تفسير سورة الأنعام

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: على كل فعال، وبكل لسان، وعلى نعم الإسلام، وعلى صحة الأبدان) (١). قال أهل المعاني: (هذا في لفظ الخبر ومعناه الأمر، أي: احمدوا الله، وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر؛ لأنه أبلغ في البيان من حيث إنه جمع الأمرين، ولو قيل: احمدوا الله، لم يجمع الأمرين) (٢). وقد ذكرنا في (٣) معنى قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ في الفاتحة ما فيه مقنع.
وقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، قال الزجاج (٤): (ذكر أعظم الأشياء المخلوقة؛ لأن السماء (٥) بغير عمد ترونها، والأرض غير مائدة بنا) (٦).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥، وأخرج ابن أبي حاتم ٤/ ١٢٥٨ بسند ضعيف عنه قال: (الحمد: هو الشكر والاستحذاء لله، والإقرار بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك) ا. هـ.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٤٣، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٩١، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٥٨٤، وذكره الخازن في "تفسيره" ٢/ ١١٧، عن أهل المعاني.
(٣) لفظ (في): ساقط من (ش).
(٤) الزجاج: أبو إسحاق إبراهيم بن السري البغدادي، إمام أكثر الواحدي من الناقل عنه، وقد تقدمت ترجمته.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٢٧.
(٦) في (أ): (مائدة بناها)، وعند الزجاج: (مائدة بنا).
7
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾، قد ذكرنا معاني جعل (١) في قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣]، و ﴿جَعَلَ﴾ هاهنا بمعنى خلق، كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠]. قال ابن عباس: (﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ﴾: ظلمة الشرك، وظلمة النفاق، وظلمة الكفر، وظلمة العصيان، ﴿وَالنُّورَ﴾ يريد: نور الإِسلام، ونور الإيمان، ونور النبوة، ونور اليقين) (٢). وقال الحسن: (يعني الكفر والإيمان) (٣). وقال السدي: (يعني الليل والنهار) (٤) وهو اختيار الزجاج (٥)، والأولى أن يكون هذا عامًّا في كل ظلمة ونور؛ لأن جميع ذلك مخلوق لله تعالى (٦).
(١) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية جامعة الإِمام ٣/ ٧٩ أ.
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٥١، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٦٨، وفي "الدر" للسيوطي ٣/ ٦. أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: (الكفر والإيمان).
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ١/ ٥ - ٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٢٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٢، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٥١، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٨٦، والخازن في "تفسيره" ٢/ ١١٧.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ١٤٣، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٦٠، بسند جيد.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٢٧.
(٦) ذكر قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٥١، وقال: (هذا مشكل؛ لأنه حمل للفظ على مجازه، واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معًا) ا. هـ. والظاهر حمل الآية على ظاهرها، والمراد أنار النهار وأظلم الليل، وهو اختيار الجمهور، قال الإمام أحمد في كتاب "الرد على الجهمية والزنادقة" ص ١٠٧؛ (يعني خلق الظلمات والنور)، وقال ابن عطية ٥/ ١٢١: (قالت فرقة: الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان، وهذا غير جيد؛ لأنه أخرج لفظٌ بيّن في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو طريق اللغز الذي برئ القرآن منه، والنور أيضًا هنا للجنس فإفراده بمثابة جمعه) ا. هـ. وانظر "تفسير الطبري" ٧/ ١٤٣، والسمرقندي ١/ ٤٧٣، والماوردي ٢/ ٩٢، و"البحر" ٤/ ٦٨.
8
قال المفسرون: (الظلمة أقدم من النور، وهي مخلوقة قبل، فلذلك قدمت في الذكر، وكذلك السموات خلقت قبل الأرض) (١).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ يعني: عبدة الأوثان في قول عامة المفسرين (٢). قال ابن عباس: (يريد: عدلوا بي من خلقي الحجارة والأصنام بعد أن أقروا بربوبيتي وبنعمتي) (٣)، وقال الزجاج: (أعلم الله تعالى أنه خالق ما ذكر في هذه الآية، وأن خالقها لا شيء مثله، وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلاً، فيعبدون الحجارة [الموات (٤)]، وهم مقرون بأن الله خالق ما وصف (٥)، وقوله: ﴿يَعْدِلُونَ﴾، العدل: التسوية؛ يقال: عدل الشيء بالشيء إذا سواه (٦). ومعنى ﴿يَعْدِلُونَ﴾: يشركون به
(١) هذا قول قتادة أخرجه الطبري ٧/ ١٤٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٥٩، بسند جيد، وقال السمين في "الدر" ٤/ ٥٢٤: (قدمت الظلمات لأنه موافق في الوجود؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور) ا. هـ. والراجح عند الجمهور أن خلق الأرض قبل خلق السماء. قال ابن كثير في تفسيره ١/ ٧٣: (هذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله الطبري عن قتادة وتوقف في ذلك القرطبي) ا. هـ ملخصًا. وانظر "تاريخ الطبري" ١/ ٣٢ - ٣٦، وتفسيره ١/ ١٩٢ - ١٩٤، و"الكشاف" ١/ ٢٧١، و"زاد المسير" ١/ ٥٧، و"تفسير القرطبي" ١/ ٢٥٥، و"دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" للشنقيطي ص ١٤ - ١٦.
(٢) انظر الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٤٤، والسمرقندي ١/ ٤٧٣، وابن كثير ٢/ ١٣٩، والظاهر أنها عامة في سائر أصناف الكفار، وهو اختيار الطبري في "تفسيره"، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٢٢.
(٣) في تنوير المقباس ٢/ ٣، قال: (يعدلون به الأصنام).
(٤) لفظ: (الموت) ساقط من (أ)، وفي (ش): (والموات).
(٥) معاني الزجاج ٢/ ٢٢٧.
(٦) انظر: "العين" ٢/ ٣٨، و"الجمهرة" ٦٦٣، و"الصحاح" ٥/ ١٧٦١، و"المجمل" ٣/ ٦٥١، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٤٦، و"المفردات" ص ٥٥١، و"اللسان" ٥/ ٢٨٤٠ (عدل).
9
غيره، قاله (١) مجاهد. وقال الأحمر (٢): (عدل الكافر بربه عدلاً وعدولًا إذا سوى به غيره فعبده) (٣).
وقال الكسائي (٤): (عدلت الشيء أعدله عدولًا إذا ساويته [به] (٥)، وعدل الحاكم في الحكم عدلاً) (٦). والآية توجب أنه لا تجوز العبادة إلا لمن له القدرة على خلق السموات والأرض، وهو الله وحده لا شريك له (٧).
وقال صاحب النظم (٨): (دخول ثم في قوله: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ دليل على معنى لطيف، وهو أنه عز وجل دل به على إنكاره على الكفار العدل به وعلى تعجب المؤمنين من ذلك، مثال (٩) أن تقول: أكرمتك وأحسنت إليك
(١) "تفسير مجاهد" ص ٢١١، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٤٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٦٠ من طرق جيدة.
(٢) تقدمت ترجمته.
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٦٠ (عدل).
(٤) الكسائي: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي، تقدمت ترجمته.
(٥) لفظ: (به) ساقط من (ش).
(٦) "معاني النحاس" ٢/ ٣٩٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٦٠ (عدل).
(٧) قال الشنقيطي في "تفسيره" ٢/ ١٨٠: (في قوله تعالى: ﴿يَعْدِلُونَ﴾ وجهان للعلماء، أحدهما: أنه من العدول عن الشيء بمعنى الانحراف والميل عنه، وعلى هذا فقوله: ﴿بِرَبِّهِمْ﴾ متعلق بقوله: ﴿كَفَرُوا﴾...
والثاني: أن الباء متعلقة بـ"يعدلون" والمعنى يجعلون له نظيرًا في العبادة، وهذا الوجه هو الذي يدل عليه القرآن). وهذا اختيار ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٣٩.
(٨) صاحب النظم هو: الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني، أبو علي، له كتاب "نظم القرآن" مفقود.
(٩) في (ش): (مثل).
10
ثم تشكوني وتشتمني، منكرًا لذلك عليه ومتعجبا منه (١)، ومثل هذا في المعنى قوله فيما بعد هذه الآية: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾) (٢) [الأنعام: ٢].
٢ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾، قال ابن عباس (٣) والمفسرون: (يعني آدم والخلق من نسله، ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾، يعني أجل الحياة إلى الموت وأجل الموت إلى البعث وقيام الساعة)، وهو قول الحسن (٤)، وسعيد بن المسيب (٥)، وقتادة (٦)،
(١) أفاد الجمهور أن (ثم) تفيد الإنكار والتوبيخ والاستبعاد والتراخي بين الرتبتين، فهي تفيد الإنكار والتوبيخ على قبح الكفر واستبعاد أن يعدلوا به غيره بعد وضوح آيات قدرته، إذ يبعد من العاقل الناظر بعد إقامة الأدلة اختيار الباطل، ولو كان العطف بالواو لم يلزم ذلك كلزومه بثم.
انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٢٦، وابن عطية ٥/ ١٢٢، والرازي ١١/ ١٥١، والقرطبى في "تفسيره" ٦/ ٣٨٧، و"البحر" ٤/ ٦٨، و"الدر المصون" ٤/ ٥٢٤.
(٢) لم أقف عليه.
وقال الكرماني في "غرائب التفسير" ١/ ٣٥١: (ثم) تتضمن الإنكار على الكفار والتعجب للمؤمنين، وكذلك قوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾) ا. هـ. وقال الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٤: (﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ استبعاد؛ لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم) ا. هـ.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٥٧/ أ -بسند جيد- قال: (وروي عن مجاهد والسدي والضحاك وقتادة مثل ذلك) ا. هـ. وهذا هو قول الجمهور، ورجحه ابن عطية ٥/ ١٢٤، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٨٧، وانظر "تفسير الطبري" ٧/ ١٤٦، والسمرقندي ١/ ٤٧٣.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٠٣، والطبري في "تفسيره" ٧/ ١٤٦، بسند ضعيف.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧، وابن الجوزي ٣/ ٣.
(٦) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٠٣، والطبري في "تفسيره" ٧/ ١٤٦، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٦٢، من طرق جيدة.
11
والضحاك (١)، ومقاتل (٢)، واختيار الزجاج (٣)، ونحو ذلك قال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾، قال: يريد: من مولده إلى مماته، ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾: يريد: من الممات إلى المبعث، لا يعلم ميقاته أحد سواه.
وقال: وذلك أن الله تعالى قضى لكل نفس أجلين من مولده إلى موته ومن موته إلى مبعثه، فإذا كان الرجل صالحًا واصلًا لرحمه، زاد الله في أجل الحياة من أجل الممات إلى المبعث، وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله من أجل الحياة وزاد في [أجل] (٤) المبعث، قال: وذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ (٥) [فاطر: ١١].
(١) أخرجه الطبري ٧/ ١٤٦ بسند لا بأس به.
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٤٩.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٢٨، واختاره الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٤٧، وقال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ١٤/ ٤٨٩: (قوله: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾: الأجل الأول وهو أجل كل عبد الذي ينقضي به عمره. والأجل المسمى عنده هو أجل القيامة العامة) ا. هـ.
(٤) لفظ: (أجل) ساقط من (أ).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٢٧، و"الخازن" ٢/ ١١٨، و"البحر المحيط" ٤/ ٧١، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٤٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٦٢، بسند جيد عنه قال: (﴿قَضَى أَجَلًا﴾ يعني: أجل الموت، والأجل المسمى: أجل الساعة والوقوف عند الله) ا. هـ. وأخرج الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣١٥ عنه في الآية قال: (هما أجلان: أجل في الدنيا، وأجل في الآخرة، مسمى عنده لا يعلمه إلا هو). قال الحاكم: (حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) ا. هـ. ووافقه الذهبي في "التلخيص".
12
وقال أهل المعاني: (في قوله: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾: يجوز أن يكون الحكم بهذا الأجل كان بعد خلق آدم، ويجوز أن يكون قبله لسبق علمه (١) بذلك قبل أن يخلق الخالق، وعلى هذا يحمل قوله: ﴿ثُمَّ﴾ لسبق الخبر الثاني على الخبر الأول، كقول الشاعر (٢):
قلْ لمنْ سادَ ثم سادَ أبُوهُ ثُمَّ قد سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
والجد سابق للأب، والأب سابق للممدوح) (٣).
(١) قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ١٤/ ٤٩٠ - ٤٩٢ في الآية: (إن الله يكتب للعبد أجلا في صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب، والمحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا هو فيه ولا إثبات) ا. هـ ملخصًا.
(٢) الشاهد لأبي نواس في "ديوانه" ص ٢٢٢. وبلا نسبة في "رصف المباني" ص ٢٥٠، و"الدر المصون" ٣/ ٢٢٠، و"المغني" لابن هشام ١/ ١١٧، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ١٣٩، وفي الديوان:
قلْ لمنْ سادَ ثم سادَ أبُوهُ قبله ثم قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
قال السمين عن الشاهد: (الترتيب يعود إلى الخبر لا إلى الوجود). وحكى ابن هشام: (أن الجد أتاه السؤدد من قبل الأب، والأب من قبل الابن) ا. هـ وظاهر كلام ابن القيم في "مختصر الصواعق" ٢/ ١٣٠: أن البيت لشاعر لا يحتج به. وقال في ص ١٢٩ (القول بأن (ثم) تأتي لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر، فيجوز أن يكون ما بعدها سابقًا على ما قبلها في الوجود وإن تأخر عنه في الإخبار لا يثبت ولا يصح به نقل، ولم يأت في كلام فصيح، ولو قدر وروده فهو نادر، لا يكون قياسًا مطردًا تترك الحقيقة لأجله).
(٣) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٣٥، وقال ابن فارس في "الصاحبي" ص ٢١٦: (قوله جل ثناؤه: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾ وقد كان قضى الأجل، فمعناه أخبركم أني خلقته من طين، ثم أخبرك أني قضيت الأجل، كما تقول: كلمتك اليوم ثم قد كلمتك أمس، أي: أني أخبرك بذلك ثم أخبرك بهذا) ا. هـ.
13
وقوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ أي: بعد هذا البيان تشكون يا معشر المشركين وتكذبون بالبعث. والمرية (١) والامتراء: الشك. والآية حجة على منكري البعث بأن الذي ابتدأ الخلق يصح أن يعيده كما ابتدأه وقدر الأجلين له (٢).
٣ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾ الآية، (الله) إذا جعلت هذا الاسم علمًا ثم وصلته بالمحل أوهم أن يكون الباري سبحانه في محل، كما تقول: زيد في البيت وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وتكلم أهل المعاني في هذا فقال أبو بكر (٣):
(إن وإن كان اسمًا علمًا ففيه معنى ثناء وتعظيم المعظم) (٤) ونحو هذا، قال أبو إسحاق: فقال: (﴿فِي﴾ موصولة في المعنى بما يدل عليه اسم الله عز وجل، والمعنى: هو المنفرد بالتدبير في السموات والأرض، كما تقول: هو الخليفة في الشرق والغرب) (٥).
(١) المرية والامتراء: الشك في الأمر، وقال الراغب في "المفردات" ص ٧٦٦: (المرية: التردد في الأمر وهو أخص من الشك، والامتراء والمماراة: المحاجّة فيما فيه مرية) ا. هـ وانظر: "العين" ٨/ ٢٩٥، و"الجمهرة" ٢/ ٨٠٦، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٨٤، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٩١، و"المجمل" ٣/ ٨٢٨، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٣١٤، و"اللسان" ٨/ ٤١٨٩ (مرى).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٤٧، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٤٧٣، والماوردي ٢/ ٩٣.
(٣) تقدمت ترجمته.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩، وابن الجوزي ٣/ ٤.
(٥) انظر "معاني القرآن" ٢/ ٢٢٨، وهذا القول رجحه الجمهور كما أفاده السمين في "الدر" ٤/ ٥٢٩، وقال ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٢٧: (هذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازًا لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى) ا. هـ وقال القرطبي في "تفسيره" =
14
وقال أبو على: (الظرف منتصب الموضع عندي بِيَعْلَمُ، وهو عندي إضمار القصة والحديث، كأن معناه الأمر لله بـ ﴿يعلم﴾ في السموات وفي الأرض سركم وجهركم، قال: وإذا جعلت الظرف متعلقًا باسم الله جاز عندي في قياس قول من جعل اسم الله أصله إلا له؛ لأن المعنى يكون وهو المعبود في السموات والأرض. [يعلم (١)] أي الآمر المعبود يعلم سركم وجهركم، قال: ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأسماء الأعلام وجب ألا يجوز على قوله تعلق الظرف به، إلا أن يقدر فيه ضربًا من معنى الفعل) (٢). وقوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ معنى: (الكسب) (٣) الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر، ولهذا لم يوصف فعله القديم [جل ثناؤه] (٤) بأنه كسب (٥).
= ٦/ ٣٩٠: (هذا القول أسلم وأبعد من الإشكال) ا. هـ وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٤٠: (المعنى: وهو الإله وهو المعبود في كل واحدة من السموات، ففي كل واحدة من هذا الجنس هو المألوه المعبود، فذكر الجمع هنا أبلغ وأحسن من الاقتصار على لفظ الجنس الواحد، وهذا قول محققي أهل التفسير) ا. هـ. واختاره ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٣٩، والشنقيطي في "أضواء البيان" ٢/ ١٨١ - ١٨٣، وانظر "الفتاوى" ٢/ ٤٠٤.
(١) لفظ: (يعلم) ساقط من (أ).
(٢) "الإغفال" لأبي علي ص ٧٠٣ - ٧٠٤.
(٣) انظر: "العين" ٥/ ٣١٥، و"الجمهرة" ١/ ٣٣٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٤٠، و"الصحاح" ١/ ٢١٢، و"المجمل" ٣/ ٧٨٥، و"مقاييس اللغة" ٥/ ١٧٩، و"المفردات" ص ٧٠٩، و"النهاية" لابن الأثير ٤/ ١٧١، و"اللسان" ٧/ ٣٨٧ (كسب).
(٤) لفظ: [جل ثناؤه] ساقط من (ش).
(٥) انظر: الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٥٦، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٠.
15
٤ - وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾، ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ لاستغراق الجنس الذي يقع في النفي، كقولك: ما أتاني (١) من أحد، والثانية: للتبعيض، فالأول خرج مخرج عموم الآيات كأنه قيل: أي آية أتتهم هي بعض آيات ربهم (٢)، والمراد بالآيات: الدلالات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله وصدق نبيه - ﷺ - من خلق السموات والأرض وما بينهما مع المعجزات التي أتى بها محمد - ﷺ -، قال أبو العالية في قوله تعالى: ﴿مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾: (مثل الشمس والقمر والنجوم) (٣). قال ابن عباس: (ومن الآيات (٤) انشقاق القمر بمكة). وقال عطاء: (﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ﴾: يريد القرآن) (٥).
(١) في (ش): (ما أبالي من أحد).
(٢) انظر: "الكشاف" ٢/ ٥، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ١٢٨، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٠، و"الدر المصون" ٤/ ٥٣٣ - ٥٣٤، ونقل قول الواحدي والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٥٧.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في "تنوير المقباس" ٢/ ٤، نحوه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٧٥ ب، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٢٨ بلا نسبة.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٢٨، والأولى العموم فتشمل الآيات الشرعية والكونية، الآية من القرآن والمعجزة كانشقاق القمر ونحوه، وهو اختيار الجمهور. انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٤٨، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٤٧٤، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٤، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٥٧، وقد أخرج البخاري في "صحيحه" (٣٦٣٦)، كتاب "المناقب"، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي - ﷺ - آية فأراهم انشقاق القمر. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله - ﷺ - شقين، قال النبي - ﷺ -: "اشهدوا" ا. هـ.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ أي: تاركين التفكر فيها. ومعنى الإعراض (١): الانصراف بالوجه عن الشيء، ثم يبنى عليه الانصراف بالفكر عنه.
٥ - قوله تعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا﴾ يعني مشركي مكة ﴿بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾، قال ابن عباس: (بما جاءهم [به] (٢) الصادق الأمين (٣)، ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: أخبار استهزائهم وجزائه. قاله ابن عباس (٤) والحسن (٥). وقال الزجاج: (المعنى: سيعلمون ما يؤول إليه استهزاؤهم) (٦). ومعنى الاستهزاء: إيهام التفخيم في معنى التحقير (٧).
٦ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ الآية.
(١) انظر: "جمهرة اللغة" ٢/ ٧٤٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٩٤، و"الصحاح" ٣/ ١٨٢، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٧١، و"المفردات" ص ٥٥٩، و"اللسان" ٥/ ٢٨٩٤ (عرض).
(٢) لفظ: (به) ساقط من (أ).
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٤، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠.
(٤) في "تنوير المقباس" ٢/ ٤ نحوه.
(٥) لم أقف عليه بنصه، ولكن معناه موجود في عامة كتب التفسير.
انظر: "تفسير الطبري" ١١/ ٢٩٢، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٢٨، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ١٢٨، و"زاد المسير" ٣/ ٤، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٣٩١، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ١٤٠.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٢٨.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٧٥٥، و"الصحاح" ١/ ٨٣ - ٨٤، و"مجمل اللغة" ٣/ ٩٠٤، و"مقاييس اللغة" ٦/ ٥٢، و"المفردات" ص ٨٤١، و"اللسان" ٨/ ٤٦٥٩ (هزأ).
17
قال أبو إسحاق: (موضع ﴿كَمْ﴾ نصب بأهلكنا لا بقوله: ﴿يَرَوْا﴾؛ لأن لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله) (١). والقرن: الأمة من الناس، وأهل كل مدة قرن؛ قال النبي - ﷺ -: "خيركم قرني" (٢). واشتقاقه من الاقتران (٣)، فالقرن: القوم المقترنون في زمان من الدهر (٤)، وقال ابن عباس في تفسير قوله: ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾: (يريد: (من جيل ومن أمة) (٥)، وقوله ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد: أعطيناهم ما لم
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٢٩، وانظر: "إعراب النحاس" ٢/ ٥٦، و"المشكل" لمكي ١/ ٢٤٦، و"البيان" لابن الأنباري ١/ ٣١٤، و"التبيان" للعكبري ١/ ٣٢٢، و"الفريد" للهمداني ٢/ ١٢٠، و"الدر" للسمين ٤/ ٥٣٥.
(٢) أخرجه البخاري في "صحيحه" (٢٦٥١)، كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا شهد، ومسلم رقم ٢٥٣٥، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - قال: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". قال عمران: لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. الحديث.
وانظر شرحه في "فتح الباري" ٧/ ٥.
(٣) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٧٩٣، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٤٧، و"الصحاح" ٦/ ٢١٨٠، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٧٦، و"المجمل" ٣/ ٧٤٩، و"المفردات" ص ٦٦٧، و"النهاية" لابن الأثير ٤/ ٥١، و"اللسان" ٦/ ٣٦٠٨ (قرن).
(٤) الجمهور على أن القرن مائة سنة، وأكثر المحققين على أنه غير مقدر بزمن معين لا يقع فيه زيادة ولا نقصان، بل المراد أهل كل عصر، فإذا انقضى أكثرهم قيل: قد انقضى القرن، وهو اختيار الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٢٩، والنحاس ٢/ ٤٠٠، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٣١، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩١، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٢٨، و"مجاز القرآن" ١/ ١٨٥، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٥١، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٢٨، وابن عطية ٥/ ١٢٩، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٥، و"البحر" ٤/ ٦٥، و "الدر المصون" ٤/ ٥٣٩.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٤.
18
نعطكم) (١). يعني: وسعنا عليهم في كثرة العبيد والمال والثمار والأنعام. ومعنى التمكين (٢) من الشيء: إعطاء ما يصح به الفعل من الآلات والعدد والقوى، وهو أتم من الإقدار؛ لأن الإقدار: إعطاء القدرة خاصة، والقادر على الشيء قد يتعذر عليه الفعل بعدم الآلة، والتمكن ينافي التعذر (٣) والانتقال من الخبر إلى الخطاب من الاتساع والتصرف في (٤) الكلام، كما تقول: قلت لعبد الله -وقد كان شكره زيد-: ما أكرمك، أي: واجهته بهذا الخطاب، وإن شئت قلت: ما أكرمه، على الإخبار (٥).
وقوله تعالى: ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾ ثم قال: ﴿مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ ولم يقل: نمكنكم، وهما لغتان، تقول العرب: مكنته ومكنت له، كما تقول: نصحته ونصحت له. قال صاحب "النظم": (العرب تتسع في الأفعال التي تتعدى
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠، وابن الجوزي ٣/ ٦.
(٢) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٩٨٣، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٦، و"الصحاح" ٦/ ٢٢٠٥، و"المجمل" ٣/ ٨٣٧، و"المفردات" ص ٧٧٣، و"اللسان" ٧/ ٤٢٥٠ (مكن).
(٣) هذا قول أبي هلال العسكري في "الفروق اللغوية" ص ٩٠، وانظر: "البحر" ٤/ ٦٦.
(٤) قال بعض أهل التفسير: في الآية رجوع من الغيبة في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ إلى الخطاب في قوله ﴿لَكُمْ﴾ للاتساع وتلوين الخطاب، قال السمين في "الدر المصون" ٤/ ٥٣٨: (فيكون على هذا التفاتًا فائدته التعريض بقلة تمكن هؤلاء ونقص أحوالهم عن حال أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حل بهم الهلاك، فكيف وأنتم أقل منهم تمكينا وعددًا) ا. هـ وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٦٩، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٣٦، و"غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٣٥٢، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٢٨، وابن الجوزي ٣/ ٦، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٣٩١.
(٥) أي يجوز. قلت لزيد: ما أكرمك أو ما أكرمه. انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٤٩، وابن عطية ٥/ ١٣٠، و"البحر" ٤/ ٧٥.
19
بحروف (١) الصفات فربما عدوها (٢) بغيرها كقوله تعالى: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ [التكوير: ٢٦] المعنى: فإلى أين؛ وربما زادوها فيما يتعدى بغيرها كقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] وقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤] وقوله تعالى: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ (٣) [النمل: ٧٢] ونحو هذا. قال أبو علي في قوله تعالى: ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: ٢١] وقوله: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الكهف: ٨٤] قال: (يجوز أن تكون اللام هاهنا على حد التي هي في قوله تعالى: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾، ﴿لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا﴾ قال ابن عباس: (يريد بالغيث والبركة) (٥).
(١) في: (ش): (بحرف)، والصواب ما أثبته.
(٢) في: (أ): (أعدوها)، والصواب ما أثبته.
(٣) قال السمين في "الدر" ٤/ ٥٣٧: قال أبو علي الجرجاني: (مكناهم ومكنا لهم لغتان) ا. هـ.
(٤) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٤٢٩، وقال العسكري في "الفروق" ص ٩٠: (الصحيح أن مكنت له: جعلت له ما يتمكن به، ومكنته: أقدرته على ملك الشيء في المكان) ا. هـ وقال السمين في "الدر" ٤/ ٥٣٦ - ٥٣٧: (الفرق بينهما أن مكنه في كذا أثبته فيها، وأما مكن له فمعناه جعل له مكانًا) ا. هـ. ملخصًا. وانظر "المسائل العضديات" ص ٦٧، و"الكشاف" ٢/ ٥، والأكثر على التسوية بينهما، ويتعدى مكن بنفسه وبحرف الجر، والأكثر تعديته باللام. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٨٦، و"نزهة القلوب" ص ٣٩٩، و"غرائب الكرماني" ١/ ٣٥٣، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٢٨، وابن الجوزي ٣/ ٦، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٣٢٩، و"البحر" ٤/ ٧٦.
(٥) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٦٤ بسند جيد عنه قال: (يتبع بعضها بعضا) ا. هـ. وأخرج أبو عبيد في كتاب "اللغات" ص ٩٤، وابن حسنون ص ٢٤، والوزان ص ٣/ ب بسند جيد عنه قال: (متتابعًا بلغة هذيل =
20
والسماء [معناه] (١): المطر هاهنا، والمدرار: الكثير الدر وأصله من قولهم: درّ اللبن إذا أقبل على الحالب منه (٢) شيء كثير فالمدرار يصلح أن يكون من نعت السحاب (٣) ويجوز أن يكون من نعت المطر، ويقال: سحاب مدرار إذا تتابع إمطاره ومفعال يجيء في نعت يبالغ فيه. قال مقاتل: (مدرارًا: متتابعًا) (٤) وقال المؤرج (٥): (مرة بعد أخرى) (٦). ويستوي في المدرار المذكر والمؤنث (٧)
وقوله تعالى: ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد بكفرهم وجرأتهم عليَّ) (٨). وقوله تعالى: ﴿وَأَنْشَأْنَا﴾ معنى الإنشاء ابتداء الإيجاد من
= وذكر البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٢٨ عنه أنه قال: (متتابعًا في أوقات الحاجات) ا. هـ.
(١) لفظ: (معناه) ساقط من (أ). وانظر: "الزاهر" لابن الأنباري ١/ ٢٣٨.
(٢) انظر: "جمهرة اللغة" ١/ ١١، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١١٧١، و"الصحاح" ٢/ ٦٥٥، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٥٥، و"المفردات" ص ٣١٠، و"اللسان" ٣/ ١٣٥٧ (در).
(٣) مثله قال الرازي ١٢/ ١٥٩، والأكثر على أن ﴿مِدْرَارًا﴾ حال من السماء، وهو الظاهر؛ لأنه بعد معرفة. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٣٧، و"المشكل" ١/ ٢٤٦، و"البيان" ١/ ٣٨١، و"الفريد" ٢/ ١٢١، و"البحر" ٤/ ٧٦، و"الدر المصون" ٤/ ٥٤١، ولعل مراد الواحدي بالنعت الحال؛ لأن أصله صفة. انظر "الأصول" لابن السراج ١/ ٢١٣، و"شرح شذور الذهب" ص ٢٤٤.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٠.
(٥) تقدمت ترجمته.
(٦) ذكره الرازي ١٢/ ٧٦، عن مقاتل، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٨٦، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٣٤، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٥٠، و"نزهة القلوب" ص ٤٤٠.
(٧) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٢٩، والنحاس ٢/ ٤٠١.
(٨) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٤.
21
غير سبب (١) تقدم. والآية احتجاج على منكري البعث، من جهة أن الذي أهلك من قبلهم وأنشأ بعدهم قرنًا آخرين قادر على أن يهلك العالم بأسره وينشئ بعده عالمًا آخر، وقادر على الإعادة بعد الإهلاك.
٧ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ﴾ قال الكلبي: (قال مشركو مكة: يا محمَّد، لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية) (٢). والقرطاس (٣): كاغدٌ (٤) يتخذ من بردي (٥) يكون بمصر، وكل كاغدٍ قرطاس، سواء كان من جنس القراطيس المصرية أو من غيرها، وإن كان قد غلب هذا الاسم عليها، وأراد بالكتاب المصدر (٦).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٦٧، و"الصحاح" ١/ ٧٧، و"المفردات" ص ٨٠٧ (نشأ).
(٢) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص ٢١٦، و"الوسيط" ١/ ١١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٢٩، وابن الجوزي ٣/ ٧.
وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ١٣٢، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٣٩٣، و"البحر" ٤/ ٧٧.
(٣) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٥١، و"جمهرة اللغة" ٣/ ١٢٧٥، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٣٥، و"الصحاح" ٣/ ٩٦٢، و"المفردات" ص ٦٦٦، و"اللسان" ٦/ ٣٥٩٢ (قرطس).
والقرطاس: الصحف التي يكتب فيها، وهو بكسر القاف أكثر استعمالا وأشهر من ضمها.
انظر: "البحر المحيط" ٤/ ٧٧، و"الدر المصون" ٤/ ٥٤٣.
(٤) الكاغد، بالفتح: القرطاس. انظر: "تاج العروس" ٥/ ٢٢٥.
(٥) قوله: (من بردى) عليه طمس في (أ)، والبردي، بفتح الباء وسكون الراء: نبات معروف. انظر: "اللسان" ١/ ٢٥١ (برد).
(٦) أي: بمعنى الكتابة: انظر: "تفسير القرطبي" ٦/ ٣٩٣، و"الدر المصون" ٤/ ٥٤٣.
22
قال ابن عباس (١) والسدي (٢) وقتادة (٣) ﴿فِي قِرْطَاسٍ﴾: (يعني: الصحيفة)، وروي عن ابن عباس أنه قال: (﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا﴾ معلقًا من السماء إلى الأرض) (٤)
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ قال قتادة: (فعاينوا ذلك معاينة ومسوه بأيديهم) (٥). وقال أهل المعاني: (اللمس (٦) باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة، لذلك قيل: ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ دون أن يقال: "لعاينوه" (٧)؛ لأن اللمس باليد يتضمن (٨) المعاينة وزيادة) (٩).
وقوله تعالى: ﴿لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أخبر الله تعالى أنهم يدفعون الدليل، حتى لو أتاهم الدليل مدركًا بالحس لنسبوه إلى السحر. قال أبو إسحاق: (لو رأوا الكتاب ينزل من السماء لقالوا: سحر،
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥١، بسند ضعيف.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥١، بسند جيد.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٠٣، والطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٦٤، بسند جيد، قال ابن أبي حاتم: (وروي عن السدي نحو ذلك).
(٤) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٢.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٠، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٦٤، بسند جيد. وأخرج الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣١٥، عن ابن عباس في الآية قال: (مسوه ونظروا إليه لم يؤمنوا به).
(٦) في (أ): (المس).
(٧) في النسخ: لعاينوه، والأولى "فعاينوه".
(٨) في (ش): (تضمن).
(٩) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٩٥، وتفسير البغوي" ٣/ ١٢٩، والزمخشري ١٢/ ١٦٠، و"تفسير الرازي" ١٢/ ١٣٣، و"البحر" ٤/ ٧٧.
23
كما [أنهم] (١) قالوا في انشقاق القمر: ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر: ٢]، وكذلك يقولون في كل آية يعجز عنها المخلوقون (٢)) (٣).
٨ - وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ قال المفسرون (٤): (طلبوا ملكًا يرونه [يقول (٥)]: إنه رسول الله، فقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي: لأهلكوا بعذاب الاستئصال)، وهو معنى قول الحسن (٦) وقتادة (٧) والسدي (٨)؛ وقال مجاهد (٩) وعكرمة (١٠): (لقامت الساعة) (١١)؛ وقال الزجاج: (معنى قضى الأمر: أُتم إهلاكهم (١٢) وقضى
(١) لفظ: (أنهم) ساقط من (ش).
