعالى: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم).
(اليوم) أي اليوم الذي تقبض فيه أرواحكم أو أرادوا باليوم الوقت الذي يعذبون فيه الذي مبدؤه عذاب القبر.
(تجزون عذاب الهون) أي الهوان الذي تصبرون به في إهانة وذلة بعدما كنتم فيه من الكبر والتعاظم.
(بما كنتم تقولون على الله غير الحق) أي بسبب قولكم هذا من إنكار إنزال الله كتبه على رسله والإشراك به.
(وكنتم عن آياته تستكبرون) أي عن التصديق لها والعمل بها فكان ما جوزيتم به عذاب الهون جزاء وفاقاً.
قال سعيد بن جبير: كيوم ولد يرد عليه كل شيء نقص منه يوم ولد، وعن عكرمة قال: قال النضر بن الحرث سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت هذه الآية.
(كما خلقناكم أول مرة) أي على الصفة التي كنتم عليها عند خروجكم من بطون أمهاتكم حفاة عراة غًرْلاً يعني: خلقاً كما ولدتكم أمهاتكم في أول مرة في الدنيا ولا شيء عليكم ولا معكم.
(وتركتم ما خولناكم) أي ما أعطيناكم من المال والولد والخدم في الدنيا، والخول ما أعطاه الله للإنسان من متاع الدنيا (وراء ظهوركم) أي تركتم ذلك خلفكم لم تأتونا بشيء منه ولا انتفعتم به بوجه من الوجوه.
ثم قال: (لقد تقطع بينكم) أي ما بينكم من الوصل وتواصلكم في الدنيا كما يدل عليه (وما نرى معكم شفعاءكم) وقيل لقد تقطع الأمر بينكم، وقرأ ابن مسعود لقد تقطع ما بينكم وقرئ بينكم برفع النون ومعناه وصلكم والبين من الأضداد يكون وصلاً ويكون هجراً (وضل عنكم ما كنتم تزعمون) في الدنيا من الشركاء والشرك وحيل بينكم وبينهم.
والحب هو الذي ليس فيه نوى كالحنطة والشعير والأرز وما أشبه ذلك، والنوى جمع نواة يطلق على كل ما فيه عجم كالتمر والمشمش والخوخ، والمعنى أنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر عليها زمان أظهر الله منهما ورقاً أخضر، ثم يخرج من ذلك الورق سنبلة يكون فيها الحب، ويظهر من النواة شجرة صاعدة في الهواء وعروقاً ضاربة في الأرض، فسبحان من أوجد جميع الأشياء بقدرته وإبداعه وخلقه، وتبارك الله أحسن الخالقين.
(يخرج الحي من الميت) هذه الجملة خبر بعد خبر، وقيل هي جملة
قال قتادة: يخرج النخلة من النواة والسنبلة من الحبة، ويخرج النواة من النخلة والحبة من السنبلة وقال مجاهد: الناس الأحياء تخرج من النطف والنطفة ميتة تخرج من الناس الأحياء، قال الطبري: من الأنعام والنبات كذلك أيضاً، وقال ابن عباس: يخرج المؤمن من الكافر، وبالعكس وبه قال الحسن، وقيل الطائع من العاصي وبالعكس، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع بل اللفظ أوسع من ذلك، وقيل المراد من الحي ما ينمو من الحيوان والنبات وإن لم يكن فيه روح، والميت ما لا ينمو كالنطفة والحبة ولو كان أصل حيوان.
(ذلكم) الإشارة إلى صانع ذلك الصنع العجيب المذكور سابقاً و (الله) خبره، والمعنى أن صانع هذا الصنع العجيب هو المستجمع لكل كمال والمفضل بكل أفضال، والمستحق لكل حمد وإجلال.
(فأنى تؤفكون) أي فكيف تصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان وعن الحق مع ما ترون من بديع صنعه وكمال قدرته، قال ابن عباس: فكيف تكذبون، وقال الحسن: أنى تصرفون، وفيه دليل أيضاً على صحة البعث بعد الموت لأن القادر على إخراج البدن من النطفة قادر على إخراجه من التراب للحساب.
(وجعل الليل سكناً) السكن محل السكون من سكن إليه إذا اطمأن إليه واستراح به، لأنه يسكن فيه الناس عن الحركة في معاشهم ويستريحون من التعب والنصب، قال قتادة: سكن فيه كل طير ودابة (والشمس والقمر حسباناً) أي الشمس والقمر مجعولان حسباناً معيناً قال الأخفش: الحسبان جمع حساب مثل شهبان وشهاب، وقال يعقوب، حسبان مصدر حسبت الشيء أحسبه حسباً وحسباناً والحساب الإسم، وقيل الحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح والحسبان بالكسر مصدر حسب.
والمعنى جعلهما محل حساب يتعلق به مصالح العباد وسيرهما على تقدير لا يزيد ولا ينقص ليدل عباده بذلك على عظيم قدرته وبديع صنعه، وقيل الحسبان الضياء وفي لغة أن الحسبان النار، ومنه قوله تعالى: (يرسل عليها حسباناً من السماء) وقال ابن عباس: يعني عدد الأيام والشهور والسنين، وقال
(ذلك) الجعل المدلول عليه يجعل (تقدير العزيز) القاهر الغالب (العليم) كثير العلم ومن جملة معلوماته تسييرهما على هذا التدبير المحكم.
وقيل يستدلون بها أيضاً على القبلة على ما يريدون في النهار بحركة الشمس، وفي الليل بحركة الكواكب، وعن عمر بن الخطاب قال: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم أمسكوا فإنها والله ما خلقت إلا زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها، وعن قتادة نحوه.
وأخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا " (١)، وقد ورد في استحباب مراعاة الشمس والقمر لذكر الله سبحانه لا لغير ذلك أحاديث منها عند الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أحب عباد الله إلى الله الذين يراعون الشمس والقمر لذكر الله "، وعند ابن شاهين والطبراني والخطيب وأحمد عن ابن أبي أوفى وأبي الدرداء وأبي هريرة نحوه.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٢٤٥٥.
فهذه الأحاديث مقيدة بكون المراعاة لذكر الله والصلاة لا لغير ذلك، وقد جعل الله انقضاء وقت صلاة الفجر طلوع الشمس وأول صلاة الظهر زوالها، ووقت العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية، ووقت المغرب غروب الشمس، وورد في صلاة العشاء أن النبي - ﷺ - كان يوقت مغيب القمر ليلة ثالث عشر، وبهما يعرف أوائل الشهور وأوساطها وأواخرها، فمن راعى الشمس والقمر لهذه الأمور فهو الذي أراده - ﷺ - ومن راعاهما لغير ذلك فهو غير مراد بما ورد.
وهكذا النجوم ورد النهي عن النظر فيها كما أخرجه ابن مردويه والخطيب عن علي قال: نهاني رسول الله - ﷺ - عن النظر في النجوم، وعن أبي هريرة عندهما وعند المرهبي مثله مرفوعاً، وأخرج الخطيب عن عائشة مرفوعاً مثله.
وأخرج الطبراني والخطيب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا " (٢)، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٢٦١١.
(٢) صحيح الجامع الصغير ٥٥٩.
فهذه الأحاديث محمولة على النظر فيها لا عدا الاهتداء والتفكر والاعتبار وما ورد في جواز النظر في النجوم فهو مقيد بالاهتداء والتفكر والاعتبار كما يدل عليه حديث ابن عمر السابق، وعليه يحمل ما روي عن عكرمة أنه سأل رجلاً عن حساب النجوم، فجعل الرجل يتحرج أن يخبره فقال: سمعت ابن عباس يقول علم عجز الناس عنه ووددت أني علمته.
وقد أخرج أبو داود والخطيب عن سمرة بن جندب أنه خطب فذكر حديثاً عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: " أما بعد فإن ناساً يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر، وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وأنهم قد كذبوا، ولكنها آيات من آيات الله يعبر بها عباده لينظر ما يحدث لهم من توبة " (٢).
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما في كسوف الشمس والقمر عن النبي - ﷺ -: " أنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده ".
(قد فصلنا الآيات) أي بيناها بياناً مفصلاً ليكون أبلغ في الاعتبار (لقوم يعلمون) إن ذلك مما يستدل به على وجود الصانع المختار وكمال قدرته وعظمته وبديع صنعته وعلمه وحكمته.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٥٩٥.
(٢) أحمد بن حنبل ٥/ ١٦.
(وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة) أي آدم عليه السلام كما تقدم، وهذا نوع آخر من بديع خلقه الدال على كمال قدرته، أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة مرفوعاً أن الله نصب آدم بين يديه ثم ضرب كتفه اليسرى فخرجت ذريته من صلبه حتى ملأ الأرض، فهذا الحديث هو بمعنى ما في هذه الآية.
(فمستقر) قرئ بكسر القاف وبفتحها أي فمنكم قار في الأرحام أو فلكم مقر، التقدير الأول على القراءة الأولى، والثاني على الثانية وقيل أي فمنكم مستقر على الأرض، أو فلكم مستقر على ظهرها (و) منكم (مستودع) في الرحم أو في باطن الأرض أو في أصلاب الرجال والدواب.
قال ابن عباس: المستقر في أرحام الأمهات، والمستودع في أصلاب الآباء، ثم قرأ (ونقر في الأرحام ما نشاء) وروي عنه أنه قال بالعكس، يعني أن المستقر صلب الأب، والمستودع رحم الأم، وقال ابن مسعود: بالمستقر في الرحم إلى أن يولد، والمستودع في القبر إلى أن يبعث.
وقال مجاهد: المستقر على ظهر الأرض في الدنيا، والمستودع عند الله في الآخرة، وقال الحسن: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وقيل المستقر في الرحم والمستودع في الأرض.
قال القرطبي: وأكثر أهل التفسير يقولون المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب، والفرق بينهما أن المستقر أقرب إلى الثبات من
وجعل الحصول في الرحم استقراراً، وفي الصلب استيداعاً لأن النطفة تبقى في صلب الآباء زماناً قصيراً والجنين يبقى في بطن الأم زماناً طويلاً، فكلما كان المكث في بطن الأم أكثر من المكث في صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع علي الصلب.
وقيل المستقر من خلق، والمستودع من لم يخلق، وقيل المستودع في القبر والمستقر إما في الجنة أو النار لأن المقام فيهما يقتضي الخلود والتأييد، وقيل الاستيداع إشارة إلى كونهم في القبور إلى المبعث، ومما يدل على تفسير المستقر بالكون على الأرض قول الله تعالى: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).
(قد فصلنا الآيات) أي بينا الدلائل الدالة على التوحيد والبراهين الواضحة والحجج النيرة (لقوم يفقهون) غوامض الدقائق، ذكر سبحانه ههنا يفقهون وفيما قبله (يعلمون) لأن في إنشاء الأنفس من نفس واحدة وجعل بعضها مستقراً وبعضها مستودعاً من الغموض والدقة ما ليس في خلق النجوم للاهتداء فناسبه ذكر الفقه لإشعاره بمزيد تحقيق وإمعان فكر، وتدقيق نظر.
(فأخرجنا به) فيه التفات من الغيبة إلى التكلم إظهاراً للعناية بشأن هذا المخلوق وما ترتب عليه، والضمير في به عائد إلى الماء أي بسببه، فالسبب واحد والمسببات كثيرة (نبات كل شيء) يعني كل صنف من أصناف النبات المختلفة، وقيل المعنى رزق كل شيء من الأنعام والبهائم والطير والوحوش وبني آدم وأقواتهم، والأول أولى.
ثم فصل هذا الإجمال فقال: (فأخرجنا منه خضراً) قال الأخفش: أي أخضر، والخضر رطب البقول، وهو ما يتشعب من الأغصان الخارجة من الحبة، وقيل يريد القمح والشعير والذرة والأرز وسائر الحبوب وجميع الزروع والبقول.
(نخرج منه حباً متراكباً) أي نخرج من تلك الأغصان الخضر حباً مركباً بعضه على بعض كما في السنابل، قال السدي: أي سنبل القمح والشعير والأرز والذرة وسائر الحبوب، وفي تقديم الزرع على النخل دليل على الأفضلية ولأن حاجة الناس إليه أكثر، لأنه القوت المألوف، والتعبير بالمضارع مع أن
(ومن النخل) اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث قال تعالى: (كأنهم أعجاز نخل خاوية) وقال تعالى: (كأنهم أعجاز نخل منقعر).
(من طلعها قنوان) قرئ بكسر القاف وفتحها باعتبار إختلاف اللغتين لغة قيس ولغة أهل الحجاز، والطلع الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض، والإغريض يسمى طلعاً أيضاً وهو ما يكون في قلب الطلع، والطلع أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان يكون فيه العذق فإذا شق عنه كيزانه يسمى عذقاً، وهو القنو، وجمعه قنوان مثل صنو وصنوان، والفرق بين جمعه وتثنيته أن المثنى مكسور النون، والجمع على ما يقتضيه الإعراب، والقنو العذق، والمعنى أن القنوان أصله من الطلع والعذق هو عنقود النخل، وقيل القنوان الجمار أو العراجين.
(دانية) قريبة ينالها القائم والقاعد، وقال مجاهد: متدلية، وقال الضحاك: قصار ملتصقة بالأرض أي دانية في المجتنى لانحنائها بثقل حملها أو لقصر ساقها قال الزجاج: المعنى منها دانية ومنها بعيدة فحذف ومثله (سرابيل تقيكم الحر) وخص الدانية بالذكر لأن الغرض من الآية بيان القدر والامتنان وذلك فيما يقرب تناوله أكثر.
وقال ابن عباس: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض، وعنه قنوان الكبائس والدانية المنصوبة، وقال أيضاً تهدل العذوق من الطلع، وذكر الطلع مع النخل لأنه طعام وإدام دون سائر الأكمام، وتقديم النبات لتقدم القوت على الفاكهة.
(وجنات) أي ولهم جنات، قاله النحاس وأجازه سيبويه والكسائي والفراء، وأما على النصب فالتقدير وأخرجنا به جنات أي بساتين كائنة (من
وقيل أن أحدهما يشبه الآخر في الورق باعتبار اشتماله على جميع الغصن وباعتبار حجمه، ولا يشبه أحدهما الآخر في الطعم، قال قتادة: متشابهاً ورقه مختلفاً ثمره لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان، يقال مشتبه ومتشابه بمعنى كما يقال اشتبه وتشابه كذلك.