(٢) في (ش): (المخلوقات)، وهو تحريف.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٢٩ - ٢٣٠، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٠٢.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٥١.
(٥) في (أ): (يقولون).
(٦) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٩٥، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٣، عن الحسن وقتادة.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٠٤، والطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥١ - ١٥٢، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٦٥، من طرق جيدة عن قتادة.
(٨) أخرجه الطبري ٧/ ١٥١، بسند جيد، وذكره ابن أبي حاتم ٤/ ١٢٦٥ عن السدي.
(٩) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٢، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٦٥ من طرق جيدة.
(١٠) عكرمة بن عبد الله البربري، أبو عبد الله المدني مولى ابن عباس، تقدمت ترجمته.
(١١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥١، بسند ضعيف، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٦٥، وذكر هذا القول ابن عطية ٥/ ١٣٢ عن مجاهد وضعفه، وذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٠٢، عن مجاهد وقال: (والمعنى عند أهل اللغة: لحتم بهلاكهم، وهو يرجع إلى ذلك القول) ا. هـ.
(١٢) في (ش): (أتم هلاكهم) وفي "معاني الزجاج": ٢/ ٢٣٠: (لتم هلاكهم).
على ضروب كلها يرجع إلى معنى انقطاع الشيء في تمامه) (١). وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة.
قال أهل العلم: (إنما لم ينظروا ولو نزل الملك؛ لأنه يجب أن يجروا على سنة من قبلهم ممن طلب الآيات فلم يؤمنوا، فأهلكوا بعذاب الاستئصال كثمود وعاد، لحكم الله في خلقه بذلك؛ لأنه أزجر عن التحكم بطلب الآيات، وأدعى إلى الإيمان خوفا من الإهلاك) (٢).
وقال الضحاك: (لو أتاهم ملك في صورته لماتوا) (٣).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ قال ابن عباس: إلا يؤخرون لتوبة ولا لغير ذلك) (٤).
٩ - وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا﴾ أي: لو جعلنا الرسول ملكًا أو الذي ينزل عليه ليشهد له بالرسالة كما يطلبون ذلك.
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ (٥) قال ابن عباس (٦) والمفسرون (٧): (لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته؛ لأن
(١) كذا في النسخ، وعند الزجاج: (انقطاع الشيء وتمامه).
(٢) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٩٧، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٢٩.
(٣) ذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٢٩، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٢، بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٢ - ١٥٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٦٦ بسند ضعيف.
وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢، وابن الجوزي "تفسيره" ٣/ ٨.
(٥) لفظ: (لجعلناه) عليه طمس في (أ).
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٢ - ١٥٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٦٦ بسند ضعيف.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٥٢، وذكره ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٣٣، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد.
25
أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة) (١).
قال الزجاج: (قيل: إن الملك لو نظر إليه ناظر على هيئته لصعق، ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في سورة الإنس، كجبريل عليه السلام (٢) يأتي النبي - ﷺ - (٣) في سورة دحية (٤) الكلبي، وكقصة نبإ الخصم إذ تسوروا (٥) المحراب، وكما أتوا إبراهيم (٦) ولوطًا -عليهما السلام- في صورة
(١) قال القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٣: (أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيقة؛ لأن كل جسم يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه) ا. هـ وقال ابن عطية ٥/ ١٣٣: (أهل التأويل مجمعون أنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته، فالأولى في قوله: ﴿لَقُضِيَ الْأَمْر﴾ أي لماتوا من هول رؤيته) ا. هـ ملخصًا وانظر: "البحر المحيط" ٤/ ٧٨.
(٢) في (ش): (كان يأتي).
(٣) أخرج البخاري (٣٦٣٣)، كتاب المناقب، باب علامات النبوة، ومسلم رقم ٢٤٥١، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (إن جبريل عليه السلام أتى النبي - ﷺ - وعنده أم سلمة فجعل يحدث ثم قام. فقال النبي لأم سلمة: "من هذا؟ " قالت: هذا دحية) الحديث. وقال ابن حجر في "الإصابة" ١/ ٤٧٣، والمناوي في "الفتح السماوي" ٢/ ٦٠٠: (أخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عمر قال: (كان جبريل يأتي النبي - ﷺ - في سورة دحية الكلبي). وانظر: "الكافي الشافي" لابن حجر ٦٠ - ٦١.
(٤) دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي صاحب النبي - ﷺ - ورسوله بكتابه إلى قيصر الروم ليوصله إلى هرقل، وهو صحابي جليل مشهور، وكان جميلًا يضرب به المثل في حسن الصورة، أسلم قبل بدر، وتوفي في خلافة معاوية. انظر: "الاستيعاب" ١/ ٤٧٢، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ٥٥٠، و"الإصابة" ١/ ٤٧٣، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٥٧٣، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٥/ ٢٢١.
(٥) قصة دواد عليه السلام مع الخصم مذكورة في سورة ص الآية ٢١ وما بعدها.
(٦) قصة إبراهيم عليه السلام مع الرسل مذكورة في مواضع من القرآن منها: في (سورة هود الآية: ٦٩ وما بعدها)، وفي (سورة الحجر الآية ٥١ وما بعدها)، وفي (سورة الذاريات الآية: ٢٤ وما بعدها).
26
الضيفان من الآدميين (١)) (٢)، وكذلك قصة جبريل مع النبي - ﷺ - حين أتاه يسأله عن الإيمان والإِسلام والإحسان والقدر. والخبر صحيح مشهور (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾:
يقال: لبست الأمر على القوم ألبسه لبسًا إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلًا (٤). قال ابن السكيت (٥): (يقال: لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته) (٦).
قال أهل اللغة (٧): (معنى اللبس: منع النفس من إدراك المعنى كما هو (٨) كالستر له، وأصله من الستر بالثوب ومنه لبس الثوب؛ لأنه ستر النفس به).
قال الضحاك (٩) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾:
(١) قصة لوط عليه السلام مع الرسل مذكورة في مواضع من القرآن منها: في (سورة هود الآية: ٧٧ وما بعدها) وفي (سورة الحجر ٦١ وما بعدها).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٣١، وانظر: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" للمبرد ص ٣٢.
(٣) أخرجه البخاري في "صحيحه" (٥٠)، كتاب الإيمان باب سؤال جبريل، ومسلم رقم (٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم عن عمر رضي الله عنه.
(٤) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٢٨.
(٥) تقدمت ترجمته.
(٦) "إصلاح المنطق" ص ٢٠٦، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٢٨.
(٧) انظر: "العين" ٧/ ٢٦٢، و"الجمهرة" ١/ ٣٤١، و"الصحاح" ٣/ ٩٧٣، و"المجمل" ٣/ ٨٠١، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢٣٠، و"المفردات" ص ٧٣٤، و"اللسان" ٧/ ٣٩٨٧ (لبس).
(٨) في (ش): (بما هو).
(٩) ذكره في "الوسيط" ١/ ١٢، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٣١، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٦٦، بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس نحوه.
27
(ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي).
قال الزجاج (١): (وكانوا هم يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي - ﷺ - فيقولون: إنما هو بشر مثلكم، فقال (٢) الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا﴾ فرأوا الملك رجلاً لكنا قد لبسنا عليهم؛ لأنه كان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم) أي: فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان. وهذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه من إنزال الملك لا يزيدهم بيانًا، بل يكون (٣) الأمر في ذلك على ما هم عليه من الحيرة بإعمالهم الشبهة.
وذكر صاحب "النظم" في هذه الآية وجهًا آخر فقال: (إنهم خلطوا على أنفسهم في التماس ما التمسوا، وتكلفوا منه ما لم يحتاجوا إليه، فالتمسوا نزول ملك يخبرهم أنه نبي، وقد كان لهم فيما مع النبي - ﷺ - من الآيات والدلائل (٤) كفاية وغنية عن نزول ملك، فقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا﴾ الآية.
يقول: لو أجبناهم إلى ما سألوا من ذلك فأنزلنا ملكًا لجعلناه رجلاً مثلهم في الخلقة والصورة، فيكون نزوله مثل طلوع الشمس من مغربها أو قيام الساعة، فلا يقبل مع ذلك إيمان، ولكن يجعله (٥) على سورة رجل، فلبس بذلك (٦) عليهم، أي: يعمى (٧) عليهم؛ معاقبة لتكلفهم ما لم يكلفوا
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣١.
(٢) في (ش): (وقال)، وهو تحريف.
(٣) في (ش): (بل يكون في الأمر في ذلك)، وهو تحريف.
(٤) في (ش): (والدلالات).
(٥) في (ش): (لجعله).
(٦) في (ش): (فلبس في ذلك).
(٧) في (ش): (لعمى معاقبة لهم).
28
ولم تكن بهم حاجة إليه، وهذا كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [المنافقون: ٣] وكان (١) الطبع معاقبة لهم على الكفر بعد الإيمان، فكذلك قوله: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ أي: نعاقبهم باللبس بما لبسوا على أنفسهم، فيكون اللبس نقمة من الله وعقوبة لهم علي ما كان منهم من التخليط في السؤال (٢).
١٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ الآية. قال المفسرون (٣): (هذه الآية تعزية للنبي - ﷺ - وتسلية له عما يرى من تكذيب المشركين إياه واستهزائهم به؛ إذ جعل إسوته في ذلك بالأنبياء الذين كانوا قبله، وتحذير المشركين الذين فعلوا بنبيهم ما فعل من قبلهم من مكذبي الرسل فحل بهم العذاب).
وقوله تعالى: ﴿فَحَاقَ﴾ قال النضر (٤): (يقال: حاق بهم العذاب كأنه وجب عليهم. قال: يقال: حاق العذاب يحيق، فهو حائق) (٥).
وقال الليث (٦): (الحيق: ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء بعمله
(١) في (ش): (فكان).
(٢) لم أقف عليه. وانظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٩٧، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ١٣٣، و"بدائع التفسير" ٤/ ١٤٢.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٥٣، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٤٧٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣١، والزمخشري في "تفسيره" ٢/ ٧، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٣٤، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٤، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٤١.
(٤) النضر بن شميل المازني، أبو الحسن البصري، توفي سنة ٢٠٤ هـ تقدمت ترجمته.
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٧٠٨.
(٦) الليث بن نصر بن سيار الخراساني، ويقال: الليث بن المظفر بن نصر بن سيار، إمام لغوي، صاحب نحو وغريب وشعر، ومن أصحاب الخليل، ويقال: إنه هو الذي ألف كتاب "العين". انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٤٧، و"إنباه الرواة" ٣/ ٤٢، =
29
فنزل ذلك به. كقول: أحاق الله بهم مكرهم وحاق بهم مكرهم) (١) سلمة (٢) عن الفراء في قوله: ﴿وَحَاقَ بِهِمْ﴾ [الأحقاف: ٢٦] هو في كلام العرب عاد عليهم) (٣).
قال ابن عباس في رواية (٤) عطاء في قوله تعالى: ﴿فَحَاقَ﴾ (يريد: فحَلَّ)
وقال الربيع (٥): (نزل) (٦).
وقال الفراء (٧): (يقال: حاق بهم يحيق حيقًا وحيوقًا وحيقانًا، بفتح الحاء والياء) (٨).
= و"معجم الأدباء" ١٧/ ٤٣، و"إشارة التعيين" ص ٢٧٧، و"لسان الميزان" ٤/ ٤٩٤، و"البلغة" ص ١٧٨.
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ٧٠٨، وانظر: "العين" ٣/ ٢٥٦ (حاق).
(٢) سلمة بن عاصم البغدادي، أبو محمد، إمام لغوي نحوي، تقدمت ترجمته.
(٣) "معاني الفراء" ٣/ ٥٦، وزاد فيه: (وجاء في التفسير نزل بهم).
(٤) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٧٥ ب والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٠ عن عطاء فقط.
(٥) الربيع بن أنس بن زياد البكري البصري نزيل خراسان، تقدمت ترجمته.
(٦) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٧٥ ب، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٠.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣ دون (وحيقانا)، ولم أقف عليه في معناه، ولعله من كتاب المصادر المفقود.
(٨) انظر: الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٤، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٤، و"البحر" ٤/ ٨٠، و"الدر المصون" ٤/ ٥٤٦، وفي "القاموس" ص ٨٧٧. قال: (حاق به يحيق حيقًا وحيوقًا وحيقانًا أحاط به). وانظر: "الصحاح" ٤/ ١٤٦٦، و"المجمل" لابن فارس ١/ ٢٥٩، و"مقاييس اللغة" ٢/ ١٢٥، و"المفردات" ص ٢٦٦، و"اللسان" ٢/ ١٠٧٢ (حاق).
30
قال الضحاك: ﴿فَحَاقَ﴾: (أي: أحاط) (١)، وهو اختيار الزجاج؛ لأنه قال في قوله: ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [هود: ٨]: أي: أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء ما كانوا (٢) يستهزئون به، كما تقول: أحاط بفلان عمله وأهلكه كسبه، أي: أهلكه جزاء كسبه) (٣).
قال الأزهري: (جعل أبو إسحاق حاق بمعنى أحاط، وكأن مأخذه من الحوق (٤)، وهو ما استدار بالكمرة (٥). قال: وجائز أن يكون الحوق فعلًا من حاق يحيق كأنه كان في الأصل حيقًا فقلبت الياء واوًا لانضمام ما قبلها) (٦).
(١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٧٥ ب، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٠، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٨٠.
(٢) في (ش): (ما كانوا به).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣١ - ٣/ ٤١، و"تهذيب اللغة" ١/ ٧٠٨، وفي "معاني الزجاج" ٤/ ٢٧٥ - قال: (يحيق: يحيط). والأقوال متقاربة، وأكثرهم على أنه بمعنى نزل وأحاط بهم العذاب، قال الرازي ١٢/ ١٦٣: (في تفسيره وجوه كثيرة وهي بأسرها متقاربة) ا. هـ. وانظر "مجاز القرآن" ١/ ١٨٥، و"تفسير الطبري" ٧/ ١٥٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٠٣، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٢٧٥، و"الكاشف" ٢/ ٧، وابن عطية ٥/ ١٣٤.
(٤) قال السمين في "الدر" ٤/ ٥٤٦: (حاق ألفه منقلبة عن ياء، بدليل يحيق كباع يبيع، والمصدر حيق وحيوق وحيقان، وزعم أنه من الحوق وهو المستدير بالشيء، وهذا ليس بشيء؛ لاختلاف المادة، إلا أن يراد الاشتقاق الأكبر، وأيضًا هو دعوى جردة من غير دليل) ا. هـ. ملخصًا. ونحوه قال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٨٠، وانظر: "روح المعاني" ٧/ ١٠٢.
(٥) الكمرة، بالفتح: رأس الذكر. انظر: "القاموس" ص ٤٧١.
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٧٠٨ (حاق).
31
وأكثر المفسرين جعلوا الآية من باب حذف المضاف؛ لأنهم قالوا: نزل وأحاط بهم عقوبة ما كانوا به يستهزئون وجزاء ما كانوا به يستهزئون. قال الزجاج: ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣] أي: لا يرجع عاقبة مكرهم إلا عليهم) (١)، وهذا إذا جعلت ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ عبارة عن القرآن والشريعة وما جاء به النبي - ﷺ -، وإن جعلت ﴿مَا﴾ عبارة عن العذاب الذي كان (٢) يوعدهم به النبي - ﷺ - إن لم يؤمنوا استغنيت عن تقدير حذف المضاف، ويكون المعنى: فحاق بهم الذي كانوا يستهزئون به من العذاب وينكرون وقوعه (٣).
١١ - قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: (سافروا في الأرض، ﴿ثُمَّ انْظُرُوا﴾: فاعتبروا، ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾: مكذبي الرسل) (٤).
قال قتادة (٥): (دمر الله عليهم، ثم صيرهم إلى النار). قال مقاتل:
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣١، وفيه: (أي لا ترجع عاقبة مكروهة إلا عليهم) ا. هـ.
(٢) في (أ): (الذي كانوا).
(٣) انظر: الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٦٣، وذكر قول الواحدي السمين في "الدر" ٤/ ٦٥٤٧، و (ما) في قوله: ﴿مَا كَانُوا﴾ موصولة ولا حاجة إلى الإضمار والمعنى، نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به وهو ظاهر كلام الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٣، والزمخشري ٢/ ٧، ورجحه أبو حيان ٤/ ٨٠، وذكر الألوسي في "روح المعاني" ٧/ ١٠٢، أن هذا اختيار الواحدي، وقال بعضهم: (ما) مصدرية، والمعنى: نزل بهم عاقبة أو جزاء أو وبال استهزائهم. "إعراب النحاس" ١/ ٥٣٧، و"المشكل" ١/ ٢٤٦، و"البيان" ١/ ٣١٤، و"التبيان" ص ٣٢٣، و"الفريد" ٢/ ١٢٤.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٦، ففيه نحوه.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٤، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٦٨، بسند جيد.
(يحذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية). (١)
قال أهل المعاني: (والمكذب قد صار صفة ذم، وإن كان يجوز أن يكذب بالباطل فلا يكون ذمًّا؛ لأنه من أصل فاسد، وهو الكذب، فصار الذم أغلب عليه، كما أن الكفر صفة ذم، مع أنه قد يكفر (٢) بالطاغوت؛ لأنه من أصل فاسد، وهو كفر النعمة) (٣).
١٢ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال أهل المعاني: (هذا أمر من الله تعالى لنبيه - ﷺ - بسؤال قومه، وذلك أن السؤال يبعث النفس على طلب الجواب وتبين ما سئل عنه) (٤).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ﴾ قال صاحب النظم: (جاء السؤال والجواب من جهة واحدة، وهو محمول على أنه لما أنزل: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قيل لهم ذلك كما أمر به وأنهم أجابوا وقالوا: فلمن هو؟ فجاء الجواب: ﴿قُلْ لِلَّهِ﴾، فهذا جواب عن سؤال مضمر دل عليه الكلام) (٥).
(١) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥١.
(٢) في (أ): (تكفر) وهو تصحيف.
(٣) لم أقف على من ذكر مثل هذا المعنى، وفي القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٥، قال: (والمكذبون هنا من كذب الحق وأهله لا من كذب بالباطل) ا. هـ.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٥٤، و"الرازي" ١٢/ ١٦٤.
(٥) ذكره الكرماني في "غرائب التفسير" ١/ ٣٥٤، والسمين في "الدر" ٤/ ٥٤٩، عن صاحب النظم، وهو قول أحمد بن فارس في "الصاحبي" ص ٣٩١، وقال السمين: (هذا قول بعيد؛ لأنهم لم يكونوا يشكون في أنه هو الله، وإنما هذا سؤال تبكيت وتوسخ، ولو أجابوا لم يسعهم أن يجيبوا إلا بذلك) ا. هـ وأكثرهم على أن ﴿قُلْ لِلَّهِ﴾ أمر بالجواب عقيب السؤال نيابة عنهم تقريرا لهم وتنبيهًا على أن الجواب متعين بالاتفاق، ولأنه أبلغ في التأثير، وآكد في الحجة. انظر: الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٠، والزمخشري في "تفسيره" ٢/ ٧، وابن =
33
وقوله تعالى: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ قال ابن عباس: (قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين) (١).
وقال أهل المعاني: (٨) أخبر عن عظم ملكه بأن له ما في السموات والأرض ذكر أنه أوجب على نفسه الرحمة؛ تلطفًا في الاستدعاء إلى الإنابة، واستعطافًا للمتولين عنه إلى الإقبال إليه). (٢)
وقوله تعالى: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾، الأكثرون على أن هذا ابتداء كلام، واللام فيه لام قسم مضمر، كأنه: والله ليجمعنكم (٣)، وجعل الزجاج ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ متصلًا بما قبل فقال في معنى قوله: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾: (الله عز وجل تفضل على العباد بأن أمهلهم عند كفرهم به وإقدامهم على كبائر ما نهى عنه، بأن أنظرهم وعمَّرهم وفسح لهم ليتوبوا، فذلك كتبه على نفسه الرحمة) (٤). وعلى هذا قوله تعالى: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ يكون موضعه [نصبا] (٥) بدلاً من ﴿الرَّحْمَةَ﴾، وذلك أنه مفسر للرحمة بالإمهال ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾. وذكر الفراء المذهبين (٦) جميعًا فقال: (إن شئت جعلت
= عطية في "تفسيره" ٥/ ١٣٦، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٦٤، و"البحر" ٤/ ٨١.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤، وابن الجوزي ٣/ ٩.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٥٥، و"معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٣١، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٣٠.
(٣) أي جواب قسم محذوف، والجملة لا تعلق لها بما قبلها من حيث الإعراب، وإن تعلقت به من حيث المعنى، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٧، وابن عطية ٥/ ١٣٩، والسمين في "الدر" ٤/ ٥٥٠، وابن هشام في "المغني" ٢/ ٤٠٧.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣١ - ٢٣٢.
(٥) لفظ: (نصبا)، ساقط من (أ).
(٦) "معاني الفراء" ١/ ٣٢٨، ونحوه قال الزجاج ٢/ ٢٣٢، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٣٨، و"التبيان" ١/ ٣٢٥، و"الفريد" ٢/ ١٢٥.
34
﴿الرَّحْمَةَ﴾ غاية الكلام ثم استأنفت بعدها ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾، وإن شئت [جعلته] (١) في موضع نصب كما قال تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ﴾ الآية [الأنعام: ٥٤]. وعلى هذا يكون قوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ جوابًا لقوله: ﴿كُتِبَ﴾؛ لأنه بمعنى أوجب، والقسم يوجب كما يوجب ﴿كُتِبَ﴾، فلما كان معنى قوله: ﴿كُتِبَ﴾، مثل معنى القسم حمل الجواب على معنى القسم، قاله الجرجاني (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [قال الزجاج] (٣): (معناه: ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه، كما تقول: قد جمعت هؤلاء إلى هؤلاء، أي: ضممت بينهم في الجمع) (٤).
وقال صاحب النظم: (التأويل: ليؤخرن جمعكم إلى يوم القيامة، وقوله: ﴿إِلَى﴾ دليل على معنى التأخير في الجمع إلى هذا اليوم) (٥)، وهذا القول غير ما قال الزجاج في ﴿إِلَى﴾.
(١) (جعلته)، ساقط من (ش).
(٢) لم أقف عليه، وهذا القول هو ظاهر كلام الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٦١، وابن الأنباري في "البيان" ١/ ٣١٥، وانظر: "المشكل" ١/ ٢٤٦، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٦٥، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٥، و"البحر" ٤/ ٨٢.
(٣) (قال الزجاج): ساقط من (ش).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٢.
(٥) لم أقف عليه. و (إلى) لها عدة معانٍ، كما في "حروف المعاني" للزجاجي ص ٦٥، و"معاني الحروف" للرماني ص ١١٥، و"المغني" لابن هشام ١/ ٧٤، والأظهر هنا قول الجمهور أنها على بابها للغاية، أي: ليجمعنكم منتهين إلى يوم القيامة. وقيل: هي بمعنى في، وقيل: بمعنى اللام، وقيل: زائدة. انظر: البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣١، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٣٩، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٦٦، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٥، و"البحر" ٤/ ٨٢، و"الدر المصون" ٤/ ٥٥٠.
35
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: بالشرك بالله أوبقوا أنفسهم، وكانوا كمن خسر شيئًا يهلكه. واختلفوا في إعراب ﴿الَّذِينَ﴾، فزعم الأخفش (١): (أن موضعه نصب على البدل من الضمير في: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾، والمعنى: ليجمعن هؤلاء المشركين ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾) (٢).
قال أبو إسحاق: (والذي عندي أن قوله: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ في موضع رفع على الابتداء، وخبره: ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ لأن قوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ مشتمل على الجميع، على ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ وغيرهم (٣).
(١) "معاني الأخفش" ٢/ ٢٦٩، وهو قول الطبري في "تفسيره" ١١/ ٢٨١.
(٢) هنا وقع اضطراب في نسخة (أ) ص ١٠٢ حيث جاء باقي التفسير في ١٠٣ ب.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٢، وهو اختيار أكثرهم.
انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٣٨، و"المشكل" ١/ ٢٤٧، و"غرائب الكرماني" ١/ ٣٥٤، و"البيان" ١/ ٣١٥، و"التبيان" ١/ ٣٢٥.
وقال الهمداني في "الفريد" ٢/ ١٢٦: (هذا فيه تأخير السبب وتقديم المسبب، فالأحسن كونه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين، والفاء على هذا للعطف) ا. هـ. بتصرف.
وأكثرهم ضعف الوجه الأول؛ لأن القاعدة العامة عند النحاة ألا يبدل مظهر من مضمر بدل كل من غير إحاطة وشمول، وقوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ مشتمل على سائر الخلق الذين خسروا أنفسهم، فلا وجه لاختصاصه بهم، ولا يقال: رأيتك زيدًا على البدل؛ لأن ضمير المخاطب في غاية الوضوح، فلا حاجة إلى البدل منه، أفاده الهمداني في "الفريد" ٢/ ١٢٦، و"السمين" ٤/ ٥٥١.
وانظر: "الكتاب" ٢/ ٣٨٥ - ٣٨٩، و"المقتضب" ٤/ ٢٩٥ - ٢٩٨، و"الأصول" ٢/ ٣٠٤ - ٣٠٥، و"المقرب" ١/ ٢٤٢، و"البحر" ٤/ ٨٢.
36
والفاء في قوله ﴿فَهُمْ﴾ (١) تضمن (٢) معنى الشرط والجزاء كقولهم: الذي يكرمني فله درهم، دخلت الفاء؛ لأن الدرهم وجب بالإكرام، فكأن الإكرام شرطًا والدرهم، جزاء، كما تقول: من يأتني فله درهم (٣). ويجوز أن يقال: إن الفاء زائدة، فإنها تزاد في مواضع، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم (٤). من ذلك قولهم: زيدًا فاضرب، وقوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)﴾ [المدثر: ٤: ٥]، الفاء هاهنا زائدة (٥).
١٣ - وقوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ قال الكلبي: (إن
(١) ذكر هذا القول كل من رجح قول الزجاج. وانظر: "تفسير ابن عطية" ٦/ ١٣، والرازي ١٢/ ١٦٦.
(٢) في (ش): (يتضمن).
(٣) الفاء تربط شبه الجواب بشبه الشرط، فيجوز دخول الفاء في خبر الموصول. انظر: "معاني الأخفش" ١/ ١٨٧، و"الأصول" ٢/ ٢٧٢، و"المغني" ١/ ١٦٥.
(٤) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١٧١ ب و١/ ٢٢٣ أ.
(٥) هذا قول ابن جني في "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٥٨ - ٢٦٠، بتصرف واختصار، وأكثرهم على أن الفاء في ﴿فَهُمْ﴾ رابطة وليست زائدة، وقد اختلف في زيادة الفاء فأجازه الرماني في "معاني الحروف" ص ٤٣ - ٤٧ وابن هشام في "المغني" ١/ ١٦٥ - ١٦٦.
وقال ابن هشام في "الإعراب عن قواعد الإعراب" ص ١٩٨ - ١٠٩: (وينبغي أن يتجنب المعرب أن يقول في حرف في كتاب الله تعالى إنه زائد؛ لأنه يسبق إلى الأذهان أن الزائد هو الذي لا معنى له، وكلام الله سبحانه منزه عن ذلك، والزائد عند النحويين معناه الذي لم يؤت به إلا لمجرد التقوية والتوكيد لا المهمل، وكثير من المتقدمين يسمون الزائد صلة، وبعضهم يسميه لغوًا، لكن اجتناب هذه العبارة في التنزيل واجب) ا. هـ.
وانظر: "البرهان" للزركشي ١/ ٣٠٥، و"الدر المصون" ٥/ ٢٦٣، و"موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب" لخالد الأزهري ص ١٦٧ - ١٧٠.
37
كفار مكة قالوا للنبي - ﷺ -: قد علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ (١).
قال ابن الأعرابي (٢): (وله ما حل في الليل والنهار) (٣)، وهذا موافق لقول ابن عباس: (وله ما استقر في الليل والنهار من خلق) (٤).
قال أبو العباس أحمد (٥): (أراد الساكن من الناس والبهائم خاصة، وسكن: هذا بعد تحرك، وإنما معناه -والله أعلم- الخلق) (٦)؛ وهذا مذهب جماعة أن المراد بهذا ما كان من ذي روح، وبه قال مقاتل: (وله مما استقر في الليل والنهار من الدواب والطير في البر والبحر) (٧).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٧، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٧٦ أ، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص ٢١٦، عن الكلبي عن ابن عباس، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٩ - ١٠، عن ابن عباس.
(٢) ابن الأعرابي: محمد بن زياد الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله الأعرابي الكوفي، إمام ورع ثقة كثير السماع والرواية عالم باللغة والنحو والأدب والتاريخ والنسب، له كتب منها: "النوادر"، و"معاني الشعر"، و"تاريخ القبائل"، و"تفسير الأمثال". توفي سنة ٢٣١ هـ. وله ٨٠ سنة. "طبقات الزبيدي" ص ١٩٥، و"تاريخ بغداد" ٥/ ٢٨٢، و"إنباه الرواة" ٣/ ١٢٨، و"معجم الأدباء" ١٨/ ١٨٩، و"سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٦٨٧.
(٣) تهذيب اللغة ٢/ ١٧٢٤ (سكن).
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٧، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦.
(٥) تقدمت ترجمته.
(٦) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٢٤ (سكن).
(٧) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٢.
38
قال أبو روق (من الخلق ما يستقر نهارًا وينتشر ليلاً، ومنها ما هو على الضد) (١).
وقال بعضهم: (هذا عام في جميع المخلوقات؛ لأنه لا شيء من خلق الله إلا وهو ساكن في الليل والنهار، على معنى أنهما يشملانه ويمران عليه) (٢)، وهذا مذهب عبد العزيز بن يحيى (٣) ومحمد بن جرير (٤) (٥)؛ قال عبد العزيز: (كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكني الليل والنهار) (٦)؛ وعلى هذا ليس المراد بالسكون في الآية الذي هو ضد الحركة، بل المراد به الحلول، كما قاله ابن الأعرابي من قولهم: فلان (٧) يسكن بلد كذا إذا كان يحله (٨).
(١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٧٦ أ، وهو قول مقاتل ١/ ٥٥٢.
(٢) (عليه) ساقط من (أ)، وقال القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٦: (هذا أحسن ما قيل؛ لأنه يجمع شتات الأقوال) ا. هـ.
(٣) عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم الكناني المكي، إمام فاضل فقيه مناظر من تلاميذ الشافعي، يُنسب له كتاب "الحيدة" مطبوع. توفي سنة ٢٤٠ هـ انظر: "تاريخ بغداد" ١٠/ ٤٤٩، و"ميزان الاعتدال" ٢/ ٦٣٩، و"طبقات السبكي" ٢/ ١٤٤، و"طبقات الأسنوي" ١/ ٤١، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٥٩٨، و"الأعلام" ٤/ ٢٩.
(٤) محمَّد بن جرير الطبري صاحب التفسير.
(٥) "تفسير الطبري" ٧/ ١٥٨.
(٦) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٧٦ أ.
(٧) انظر: "العين" ٥/ ٣١٢، و"الجمهرة" ٢/ ٨٥٥، و"الصحاح" ٥/ ٢١٣٦، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٨٨، و"المفردات" ص ٤١٧، و"اللسان" ٤/ ٢٠٥٢ (سكن).
(٨) هذا القول هو الراجح عند أكثر المفسرين. انظر: الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٨، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٤١، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٦٨، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٦، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٤١. وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦، عن أهل المعاني.
39
وقال جماعة من أصحاب المعاني: (في الآية محذوف، والتقدير: وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار، كقوله تعالى: ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] أراد: الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر؛ لأنه يعرف ذلك بقرينته، كذلك هاهنا حذف ذكر الحركة واقتصر على السكون؛ لأن ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة (١).
قال أبو إسحاق: (هذا أيضًا احتجاج على المشركين؛ لأنهم لم ينكروا أن ما استقر في الليل والنهار لله الذي هو خالقه ومدبره، والذي هو كذلك قادر على إحياء الموتى) (٢).
١٤ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: خالقهما، ابتدأ على غير مثال سبق، والفطرة ابتداء الخلقة. قال ابن عباس: (كنت ما أدري ما فاطر السموات حتى احتكم إلى أعرابيان في بئر، قال أحدهما: أنا فطرتها، وأنا ابتدأت حفرها) (٣).
(١) لم أجده بنصه في كتب المعاني ولكن معناه عند أكثرهم. انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٩٧، و"غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٣٥٤، و"تفسير البغوي" ١/ ١٣١، و"زاد المسير" ٣/ ١٠، و"البحر المحيط" ٤/ ٨٣ - ٨٤، و"الدر المصون" ٤/ ٥٥٣ - ٥٥٤، و"تفسير البيضاوي" ١/ ١٣٤.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٣٢، وذكر نحوه النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٠٥.
(٣) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص ٢٠٦، وفي "غريب الحديث" ٢/ ٣٨٨، والطبري في "تفسيره" ٧/ ١٥٩، قال ابن حجر في "الكافي الشافي" ص ٦١، والمناوي في "الفتح السماوي" ٢/ ٦٠٢: إسناده حسن ليس فيه إلا إبراهيم بن مهاجر. ا. هـ. وإبراهيم بن مهاجر البجلي الكوفي مختلف فيه، قال ابن حجر في "التقريب" (٢٥٤): صدوق لين الحفظ. ا. هـ. وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص ٤٤ من طريق آخر ضعيف، ومن طريق إبراهيم بن مهاجر أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٦٩ عن ابن عباس قال: فاطر السموات والأرض، =
40
وقرأت على أبي الفضل العروض -رحمه الله (١) - فقلت: أخبركم الأزهري قال: أخبرني المنذري (٢) عن أبي العباس أنه سمع ابن الأعرابي يقول: (أنا أول من فطر هذا، أي: ابتدأه) (٣). وقال ابن الأنباري (٤): (أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه) (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يريد: خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يكون فيه الشق والتأليف عند ضم بعض الأشياء إلى بعض، فلما كان الأصل للشق جاز أن يكون في حال شق إصلاح وفي حال أخرى شق إفساد، ففاطر السموات من الإصلاح لا غير، وقوله: ﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [الملك: ٣]، و ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الانفطار: ١] من
= أي: بديع السماوت والأرض. ا. هـ وذكر الأول أكثرهم. انظر: "الجمهرة" ٢/ ٧٥٥، و"الصحاح" ٢/ ٧٨١، (فطر)، و"تفسير الثعلبي" ص ١٧٦/ أ، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٩٧، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ١٤١، و"تفسير ابن الجوزي" ٣/ ١١، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٦٨.
(١) أبو الفضل العروضي: أحمد بن محمد بن عبد الله الصفار، إمام تقدمت ترجمته.
(٢) المنذري: محمد بن أبي جعفر المنذري، أبو الفضل الهروي، تقدمت ترجمته.
(٣) "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٢٦ (فطر).
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٦٨.
(٥) أهل اللغة والتفسير على أن الفطر بمعنى الشق والخلق والإنشاء. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٨٧، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٣٤، و"الجمهرة" ٢/ ٧٥٥، و"المجمل" ٣/ ٧٢٣، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٥١٠، و"اللسان" ٦/ ٣٤٣٢ (فطر). وقال السمين في "الدر" ٤/ ٥٥٦: (الفطر: الشق مطلقًا، وقيده الواحدي بشق الشيء عند ابتدائه) ا. هـ. وأكثرهم قيده بذلك. انظر: "العين" ٧/ ٤١٧، و"تفسير غريب القرآن" ص ١/ ١٥١، والطبري في "تفسيره" ١/ ١٥٩، و"نزهة القلوب" ص ٣٥٢، و"الصحاح" ٢/ ٧٨١، (فطر) "تفسير الماوردى" ٢/ ٩٨، و"النهاية" لابن الأثير ٣/ ٣٥٧.
41
الإفساد، وأصلهما واحد (١).
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ قال السدي: وهو يرزق ولا يُرْزَق. (٢)
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي: وقيل لي ذلك وصارت ﴿أُمِرْتُ﴾ (٣) بدلاً من ذلك؛ لأنه حين قال: ﴿أُمِرْتُ﴾ أخبر أنه قيل له ذلك، فقوله: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ معطوف على ما قبله في المعنى؛ لأن معنى ﴿أُمِرْتُ﴾: قيل لي (٤). والآية حجة على المشركين من جهة أن من يُطْعَم هذا العالم الذي فطره، ولا يُطْعَم لغناه عن كل شيء، فواجب أن يستنصر منه ويؤمل النفع منه لا من غيره (٥).
١٦ - قوله تعالى: ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ﴾ وقرأ (٦) حمزة والكسائي ﴿يُصْرَفْ﴾ بفتح الياء وكسر الراء، وفاعل الصرف على هذه القراءة الضمير
(١) ذكر نحوه الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٣٣، والراغب في "المفردات" ص ٦٤٠، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٦٩.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ١٥٩، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٧٠ بسند جيد.
(٣) (أمرت) ساقط من: (ش).
(٤) هذا قول الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٧٠، والطبري في "تفسيره" ٤/ ١٥٩، وذكره أكثر أهل التفسير. انظر: "غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٣٥٤، والزمخشري في "تفسيره" ٢/ ٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٢، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٤٣، و"زاد المسير" ٣/ ١١، و"التبيان" للعكبري ١/ ٣٢٦، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٧، و"البحر المحيط" ٤/ ٨٦، و"الدر المصون" ٤/ ٥٥٨.
(٥) هذا معنى قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٣٣.
(٦) قرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم (يَصْرِفْ) بفتح الياء وكسر الراء، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الراء. انظر: "السبعة" ص ٢٥٤، و"المبسوط" ص ١٦٦، و"التذكرة" ٢/ ٣٧٥، و"التيسير" ص ١٠١، و"النشر" ٢/ ٢٥٧.
42
العائد إلى ﴿رَبِّي﴾ من قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي﴾، على تقدير: من يصرف هو يومئذ عنه العذاب. وحجة هذه القراءة قوله فيما بعده: ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾، فلما كان ما بعده فعلًا مسندًا إلى ضمير اسم الله سبحانه، وجب أن يكون هذا أيضاً مسندًا إليه، ليتفق الفعلان في الإسناد إلى هذا الضمير، والضمير العائد إلى العذاب محذوف، والمعنى: من يصرف عنه كما هو في قراءة أُبيّ (من يصرفه) (١) بإثبات الهاء، وليس حذف هذا الضمير بالسهل؛ لأن ﴿مِنْ﴾ هاهنا جزاء وليس بموصول، فيحسن حذف العائد من الصلة، على أن الضمير إنما يحذف من الصلة إذا عاد إلى الموصول نحو: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان: ٤١] ﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: ٥٩] أي: بعثه واصطفاهم، ولا يعود الضمير المحذوف هاهنا إلى موصول ولا إلى ﴿مِنْ﴾ التي للجزاء، إنما يرجع إلى العذاب من قوله: ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، والذي يحمل عليه حذف هذا الضمير من يصرفه أنه لما كان في حيز الجزاء، وكان ما في حيزه في أنه لا يتسلط على ما تقدمه بمنزلة ما في الصلة في أنه لا يجوز تسلطه على الموصول، فحسن حذف الهاء منه، كما حسن حذفها من الصلة.
ومن قرأ ﴿يُصْرَفْ﴾ (٢) فالمسند إليه الفعل المبني للمفعول ضمير العذاب المتقدم ذكره. ويقوي هذه القراءة قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ
(١) ذكرها أكثرهم، ففي "الحجة" لأبي علي ٣/ ٢٨٦: (من يصرفه عنه)، وفي "مختصر الشواذ" ص ٤٢، و"الكشف" لمكي ١/ ٤٢٥، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٧، (من يصرفه الله عنه)، وفي "الكشاف" ٢/ ٩، و"البحر" ٤/ ٨٦، و"الدر المصون" ٤/ ٥٥٩، (من يصرف الله عنه)، وذكر ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٤٤، (من يصرفه الله عنه. وقيل: من يصرف الله عنه) ا. هـ.
(٢) أي بضم الياء وفتح الراء.
43
مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: ٨]، ألا ترى أن الفعل بُني للمفعول به (١). قال أهل المعاني في هذه الآية: (من يصرف عنه العذاب يومئذ فقد أوجب الله له الرحمة بالثواب لا محالة، فذكر الرحمة مع صرف العذاب؛ لئلا يتوهم أنه ليس [له] (٢) إلا صرف العذاب عنه فقط) (٣).
١٧ - وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ﴾ الآية [إن] (٤) قيل: إن المس من صفة الأجسام فكيف قال: ﴿يَمْسَسْكَ اللَّهُ﴾؟ والجواب: أن يقال: الباء في بالضر للتعدية، والباء والألف يتعاقبان في التعدية، والمعنى: إن أمسك ضرًا أي: جعله يمسك، فالفعل للضر، وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى كما أنك إذا قلت: ذهب عمر وزيد، كان الذهاب فعلًا لزيد غير أن عمرًا (٥) هو المسبب له والحامل عليه. كذلك هاهنا المس للضر، والله تعالى جعله ماسًّا (٦).
(١) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٢٨٥ - ٢٨٧، مع بعض التصرف والاختصار. وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٦٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٣٩، و"معاني القراءات" ١/ ٣٤٦، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٢، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٣٦، ولابن زنجلة ص ٢٤٣، و"الكشف" ١/ ٤٢٥، و"الدر المصون" ٤/ ٥٥٩.
(٢) (له) ساقط من (ش).
(٣) لم أقف على من ذكر هذا المعنى. وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ١٤٤، و"الفخر الرازي" ١٢/ ١٧٠.
(٤) (إن) ساقط من (ش).
(٥) في (أ): (أن عمروًا).
(٦) رجح أبو حيان في "البحر" ٤/ ٨٧، والسمين في "الدر" ٤/ ٥٦٤، أن الباء هنا للتعدية، وذكر قول الواحدي "السمين"، وانظر: القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٨.
والضر اسم جامع لكل ما يتضرر به الإنسان من فقر ومرض (١) وزمانة، كما أن الخير جامع لكل ما ينتفع به الإنسان (٢).
١٨ - وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ قال الليث: (القهر: الغلبة والأخذ من فوق، والله القاهر القهار، قهر (٣) خلقه بقدرته وسلطانه، فصيرهم على ما أراد طوعًا وكرهًا. يقال: أخذت الشيء قهرًا إذا أخذته دون رضا صاحبه). ومعنى ﴿الْقَاهِرُ﴾ في صفة الله تعالى يعود إلى أنه القادر الذي لا يعجزه شيء (٤).
ومعنى ﴿فَوْقَ﴾ هاهنا أن قهره قد استعلى عليهم، فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم من الاقتدار الذي لا ينفك منه أحد (٥).
(١) قال أهل اللغة: الضر، بالضم: سوء الحال، وبالفتح: ضد النفع. وبعضهم قال: هما لغتان. انظر: "العين" ٧/ ٦، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٠٨، و"الصحاح" ٢/ ٧١٩، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٣٦٠ "مجمل اللغة" ٢/ ٥٦١، و"المفردات" ص ٥٠٣، و"اللسان" ٥/ ٢٥٧٣ (ضر).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٩٦٠، و"الصحاح" ٢/ ٦٥١، و"مجمل اللغة" ٢/ ٣٠٨، و"المفردات" ص ٣٠٠، و"اللسان" ٣/ ١٣٠٠ (خير).
(٣) في النسخ: -وهو خلقه- وهو تحريف، والصواب ما أثبته من نص قول الليث في في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٠٨، وانظر: "الجمهرة" ٣/ ٧٩٧، و"الصحاح" ٢/ ٨٠١، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٣٥، و"المجمل" ٣/ ٧٣٦، و"المفردات" ص ٦٨٧، و"اللسان" ٦/ ٣٧٦٤ (قهر).
(٤) انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص ٣٨، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص٨٢، وص ٥٢٥ - ٥٣٠، و"المقصد الأسنى" للغزالي ص ٧٧، و"شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص ٢٢٠، و"الحق الواضح المبين" للسعدي ص ٧٥، و"شرح أسماء الله الحسنى" للقحطاني ص ١٢٨.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٦١، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٤٧٧، و"تفسير المارودي" ٢/ ٩٩، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ١٤٧، والقرطبي ٦/ ٣٩٩. وما ذكره =
و ﴿الْخَبِيرُ﴾ العالم بالشي. وتأويله: أنه العالم بما يصح أن يخبر به، والخبر (١) علمك بالشيء، تقول: لي به خبر، أي: علم، وأصله (٢) من الخبر؛ لأنه طريق من طرق العلم.
١٩ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾ الآية، قال المفسرون: (قال أهل مكة للنبي - ﷺ -: ائتنا بمن يشهد لك بالنبوة، فإن اليهود والنصارى ينكرونك (٣)، فنزلت هذه الآية (٤).
قال أصحاب المعاني: (في هذه الآية دلالة أن (شيئًا) من أسماء الله (٥) عز وجل، وأنه يجوز أن يسمى شيئًا؛ لأن قوله: ﴿أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾ جاء
= الواحدي مجاز وهو قول المؤولة الذين ينفون عن الله تعالى العلو الذي أثبته لنفسه، ومذهب أهل السنة والجماعة أن حقيقة الفوقية علو ذات الشيء على غيره، فالحق أنه تعالى مستعل على كل شيء بذاته وقدرته وقهره. انظر: "مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" ٢/ ٢٠٥ - ٢١٧.
(١) جاء في "اللسان" ٤/ ١٠٩٠: (خِبر) بكسر الخاء وضمها: العلم بالشيء). وانظر: "العين" ٤/ ٢٥٨، و"الجمهرة" ١/ ٢٨٧، و"الصحاح" ٢/ ٦٤١، و"المجمل" ٢/ ٣١٠، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٣٩، و"المفردات" ص ٢٧٣ (خبر).
(٢) قال أبو علي الفارسي في "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص ٤٥ (الخبير عندنا من الخبر الذي يسمع؛ لأن معنى الخبير العالم) ا. هـ. وانظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١٢٧، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص ١/ ١٢٥، و"المقصد الأسنى" للغزالي ص ٩٣، و"شرح أسماء الله الحسنى" ص ٣٤٨.
(٣) في (ش): (ينكرون)، وهو تحريف.
(٤) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٤٧٧، و"تفسير الثعلبي" ١٧٦ أو"تفسير الماوردي" ٢/ ١٠٠، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٢١٦، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٣، و"تفسير الرازي" ١٢/ ١٧٥، وأكثرهم ذكره عن الكلبي، وبعضهم عن ابن عباس والحسن.
(٥) في (ش): (الله تعالى).
46
جوابه ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ (١)، ومعنى الشهادة البينة من طريق المشاهدة، ونظم هذه الآية مثل نظم قوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية [الأنعام: ١٢]، وقد ذكرناه (٢). وقال مجاهد: (أمر أن يسأل قريشًا، ثم أمر أن يخبرهم فيقول: ﴿اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾) (٣).
وقال أبو إسحاق: (أمر الله عز وجل نبيه بأن يحتج عليهم ويعلمهم أن شهادة الله عز وجل بأنه واحد، وإقامة البراهين في توحيده ونبوة نبيه أكبر شهادة، وأن القرآن الذي أتى به يشهد له أنه رسول الله، فقال: ﴿قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي: الله الذي اعترفتم بأنه خالق السموات والأرض والظلمات والنور). (٤)
(١) انظر: "غرائب الكرماني" ١/ ٣٥٥ - ٣٥٦، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ١٥٠، و"تفسير الرازي" ١٢/ ١٧٦، وقال البخاري في "صحيحه"، و"كتاب التوحيد"، باب ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾، وسمى الله تعالى نفسه شيئًا ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ ا. هـ. وانظر: شرحه في "فتح الباري" ١٣/ ٤٠٢، وحكى الغزالي في "المقصد الأسنى" ص ١٤٨، والرازي في "شرح أسماء الله الحسنى" ص ٣٥٤، الاتفاق على ذلك.
(والظاهر أنه من باب الإخبار فيصح أن يخبر عنه بالشيء لكنه شيء كامل، ولا يقال شيء على سبيل الإطلاق فقط، فهو ليس من أسماء الله تعالى؛ لأنه لا بد أن تتضمن أسماء الله معاني حسنى، لكن يصح أن يخبر عن الله بأنه شيء، ولكن لا يدعى به ولا يسمى به): أفاده ابن تيمية في "لفتاوى" ٦/ ٧٣، وابن القيم في "بدائع الفوائد" ١/ ١٦٢، ومحمد بن صالح العثيمين في "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري" ص ١٠١.
(٢) جاء في النسخ (وقد ذكرنا) ثم صحح في أعلى السطر من (أ).
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٢، وأخرجه الطبري ٧/ ١٦٢، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٧١، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص ٢/ ٤٣، من طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٢.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٤.
47
وقوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ﴾، هذا احتجاج للنبي - ﷺ - على من أنكر نبوته؛ لأنه لم يأت أحد بمثله في إخباره عما سيكون وكان حقًّا، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧]، فعصمه حين لم يقتل مع تظاهر أعدائه عليه، وقوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] ثم أظهر دين الإِسلام على سائر الأديان، وقال لليهود -وكانوا أعز قوم في وقتهم-: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ [البقرة: ٦١]، فهم أذلاء إلى يوم القيامة (١).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾ قال ابن عباس: (يريد من أمتي إلى يوم القيامة) (٢).
قال الفراء: (والمعنى: ومن بلغه القرآن من بعدكم. و ﴿بَلَغَ﴾: صلة لمن، ونصبت ﴿مَنْ﴾ بالإنذار) (٣)، والعائد إلى الموصول محذوف (٤)، كقولك: الذي رأيت زيد، ومن ضربت عمرو، وقد مرَّ قبيل، والعلماء على أن من بلغته آية من كتاب الله فهو ممن بلغته الدعوة (٥).
(١) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٣٤.
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ١/ ٢٠، بلا نسبة، وأخرج الطبري ٧/ ١٦٣، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٧١، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ٢/ ٢٤ بسند جيد عنه في الآية قال: (يعني أهل مكة ومن بلغه هذا القرآن فهو له نذير) ا. هـ.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٢٩.
(٤) هذا قول الجمهور والتقدير: ولأنذر الذي بلغه القرآن، حذف العائد لاستعمال العرب ذلك ولدلالة الكلام عليه. انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٦٣، و"إعراب النحاس" ٢/ ٥٨، و"المشكل" ١/ ٢٤٧، ابن عطية ٥/ ١٥١، و"البحر" ٤/ ٩١، و"الدر المصون" ٤/ ٥٦٨.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٦٣، والبغوي ٣/ ١٣٣، وابن كثير ٢/ ١٤٢.
48
وكان مجاهد يقول: (حيث ما يأتي القرآن فهو داع ونذير)، ثم يقرأ هذ الآية (١).
وقال القرظي (٢): (من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدًا - ﷺ - وسمع منه) (٣). وقال النحاس (٤): ([و] (٥) فيه قول آخر: ﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾ أي: [و] (٦) من احتلم) (٧)، فلا يكون إضمار الهاء. والعلماء (٨) والمفسرون على القول الأول [وهو منفرد بهذا القول (٩)].
وقوله تعالى: ﴿[أَئِنَّكُمْ] (١٠) لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى﴾ هذا استفهام معناه الجحد والإنكار.
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٦٣، بسند ضعيف، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٧٦ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠، والسيوطي في "الدر" ٣/ ١٣.
(٢) تقدمت ترجمته.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٦٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٧١ من طرق يقوي بعضها بعضًا، وهو في "تفسير مجاهد" ١/ ٢٣١، عن محمد بن كعب. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٣.
(٤) هو: أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي، أبو جعفر المصري المشهور بالنحاس.
(٥) لفظ: (الواو) ساقط من (ش).
(٦) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٧) "معاني النحاس" ٢/ ٤٠٦، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٣٩، و"القطع والائتناف" ١/ ٢٢١، وذكر هذا القول مكي في "المشكل" ١/ ٢٤٧، وابن عطية ٥/ ١٥٢، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٣٩٩.
(٨) انظر: الطبري ١٦٣١٧، والسمرقندي ١/ ٤٧٧، والماوردي ١/ ٥١٤، والرازي ١٢/ ١٧٨، و"البحر" ٤/ ٩١.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(١٠) جاء في النسخ (قل أئنكم) بزيادة قل، وهو تحريف.
49
وقال الفراء: (ولم يقل أُخر؛ لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: ١٨٠]، وقال: ﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ [طه: ٥١]، ولم يقل: الأول، ولا الأولين؛ وكل ذلك صواب) (١)
وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَشْهَدُ﴾ إلى آخر الآية، قال العلماء: (المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين، ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام) (٢).
ونص الشافعي على استحباب ضم التبرؤ إلى الشهادة لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ عقيب أمره نبيه - ﷺ - بالتوحيد (٣).
٢٠ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ الآية، نصف هذه الآية مفسر في سورة البقرة، والنصف الثاني مفسر في هذه السورة.
وقوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي: يعرفونه بالنبوة والصدق، بما يجدونه (٤) مكتوبًا عندهم في صفته ونعته، والمراد بهؤلاء الذين يعرفونه: اليهود والنصارى، و ﴿الْكِتَابَ﴾: التوراة والإنجيل، وهذا قول ابن
(١) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٢٩، وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٦٣، و"البحر المحيط" ٤/ ٩٢.
(٢) انظر: "تفسير الرازي" ١٢/ ١٧٩، و"الخازن" ٢/ ١٢٥.
(٣) ذكره في "روضة الطالبين" ٧/ ٣٠١، عن الشافعي، وزاد: (وقال في موضع: إذا أتى بالشهادتين صار مسلمًا؛ وليس هذا باختلاف قول عند جمهور الأصحاب، بل يختلف الحال باختلاف الكفار وعقائدهم) ا. هـ
وانظر: "المغني" لابن قدامة ١٢/ ٢٨٨ - ٢٩١، و"نيل الأوطار" ٧/ ٢٣٠ - ٢٣٥.
(٤) في (أ): (لما يجدونه).
50
عباس (١) والحسن (٢) وقتادة (٣) وابن جريج والسدي (٤).
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قال الزجاج: (﴿الَّذِينَ﴾ يجوز أن يكون رفعًا على نعت: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾، وجائز أن يكون على الابتداء، ويكون ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ خبره، قال: والأشبه أن يعني بالذين خسروا أنفسهم أهل الكتاب، وجائز أن يُعنى به جملة الكفار) (٥).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٩، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ١/ ١٥٨.
(٢) ذكره الماوردي ٢/ ١٠٠، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٤٠٠.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٠٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٧٢ بسند جيد.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ١٦٤، من طرق جيدة عن قتادة وابن جريج والسدي. وهذا هو قول الجمهور ورجحه أكثرهم. انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٢٩، و"النحاس" ٢/ ٤٠٧، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٤٧٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٤، والزمخشري ٢/ ١٠، وابن الجوزي في "تفسيره" ١٢/ ١٤، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٧٩، وبعضهم حمله على العموم أي يعرفون التوحيد والقرآن ونبوة محمد - ﷺ -. وهو اختيار الطبري ٧/ ١٦٤، وابن كثير ٢/ ١٤٣، وأفاد ابن عطية ٥/ ١٥٤، والسمين في "الدر" ٤/ ٥٧٠، صحة عودة الضمير على الكل دون تخصيص، كأنه قيل: يعرفون ما ذكرنا وقصصنا. وانظر: الماوردي ٢/ ١٠٠، و"البحر" ٤/ ٩٢.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٥، ومثله ذكر النحاس في "إعرابه" ١/ ٥٣٩، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٧٩، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٤٠٠، ورجح الطبري ٧/ ١٦٤، الوجه الأول، والسمين في "الدر" ٤/ ٥٧٠، الوجه الثاني، وانظر: "المشكل" ١/ ٢٤٧، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٥٥، و"التبيان" ١/ ٣٢٧، و"الفريد" ٢/ ١٣٣، و"البحر" ٤/ ٩٣، وأفاد أبو حيان والسمين (أن الفاء في قوله ﴿فَهُمْ﴾ على الوجه الأول لعطف جملة اسمية على مثلها، والمراد بالذين خسروا أهل الكتاب خاصة، وعلى الوجه الثاني الفاء رابطة لما عرف من شبه الموصول بالشرط، والمراد بالذين خسروا جملة الكفار من أهل الكتاب وغيرهم).
51
٢١ - وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ قال ابن عباس: (ومن أكفر ممن اختلق على الله كذبًا فأشرك به الآلهة) (١).
وقال أهل المعاني: (هذا استفهام معناه الجحد، أي: لا أحد أظلم منه؛ لأن جوابه كذلك، فاكتفى من الجواب بما يدل عليه، والمراد بالمفتري على الله الكذب الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ (٢) [الأعراف: ٢٨].
وقوله تعالى ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ قال ابن عباس: (يعني القرآن ومحمدًا) (٣). وقال أصحاب المعاني: (المكذّب بآيات الله الجاحد لها بقوله ما نصب الله آية على نبوة محمد - ﷺ - كاليهود والنصارى الذين كذبوا بالقرآن ومعجزاته) (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: (يريد لا يسعد من جحد بربوبية ربه وكذب رسله) (٥).
وقال أهل المعاني: (معنى ﴿لَا يُفلِحُ﴾: لا يظفر بطلبه من النجاة في آخرته، ومن لم يظفر بالنجاة هلك بالعذاب) (٦).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٩ - ١٠، نحوه.
(٢) انظر: الطبري ٧/ ١٦٥، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٤٧٨، و"المشكل" ١/ ٢٤٧، و"البيان" ١/ ٣١٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٥، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٥٦.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٦٥، و"القرطبي" ٦/ ٤٠١، و"تفسير الخازن" ٢/ ١٢٥.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١.
(٦) الفلاح في اللغة: الفوز والنجاة والبقاء في النعيم والخير. انظر: "العين" ٣/ ٢٣٣، و"الجمهرة" ١/ ٥٥٥، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٢٦، و"الصحاح" ١/ ٣٩٢، =
والمراد بالظالمين الذين وصفوا بالافتراء على الله والتكذيب بآياته، بين أنهم ظالمون لأنفسهم بإهلاكهم إياها.
٢٢ - وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ العامل في ﴿يَوْمَ﴾ محذوف على معنى: واذكر يوم نحشرهم. وقيل (١): (إنه معطوف على محذوف، كأنه قيل: ﴿لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ أبدًا ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾).
وقوله تعالى: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ﴾ اختلفوا في وجه هذا السؤال فقال مقاتل: (إن المشركين في الآخرة لما رأوا تجاوز الله تعالى عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض: إذا سئلتم فقولوا: إنا موحدون، فلما جمعهم الله قال [لهم] (٢): (﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾) (٣)، فعلى هذا إنما سئلوا ليعلموا أن الله تعالى يعرف أنهم أشركوا به في دار الدنيا، وأنه لا ينفعهم الكتمان.
وقال غيره من المفسرين: (إن المشركين كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، فقيل لهم يوم القيامة: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾
= و"المجمل" ٣/ ٧٠٥، و "مقاييس اللغة" ٤/ ٤٥٠، و"المفردات" ص ٦٤٤، و"اللسان" ٢/ ٥٤٧ (فلح).
(١) هذا قول الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٦٥، وعليه يكون الكلام متصلاً، وقال الكرماني في "غرائبه" ١/ ٣٥٦: (هذا قول غريب)، وأكثرهم على أن قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾ كلام مستأنف.
وانظر: "القطع والائتناف" ١/ ٢٢١، و"المكتفي" للداني ص ٢٤٨، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٥٦، و"التبيان" ١/ ٣٢٧، و"الفريد" ٢/ ١٣٣، و"البحر" ٤/ ٩٤، و"الدر المصون" ٤/ ٥٧١.
(٢) لفظ: (لهم) ساقط من (ش).
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٥.
أنها تشفع لكم)، فكأن معنى هذا السؤال التوبيخ (١)؛ لأنه سؤال في وقت الحاجة إلى الإغاثة عمن كان يدعي أنه يغيث، وأضاف الشركاء إليهم؛ لأنهم اتخذوها وافتعلوها من عند أنفسهم، ومعنى ﴿تَزْعُمُونَ﴾: تكذبون (٢).
قال ابن عباس: (وكل زعم في كتاب الله كذب) (٣). والعائد إلى الموصول من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ محذوف، والتقدير ﴿الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أنهم شفعاء، فحذف مفعول الزعم، لدلالة الكلام، وإحالة (٤) السؤال عليه (٥).
٢٣ - وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ (٦) قرئ ﴿يَكُنْ﴾ بالياء والتاء، و (فتنتهم) رفعًا ونصبًا (٧).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٦٥، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٤٧٨، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٦، والقرطبي ٦/ ٤٠١.
(٢) الزَّعْم: القول من غير صحة ولا يقين، وقال الراغب في "المفردات" ص ٣٨٠ (الزعم حكايته قول يكون مظنة للكذب، ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلون به ا. هـ. وانظر: "العين" ١/ ٣٦٤، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٣٢، و"الصحاح" ٥/ ١٩٤١، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١٠، و"اللسان" ٣/ ١٨٣٤ (زعم).
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٨١، والقرطبي ٦/ ٤٠١، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٩٤.
(٤) في (ش): (وحاله)، وهو تحريف.
(٥) انظر: "غرائب الكرماني" ١/ ٣٥٦، و"التبيان" ١/ ٣٢٧، و"الفريد" ٢/ ١٣٣، و"البحر" ٤/ ٩٤، و"الدر المصون" ٤/ ٥٧٢.
(٦) في (أ): (ثم لم يكن فتنتهم) قرئ (تكن) الأولى بالياء والثاني بالتاء.
(٧) قرأ حمزة والكسائي (يكن) بالياء على التذكير، وقرأ الباقون بالتاء على التأنيث، وقرأ ابن عامر وابن كثير وحفص عن عاصم (فتنتهم) برفع التاء، وقرأ الباقون =
54
وجملة القول في هذا أنه يجوز تذكير الفتنة؛ لأنه بمعنى الافتتان، ويجوز تأنيث ﴿أَنْ قَالُوا﴾ لوجهين: أحدهما: أنه بمعنى المقالة، والثاني: أن قوله: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ هو الفتنة في المعنى؛ لأن ذلك القول هو فتنتهم، فإذا أسند الكون إليه جاز تأنيثه، كقوله تعالى: ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠]، فأنث الأمثال وواحدها مثل، حيث كانت الأمثال هاهنا في المعنى (١) الحسنات، ومثل هذا في الشعر قول لبيد:
منهُ إذا هِيَ عَرَّدَتْ إقْدامُها (٢)
فأنث الإقدام لما كان (٣) العادة في المعنى، وإذا كانت الفتنة مؤنثة وجاز تذكيرها، وإن قالوا: مذكر وجاز تأنيثه، وهما (٤) معرفتان، كان لك
= بالنصب. انظر: "السبعة" ص ٢٥٤ - ٢٥٥، و"المبسوط" ص ١٦٧، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٥، و"التيسير" ص ١٠١ - ١٠٢، و"النشر" ٢/ ٢٥٧
(١) في (ش): (في معنى).
(٢) "ديوان لبيد بن ربيعة" ص ١٧٠، و"جمهرة أشعار العرب" ١٣٢، و"الخصائص" ٢/ ٤١٥، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ١٣، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٣٠٥، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ١٩٧، و"الإنصاف" ٢/ ٦٢٠، و"اللسان" ٥/ ٢٨٧٢ (عرد)، و"الدر المصون" ٤/ ٥٧٣، وصدره:
قمضى وقدمها كانت عادة
وقوله: قمضى أي: حمار الوحشي، وقدمها أي: الآتان، وعردت: حادث عن الطريق، وأصل التعريد: الفرار، وإقدامها: تقدمها.
والشاهد: وكانت عادة إقدامها، حيث أنث كانت مع أن المسند إليه إقدمها، وهو مذكر؛ لأنه ذهب إلى تأثيث العادة، أو لأن الإقدام بمعنى التقدمة. انظر: "شرح القصائد" للنحاس ١/ ٣٩٢.
(٣) لفظ: (لما كان)، مكرر في (أ).
(٤) انظر: "الكتاب" ١/ ٥١.
55
أن تقرأ ﴿يَكُنْ﴾ بالتاء والياء، وتجعل أيهما شئت من الفتنة. و ﴿أَنْ قَالُوا﴾ الاسم أو الخبر، إلا أن الاختيار قرأه من جعل ﴿أَنْ قَالُوا﴾ الاسم دون الخبر؛ لأن ﴿أَنْ﴾ إذا وصلت بالفعل لم توصف، فأشبهت بامتناع وصفها المضمر، فكما أن المضمر إذا كان مع المظهر كان أن يكون الاسم أحسن، كقولك: كنت القائم، كذلك إذا كانت (أن) مع اسم غيرها كانت أن يكون الاسم أولى (١).
واختلفوا في معنى الفتنة هاهنا، فالأكثرون على أن معناه: ثم لم يكن جوابهم، وذلك لأنهم حين سئلوا اختبر ما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار (٢) إلا هذا القول، وهذا قول أبي العالية والقرظي (٣) واختيار عبد الله بن مسلم (٤). قال أبو العالية: ﴿فِتْنَتُهُمْ﴾: مقالتهم، وقال القرظي: (إجابتهم)، وقال قتادة (٥): ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ﴾ معذرتهم ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾، وهذا راجع إلى معنى الجواب، وروي هذا
(١) هذا معنى قول أبي علي الفارسي في "الحجة" ٣/ ٢٨٨ - ٢٩٠. وانظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ١٥/ ١٨٨، و"معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٣٥، و"تفسير الطبري" ٧/ ١٦٧، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٤٠، و"معاني القراءات" ١/ ٣٤٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٣، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٣٦، ولابن زنجلة ص ٢٤٣، و"الكشف" ١/ ٤٢٦، و"المشكل" ١/ ٢٤٨، و"الدر المصون" ٤/ ٥٧٢.
(٢) في (ش): (الاختيار) بالياء، وهو تصحيف.
(٣) ذكره أبو حيان في "البحر" ٤/ ٩٥ عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي.
(٤) "تفسير غريب القرآن" ص ١٥٢، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٤٧٢.
(٥) أخرجه الطبرى في "تفسيره" ٧/ ١٦٧، من طرق جيدة، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٠٦، والطبري في "تفسيره" بسند جيد عنه قال: (مقالتهم).
56
القول عن ابن عباس، [ثم قال] (١): ﴿لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ (يعني معذرتهم حين يسألون عن آلهتهم ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾) (٢).
وقال أبو إسحاق: (تأويل هذه الآية تأويل حسن في اللغة لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك، وذلك أن الله تعالى ذكر في هذه الأقاصيص التي جرت [من] (٣) أمر المشركين، وأنهم مفتنون بشركهم، ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه إلا أن تبرأوا منه وانتفوا منه، فحلفوا (٤) أنهم ما كانوا مشركين. قال: ومثل ذلك أن ترى إنسانًا يحب غاويًا فإذا وقع في هلكة بسببه تبرأ منه، فيقال له: ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه) (٥).
فالفتنة هاهنا بمعنى: الشرك والافتتان بالأوثان، ويؤيد هذا الوجه ما روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية في قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ قال: (يريد شركهم في الدنيا) (٦) وهذا القول في التأويل راجع إلى حذف المضاف؛ لأن المعنى: لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة، ومثله قولك: ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه، أي: عاقبة محبتك (٧).
(١) (ثم قال): ساقط من (ش)، ولعل الصواب: قال.
(٢) ذكره البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير: ٨/ ٢٨٦ "الفتح". في تفسير سورة الأنعام. وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٧٣ بسند ضعيف، وفي رواية أخرى ضعيفة قال: (حجتهم). وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٦٦ بسند ضعيف عنه قال: (قولهم)، وفي أخرى ضعيفة قال: (كلامهم).
(٣) (لفظ): (من) ساقط من (أ).
(٤) في (ش): (فحلوا)، وهو تحريف.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٥ - ٢٣٦.