وذكر سبحانه في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفواكه، وإنما قدم النخلة على غيرها لأن ثمرتها تجري مجرى الغذاء وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار، وإنما ذكر العنب عقب النخلة لأنها من أشرف أنواع الفواكه، ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والمنافع الكثيرة في الأكل وسائر وجوه الاستعمال، ثم ذكر عقبه الرمان لما فيه من الفوائد العظيمة لأنه فاكهة ودواء وقيل خص الزيتون والرمان لقرب منابتهما من العرب كما في قول الله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت).
(أنظروا إلى ثمره) أي ثمر كل واحد مما ذكر يعني رطبه وعنبه، قاله محمد بن كعب القرظي قرئ ثمره بفتح الثاء والميم وبضمهما وهو جمع ثمرة كشجرة وشجر، وخشبة وخشب (إذا أثمر) أي إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضعيفاً لا ينتفع به (وينعه) عن البراء قال: نضجه أي إدراكه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع.
أمرهم الله سبحانه بأن ينظروا نظر اعتبار إلى ثمره إذا أثمر وإلى ينعه إذا ينع كيف أخرج هذه الثمرة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة ونقلها من حال
(إن في ذلكم) الإشارة إلى ما تقدم ذكره مجملاً ومفصلاً (لآيات) أي لآيات عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته، فإن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع يحار في فهمها الألباب، لا يكاد يكون إلا بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه عن ذلك ضد يناويه أو ند يقاويه.
(لقوم يؤمنون) بالله استدلالاً بما يشاهدونه من عجائب مخلوقاته التي قصها عليهم، وقيل معنى يؤمنون يصدقون يعني أن الذي يقدر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى ولبعثهم.
وقيل نزلت في الزنادقة الذين قالوا أن الله تعالى وإبليس إخوان، فالله خالق الناس والدواب، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب، روى ذلك عن الكلبي نقله ابن الجوزي عن ابن السائب والرازي عن ابن عباس، ويقرب من هذا قول المجوس فإنهم قالوا للعالم صانعان هما الرب سبحانه والشيطان وهكذا القائلون إن كل خير من النور وكل شر من الظلمة وهم المانوية.
(وخرقوا) بالتشديد على التكثير لأن المشركين ادعوا أن الملائكة بنات الله والنصارى ادعوا أن المسيح ابن الله، واليهود ادعوا أن عزيراً ابن الله فكثر ذلك من كفرهم فشدد الفعل لمطابقة المعنى، وقرئ بالتخفيف، وقرئ وحرفوا من التحريف أي زوروا قال أهل اللغة معنى خرقوا اختلقوا وافتعلوا وكذبوا، يقال اختلق الإفك واخترقه وخرقه، وأصله من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا.
(له بنين وبنات) كائنين (بغير علم) بل قالوا ذلك عن جهل خالص، وقيل بغير علم بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب بل رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وإنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره.
ثم بعد حكاية هذا الضلال البين والبهت الفظيع من جعل الجن شركاء لله، وإثبات بنين وبنات له، نزه الله نفسه عن هذه الأقاويل الفاسدة فقال: (سبحانه) وقد تقدم الكلام في معنى سبحانه وفيه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بجلاله (و) معنى (تعالى عما يصفون) تباعد وارتفع عن قولهم الباطل الذي وصفوه به.
(ولم تكن له صاحبة) أي والحال أنه لم تكن له صاحبة، والصاحبة إذا لم توجد استحال وجود الولد (وخلق كل شيء) جملة مقررة لما قبلها لأن من كان خالقاً لكل شيء استحال منه أن يتخذ بعض مخلوقاته ولداً، وهذه الآية حجة قاطعة على فساد قول النصارى (وهو بكل شيء عليم) لا يخفى عليه من مخلوقاته خافية.
والحاصل أنه لا متمسك فيه لمنكري الرؤية على الإطلاق.
وأيضاً قد تقرر في علم البيان والميزان أن رفع الإيجاب الكلي سلب جزئي فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار، وهي أبصار الكفار، هذا على تسليم أن نفي الإدراك يستلزم نفي الرؤية الخاصة، والآية من سلب العموم لا من عموم السلب، والأول يخلفه الجزئية، والتقدير لا تدركه كل الأبصار بل بعضها وهي أبصار المؤمنين، والمصير إلى أحد الوجهين متعين لما عرفناك من تواتر الرؤية في الآخرة واعتضادها بقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).
وقد تشبث قوم من أهل البدع وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية ولا يستتب ذلك كما تقدمت الإشارة إليه، على أن مورد الآية التمدح وهو يوجب ثبوت الرؤية إذ نفى إدراك ما تستحيل رؤيته لا تمدح فيه، لأن كل ما لا يرى لا يدرك وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية فكانت الحجة لنا عليهم، ولو أمعنوا النظر فيها لاغتنموا التقصي عن عهدتها، ومن ينفي الرؤية يلزمه نفي كونه تعالى معلوماً موجوداً، والكلام في ذلك يطول جداً.
وقد أطال الواحد المتكلم الحافظ ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح في إثبات الرؤية ورد المنكرين لها. والشوكاني في البغية في مسألة الرؤية بما لا
(وهو يدرك الأبصار) أي يحيط بها ويبلغ كنهها لا يخفى عليه منها خافية أو يراها ولا تراه ولا يجوز في غيره أن يدرك البصر وهو لا يدركه، وخص الأبصار ليجانس ما قبله.
قال الزجاج: في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه انتهى.
(وهو اللطيف) أي الرفيق بعباده يقال لطف فلان بفلان أي رفق به.
واللطف في العمل الرفق فيه واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة، وألطفه بكذا إذا برَّه، والملاطفة المبارَّة هكذا قال الجوهري وابن فارس، و (الخبير) المختبر لكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء، ويجوز أن يكون هذا من باب اللف والنشر المرتب أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير فيكون اللطيف مستعاراً من مقابل الكثيف، وهو الذي لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها قاله البيضاوي والأول أولى.
(فمن أبصر فلنفسه) أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه، لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار (ومن عمي) عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها (فعليها) أي فضرر ذلك على نفسه، لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره إلى النار، قال قتادة: فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فعليها.
(وما أنا عليكم بحفيظ) أحصي عليكم أعمالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم، قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان.
وقال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن وهو أن يكون معنى نصرف الآيات نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا فيذكرون الأول بالآخر، فهذا حقيقته، والذي قاله الزجاج مجاز، والجمهور على كسر اللام وهي لام كي، وجوز أبو البقاء فيها الوجهين.
وفي درست قراآت دارست كفاعلت ودرست كفرحت ودرست كضربت، فعلى الأولى المعنى دارست أهل الكتاب ودارسوك أي ذاكرتهم وذاكروك، ويدل على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله: (وأعانه عليه قوم آخرون) أي أعان اليهود النبي - ﷺ - على القرآن ومثله قولهم [أساطيرالأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلاً]، وقولهم [إنما يعلمه بشر].
والمعنى على الثانية قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت وهو كقولهم أساطير الأولين، وعلى الثالثة مثل المعنى على الأول قال الأخفش: هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ، وقرأ المبرد: وليقولوا بإسكان اللام فيكون بمعنى التهديد أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين.
وهذا اللفظ أصله درس يدرس دراسة فهو من الدرس وهو القراءة وقيل من درسته أي ذللته بكثرة القراءة، وأصله درس الطعام أي داسه والدياس الدراس بلغة أهل الشام، وقيل أصله من درست الثوب أدرسه درساً أي أخلقته ودرست المرأة درساً أي حاضت، ويقال: إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض، والدرس أيضاً الطريق الخفي، وحكى الأصمعي بعير لم يدرس أي لم يركب.
(ولنبينه) اللام فيه لام كي أي نصرف الآيات لكي نبينه، والضمير راجع إلى الآيات لأنها في معنى القرآن أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل (لقوم يعلمون) الحق من الباطل، قال ابن عباس: يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد وقيل المعنى نصرف الآيات ليسعد بها قوم ويشقى بها آخرون، فمن أعرض عنها وقال للنبي - ﷺ - درست فهو شقي، ومن تبين له الحق وفهم معناها وعمل بها فهو سعيد، وفي هذا دليل قاطع على أن الله جعل تصريف الآيات سبباً لضلالة قوم وشقاوتهم وسعادة قوم وهدايتهم.
وجملة (لا إله إلا هو) معترضة لقصد تأكيد إيجاب الإتباع، ثم أمره الله بالإعراض عنهم بعد أمره باتباع ما أوحي إليه فقال: (وأعرض عن المشركين) أي لا تلتفت إلى رأيهم ولا تحتفل بأقوالهم الباطلة التي من جملتها ما حكي عنهم آنفاً، وعلى هذا لا يجري فيها النسخ لأن المراد منه في الحال لا الدوام، وقيل هذا قبل نزول آية السيف قال السدي: هذا منسوخ نسخه القتال (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) والأول هو الأولى.
وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبي عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق ووقوع في باطل أشد، كان الترك أولى به بل كان واجباً عليه.
وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه وتركوا غيره من المعروف، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات عناداً للحق وبغضاً لاتباع المحقين، وجرأة على الله سبحانه، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجني على أهلها ديدنه وهجيراه كما يشاهد ذلك
فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع وهم أشر من الزنادقة لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع، ويتظهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم ويتم باطلهم وكفرهم نادراً على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة وهي أصل أصيل في سد الذرائع وقطع التطرق إلى الشبه، وقرئ عدوا بالضم وعدوا بالفتح ومعناهما واحد أي ظلماً وعدواناً، وعن ابن عباس قال: قالوا يا محمد- ﷺ - لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدواً بغير علم.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - ﷺ - قال: " ملعون من سب والديه، قالوا يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه " (١).
(كذلك) أي مثل ذلك التزيين (زينا لكل أمة) من أمر الكفار (عملهم) من الخير والشر والطاعة والمعصية بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقاً وتخذيلاً، وفي هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة حيث قالوا: لا يحسن من الله خلق الكفر وتزيينه.
(ثم إلى ربهم مرجعهم) أي مصيرهم (فينبئهم بما كانوا يعملون) في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها ولا قبلوا من الأنبياء ما أرسلهم الله به إليهم وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم.
_________
(١) البخاري كتاب الكسوف الباب ٦.
والمعنى أنهم اقترحوا على النبي - ﷺ - آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وأقسموا (لئن جاءتهم آية) أي هذه الآية التي اقترحوها كما جاءت من قبلهم وهذا إخبار عنهم من الله لا حكاية لقولهم وإلا لقيل لئن جاءتنا قاله أبو حيان (ليؤمنن بها) وليس غرضهم بذلك الإيمان بل معظم قصدهم التهكم على رسول الله - ﷺ - والتلاعب بآيات الله وعدم الاعتداد بما شاهدوا منها فأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بقوله:
(قل إنما الآيات) أي هذه الآية التي يقترحونها وغيرها (عند الله) وليس عندي من ذلك لشيء، فهو سبحانه إن أراد إنزالها أنزلها، وإن أراد أن لا ينزلها لم ينزلها لأن المعجزات الدالة على النبوات شرطها أن لا يقدر على تحصيلها أحد إلا الله تعالى.
(وما يشعركم) أي وما يدريكم يعني أنتم لا تدرون ذلك، قال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وقال الفراء وغيره: الخطاب للمؤمنين لأن المؤمنين قالوا للنبي - ﷺ -: يا رسول الله لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون فقال الله: وما يشعركم (أنها) قرئ بفتح الهمزة قال الخليل: أنها بمعنى لعلها وفي التنزيل (وما يدريك لعله يزكى) أي أنه يزكى، وحكى عن العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً أي لعلك، وقد وردت أن في كلام العرب كثيراً
(إذا جاءت لا يؤمنون) قال الكسائي والفراء: أن لا زائدة والمعنى وما يشعركم أنها أي الآيات إذا جاءت يؤمنون فزيدت لا كما زيدت في قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) وفي قوله: (ما منعك أن لا تسجد) وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة لا وقالوا هو خطأ وغلط، وذكر النحاس وغيره أن في الكلام حذفاً والتقدير أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون ثم حذف هذا المقدر لعلم السامع.
(كما لم يؤمنوا به) في الدنيا (أول مرة) يعني الآيات التي جاء بها موسى وغيره من الأنبياء أو جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزات الباهرات.
وقال ابن عباس: يعني لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان فلا يؤمنون به كما لم يؤمنوا به أول مرة قبل مماتهم (ونذرهم) أي نمهلهم ولا نعاقبهم في الدنيا، فعلى هذا بعض الآيات في الآخرة وبعضها في الدنيا وقيل المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الدنيا أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية كما حلنا بينهم وبين ما دعوتهم إليه أول مرة عند ظهور المعجزة.
(في طغيانهم يعمهون) أي يتحيرون يقال عمه في طغيانه عمها من باب تعب إذا تردد متحيراً مأخوذ من قولهم أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة فهو عمه وأعمه، قال ابن عباس: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم يثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر.
قرئ قبلاً بضم القاف وقبلاً بكسرها أي مقابلة، قال المبرد: قبلاً بمعنى ناحية كما تقول لي قبل فلان مال، وبه قال أبو زيد وجماعة من أهل اللغة وعلى الأول ورد قوله تعالى: (أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً) أي يضمنون كذا قال الفراء وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل أي جماعة جماعة.
وحكى أبو زيد: لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً كلها واحد بمعنى المواجهة فيكون على هذا الضم كالكسر وتستوي القراءتان، وهو قول أبي عبيدة والفراء والزجاج، ونقله الواحدي أيضاً عن جميع أهل اللغة، قال ابن عباس: قبلاً معاينة، وقال قتادة: فعاينوا ذلك معاينة، وقال مجاهد: قبلاً أفواجاً، وقيل القبيل الكفيل بصحة ما تقول.
(ما كانوا ليؤمنوا) أي أهل الشقاء لما سبق في علم الله، واللام لام الجحود (إلا أن يشاء الله) أيمانهم أي إيمان أهل السعادة والذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن،
واستبعده أبو حيان وجرى على أنه متصل وكذلك البيضاوي وكثير من المعربين كالسفاقسي قالوا: والمعنى ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال إلا في حال مشيئته أو في سائر الأزمان إلا في زمن مشيئته، وقيل هو استثناء من علة عامة أي ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله الإيمان وهو الأولى كما تقدم، وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة في قولهم إن الله أراد الإيمان من جميع الكفار.
(ولكن أكثرهم يجهلون) جهلاً يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب، وقال البيضاوي: أي يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعاً في إيمانهم انتهى.