(٦) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٨٢، وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٤٤: (أي: لم تكن عاقبة شركهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه) ا. هـ.
(٧) انظر: "تفسير الرازي" ١٢/ ١٨٢.
57
واختلفوا في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا﴾ فقرئ ﴿رَبِّنَا﴾ بالنصب والخفض (١)، فمن خفض جعل الاسم المضاف وصفًا للمفرد، كقولك: رأيت زيدًا صاحبنا، وبكرًا جاركم؛ ومن نصب جعله منادى مضافًا، وفصل به بين القسم والمقسم عليه، والفصل بالنداء كثير في كلامهم، وذلك لكثرة النداء في الكلام، ومثله قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ [يونس: ٨٨]. والمعنى: آتيتهم أموالاً ليضلوا فلا يؤمنوا، ففصل بالمنادي بين فعله ومفعوله (٢).
قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنعام: ٢٤] قال قتادة: (باعتذارهم بالباطل) (٣).
وقال عطاء: (بجحد شركهم في الآخرة) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿انْظُرْ﴾ تقديره: وكيف، ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (٥) بعبادته من الأجسام والأوثان فلم
(١) قرأ حمزة والكسائي (ربنا) بنصب الباء، والباقون بجرها.
انظر: "السبعة" ص ٢٥٥، و"المبسوط" ص ١٦٧، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٦، و"التيسير" ص ١٠٢، و"النشر" ٢/ ٢٥٧.
(٢) هذا معنى قول الفارسي في "الحجة" ٣/ ٢٩١، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٣٠، والأخفش ٢/ ٢٧٠، والزجاج ٢/ ٢٣٦، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٤١، و"معاني القراءات" ١/ ٣٤٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٣، و"الحجة" لابن خالوية ص ١٣٧. ولابن زنجلة ص ٢٤٤، و"الكشف" ١/ ٤٢٧، و"التبيان" ١/ ٣٢٨، و"الدر المصون" ٤/ ٥٧٤.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٦٨، بسند جيد.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢.
(٥) أكثرهم على أن (وضل عنهم) معطوف على جملة (كذبوا)، فيكون داخلًا في حيز النظر، ويجوز أن يكون استئنافًا فلا يندرج في حيز المنظور إليه. انظر: الرازي =
58
تغن عنهم شيئًا، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم.
٢٥ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ قال المفسرون (١): (إن نفرًا من مشركي مكة -منهم النضر بن الحارث (٢) وغيره- جلسوا إلى رسول الله - ﷺ - وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟ فقال: أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، فأنزل الله هذه الآية) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾، الأكنة: جمع كنان، وهو ما وقى شيئًا وستره، مثل عنان وأعنة (٤).
قال الليث: (كل شيء وقي شيئًا فهو كِنانة وكِنُّة، والفعل من ذلك كننتُ وأكننت) (٥). وأنشد أبو عبيدة لعمر بن أبي ربيعة:
= في "تفسيره" ١٢/ ١٨٥، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٤٠٢، و"البحر" ٤/ ٩٦، و"الدر المصون" ٤/ ٥٧٥.
(١) انظر: الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٦٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٥.
(٢) النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف، شيطان قريش وصاحب لواء المشركين ببدر، مشرك مجاهر بالعداوة والأذي لرسول الله - ﷺ -. قتل في بدر سنة ٢ هـ انظر: "سيرة ابن هشام" ٩/ ٣١١، ٣٢٠، ٣٢١، ٢/ ٢٨٦، و"جوامع السير" ص ٥٢، ١٤٧ - ١٤٨، و"الكامل" لابن الأثير ٢/ ٤١٤، و"الأعلام" ٨/ ٣٣.
(٣) انظر: "سيرة ابن هشام" ١/ ٣٣٧، ٣٣٨، و"تفسير الثعلبي" ١٧٦/ أ، والماوردي ٢/ ١٠٣، و"الزمخشري" ٢/ ١١. وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص ٢١٧، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٨، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٨٥، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٤٠٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٩٧ عن ابن عباس، وذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٦، عن الكلبي.
(٤) انظر: "العين" ٥/ ٢٨١، و"المجمل" ٣/ ٧٦٦، و"مقاييس اللغة" ٥/ ١٢٣، و"المفردات" ص ٤٤٢ (كن).
(٥) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٩٦ (كن).
59
أَينا باتَ ليلةً... بَيْنَ غُصْنَينِ يُؤبَلُ (١)
تَحتَ عَيْنِ كِنَانُ (٢)... ظِلُّ برْدٍ مُرَحَّلُ
يعني: غطاهم الذي يكنهم (٣). فأما ﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ فقال (٤) الزجاج: (موضع ﴿أَنْ﴾ نصب على أنه مفعول له، والمعنى: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾؛ لكراهة ﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾، فلما حذفت اللام نصبت الكراهة، ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى ﴿أَنْ﴾ (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾، قال ابن السكيت: (الوقر (٦): الثقل في الأذن، يقال: قد وقرت أذنه توقر، فهي موقورة. ويقال: اللهم قر أذنه، ويقال أيضًا: قد وقرت أذنه توقر وقرًا) (٧).
وأنشد الزجاج (٨):
(١) ليس في ديوانه، وهما في "اللسان" ٧/ ٣٩٤٣، (كنن) وبلا نسبة في "الجمهرة" ١/ ١٦٦، والبيت الأخير في "الصحاح" ٦/ ٢١٨٨، و"تاج العروس" ١٨/ ٤٨٤، وبلا نسبة في "تفسير الطبري" ٧/ ١٦٩.
(٢) في (ش): (كناننا)، وهي رواية أكثرهم.
(٣) "مجاز القرآن" ٨/ ١٨٨.
(٤) في (ش): (قال).
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٦، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٤١، و"البيان" ١/ ٣١٧، و"التبيان" ١/ ٣٢٨، و"الفريد" ٢/ ١٣٥، و"البحر" ٤/ ٩٧، و"الدر المصون" ٤/ ٥٧٧.
(٦) قال الطبري ٧/ ١٧٠: (الوقر عند العرب بفتح الواو: الثقل في الأذن، وبكسرها: الحمل) ا. هـ انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٨٩، و"معاني الأخفش" ٢/ ٢٧٢، و"الجمهرة" ٢/ ٧٩٦، و"الصحاح" ٢/ ٨٤٨، و"المجمل" ٣/ ٩٣٣، و"مقاييس اللغة" ٦/ ١٣٢، و"المفردات" ص ٨٨٠، و"اللسان" ٨/ ٤٨٨٩، (وقر).
(٧) "إصلاح المنطق" ص ٣ - ٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٣١ (وقر).
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٧.
60
وِكَلاَمٍ سيِّئٍ قَدْ وُقِرَت أذُنِي عَنْهُ وَمَا بي مِنْ صَمَمْ (١)
فأما التفسير فقال ابن عباس: (﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ (يعني القرآن، ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ غطاء كي لا يعوه) (٢).
وقال السدي: (يعني الغطاء يكن قلوبهم فلا يعرفون الحق) (٣).
وقال الحسن: (﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ لئلا يقبلوه، كقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: ٧]، أي: لا يقبلون عن الله تعالى) (٤).
﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ قال ابن عباس: (صممًا) (٥).
وقال الضحاك: (ثقلًا) (٦).
وقال قتادة: (يسمعون (٧) بآذانهم فلا يفقهون منه شيئًا، كمثل البهيمة تسمع القول ولا تدري ما يقال (٨) لها) (٩).
قال أبو إسحاق: (وإنما فعل بهم (١٠) ذلك مجازاة لهم بإقامتهم على
(١) الشاهد للمثقب العبدي في "ديوانه" ص ٢٣٠، و"المفضليات" ص ٢٩٤، وبلا نسبة في "العين" ٥/ ٢٠٦، و"معاني الأخفش" ٢/ ٢٧٢، و"الصاحبي" ص ٤٣٧، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٦٢، وابن الجوزي ٣/ ١٩.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٣، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١١، نحوه.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ١٦٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٧٥ بسند جيد.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١١، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٣.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٣.
(٧) في (أ): (يستمعون).
(٨) في (ش): (ما يقول).
(٩) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢٠٩، والطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧٠، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٧٦، بسند جيد.
(١٠) في (ش): (وإنما فعل ذلك بهم).
61
كفرهم، وليس المعنى أنهم لم يسمعوا ولم يفقهوا، ولكنهم (١) حرموا الانتفاع به لما عدلوا عنه وحرفوا فكرهم عما عليهم (٢) في سوء العاقبة، فكانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع). قال أصحابنا: (وهذه الآية دلالة صريحة على أن الله تعالى يقلب القلوب، فيشرح (٣) بعضها للهدى، ويجعل بعضها في أكنة فلا يفقه صاحبه كلام الله تعالى ولا يؤمن، كما جعل على قلوب القدرية أكنة فلم يفقهوا آيات القدر، كما لم يفقه قلوب المشركين الإيمان) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ﴾ قال ابن عباس: (يريد كل عبرة) (٥).
(١) في (ش): (ولكن حرموا).
(٢) كذا في النسخ، ومثله عند ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٩، وعند الزجاج ٢/ ٢٣٧ (عماهم عليه).
(٣) في (ش): (فيشرح الصدر للهدى).
(٤) انظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤١٠، و"تفسير البغوي" ٥/ ١٦٣، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٦٣، والرازي ١٢/ ١٨٦، و"البحر" ٤/ ٩٧.
وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٤٤، في تفسير الآية:
(هذه الأكنة والوقر هي شدة البغض والنفرة والإعراض معها سمعًا لا عقلاً، والتحقيق أن هذا ناشئ عن الأكنة والوقر فهو موجب ذلك مقتضاه، فمن فسر الأكنة والوقر به فقد فسرها بموجبها ومقتضاها، وبكل حال فتلك النفرة والإعراض والبعض من أفعالهم وهي مجعولة لله سبحانه، كما أن الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيته هو من أفعالهم، والله جاعله فهو الجاعل للذوات وصفاتها وأفعالها وإرادتها واعتقادتها، فذلك كله مجعول مخلوق له، وإن كان العبد فاعلًا له باختياره وإرادته) ا. هـ.
(٥) ذكر الرازي ١٢/ ١٨٧، عن ابن عباس في الآية قال: (وإن يروا كل دليل وحجة) ا. هـ.
62
وقال الزجاج: (أي: علامة تدلهم على نبوتك) (١).
﴿لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ قال ابن عباس: (لا يصدقوا بها؛ وذلك لأن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة) (٢).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ﴾ إلى آخر الآية، فصل آخر متصل بما قبله، والمعنى: إن حالهم في البعد عن الإيمان ما ذكره الله تعالى من منعهم وصدهم عن تصديق محمد، حتى إذا جاؤوه مجادلين إياه فيقول من كفر منهم لما يسمع من القرآن: ﴿مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾، قال الزجاج: (أعلم الله عز وجل مقدار احتجاجهم وجدلهم، وأنهم لا يعارضون ما احتج به عليهم من الحق، حيث قيل لهم: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] إلا بأن يقولوا: هذا أساطير الأولين، ويقولون: ﴿افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [المؤمنون: ٣٨] (٣).
فأما معني الأساطير وتفسيرها: فأصلها من السطر، وهو أن يجعل شيئاً ممتدًا مؤلفًا، ومن ذلك سطر الكتاب وسطر من شجر مغروس ونحو ذلك (٤).
قال ابن السكيت: (يقال: سَطْر، وسَطَر فمن قال: سَطْر فجمعه في القليل أَسْطر والكثير سُطُور، ومن قال: سَطَر جَمَعَه أسطاراً) (٥). ثم أساطير
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٧.
(٢) ذكره الرازي ١٢/ ١٨٧.
(٣) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٧، والنحاس ٢/ ٤١٠، و"تفسير الرازي" ١٢/ ١٨٨.
(٤) انظر: "العين" ٧/ ٢١٠، و"الجمهرة" ٢/ ٧١٣، ١١٩٣، و"الصحاح" ٢/ ٦٨٤، و"المجمل" ٢/ ٤٦٠، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٧٢، و"المفردات" ص ٤٠٩ (سطر).
(٥) "إصلاح المنطق" ص ٩٥، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٨٣، وأفاد أكثرهم: (أن سطر بسكون الطاء جمعه في القلة أسطر وفي الكثرة سطور، وبفتح الطاء جمعه =
63
جمع الجمع، قاله اللحياني. [قال] (١): (وواحد الأساطير أسطور وأسطورة وأسطير وأسطيرة إلى العشرة، ثم أساطير جمع الجمع) (٢).
واختار الزجاج أن يكون واحدها أسطورة مثل أحدوثة وأحاديث، قال ذلك في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا﴾ [الفرقان: ٥] (٣)، وهو قول أبي عبيدة (٤)، وذهب الأخفش (٥) وأبو زيد (٦) إلى أنه لا واحد لها مثل عباديد (٧) وأبابيل (٨)، قال أبو زيد: إلا أرى الأساطير إلا من الجمع الذي لا واحد له مثل عباديد، ولا يكون هذا المثال إلا جمعًا) (٩).
= أسطار؛ لأن فعل بالسكون يجمع في القلة على أفعل وبالفتح على أفعال). انظر: "البيان" ١/ ٣١٧، و"التبيان" ٣٢٨، و"الفريد" ٢/ ١٣٥، و"البحر" ٤/ ٩٨.
(١) (قال) ساقط من (ش).
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٨٣، وليس فيه -أسطيرة- وهي في "اللسان" ٤/ ٢٠٠٧ (سطر) عن اللحياني.
(٣) "معاني الزجاج" ٤/ ٥٨، انظر: ٢/ ٢٣٧.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ١٨٩.
(٥) "معاني الأخفش" ٢/ ٢٧٢.
(٦) أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري أبو زيد البصري، تقدمت ترجمته.
(٧) في (أ): (عناديد)، ولم أقف عليها، والذي في أكثر المراجع (عباديد)، والعباديد لا واحد لها من لفظها، وهي الفرق من الناس والخيل الذاهبين في كل وجه. والعباديد أيضًا: الأكام والطرق البعيدة. انظر: "القاموس" ص ٢٩٦، (عبد).
(٨) الأبابيل جمع لا واحد له، وقيل: جمع إبيل وإبول، وهي الفرق والجماعات المتفرقة والفرق التي يتبع بعضها بعضًا. انظر: "اللسان" ١/ ١١ (أبل).
(٩) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٤، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٨٨، وهو نص كلام الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٧٢، وحكاه ابن دريد في "الجمهرة" ٣/ ١٢٧١ عن الأصمعي، وأكثرهم على أن أساطير جمع أسطورة، ويحتمل أنه جمع أسطارة أو أسطار. انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٧١، و"نزهة القلوب" ص ٧١، و"إعراب =
64
ومعني ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ ما سطره الأولون (١).
قال ابن عباس: (أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها، أي: يكتبونها) (٢).
فأما قول (٣) من فسر الأساطير بالتُّرّهات (٤) والبسابس (٥) فهو معنى وليس بتفسير، وتفسيره ما ذكرنا (٦). ولما كانت أساطير الأولين مثل حديث رستم (٧) وإسفنديار (٨) كلامًا لا فائدة فيه ولا طائل تحته فسرت أساطير الأولين هاهنا بالتُّرّهات والبسابس (٩).
= النحاس" ١/ ٥٤١، و"الألفات" لابن خالويه ص ٧٦، و"العضديات" ص ٥٥ و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦١٠، و"المشكل" ١/ ٢٤٨، و"عمدة الحفاظ" ص ٢٤١، و"تاج العروس" ٦/ ٥٢٠ (سطر).
(١) انظر: "غريب القرآن" ص ٢٤٣.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧١ بسند جيد.
(٣) هذا قول أبي عبيدة في "المجاز" ١/ ١٨٩، وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٤٧٩.
(٤) التُّرّهات بالضم وفتح الراء المشددة جمع ترهة: وهي الأباطيل، وفي الأصل الطرق الصغار المتشعبة عن الطريق الأعظم. انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٤٣٧، و"الصحاح" ٦/ ٢٢٢٩، و"اللسان" ١/ ٤٣١ (تره).
(٥) البَسَابس، بالفتح: الباطل، ويقال: ترهاتُ البسابسِ، بالإضافة. انظر: الصحاح ٣/ ٩٠٩، واللسان ١/ ٢٨٢ (بسس).
(٦) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ١٠٤، وقال الرازي ١٢/ ١٨٨ (الأول قول الجمهور وتفسيرها بالترهات معنى وليس بتفسير) ا. هـ. بتصرف.
(٧) رستم الشديد بن دستان بن بريمان من ملوك الفرس. انظر أخباره في: "تاريخ الطبري" ١/ ٥٠٤، و"الروض الأنف" ٢/ ٥٢، و"الكامل في التاريخ" ١/ ١٣٧.
(٨) إسفنديار بن بشتاسب: من ملوك الفرس. انظر أخباره في: "تاريخ الطبري" ١/ ٥٦٢، و"الروض الأنف" ٢/ ٥٢، و"الكامل في التاريخ" ١/ ١٥٤.
(٩) أفاد أكثرهم: (أن النضر بن الحارث صاحب أسفار وقصص، فسمع بالحيرة وغيرها قصص الأعاجم وأحاديث رستم واسفنديار، وكان يحدث بها ويقول: =
65
٢٦ - قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ يعني: المشركين ينهون الناس عن اتباع النبي - ﷺ -؛ عن ابن عباس (١) والحسن (٢) والسدي (٣)، فالكناية على هذا تعود إلى النبي - ﷺ -، وكذلك في ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ أي: يتباعدون عنه فلا يؤمنون به، وهو قول الكلبي (٤) قال: ينهون عن محمد - ﷺ - من سألهم عنه (٥) أن يقربوه ويتبعوه)، ونحو هذا قال الضحاك (٦) ومحمد بن الحنفية (٧).
وقال قتادة (٨) ومجاهد (٩): (ينهون عن القرآن ويتباعدون عن سماعه
= أنا أحسن حديثًا من محمد، أحاديثه أساطير الأولين).
انظر: "سيرة ابن هشام" ١/ ٣٢٠، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٤٧٩، وابن عطية ٥/ ١٦٤، والقرطبي ٦/ ٤٠٥.
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧١ بسند جيد، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٥.
(٢) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٢١، والماوردي ٢/ ١٠٤، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٥، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٤٠٥.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧١ بسند جيد.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٥.
(٥) لفظ: (من سألهم عنه) ساقط من (ش).
(٦) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٧٦ ب، والواحدي في "أسباب النزول" ص ٢١٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٦، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٦٥، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٢١.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧١، بسند ضعيف، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٥.
(٨) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٠٥، والطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧٢، من طرق جيدة عنه، قال: (ينهون عنه القرآن وعن النبي - ﷺ - ويتباعدون عنه) ا. هـ. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٦.
(٩) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٤، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧٢ بسند جيد، عن مجاهد وابن زيد، وهو اختيار الرازي ١٢/ ١٨٩.
66
لئلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته).
والنأي: البعد، ويقال: نأى ينأى إذا بعد، وأنأيته إذا أبعدته، ويقال أيضًا (١): نأيته بمعنى نأيت عنه (٢)، وأنشد المبرد:
أعاذِلُ إنْ يُصْبِح صداي بِقَفْرةٍ بَعِيدًا نآنِي زائِري وَقرِيبي (٣)
بمعني نأى عني. وحكى الليث: (نأيت الشيء أي أبعدته، وأنشد:
إذا ما التقينا سالَ مِنْ عَبَرَاتِنا شآبِيبُ يُنْأى سَيْلُها بالأصابِع (٤)
أي: يُنحى ويبعد) (٥).
(١) لفظ: (أيضًا) ساقط من (أ).
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٨٩، و"معاني الأخفش" ٢/ ٢٧٣، و"غريب القرآن" ص ١٥٢، و"الجمهرة" ١/ ٢٤٩، و"نزهة القلوب" ص ٤٨٧، و"المفردات" ص ٨٣٠ (نأى).
(٣) الشاهد للنمر بن تولب العكلي في "طبقات فحول الشعراء" ١/ ١٦١، و"الكامل" للمبرد ١/ ٤٧٩، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٧٥، و"اللسان" ٤/ ٤٣١٧ (نأى)، و"الدر المصون" ٤/ ٥٨٢.
والصدى هنا ما يبقى وهو جسده الملقى والشاهد: نآني: أصله نأى عني، أي: بعد، فأخرجه مخرج المتعدي، قال المبرد ١/ ٤٨٢ - ٤٨٣: (وقوله. "نآني" أي: أبعدني، والأحسن أنآنى لأن الوجه في فَعَل أفْعَلته، وهو المطرد، ويكون نآني: نأى عني) ا. هـ. بتصرف.
(٤) لم أقف على قائله وهو في: "العين" ٨/ ٣٩٢، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٩٩، و"المجمل" ٣/ ٨٥١، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٣٧٧، و"اللسان" ٧/ ٤٣١٤ (نأى)، و"الدر المصون" ٤/ ٥٨٢.
(٥) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٧٥.
67
وقال عطاء (١) (٢) ومقاتل: (نزلت في أبي طالب، كان ينهى قريشًا عن أذى النبي - ﷺ -، ويتباعد عنه فلا يتبعه على دينه) (٣).
قال الزجاج: (والقول الأول أشبه بالمعنى؛ لأن الكلام متصلٌ بذكر جماعة أهل الكتاب والمشركين) (٤)، والقول الثاني عدول عن الظاهر، وما
(١) عطاء هنا هو: عطاء بن دينار الهذلي مولاهم أبو الريان المصري، إمام مفسر صدوق، أخذ صحيفة في التفسير عن سعيد بن جبير ولم يسمع منه. توفي سنة ١٢٦ هـ.
انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٣٣٢، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٦٩، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ١٠٠، و"تقريب التهذيب" (٤٥٨٩).
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧٣ بسند جيد، عن عطاء بن دينار الهذلي.
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٥، وهذا قول جماعة منهم سعيد بن جبير وعمر بن دينار والقاسم بن مخيمرة كما في "الوسيط" ١/ ٢٥، و"الدر المنثور" ٣/ ١٥، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٨٧، وقال: (رواه الطبراني عن ابن عباس، وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة وغيره، وضعفه يحيى بن معين وغيره) ا. هـ وأخرجه الحاكم ٢/ ٣١٥، والبيهقي في "الدلائل" ٢/ ٣٤٠، والواحدي في "أسباب النزول" ص ٢١٨ من طريق واحد عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الحاكم: (حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي، وعليه يكون هذا تمثيلاً، وهو داخل في جملة الكفار، ولعل الرواية عن ابن عباس لا تصح؛ لأن السند فيه عبد الله بن منده الأصبهاني رواه عن بكر بن بكار القيسي، وبكر ضعيف كما في "لسان الميزان" ٢/ ٤٨٥، وابن منده ضعفه بعضهم، ولم يسمع من بكر كما يظهر من "الجرح والتعديل" ٨/ ١٠٨، و"اللسان" ٥/ ٧٠، ولأن روايته بسند منقطع أقوى، فقد أخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" ص ١٠٦، وعبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٠٦، والطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧٣، والحاكم ٢/ ٣١٥، والبيهقي في "الدلائل" ٢/ ٣٤٠، من طرق صحيحة عن حبيب بن أبي ثابت عمن سمع ابن عباس وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٥.
(٤) معاني الزجاج ٢/ ٢٣٨ - ٢٣٩، وهو الأظهر والأشبه بالمعنى واختيار الجمهور.
68
يقتضيه الكلام الأول، والوجه أن يقال: أبو طالب من هؤلاء الذين ذكرهم الله (١).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد بتماديهم في معصية الله ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يرتكبون من المعاصي) (٢).
٢٧ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ الآية. قال أصحاب العربية: (المراد بقوله: ﴿إِذْ وُقِفُوا﴾ الاستقبال، وإن كان بلفظ المضي؛ لأن هذه القصة كائنة، ولما تكن بعد، وجاز لفظ المضي؛ لأن كل ما هو كائن يومًا مما لم يكن بعد، فكأنه عند الله عز وجل قد كان، لسبق علمه ونفوذ قضائه وقدره به؛ إذ علمه موجب لكونه لا محالة) (٣). وأنشدوا في مثل هذا النظم (٤):
= انظر: الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧٣، و"معاني النحاس" ٢/ ٤١٠، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ١٤٤.
(١) انظر: ابن عطية ٥/ ١٦٦، و"البحر" ٤/ ١٠٠.
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٩٠، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٤١٢.
(٣) انظر: "الكتاب" لسيبويه ٤/ ٢٣٢، و "تفسير الطبري" ٧/ ١٧٤، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ١١٨، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٣٧، و"المغني" لابن هشام ١/ ٨١، ٩٥، وقال ابن فارس في الصاحبي ص ١٩٦: (أذ تكون للماضي... فأما قوله جل ثنائه: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ فـ (ترى) مستقبل وإذ للماضي، وإنما كان كذا لأن الشيء كائن وإن لم يكن بعد، وذلك عند الله جل ثناؤه قد كان؛ لأن علمه به سابق وقضاءه به نافذ، فهو كائن لا محالة، والعرب تقول مثل ذا وإن لم تعرف العواقب) ا. هـ. ملخصًا.
(٤) لم أعرف قائله، وهو في: "الصاحبي" ص ١٩٦، و"المجمل" ١/ ١٧٠، =
69
ستندم إِذْ يَأتِي عَلَيْكَ رَعِيلُنَا بأرْعَنَ جَرَّارٍ كثير صوَاهِلُه
فوضع إذ في موضع إذا. وقد (١) يوضح إذا في موضع إذ كقول الشاعر (٢):
وَندْمَانٍ يَزِيدُ الكَأْسَ طيِبًا سَقَيْتُ إِذا تَعَرَّضَتِ (٣) النُّجُوم
وقد سبق لهذا (٤) نظائر (٥).
وقوله تعالى: ﴿وُقِفُوا﴾. يقال: وقفته (٦) وقفًا فوقف وقوفًا، كما يقال: رجعته رجعًا فرجع رجوعًا (٧).
= و"مقاييس اللغة" ١/ ٤١١، والرعيل: القطعة المتقدمة من الخيل، والأرعن: الجيش العظيم، والجرار: الثقيل السير لكثرته، والصواهل: شدة الصوت والصيال.
(١) انظر: "الأضداد" لقطرب ص ١٥٠، و"المدخل" للحدادي ص ٥٧٥.
(٢) البيت: لبرج بن مسهر الطائي في "مجاز القرآن" ١/ ٢١، والطبري في "تفسيره" ١/ ٥٨، و"اللسان" ٧/ ٤٣٨٦، (ندم)، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي ١/ ٢٨٠، وبلا نسبة في "الأضداد" لقطرب ص ١٥٢، ولابن الأنباري ص ١٩٩، و"الصاحبي" ص ١٩٧، و"المدخل" للحدادي ص ٥٧٦، و"المغني" لابن هشام ١/ ٩٥.
(٣) جاء في (أ): علامة ضرب على (تعرضت)، ولعلها تحريف عن تغورت كما في جميع المراجع السابقة، ويروى (سقيت وقد تَغَوَّرَت). وندمان: أي نديم: وتغورت أي غارت، وتعرضت: أي أبدت عرضها للمغيب.
(٤) في (ش): (سبق لها نظائر).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: "العين" ٥/ ٢٢٣، و"الجمهرة" ٢/ ٩٦٧، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٣٧، و"الصحاح" ٤/ ١٤٤٠، و"المجمل" ٣/ ٩٣٤، و"المفردات" ص ٨٨١، و"اللسان" ٨/ ٤٨٩٨ (وقف).
(٧) الفعل (وقف) متعدٍّ ولازم، وفرق بينهما بالمصدر اللازم وقوف على فعول ومصدر المتعدي وقف على فعل، وسمع في المتعدي أوقف، يقال: أوقفت عن الأمر =
70
قال أبو إسحاق: (ومعنى ﴿وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه: جائز أن يكون عاينوها، وجائز أن يكونوا عليها وهي تحتهم. قال: والأجود أن يكون معنى: ﴿وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها. كما تقول في الكلام: قد وقفت على ما عند فلان، تريد: قد فهمته وتبينته) (١)، هذا كلامه.
وشرح هذا أن قوله: (جائز أن يكون عاينوها) معناه: (أنهم وقفوا عندها وهم يعاينونها، فهم موقوفون على أن يدخلوا النار، وقوله: (وجائز أن يكونوا عليها وهي تحتهم) معناه: أنهم وقفوا فوق النار على الصراط، وهو جسر بين ظهري جهنم، والوجه الثالث معناه: أنهم عرفوا حقيقتها تعريفًا من قولك: وقفت فلانا على كلام فلان، أي: علمته معناه وعرفته. وجماعة يقولون ﴿عَلَى﴾ هاهنا بمنزلة (٢) (في)، والمعنى: وقفوا في النار، كقوله تعالى: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ [البقرة: ١٠٢]-أي في ملك (٣).
= إذا أقلعت عنه. انظر: "إعراب النحاس" ٢/ ٦١، و"التبيان" ص ٣٢٨، و"الفريد" ٢/ ١٣٦، و"الدر المصون" ٤/ ٥٨٤.
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٩.
(٢) قال ابن هشام في "المغني" ١/ ١٤٤، والسيوطي في "الاتقاق" ١/ ٢١٤: (على) تكون ظرفية كـ (في) نحو قوله تعالى: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ [البقرة: ١٠٢]، وقوله: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ﴾ [القصص: ١٥] أي في حين) ا. هـ.
(٣) هذا قول الطبري ٧/ ١٧٤، البغوي ٣/ ١٣٧، ضعفه السمين في "الدر" ٤/ ٥٨٤، والظاهر أن ﴿عَلَى﴾ على بابها، أي: حبسوا عليها. والنار طبقات فيصح معنى الاستعلاء، وهذا هو قول الجمهور. انظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤١٢، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٤٧٩، و"تفسير الماوردي" ٢/ ١٠٥، و"الكشاف" ٢/ ١٢، وابن عطية ٥/ ١٦٨ وابن الجوزي ٣/ ٢٢، والرازي ١٢/ ١٩١، والقرطبي ٦/ ٤٠٨، و"البحر" ٤/ ١٠١، و"الدر المصون" ٤/ ٥٨٤.
71
قال أبو إسحاق: (والإمالة (١) في ﴿النَّارِ﴾ حسنة جيدة؛ لأن ما بعد الألف مكسور (٢)، وهو حرف كأنه مكرر في اللسان، فصارت الكسرة فيه كالكسرتين) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ يقتضي ﴿لَوْ﴾ جوابًا، وقد حذف؛ تفخيمًا للأمر وتعظيمًا، وجاز حذفه لعلم المخاطب بما يقتضي. وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر، ولو قدرت الجواب كان على تقدير: لرأيت سوء منقلبهم أو لرأيت أسوأ حال (٤). ومن هذا قول امرئ القيس (٥):
فَلَوْ أنها نَفْسٌ تَمُوتُ سويةً ولكنَّها نَفْسٌ تَساقَطُ أَنْفُسا (٦)
ولم يقل: لفنيت ولا لاستراحت (٧)، وكذلك قول جرير:
(١) الأمالة لغة فصيحة صحيحة، وهي تقريب الفتحة نحو الكسرة والألف نحو الياء، وهي مذهب لبعض القراء كما في "السبعة" ص ١٤٩، و"المبسوط" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٣٠، وانظر: "التكملة" للفارسي ص ٥٢٧، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٥٢، ص ٦٣، و"المشكل" ١/ ١٦٨.
(٢) في (أ): (مكسورة).
(٣) معاني الزجاج ٢/ ٢٣٩، وانظر: ١/ ١٢٣، و"معاني الأخفش" ١/ ٣٩.
(٤) حذف جواب (لو)، لدلالة المعنى عليه جائز فصيح، وهو أبلغ في التخويف؛ لأن السامع يترك مع غاية تخيله، ولو صرح له بالجواب وطّن نفسه عليه. انظر: "الكتاب" ٣/ ١٠٣، و"البغوي" في "تفسيره" ٣/ ١٣٧، وابن عطية ٥/ ١٦٧، و"البحر" ٤/ ١٠١، و"الدر المصون" ٤/ ٥٨٢.
(٥) امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو الكندي شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته.
(٦) "ديوانه" ص ٨٧، و"سر صناعة الإعراب" ص/ ٦٤٨، و"اللسان" ٢/ ٦٧٩، (جمع) و"الدر المصون" ٤/ ٥٨٣، وفي المراجع -جميعة بدل سوية- والمعنى. أنه مريض لا تخرج نفسه مرة ولكنها تموت شيئًا بعد شيء.
(٧) في النسخ: (ولا لاسترحت).
72
كَذَبَ العَوَاذِلُ لَوْ رَأَينَ مُنَاخَنَا بَحزِيز رَامَةَ والمَطِيُّ سَوَامِي (١)
ولم يقل: لرأين ما يشجيهن ويسخن أعينهن.
قال أبو الفتح الموصلي (٢): (ذهب أصحابنا إلى أن حذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى أنك إذا قلت لغلامك: والله لئن قمت إليك، وسكتَّ عن الجواب، ذهب تفكره (٣) إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر وغير ذلك، فتمثلت في فكره أنواع العقوبات، وتكاثرت عليه، وعظمت الحال في نفسه، ولم يدر أيها يتقي. ولو قلت: والله لئن قمت إليك لأضربنك. فأتيت بالجواب، لم يتق شيئًا غير الضرب، ولا خطر بباله نوع من المكروه سواه، وكان ذلك دون حذف الجواب؛ لأنه يوطن نفسه على المتوعّد به في الجواب إذا عرفه، ومن وطن نفسه على شيء هان. ألا ترى قول كثير (٤):
فَقُلْتُ لها:
يا عَزَّ كُلُّ مُلمةٍ إِذا وُطّنَتْ يومًا لها النَّفسُ ذلّتِ (٥)
(١) "ديوان جرير" ص ٥٤٢، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤٨، و"الدر المصون" ٤/ ٢٨٣، الحزيز: المكان الغليظ، وهو اسم لعدة أماكن في بلاد العرب. انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٢٥٦، وفيه ذكر البيت وصدره عنده:
ولقد نظرت فرد نظرتك الهوى
والسوامي: الرافعة أبصارها وأعناقها.
(٢) عثمان بن جني النحوي اللغوي إمام مشهور، تقدمت ترجمته.