قالوا وشياطين الإنس أشد تمرداً من شياطين الجن، وبه قال مالك بن دينار والإضافة بيانية أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل الإنس والجن الشياطين، قال ابن عباس: إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم فيلتقي شيطان الإنس وشيطان الجن فيقول هذا لهذا أضلله بكذا وأضلله بكذا، وعنه قال الجن هم الجان وليسوا شياطين، والشياطين ولد
وقال ابن مسعود: الكهنة هم شياطين الإنس، وقيل الكل من ولد إبليس وأضيف الشياطين إلى الإنس على معنى أنهم يغوونهم ويضلونهم، وبهذا قال عكرمة والضحاك والكلبي والسدي.
(يوحي بعضهم إلى بعض) أي حال كونهم يوسوس بعضهم لبعض، وقيل: إن الجملة مستأنفة لبيان حال العدو، وسمي وحياً لأنه إنما يكون خفية بينهم وجعل تمويههم (زخرف القول) لتزيينهم إياه والمزخرف المزين وزخارف الماء طرائقه، والزخرف هو الباطل من الكلام الذي قد زين ووشي بالكذب وكل شيء حسن مموه فهو زخرف يغرونهم بذلك (غروراً) هو الباطل.
قال ابن عباس: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، فإن الله يقول (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ويحسن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم.
وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس، قال يا نبي الله وهل للإنس شياطين قال نعم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً " (١).
(ولو شاء ربك ما فعلوه) الضمير يرجع إلى ما ذكر سابقاً من الأمور التي جرت من الكفار في زمنه وزمن الأنبياء قبله أي لو شاء ربك عدم وقوع ما تقدم ذكره ما فعلوه وأوقعوه، وقيل ما فعلوا الإيحاء المدلول عليه بالفعل (فذرهم) أي دع الكفار واتركهم، وهذا الأمر للتهديد كقوله ذرني ومن خلقت وحيداً.
(وما يفترون) إن كانت " ما " مصدرية فالتقدير اتركهم وإفتراءهم وإن كانت موصولة فالتقدير اتركهم والذي يفترونه، وهذا قبل الأمر بالقتال.
_________
(١) النسائي، كتاب الإستعاذة، باب ٤٨ - أحمد بن حنبل ٥/ ١٧٨ - ٢٦٥.
والضمير في (إليه) لزخرف القول أو لما ذكر سابقاً من زخرف القول وغيره أي أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم ولتصغي إليه (أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) من الكفار والمعنى أن قلوب الكفار تميل إلى زخرف القول وباطله وتحبه وترضى به، وهو قوله (وليرضوه) لأنفسهم بعد الإصغاء إليه (وليقترفوا ما هم مقترفون) من الآثام والإقتراف والاكتساب، يقال خرج ليقترف لأهله أي ليكتسب لهم، وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه، وقرفه إذا رماه بالرمية واقترف كذب، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء أي ليكتسبوا من الأعمال الخبيثة ما هم مكتسبون.
وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الفعل أي الإقتراف، فكل واحد مسبي عما قبله قاله أبو حيان.
(وهو الذي أنزل إليكم الكتاب) أي القرآن (مفصلاً) مبيناً واضحاً مستوفياً لكل قضية على التفصيل (والذين آتيناهم الكتاب) أي المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور، أخبر الله نبيه - ﷺ - بأن أهل الكتاب وإن أظهروا الجحود والمكابرة فإنهم (يعلمون أنه) أي القرآن (منزل من ربك) أي من عند الله مما دلتهم عليه كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل من أنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء (بالحق) حال أي متلبساً بالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة (فلا تكونن من الممترين) الشاكين فيه.
نهاه الله عن أن يكون من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون بأن القرآن منزل من عند الله بالحق، وبه قال الزمخشري: أو نهاه عن مطلق الإمتراء ويكون ذلك تعريضاً لأمته عن أن يمتري أحد منهم، أو الخطاب لكل من يصلح له أي فلا يكونن أحد من الناس من الممترين، ولا يقدح في ذلك كون الخطاب لرسول الله - ﷺ - فإن خطابه خطاب لأمته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله قال: دخل رسول الله - ﷺ - المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة ولكل قوم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنماً صنماً ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره فكلما طعن صنماً اتبعه ضرباً بالقوس حتى يكسروه ويطرحوه خارجاً من المسجد والنبي - ﷺ - يقول: وتمت كلمات ربك الآية.
(صدقاً وعدلاً) أي تمام صدق وعدل، قال أبو البقاء والطبري النصب على التمييز وتبعهما السيوطي، وقال ابن عطية: هو غير صواب وليس في ذلك إبهام وأعربه الكواشي حالاً من ربك أو مفعولاً له، قال قتادة: صدقاً فيما وعد وعدلاً فيما حكم، وقيل صدقاً فيما أخبر عن القرون الماضية والأمم الخالية، وعما هو كائن إلى قيام الساعة وعدلاً فيما حكم من الأمر والنهي والحلال والحرام وسائر الأحكام.
(لا مبدل لكلماته) لا خلف فيها ولا مغير لما حكم به لما وصفها بالتمام وهو في كلامه تعالى يقتضي عدم قبول النقص والتغير، قال محمد بن كعب القرظي: لا تبديل لشيء قاله في الدنيا والأخرة كقوله: (ما يبدل القول لدي) وفيه دليل على أن السعيد لا ينقلب شقياً ولا الشقي ينقلب سعيداً فالسعيد من سعد من الأزل والشقي من شقي في الأزل (وهو السميع) لكل مسموع (العليم) بكل معلوم ومنه قول المتحاكمين.
(إن يتبعون إلا الظن) أي ما يتبعون إلا الظن الذي لا أصل له وهو ظنهم أن معبوداتهم تستحق العبادة وأنها تقربهم إلى الله (وإن هم إلا يخرصون) أي يحدسون ويقدرون، وأصل الخرص القطع ومنه خرص النخل يخرص إذا حرزه ليأخذ منه الزكاة فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به إذ لا يقين منه أي إذا كان هذا حال أكثر من في الأرض فالعلم الحقيقي هو عند الله فاتبع ما أمرك به ودع عنك طاعة غيره.
وقيل إنها نزلت في سبب خاص كما أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: (إنكم لمشركون) ولكن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما ذكر الذابح عليه اسم الله حل إن كان مما أباح الله أكله وقال عطاء في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح وكل مطعوم.
والشرط في (إن كنتم) للتهييج والإلهاب (بآياته مؤمنين) أي بأحكامه من الأوامر والنواهي التي من جملتها الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه لا مما ذكر عليه اسم غيره فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتف أنفه، وهذا يدل على أن الخطاب للمسلمين وقيل كانوا يحرمون أصنافاً من النعم ويحلون الميتة فقيل أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله، وعلى هذا الخطاب للمشركين والأول أولى.
وحينئذ في المقام إشكال أورده الرازي وحاصله أن سورة الأنعام مكية
قلت وذكر المفسرون وجهاً آخر وهو أن الله علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول فبهذا الاعتبار حسنت الحوالة على ما في المائدة بقوله: (وقد فصل لكم) باعتبار تقدمه في الترتيب وإن كان متأخراً في النزول والله أعلم.
ثم استثنى فقال: (إلا ما اضطررتم إليه) من جميع ما حرمه عليكم فإن الضرورة تحلل الحرام وقد تقدم تحقيقه في البقرة قال قتادة: ما اضطررتم إليه من الميتة والدم ولحم الخنزير والاستثناء كما قال الحوفي منقطع، وبه قال التفتازاني، وقال أبو البقاء: متصل من طريق المعنى لأنه وبخهم بترك الأكل مما سمي عليه، وذلك يتضمن إباحة الأكل مطلقاً، وحاصله أن الاستثناء من الجنس فهو متصل، وقال زكريا فيه: إنه لا يكون حينئذ استثناء متصلاً بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر.
(وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم) هم الكفار الذين كانوا يحرمون البحيرة السائبة ونحوهما فإنهم بهذه الأفعال المبنية على الجهل كانوا يضلون الناس فيتبعونهم ولا يعلمون أن ذلك جهل وضلالة لا يرجع إلى شيء من العلم، قال سعيد بن جبير: يعني من مشركي العرب ليضلون في أمر الذبائح (إن ربك هو أعلم بالمعتدين) أي بمن تعدى حدوده فأحل ما حرم وحرم ما أحل الله فيجازيهم على سوء صنيعهم.
وقال السدي: الظاهر الزواني في الحوانيت، وهن صواحب الرايات، والباطن المرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سراً، وقال ابن زيد: ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في الطواف، والباطن الزنا، وقيل هذا النهي عام في جميع المحرمات التي نهى الله عنها وهو الأولى، فإن الاعتبار بعموم اللفظ دون خصوص السبب، وبه قال ابن الإنباري، وإنما أضاف الظاهر والباطن إلى الإثم لأنه يتسبب عنهما.
(إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) توعد الكاسبين للإثم بالجزاء بسبي افترائهم على الله سبحانه.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتسمية في الصيد وغيره، وذهب الشافعي وأصحابه وهو رواية عن مالك وعن أحمد أن التسمية مستحبة لا واجبة وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رياح، وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله، وهو تخصيص للآية بغير مخصص، وقد روى أبو داود في المراسيل أن النبي - ﷺ - قال: " ذبيحة المسلم حلال ذكر الله أو لم يذكر " (١) وليس في هذا المرسل ما يصلح لتخصيص الآية.
نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قوماً يأتوننا بلحمان لا ندري ذكر اسم الله عليه أم لا فقال: " سموا أنتم وكلوا " (٢)، يفيد أن التسمية عند الأكل يجزى مع التباس وقوعها عند الذبح، وذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما وأبو حنيفة وأصحابه وإسحق بن راهويه أن التسمية إن تركت نسياناً لم يضر، وإن تركت عمداً لم يحل أكل الذبيحة، وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس والحسن البصري وأبى مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة.
واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله " (٣)، وهذا الحديث رفعه خطأ، وإنما هو من قول ابن عباس.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٣٠٣٩.
(٢) ابن كثير ٢/ ١٦٩.
(٣) ابن كثير ٢/ ١٧٠.
أما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عدي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله - ﷺ - أرأيت الرجل هنا يذبح وينسى أن يسمي، فقال النبي - ﷺ -: " اسم الله على كل مسلم " (١)، فهو حديث ضعيف قد ضعفه البيهقي وغيره.
وقال ابن عباس الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها، وقال عطاء إنها في تحريم الذبائح كانوا يذبحونها على اسم الأصنام.
(و) الضمير في (إنه لفسق) يرجع إلى " ما " بتقدير مضاف ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا، وقد تقدم تحقيق الفسق، والواو للاستئناف أو للحال، وقد استدل من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله: (وإنه لفسق) ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقاً بل الفسق الذبح لغير الله، ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعاً.
(وإن الشياطين) أي إبليس وجنوده (ليوحون إلى أوليائهم) أي يوسوسون لهم بالوساوس المخالفة للحق المباينة للصواب (ليجادلوكم) أي قاصدين بذلك أن يجادلكم هؤلاء الأولياء بما يوسوسون لهم (وإن أطعتموهم) فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه (إنكم لمشركون) مثلهم، قال الزجاج: فيه دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله أو حرم شيئاً مما أحل الله فهو مشرك وإنما سمي مشركاً لأنه أثبت. حاكماً غير الله.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ١٦٩.
(وجعلنا له نوراً) النور عبارة عن الهداية والإيمان، وقيل هو القرآن وقيل الحكمة، وقيل هو النور المذكور في قوله تعالى: (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) وقيل المراد به اليقين (يمشي) أي يستضيء (به في الناس) ويهتدي إلى قصد السبيل، والضمير في به راجع إلى النور (كمن مثله) أي صفته (في الظلمات) أي لا يستويان.
وقيل مثل زائدة، والمعنى كمن في الظلمات كما تقول أنا أكرم من مثلك أي منك، ومثله فجزاء مثل ما قتل من النعم وليس كمثله شيء وقيل المعنى كمن مثله مثل من هو في الظلمات، والمعنى كمن هو خابط في ظلمة الكفر وظلمة الجهالة وظلمة عمى البصيرة.
و (ليس بخارج منها) في محل نصب على الحال أي حال كونه ليس بخارج من تلك الظلمات بحال من الأحوال، وقيل المراد بهما حمزة وأبو جهل قاله ابن عباس، وعن زيد بن أسلم في الآية قال: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام كانا ميتين في ضلالتهما فأحيا الله عمر بالإسلام وأعزه وأقر أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا
قال عكرمة والكلبي: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل، وقال مقاتل: نزلت في النبي ﷺ وأبي جهل، والحق أن الآية عامة في حق كل مؤمن وكافر، وبه قال الحسن.
(كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) المزين هو الله سبحانه ويدل عليه قوله: (زينا لهم أعمالهم) ولأن حصول الفعل يتوقف على حصول الدواعي وحصولها لا يكون إلا بخلق الله، فدل ذلك على أن المزين هو الله سبحانه، وقالت المعتزلة: المزين هو الشيطان ويرده ما تقدم.
_________
(١) المستدرك كتاب معرفة الصحابة ٣/ ٨٣.
(ليمكروا فيها) بالصد عن الإيمان، واللام على ظاهرها أو للعاقبة أو للعلة مجازاً، قال أبو عبيدة: المكر الخديعة والغدر والحيلة والفجور، وزاد بعضهم الغيبة والنميمة والأيمان الكاذبة وترويج الباطل، قال ابن عباس: ليقولوا فيها الكذب، عن عكرمة قال: نزلت في المستهزئين، وقيل المعنى ليتجبروا على الناس فيها ويعملوا بالمعاصي، دليله (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض).
(وما يمكرون إلا بأنفسهم) المكر الحيلة في مخالفة الاستقامة وأصله الفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها أي ما يحيق هذا المكر إلا بهم لأن وبال مكرهم عائد عليهم (وما يشعرون) بذلك لفرط جهلهم.
وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة ونظيره (يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة) قال بعضهم يسن الوقف هنا ويستجاب الدعاء بين هاتين الجلالتين (قلت) لعل هذا من التجارب دون المأثورات.
فأجاب الله عنهم بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) أي أن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولاً ويكون موضعاً لها وأميناً عليها، وقد اختار أن يجعلها في محمد - ﷺ - صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم، عن ابن جريج قال: قالوا لمحمد - ﷺ - حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه من الحق: لو كان هذا حقاً لكان فينا من هو أحق أن يؤتى به من محمد، [وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم].