(٣) في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤٩ (وذهب بفكره).
(٤) "ديوان كثير عزة" ص ٥٥، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩١١، و"الدر المصون" ٤/ ٥٨٣، وفيها: مصيبة بدل ملمة، وقد جاء ملمة في بعض نسخ "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤٩.
(٥) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤٩، بتصرف يسير، وانظر: "معاني الأخفش" ١/ ١٣٦، و"المدخل" للحدادي ص ٢٣٩.
73
وقوله تعالي: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ اختلف القراء في قوله: ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾ و ﴿وَنَكُونَ﴾ فقرئ رفعًا ونصبًا (١).
وللرفع وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفًا على ﴿نُرَدُّ﴾ ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾، ﴿وَنَكُونَ﴾ داخلا في التمني دخول ﴿نُرَدُّ﴾ فيه، فعلى هذا قد تمنوا الرد، وأن لا يكذبوا، والكون من المؤمنين. [و] (٢) الوجه الثاني: أن تقطع ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾ وما بعده من الأول، فيكون التقدير على هذا: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ﴾ ونحن ﴿وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ضمنوا أنهم لا يكذبون، والمعنى: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نردّ: ﴿وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي قد: عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبدًا.
قال سيبويه: (هو على قولك: فإنا لا نكذّب كما تقول: دعني ولا أعود، أي: فإني ممّن لا يعود، فإنما (٣) يسألك الترك، وقد أوجب على نفسه أن لا يعود، تُرك أو لم يُترك، ولم يُرد أن يسألك أن يجمع له الترك وأن لا يعود) (٤).
(١) قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم: ﴿نُكَذِّبَ﴾ - ﴿وَنَكُونَ﴾ بنصب الباء والنون فيهما، وقرأ الباقون بالرفع فيهما، وقرأ ابن عامر ﴿نُكَذِّبَ﴾ بالرفع و ﴿نَكُونَ﴾ بالنصب.
انظر: "السبعة" ص ٢٥٥، و"المبسوط" ١٦٧، و"التذكرة" ٢/ ٢٩٦، و"التيسير" ص ١٠٢، و"النشر" ٢/ ٢٥٧.
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٣) في (أ): (وإنما).
(٤) "الكتاب" ٣/ ٤٤، وزاد فيه: (الرفع على وجهين: فأحدهما أن يشرك الآخر الأول، والآخر على قولك: دعني...) ا. هـ.
74
والوجهان ذكرهما الزجاج (١)، وشرح أبو علي (٢) كما حكيت.
والوجه الثاني أقواهما (٣) وهو أن يكون (٤) الرد داخلا في التمني، ويكون ما بعده إخبارًا عنهم أنهم قالوا ذلك على ما بينا. وذلك لأن الله تعالى كذبهم في الآية الثانية فقال: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨]، وهذا يدل على أنهم أخبروا بذلك عن أنفسهم ولم يتمنوه (٥)؛ لأن التمني لا يقع فيه الكذب، إنما يقع في الخبر دون التمني. وهذا اختيار أبي عمرو (٦)، وهو استدل بقوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] على خروج التكذيب والكون من التمني (٧). ومن قرأ ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾، ﴿وَنَكُونَ﴾ نصبا، قال الزجاج: (نصب على الجواب بالواو في التمني، كما تقول: ليتك تصير إلينا ونكرمك، والمعنى: ليت مصيرك يقع وإكرامنا، ويكون المعنى: ليت ردّنا
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٩، والوجهان ذكرهما أكثرهم. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٤٢، و"التذكرة" لابن غلبون ٢/ ٣٩٦، و"البيان" ١/ ٣١٨، وابن عطية ٥/ ١٦٨.
(٢) "الحجة" لأبي علي الفارسي ٣/ ٢٩٣.
(٣) وهو اختيار الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٧٣، و"الطبري" في "تفسيره" ٧/ ١٧٥ - ١٧٦، و"النحاس في معانيه" ٢/ ٢٧٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٣٧، وانظر: "الخاطريات" لابن جني ص ١٣٢، و"المحتسب" ١/ ٢٥٢.
(٤) في (أ): (وأن لا يكون) وكأن لا ملحقة وعليها علامة تصحيح، ولعله تحريف من الناسخ؛ لأن سياق الكلام يرده.
(٥) في (ش): (ولم يتمنوا).
(٦) أبو عمرو: زبان بن العلاء بن عمار بن العريان التميمي المازني البصري، تقدمت ترجمته.
(٧) ذكره عنه أكثرهم. انظر: "الحجة" لأبي علي ٣/ ٢٩٣، و"الكشف" ١/ ٤٢٨، و"المشكل" ١/ ٢٤٩، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٩٢، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٤٠٩، و"الدر المصون" ٤/ ٥٨٧.
75
وقع وأن لا نكذب) (١).
قال ابن الأنباري: (في نصب ﴿نُكَذِّبَ﴾ وجهان، أحدهما: أن تكون الواو مبدلة من الفاء، والتقدير: يا ليتنا نُرد فلا نكذب ونكون، فتكون الواو هاهنا بمنزلة الفاء في قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)﴾ [الزمر: ٥٨]، يؤكد هذا الوجه ما روي أن ابن مسعود وابن أبي إسحاق (٢) كانا يقرآن (فلا نكذب) بالفاء منصوبًا (٣). قال: والوجه الآخر في نصب ﴿نُكَذِّبَ﴾ ﴿وَنَكُونَ﴾ الصرف (٤) ومعناه الحال، أي يا ليتنا نرد غير مكذبين، كما تقول العرب (٥): لا نأكل السمك ونشرب اللبن، أي: لا يأكل السمك شاربًا للبن) (٦).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٣٩ - ٢٤٠.
(٢) ابن أبي إسحاق: عبد الله بن زيد بن الحارث الحضرمي أبو بحر البصري، تقدمت ترجمته.
(٣) ذكر قراءة ابن مسعود أكثرهم. انظر: الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧٥، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٤٢، والحجة لابن خالويه ص ١٣٨، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ١٦٨ - ١٦٩، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٩٢، والقرطبي، و"البحر" ٤/ ١٠٢، وذكرها السمين في "الدر" ٤/ ٥٩٠، عن ابن مسعود، وابن أبي إسحاق، وحكى أكثرهم عن ابن أبي إسحاق أنه يقرأ: (نكذب ونكون) بالنصب بلا فاء. انظر: "الكتاب" ٣/ ٤٤، و"طبقات ابن سلام" ١/ ١٩ - ٢٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٤٢: و"طبقات الزبيدي" ص ٣٣.
(٤) يسمي الكوفيون هذه (الواو) واو الصرف، إرشادًا بصرفه عن سنن الكلام إلى أنها غير عاطفة، وشرط هذه الواو أن يتقدمها نفي أو طلب. انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٣ - ٣٤، ٢٣٥، و"تفسير الطبري" ١/ ٢٥٥، و"المغني" لابن هشام ٢/ ٣٦١.
(٥) انظر: "الكتاب" ٣/ ٤٢.
(٦) ذكره السمين في "الدر" ٤/ ٥٩٠، وقال الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٧٦: (المعروف من كلام العرب النصب على الجواب بالفاء والصرف بالواو)، ونحوه قال ثعلب كما في "معاني القراءات" ١/ ٣٤٩، وانظر: "المدخل" للحدادي ص ٣٣٣.
76
وشرح أبو علي كلام أبي إسحاق في هذه القراءة، فقال: (من نصب ﴿نُكَذِّبَ﴾ ﴿وَنَكُونَ﴾ أدخل ذلك في التمني؛ لأن التمني غير موجب، فهو كالاستفهام والأمر والنهي والعرض في انتصاب ما بعد ذلك كله من الأفعال إذا دخلت عليها الفاء على تقدير ذكر مصدر الفعل الأول، كأنه في التمثيل: يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء التكذيب وكون من المؤمنين) (١)، فإن قيل على هذه القراءة: كيف أكذبهم الله، فقال: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، والتمني لا يدخله الكذب؟ قال ابن الأنباري: (أكذبهم في معنى التمني؛ لأن تمنيهم رجع إلى معنى نحن لا نكذب إذا رددنا، فغلّب عز وجل تأويل الكلام، فأكذبهم ولم يستعمل لفظ التمني؛ لأن القائل إذا قال: ليت لي مالاً فأتصدق به، يريد أنا أتصدق بالمال إذا وجدته وقدرت عليه، فمتى كذب أو صدق في حال التمني؛ فلأن الكلام راجع إلى معنى الإخبار) (٢).
وكان ابن عامر يرفع ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾ وينصب ﴿وَنَكُونَ﴾، وقد ذكرنا
(١) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٩٤، وانظر: "المسائل المنثورة" ص ١٤٩، وهذا قول أكثر البصريين، انظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤١٣، و"الجمل" للزجاجي ص ١٩٤، و"المشكل" ١/ ٢٥٠، و"البيان" ١/ ٣١٨، و"الفريد" ٢/ ١٣٧، و"الدر المصون" ٤/ ٥٨٧ - ٥٩٠.
(٢) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٤، و"السمين في الدر" ٤/ ٥٨٨ مختصرًا وأكثرهم قال: (إن القول بأن التمني لا يدخله الكذب ليس بقوي؛ لأن هذا تمن تضمن معنى العدة، فجاز أن يدخله التكذيب، أو يكون قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ إخبار عن سجية الكفار وحكاية عن حالهم في الدنيا، فلا يدخل الكذب في التمني). قال السمين في "الدر" ٤/ ٥٨٦: (هذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح) ا. هـ وانظر: "الحجة" لأبي علي ٣/ ٢٩٤، و"الكشاف" ٢/ ١٣، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٦٨ - ١٦٩، الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٩١ - ١٩٢، و"الفريد" ٢/ ١٣٨، و"البحر" ٤/ ١٠٢.
77
وجهين في رفع ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾، وذكرنا وجه من قرأ بالنصب فيهما، فيحتمل أن ابن عامر أدخل ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾ [في التمني] (١)، وإن كان رفعًا على ما بينا والكون داخل فيه إذا نصب، ويحتمل أنه أراد الإخبار في ﴿وَلَا نُكَذِّبَ﴾، وأدخل الكون في التمني (٢).
٢٨ - قوله تعالى: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ معنى ﴿بَلْ﴾ هاهنا رد لكلامهم وإضراب عن توهم صحة عزيمتهم على الإنابة التي كان (٣) تمني الرجعة لأجلها، يقول الله تعالى -ليس على ما قالوا-: ﴿بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾، فلذلك اعتذروا وتمنوا الرد، أي: إنما اعتذروا حين افتضحوا (٤). واختلفوا في معني: ﴿بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ﴾، فقال أبو روق: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر وذلك حين ﴿بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾) (٥)، وعلى هذا أهل التفسير (٦). وحكى عن المبرد أنه قال: (بدا لهم وباله وسوء عاقبته، وكأن كفرهم لم يكن باديًا لهم إذ خفي مضرته، وهذا كما تقول لمن وقع فيما
(١) لفظ: (في التمني) ساقط من (أ).
(٢) انظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٤٩، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٣٨، ولأبي علي الفارسي ٣/ ٢٩٣، ولابن زنجلة ص ٢٤٥، و"الكشف" ١/ ٤٢٧، و"المشكل" ١/ ٢٤٩.
(٣) في (أ): (كانت يتمنى).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٧٦ - ١٧٧.
(٥) ذكره الثعلبي ١٧٦ ب، والرازي ١٢/ ١٩٣، والقرطبي ٦/ ٤١٠، و"البحر" ٤/ ١٠٣.
(٦) انظر: الطبري ٧/ ١٧٦ - ١٧٧، السمرقندي ١/ ٤٨٠، الرازي ١٢/ ١٩٣.
78
كنت حذرته قبل ظهر لك الآن ما قلت لك، وقد كان ظاهرًا له ذلك القول قبل هذا) (١). وقال الزجاج: (بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور، قال: لأن المتصل بهذا: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ (٢)، وهذا قول الحسن قال: (بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض) (٣)، وكل هذا بمعنى: ظهرت فضيحتهم في الآخرة وتهتكت أستارهم (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ قال ابن عباس: (يريد إلى ما نهوا عنه من الشرك) (٥).
(١) ذكره الثعلبي ص ١٧٦ ب، والبغوي ٣/ ١٣٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٣، و"القرطبي" ٦/ ٤١٠، وابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٤٥ - ١٤٦.
(٢) "معني الزجاج" ٢/ ٢٤٠، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤١٤.
(٣) ذكره الماوردي ٢/ ١٠٦، وابن عطية ٥/ ١٧٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٣، والرازي ١٢/ ١٩٤، والقرطبي ٦/ ٤١٠، و"البحر" ٤/ ١٠٣.
(٤) قال الرازي ١٢/ ١٩٤: (اللفظ محتمل لوجوه كثيرة، والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانتهكت أستارهم) ا. هـ. ومعنى الآية -والله أعلم-: ظهرت في الآخرة فضيحتهم وعاقبة أعمالهم وما كانوا يخفون من علمهم أنهم على باطل وأن الرسل على حق، فعاينوا ذلك عيانًا بعد أن كانوا يخفونه ويتواصون بإخفائه. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٤٢، و"الكشاف" ٢/ ١٣، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٤٥، وابن كثير ٢/ ١٤٤ - ٤٤٥.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٦، وابن الجوزي ٣/ ٢٤، وأخرج ابن أبي حاتم ٤/ ١٢٧٩ بسند جيد عنه قال: (أخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى فقال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ا. هـ وفي "الدر المنثور" ٣/ ١٦، قال: (أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال: (أي لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا) ا. هـ.
79
قال أبو إسحاق: (المعنى: إن أكثر أهل الكتاب والمشركين عاندوا بعد أن علموا أن أمر الله حق (١)، فركنوا إلى الرفاهية، وأن الشيء متأخر عنهم إلى أمدٍ، كما فعل إبليس الذي قد شاهد من براهين الله ما لا غاية بعده، فأعلم الله عز وجل أن هؤلاء لو ردوا لعادوا كما أنهم كفروا في الدنيا بعد قيام الدليل ووجوب الحجة عليهم) (٢).
وهذه الآية من الأدلة الظاهرة على تكذيب القدرية، وذلك أن الله تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك، فقال: لو أنهم شاهدوا النار والحساب وسألوا الرجعة وردوا، لعادوا إلى الشرك، وذلك للقضاء السابق فيهم، وإلا فالعاقل لا يكاد يرتاب فيما شاهد (٣).
٢٩ - قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ كان ابن زيد (٤) يقول: (هذا عطف على قوله: ﴿لَعَادُوا﴾، والمعنى: لعادوا إلى الشرك، لقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا، وأنكروا البعث) (٥). والآخرون: (على أن هذا ابتداء، إخبار عنهم أنهم كذلك كانوا يقولون في الدنيا) (٦).
(١) في (أ): (أن الأمر لله حق).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٠، انظر: الطبري ٧/ ١٧٦ - ١٧٧، و"معاني النحاس" ٢/ ٤١٤ "بدائع التفسير" ٢/ ١٤٦.
(٣) ذكره الرازي ١٢/ ١٩٤، وأبو حيان ٤/ ١٠٤، عن الواحدي.
(٤) ابن زيد: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، تقدمت ترجمته.
(٥) أخرجه الطبري ٧/ ١٧٧، ابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨٠، بسند جيد، وذكره أكثرهم، وهو ظاهر كلام الزمخشري ٢/ ١٣، و"البيضاوي" ١/ ١٣٦، وقال القرطبي ٦/ ٤١١،: (يحمل هذا على المعاند... أو على أن الله يلبس عليهم بعد ما عرفوا، وهذا شائع في العقل) ا. هـ.
(٦) هذا قول الجمهور واختيار الطبري ٧/ ١٧٧، والجمع بينهما حسن، فيقال. لما كان ديدنهم في الدنيا هو الكذب بالآخرة الذي كانوا يعبرون عنه بتلك المقولة: =
٣٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ ليس يصح في هذه الآية شيء من الوجوه التي ذكرناها في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأنعام: ٢٧] إلا وجهًا واحداً، وهو أن المعنى هاهنا: عرفوا ربهم ضرورة كما تقول: وقفته على كلام فلان، أي: عرفته إياه (١).
وقال أصحاب المعاني في هذه الآية: (وقفوا على مسألة (٢) ربهم لتقريرهم بما فيه توبيخ لهم على ما سلف من جحودهم، فخرج الكلام مخرج ما جرت به العادة من وقوف العبد بين يدي سيده، لما في ذلك من البلاغة بإخراج المعنى على ما جرت به العادة) (٣).
= ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ فإنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى ديدنهم ذلك ولقالوا نفس المقولة.
انظر: ابن عطية ٥ - ١٧٢ - ١٧٣، الرازي ١٢/ ١٩٤، و"الفريد" ٢/ ١٣٨، و"البحر" ٤/ ١٠٥، و"الدر المصون" ٤/ ٥٩٢.
(١) ذكره الرازي ١٢/ ١٩٦، وفيه نظر؛ لأنه تحصيل حاصل والكفار يعرفون ربهم ويقرون بوجوده. وإنما ينكرون توحيد العبادة حيث يعبدون مع الله غيره، فالأولى حمل الآية على ظاهرها، أي: حبسوا على الله تعالى في الآخرة للفصل والقضاء، وأن هذا حق وليس باطلاً كما يظنون. قال السمرقندي ١/ ٤٨٠: (أي: عرضوا وسيقوا وحبسوا عند ربهم وعند عذابه) ا. هـ وقال ابن كثير ٢/ ١٤٥: (أي: أوقفوا بين يديه) ا. هـ
(٢) أكثرهم على أن المعنى: (حبسوا على ربهم، أي: على حكم الله وقضائه فيهم ومسألته).
انظر: الطبري ٧/ ١٧٨، والبغوي ٣/ ١٣٨، وابن عطية ٥/ ١٧٣، والقرطبي ٦/ ٤١١.
(٣) انظر: "الكشاف" ٢/ ١٣، والرازي ١٢/ ١٩٦، و"الفريد" ٢/ ١٣٩، و"البحر" ٤/ ١٠٥، و"الدر المصون" ٤/ ٥٩٤، و"البيضاوي" ١/ ١٣٦.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾، أي: هذا البعث، فيقرون حين لا ينفعهم ذلك، ويقولون: ﴿بَلَى وَرَبِّنَا﴾، فيقول الله تعالى (١): ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾، وخص لفظ الذوق (٢)؛ لأنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في شدة الإحساس من غير أن يصيروا إلى حال من يشم الطعام في نقصان الإدراك. وقوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٠] أي: بكفركم (٣).
٣١ - قوله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾ الآية. قال أصحاب المعاني: (إنما وصفوا بالخسران؛ لأنهم باعوا الإيمان بالكفر، فعظم خسرانهم في ذلك البيع؛ لأنهم خسروا أنفسهم بإهلاكها بالعذاب، وأعظم الخسران في العمل هلاك النفس، كما أن أعظم الخسران في التجارة ذهاب رأس المال) (٤).
وقوله تعالى: ﴿بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: (يريد بالبعث والثواب والعقاب والمصير إليه) (٥)، وقد أحكمنا شرح هذا عند قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦]، وقال بعضهم: (المعنى هاهنا كذبوا
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٧٨، والسمرقندي ١/ ٤٨٠، والبغوي ٣/ ١٣٨.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٠٢، و"المفردات" ص ٣٣٢، و"اللسان" ٣/ ١٥٢٧ (ذوق) وقال بعضهم: (الذوق في العذاب استعارة بليغة، والمعنى: باشروه مباشرة الذائق، إذ هي أشد المباشرات). انظر: ابن عطية ٦/ ٢٥، والرازي ١٢/ ١٩٦، و"البحر" ٤/ ١٠٦.
(٣) انظر: الطبري ٧/ ١٧٨، والسمرقندي ١/ ٤٨٠، و"الدر المصون" ٤/ ٥٩٥.
(٤) انظر نحوه في: الطبري ٧/ ١٧٩، و"المفردات" ص ٢٨١ (خسر)، والبغوي ٣/ ١٣٨، وابن عطية ٥/ ١٧٥، و"البحر" ٤/ ١٠٦.
(٥) في "تنوير المقباس" ٢/ ١٣ نحوه، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٧ بلا نسبة، وهو قول أكثرهم. انظر: الطبري ٧/ ١٧٨، والسمرقندي ١/ ٤٨٠، والبغوي ٣/ ١٣٨، وابن الجوزي / ٣/ ٢٤، الرازي ١٢/ ١٩٧.
82
بلقاء جزاء الله، إلا أنه قحم اللقاء بإضافته إلى الله، وهذا كما يُقال للميت: لقي فلان عمله، أي: لقي جزاء عمله) (١).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾، معنى ﴿حَتَّى﴾ هاهنا بيان أن منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة، والمعنى: كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة (٢)، والمراد بالساعة (٣): القيامة، وقيل: (يوم القيامة الساعة؛ لسرعة الحساب للجزاء فيها، كأنه قيل: ما هي إلا ساعة الحساب للجزاء حتى جعل أهل المنزلين في منازلهم من الجنة والنار)، هذا قول بعض أهل المعاني (٤).
(١) ذكر أبو علي الفارسي في "الحجة" ٢/ ٢٦ نحوه قال في الآية: (المعنى بالبعث يقوي ذلك ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٣١] أي: ملاقو ثواب ربهم وملاقو جزائه إن ثوابًا وإن عقابًا)، وذكر نحوه أكثرهم.
انظر: "الكشاف" ٢/ ١٣، وابن عطية ٥/ ١٧٥، والقرطبي ٦/ ٤١١، و"البحر" ٤/ ١٠٦.
وهذا التقدير في الآية محتمل، وإن قصد به نفي الرؤية فهو مردود، والأولى حمل الآية على ظاهرها وعدم صرفها عنه.
(٢) وعلى هذا تكون حتى غاية لكذبوا، والمعنى: منتهى تكذيبهم الحسرة، ولا يجوز أن تكون غاية لخسر؛ لأن خسرانهم لا غاية له، أفاده أكثرهم. انظر: "الكشاف" ٢/ ١٣، والرازي ١٢/ ١٩٧، و"الفريد" ٢/ ١٣٩، و"البحر" ٤/ ١٠٦، البيضاوي ١/ ١٣٦.
(٣) هذا قول أكثرهم. انظر: الطبري ٧/ ١٧٨، والسمرقندي ١/ ٤٨٠، والبغوي ٣/ ١٣٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٤.
(٤) هذا قول الراغب في "المفردات" ص ٤٣٤، والقرطبي ٦/ ٤١٢، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٠٦، والسمين في "الدر" ٤/ ٥٩٥، و"عمدة الحفاظ" ص ٢٥٤.
83
وقال غيره: (الساعة (١): الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة) (٢)، وهذا القول أصح. ألا ترى أنه قال: ﴿بَغْتَةً﴾ والبغت والبغتة (٣): الفجأة.
قال ابن عباس: (يريد أن الساعة لا يعلمها أحد إلا هو) (٤) -يعني: أنها تأتي فجأة- لأنه لا يعلم أحد متى إبانها فينتظرها.
وقوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا﴾ قال الزجاج (٥) وابن الأنباري (٦): (معنى دعاء الحسرة: تنبيه الناس على ما وقع بهم من الحسرة، والعرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم يقع فيه جعلته نداء، كقوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾ [يس: ٣٠]، و {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
(١) جاء في (أ): تكرار لفظ: (الساعة).
(٢) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٩٧، وابن منظور في "اللسان" ٤/ ٢١٥١ (سوع) والقاسمي في تفسيره ٦/ ٢٢٨٥، والأقوال متقاربة. قال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٤٦، ٣/ ٢١٤: (الساعة اسم لإماتة الخلق واحيائهم). وانظر الرازي ١٢/ ١٩٧، والخازن ٢/ ١٢٨.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩٣، الطبري ٧/ ١٧٨، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٤١، ٣/ ١٣١، الزاهر ٢/ ٥، و"معاني النحاس" ٢/ ٤١٥، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٦٤، و"اللسان" ١/ ٣١٧ (بغت).
(٤) لم أقف عليه.
(٥) أطال الزجاج في تقرير هذا الوجه في مواضع من معانيه ٣/ ٣٥٤، ٤/ ٢٨٤، وقال: (معنى الحسرة: أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية له بعده حتى يبقى حسرًا، والفائدة من مناداتها كالفائدة في مناداة ما لا يعقل؛ لأن النداء باب تنبيه، وحرف النداء يدل على تمكن القصة من صاحبها، إذا قال القائل: يا حسرتاه ويا ويلاه فتأويل الحسرة والويل قد حلا به، وإنهما لازمان له غير مفارقين). وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٨١٤ - ٨١٥.
(٦) لم أقف عليه بعد طول بحث عنه في مظانه.
84
اللَّهِ} (١) [الزمر: ٥٦]، و ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ﴾ (٢) [هود: ٧٢]، وهذا أبلغ من أن يقول: الحسرة علينا في تفريطنا) (٣)، ومثله: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٨٤]؛ تأويله: يا أيها الناس تنبهوا على ما وقع في زمان الأسف، فوقع النداء على غير المنادي في الحقيقة؛ لاتساع العرب في مجازها (٤)، وهذا كقولهم: لا أريتك هاهنا، وقع النهي على غير المنهي في الحقيقة.
وقال سيبويه: (إنك إذا قلت: يا عجباه (٥)، فكأنك قلت: احضر وقال يا عجيب، فإنه من أزمانك، وتأويل يا حسرتاه: انتبهوا على أنّا قد خسرنا) (٦)، فقد حصل للنداء هاهنا تأويلان أحدهما: أن النداء للحسرة، والمراد به تنبيه المخاطبين على قول الزجاج وأبي بكر، وعلى قول سيبويه دُعيت الحسرة على معنى أن هذا وقتك فتعالي (٧).
(١) في النسخ: (يا حسرتا..)، وهو تحريف.
(٢) في النسخ: (يا ويلتا..)، وهو تحريف.
(٣) معاني الزجاج ٢/ ٢٤١.
(٤) هذا من كلام الواحدي، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٩٧، انظر: "معاني الزجاج" ٣/ ٢٣٥.
(٥) جاء في (أ): (يا عجبا).
(٦) النص عند الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٤١، و"معاني النحاس" ٢/ ٤١٥، والرازي في "تفسيره" ١٢/ ١٩٨، و"الفريد" للهمذاني ٢/ ١٤٠، وقال سيبويه في "الكتاب" ٢/ ٢١٧: (وقالوا: يا للعجب لما رأوا عجبًا، كأنه يقول: تعال يا عجيب، فإنه من أيامك وزمانك) ا. هـ ملخصًا. وانظر: "معاني الفراء" ٢/ ٤٢١، و"معاني الأخفش" ١/ ٢٠٤، و"المقتضب" للمبرد ٤/ ٢٠٢ - ٢٠٣.
(٧) والظاهر أن الجميع مراد في ذلك، فنداء الحسرة للتنبيه وتعظيم الأمر وتشنيعه، وكأنه يقول: اقربي واحضري فهذا وقتك وزمانك، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه وهو المقصود بنداء ما لا يعقل. وهذا ظاهر كلام أكثرهم. انظر: المدخل للحدادي ص ٥٨٨، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٣٨، ابن =
85
وقوله تعالى: ﴿عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ قال أبو عبيد: (يقال: فرطت في الشىء، أي: ضيعته) (١).
وقوله: ﴿عَلَى مَا فَرَّطْنَا﴾، أي: تركنا وضيعنا فيها. وهو قول أبي عبيدة (٢) وأكثر أهل اللغة (٣)، وبه قال الحسن، فقال: (على ما ضيعنا) (٤)، والتأويل: يا حسرتنا على ما تركنا من عمل الآخرة.
= عطية ٥/ ١٧٦، وابن الجوزي ٣/ ٢٥، و"التبيان" ص ٣٢٩، والقرطبي ٦/ ٤١٢، و"البحر" ٤/ ١٠٧، و"الدر المصون" ٤/ ٥٩٥، و"روح المعاني" ٧/ ١٣٢، و"التحرير والتنوير" ٧/ ١٩٠.
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٧٢ - ٢٧٧٣، وفي "غريب الحديث" ١/ ٣٦، قال أبو عبيد: (قال الأصمعي: الفرط والفارط: المتقدم في طلب الماء... ويقال: أفرطت الشيء، أي: نسيته) ا. هـ. ملخصًا.
(٢) مجاز القرآن ١/ ١٩٠، وهو قول أكثرهم. انظر: "معاني الفراء" ٢/ ١٠٨، و"غريب القرآن" ص ١٦٣، والطبري ٧/ ١٧٩، السمرقندي ١/ ٤٨٠، و"العمدة" لمكي ص ١٢٦، و"التحرير والتنوير" ٧/ ١٩١، وقال بعضهم: (التفريط هو التقصير في الشيء مع القدرة على فعله). وهو قريب من المعني الأول. انظر: "الكشاف" ٢/ ١٤، و"البغوي" ٣/ ١٣٨، ابن عطية ٥/ ١٩٤، والخازن ٢/ ١٢٨، و"البحر" ٤/ ١٠٧، والبيضاوي ١/ ١٣٦، والثعالبي ١/ ٥١٤، والقاسمي ٦/ ٥٠٢.
(٣) قال أهل اللغة: (فرط بفتح الراء المخففة سبق وتقدم، وفرط بتشديد الراء المفتوحة، في الشيء، وفرطه: ضيعه وقدم العجز في التقصير، وأكثرهم. على أنه بمعنى: تقدم. ومنهم من قال: هو بمعنى قصر وضيع).
انظر: "العين" ٧/ ٤١٨، و"الجمهرة" ٢/ ٧٥٤، و"الصحاح" ٣/ ١١٤٨، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٤٩٠، و"المجمل" ٣/ ٧١٦، و"المفردات" ص ٦٣١، و"النهاية" لابن الأثير ٣/ ٤٣٤، واللسان ٦/ ٣٣٨٩، والتاج ٥/ ١٩٥ (فرط).
(٤) ذكر الماوردي ٢/ ١٠٦، عن الحسن في قوله: ﴿وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ﴾ [النحل: ٦٢] قال: (مضيعون). وانظر: ابن الجوزي ٧/ ١٩٢، القرطبي ١٥/ ٢٧١، أخرجه الطبري ٧/ ١٧٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨١، بسد جيد عن السدي، وذكره =
86
وقال الزجاج: ﴿فَرَّطْنَا﴾: قدمنا العجز) (١)، جعله من قولهم: فرط فلان إذا سبق وتقدم، وفرط الشيء إذا قدمه، فالتفريط عنده تقديم التقصير (٢).
وقوله: ﴿فِيهَا﴾ قال ابن عباس: (في الدنيا) (٣).
وروي عن الحسن أنه قال: (في الساعة) (٤)، والمعنى: على ما فرطنا في العمل للساعة والتقدمة لها.
= السيوطي في "الإتقان" ١/ ١٥١، عن ابن عباس، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٥٧.
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٢ وقال في ٣/ ٢٠٧: (الفرط في اللغة: التقديم) ا. هـ. وهو قول السجستاني في "النزهة" ص ٣٥٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٥.
(٢) والمعاني كلها متقاربة، فيقال: فرط أي ضيع وقدم العجز والتقصير فيما يقدر عليه. وانظر: "التصاريف" ليحيى بن سلام ص ٣١٨، و"الأضداد" لقطرب ص ١١٤، و"ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي ص ١٨٣، و"ثلاثة كتب في الأضداد" للأصمعي والسجستاني وابن السكيت وبذيلها أضداد الصاغاني ص ١٤١، وص ٢٤١، و"الزاهر" ١/ ٣٠٩، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٧١، و"الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى" للرماني ص ٧٧، و"تفسير الرازي" ١٢/ ١٦٤، والقرطبي ٦/ ٤١٣، و"عمدة الحفاظ" ص ٤٢٠.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤، وذكره الرازي ١٢/ ١٩٨، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٠٧، والألوسي ٧/ ١٣٢، وهو قول بعضهم. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٧، والسمرقندي ١/ ٤٨٠، والزمخشري ٢/ ١٤، و"الخازن" ٢/ ١٢٨، والبيضاوي ١/ ١٣٦، وظاهر كلامهم عودة الضمير على الدنيا.
(٤) ذكره الرازي ١٢/ ١٩٩، والقرطبي ٦/ ٤١٣، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٠٧، ورجحه ابن عطية ٥/ ١٧٦، والعكبري في "التبيان" ١/ ٣٢٩، والقرطبي ٦/ ٤١٣، وقال الهمداني في "الفريد" ٢/ ١٤٠: (هذا هو الوجه لجري ذكرها مع صحة المعنى، وإذا صح العائد إلى مذكور فلا وجه للعدول عنه إلى غيره بغير دليل) ا. هـ.
87
وقال السدي (في الجنة) (١) أي: في طلبها والعمل لها، ويحتمل أن تعود الكناية إلى معنى ﴿مَا﴾، وفي قوله ﴿مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ أي: يا حسرتنا على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها (٢).
وروي عن ابن جرير أنه قال: (الكناية تعود إلى الصفقة؛ لأنه لما ذكر الخسران دل على الصفقة) (٣)، فعنده الكناية تعود إلى مدلول عليه.
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾، الأوزار: الأثقال من الإثم، قال ابن عباس: (يريد آثامهم وخطاياهم) (٤).
قال أهل (٥) اللغة: (الوزر الثقل، وأصله من الحمل، يُقال: وزرت
(١) أخرج الطبري ٧/ ١٧٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨١، بسند جيد عنه قال: (ضيعنا من عمل الجنة) ا. هـ. وقال أبو حيان ٤/ ١٠٧، والسمين في "الدر" ٤/ ٥٩٦، والألوسي ٧/ ١٣٢: (لا يخفى بعده) ا. هـ.
(٢) هذا قول ابن الأنباري في "البيان" ١/ ٣١٩، وقال الكرماني في "الغرائب" ١/ ٣٥٧: (العجيب (ما) موصولة (وفيها) كناية عن (ما) وأنث حملًا على الأعمال وهذا حسن) ا. هـ.