ثم توعدهم بقوله: (سيصيب الذين أجرموا صغار) أي ذل وهوان،
(عند الله) أي في الآخرة يوم القيامة وقيل في الدنيا (وعذاب شديد) في الآخرة أو في الدارين من القتل والأسر وعذاب النار (بما كانوا يمكرون) أي بسبب مكرهم وحسدهم.
أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن أبي جعفر المدايني رجل من بني هاشم، وليس هو محمد بن علي، قال: سئل النبي - ﷺ - عن هذه الآية وقالوا كيف شرح صدره يا رسول الله قال: نور يقذف فيه فينشرح صدره له وينفسح له، قالوا فهل لذلك من أمارة يعرف بها قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " (١)، وقد روي بطرق يقوي بعضها بعضاً والمتصل يقوي المرسل، فالمصير إلى هذا التفسير النبوي متعين.
(ومن يرد أن يضله) يصرف اختياره إليه (يجعل صدره ضيقاً) بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد يدخله الإيمان، جعل بمعنى صير أو خلق أو سمى، وهذا الثالث ذهب إليه الفارسي وغيره من معتزلة النحاة، وضيقاً بالتشديد وقرئ بالتخفيف مثل هين ولين، وهما لغتان.
(حرجاً) بالفتح جمع حرجة وهي شدة الضيق والحرجة الفيضة والجمع حريج وحرجات، ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه، وبالكسر معناه الضيق، كرر المعنى تأكيداً وحسن ذلك اختلاف اللفظ، وقال الجوهري: مكان
_________
(١) ابن كثير ٢/ ١٧٤.
وقال الكلبي: ليس للخير فيه منفذ، وقال ابن عباس: إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإذا سمع ذكر الأصنام ارتاح إلى ذلك، وفي الآية دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة الله وإرادته حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر.
(كأنما يصعد في السماء) قرئ بالتخفيف من الصعود شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء، وقرئ يصاعد، وأصله يتصاعد وقرئ يصعد بالتشديد وأصله يتصعد ومعناه يتكلف ما لا يطيق مرة بعد مرة كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء المظلة أو إلى مكان مرتفع وعر كالعقبة، وقيل المعنى على جميع القراآت كاد قلبه يصعد إلى السماء نبواً عن الإسلام وتكبراً، وقيل ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد إلى السماء، وليس يقدر على ذلك.
وقيل هو المشقة وصعوبة الأمر، وقال ابن عباس: كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء كذلك لا يقدر على أن يدخل الإيمان والتوحيد قلبه حتى يدخله الله في قلبه، ومن أراد أن يضله يضيق عليه حتى يجعل الإسلام عنه ضيقاً والإسلام واسع، وذلك حيث يقول: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) يقول ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.
(كذلك) أي مثل ذلك الجعل الذي هو جعل الصدر ضيقاً حرجاً (يجعل الله الرجس) هو في اللغة النتن وقيل هو العذاب، وقيل هو الشيطان يسلطه الله (على الذين لا يؤمنون) قاله ابن عباس: وقيل هو ما لا خير فيه، قاله مجاهد، والمعنى الأول هو المشهور في لغة العرب وهو مستعار لما يحل بهم من العقوبة، ويصدق على جميع المعاني المذكورة، وقال الزجاج: الرجس في الدنيا اللعنة وفي الآخرة العذاب.
(قد فصلنا الآيات) أي بيناها وأوضحناها (لقوم يذكرون) أي لمن يذكر ما فيها ويتفهم معانيها وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن تبعهم بإحسان.
(وهو وليهم) أي ناصرهم ومتولي إيصال الخير إليهم (بما كانوا يعملون) أي بسبب أعمالهم الصالحة التي كانوا يتقربون بها إليه في الدنيا.
(وقال أولياؤهم من الإنس) لعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين وهم الإنس دون المضلين وهم الجن للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً.
(ربنا استمتع بعضنا ببعض) أما استمتاع الجن بالإنس فهو ما تقدم من تلذذهم باتباعهم لهم، وأما استمتاع الإنس بالجن فحيث قبلوا منهم تحسين المعاصي فوقعوا فيها وتلذذوا بها، فذلك هو استلذاذهم بالجن.
وقيل استمتاع الإنس بالجن أنه كان إذا مر الرجل بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر، يعني ربه من الجن، ومنه قوله تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً) وقيل استمتاع الجن بالإنس أنهم كانوا يصدقونهم فيما يقولون من الأخبار الغيبية الباطلة، واستمتاع الإنس بالجن أنهم كانوا يتلذذون بما يلقونه إليهم من الأكاذيب والأراجيف والسحر وينالون بذلك شيئاً من حظوظ الدنيا كالكهان.
(وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) أي يوم القيامة اعترافاً منهم بالوصول إلى ما وعدهم الله به مما كانوا يكذبون به، قال الحسن والسدي: الأجل الموت، وقيل هو وقت البعث والحساب يوم القيامة، وهذا تحسر منهم على حالهم أي أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معين محدود، ثم ذهب وبقيت الحسرة والندامة.
ولما قالوا هذه المقالة أجاب الله عليهم و (قال النار مثواكم) أي موضع مقركم ومقامكم، والمثوى المقام، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر (خالدين فيها) أي مقيمين في نار جهنم أبداً (إلا ما شاء الله) المعنى الذي تقتضيه لغة
والعجب منه أنه اختار هذا التفسير مع أنه في كتابه الدر المنثور قال: إن السلف على أن الكفار لا يخرجون من النار أصلاً، قاله القاري، وقال الزجاج: إن الاستثناء يرجع إلى يوم القيامة أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب إلى حين دخولهم إلى النار، وهو تعسف لأن الاستثناء هو من الخلود الدائم ولا يصدق على من لم يدخل النار. وقيل الاستثناء راجع إلى النار أي إلا ما شاء الله من تعذيبهم بغيرها في بعض الأوقات كالزمهرير، وبه فسر النسفي والشهاب وزاده الآية.
وقيل الاستثناء لأهل الإيمان و (ما) بمعنى من أي إلا من شاء الله إيمانه فإنه لا يدخل النار، وبه قال ابن عباس كما حكاه الجمهور، وبه قال الكرخي، وقيل المعنى إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب.
وكل هذه التأويلات متكلفة والذي ألجأ إليها ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من خلود الكفار في النار أبداً، ولكن لا تعارض بين عام وخاص لا سيما بعد وروده في القرآن مكرراً كما سيأتي في سورة هود (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) ولعله يأتي هنالك إن شاء الله تعالى زيادة تحقيق.
قال ابن عباس: في هذه الآية إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه أن لا ينزل لهم جنة ولا ناراً، وقد أوضح المقام الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه حادي الأرواح فليرجع إليه.
(إن ربك حكيم) أي في تدبير خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال وغير ذلك من أفعاله (عليم) بعواقب أمور خلقه وما هم إليه صائرون.
وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجباً وقيل معنى نولي نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، وقال قتادة: المعنى المؤمن ولي المؤمن حيث كان وأين كان، والكافر ولي الكافر حيث كان وأين كان، وقال ابن عباس في الآية: أن الله إذا أراد بقوم خيراً ولي عليهم خيارهم وإذا أراد بقوم شراً ولى عليهم شرارهم.
(بما كانوا يكسبون) الباء للسببية أي بسبب كسبهم الذنوب ولينا بعضهم بعضاً قال قتادة: يولي الله بعض الظالمين بعضاً في الدنيا، ويتبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة، وقال الأعمش سمعتهم يقولون إذا فسد الزمان أمر عليهم شرارهم.
وقيل: إنه من باب تغليب الإنس على الجن كما يغلب الذكر على الأنثى، وبه قال الفراء والزجاج، وقيل المراد بالرسل إلى الجن ههنا النذر منهم كما في قوله (ولوا إلى قومهم منذرين) عن مجاهد قال: ليس في الجن رسل إنما الرسالة في الإنس، والنذارة في الجن، ونحو ذلك قال ابن جريج وأبو عبيدة، وقيل التقدير رسل من أحدكم يعني من جنس الإنس.
والحاصل أن الخطاب للإنس وإن تناولهما اللفظ فالمراد أحدهما كقوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من الملح دون العذب، وقال تعالى: (وجعل القمر فيهن نوراً) وإنما هو في سماء واحدة.
(يقصون عليكم آياتي) أي يقرأون كتبي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي ويتلونها مع التوضيح والتبيين، والقاص من يأتي بالقصة، وقد تقدم بيان معنى القص (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) وهو يوم القيامة، يقول الله ذلك لهم تقريعاً وتوبيخاً.
(قالوا) أي كفار الإنس والجن (شهدنا على أنفسنا) هذا إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم بإرسال رسله إليهم، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر (وغرتهم الحياة الدنيا) جملة معترضة أي لذاتها ومالوا إليها فكانت عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة عليهم بالكفر.
وقيل المعنى ما كان الله مهلك أهل القرى بظلم منه فهو سبحانه يتعالى عن الظلم، بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء وقيل المعنى أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك فهو مثل قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
وفيه دليل على أن المطيع من الجن في الجنة والعاصي في النار، قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، وعن ليث ابن أبي سليم قال: مسلمو الجن لا يدخلون الجنة ولا النار، وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده.
وعن ابن عباس قال: الخلق أربعة فخلق في الجنة كلهم وخلق في النار كلهم وخلقان في الجنة والنار، فأما الذين في الجنة كلهم فالملائكة، وأما الذين في النار كلهم فالشياطين، وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجن لهم الثواب وعليهم العقاب (وما ربك بغافل عما يعملون) من أعمال الخير والشر والغفلة ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره، قيل هذا مختص بأهل الكفر والمعاصي، ففيه وعيد وتهديد لهم، والأولى شموله لكل المعلومات على التفصيل التام.
(إن يشا يذهبكم) أيها العباد العصاة فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك، وقيل الخطاب لأهل مكة ففيه وعيد وتهديد لهم، والعموم أولى ويدخل فيه أهل مكة دخولاً أولياً (ويستخلف) أي ينشئ ويوجد (من بعدكم) أي بعد إهلاككم (ما يشاء) من خلقه ممن هم أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) أي من نسل قوم لم يكونوا على مثل صفتكم بل كانوا طائعين، قيل هم أهل سفينة نوح وذريتهم من بعدهم من القرون إلى زمنكم.
قال الواحدي والزمخشري: ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم ولا استخلف غيرهم رحمة لهم ولطفاً بهم، وقال الرازي: المراد منه خلق ثالث أو رابع، واختلفوا فيه فقيل خلقاً آخر من أمثال الجن والإنس.
قال القاضي: وهو الوجه الأقرب فكأنه نبه أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس، وقال الطبري: المعنى كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم، (والذرية الأصل) والنسل قاله أبان ابن عثمان.
والمراد بيان دوام انتفاء الإعجاز لا بيان انتفاء دوامه فإن الجملة الاسمية كما تدل على دوام الثبوت كذلك تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرف النفي على دوام الانتفاء لا على انتفاء الدوام كما حقق في موضعه قاله الكرخي.
(قل يا قوم) من كفار قريش (اعملوا على مكانتكم) المكانة الطريقة أي اثبتوا على ما أنتم عليه فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم، وقيل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى قدرتكم واستطاعتكم وإمكانكم، قاله الزجاج، وقال ابن عباس: على ناحيتكم وجهتكم.
والمقصود من هذا الأمر الوعيد والتهديد والمبالغة في الزجر عما هم عليه، فهو كقوله:
(اعملوا ما شئتم) فلا يرد ما يقال كيف يأمركم بالثبات على الكفر.
(إني عامل) على مكانتي أي ثابت على ما أنا عليه (فسوف) لتأكيد مضمون الجملة وهذه الجملة تعليل لما قبلها.
(تعلمون) أي تعرفون عند نزول العذاب بكم أو غداً يوم القيامة.
(من تكون له عاقبة الدار) وهي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها أي من له النصر في دار الدنيا ومن له وراثة الأرض ومن له الدار الآخرة، ومن هو على الحق ومن هو على الباطل، نحن أم أنتم، وفيه مع الإنذار إنصاف في المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره.
(وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً) هذا بيان نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وإيثارهم لآلهتهم على الله سبحانه أي جعلوا لله سبحانه مما خلق من حرثهم ونتاج دوابهم وهي الإبل والبقر والغنم نصيباً ولآلهتهم نصيباً من ذلك أي قسماً يصرفونه في سدنتها والقائمين بخدمتها، فإذا ذهب ما لآلهتهم بأنفاقه في ذلك عوضوا عنه ما جعلوه لله قالوا الله غني عن ذلك.
وعن ابن عباس قال: جعلوا لله من ثمارهم ومائهم نصيباً وللشيطان والأوثان نصيباً فإن سقط من ثمره ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله ردوه إلى نصيب الشيطان، وإن انفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه وإن انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله نزحوه، فهذا ما جعلوا لله من الحرث وسقي الماء وأما ما جعلوه للشيطان من الأنعام فهو قول الله (ما جعل الله من بحيرة) الآية.
وقال مجاهد: جعلوا لله جزءاً ولشركائهم جزءاً فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني، وما ذهبت به الريح من أجزاء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه، والأنعام التي سمى الله البحيرة والسائبة.
(فقالوا هذا لله بزعمهم) الزعم الكذب وقرئ بضم الزاي وبفتحها وهما لغتان وإنما نسبوا للكذب في هذه المقالة مع أن كل شيء لله لأن هذا الجعل لم يأمرهم الله به فهو مجرد اختراع منهم، قال الأزهري: وأكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه ولا يتحقق قال بعضهم هو كناية عن الكذب.
(وهذا لشركائنا) أي الأصنام (فما كان لشركائهم) أي ما جعلوه لها من الحرث والأنعام (فلا يصل إلى الله) أي إلى المصارف التي شرع الله الصرف فيها كالصدقة وصلة الرحم وقراء الضيف (وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) أي يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها (ساء ما يحكمون) أي حكمهم في إيثارهم آلهتهم على الله سبحانه ورجحان جانب الأصنام على جانب الله تعالى في الرعاية والحفاظة، وهذا سفه منهم.
وقيل معنى الآية أنهم كانوا إذا ذبحوا ما جعلوه لله ذكروا عليه اسم أصنامهم، وإذا ذبحوا ما لأصنامهم لم يذكروا عليه اسم الله فهذا معنى الوصول إلى الله والوصول إلى شركائهم (١).