(٣) "تفسير الطبري" ٧/ ١٧٩، وزاد: (معلوم أن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت) وعده الكرماني في "غرائبه" ١/ ٣٥٧، من الغريب، والظاهر -والله أعلم- عودة الضمير على الدنيا؛ لأنه ظاهر الآية، ولكونها معلومة، والمعنى يقتضيها، وهي موضع التقصير، والظرفية فيها أمكن، وعودته على الساعة قوي، إلا أنه لا بد فيه من تقدير مضاف، أي: في شأنها والإيمان بها.
انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ١٧٥، و"البحر" ٤/ ١٠٧، و"الدر المصون" ٤/ ٥٩٦.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٧، والرازي ١٢/ ١٩٩، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧٠، وأخرج الطبري ٧/ ١٧٩، بسند ضعيف عنه قال: (ذنوبهم) وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٤: (آثامهم).
(٥) قال أهل اللغة: (الوزر، بكسر الواو وسكون الزاي: الإثم والحمل والثقل على الظهر؛ وبفتح الواو: الملجأ). =
88
الشيء، أي: حملته أزره وزرًا، ثم قيل للذنوب: أوزار؛ لأنها تثقل ظهر من يحملها). وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ﴾ [الأنعام: ١٦٤] أي: لا تحمل نفس حاملة.
وقال أبو عبيد: (يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع: احمل وزرك) (١).
وأوزار العرب: أثقالها من السلاح، ووزير السلطان: الذي (٢) يزر عنه أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية، أي: يحمل، وقال الزجاج: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾: (أي: يحملون ثقل ذنوبهم) (٣).
واختلفوا في كيفية حملهم الأوزار، فقال المفسرون (٤): (إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء سورة وأطيبه ريحًا، فيقول: أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا، فاركبني أنت اليوم، فذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ [مريم: ٨٥]، قالوا: ركبانًا. وإن
= انظر: "الجمهرة" ٢/ ٧١٢، ١٠٦٤، و"الصحاح" ٢/ ٨٤٥، و"مقاييس اللغة" ٦/ ١٠٨، و"المجمل" ٣/ ٩٢٤، و"المفردات" ص ٨٦٧، و"النهاية" لابن الأثير ٥/ ١٧٩، و"اللسان" ٨/ ٤٨٢٤، (وزر).
(١) ذكره الثعلبي ص ١٧٧، والقرطبي ٣/ ٤١٦، ولم أقف عليه عند غيرهما عن أبي عبيد، وجعله الرازي ١٢/ ١٩٩، والشوكاني ٢/ ١٥٩، عن أبي عبيدة، ولعله الصواب؛ لأنه في "مجاز القرآن" ١/ ١٩٠.
(٢) هذا قول الأزهري في "تهذيبه" ٤/ ٣٨٨٣، وانظر: "معاني الزجاج" ٣/ ٣٥٧، و"الاشتقاق" لابن دريد ص ٣٩٦.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٢، وانظر: "غريب اليزيدي" ص ١٣٥، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٥٢، و"نزهة القلوب" ص ٧١، و"معاني النحاس" ٢/ ٤١٦.
(٤) ذكره أكثرهم. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٧، والسمرقندى ١/ ٤٨١، والبغوي ٣/ ١٣٩، وابن الجوزي ٣/ ٢٦، والرازي ١٢/ ١٩٩، و"الدر المنثور" ٣/ ١٧.
89
الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحًا فيقول: أنا عملك السيء، طالما ركبتني في الدنيا، فأنا أركبك اليوم، وذلك قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾)، [و] (١) هذا قول قتادة (٢) والسدي (٣).
وقال الزجاج: (هذا مثل جائز أن يكون جعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل (٤) ما يتحمل؛ لأن الثقل كما يستعمل في الوزن (٥) يستعمل في الحال أيضًا، كما تقول: ثقل على خطاب فلان تأويله: كرهت خطابه كراهة اشتدت عليّ) (٦). فعلى هذا المعنى: أنهم يقاسون عذاب آثامهم مقاساة يثقل عليهم ذلك. وقال أهل العربية: (معنى قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾: لا تزايلهم أوزارهم، كما تقول: شخصك نصب عيني، أي ذكرك ملازم لي) (٧).
(١) لفظ (الواو) ساقط من (ش).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٨، والرازي ١٢/ ١٩٩، والخازن ٢/ ١٢٩.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ١٧٨ - ١٧٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨١ من طرق جيدة عن السدي وعمرو بن قيس الملائي، وأخرجه الطبري ١٥/ ٩٦، طبعة الحلبي، بسند ضعيف عن زيد بن أسلم العدوي.
(٤) في (ش): (الثقل)، وهو تحريف.
(٥) كذا في النسخ، وعند الزجاج ٢/ ٢٤٢ الوزر، ولعله تحريف.
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٢، وزاد: (فتأويل الوزر الثقل من هذه الجهة) ا. هـ وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤١٦، وفيه: (الوزر: الإثم، وهو تمثيل) ا. هـ
(٧) ذكره الثعلبي ١٧٧ أ، عن الزجاج، وذكره بعضهم عن فرقة. انظر: الرازي ١٢/ ١٩٩، الخازن ٢/ ١٢٩، والصواب حمل الآية على الحقيقة؛ لأن كلام الله تعالى يحمل على حقيقته ولا يصرف عنها إلا بدليل، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ١٧٧، والثعالبي ١/ ٥١٤، والألوسي ١/ ١٣٢.
90
وقوله تعالى: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ ذكرنا معنى ﴿سَاءَ﴾ (١) عند قوله: ﴿وَسَآءَ سَبِيلًا﴾ في [النساء: ٢٢]، قال ابن عباس: (يريد بئس الحمل حملوا) (٢)، وقال الزجاج: (بئس الشيء شيئًا (٣) يزرونه، أي: يحملونه) (٤).
٣٢ - قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾، قال المفسرون: (هذا رد لقول الكفار: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ (٥) (٦)، فقال الله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ (٧) (٨)، قال ابن عباس: (يريد حياة المشركين وأهل النفاق وأهل الكفر بالله: ﴿إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ يريد: باطل وغرور) (٩)، وإنما خص ابن عباس هذا بحياة الكافر؛ لأن حياة المؤمن فيها أعمال صالحة لا تكون (١٠) لعبًا ولهوًا.
(١) انظر: البسيط النسخة الأزهرية ١/ ٢٣٧ أ.
(٢) ذكره الواحدي في الوسيط ١/ ٢٨، والبغوي ٣/ ١٣٩، والخازن ٢/ ١٢٩.
(٣) في النسخ: (شيء).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٢، وهو قول أكثرهم. انظر: "إعراب النحاس" ٢/ ٦٣ والسمرقندي ١/ ٤٨١، والبغوي ٣/ ١٣٩، وابن الجوزي ٣/ ٢٦.
(٥) في النسخ (ما هي) بدلاً من (إن)، وهو تحريف، وفي الجاثية الآية ٢٤، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ الآية.
(٦) في (أ): (حيوتنا) بدلًا من (حياتنا).
(٧) في (أ): (الحيوة) حسب رسم المصحف.
(٨) ذكره عامة المفسرين أن الآية رد على منكري البعث.
انظر: الطبري ٧/ ١٨٠، وابن عطية ٥/ ١٧٩، والرازي ١٢/ ٢٠٠، والقرطبي ٦/ ٤١٤، و"الخازن" ٢/ ١٢٩، و"البحر" ٤/ ١٠٨.
(٩) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ٢٠٠، والقرطبي ٦/ ٤١٥، و"الخازن" ٢/ ١٢٩، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٠٨.
(١٠) في (ب): (يكون). وانظر: "تفسير الرازي" ١٢/ ٢٠٠.
91
وقال مقاتل في قوله: (﴿إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ يلهون في الدنيا) (١).
وهذا يؤكد أن المراد بهذا حياة الكافر؛ لأن المؤمن لا يشتغل باللهو في الدنيا عن عمل الآخرة.
وقال آخرون: (هذا عام في حياة المؤمن والكافر، والمراد بقوله: ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ أنها تنقضي وتفنى ولا تبقى كاللعب واللهو، يكون لذة فانية عن قريب) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ قال ابن عباس: (يريد الجنة) (٣)، وهو قول الكلبي (٤). ﴿وَالْآخِرَةُ﴾ صفة ﴿وَلَلدَّارُ﴾ وسميت ﴿الْآخِرَةُ﴾ لأنها بعد الدنيا (٥). وقرأ ابن عامر: (ولدار الآخرة) بالإضافة (٦).
قال الفراء: (يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، كقولهم: بارحة الأولى، ويوم الخميس، وحق اليقين؛ فإذا اتفقا لم تقل العرب: هذا حق الحق ولا يقين اليقين، وذلك أنهم يتوهمون إذا اختلفا في اللفظ أنهما
(١) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٨، وفيه قال: (﴿إِلَّا لَعِبٌ﴾ إلا باطل، ﴿وَلَهْوٌ﴾ يكون في الدنيا) ا. هـ.
(٢) انظر: "الطبري" ٧/ ١٨٠، والرازي ١٢/ ٢٠٠، والقرطبي ٦/ ٤١٤.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ٢٠٣، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٠٩.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤، وهو قول السمرقندي ١/ ٤٨١، وابن الجوزي ٣/ ٢٧، والقرطبي ٦/ ٤١٥، وغيرهم.
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ٦/ ٤١٥.
(٦) قال ابن الجزري في "النشر" ٢/ ٢٥٧: (قرأ ابن عامر: (ولدار) بلام واحدة وتخفيف الدال. (الآخرة) بخفض التاء على الإضافة، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. وقرأ الباقون بلامين مع تشديد الدال للإدغام وبالرفع على النعت، وكذا هو في مصاحفهم) ا. هـ وانظر: "السبعة" ص ٢٥٦، و"المبسوط" ص ١٦٧، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٧، و"التيسير" ص ١٠٢.
92
مختلفان في المعنى، ولا يتوهمون ذلك إذا اتفق اللفظ) (١).
وعند البصريين (٢) لا يجوز إضافة الشيء إلى نفسه وإن اختلف اللفظ، وقالوا في قراءة ابن عامر: (لم يجعل ﴿الْآخِرَةُ﴾ صفة ﴿وَلَلدَّارُ﴾؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، ولكنه جعلها صفة الساعة، وكأنه قال: ولدار الساعة الآخرة، وجاز وصف الساعة بالآخرة كما جاز ذلك في اليوم في قوله تعالى: ﴿وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [العنكبوت: ٣٦]، فإن قيل: على هذا التقدير الذي ذكرتم يكون قد أقام ﴿الْآخِرَةُ﴾ التي هي الصفة مقام الموصوف الذي هو الساعة، وذلك قبيح! قيل: لا يقبح ذلك إذا كانت الصفة قد استعملت استعمال الأسماء و ﴿الْآخِرَةُ﴾ صارت كالأبطح (٣) والأبرق (٤) في استعمالهما (٥) أسماء. ألا ترى أنه قال تعالى ذكره: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ [الضحى: ٤]، فليست ﴿الْآخِرَةُ﴾ كالصفات التي لم تستعمل استعمال الأسماء (٦)، ومثل ﴿الْآخِرَةُ﴾ في أنها استعملت
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٣٠ - ٣٣١، وقال الأزهري في "معاني القراءات" ١/ ٣٥١: (من قرأ: (ولدار الآخرة) فإنه أضاف الدار إلى الآخرة، والعرب تضيف الشيء إلى نعته، وهو كثير فصيح جيد) ا. هـ. بتصرف. واختار هذا التوجيه البغوي ٣/ ١٣٩.
(٢) انظر: "الأصول" ٢/ ٨، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٦٧، و"الإنصاف" ص ٣٥٣، و"المغني" لابن هشام ٢/ ٦٢٦، واختار هذا التوجيه أكثرهم. انظر: "المشكل" ١/ ٢٥١، و"البيان" ١/ ٣١٩، و"الفريد" ٢/ ١٤١.
(٣) الأبطح: مسيل والتسبيح فيه دقاق الحصى. انظر: "القاموس" ص ٢١٣، (بطح).
(٤) الأبرق: كثير التهديد والتوعد. انظر: "القاموس" ص ٨٦٦. (برق).
(٥) في (أ): (استعمالها).
(٦) قال السمين في "الدر" ٤/ ٦٠٠، في توجيه كلام البصريين: (وحسن ذلك أيضًا في الآية كون هذه الصفة جرت مجرى الجوامد في إيلائها العوامل كثيراً. وكذلك كل ما جاء مما توهم فيه إضافة الموضف إلى صفته، وإنما احتاجوا إلى ذلك لئلا =
93
استعمال [الأسماء] (١) الدنيا.
والاختيار قراءة العامة (٢)؛ لأن الأولى أن تجعل ﴿الْآخِرَةُ﴾ صفة ﴿وَلَلدَّارُ﴾، وإذا كانت صفة لها وجب أن يجري عليها في الإعراب ولا يضاف إليها، والدليل على كونها صفة ﴿وَلَلدَّارُ﴾ قوله تعالى: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ فقد علمت بإقامتها مقامها أنها هي وليست غيرها فيستقيم أن يضاف إليها (٣).
قوله تعالى: ﴿خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ قال ابن عباس: (يريد اتقوا الله ولم يشركوا به شيئًا) (٤).
وقال مقاتل: (للذين اتقوا الشرك) (٥).
وقال الكلبي: (للذين يتقون الكفر والشرك والفواحش) (٦).
= يلزم إضافة الشيء إلى نفسه وهو ممتنع، لأن الإضافة إما للتعريف أو للتخصيص، والشيء لا يعرف نفسه ولا يخصصها) ا. هـ. وانظر: "التبيان" للعكبري ١/ ٣٣٠.
(١) لفظ: (الأسماء) ساقط من (أ).
(٢) واختار قراءة العامة أيضًا الأزهري في "معاني القراءات" ١/ ٣٥١، ومكي في "الكشف" ١/ ٤٣٠.
(٣) هذا معنى قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٠٠ - ٣٠٢، لكنه لم يذكر اختيار قراءة العامة. وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٢٤٦، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ١٧٩، والرازي ١٢/ ٢٠٣، والقرطبي ٦/ ٤١٥، و"البحر المحيط" ٤/ ١٠٩.
(٤) ذكر الرازي ١٢/ ٢٠٣، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٠٩، عنه نحوه بلفظ: (خير لمن اتقى الكفر والمعاصي)، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٥: (خير لمن اتقى الكفر والشرك والفواحش).
(٥) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٨.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ١٥، والمعاني متقاربة، وهي من باب التنبيه على بعض أجزاء التقوى، فأول ما يتقى الكفر، ثم الشرك؛ ثم الفواحش والمعاصي. انظر: الطبري ٧/ ١٨٠، والسمرقندي ١/ ٤٨١، والبغوي ٣/ ١٣٩، والقرطبي ٦/ ٣١٥.
94
وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ (١) معناه: أفلا يعقل الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار، فيعملوا لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم، فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك (٢).
وقرئ: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ بالتاء (٣) على معنى قل لهم (٤): ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، أو يكون قد وجه الخطاب في ذلك إلى الذين خوطبوا، أي ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أيها المخاطبون أن ذلك خير (٥).
٣٣ - قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾. معنى ﴿قَدْ﴾ هاهنا التوقع (٦)، كقولك: قد ركب الأمير، لقوم يتوقعون ذلك، كأن
(١) في (ش): (تعقلون)، وهي قراءة سبعية.
(٢) هذا قول أبي علي الفارسي في "الحجة" ٣/ ٢٩٧، في توجيه القراءة بالياء. وانظر: الطبري ٧/ ١٨٠، والبغوي ٣/ ١٣٩.
(٣) قرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم: (تعقلون) بالتاء، والباقون بالياء. انظر: "السبعة" ص ٢٥٦، و"المبسوط" ص ١٦٧، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٧، و"التيسير" ص ١٠٢، و"النشر" ٢/ ٢٥٧.
(٤) في (أ): (على معنى وقل لهم).
(٥) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٢٩٧ - ٣٠٠، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٥٠، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٥، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٣٨، ولابن زنجلة ص ٢٤٦، و"الكشف" ١/ ٤٢٩، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ٣٨، و"البحر" ٤/ ١١٠، و"الدر المصون" ٤/ ٦٠٠، ونقل قول الواحدي الرازي ١٢/ ١٦٧.
(٦) قد: للتوقع مع المضارع، وكذلك مع الماضي عند الأكثر، وقال ابن هشام في "المغني" ١/ ١٧١: هي مع الماضي للتقريب؛ لأنها تدخل على ماضٍ متوقع. وانظر: "المقتضب" ٢/ ٣٣٤، و"حروف المعاني" للزجاجي ص ١٣، و"معاني الحروف" للرماني ص ٤٤٥، و"رصف المباني" ص٤٤٥، وقال السمين في "الدر" ٤/ ٦٠١: (قد هنا حرف تحقيق) ا. هـ. وانظر. "الكشاف" ٢/ ١٤، وابن عطية ٥/ ١٨٠، و"البيان" ١/ ٤٩١، و"الفريد" ٢/ ١٤١، و"البحر" ٤/ ١١٠.
95
النبي - ﷺ - لما سمع تكذيب قومه إياه توقع ما يخاطبه الله تعالى في ذلك فقال: ﴿قَدْ نَعْلَمُ﴾ ذلك تسلية وتعزية عما يواجه به قومه (١).
قال ابن عباس في هذه الآية: (يريد تعزية النبي - ﷺ - وتصبيره فيما تقول (٢) قريش من تكذيبهم إياه) (٣).
وقوله تعالى ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾. دخلت الفاء (٤) في (إنهم) لاقتضاء الكلام الأول هذا (٥)، كأنه قيل: إذا كان قد يحزنك الذي يقولون فاعلم أنهم لا يكذبونك. واختلفوا في معنى قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ فقال ابن عباس: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ في السر قد علموا أنك صادق: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ بمحمد والقرآن في العلانية) (٦)، وهذا قول أكثر المفسرين: أبي صالح (٧) وقتادة (٨) والسدي (٩) ومقاتل، قالوا: (هذا في المعاندين الذين عرفوا صدق محمد - ﷺ -، وأنه غير كاذب فيما يقول، ولكن عاندوا وجحدوا).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٨٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٨.
(٢) في (أ): (يقول): بالياء.
(٣) لم أقف عليه. وانظر: "تنوير المقباس" ٢/ ١٥.
(٤) لم أقف على من تكلم عن الفاء هنا. وفي الجدول في "إعراب القرآن" ٤/ ٧/ ١٠٠، قال في الآية: (الفاء للتعليل؛ لأن القول السابق يفيد النهي، أي: لا تحزن إنهم لا يكذبونك) ا. هـ
(٥) في (ش): (هذه).
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ١٥، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٩.
(٧) أخرجه الطبري ٧/ ١٨١، بسند جيد، وذكره أكثرهم.
(٨) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٠٧، والطبري ٧/ ١٨١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨٣ بسند جيد.
(٩) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٩، عن ابن عباس وقتادة والسدي ومقاتل.
96
يدل على هذا ما قال مقاتل: (نزلت في الحارث بن عامر (١)، كان يكذب النبي - ﷺ - في العلانية، فإذا خلا مع أهله قال: ما محمد من أهل الكذب نعلم أن الذي يقوله حق، ولا يمنعنا من أن نتبعه إلا المخافة من أن يتخطفنا الناس من أرضنا -يعني: العرب- فإنا أكلة رأس ولا طاقة لنا بهم؛ فأنزل الله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ في العلانية أنك كذاب ومفترٍ ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ في السر يعلمون أنك صادق، وقد جربوا منك الصدق فيما مضى، ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ بالقرآن بعد المعرفة) (٢). ونحو هذا قال الكلبي (٣) سواء.
وقال السدي (٤) وأبو ميسرة (٥) (٦)....................
(١) الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي. مشرك كان يؤذي النبي - ﷺ - وأصحابه بمكة وقتل في بدر مع المشركين. انظر: "السيرة" لابن هشام ٢/ ٣٥٧، و"جوامع السير" ص ١٤٧، و"عيون الأثر" ١/ ٢٨٥.
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٨.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٥، وذكره الماوردي ٢/ ١٠٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٩، و"البحر" ٤/ ١١١، وذكره ابن الجوزي عن أبي صالح عن ابن عباس.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ١٨٢، بسند جيد، وذكره أكثرهم.
انظر: "الثعلبي" ص ١٧٧ أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٢١٩، والبغوي ٣/ ١٣٩، وابن الجوزي ٣/ ٢٨.
(٥) أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني، أبو ميسرة الكوفي مشهور بكنيته، إمام تابعي عابد جليل صالح ثقة مخضرم. وقال بعضهم: له صحبة. توفي سنة ٣٦ هـ انظر: "طقات ابن سعد" ٦/ ١٠٦، و"الجرح والتعديل" ٦/ ٢٣٧، و"الحلية" ٤/ ١٤١، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ١٣٥، و"الإصابة" ٤/ ١١٤، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٥٩٦.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٩، وأسباب النزول ص ٢١٩، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٨، وقال: (أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه) ا. هـ.
97
وأبو يزيد (١) المدني (٢) وناجية بن كعب (٣) (٤): (نزلت الآية في أبي جهل قال: يا محمد ما نكذبك ولا نتهمك وإنك عندنا لمصدق، ولكنا نكذب ما جئتنا به، ولا نكون تبعًا لعبد مناف، فأنزل الله هذه الآية).
(١) أبو يزيد المدني نزل البصرة لا يعرف اسمه وهو تابعي ثقة، روى عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وروى عنه أيوب السختياني وغيره، وأخرج له البخاري والنسائي، توفي بعد المائة.
انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ٤٥٨، و"الكاشف" ٢/ ٤٧٢ (٦٩٠٢)، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٦٠٩، و"تقريب التهذيب" (٨٤٥٢) ص ٦٨٥.
(٢) أخرجه ابن حاتم ٤/ ١٢٨٣، بسند رجاله ثقات سوى بشر بن مبشر الواسطي فقد قال ابن حجر في "اللسان" ٢/ ٣٢ (ضعفه الأزدي وذكره ابن حبان في "الثقات" ا. هـ. وانظر: "ميزان الاعتدال" ١/ ٣٢٤، و"المغني للذهبي" ١/ ١٠٧، وذكر الرواية عن أبي يزيد: ابن كثير ٢/ ١٤٦، والسيوطي في "الدر" ٣/ ١٨، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.
(٣) ناجية بن كعب الأسدي الكوفي، تابعي ثقة، روى عن علي وعمار رضي الله عنهما وغيرهما، وروى عنه أبو إسحاق السبيعي وغيره. أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي، توفي بعد المائة.
انظر: "تاريخ الثقات" للعجلي ٢/ ٣٠٨ (١٨٣٠)، و"الجرح والتعديل" ٨/ ٤٨٦، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ٢٣٩، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٢٠٤، و"التقريب" (٧٠٦٥) ص ٥٥٧.
(٤) أخرجه الترمذي (٣٠٦٤)، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنعام، والطبري ٧/ ١٨٢، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨٢، من طرق جيدة عن ناجية، وأخرجه الترمذي وابن أبي حاتم، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٤١٨، والحاكم ٢/ ٣١٥، عن ناجية عن علي رضي الله عنه، قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ا. هـ. ووافقه الذهبي وقال: (لم يخرجا لناجية شيئًا). وصححه الشيخ أحمد شاكر في حاشية "عمدة التفسير" ١/ ٧٧٠، وقال: (حديث علي صحيح؛ لأن الوصل زيادة من ثقتين، فهي مقبولة على اليقين) ا. هـ. وقال الترمذي: =
98
وقال قتادة: (يعلمون أنك رسول، ولكن يجحدون) (١).
وقال ابن جريج: (لا يكذبونك بما تقول، ولكن يجحدون بآيات الله).
وقال عطاء: (لا يكذبونك، ولكن جحدوا ربوبيتي وقدرتي وسلطاني) (٢).
ومعنى الجحد: إنكار المعرفة. وهو ضد الإقرار (٣). كانوا (٤) قبل عرفوا ذلك ولم يقروا، وهذا مذهب هؤلاء المفسرين وعليه أكثر (٥) أهل المعاني.
وذكر الزجاج وجهين يوافقان هذا التفسير الذي ذكرناه: (أحدهما ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ بقلوبهم، أي: يعلمون أنك صادق، وإنما جحدوا براهين الله جل وعز، قال: وجائز أن يكون ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ أي: أنت عندهم صدوق؛ لأنه - ﷺ - كان يسمى فيهم الأمين قبل الرسالة، ولكنهم جحدوا بألسنتهم ما تشهد قلوبهم بكذبهم فيه) (٦).
= (الموقف على ناجية أصح) ا. هـ. وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي" ص ٣٥٤ - رقم ٥٩٠ - ٥٩١، وفي "المشكاة" ٣/ ١٦٢٢ - رقم (٥٨٣٤)، وقال: (الموقوف أصح). وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٨.
(١) سبق تخريجه.
(٢) لم أقف على من ذكره عن ابن جريج وعطاء.
(٣) انظر: "العين" ٣/ ٧٢، و"الجمهرة" ٢/ ٤٣٥، و"تهذيب اللغة" ١/ ٥٤١، و"الصحاح" ٢/ ٤٥١، و"مقاييس اللغة" ١/ ٤٢٥، و"المفردات" ص ١٨٧، و"اللسان" ١/ ٥٤٧ (جحد).
(٤) في (ش): (كأنه قيل).
(٥) جاء في (أ): تكرار لفظ: (أكثر).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٢.
99
وقال أبو علي الفارسي: (﴿لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾؛ لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة، ولذلك سمي الأمين، ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ بألسنتهم ما يعلمونه يقينًا؛ لعنادهم وما يؤثرونه من ترك الانقياد للحق، وقد قال جل وعز في صفة قوم: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾) [النمل: ١٤] (١).
ونحو هذا قال ابن الأنباري (٢)، وهذا الذي ذكرنا مذهب الجمهور في هذه الآية (٣).
وقال الضحاك: (﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ (لا يقدرون على أن تكون رسولاً (٤)، ولا على أن لا يكون القرآن قرآنا، وإنما يكذبونك بألسنتهم) (٥)، فعلى هذا معن ﴿لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ لا يستطيعون أن يجعلوك كذابًا، [وحرر أبو بكر هذا القول فقال: معناه فإنهم لا يصححون عليك كذابًا] (٦)، إذا كان الذي يظهر منك يدل الناس على صدقك، وإن كذبوا
(١) "الحجة" ٣/ ٣٠٣.
(٢) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١١٤، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٢٩، وابن منظور في "اللسان" ٧/ ٣٨٤١ (كذب).
(٣) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١/ ١٥٧، و"تفسير الطبري" ٧/ ١٨١، و"معاني النحاس" ٢/ ٤١٧ - ٤١٩، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٤٤، و"معاني القراءات" للأزهري ١/ ٣٥٢.
(٤) في (ش): (يكون) بالياء.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨٢، بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٨، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ والطبراني، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٨٧، وقال: (رواه الطبراني عن ابن عباس، وفيه بشر بن عمارة وهو ضعيف) ا. هـ
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
100
كمن لم يكذب، ألا ترى أنك تقول لمن يقول ولا يجيد القول: لم يقل هذا اليوم شيئًا، لما لم يُجد كأن قوله كلا قول) (١).
وقال غيره ما يؤكد هذا المعنى، فقال: معناه: (﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ بحجة، أي: فلا يعتد بتكذيبهم، فإنه لا حقيقة له) (٢).
واختلف القراء (٣) في قوله: ﴿يُكَذِّبُونَكَ﴾ فقرؤوا مشددًا ومخففًا. قال الفراء: (معنى التخفيف -والله أعلم-: لا يجعلونك كذابًا، ولكن يقولون: إن ما جئت به باطل؛ لأنهم لم يجربوا عليه كذبًا فيكذبوه، وإنما أكذبوه، أي: قالوا: إن ما جئت به كذب. قال: والتكذيب أن يقال: كذبت) (٤).
وقال الزجاج: (معنى كذبته: قلت له: كذبت، ومعنى أكذبته: أريت (٥) أن ما أتى به كذب. قال: ومعنى التخفيف: لا يقدرون أن يقولوا لك كذبت) (٦).
(١) لم أقف عليه، وقريب منه ما نقله الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١١٤، وابن منظور في "اللسان" ٧/ ٣٨٤١، عن ابن الأنباري في معنى الآية أنه قال: (ويمكن أن يكون ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ بمعنى لا يجدونك كذابًا عند البحث والتدبر والتفتيش). ا. هـ.
(٢) ذكر هذا القول الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٠٧، عن أبي صالح وقتادة والسدي، وانظر: "زاد المسير" ٣/ ٢٩.
(٣) قرأ نافع والكسائي (لا يكذبوك) بسكون الكاف وتخفيف الذال من أَكْذبَ، وقرأ الباقون بفتح الكاف وتشديد الذال من كذَب. انظر: "السبعة" ص ٢٥٧، و"المبسوط" ص ١٦٨، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٧، و"التيسير" ص ١٠٢، و"النشر" ٢/ ٢٥٧.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٣١.
(٥) كذا في النسخ، وعند الزجاج ٢/ ٢٤٢: (ادعيت).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٢، بتصرف يسير. ولم يشر الزجاج إلى أن ذلك معنى التخفيف.
101
وكان الكسائي يقرأ بالتخفيف ويحتج: (بأن العرب تقول: كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعة الأباطيل من القول (١)، وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب ليس هو الصانع له)، حكاه ابن الأنباري عنه (٢).
ونحو هذا حكى عنه أحمد بن يحيى، وقال: (كان الكسائي يحكي عن العرب: أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بكذب لم يضعه هو، كأنه حكى كذبًا، وكذبته إذا أخبرت أنه كذاب) (٣).
وقال أبو علي: (لا يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً؛ لأن معنى التثقيل النسبة إلى الكذب، بأن تقول له: كذبت، كما تقول: زنيته وفسقته وخطأته، أي: قلت له: فعلت هذه الأشياء، وسقيته ورعيته قلت له: سقاك الله ورعاك الله، وقد جاء في المعنى أفعلته قالوا: أسقيته قلت له: سقاك الله (٤). قال ذو الرمة:
وأُسْقيهِ حَتَّى كَادَ ممَّا أَبُثُّهُ تُكَلّمُنِي أَحْجَارُهُ ومَلاعبُهْ (٥)
أي: أنسبه إلى السقيا بأن أقول: سقاك الله. فيجوز على هذا أن يكون معنى القراءتين واحداً وإن اختلف اللفظان، إلا أن فَعَّلْتَ إذا أرادوا أن
(١) لفظ: (من القول) ساقط من (ش).
(٢) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١١٥.
(٣) "مجالس ثعلب" ٢٧١، و"معاني النحاس" ٢/ ٤١٩، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٠٤.
(٤) جاء في (ش): تكرار: (ورعاك الله - إلى سقاك الله).
(٥) "ديوانه" ص ٢٨٨، و"الكتاب" ٤/ ٥٩، و"النوادر" لأبي زيد ص ٢١٣، و"أدب الكاتب" ص ٣٥٦، و"الممتع في التصريف" ١/ ١٨٧، و"اللسان" ٤/ ٢٠٤٢ (سقى)، وقال الخطيب التبريزي في "شرحه" ٢٨٩: (أبثه، أي أخبره بكل ما في نفسي، وأسقيه، أي: أدعو له بالسقيا، وملاعبه: مواضع يلعب فيها) ا. هـ.
102
ينسبوا إلى أمر أكثر من أَفْعَلْتَ (١). قال: ويجوز أن يكون معنى ﴿لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾: لا يصادفونك كاذبًا؛ لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة، كما تقول: أحمدت الرجل إذا أصبته محمودًا، وأجبنته وأبخلته وأفحمته إذا صادفته على هذه الأحوال) (٢)
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ قد مضى تفسيره (٣)، ودخلت الباء في الآيات، والجحد تعدى بغير الجار؛ لأنه أريد بالجحد التكذيب، وبهذا يطابق المعنى الأول، كأنه قيل: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ ولكن يكذبون بآيات الله.
وقال أبو علي: (﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أي: برد آيات الله أو إنكار (٤) آيات الله، ﴿يَجْحَدُونَ﴾، أي: يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك، ومن ذلك (٥) قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا﴾ [الإسراء: ٥٩]، أي: ظلموا بردها أو الكفر (٦) بها، فكما أن الجار في قوله: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾ من صلة ظلموا، كذلك يكون من صلة الظلم في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾، و ﴿يَجْحَدُونَ﴾ محذوف
(١) انظر: "الكتاب" لسيبويه ٤/ ٥٨.
(٢) "الحجة" ٣/ ٣٠٢ - ٣٠٥، ولم يذكر قوله: "وأجبنته وأبخلته وأفحمته... " وانظر: "الحجة" لابن خالويه ص ١٣٨، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٥، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٤٧، و"الكشف" ١/ ٤٣٠، و"المشكل" ١/ ٢٥١، و"الدر المصون" ٤/ ٦٠٣.
(٣) هي آية لم ترد قبل، ولعله يريد ص ١٧٤ من هذا البحث.
(٤) في (ش): (وإنكار).
(٥) في (أ): (ذلك قوله).
(٦) في (أ): (بردها والكفر بها).
103
المفعول للدلالة عليه) (١).
٣٤ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ الآية. قال الزجاج: (عزى الله نبيه - ﷺ - وصبره (٢) بأن أخبره أن الرسل قبله قد كذبتهم أمم من قبله) (٣)، قال ابن عباس: (من لدن نوح إليك ﴿فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا﴾ رجاء ثوابي، ﴿وَأُوذُوا﴾ حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار) (٤).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ معنى النصر: المعونة على العدو (٥)، قال المفسرون: (معنى النصر هاهنا: تعذيب الأمم المكذبة وإهلاكهم) (٦).
(١) "الحجة" لأبي علي ١/ ٣٣٩، وقال السمين في "الدر" ٤/ ٦٠٤ - ٦٠٥: (يجوز في هذا الجار وجهان: أحدهما: أنه متعلق بيجحدون، وهو الظاهر الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، وجوز أبو البقاء أن يتعلق بالظالمين قال: كقوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا﴾، وهذا الذي قاله ليس بجيد؛ لأن الباء هناك سببية أي: ظلموا بسببها، والباء هنا معناها التعدية، وهنا شيء يتعلق به تعلقًا واضحًا فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه) ا. هـ. وانظر: "التبيان" ١/ ٣٢٠، و"الفريد" ٢/ ١٤٢.