_________
(١) وكانوا إذا زكا ما لله، ولم يزك ما لشركائهم، ردوا الزاكي على أصنامهم، وقالوا: هذه أحوج، والله غني؛ وإذا زكا ما للأصنام، ولم يترك ما لله، أقروه على ما به.
قال المفسرون: وكانوا يصرفون ما جعلوا لله إلى الضيفان والمساكين. فمعنى قوله:
(فلا يصل إلى الله) أي: إلى هؤلاء ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على خُدامها. نصيبها في الأنعام، ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كان للنفقة عليها أيضاً والثاني: أنهم كانوا يتقربون به، فيذبحونه لها.
والثالث: أنه البحيرة، والسائبة- والوصيلة، والحام.
قرئ زين بالبناء للفاعل ونصب قتل ورفع شركاؤهم على أنه فاعل زين، وقرئ بضم الزاي، ورفع قتل وخفض أولاد ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه زين كأنه لما قيل زين لهم الخ قيل من زينه فقيل زينه شركاؤهم وقرئ بضم الزاي ورفع قتل ونصب أولاد وخفض شركاؤهم بإضافة القتل إليه مفصولاً بين المصدر وما هو مضاف إليه بالمفعول.
قال النحاس: إن هذه القراءة لا تجوز في كلام ولا في شعر وهي بعيدة، وفي القرآن أبعد، وقال ابن حمدان النحوي: هي زلة عالم لم يجز اتباعه، وقال قوم ممن انتصر لهذه القراءة إنها إذا ثبتت بالتواتر عن النبي - ﷺ - فهي فصيحة لا قبيحة، قالوا وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان شركائهم بالياء.
وفي الآية قراءة رابعة وهي جر الأولاد والشركاء، ووجه ذلك أن الشركاء بدل من الأولاد لكونهم شركاءهم في النسب والميراث.
(ليردوهم) من الإرداء وهو الإهلاك أي فعلوا ذلك التزيين لإهلاكهم (وليلبسوا عليهم دينهم) أي يخلطوه عليهم، قال ابن عباس: ليدخلوا عليهم الشك في دينهم، وكانوا على دين إسمعيل فرجعوا عنه بتلبيس الشياطين (ولو شاء الله) عدم فعلهم (ما فعلوه) أي ذلك الفعل الذي زين لهم من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وإذا كان ذلك بمشيئة الله (فذرهم وما يفترون) أي فدعهم وافتراءهم فذلك لا يضر، والفاء فاء الفصيحة.
(افتراء عليه) أي اختلاقاً وكذباً على الله سبحانه، نصب على العلة والجار متعلق به والتقدير قالوا ما تقدم لأجل الافتراء على الباري، وهو مذهب سيبويه، وهذا أظهر، وقال الزجاج: هو مصدر على غير المصدر لأن قوله المحكى عنهم افتراء فهو نظير قعد القرفصاء، وقيل: إنه مصدر عامله من لفظه مقدر أي افتروا ذلك افتراء، وقيل قالوا ذلك حال افترائهم وهي تشبه الحال المؤكدة.
(سيجزيهم بما كانوا يفترون) أي بافترائهم أو بالذي يفترونه، وفيه وعيد وتهديد لهم.
ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم فقال:
(ومحرم على) جنس (أزواجنا) وهي النساء فيدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهن وتذكير محرم باعتبار لفظ ما (وإن يكن) أي الذي في بطون الأنعام (ميتة فهم فيه) أي في الذي في البطون (شركاء) يأكل منه الذكور والإناث (سيجزيهم) الله (وصفهم) أي بوصفهم الكذب على الله، وقيل المعنى سيجزيهم جزاء وصفهم (إنه حكيم عليم) فلأجل حكمته وعلمه لا يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة.
ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم فقال:
(قد ضلوا) عن طريق الصواب والرشاد بهذه الأفعال (وما كانوا مهتدين) إلى الحق ولا هم من أهل الاستعداد لذلك، قال ابن عباس: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (قد خسر الذين) الآية أخرجه البخاري.
(وهو الذي أنشأ) أي خلق (جنات) بساتين، وهذا تذكير لهم ببديع قدرة الله وعظيم صنعه (معروشات) مرفوعات ممسوكات على الأعمدة (وغير معروشات) غير مرفوعات عليها، وقيل المعروشات ما انبسط على وجه الأرض مما يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ، وغير العروشات ما قام على ساق مثل النخل والزرع وسائر الأشجار.
وقال الضحاك: كلاهما في الكرم خاصة لأن منه ما يعرش ومنه ما لا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطاً، وقيل العروشات ما أنبته الناس وغرسوه، وغير العروشات ما نبت في البراري والجبال من الثمار، قاله ابن عباس، وقال قتادة: معروشات بالعيدان والقصب، وغير معروشات الضاحي، وأصل العرش في اللغة شيء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً وعرشته تعريشاً إذا جعلته كهيئة السقف، واعترش العنب العريش إذ علاه وركبه.
(و) أنشأ (النخل والزرع) وهو جميع الحبوب التي تقتات وتدخر، وخصهما بالذكر مع دخولهما في الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات حال كونه (مختلفاً أكله) أي أكل كل واحد منهما في الطعم والجودة
قال الزجاج: وهذه مسألة مشكلة في النحو، يعني انتصاب مختلفاً على الحال لأنه يقال قد أنشاها ولم يختلف أكلها، فالجواب أن الله سبحانه أنشأها مقدراً فيها الاختلاف، وهذه هي الحال المقدرة المشهورة عند النحاة المدونه في كتب النحو، وقال مختلفاً أكله ولم يقل أكلهما اكتفاء بإعادة الذكر على أحدهما كقوله: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) أو الضمير بمنزلة اسم الإشارة أي أكل ذلك.
(و) أنشأ (الزيتون والرمان) حال كونهما (متشابها) ورقهما في المنظر (وغير متشابه) في المطعم وقد تقدم الكلام على تفسير هذا (كلوا من ثمره) أي من ثمر كل واحد منهما أو من ثمر ذلك (إذا أثمر) أي إذا حصل فيه الثمر وإن لم يدرك ويبلغ حد الحصاد، وهذا أمر إباحة وبه تمسك بعضهم فقال الأمر قد يرد لغير الوجوب، لأن هذه الصيغة مفيدة لدفع الحرج وقيل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الواجب، وقيل المعنى ليعلم أن المقصود من خلق هذه الأشياء هو الأكل، وقيل ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم إنه لا يباح إلا إذا أدرك.
(وآتوا حقه يوم حصاده) أي جذاذه وقطعه، قرئ بفتح الحاء وكسرها وهما لغتان في المصدر كقولهم جذاذ وجذاذ وقطاف وقطاف، قال سيبويه: جاءوا بالمصدر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال، وربما قالوا فيه فعال يعني أن هذا مصدر خاص دال على معنى زائد على مطلق المصدر، فإن المصدر الأصلي إنما هو الحصد، والحصد ليس فيه دلالة على انتهاء زمان ولا عدمها بخلاف الحصاد والحصاد.
وقد اختلف أهل العلم هل الآية محكمة أو منسوخة أو محمولة على
ويؤيده أن هذه الآية مكية، وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف، قال ابن عباس: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن.
وقالت طائفة من العلماء أن الآية محمولة على الندب لا على الوجوب، وأخرج ابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي - ﷺ - في هذه الآية قال: " ما سقط من السنبل " وقال ابن عمر كانوا يعطون من اعتراهم شيئاً سوى الصدقة، وعن مجاهد قال: إذا حصدت فحضرك المساكين فأطرح لهم من السنبل.
وقال ميمون بن مهران ويزيد بن الأصم: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجيء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه فهو قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) وقال حماد بن أبي سليمان في الآية: كانوا يطعمون منه رطباً، وأخرج أحمد وأبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله أن النبي - ﷺ - أمر من كل حادي عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين وإسناده جيد، وقال ابن عباس: أيضاً نسخها العشر ونصف العشر وعن السدي نحوه، وقال الشعبي: إن في المال حقاً سوى الزكاة وعن أبي العالية قال ما كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة.
وقال علي بن الحسن وعطاء ومجاهد وحماد: هو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع والتمر، وقال سعيد بن جبير: كان هذا حقاً يؤمر بإخراجه في
ثم إنهم تبادروا وأسرفوا فأنزل الله (ولا تسرفوا) أي في التصدق بإعطاء كله، وأصل الإسراف في اللغة الخطأ والإسراف في النفقة التبذير، وقال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف وإن كان قليلاً، قال السدي: معناه لا تعطوا أموالكم وتقعدوا فقراء.
قال الزجاج: وعلى هذا لو أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف، لأنه قد صح في الحديث ابدأ بمن تعول، وقال سعيد بن المسيب: معناه لا تمنعوا الصدقة أي لا تجاوزوا الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة.
وعلى هذين القولين المراد بالإسراف مجاوزة الحد إلا أن الأول في البذل والإعطاء، والثاني في الإمساك والبخل، وقال مقاتل: معناه لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام، وقال الزهري: لا تنفقوا في معصية الله، وقال ابن زيد: هو خطاب للولاة يقول لهم لا تأخذوا فوق حقكم من رب المال، وقيل المعنى لا تأخذوا الشيء بغير حقه وتضعونه في غير مستحقه.
(إنه لا يحب المسرفين) اعتراض وفيه وعيد وزجر عن الإسراف في كل شيء لأن من لا يحبه الله فهو من أهل النار، وعن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جد نخلا فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليس له تمرة فأنزل الله هذه الآية وعن مجاهد قال: لو أنفقت مثل أبي قيس ذهباً في طاعة الله لم يكن إسرافاً ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان إسرافاً، وللسلف في هذا مقالات طويلة.
(و) أنشأ لكم (من الأنعام) شروع في تفصيل حال الأنعام وإبطال ما تقولوا في شأنها بالتحريم والتحليل (حمولة وفرشاً) الحمولة هي كل ما يحمل عليها واختصت بالإبل فهي فعولة بمعنى فاعلة، والفرش ما يتخذ من الوبر والصوف والشعر فراشاً يفرشه الناس، وقيل الحمولة الإبل، والفرش الغنم، وقيل هي كل ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، والفرش الغنم، وهذا لا يتم إلا على فرض صحة إطلاق اسم الأنعام على جميع هذه المذكورات.
قال ابن مسعود: الفرش صغار الإبل التي لا تحمل، وبه قال ابن عباس: وزاد الحمولة ما حمل عليه والفرش ما أكل منه، قال أبو العالية: الفرش الضأن والمعز قيل سمي فرشاً لأنه يفرش للذبح ولأنه قريب من الأرض لصغره، قال الزجاج: أجمع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل، قال أبو زيد: يحتمل أن يكون تسمية بالمصدر لأن الفرش في الأصل مصدر والفرش لفظ مشترك بين معان كثيرة منها ما تقدم ومنها متاع البيت والفضاء الواسع واتساع خف البعير قليلاً والأرض الملساء ونبات يلتصق بالأرض.
(كلوا مما رزقكم الله) من الثمار والزرع والأنعام وأحلها لكم (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) أي طرقه وآثاره كما فعل المشركون وأهل الجاهلية من تحريم ما لم يحرمه الله وتحليل ما لم يحلله (إنه) أي الشيطان (لكم عدو مبين) مظهر للعداوة ومكاشف بها.
ثم بين الحمولة والفرش فقال: (ثمانية أزواج) اختلف في انتصاب ثمانية على ماذا قال الكسائي بفعل مضمر أي وأنشأ ثمانية أصناف، وقال الأخفش سعيد: هو منصوب على البدل من حمولة وفرشاً، وقال الأخفش: على هو منصوب بكلوا أي كلوا لحم ثمانية، وقيل منصوب على أنه بدل من ما في (مما رزقكم الله).
والزوج خلاف الفرد يقال: زوج أو فرد كما يقال شفع أو وتر، يعني ثمانية أفراد، وإنما سمي الفرد زوجاً في هذه الآية لأن كل واحد من الذكر والأنثى زوج بالنسبة إلى الآخر، ويقع لفظ الزوج على الواحد فيقال هما زوج وهو زوج وتقول اشتريت زوجي حمام أي ذكراً وانثى والحاصل أن الواحد إذا كان منفرداً سواء كان ذكراً أو أنثى قيل له فرد، وإن كان الذكر مع أنثى من جنسه قيل لهما زوج ولكل واحد منهما على إنفراده زوج، ويقال لهما أيضاً زوجان ومنه قوله تعالى: (وجعل منه الزوجين الذكر والأنثى).
(من الضأن) أي ذوات الصوف من الغنم وهو جمع ضائن ويقال للأنثى ضائنة والجمع ضوائن، وقيل هو جمع لا واحد، وقيل اسم جمع، وقيل في جمعه ضئين كعبد وعبيد، قال النحاس: الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان.
(اثنين) أي الذكر والأنثى يعني الكبش والنعجة (ومن المعز اثنين) أي الذكر والأنثى يعني التيس والعنز، فالتيس للذكر والعنز للأنثى إذا أتى عليها حول والمعز من الغنم خلاف الضأن وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس لا واحد من لفظه، وواحد المعز ماعز مثل صحب
والمراد من هذه الآية أن الله سبحانه بين حال الأنعام وتفاصيلها إلى الأقسام المذكورة توضيحاً للامتنان بها على عباده، ودفعاً لما كانت الجاهلية تزعمه من تحليل بعضها وتحريم بعض، تقولاً على الله سبحانه وافتراء عليه.
عن ابن عباس قال: الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز، أخرجه البيهقي وابن جرير وغيرهما، وليت شعري ما فائدة نقل هذا الكلام عن ابن عباس من مثل هؤلاء الأئمة فإنه لا يتعلق به فائدة، وكون الأزواج الثمانية هي المذكورة هو هكذا في الآية مصرحاً به تصريحاً لا لبس فيه.
قال أبو السعود: وهذه الأزواج الأربعة تفصيل للفرش، ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى: (كلوا مما رزقكم الله) من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها.
(قل) يا محمد لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى ونسب ذلك إلى الله (آلذكرين حرم أم الأنثيين) منهما (أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) منهما المراد بالذكرين الكبش والتيس، وبالأنثيين النعجة والعنز، وانتصاب الذكرين بحرم، والأنثيين معطوف عليه منصوب بناصبه والهمزة للإنكار، والمعنى الإنكار على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها، وقولهم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، أي قل لهم إن كان حرم المذكور، فكل ذكر حرام وإن كان حرم الإناث فكل أنثى حرام وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين يعني من الضأن والمعز فكل مولود حرام ذكراً كان أو أنثى وكلها مولود فيستلزم أن كلها حرام.