(٢) في (ش): (فصبر).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٣، وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٨٣، والسمرقندي ٣/ ٢٢٣.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٣٠، وابن الجوزي ٣/ ٣٠، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١١٢.
(٥) انظر: "العين" ٧/ ١٠٨، و"الجمهرة" ٢/ ٧٤٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨٤ و"الصحاح" ٢/ ٨٢٩، و"المجمل" ٣/ ٨٧٠، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤٣٥، و"المفردات" ص ٨٠٨، و"اللسان" ٧/ ٤٤٤٠ (نصر).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٨٣، والسمرقندي ١/ ٤٨٢، والبغوي ٣/ ١٤٠، وابن الجوزي ٣/ ٣٠، وكلهم اقتصر على هذا المعنى.
104
وقوله تعالى: ﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ قال الكلبي (١) وعكرمة: (يعني الآيات التي وعد فيها نصر الأنبياء على أعدائهم، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٧١] الآيات، وقوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١] (٢)، قال ابن عباس: (يريد لا ناقض لحكمي) (٣)، يعني: أنه قد حكم في كتابه بنصر أنبيائه، فليس ينقضه أحد، ولهذا قال الزجاج في قوله تعالى: ﴿[و] (٤) لا مبدل لكلمات الله﴾: (أي: لا يخلف وعده، ولا يغلب أحد أولياءه) (٥). وتفسير ابن عباس يدل على أن قوله: ﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ معناه: لا ناقض لحكمه في كل مما حكم به من وعد ووعيد وثواب وعقاب، فليس يخص هذا الحكم الواحد، وهو نصر المرسلين، وإذا كان كذلك فالتقدير عند النحويين في الكلمات: ذوي الكلمات أي: يخبر بها عنه. يقول: لا مبدل لما أخبرت عنه بكلماتي ليس يريد أنه لا مبدل للكلمات التي هي عبارات؛ هذا معنى قول أبي علي (٦).
(١) ذكره الثعلبي ١٧٧ أ، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٥ نحوه.
(٢) لم أقف عليه. وانظر: "الماوردي" ١/ ١٠٨، وابن الجوزي ٣/ ٣١، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٤٧: (أي: لا مبدل لعذاب الله أو لا مبدل لمقتضى عذاب الله) ا. هـ. والظاهر العموم، وحمل الكلمات على الحقيقة أي لا مبدل لكلام الله تعالى الذي به يأمر وينهى ويشرع، وهو صفة من صفاته العلية التي لا تتناهى كسائر صفاته سبحانه وتعالى.
(٣) ذكر ابن الجوزي ٣/ ٣١، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١١٢، عنه في الآية قال: (لا خلف لمواعيده)، وانظر: ابن عطية ٥/ ١٨٥، والقرطبي ٦/ ٤١٧.
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ش).
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٣، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٤٤.
(٦) "الحجة" ٢/ ٣٤، وفيه قال: (والكلمات تقديرها: ذوي الكلمات، أي: ما عبر =
105
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ أي: خبرهم في القرآن كيف نجيناهم ودمرنا قومهم (١).
قال الأخفش: (﴿مِن﴾ هاهنا صلة كما تقول: أصابنا من مطر) (٢).
وقال غيره (٣): (لا يجوز ذلك؛ لأنها لا تزاد في الواجب (٤)، وإنما تزاد مع النفي، كقولك: ما أتاني من أحدٍ (٥). و ﴿مِّن﴾ هاهنا للتبعيض وفاعل جاء مضمر، أضمر لدلالة المذكور عليه، تقديره: ولقد جاءك من نبأ المرسلين نبأ (٦).
= عنه بها من وعد ووعيد وثواب وعقاب) ا. هـ. وانظر: تفسير ابن عطية ٥/ ١٨٥.
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٨٣، والسمرقندي ١/ ٤٨٢.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٧٤، وفيه: (كما تقول: قد أصابنا من مطر، وقد كان من حديث) ا. هـ. وانظر: المصدر نفسه ١/ ٩٨ - ٩٩، ٢٢٣، واقتصر على هذا القول البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٤٠.
(٣) انظر: "الكتاب" ٢/ ٣١٥ - ٣١٦، ٤/ ٢٢٥، و"المقتضب" ٤/ ١٣٦ - ١٣٨، و"الأصول" ١/ ٤٠٩ - ٤١١، و"حروف المعاني" للزجاجي ص ٥٠.
(٤) الواجب ما تقع له حالة الوجوب، والموجب الكلام المثبت غير المنفي، وهو المراد هنا. انظر: "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" للدكتور محمد اللبدي ص ٢٣٨، ٢٣٩.
(٥) انظر: "معاني الحروف" للرماني ص ٩٧، و"الصاحبي" ص ٢٧١، و"المغني" ١/ ٣٢٢ - ٣٢٥، وقال المالقي في "رصف المباني" ص ٣٩١: (وقد تكون من زائدة عند الكوفيين في الواجب، وحكوا: قد كان من مطر وهو عند البصريين غير الأخفش مؤول، أي: حادث من مطر أو كائن من مطر، وبعد فهو قليل لا يقاس) ا. هـ. وحكى ابن فارس في "الصاحبي" زيادتها في الواجب عن أبي عبيدة أيضًا.
(٦) انظر: "غرائب الكرماني" ١/ ٣٥٧، و"البيان" ١/ ٣٢٠، و"التبيان" ص ٣٣٠، و"الفريد" ٢/ ١٤٣، و"البحر" ٤/ ١١٣، و"الدر المصون" ٤/ ٦٠٦، وعندهم التقدير: (ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين).
106
٣٥ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾، قال المفسرون: (كان رسول الله - ﷺ - يحرص على إيمان قومه ومتابعتهم إياه أشد الحرص، وكان إذا سألوه آية أراد أن يريهم الله ذلك؛ طمعاً في إيمانهم، فقال الله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾) (١)، قال ابن عباس: (أي: عن الإيمان بك وبالقرآن) (٢).
وقال الزجاج: (عظم عليك أن أعرضوا إذ طلبوا منك أن ينزل عليك (٣) ملك فلم ينزل) (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ﴾، النفق (٥): سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر (٦).
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨٤ بسند جيد عن ابن عباس. وانظر: "البغوي" ٣/ ١٤٠.
(٢) لم أقف عليه، وهذا معنى ظاهر، ولم يختلف فيه.
انظر: الطبري ٧/ ١٨٣، والسمرقندي ١/ ٤٨٢، والبغوي ٣/ ١٤٠، والقرطبي ٦/ ٤١٧.
(٣) لفظ: (عليك) ساقط من (ش).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٣، وفيه تصرف واختصار.
(٥) انظر: "العين" ٥/ ١٧٧، و"الجمهرة" ٢/ ٩٦٧، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٣٥، و"الصحاح" ٤/ ٥٦٠، و"المجمل" ٣/ ٨٧٧، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤٥٤، و"المفردات" ص ٨١٩، و"اللسان" ٨/ ٤٥٠٨ (نفق).
(٦) هذا قول أهل اللغة والتفسير، وقد أخرجه الطبري ٧/ ١٨٤، من طرق جيدة عن ابن عباس وقتادة والسدي.
وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩٠، و"غريب القرآن" ص ١٣٦، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٥٣، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٤، و"الزاهر" ١/ ١٣٢، و"معاني النحاس" ٢/ ٤١٩.
107
وقوله تعالى: ﴿أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾، وجواب ﴿أَن﴾ مضمر تقديره ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ﴾ ذلك فافعل (١).
قال الفراء: (وإنما تفعله العرب في كل موضع يُعرف فيه معنى الجواب، ألا ترى أنك تقول للرجل: إن استطعت أن تتصدق. إن رأيت أن تقوم معنا. تترك الجواب لمعرفتك بمعرفته [به] (٢)، فإذا جاء ما لا يُعرف جوابه إلا بظهوره أظهرته، كقولك للرجل: إن تقم تُصِبْ خيرًا لابد في هذا من جواب؛ لأن معناه لا يعرف إذا طرح) (٣).
وقال الزجاج: (أعلم الله عز وجل أنه بشر لا يقدر على الإتيان بآية إلا بإذن الله تعالى) (٤)، وفي تعجيزه عن الإتيان بما سألوه أمر له بالصبر إلى أن يدخل وقت الآيات ووقت العقاب.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ أخبر الله تعالى نبيه - ﷺ - أنهم إنما تركوا الإيمان وأعرضوا عنه بمشيئة الله ونافذ قضائه فيهم، وأنه لو شاء [الله] (٥) لاجتمعوا على الإيمان، كما قال الله تعالى (٦): ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾ (٧) [يونس: ٩٩].
(١) انظر: الطبري ٧/ ١٨٤، والسمرقندي ١/ ٤٨٢، والبغوي ٣/ ١٤١، وابن عطية ٥/ ١٨٨، و"التبيان" ١/ ٣٣١، و"الفريد" ٢/ ١٤٣، و"الدر المصون" ٤/ ٦٠٧.
(٢) لفظ: (به) ساقط من (ش) وكذا في بعض نسخ "معاني الفراء" ١/ ٢٣١ كما في حاشيته.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٣١ - ٣٣٢.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٤، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٢٠.
(٥) لفظ (الجلاله) ساقط من (أ).
(٦) في (أ) كما قال تعالى.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٨٥، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٢٠، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٤٨٢.
108
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾، قال أهل التفسير: (أي: فإنه يؤمن بك بعضهم دون بعض، وأنهم لا يجتمعون على الهدى) (١).
وقال أهل المعاني: (معناه: لا يشتد تحسرك على تكذيبهم ولا تجزع من إعراضهم عنك، فتقارب حال الجاهل، وغلظ الخطاب تبعيدًا وزجرًا له عن هذه الحال) (٢).
٣٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ قال مجاهد وقتادة: (يعني: المؤمنين الذين يسمعون الذكر فينتفعون به) (٣). قال قتادة: (المؤمن حي القلب سمع كتاب الله فعقله ووعاه وانتفع به، والكافر لا يصغي إلى الحق؛ لأن الله تعالى ختم على سمعه) (٤). وقال الزجاج: يعني: الذين يسمعون سماع قابلين) (٥). وقال بعض أهل اللغة: (الاستجابة: الجواب بما يوافق الداعي، والإجابة قد تكون بالمخالفة، ولا يقال: استجاب إلا لمن قبل ما دُعي إليه) (٦)، ويؤكد هذا أن ابن عباس -رحمه الله- فسر
(١) انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ١٨٩، وابن الجوزي ٣/ ٣٣.
(٢) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ١٠٩، وابن الجوزي ٣/ ٣٣.
(٣) تفسير مجاهد ١/ ٢١٤، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٨٦، وابن أبي هاشم ٤/ ١٢٨٥، من طرق جيدة عن مجاهد.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ١٨٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨٥ بسند جيد، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٩.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٥، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٢٠ - ٤٢١.
(٦) ذكره الرازي ١٢/ ٢٠٩، وأبو حيان ٤/ ١١٧، عن علي بن عيسى الرماني، وهو قول الهمداني في "الفريد" ٢/ ١٤٤، وقال العسكري في "الفروق" ص ١٨٤: (أجاب معناه فعل الإجابة، واستجاب طلب أن يفعل الإجابة، لأن أصل الاستفعال لطلب الفعل، وصلح استجاب بمعنى أجاب؛ لأن المعنى فيها يؤول إلى شيء واحد، وذلك أن استجاب طلب الإجابة بقصده إليها، وأجاب أوقع =
الاستجابة هاهنا بالإيمان (١).
وقوله تعالى: ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ قال الحسن (٢) ومجاهد وقتادة (٣). (يعني الكفار)، وهو قول مقاتل قال: (يعني: كفار مكة يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ﴾ للحق المؤمنون، وأما (٤) ﴿الْمَوْتَى﴾ وهم الكفار فإن الله يبعثهم في الآخرة ثم إليه يردون فيجزيهم بأعمالهم) (٥).
٣٧ - قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: رؤساء قريش، ﴿لَوْلَا﴾: هلا، ﴿نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ يعني: نزول الملك يشهد لمحمد بالنبوة وصحة ما أتى به (٦)، ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ قال المفسرون (٧): (لا يعلمون ما عليهم في الآية من النبلاء لو أنزلناها ولا ما وجه ترك إنزالها). وقال بعض أصحاب المعاني: إلا يعلمون أن الله قادر على إنزالها لا يقدر سواه عليها) (٨).
= الإجابة بفعلها) ا. هـ. وقال الراغب في "المفردات" ص ٢١٠، والسمين في "العمدة" ص ١٠٥: (الاستجابة قيل: هي الإجابة، وحقيقتها هي التحري للجواب والتهيؤ له، لكن عُبر به عن الإجابة لقلة انفكاكها منها) ا. هـ. وفي "اللسان" ٢/ ٧١٦ (جوب): (هما بمعنى واحد) ا. هـ.
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٦.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ١٨٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨٥، بسند جيد، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٩.
(٣) سبق تخريج قول مجاهد وقتادة.
(٤) في (ش): (فأما).
(٥) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٥٩.
(٦) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٤٨٣، والبغوي ٣/ ١٤١، وابن الجوزي ٣/ ٣٤.
(٧) انظر: الطبري ٧/ ١٨٧، والماوردي ٢/ ١١٠، والمراجع السابقة.
(٨) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٥، والمراجع السابقة.
٣٨ - قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ﴾ الآية، قال ابن عباس: (يريد: كل ما دب وجميع البهائم فهو دابة) (١).
قال الزجاج: وجميع ما خلق الله جل وعز لا يخلو من هاتين المنزلتين: إما أن يدب، وإما أن يطير) (٢). وقال غيره من أهل المعاني: (خص ما في الأرض هاهنا بالذكر دون ما في السماء، احتجاجًا بالأظهر، وإحالة بالدليل على ما هو ظاهر؛ لأن ما في السماء -وإن كان مخلوقًا له مثلنا- فغير ظاهر) (٣).
وقوله تعالى: ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ قال الفراء والزجاج: (ذكر الجناح هاهنا تأكيد (٤)، كقولك: نعجة أنثى، وكلمته بفي، ومشيت برجلي) (٥). وقال الزجاج: (وقد تقول للرجل: طرفي حاجتي، وأنت تريد أسرع) (٦)، وأراد بهذا أن الطيران قد يستعمل لا بالجناح كقول العنبري (٧):
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٣٢، وابن الجوزي ٣/ ٣٤.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٤٥.
(٣) ذكره الرازي ١٢/ ٢١٢.
(٤) في (ش): (توكيد)، وهذا هو قول قطرب كما في "الزاهر" ١/ ٥٨ - ٥٩، ونقل عن أبي العباس أنه قال: (ليس يطير بجناحيه توكيدًا، ولكنه دخل؛ لأن الطيران يكون بالجناحين ويكون بالرجلين، فطيران الطائر من البهائم بجناحيه، ومن الناس برجليه ألا ترى أنك تقول: زيد طائر في حاجته، معناه: مسرع برجليه) ا. هـ.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٣٢، وهو قول عامة أهل التفسير ومنهم الطبري ٧/ ١٧٩، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٤٢٢، والسمرقندي ٣/ ٢٢٧، والبغوي ٣/ ١٤١، وابن عطية ٥/ ١٩٣.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٤٥.
(٧) العنبري: قُريَط بن أنيف العنبرى التميمي شاعر جاهلي. انظر: "الأعلام" ٥/ ١٩٥.
111
طاروا إليه زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا (١)
فذكر الجناح ليتمحض (٢) في الطير.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ قال الفراء: (يقال: إن كل صنف من البهائم أمة) (٣).
وجاء في الحديث: "لولا (٤) أن الكلاب أمة تنبح لأمرت بقتلها" (٥)، فجعل الكلاب أمة.
واختلفوا في أن البهائم والطير في ماذا شبهت بنا وجُعلت أمثالنا، فقال ابن عباس في رواية عطاء يريد: (يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني، مثل ما قال تعالى في سبحان: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾
(١) "الحماسة" لأبي تمام ١/ ٤، وفي "عيون الأخبار" ١/ ١٨٨ الرجل من بلعنبر، وبلا نسبة في "مجال ثعلب" ص ٤٠٥، و"الصناعتين" ص ٢٨٥، والرازي ١٢/ ٢١٢، و"الدر المصون" ٤/ ١١٢، و"روح المعاني" ٧/ ١٤٣، وصدره:
قَوْمٌ إذا الشرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ
وهو من قصيدة تُعد من عيون الشعر، اختارها أبو تمام أول مقطوعة في "الحماسة"، والزرافات، بالفتح: الجماعات، والوحدان، بالضم، جمع واحد. وفي الحماسة فقط: قاموا، بدل طاروا.
(٢) قوله: ليتمحض غير واضح في النسخ، واللفظ نفسه عند الرازي ١٢/ ٢١٣، والقرطبي ٦/ ٤١٩.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٣٢.
(٤) في (أ): (ولولا).
(٥) أخرجه أحمد في "المسند" ٥/ ٥٤، ٥٦، وأبو داود (٢٨٤٥) كتاب: الضحايا، باب: في اتخاذ الكلب للصيد وغيره، والترمذي (١٤٨٦) كتاب: الصيد، باب: ما جاء في قتل الكلاب، والنسائي ٧/ ١٨٥، كتاب: الصيد، باب: صفة الكلاب التي أمر بقتلها، وابن ماجة (٣٢٠٥)، كتاب: الصيد، باب: النهي عن =
112
[الإسراء: ٤٤]، وكقوله تعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾) (١) [النور: ٤١]، فعلى هذا جُعلت أمثالنا في التوحيد والمعرفة والتسبيح.
وقال مجاهد ﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾: (أصناف مصنفة تُعرف بأسمائها) (٢)، يريد: أن كل جنس من الحيوان [أمة] (٣) تعرف باسمها كالطير والظباء والذئاب والأسود، وكل صنف من السباع والبهائم مثل بني آدم يعرفون بالإنس والناس.
وقال أبو هريرة في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾: (يحشر الله تعالى الخلق يوم القيامة: البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذٍ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابًا) (٤)، وعلى هذا
= اقتناء الكلب إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية، والدارمي ٢/ ١٢٧٧ (٢٠٥١) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، ولكن اقتلوا كل أسود بهيم" ا. هـ. أي: خالص السواد. قال الترمذي: (حديث حسن صحيح).
(١) ذكره عن الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٢/ ٢١٣، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٢٠، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٧، نحوه، وذكر الرازي بعده أن هذا قول طائفة عظيمة من المفسرين.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ١٨٧١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨٥ بسند جيد، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٠.
(٣) لفظ: (أمة). ساقط من (أ).
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ١/ ٢٠٦، والطبري ٧/ ١٨٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨٦، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣١٦، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٣٣، وقال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وأخرج أحمد ٢/ ٢٣٥ - ٣٦٣، من طرق جيدة عن أبي هريرة أن النبي - ﷺ - قال: "يقتص الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء وحتى الذرة من الذرة" ا. هـ وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ١٠/ ٣٥٢، وقال: (رواه أحمد، ورجاله رجال =
113
إنما جُعلت أمثالنا في الحشر والاقتصاص؛ واختار الزجاج هذا، قال: (يعني: أمثالكم في أنهم يبعثون. لأنه قال عز وجل: ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ٣٦]، ثم أعلم أنه ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ في الخلق والموت والبعث) (١).
واختار الأزهري قول ابن عباس فقال: (معنى قوله: ﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ في معنى دون معنى -يريد والله أعلم- أنه تعبدهم بما شاء أن يتعبدهم [به] (٢) من تسبيح وعبادة علمها منهم، ولم يفقهنا ذلك) (٣).
وقال ابن الأنباري في هذه الآية: (يسأل السائل عن هذا فيقول: ما في هذا من الاحتجاج على المشركين؟ فيُقال له: الاحتجاج أن الله عز وجل قد ركب في الناس عقولاً، وجعل لهم أفهامًا، ألزمهم بها، تدبر أمر الأنبياء، والتمسك بطاعته، وأنه تعالى قد أنعم على الطير والدواب بأن جعل لها (٤) فهمًا يعرف بعضها به إشارة بعض، فهدى الذكر منها لإتيان الأنثى، فصح التشبيه (٥)؛ لأن الأمم من غير الناس يفهم (٦) بعضها عن بعض، كما يفهم
= الصحيح)، وله شواهد انظر: "المسند" ١/ ٧٢، ومجمع "الزوائد" ١٠/ ٣٥٢ - ٣٥٣، والقرناء: ذات القرون، والجماء: التي لا قرون لها.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٤٥.
(٢) لفظ: (به) ساقط من (ش).
(٣) "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٥، وهذا قول أبي عبيدة أيضاً في "مجاز القرآن" ١/ ١٩١، وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٢١: (وأكثر أهل التفسير يذهب إلى أن المعنى: أنهم يخلقون كما يخلقون ويبعثون كما يبعثون) ا. هـ. ورجحه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٨٨، والسمرقندي ١/ ٤٨٣، وابن عطية ٥/ ١٩٢، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٤٢٠، و"التذكرة" ص ٣٢٩.
(٤) في (أ): (جعل لهم).
(٥) في (ش): (أن الأمم).
(٦) في (أ): (تفهم).
114
الناس بعضهم عن بعض، ويلزمهم بما يتبينونه من فهمها وهدايتها أن يستدلوا على نفاذ قدرة خالقها المركب ذلك الفهم فيها، وعلى هذا جُعلت أمثالنا في فهم البعض عن البعض) (١).
وقال بعض أهل التأويل:
(إنما مثلت الأمم من غير الناس بالناس في الحاجة وشدة الفاقة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم وكِنهم ولباسهم ونومهم ويقظتهم وهدايتهم إلى مراشدهم، إلى ما لا يحصى (٢) كثرة من أحوالهم ومصالحهم، وقد تقدم في الآية الأولى أن الله قادر على أن ينزل [كل] (٣) آية، فجاء في هذه الآية ببيان أنه القادر على تدبير كل أمة وسد كل خلة) (٤). وإلى قريب من هذا ذهب ابن قتيبة فقال: (يريد أنها مثلنا في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك) (٥).
فهذه أقوال المفسرين وأهل التأويل في هذه الآية. وبعد هذا كله فقد أخبرونا عن أبي سليمان البستي الفقيه -رحمه الله- أنبأ (٦) ابن الزئبقي (٧) نبأ
(١) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١١٨ - ١١٩، عن ابن الأنباري.
(٢) في (ش): (فيما لا يحصى).
(٣) لفظ: (كل) ساقط من (ش).
(٤) انظر: "تفسير الرازي" ١٢/ ٢١١ - ٢١٣، و"البحر المحيط" ٤/ ١٢٠.
(٥) "تأويل مشكل القرآن" ص ٤٤٥.
(٦) في (ش): (أخبرنا).
(٧) ابن الزئبقي: محمد بن أحمد بن عمرو الزئبقي البصري، روى عن يحيى بن أبي طالب، وحدث عنه غير واحد من البصريين، قاله ابن ماكولا في "الإكمال" ٤/ ٢٢٨: لم أجد له ترجمته عند غيره. والزئبقي، بكسر الزاي وسكون الياء وفتح الباء وبعدها قاف: نسبة إلى الزئبق وبيعه، انظر: اللباب ٢/ ٨٥.
115
موسى بن زكريا (١) التستري نبأ أبو حاتم (٢) نبأ العُتبي (٣) قال: (كنا عند سفيان بن عيينة فتلا هذه الآية: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ فقال: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم من يهتصر اهتصار (٤) الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس (٥) كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي إذا قدم (٦) لها الطعام الطيب عافته، فإذا قام الرجل عن
(١) موسى بن زكريا التستري أبو عمران متروك، توفي قبل ٣٠٠ هـ.
انظر: "سؤالات الحاكم" للدارقطني ص ١٥٦، و"ميزان الاعتدال" ٥/ ٣٣٠، و"المغني في الضعفاء" ٢/ ٦٨٣، و"لسان الميزان" ٧/ ١٠٥، و"التُّسْتَري" نسبة إلى بلدة تستر من كور الأهواز من خوزستان.
انظر: "اللباب" ١/ ٢١٦.
(٢) أبو حاتم: سهل بن محمد السجستاني، تقدمت ترجمته.
(٣) العتبي: محمد بن عبيد الله بن عمرو الأموي، أبو عبد الرحمن البصري، إمام علامة فصيح راوية للأخبار والأدب وشاعر مشهور، توفي نحو سنة ٢٢٨ هـ. انظر: "المعارف" ص ٥٣٨، و"تاريخ بغداد" ٢/ ٣٢٤، و"فيات الأعيان" ٤/ ٣٩٨، و"سير أعلام النبلاء" ١١/ ٩٦، و"الأعلام" ٦/ ٢٥٨.
والعتبي بالضم وسكون التاء وبعدها باء: نسبة إلى جده عتبة بن أبي سفيان الأموي. انظر: "اللباب" ٢/ ٣٢٠.
(٤) المهتصر: الأسد. والهصر، بالفتح: الجذب والإمالة وعطف شيء رطب وكسره من غير بينونة، واهتصر النخلة: ذلل عذوقها وسواها. انظر: "القاموس" ص ٤٩٨ (هصر).
(٥) تطوست المرأة: تزينت، والمطوس: الشيء الحسن. انظر: "القاموس" ص ٥٥٥ (طوس).
(٦) في (ش): (التي ألقى إليها الطعام)، وفي العزلة للخطابي ص ٧٥: (التي لو ألقي لها الطعام).
116
رجيعه (١) ولغت (٢) فيه، فكذلك (٣) تحد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يتحفظ (٤) واحدة منها وإن أخطأ رجد أو حكى خطأ غيره ترواه وحفظه) (٥).
وقال أبو سليمان: (ما أحسن ما تأول أبو محمد هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة، وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعًا لظاهره وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله تعالى عن وجود المماثلة بيننا وبين كل طائر ودابة، وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة وعدم من جهة النطق والمعرفة، فوجب أن يكون منصرفًا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق (٦)، وإذا كان الأمر كذلك فاعلم يا أخي أنك إنما تعاشر (٧) البهائم والسباع، فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك) (٨).
وقوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ قال ابن عباس: (يريد: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم) (٩).
(١) الرجيع: الروث. انظر: "القاموس" ص ٧٢١ (رجع).
(٢) ولغ السبع في الإناء، أي: شرب ما فيه بأطراف لسانه. انظر: "القاموس" ص ٧٩٠ (ولغ).
(٣) في (ش): (وكذلك).
(٤) في (ش): (يحفظ).
(٥) في (ش): (يرويه ويحفظه).
(٦) في (ش): (بلا خلاف)، وهو تحريف.
(٧) في (ش): (يعاشر) بالياء.
(٨) "العزلة" للخطابي ص ٧٦، وروايته عن سفيان بن عيينة ضعيفة لمكان موسى التستري كما سبق. وذكره عن سفيان الرازي ١٢/ ٢١٤، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٢٠، وقال القرطبي ٦/ ٤٢٠، بعد ذكر قول سفيان: (استحسنه الخطابي، وهو أيضًا حسن، فإنه تشبيه واقع في الوجود) ا. هـ. بتصرف.
(٩) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٣٤، وابن الجوزي ٣/ ٣٥.
117
قال العلماء: (هذا من العام الذي أريد به الخاص؛ لأن المعنى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ بالعباد إليه حاجة إلا وقد بيناه إما نصًّا، وإما دلالة، وإما مجملاً، وإما مفصلاً، فالمجمل كقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧]، والمفصل ما فصل بيانه مما لا يحتاج فيه إلى بيان الرسول، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (١) [النحل: ٨٩]، أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين وما خفي على الناس فلم يعرفوا فيه دلالة من الكتاب فذاك (٢)، لقصور علمهم، وإخراج كل ما يحتاج إليه في أمر الدين من كتاب الله، كما يروى عن ابن مسعود أنه قال: (ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه) يعني: الواشمة والمستوشمة (٣) والواصلة والمستوصلة (٤)، فروى أن امرأة (٥) قرأت جميع القرآن ثم أتته فقالت: (يا ابن أم عبد (٦)، تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم
(١) في (أ)، (ش): (وأنزلنا)، وهو تحريف.
(٢) في (ش): (فذلك).
(٣) في (ش): (والموشومة)، قال ابن الأثير في "النهاية" ٥/ ١٨٩: (الوشم: أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بصبغ فيظهر أثره. والمستوشمة والموتشمة التي يفعل بها ذلك) ا. هـ بتصرف.
(٤) قال ابن الأثير في "النهاية" ٥/ ١٩٢: (الواصلة: التي تصل شعرها بشعر آخر زور، والمستوصلة: التي تأمر من يفعل بها ذلك) ا. هـ
(٥) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ١٠/ ٣٧٣ - عند كلامه على هذا الحديث-: (المرأة هي أم يعقوب من بني أسد بن خزيمة، ولم أقف لها على ترجمة) ا. هـ.
(٦) ابن أم عبد، هو: الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قد ينسب إلى أمه أم عبد بنت عبد بن سواء من هذيل صحابية رضي الله عنها. انظر: "تهذيب التهذيب" ٢/ ٤٣١.
118
أجد فيه لعن [لله] (١) الواشمة). فقال: (لو تلوته (٢) لوجدته، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧]، وأن مما أتانا رسول الله - ﷺ - أن قال: "لعن الله الواشمة والمستوشمة" (٣).
و (٤) كما يروى أن الشافعي - رضي الله عنه - قال ذات يوم وهو جالس في المسجد: (لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه عن كتاب الله، فقال له رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور (٥)، فقال: لا شيء عليه، فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧]، وأخبرنا (٦) فلان... وذكر الإسناد إلى رسول الله - ﷺ -[أنه] (٧) قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (٨)، وأخبرنا
(١) لفظ: (الجلالة) ساقط من (أ).
(٢) في (أ): (لو تلوتيه لوجدتيه)، وقال ابن حجر في "الفتح" ١٠/ ٣٧٣) - عند كلامه على الحديث-: (روى مسلم: ليِّن كنت قرأتيه لقد وجدتيه بإثبات الياء، وهي لغة، والأفصح حذفها في خطاب المؤنث في الماضي) ا. هـ
(٣) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في "صحيحه" (٥٩٣١)، في كتاب: "اللباس"، باب المتفلجات للحسن، ومسلم ٢/ ١١٨٠، ١١٨١ حديث رقم (٢١٢٤ - ٢١٢٥)، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، وانظر: شرحه في "فتح الباري" ١٠/ ٣٧٢ - ٣٨٠، ٨/ ٦٣٠.
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ش).
(٥) الزنبور -بضم الزاي المشددة وسكون النون وضم الباء-: ذباب لساع. انظر: "القاموس" ص ٤٠١ (زنبور).
(٦) في (أ): (وأخبر فلان).
(٧) لفظ: (أنه) ساقط من (ش).
(٨) حديث صحيح، أخرجه أحمد ٤/ ١٢٦ - ١٢٧، والدارمي ١/ ٢٢٩ - ٢٣٠، وأبو داود رقم (٤٦٠٧)، والترمذي رقم (٢٦٧٦)، وابن ماجة رقم (٤٢ - ٤٤)، وابن أبي عاصم في السنة ١/ ٢٩ - ٣٠، والحاكم ١/ ٩٥ - ٩٧ من طرق عن العرباض =
119
فلان... وذكر الإسناد إلى عمر (١) -رضي الله عنه- أنه قال: للمحرم قتل الزنبور) (٢)، فأجابه عن كتاب الله مستنبطًا بثلاث درجات (٣)
= بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وقال الحاكم: (حديث صحيح على شرطهما، ولم أعرف له علة)، وصححه الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة" لابن أبي عاصم.
(١) الأثر عن عمر رضي الله عنه أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ٤/ ٤٤٣، رقم ٨٣٨٠ - ٨٣٨١، وابن أبي شيبة ٣/ ٣٣٤، والبيهقي في سننه ٥/ ٢١١، بسند جيد عن سويد بن عفلة الجعفي، وانظر: "المغني" لابن قدامة ٥/ ١٧٥ - ١٧٧.
(٢) روى هذه القصة البيهقي في سننه ٥/ ٢١٢ عن عبيد الله بن محمد بن هارون الفريابي قال: (سمعت الشافعي بمكة يقول: سلوني ما شئتم أجبكم من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله - ﷺ - قال: فقلت له: أصلحك الله! ما تقول في المحرم بقتل زنبورًا؟ قال: نعم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾. حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"، وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر المحرم بقتل الزنبور) ا. هـ.
وحديث: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" حديث صحيح أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٦/ ٣٥٢ (٣١٩٣٣)، والترمذي في "المناقب" ٥/ ٦٠٩ - ٦١٠، حديث ٣٦٦٢ - ٣٦٦٣، وحسنه، وابن ماجة في "المقدمة" ١/ ٣٧، حديث ٩٧، وابن أبي عاصم في كتاب: السنة ٢/ ٥٤٥ - ٥٤٦، وصححه الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة".
(٣) نقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٢/ ٢١٦، وقال: (وأما الطريق الذي ذكره الشافعي فهو تمسك بالعموم على أربع درجات:
أولها: التمسك بعموم قوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾، وأحد الأمور الداخلة تحت هذا أمر النبي - ﷺ - بمتابعة الخلفاء الراشدين.
وثانيها: التمسك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". =
120
ومن هذا ما روي في حديث العسيف (١) الزاني وأن أباه قال للنبي - ﷺ -: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي فأقول، قال: "قل"، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا... وذكر القصة، فقال النبي - ﷺ -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله" (٢)، ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت، وليس للرجم والتغريب ذكر في نص الكتاب، فجعلهما النبي - ﷺ - من الكتاب لما حكم هو بهما، وهذا يبين لك أن كل ما يحكم به النبي - ﷺ - كان ذلك كما لو حكم به الكتاب نصًّا) (٣).
= وثالثها: أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين.
ورابعها: الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئًا) ا. هـ.
(١) العسيف: الأجير سمي لأن المستأجر يعسفه في العمل. انظر: "النهاية" ٣/ ٢٣٦، و"فتح الباري" ١٢/ ١٣٩.