(نبئوني) أي أخبروني (بعلم) لا بجهل عن كيفية تحريم ذلك وفسروا
لي ما حرمتم والمراد من هذا التبكيت لهم والتعجيز وإلزام الحجة لأنه يعلم أنه لا علم عندهم (إن كنتم صادقين) في أن الله حرم ذلك عليكم.
وهكذا الكلام في قوله: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) هذه أربعة أزواج أخر بقية الثمانية، قال الشوكاني: وينبغي أن ينظر في وجه تقديم المعز والضأن على الإبل والبقر مع كون الإبل والبقر أكثر نفعاً وأكبر أجساماً وأعود فائدة لا سيما في الحمولة والفرش اللذين وقع الإبدال منهما على ما هو الوجه الأوضح في إعراب ثمانية.
(قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) قال ليث بن أبي سليم: الجاموس والبختي من الأزواج الثمانية.
وفي هاتين الآيتين تقريع وتوبيخ من الله لأهل الجاهلية بتحريمهم ما لم يحرمه الله، وذكر الرازي وجهين آخرين في معنى هذه الآية ونسبهما إلى نفسه فقال: إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم بل هو استفهام على سبيل الإنكار، يعني أنكم لا تقرون بنبوة نبي ولا تعترفون بشريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم.
والوجه الثاني أنكم حكمتم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام مخصوصاً بالإبل فالله تعالى بين أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة، وهي الضأن والمعز والبقر والإبل، فَلِمَ لم تحكموا بهذه الأحكام في هذه الأنواع الثلاثة وهي
(أم) هي المنقطعة بمعنى بل، والاستفهام للإنكار أي بل (كنتم شهداء) حاضرين مشاهدين (إذ) أي وقت أن (وصاكم الله) في زعمكم (بهذا) التحريم والمراد التبكيت والإلزام بالحجة كما سلف قبله (فمن) أي لا أحد (أظلم ممن افترى على الله كذباً) فحرم شيئاً لم يحرمه الله ونسب ذلك إليه افتراء عليه كما فعله كبراء المشركين (ليضل) اللام للعلة أي لأجل أن يضل (الناس بغير علم) أي بجهل أو افتراء عليه جاهلاً بصدور التحريم، وإنما وصفوا بعدم العلم بذلك مع أنهم عالمون بعدم صدوره عنه إيذاناً بخروجهم في الظلم عن حدود النهايات.
(إن الله لا يهدي القوم الظالمين) على العموم وهؤلاء المذكورون في السياق داخلون في ذلك دخولاً أولياً، ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقهم أو ابتدع شيئاً لم يأمر الله به ولا رسوله ونسب ذلك إلى الله، لأن اللفظ عام فلا وجه للتخصيص، فكل من أدخل في دين الله ما ليس فيه فهو داخل في هذا الوعيد.
(قل لا أجد فيما أوحي إلي) أي القرآن وفيه إيذان بأن مناط الحل والحرمة هو النقل لا محض العقل، ومعنى (محرماً على طاعم) أي أيُّ طاعم كان من ذكر أو أنثى، فهذا رد لقولهم: (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا).
وفي (يطعمه) زيادة تأكيد وتقرير لما قبله، قال طاووس: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويحلون أشياء فنزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا هذه الآية وقال: ما خلا هذا فهو حلال، وعن الشعبي أنه سئل عن لحم الفيل والأسد فتلا هذه الآية.
والمعنى أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرماً غير هذه المذكورات، فدل ذلك على انحصار المحرمات فيها لولا أنها مكية، وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب ونحو ذلك وأحاديثها مستوفاة في كتب الحديث.
وبالجملة فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات كما يدل عليه السياق ويفيده الإستثناء فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو
وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروي ذلك عن مالك وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرها مما نزل بعدها من القرآن وإهمال ما صح عن النبي ﷺ أنه قاله بعد نزول هذه الآية بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه.
أخرج البخاري وأبو داود وابن المنذر عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة عن رسول الله ﷺ لكن أبى ذلك البحر ابن عباس وقرأ (قل لا أجد) الآية.
وأقول وإن أبى ذلك البحر ابن عباس فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف.
(إلا) منقطع قاله المكي والسيوطي، وظاهر كلام الزمخشري أنه متصل، وإليه نحا السمين (أن يكون) ذلك الشيء المحرم أو ذلك الطعام أو العين أو الجثة أو النفس (ميتة) وقرئ يكون بالتحتية والفوقية، وميتة بالرفع على أن كان تامة والمراد بالميتة هنا ما مات بنفسه لأجل عطف قوله (أو فسقاً) فإنه من أفراد الميتة شرعاً.
وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه
(أو دماً مسفوحاً) أي جارياً سائلاً مصبوباً وغير المسفوح معفو عنه كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح ومنه الكبد والطحال، وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم، وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا، والسفح الصب وقيل السيلان وهو قريب من الأول، وسفح يستعمل قاصراً ومتعدياً، يقال سفح زيد دمعه ودمه أي إهراقه، وسفح هو إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر ففي المتعدي، يقال سفح وفي اللازم يقال سفوح، ومن المتعدي قوله تعالى: (أو دماً مسفوحاً) فإن اسم المفعول التام لا يبنى إلا من متعد، ومن اللازم ما أنشده أبو عبيدة لكثير عزة.
أقول ودمعي واكف عند رسمها | عليك سلام الله والدمع يسفح |
_________
(١) جلدها.
(٢) روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي ثعلبة قال. " حرم رسول الله - ﷺ - لحوم الحمر الأهلية " وزاد أحمد " ولحم كل ذي ناب من السباع " وقد صح النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية من حديث البراء بن عازب، وابن عمر، وأبي هريرة، وزاهر الأسلمي، وابن أبي أوفى. وروى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن ابن عباس قال: " نهى رسول الله - ﷺ - عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير " وروى مسلم في " صحيحه " ٣/ ١٥٣٤ عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - قال: " كل ذي ناب من السباع حرام ". ابن كثير، ٢/ ١٨٤.
وقيل يجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له لأهل أي أهل به لغير الله فسقاً على عطف أهل على يكون وهو تكلف لا حاجة إليه، وقيل ذا فسق أي معصية فهذا من قبيل المبالغة على حد زيد عدل، وفي زاده جعل العين المحرمة عين الفسق مبالغة في كون تناولها فسقاً، وقيل إنه منصوب عطفاً على محل المستثنى أي إلا أن يكون ميتة أو إلا فسقاً.
(فمن اضطر) أي فمن أصابته ضرورة داعية إلى أكل شيء مما ذكر حال كونه (غير باغ) على مضطر آخر مثله تارك لمواساته أو على المسلمين (ولا عاد) متجاوز قدر حاجته من تناوله أو عليهم بقطع الطريق (فإن ربك غفور رحيم) أي كثير المغفرة والرحمة فلا يؤاخذ المضطر بما دعت إليه ضرورته، وقد تقدم تفسيره في البقرة فلا نعيده.
والأولى حمل الظفر على ما يصدق عليه اسم الظفر في لغة العرب لأن هذا التعميم يأباه ما سيأتي من قوله: (ومن البقر والغنم) فإن كان في لغة العرب بحيث يقال على البقر والغنم كان ذكرهما من بعد تخصيصاً آخر، حرم الله ذلك عليهم عقوبة لهم على ما وقعوا فيه من الظلم كما قال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم).
عن ابن عباس قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع من البهائم والطير يعني مشقوقها كالبعير والنعامة ونحو ذلك من الدواب، وقال مجاهد: هو كل شيء لم ينفرج قوائمه من البهائم، وما انفرج أكلته اليهود، قال انفرجت قوائم الدجاج والعصافير فيهود تأكله، ولم ينفرج خف البعير ولا النعامة ولا قائمة الوزينة فلا تأكلها اليهود ولا تأكل حمار الوحش، وفي الظفر لغات خمس ذكرها السمين أعلاها بضم الظاء والفاء وهي قراءة العامة.
(إلا ما حملت ظهورهما) أي ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما من الشحم، استثنى الله سبحانه من الشحوم هذا الشحم فإنه لم يحرمه عليهم، وقال السدي وأبو صالح: الإلية مما حملت ظهورهما وهذا مختص بالغنم لأن البقر ليس لها إلية.
(أو) حملت (الحوايا) أي الأمعاء وهي المباعر التي يجتمع فيها البعر، فما حملته هذه من الشحم غير حرام عليهم، وبه قال جمهور المفسرين وهو قول ابن عباس، وواحدها حاوية مثل ضاربة وضوارب وقيل: واحدهما حاوِياء، مثل قاصعاء وقواصع وقيل حوية كسفينة وسفائن، قال الفارسي: يصح أن يكون جمعاً لكل من الثلاثة، وقال أبو عبيدة: الحوايا ما تحوي من البطن أي استدار وهي متحوية أي مستديرة وقيل الحوايا خزائن اللبن وهي تتصل بالمباعر وقيل الأمعاء التي عليها الشحوم.
(أو ما اختلط بعظم) فإنه غير محرم، قال الكسائي والفراء وثعلب معطوف على ما في (ما حملت) وقيل على الشحوم ولا وجه لهذا التكلف ولا موجب له، لأنه يكون المعنى أن الله حرم عليهم إحدى هذه المذكورات، والمراد بما اختلط ما لصق بالعظام من الشحوم في جميع مواضع الحيوان من الجنب والرأس والعين، ومنه الإلية فإنها لاصقة بعجب الذنب.
عن ابن عباس قال: ما اختلط من شحم الإلية بالعصعص فهو حلال،
(ذلك) التحريم المدلول عليه بحرمنا، وقيل الإشارة إلى الجزاء المدلول عليه بقوله (جزيناهم) وهو تحريم ما حرمه الله عليهم (ببغيهم) أي بسبب بغيهم وظلمهم كما سبق في سورة النساء من قوله (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله) إلى أن قال (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات) فكانوا كلما ارتكبوا معصية من هذه المعاصي عوقبوا بتحريم شيء مما أحلهم، وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم قبلهم.
(وإنا لصادقون) في كل ما نخبر به، ومن جملة ذلك هذا الخبر وهو موجود عندهم في التوراة ونصها حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وكل دابة ليست مشقوقة الحافر وكل حوت ليس فيه شقاشق أي بياض انتهى.
وقيل المراد لا يرد بأسه في الآخرة والأول أولى، فإنه سبحانه قد عاجلهم بعقوبات منها تحريم الطيبات عليهم في الدنيا، والمجرمون هم اليهود أو الكفار، وإنما قال ذلك نفياً للاغترار بسعة رحمته في الاجتراء على معصيته، ولئلا يغتروا برجاء رحمته عن خوف نقمته، وذلك أبلغ في التهديد.
(ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) أي ما أشركوا هم ولا آباؤهم ولا حرموا شيئاً من الأنعام كالبحيرة ونحوها، وظنوا أن هذا القول يخلصهم عن الحجة التي ألزمهم بها رسول الله - ﷺ - وأن ما فعلوه حق، ولو لم يكن حقاً لأرسل الله إلى آبائهم الذين ماتوا على الشرك وعلى تحريم ما لم يحرمه الله رسلاً يأمرونهم بترك الشرك وبترك التحريم لما لم يحرمه الله والتحليل لما لم يحلله.
(كذلك) أي مثل ما كذب هؤلاء (كذب الذين من قبلهم) من كفار الأمم الخالية ومن المشركين أنبياء الله (حتى ذاقوا بأسنا) أي استمروا على التكذيب حتى ذاقوا عذابنا الذي أنزلناه بهم، وقد تمسك القدرية والمعتزلة بهذه الآية ولا دليل لهم في ذلك على مذهب الجبر والاعتزال، لأن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته ولا يلزم من ثبوت المشيئة دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام.
(قل هل عندكم من علم) أمره الله أن يقول لهم هل عندكم دليل صحيح يعد من العلم النافع وحجة وكتاب يوجب اليقين بأن الله راض بذلك
ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم فقال: (إن تتبعون إلا الظن) الذي هو محل الخطأ ومكان الجهل (وإن أنتم إلا تخرصون) أي تتوهمون مجرد توهم فقط كما يتوهم الخارص وتقولون على الله الباطل وقد سبق تحقيقه.
(فلو شاء) هدايتكم جميعاً إلى الحجة البالغة (لهداكم أجمعين) ولكنه لم يشأ ذلك ومثله قوله: (ولو شاء الله ما أشركوا، وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) ومثله كثير فالمنتفى في الخارج مشيئة هداية الكل، وإلا فقد هدى بعضهم.
وعن ابن عباس أنه قيل له: إن أناساً يقولون ليس الشر بقدر، فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية والعجز والكيس من القدر، وقال علي بن زيد انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية قل فلله الحجة إلى قوله أجمعين.
وقال غيره أصلها هل زيدت عليه الميم، وفي كتاب العين للخليل أن أصلها هل أؤم أي هل أقصدك، ثم كثر استعمالهم لها، وهذا أيضاً من باب التبكيت لهم حيث يأمرهم بإحضار الشهود على أن الله حرم تلك الأشياء مع علمه أنه لا شهود لهم لتلزمهم الحجة، ويظهر ضلالهم، وأنه لا متمسك لهم سوى تقليدهم، ولذلك قيد الشهداء بالإضافة إليهم الدالة على أنهم شهداء معروفون بالشهادة لهم وهم قدوتهم الذين ينصرون قولهم.
(فإن شهدوا) لهم بغير علم بل مجازفة وتعصباً (فلا تشهد معهم) أي فلا تصدقهم ولا تسلم لهم (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا) فإنهم رأس المكذبين بها (و) لا تتبع أهواء (الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون) أي يجعلون له عدلاً من مخلوقاته كالأوثان ويشركون.
(قل تعالوا) أي تقدموا، قال ابن الشجري: إن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعداً فقيل له: تعال أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي، وهكذا، قال الزمخشري في الكشاف إنه من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عم.
(أتل ما حرم ربكم) أتل جواب الأمر، وما موصولة في محل نصب به والمراد من تلاوة ما حرم الله تلاوة الآيات المشتملة عليه، ويجوز أن يكون (ما) مصدرية أي أتل تحريم ربكم والمعنى ما اشتمل على التحريم، قيل ويجوز أن تكون (ما) استفهامية أي أتل أي شيء حرم ربكم؟ على جعل التلاوة بمعنى القول وهو ضعيف جداً، (عليكم) إن تعلق بأتل فالمعنى أتل عليكم الذي حرم ربكم وهو اختيار الكوفيين، وإن تعلق بحرم فالمعنى أتل الذي حرم ربكم عليكم وهو اختيار البصريين، وهذا أولى لأن المقام مقام بيان ما هو محرم عليهم لا مقام بيان ما هو محرم مطلقاً.
(أن لا تشركوا به شيئاً) إن مفسرة لفعل التلاوة المعلق بما حرم ولا ناهية وهذا وجه ظاهر لأمور من جملتها أن في إخراج المفسر على صورة النهي مبالغة في بيان التحريم وهو اختيار الفراء، وقيل (أن) ناصبة ومحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء، وقيل النصب على البدلية مما حرم، والمعنى على الإغراء الزموا نفي الإشراك وعدمه.
وهذا وإن كان ذكره جماعة كما نقله ابن الأنباري ضعيف لتفكيك
وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - ﷺ -: " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث، ثم تلا (قل تعالوا) إلى ثلاث آيات، ثم قال فمن وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهم شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه " (١).
وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن المنذر عن كعب الأحبار قال: أول ما أنزل في التوراة عشر آيات وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام (قل تعالوا) إلى آخرها.
وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله ابن عدي بن الخيار قال: سمع كعب رجلاً يقرأ (قل تعالوا) الخ فقال كعب والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر الآيات انتهى.
قلت هي الوصايا العشر التي في التوراة، أولها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك إله غيري، ومنها أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد على قريبك شهادة زور، ولا تشته بنت قريبك ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيء مما لقريبك.
_________
(١) ابن كثير، ٢/ ١٨٧.
(و) أحسنوا (بالوالدين إحساناً) هو البر بهما وامتثال أمرهما ونهيهما، وقد تقدم الكلام على هذا، ولما كان إيجاب الإحسان تحريماً لترك الإحسان ذكر في المحرمات وكذا حكم ما بعده من الأوامر.
(ولا تقتلوا أولادكم) لما ذكر حق الوالدين على الأولاد، ذكر حق الأولاد عليهما وهو أن لا يقتلوهم (من) أجل (إملاق) هو الفقر فقد كانت الجاهلية تفعل ذلك بالذكور والإناث خشية الإملاق، وتفعله بالإناث خاصة خشية العار، وحكى النقاش عن مؤرخ أن الإملاق الجوع بلغة لخم.
وذكر منذر بن سعيد البلوطي أن الإملاق الإنفاق يقال أملق ماله بمعنى أنفقه، وقيل الإملاق الإسراف يقال أملق أي أسرف في نفسه، قاله محمد بن نعيم اليزيدي، والإملاق الإفساد أيضاً قاله شمر، يقال أملق ما عنده الدهر أي أفسده، وقال قتادة: الإملاق الفاقة، يقال أملق افتقر واحتاج، وهو الذي أطبق عليه أئمة اللغة والتفسير ههنا.
وقال هنا من " إملاق " وفي الإسراء " خشية إملاق " قال بعضهم لأن هذا في الفقر الناجز فيكون خطاباً للآباء الفقراء، وما في الإسراء في المتوقع فيكون خطاباً للآباء الأغنياء فلعلهم كان فقراؤهم يقتلون أولادهم وأغنياؤهم كذلك، وقيل هذا التقديم للتفنن في البلاغة والأول أولى لأن إفادة معنى جديد أولى من إدعاء كون الآيتين بمعنى واحد للتأكيد.
(نحن نرزقكم وإياهم) هذا تعليل للنهي قبله، وكان ظاهر السياق أن يقدم ويقال نحن نرزقهم وإياكم كما في آية الإسراء لأن الكلام في الأولاد، ولكن قدم هنا خطاب الآباء ليكون كالدليل على ما بعده.
(ولا تقربوا الفواحش) أي المعاصي ومنه ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة، والأولى حمل لفظ الفواحش على العموم في جميع المحرمات والمنهيات فيدخل فيه الزنا وغيره، ولا وجه لتخصيصه بنوع من الفواحش وإن كان السبي خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(ما ظهر) أي ما أعلن به (منها) واطلع عليه الناس (وما بطن) ما أسر ولم يطلع عليه إلا الله أي علانيتها وسرها، قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساً في السر ويستقبحونه بالعلانية فحرم الله الزنا في السر والعلانية.
(ولا تقتلوا النفس) اللام للجنس أي لا تقتلوا شيئاً من الأنفس (التي حرم الله) قتلها (إلا بالحق) أي إلا بما يوجبه الحق والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا في حال الحق أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، ومن الحق قتلها قصاصاً وقتلها بسبب زنا المحصن، وقتلها بسبب الردة ونحو ذلك من الأسباب التي ورد الشرع بها، وإنما أفرد قتل النفس بالذكر تعظيماً لأمر القتل وأنه من أعظم الفواحش والكبائر.
(ذلكم) إشارة إلى جميع ما تقدم مما تلاه عليهم قاله أبو حيان.
إلى الأمور الخمسة (وصاكم) أي أمركم (به) وأوجبه عليكم وفيه من
ولما كان العقل هو مناط التكليف قال: (لعلكم تعقلون) أي لكي تفهموا ما في هذه التكاليف من الفوائد النافعة في الدين والدنيا فتعملوا بها.
(حتى) أي إلى غاية هي أن (يبلغ) اليتيم (أشده) فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه وقيل بالعكس وقيل هو اسم مفرد لفظاً ومعنى، وقيل هو جمع، وعلى هذا فمفرده شدة كنعمة أو شد كفلس وأفلس أو شد كصر وأصر، أقوال ثلاثة في مفرده وأصله من شد النهار أي ارتفع قال سيبويه واحده شدة.
قال الجوهري: وهو حسن في المعنى لأنه يقال أبلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل، وقيل الأشد استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشباب إلى حد الرجال.
واختلف أهل العلم في الأشد فقال أهل المدينة بلوغه وإيناس رشده، وقال عبد الرحمن بن زيد: هو البلوغ، وقيل إنه انتهاء الكهولة، والأولى في تحقيقه أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكاً مسلك العقلاء لا مسلك أهل السفه والتبذير، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم) فجعل بلوغ النكاح وهو بلوغ سن التكليف مقيداً بإيناس الرشد، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا.
(وأوفوا الكيل والميزان) وهما الآلة التي يكال بها ويوزن، وأصل الكيل مصدر ثم أطلق على الآلة، والميزان في الأصل مفعال من الوزن، ثم نقل لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يستصبح به ويقاس (بالقسط) أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء وترك البخس.
(لا نكلف نفساً إلا وسعها) أي طاقتها في كل تكليف من التكاليف ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن فلا يخاطب المتولي لهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان فإن أخطأ في الكيل والوزن والله يعلم صحة نيته فلا مؤاخذة عليه كما ورد في الحديث ومع ذلك يضمن ما أخطأ فيه كما في كتب الفروع.
(وإذا قلتم) بقول في خبر أو شهادة أو جرح أو تعديل (فاعدلوا) فيه وتحروا الصواب ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد، ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو، بل سووا بين الناس فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به (ولو كان) الضمير راجع إلى ما يفيده (وإذا قلتم) فإنه لا بد للقول من مقول فيه أو مقول له أو مقول عليه أي ولو كان المقول فيه أو له أو عليه (ذا قربى) أي صاحب قرابة لكم، وقيل إن المعنى ولو كان الحق على مثل قراباتكم، والأول أولى، ومثل هذه الآية قوله: (ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).
(ذلكم) إشارة إلى ما تقدم ذكره من الأمور الأربعة (وصاكم) أي أمركم (به) أمراً مؤكداً (لعلكم تذكرون) أي تتعظون بذلك فتأخذون ما أمركم به.
ولما كانت الخمسة المذكورة قبل قوله: (لعلكم تعقلون) من الأمور الظاهرة الجلية مما يجب تعقلها وتفهمها ختمت بقوله لعلكم تعقلون، ولما كانت هذه الأربعة خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله: (لعلكم تذكرون) قاله أبو حيان.
(صراطي) وفي مصحف ابن مسعود وهذا صراط ربكم وفي مصحف أُبيّ ربك، والصراط الطريق وهو طريق دين الإسلام (مستقيماً) مستوياً لا اعوجاج فيه، وقد تشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار (فاتبعوه) أمرهم باتباع جملته وتفصيله.
(ولا تتبعوا السبل) نهاهم عن اتباع سائر السبل أي الأديان المتباينة طرقها والأهواء المضلة، والبدع المختلدة (فتفرق بكم عن سبيله) أي فتميل بكم عن سبيل
قال قتادة: اعلموا أن السبيل سبيل واحد جماعة الهدى ومصيره الجنة، وأن إبليس استبدع سبلاً متفرقة جماعة الضلالة ومصيرها إلا النار.
وأخرج أحمد وابن حميد والبزار والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله - ﷺ - خطاً بيده ثم قال: " هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ هذه الآية " (١).
وقال ابن عباس: السبل الضلالات (٢) وعنه هذه الآيات محكمات في جميع الكتب لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب، ومن عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار، وقال ابن مسعود: من سره أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد - ﷺ - فليقرأ هؤلاء الآيات، أخرجه الترمذي وحسنه.
(ذلكم) أي ما تقدم ذكره (وصاكم) أكد عليكم الوصية (به لعلكم تتقون) ما نهاكم عنه من الطرق المختلفة والسبل المضلة.
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٢٣٩.
(٢) رواه الإمام أحمد ٤/ ١٨٢ و ٤/ ١٨٣ والحاكم ١/ ٧٣.
قلت وهذه استراحة، وقيل تقديره ثم كنا قد آتينا قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن القشيري، وقيل المعنى (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ثم أتل إيتاء موسى الكتاب، قاله الزجاج: وقيل إن التوصية المعطوف عليها قديمة لم يزل كل نبي يوصي بها أمته، وقيل: إن ثم للتراخي في الأخبار وقيل غير ذلك.
(تماماً) النصب على الحال أو المصدر أو على أنه مفعول لأجله (على الذي أحسن) قبوله والقيام به كائناً من كان، وقال الحسن ومجاهد: كان فيهم محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتاب تماماً على المحسنين المؤمنين، وقيل المعنى أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما علمه الله قبل نزولها عليه، وقيل تماماً على الذي أحسن به الله عز وجل إلى موسى من الرسالة وغيرها، وقيل تماماً على إحسان موسى بطاعة الله عز وجل قاله الفراء، وقال أبو صخر: تماماً لا كان قد أحسن إليه، وقال ابن زيد: تماماً لنعمته عليهم وإحسانه إليهم.
(وتفصيلاً) أي لأجل تفصيل (لكل شيء) يحتاج إليه من شرائع
(على طائفتين من قبلنا) هم اليهود والنصارى ولم ينزل علينا كتاب، وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا من بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام، وفيه دليل على أن المجوس ليسوا بأهل كتاب إذ لو كانوا منهم لكانوا ثلاث طوائف، قاله ابن الكمال.
(وإن) مخففه واسمها محذوف أي إنا (كنا عن دراستهم) أي تلاوة كتبهم بلغاتهم (لغافلين) أي لا ندري ما فيها ومرادهم إثبات نزول الكتابين مع الاعتذار عن اتباع ما فيهما بعدم الدراية منهم والغفلة عن معناهما.
(أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب) كما أنزل على الطائفتين من قبلنا (لكنا أهدى منهم) إلى الحق الذي طلبه الله أو إلى ما فيه من الأحكام التي هي المقصد الأقصى، فإن هذه المقالة من كفار العرب والمعذرة منهم مندفعة بإرسال محمد - ﷺ - إليهم وإنزال القرآن عليه، ولهذا قال: (فقد جاءكم بينة من ربكم) أي كتاب بلسان عربي مبين حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين وأنزله الله على نبيكم وهو منكم يا معشر العرب فلا تعتذروا بالأعذار الباطلة ولا تعللوا أنفسكم بالعلل الساقطة فقد أسفر الصبح لذي عينين.
(وهدى ورحمة) أي جاءكم البينة الواضحة والهدى الذي يهتدى به كل من له رغبة في الاهتداء ورحمة من الله يدخل فيها كل من يطلبها ويريد حصولها، ولكنكم ظلمتم أنفسكم بالتكذيب بآيات الله والصدوف والإنصراف عنها وصرف من أراد الإقبال إليها.
(فمن) الاستفهام للإنكار أي لا أحد (أظلم ممن كذب بآيات الله) التي هي رحمة وهدى للناس (وصدف) أي صرف الناس (عنها) فضل بإنصرافه عنها وأضل بصرف غيره عن الإقبال إليها، وصدف لازم وقد يستعمل متعدياً كما هنا، في القاموس صدف عنه يصدف أعرض وصدف فلاناً صرفه كأصدفه عن كذا أماله عنه.
(سنجزي الذين يصدفون) ينصرفون (عن آياتنا سوء العذاب) أي العذاب السيء من إضافة الصفة إلى الموصوف (بما كانوا يصدفون) أي بسبب إعراضهم أو صدهم أو تكذيبهم بآيات الله ومعنى يصدفون يعرضون، قاله
ابن عباس وهو مقارب لمعنى الصرف، وقد تقدم تحقيق معنى هذا اللفظ وفي هذه الآية تبكيت لهم عظيم.
(هل ينظرون) أي لما أقمنا عليهم الحجة وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم فما بقي بعد هذا (إلا) أنهم ينتظرون (أن تأتيهم الملائكة) لقبض أرواحهم وعند ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو أن تأتيها الملائكة بالعذاب (أو يأتي ربك) يا محمد كما اقترحوه بقولهم: (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) وقيل معناه يأتي أمر ربك بإهلاكهم، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيراً كقوله: (واسأل القرية) وقوله: (وأشربوا في قلوبهم العجل) أي حب العجل.
وقيل إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كقوله: وجاء ربك والملك صفاً صفاً قاله ابن مسعود وقتادة ومقاتل، وقال: يأتي في ظلل من الغمام وقيل كيفية الإتيان من التشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله فيجب إمرارها بلا تكييف ولا تعطيل.
(أو يأتي بعض آيات ربك) الدالة على الساعة قال جمهور المفسرين هو طلوع الشمس من مغربها ويدل عليه ما أخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله بعض آيات ربك قال:
فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه فهو واجب التقديم له متحتم الأخذ به، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسها إيمانها، ثم قرأ الآية " (٢)، وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي ذر مرفوعاً نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه أيضاً.
(يوم يأتي بعض آيات ربك) التي اقترحوها وهي التي تضطرهم إلى الإيمان، أو ما هو أعم من ذلك فيدخل فيه ما ينتظرونه، وقيل الآيات هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله - ﷺ - فهي التي إذا جاءت (لا ينفع نفسها إيمانها).
والكبرى منها عشرة وهي: الدجال والدابة وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، والدخان وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن تسوق الناس إلى المحشر، والبحث مستوفى في كتابنا حجج الكرامة في آثار يوم القيامة.
(لم تكن آمنت من قبل) أي قبل إتيان بعض الآيات، فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعضها فإيمانها ينفعها (أو كسبت في إيمانها خيراً) أي لا ينفع نفساً إيمانها عند حضور الآيات متصفة بأنها لم تكن آمنت من قبل أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيراً، فحصل من هذا أنه لا ينفع
_________
(١) البخاري كتاب الفتن الباب ٢٥ - أبو داود كتاب الجهاد الباب ٢.
(٢) مسلم ١٥٧ - بخاري ٧٣.
قال السدى: يقول كسبت في تصديقها عملاً صالحاً فهؤلاء أهل القبلة، وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيراً فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها وإن عملت قبل الآية خيراً ثم عملت بعد الآية خيراً قبل منها، وقال مقاتل: يعني المسلم الذي يعمل في إيمانه خيراً وكان قبل الآية مقيماً على الكبائر.
أقول ووجه الإشكال في هذه الآية الكريمة هو أن عدم الإيمان السابق يستلزم عدم كسب الخير فيه بلا شك ولا شبهة إذ لا خير لمن لا إيمان له، فيكون على هذا ذكره تكراراً إن كان حرف التخيير على بابه من دون تأويل، وأيضاً عدم الإيمان مستقل في إيجابه للخلود في النار فيكون ذكر عدم الثاني لغواً، وكذلك وجود الإيمان مع كسب الخير فيه مستقل في إيجابه للخلوص عن النار وعدم الخلود فيها فيكون ذكر الأول أعني الإيمان بمجرده لغواً.
فهذا وجه الإشكال في الآية باعتبار حرف التخيير المقتضى لكفاية أحد الأمرين على إنفراده وقد ذكروا في التخلص عن هذا الإشكال وجوها.
أحدها: أنه يتحقق النفع بأيهما كان، ولا يخفاك أن هذا تدفعه الأدلة الواردة بعدم الانتفاع بالإيمان من دون عمل.
والوجه الثاني: أنه لا ينفع إلا تحقق الأمرين جميعاً الإيمان وكسب الخير فيه، وهذا أيضاً يدفعه المعنى العربي والإعرابي فإنه لو كان هو المراد لقال: لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيراً.
الوجه الثالث: أن ذكر الشق الثاني من شقي الترديد لقصد بيان النفع
الوجه الرابع: أن يراد الكلام مردداً على هذه الصفة المقصود به التعريض بحال الكفار المفرطين في الأمرين جميعاً، وهذا أيضاً خروج عن مقصود الآية بتأويل بعيد جداً لم يدل عليه دليل.
الوجه الخامس: أن الآية من باب اللف التقديري أي لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. ورد بأن معنى اللف التقديري على أن يكون المقدر من مهمات الكلام ومقتضيات المقام فترك ذكره تعويلاً على دلالة الملفوظ عليه واقتضائه إياه، وليس هذا من ذاك.
الوجه السادس: أنهما معاً شرطان في النفع وأن العدول إلى هذه العبارة لقصد المبالغة في شأن كل واحد منهما بأنه صالح للاستقلال بالنفع في الجملة، ولا يخفي أن هذا مجرد دعوى لا دليل عليها، وإخراج للترديد عن مفاده الذي تقتضيه لغة.
الوجه السابع: أن ظاهر الآية المقتضى لمجرد نفع الإيمان يعارض بالأدلة الصحيحة الثابتة كتاباً وسنة أنه لا ينفع الإيمان إلا مع العمل وهذا هو الوجه القوي، والتقرير السوي، والاستدلال الواضح، والترجيح الراجح لسلامته عن التكلفات والتعسفات في معنى الآية وعن الإهمال لما فيها من الترديد الواضح بين شِقَّي الإيمان المجرد والإيمان مع العمل.
ولا ينافي هذا ما ورد من الأدلة على نفع الإيمان المجرد فإنها مقيدة بالأدلة الدالة على وجوب العمل بما شرعه الله لعباده من أصول الشرائع وفروعها، فاشدد يديك على هذا ولا تلتفت إلى ما وقع من التدقيقات الزائفة والدعاوي الداحضة، فإن ذلك لا حامل عليه ولا موجب له إلا المحاماة على المذهب
ومن العجب أن محققي المفسرين وكبارهم مع ما في هذه الآية الكريمة من الإشكال المقتضى لتوسيع دائرة المقال اكتفوا في الكلام عليها بالنزر الحقير والبحث اليسير، حتى إن الرازي مع تطويله للمباحث في غالب تفسيره، اقتصر في تفسيره على قوله. والمعنى أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف فلم ينفع الإيمان نفساً ما آمنت وما كسبت في إيمانها خيراً قبل ذلك انتهى بحروفه.
فانظر هذا الذي اقتصر عليه واجعله موعظة لك فإنه إنما يكون تفسير الآية لو كانت هكذا: لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيراً، من دون حرف التخيير، وهكذا الزمخشري قبله فإنه اقتصر في تفسير الآية على ما لا يسمن ولا يغني من جوع، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق.
(قل) أمره الله سبحانه أن يقول لهم (انتظروا) ما تريدون إتيانه وما وعدتم به من مجيء الآيات، وهذا أمر تهديد على حد (اعملوا ما شئتم) وذلك أنهم لا ينتظرون ما ذكر لإنكارهم للبعث وما بعده (إنا منتظرون) وهو يقوي ما قيل في تفسير (يوم يأتي بعض آيات ربك) إنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة أو إتيان العذاب لهم من قبل كما تقدم بيانه.
قال بعض المفسرين: وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من المشركين المكذبين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك الوقت، والمراد بهذا أن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلت بهم العقوبة اللازمة أبداً، وقيل المراد بهذه الآية الكف عن القتال فتكون الآية منسوخة بآية القتال. وعلى القول الأول تكون محمكة.
وقد ورد في معنى هذا في اليهود قوله تعالى (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) وقبل المراد بهم المشركون، عبد بعضهم الأصنام وبعضهم الملائكة وبعضهم الكواكب، فكان هذا هو تفريق دينهم.
وقال أبو هريرة: هم أهل الضلالة من هذه الأمة، وقيل الآية عامة في جميع الكفار وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله، وهذا هو الصواب لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب وطوائف المشركين وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام.
وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه والحكيم الترمذي والشيرازي في الألقاب عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - في الآية قال " هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة " (١) وفي إسناده عبد بن كثير وهو متروك الحديث ولم يرفعه غيره ومن عداه وقفوه على أبي هريرة، وعن أبي أمامة قال هم الحرورية، وروي عنه مرفوعاً ولا يصح رفعه.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ١٩٦.
فعلى هذا يكون المراد من هذه الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع المضلة.
وروى أبو داود والترمذي عن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين إثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة " (٢) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي " أخرجه الترمذي (٣).
(وكانوا شيعاً) أي فِرقاً وأحزاباً فيصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحداً مجتمعاً ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ويباين الحق.
(لست منهم) أي من تفرقهم أو من السؤال عن سبب تفرقهم والبحث عن موجب تحزبهم (في شيء) من الأشياء فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به إنما عليك البلاغ، وهو مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم " من غشنا فليس منا " أي نحن برآء منه (٤).
_________
(١) ابن كثير ٢/ ١٩٦.
(٢) صحيح الجامع الصغير ٢٦٣٨.
(٣) صحيح الجامع الصغير ٥٢١٩.
(٤) صحيح الجامع الصغير ٦٢٨٣.
(إنما أمرهم) يعني في الجزاء والمكافأة (إلى الله) فيه تسلية له - ﷺ - أي هو مجاز لهم بما تقتضيه مشيئته، والحصر بإنما هو في حكم التعليل لما قبله والتأكيد له (ثم) هو (ينبئهم) يوم القيامة ويخبرهم بما ينزل بهم من المجازاة (بما كانوا يفعلون) من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم وأوجبه عليهم.
ولما توعد سبحانه المخالفين له بما توعد، بين عقب ذلك مقدار جزاء العاملين بما أمرهم به الممتثلين لما شرعه لهم بأن
(فله) من الجزاء يوم القيامة (عشر) حسنات (أمثالها) فأقيمت الصفة مقام الموصوف، وقد ثبت هذا التضعيف في السنة بأحاديث كثيرة، وهذا هو أقل ما يستحقه عامل الحسنة، وقد وردت الزيادة على هذا عموماً وخصوصاً ففي القرآن [كمثل حبة أنبتت سبع سنابل الآية]، وورد في بعض الحسنات أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب، وورد في السنة المطهرة تضعيف الجزاء إلى سبعين وإلى سبعمائة وإلى ألوف مؤلفة. وفضل الله واسع وعطاؤه جم، وقد قدمنا تحقيق هذا في موضعين من هذا التفسير فليرجع إليهما.
(ومن جاء بالسيئة) أي بالأعمال السيئة (فلا يجزى إلا مثلها) من دون زيادة عليها أي على قدرها في الخفة والعظم إن جوزي، فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار، وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها مما ورد
(وهم) أي المحسنون والمسيئون (لا يظلمون) بنقص المثوبات ولا بزيادة العقوبات والأولى في هذه الآية أن اللفظ عام في كل حسنة يعملها العبد أو سيئة وإعطاء الثواب لعامل الحسنة فضل من الله، وجزاء السيئة بمثلها عدل منه سبحانه.
(ديناً قيماً) بكسر القاف والتخفيف وفتح الياء وبفتح القاف وكسر الياء المشددة وهما لغتان، ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه.
(ملة إبراهيم حنيفاً) مائلاً إلى الحق، وفي القاموس الحنيف كأمير الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه وكل من حج أو كان على دين إبراهيم، وتحنف عمل عمل الحنيفية أو اختتن أو اعتزل عبادة الأصنام، وإليه مال انتهى وقد تقدم تحقيقه.
(وما كان من المشركين) جملة معترضة مقررة لما قبلها، وفيه رد على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر سبحانه أنه لم يكن ممن يعبد الأصنام.
(ونسكي) النسك جمع نسيكة وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم أي ذبيحتي في الحج والعمرة، وقال الحسن ديني، وقال قتادة ضحيتي وقال الزجاج عبادتي من قولهم نسك فلان ناسك إذا تعبد، وبه قال جماعة من أهل العلم ونقل الواحدي عن ابن الأعرابي قال النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة، وقيل للمتعبِّد ناسك لأنه صفى نفسه كالسبيكة انتهى، ولا يخلو هذا من تكلف وبعد.
(ومحياي ومماتي) أي ما أعمله في هاتين الحالتين من أعمال الخير، ومنها في الممات الوصية بالصدقات وأنواع القربات وقيل نفس الحياة ونفس الموت (لله رب العالمين) أي خالصة أو مخلوقة له.
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والببهقي عن عمران بن حصين قال قال رسول الله - ﷺ -: يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته وقولي إن صلاتي " إلى " وأنا أول المسلمين، قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة قال لا بل المسلمين عامة " (١).
_________
(١) المستدرك كتاب الأضاحي ٤/ ٢٢٢.
(ولا تكسب كل نفس إلا عليها) أي لا تؤخذ بما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها فكل نفس كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها. وهو مثل قوله تعالى (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وقوله (لتجزى كل نفس بما تسعى) (ولا تزر) تحمل نفس (وازرة) حاملة (وزر) حمل (أخرى) ولا تؤاخذ نفس آثمة بإثم أخرى (١).
_________
(١) روى أبو داود عن أبي رمته قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي - ﷺ - قال لأبي: " ابنك هذا "؟ قال: أي وَرَبِّ الكعبة. قال: " حقاً ". قال: اشهد به، قال: أقسم النبي ﷺ ضاحكاً منها ثبت شبهى في أبي، ومن حَلِف أبي عليّ. ثم قال: " أما أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ". وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَلَا تَزِر ُوَازِرَهُ وِزْر َأخرى).
والواحد من القبيلة بذنب الآخر، وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة، وكذلك التي قبلها لقوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ومثله قول زينب بنت جحش يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث " (١).
والأولى حمل الآية على ظاهرها، أعني العموم وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك فيكون في حكم المخصص لهذا العموم ويقر في موضعه، ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم).
(ثم إلى ربكم مرجعكم) يوم القيامة (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) في الدنيا من الأديان والملل وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين.
_________
(١) مسلم ٢٨٨٠ - البخاري ١٥٨٢.
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) جمع خليفة أي جعلكم خلفاء الأمم الماضية والقرون السابقة أو المراد أنه يخلف بعضهم بعضاً أو أن هذا النوع الإنساني خلفاء الله في أرضه؛ قال السدي: أهلك القرون الأولى فاستخلفنا فيها بعدهم والإضافة على معنى في.
(ورفع بعضكم فوق بعض درجات) في الخلق والرزق والقوة والضعف والعلم والعقل والجهل والحسن والقبح والغنى والفقر والشرف والوضع، وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات ليس لأجل العجز أو الجهل أو البخل، فإن الله سبحانه منزه عن صفات النقص.
وإنما هو (ليبلوكم فيما أتاكم) أي ليختبركم في تلك الأمور، ويعاملكم معاملة المبتلى والمختبر، وهو أعلم بأحوال عباده منهم أو ليبلي بعضكم ببعض كقوله تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة).
ثم خوفهم فقال (إن ربك سريع العقاب) لأعدائه بإهلاكهم في الدنيا، وإنما وصف العقاب بالسرعة وإن كان في الآخرة لأن كل آت قريب كما قال (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب).
ثم رغب من يستحق الترغيب من المسلمين فقال (وإنه لغفور رحيم) أي كثير الغفران لأوليائه عظيم الرحمة بجميع خلقه.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعرافهي مكية إلا ثمان آيات، وهي قوله: (واسألهم عن القرية إلى قوله وإذ نتقنا الجبل فوقهم) قاله ابن عباس وابن الزبير، وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد، وقال قتادة: آية من الأعراف مدنية وهي (واسألهم عن القرية) وسائرها مكية، وقد ثبت أن النبي - ﷺ - كان يقرأ بها في المغرب يفرقها في الركعتين وآياتها مائتان وست آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (٤)