(٢) حديث العسيف حديث متفق عليه أخرجه البخاري (٦٨٢٧، ٦٨٢٨)، ومسلم حديث (١٦٩٧ - ١٦٩٨)، كلاهما في كتاب الحدود باب الاعتراف بالزنا، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - ﷺ - فقال: يا رسول الله: أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال رسول الله - ﷺ -: "قل". قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - ﷺ -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله - ﷺ -) ا. هـ. لفظ مسلم.
وانظر: شرح الحديث في "فتح الباري" ١٢/ ١٣٧ - ١٤٢.
(٣) ذكر قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٢/ ٢١٧، والقاسمي في "تفسيره" ٦/ ٥١٧ - ٥٢١.
وانظر البحث في هذا الموضوع في "الموافقات" للشاطبي ٢/ ٧٩، ٣/ ٣٣٦.
121
والكتاب على هذا التأويل المراد به القرآن (١).
ومعنى ﴿مَا فَرَّطْنَا﴾: ما ضيعنا وما تركنا وما قصرنا (٢)، وقد ذكرنا هذا عند قوله: ﴿قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ [الأنعام: ٣١].
وقوله تعالى: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ أي: شيئًا و ﴿مِن﴾ زائدة (٣)، كقولك: ما جاءني من أحد، وتقديره: ما تركنا في الكتاب شيئًا لم نبينه؛ لأن معنى التفريط يعود إلى التقصير عن المتقدم فيما يحتاج إلى المتقدم فيه.
وقيل: (المراد بالكتاب هاهنا الكتاب الذي هو عند الله عز وجل المشتمل على ما كان ويكون، وهو اللوح المحفوظ)، وهو قول (٤) ابن عباس في
(١) وهو قول الجمهور ورجحه النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٤٦، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٩٤؛ لأنه هو الذي يقتضيه سياق الآية والمعنى، قال الرازي في "تفسيره" ١٢/ ٢١٥: (هذا أظهر؛ لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن، فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن) ا. هـ.
وانظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ١١٢، و"البحر المحيط" ٤/ ١٢٠، و"تفسير القاسمي" ٦/ ٥١٥ - ٥١٦.
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩١.
(٣) انظر: "التبيان" ١/ ٣٣١، و"الفريد" ٢/ ١٤٥ - ١٤٦، و"البحر" ٤/ ١٢٠ - ١٢١، و"الدر المصون" ٤/ ٦١٢، ونقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٢/ ٢١٨، وقال: (من للتبعض، فكأن المعنى: ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه، وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئاً مما يحتاج المكلف إلى معرفته في هذا الكتاب) ا. هـ.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ١٨٨، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٨٦ بسند جيد عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢ /٢٠٧، بسند جيد عن قتادة، وأخرجه الطبري بسند جيد عن ابن زيد، وهو اختيار مقاتل ١/ ٥٦٠، والطبري والسمرقندي ١/ ٤٨٣، والبغوي ٣/ ١٤٢، والزمخشري ٢/ ١٧، =
122
رواية الوالبي (١)، والآية على هذا التأويل عامة، وتدل على أن كل ما في الدنيا من حادث قد سبق به القضاء، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ كما قال - ﷺ -. "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" (٢).
= وابن كثير ٢/ ١٤٧، وهو الظاهر -والله أعلم- قال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٤٧ - ١٥٠: (هو أظهر القولين وأظهر في الآية، والسياق يدل عليه) ا. هـ.
(١) (تقدم أنه علي بن أبي طلحة: والوالِبي: نسبة إلى والب بن الحارث بن ثعلبة بطن من بني أسد، ينسب إليه جماعة منهم: سعيد بن جبير بن هشام الناس الأسدي الوالبي، أبو محمد الكوفي، تابعي إمام عابد، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، قتله الحجاج سنة ٩٥ هـ. ولم يكمل ٥٠ سنة.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ٢٥٦، و"الجرح والتعديل" ٤/ ٩، و"الحلية" ٤/ ٢٧٢، و"تهذيب الأسماء واللغات" ١/ ٢١٦، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٣٢١، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٩، هذا هو المشهور في الوالبي كما في "اللباب" ٣/ ٣٥٠، ولكن مراد الواحدي كما في "أسباب النزول" ص ٣٩، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الفتاوى" ٨/ ١٥٠، ١٤/ ٢٣٨، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٤٧، أن الوالبي هو علي بن أبي طلحة ولم أجد في ترجمته من نسبه إلى ذلك؛ وهو: علي ابن سالم بن مخارق الهاشمي مولاهم أبو الحسن ابن أبي طلحة الحمصي، أصله من الجزيرة، إمام صدوق مشهور برواية التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يسمع منه، ولكنه أخذه عن الثقات من أصحاب ابن عباس، وقد أشاد العلماء بصحيفته في التفسير واعتمدوها في كتبهم، توفي سنة ١٤٣ هـ.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٤٥٨، و"الجرح والتعديل" ٦/ ١٨٨، و"مشاهير علماء الأمصار" ص١٨٢، و"تاريخ بغداد" ١١/ ٤٢٩، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ١٣٤، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ١٧١، ومقدمة "معجم غريب القرآن" لمحمد فؤاد عبد الباقي.
(٢) أخرج الإمام أحمد ٤/ ٢٨٦ - ٢٨٨، وابن أبي عاصم في "السنة" ١/ ١٣٧ - ١٣٩، حديث طويل عن ابن عباس، وفيه: قال النبي - ﷺ -:
123
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ قال ابن عباس: (يريد. للجزاء إما ثواب وإما عقاب) (١)، وهذا وقول المفسرين (٢) (أن هذه الأمم يحشرون مع الخلق إلى الموقف يوم القيامة للحساب والجزاء).
كما روينا عن أبي هريرة (٣) وقد قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [التكوير: ٥]، ومعنى ﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾ أي: إلى حيث لا يملك النفع والضر إلا الله جل (٤) وعز، إذا لم يُمكن منه كما مكنهم في دار الدنيا.
٣٩ - وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ قال ابن عباس: (يريد: ما جاء به محمد - ﷺ -: ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ قال: يريد ﴿صُمٌّ﴾ عن القرآن لا يسمعونه، ﴿وَبُكْمٌ﴾ عن القرآن لا ينطقون به) (٥) وقد أحكمنا شرح هذا في أول سورة البقرة.
وقوله تعالى: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ إلى آخر الآية، دليل على أن هؤلاء صاروا صمًّا بكمًا بمشيئة الله إضلالهم، وأنه من شاء أضل، ومن شاء هدى (٦).
(١) ذكره القرطبي ٦/ ٤٢١، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٧، نحوه.
(٢) هذا قول الجمهور كما في "البحر" ٤/ ١٢١، ورجحه القرطبي ٦/ ٤٢١، وانظر: الطبري ٧/ ١٧١، والسمرقندي ١/ ٤٨٣، وابن عطية ٥/ ١٩٣.
(٣) سبق تخريجه.
(٤) في (ش): (إلا الله تعالى).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ١٨، وأخرج الطبري ٧/ ١٩٠، وابن أبي حاتم ١/ ٥٣، تحقيق الغماري، بسند جيد عنه قال: (﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه)، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩١، و"زاد المسير" ٣/ ٣٦.
(٦) انظر: الطبري ٧/ ١٩٠، والسمرقندي ١/ ٤٨٣، وابن عطية ٥/ ١٩٥، والقرطبي ٦/ ٤٢٢، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٥٠.
٤٠ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ﴾ الآية، قال الفراء: (للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان، أحدهما: رؤية العين فإذا أردت هذا عدّيت الرؤية بالضمير إلى المخاطب وتصرف سائر الأفعال تقول للرجل: أرأيتك على غير هذه الحال، تريد هل رأيت نفسك، ثم تثنى وتجمع فتقول: أرأيتما كما، وأرأيتموكم (١)، وللنسوة أرأيتنكن (٢) (٣).
والمعنى الآخر: أن تقول: أرأيتك وأنت تريد أخبرني كما تقول: أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل، أي: أخبرني، وتترك (٤) التاء إذا أردت هذا المعنى موحدة على كل حال تقول: أرأيتك، أرأيتكما (٥)، أرأيتكن (٦)؛ وإنما تركت العرب التاء واحدة؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعًا من المخاطب على نفسه، فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في الكاف، وتركوا التاء على المذكر والتوحيد إذ لم يكن الفعل واقعًا.
قال: والرؤية من الأفعال الناقصة التي يُعدّيها المخاطب إلى نفسه بالمكنى مثل: ظننتني وحسبتني ورأيتني، ولا يقولون ذلك في الأفعال التامة، لا يقولون للرجل: قتلتك بمعنى قتلت نفسك، ولا أحسنت إليك
(١) في (ش): (وأريتموكم)، وهو تحريف.
(٢) في (أ): (أريتنكن)، وهو تحريف.
(٣) زاد الفراء في "معانيه" ١/ ٣٣٣: (وللمرأة -أرأيتك- فهذه مهموزة تخفض التاء والكاف، لا يجوز إلا ذلك) ا. هـ
(٤) في (ش): (ويترك).
(٥) في (أ): (أريتكما)، وهو تحريف.
(٦) زاد الفراء في هذا الوجه: (وتهمزها وتنصب التاء منها، وتترك الهمز إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء موحدة مفتوحة للواحد والواحدة والجميع في مؤنثه ومذكره) ا. هـ.
125
كما يقولون: متى تظنك خارجًا ومتى تراك. وذلك أنهم أرادوا الفصل بين الفعل الذي قد يُلغى وبين الفعل الذي لا يجوز إلغاؤه، ألا ترى أنك تقول: أنا أظن خارج فتلغي أظن، وقال الله تعالى: ﴿أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: ٧]، ولم يقل: رأى نفسه، وجاء في ضرورة الشعر إجراء الأفعال التامة مجرى النواقص، قال جران العود (١):
"قد جف القلم بما هو كائن "، الحديث. وصححه أحمد شاكر، والألباني في تخريجهما لذلك.
لَقَدْ كَانَ لي في ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُني وما كنت ألقى من رزينة أبرحُ (٢)
والعرب تقول: عدمتني ووجدتني وفقدتني، وليس بوجه الكلام) (٣) وهذا كله صحيح، ولم يخالف إلا في الكاف التي في أرأيتك بمعنى أخبرني، فإنه قال: [(موضع الكاف نصب وتأويله رفع؛ لأن الفعل محول عن التاء إليها، وهي بمنزلة الكاف في دونك إذا أُغري بها، كما تقول: دونك زيدًا، فتجد الكاف] (٤) في اللفظ خفضًا وفي المعنى رفعًا؛ لأنها
(١) جِران العَوْد، هو: عامر بن الحارث بن كلدة النُّمَيري، شاعر إسلامي وصاف. وجران العود لقب غلب على اسمه، وهو بالكسر وفتح الراء: جلد عُنُق الدابة، سمي به؛ لأنه اتخذ منه سوطًا، وأورده في شعره.
انظر: "كنى وألقاب الشعراء" لابن حبيب ص ٣٥، و"الشعر والشعراء" ص ٤٨٠، و"المبهج" لابن جنى ص ١٦٩، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٩١ (جرن)، و"اللباب" لابن الأثير ١/ ٢٦٩، و"تاج العروس" ١٨/ ١٠٦ (جرن)، و"الأعلام" ٣/ ٢٥٠.
(٢) "ديوانه" ص ٣٩، ٤٠، و"الدر المصون" ٤/ ٦٢٢، وهذه هي رواية الفراء في "معانيه" ١/ ٣٣٤، وفي المراجع:
لقد كان لي عن ضرتين عدمنني وعَمَّا أُلاقي منهما مُتَزَحْزِحُ
والشاهد: عدمتني: حيث جمع بين ضمير الفاعل والمفعول.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٣٣ - ٣٣٤، بتصرف واختصار، ونصر الواحدي عند السمين في "الدر" ٤/ ٦٢١ - ٦٢٢ عن الفراء.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
126
مأمورة، فكذلك هذه الكاف موضعها نصب وتأويلها رفع) (١)، قال الزجاج: (وهذا القول لم يقله النحويون القدماء وهو خطأ؛ لأن قولك: رأيتك زيدًا ما شأنه لو تعدت الرؤية إلى الكاف وإلى زيد لصار المعنى: أرأيت (٢) نفسك زيدًا ما شأنه وهذا محال. قال: والذي يذهب إليه النحويون الموثوق بعلمهم أن الكاف لا موضع لها، وإنما المعنى: أرأيت زيدًا ما حاله، وإنما الكاف زيادة وهي المعتمد عليها في معنى الخطاب) (٣).
قال أبو علي: (قولهم: أرأيتك زيدًا ما فعل، بفتح التاء في جميع الأحوال، فالقول في ذلك أن الكاف في أرأيتك لا يخلو من أن يكون (٤) للخطاب مجردًا ومعنى الاسم مخلوع منه (٥)، أو يكون دالًّا على الاسم مع دلالته على الخطاب، فالدليل على أنه للخطاب مجردًا من علامة الاسم أنه لو كان اسمًا وجب أن يكون الاسم الذي بعده في نحو قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ [الإسراء: ٦٢]، وقولهم: أرأيتك زيدًا ما صنع لو كان الكاف اسمًا ولم يكن حرفًا للخطاب لوجب أن يكون الاسم الذي بعده الكاف في المعنى، ألا ترى أن أرأيت يتعدى (٦) إلى مفعولين يكون الأول منهما هو الثاني في المعنى، وفي كون المفعول الذي بعده ليس الكاف، وإنما هو غيره دلالة على أنه ليس باسم، وإذا لم يكن اسمًا كان
(١) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٣٣.
(٢) أي يصير لها فاعلان هما التاء والكاف.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٤٦.
(٤) في (أ): (لا تخلو من أن تكون).
(٥) في (ش): (منها)، وهي في بعض نسخ الحجة لأبي علي ٣/ ٣٠٨.
(٦) في (ش): (تعدى).
127
حرفاً للخطاب مجردًا من معنى الاسمية، كما أن الكاف في ذلك وفي هنالك وأبصرك زيدًا للخطاب، [وكما أن التاء في أنت كذلك، فإذا ثبت أنه للخطاب] (١)، معرى من الأسماء، ثبت أن التاء لا يجوز أن يكون بمعنى الخطاب، ألا ترى أنه لا ينبغي أن يلحق الكلمة علامتان للخطاب، كما لا يلحقها علامتان للتأنيث ولا علامتان للاستفهام، فلما لم يجز ذلك أفردت التاء في جميع الأحوال لما كان الفعل لا بد له من فاعل، وجعل في جميع الأحوال على لفظ واحد؛ لأن ما يلحق الكاف في معنى الخطاب يبين الفاعلين، فيخصص التأنيث من التذكير والتثنية من الجمع، ولو لحق علامة التأنيث والجمع التاء لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يلحق التاء وما كان يلحق الكاف، فلما كان ذلك يؤدي إلى ما لا نظير له رفض وأجري على ما عليه سائر كلامهم في هذا النحو) (٢).
واحتج ابن الأنباري لمذهب الفراء بأن قال: (لو كانت الكاف توكيدًا لوقعت التثنية والجمع بالتاء كما يقعان بها عند عدم الكاف، فلما فتحت التاء في خطاب الجمع، ووقع ميسم الجمع لغيرها، كان ذلك دليلًا على أن الكاف غير توكيد، ألا ترى أن الكاف لو سقطت لم يصلح أن يقال لجماعة: أرأيت، فوضح بهذا انصراف الفعل إلى الكاف، وأنها واجبة لازمة مفتقر إليها) (٣).
والصحيح مذهب البصريين، وهذا الذي قاله يبطل بكاف ذلك وأولئك؛ لأن ميسم الجمع يقع عليها، وهي حرف للخطاب مجرد من
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٢) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٠٨ - ٣١٠، وانظر: "الحلبيات" لأبي علي ص ٤٢ - ٩٦.
(٣) ذكره السمين في "الدر" ٤/ ٦٢١، وانظر: "تفسير الرازي" ١٢/ ٢٢٢.
128
معنى الاسمية (١).
واختلف القراء في هذا الحرف وما كان من بابه ودخل عليه ألف إلاستفهام، مثل ﴿أَرَءَيْتُمْ﴾ [الأنعام: ٤٦] و ﴿أَرَءَيْتَكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٠] و ﴿أَرَءَيْتَ﴾ [الكهف: ٦٣] و ﴿أَفَرَءَيْتُم﴾ (٢) [الشعراء: ٧٥] فحذف الكسائي همزة الرؤية، فقرأ: (أريتكم) (٣) كأنه حذفها للتخفيف، كما قالوا: ويلمه (٤)، وكما أنشده أحمد بن يحيى:
إن لم أُقَاتلْ فالْبِسُوني بُرْقُعا (٥)
(١) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٧٤، و"تفسير الطبري" ٧/ ١٩٠، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٤٧، و"معاني القراءات" للأزهري ١/ ٣٥٣، و"المشكل" لمكي ١/ ٣٥١، و"البيان" ١/ ٣٢١، و"التبيان" ١/ ٣٣٢، و"الفريد" ٢/ ١٤٦، و"المغني" لابن هشام ١/ ١٨١.
(٢) قرأ نافع: (أرأيتكم) وما أشبهه مما قبل الراء همزة وبعدها همز، بهمز الأولى وتسهيل الثانية بين الهمز والألف لتكون كالمدة في اللفظ حيث وقع، وقرأ الكسائي بهمز الأولى وإسقاط الثانية، وقرأ الباقون بهمزها جميعًا).
انظر: "السبعة" ص ٢٥٧، و"المبسوط" ص ١٦٨، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٨، و"التيسير" ص ١٠٢، و"النشر" ١/ ٣٩٧.
(٣) في (أ): (أرأيتكم).
(٤) وَيْلِمِّه: بفتح فسكون وكسر اللام أو ضمها وكسر الميم المشددة وبعدها هاء لفظ مركب يقال للمستجاد ويلمه أي ويل لأمه، أدغمت لام ويل في اللام الجارة ثم حذفت لكثرة الاستعمال فصار: وي لأمه، ثم حذفت الهمزة فصار ويلمه.
انظر: "الحلبيات" ص ٤٣، و"اللسان" ٨/ ٤٩٣٩ (ويل).
(٥) لم أعرف قائله وهو في: "الحجة" لأبي علي ٣/ ٢١١، ٦/ ٣٤٠، و"كتاب الشعر" لأبي علي ١/ ٣٠٣، و"المحتسب" ١/ ١٢٠، و"الخصائص" ٣/ ١٥١، والرازي ١٢/ ١٨٤، والقرطبي ٥/ ١٠١، و"البحر" ٣/ ٢٠٦، و"الدر المصون" ٣/ ٦٣٣، وهو رجز آخره: =
129
[أراد] (١) فألبسوني بقطع الهمزة ثم حذفها.
وكقول أبي (٢) الأسود (٣):
يَا بَا المُغِيرَةِ رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ (٤)
ومما يقوي هذا المذهب قول الشاعر:
وَمَنْ رَأ مثلَ مَعْدَان بْنِ لَيْلَى إذا ما النسْعُ طالَ على المَطِيَّة (٥)
= فتَخاتٍ في اليَدَينِ أَرْبَعا.
والشاهد: فالبسوني، حيث حذف الهمزة، والأصل: فألبسوني. والفتخات، بفتح فسكون أو بفتحتين: حاتم يكون باليد والرجل.
(١) لفظ: (أراد) ساقط من (ش).
(٢) في (ش): (ابن)، وهو تحريف.
(٣) أبو الأسود: ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي أبو الأسود البصري مشهور بكنيته وفي اسمه ونسبه خلاف، وهو إمام تابعي عابد فاضل نحوي مقرئ فقيه، ثقة، شاعر فارس شجاع، واضع علم النحو، وأول من نقط المصحف، توفي سنة ٦٩هـ. وله ٨٥ سنة.
انظر: "طبقات الزبيدي" ص ٢١، و"إنباه الرواة" ١/ ٤٨، و"معجم الأدباء" ٣/ ٤٣٦، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٨١، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٤٩، و"الأعلام" ٣/ ٢٣٦.
(٤) ديوانه ص ١٣٤، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٢١١، ٣٠٧، ٦/ ٣٤٠، و"الشعر" لأبي علي ١/ ١٤٢، ٣٠٣ و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٩٩، و"المقرب" ص ٥٥٩، و"الممتع" ٢/ ٦٢٠، و"رصف المباني" ص ١٣٤، و"البحر" ٥/ ٥٢، و"الدر المصون" ٤/ ٦١٧، وعجزه:
فَرَّجْتهُ بالمَكْرِ مِنّى والدَّهَا
والشاهد يا با، حيث حذف الهمزة من أيا.
(٥) لم أعرف قائله، وهو في: "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٠٧، ٦/ ٤٢٤، و"الحلبيات" ص ٤٧، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٧٩١، و"اللسان" ٣/ ١٥٣٧، (رأى)، و"الدر المصون" ٤/ ٦١٨، والنسع بالكسر: سير مضفر تشد به الرحال، انظر "اللسان" ٧/ ٤٤١٠ (نسع)، و"الشاهد" (من رأ) حيث حذف، والأصل رأى.
130
فهذا على أنه قلب الهمزة [ألفا] (١) كما قلبها في قوله:
لاَ هَناك المَرْتَعُ (٢)
واجتمعت مع المنقلبة عن اللام فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين.
وقرأ نافع بتليين همزة الرؤية فجعلها بين الهمزة والألف على التخفيف القياسي والباقون قرؤوا بتحقيق الهمزة؛ لأن الهمزة عين الفعل، ومذهب الكسائي حسن، وبه قرأ (٣) عيسى بن........
(١) لفظ: (ألفا) ساقط من (ش).
(٢) "الشاهد" للفرزدق في "ديوانه" ١/ ٤٠٨، و"الكتاب" ٣/ ٥٥٤، و"المقتضب" ١/ ٣٠٣، و"الكامل" ٣/ ٨٢، و"الأصول" ٣/ ٤٦٩، و" أمالي ابن الشجري" ١/ ١٢٠، ٢/ ٤٦٤، وبلا نسبة في: أضداد ابن الأنباري ص ٢٠٩، و"الحجة" لأبي علي ١/ ٣٩٨، و"العضديات" ص ١٧٤، و"الشعر" ١/ ١٤٥، و"الخصائص" ٣/ ١٥٢، و"المحتسب" ٢/ ١٧٣، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٦٦، و"المقرب" ص ٥٣٨، وأوله:
وَمَضَتْ لمسْلَمَة الرِّكابُ مُوَدِّعًا فَارْعَيْ فَزَازَةُ لا هَناك المَرْتَعُ
وهو من قصيدة قالها حين عُزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق وتولاها عمر بن هبيرة الفزاري، فدعا ألا يهنأ قومه بولايته. والشاهد: لا هناك، والأصل: هناك، حيث أبدل الهمزة ألفًا ضرورة.
(٣) لم أستطع تحديده، وهناك: أ- عيسى بن عمر الأسدي الهمداني أبو عمر الكوفي، إمام فاضل ثقة، مقرئ أهل الكوفة في زمانه، أخذ عن عاصم، وأخذ عنه الكسائي، توفي سنة ١٥٦ هـ. انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٢٨٢، و"معرفة القراء" ١/ ١١٩، و"سير أعلام النبلاء" ٧/ ١٩٩، و"غاية النهاية" ١/ ٦١٢، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٣٦٣.
ب- عيسى بن عمر الثقفي، أبو عمر البصري. إمام صدوق نحوي، مقرئ من أئمة اللغة، ومن أول من هذب النحو ورتبة، أخذ عنه الخليل وسيبويه وأبو عمر بن العلاء، توفي بعد سنة ٣/ ٣٦٤. =
131
عمر (١)، وهو كثير في الشعر، قد (٢) تكلمت العرب في مثله بحذف الهمزة قال عمر (٣):
أَرَيْتُكَ إذْ هُنّا عَليْكَ أَلَمْ نَخَفْ رَقِيبا وَحَوْلي مِنْ عَدُوِّك حُضَّرُ (٤)
وأنشد أبو علي (٥):
أَرَيْتَ إنْ جئْتُ به أُمْلوُدًا مُرَجَّلًا وَيلْبَسُ البُرُوداَ (٦)
فأما (٧) معنى الآية فقال ابن عباس: (﴿قُلْ﴾ يا محمد {إِنْ أَتَاكُمْ
= انظر: "إنباه الرواة" ٢/ ٣٧٤، و"معجم الأدباء" ١٦/ ١٤٦، و"وفيات الأعيان" ٣/ ٤٨٦، و"سير أعلام النبلاء" ٧/ ٢٠٠، و"غاية النهاية" ١/ ٦١٣، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٣٦٤.
(١) ذكرها عنه: أبو علي في "الحجة" ٣/ ٣٠٧، والنحاس في "إعرابه" ١/ ٥٤٧، والرازي ١٢/ ٢٢٣، والقرطبي ٦/ ٤٢٣.
(٢) في (ش): (وقد).
(٣) ديوان عمر بن أبي ربيعة ص ١٢٥، و"الدر المصون" ٤/ ١٦٦. وأريتك: أي أخبرني. وحضر: أي حاضرون. والشاهد: (أريتك) حيث خفف، والأصل: أرأيتك.
(٤) في الديوان (وقيت) بدل (رقيبا).
(٥) "الحجة" ٣/ ٣٠٨، و"الحلبيات" ص ٤٦، و"العسكريات" ص ١٠٧.
(٦) الشاهد لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٧٣، ولرجل من هذيل في "شرح أشعار الهذليين" للسكري ٢/ ٦٥١. وذكر السيوطي في "شرح شواهد المغني" ٢/ ٧٥٩، أنه لامرأة مجهولة، وهو بلا نسبة في: "المحتسب" ١/ ١٩٣، و"الخصائص" ١/ ١٣٦، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٤٤٧، و"اللسان" ٣/ ١٥٣٨ (رأى) و"الدر المصون" ٤/ ٦١٦. والأملود بالضم: الناعم اللين. والمرجل بالضم: المُزيَّن. ورجل شعره، أي: سرحه، والبرود بالضم: ثوب فيه خطوط من برود العصب والوشي. انظر: "اللسان" ١/ ٢٥٠ (برد).
والشاهد: تخفيف أريت، والأصل أرأيت.
(٧) انظر: في توجيه القراءات "إعراب القراءات" ١/ ١٥٦، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٣٩، ولابن زنجلة ص ٢٥٠، و"الكشف" ١/ ٤٣١.
132
عَذَابُ اللَّهِ} يريد: الموت ﴿أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ﴾ (١) يريد: القيامة ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾ يريد: إلى من تتضرعون (٢) إلى هذه الأصنام، يريد: أنكم عند العذاب وعند الموت والشدائد تخلصون وتوحدون وأنتم اليوم لا تصدقوني) (٣)، انتهى كلامه.
وقال أبو إسحاق: (﴿السَّاعَةُ﴾ اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد، واسم للوقت الذي يبعث فيه العباد، فالمعنى: ﴿أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ﴾ التي وُعِدتم فيها البعث والفناء؛ لأن قبل البعث موت الخلق كله ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾ أي: أتدعون هذه الأصنام والأحجار التي عبدتموها (٤) من دون الله عز وجل، فاحتج الله عليهم بما لا يدفعونه (٥)؛ لأنهم كانوا إذا مسهم الضّر دعوا الله) (٦).
وقال غيره (٧): (الآية حجة على من عبد غير الله بأنه إن أتاه عذاب من قبل الله جل وعز لم يلجأ في كشفه إلا إليه دون كل أحد سواه؛ لأنه لا يملك كشف عظيم البلاء إلا هو).
(١) في (أ): (أتيكم)، وهو تحريف.
(٢) في (ش): (يتضرعون).
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٣٦، والبغوي ٣/ ١٤٣، وانظر: "زاد المسير" ٣/ ٣٧.
(٤) في (أ): (التي عبد من دون الله)، وهو تحريف.
(٥) في (ش): (بما لا يدفعون).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٦.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٩١، والسمرقندي ١/ ٤٨٣، وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٢٢ - ٤٢٣: (في هذه الآية أعظم الاحتجاج؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، فإذا وقعوا في شدة دعوا الله) ا. هـ.
133
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾... (١) [قوله ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾؛ لأنه بمعنى أخبروا كأنه قيل لهم: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾] (٢) أخبروا من تدعون عند نزول النبلاء بكم.
٤١ - قوله تعالى: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾. (بل) هاهنا نفي دعائهم غير الله في الشدائد وإثبات دعائهم إياه (٣).
وقوله. تعالى: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾، أي: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ قال ابن عباس: (يريد: تتركونهم فلا تدعونهم؛ لأنه ليس عندهم ضر ولا نفع) (٥) قال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون المعنى: أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم) (٦)، وهذا
(١) السياق يظهر أن فيه سقطًا، وفي "الوسيط" ١/ ٣٦، ما يبين ذلك حيث قال: (وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ جواب قوله: ﴿أَرَأَيْتَكُمْ﴾ لأنه بمعنى أخبروا..).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٩١، والسمرقندي ١/ ٤٨٤، وقال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٤٧: (بل استدراك وإيجاب بعد نفي، أعلمهم الله جل وعز أنهم لا يدعون في حال الشدائد إلا إياه، وفي ذلك أعظم الحجة عليهم؛ لأنهم قد عبدوا الأصنام) ا. هـ. ملخصًا.
(٤) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٤٧، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٤٢٣، وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٢٨٤، والبغوي ٣/ ١٤٣.
(٥) ذكره الرازي ف ي "تفسيره" ١٢/ ٢٢٣، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٨ - ١٩ نحوه،
وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٤٨٤، والبغوي ٣/ ١٤٣.
(٦) قال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٤٧: (﴿وَتَنْسَوْنَ﴾ هاهنا على ضربين: جائز أن يكون تنسون تتركون، وجائز أن يكون المعنى: إنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من يسهون) ا. هـ ونحوه ذكر النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٤٨.
قول الحسن؛ لأنه قال: (تعرضون (١) عنه إعراض الناسي، أي: لليأس في النجاة من مثله) (٢).
وقال أبو علي: (التقدير: ﴿وَتَنْسَوْنَ﴾ دعاء ﴿مَا تُشْرِكُونَ﴾] (٣)، فحذف المضاف أي: تتركون دعاءه (٤) والفزع إليه، إنما تفزعون إلى الله سبحانه، قال: ويجوز أن يكون من النسيان خلاف الذكر كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧]، أي: تذهلون فلا تذكرونه) (٥)، انتهى كلامه، والعائد إلى الموصول محذوف على تقدير: ما تشركون به، وحذف به للعلم (٦).
٤٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ قال ابن عباس: (فكفروا ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾) (٧)، قال أهل المعاني: (في الآية محذوف تقديره: رسلًا فخالفوهم فأخذناهم، وحسن الحذف للإيجاز به من غير إخلال للدليل المفهوم من الكلام) (٨).
وقوله تعالى: ﴿بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: الفقر (٩)
(١) في (ش): (يعرضون).
(٢) ذكره الرازي ١٢/ ٢٢٣، والقرطبي ٦/ ٤٢٣.
(٣) لفظ: (تشركون) ساقط من (ش).
(٤) في (ش): (تركون الفزع إليه).
(٥) "الحجة" لأبي علي ٢/ ١٩١، وانظر: "الدر المصون" ٤/ ٦٣٢.
(٦) انظر: "الدر المصون" ٤/ ٦٣٢.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) هذا قول عامة أهل التفسير. انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٩٢، والسمرقندي ٣/ ٢٣٠، وابن عطية ٥/ ١٩٨، وابن الجوزي ٣/ ٣٨، والرازي ١٢/ ٢٢٤، والقرطبي ٦/ ٤٢٤.
(٩) في (ش): (الفقرا)، وهو تحريف.
135
والأسقام) (١).
وقال الحسن: (البأساء: شدة الفقر من البؤس، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾: الأمراض والأوجاع) (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ قال الزجاج: (لعل ترج، وهذا الترجي للعباد، والمعنى: فأخذناهم بذلك ليكون ما يرجوه العباد منهم من التضرع، كما قال في قصة فرعون: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤] قال سيبويه: "المعنى: (٣) اذهبا أنتما على رجائكما، والله عز وجل عالم بما يكون
(١) أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٨٨ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (البأساء: الفقر، والضراء: السقم)، قال ابن أبي حاتم: (وروي عن ابن عباس وأبي العالية والحسن ومرة الهمذاني وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك) ا. هـ وذكر ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٣٨، عن ابن عباس أنه قال: (البأساء: الزمانة والخوف، والضراء: البلاء والجوع) ا. هـ. وذكر السيوطي في "الدر" ١/ ٣١٥ عن ابن عباس أنه قال: (البأساء: الخصب، والضراء: الجدب).
وذكر أيضاً في "الدر" ١/ ٤٣٧ عنه أنه قال: (البأساء: الفتن، والضراء: السقم). وقال ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ١٩٨: (البأساء: المصائب في الأموال؛ والضراء: في الأبدان، هذا قول الأكثر وقيل: قد يوضع كل واحد بدل الآخر) ا. هـ. وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩١، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٣٦، و "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٦٣، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٨، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٢٣.
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ٢٢٤، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٨٨ عن الحسن قال: (البأساء: النبلاء، والضراء: هذه الأمراض والجوع ونحو ذلك) " وقال ابن أبي حاتم: وروي عن الحسن أنه قال: (البأساء: الفقر، والضراء: السقم).
(٣) في (أ): (والمعنى).
136
وراء ذلك" (١)، ومعنى التضرع: التخشع وهو حال ظاهرة (٢) تنبئ عن الانقياد للطاعة، وأصله من الضراعة وهي الذلة، يُقال: ضرع الرجل يضرع ضراعة، وهو ضارع، ورجل ضرع: ذليل ضعيف (٣).
قال أبو إسحاق: (أعلم الله نبيه أنه قد أرسل قبله إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا) (٤)، وهذا يكون كالتسلية لنبيه - ﷺ -، فإن قيل: أليس قوله: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ [الأنعام: ٤١] يدل على أنهم تضرعوا وهاهنا يقول: ﴿قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنعام: ٤٣] ولم يتضرعوا؟ قلنا: حال أولئك [كانت] (٥) بخلاف حال هؤلاء في التضرع، وأولئك الذين تضرعوا عند نزول الشديدة غير هؤلاء الذين وصفوا بالقسوة وترك التضرع. أو نقول: (٦) المراد [بالتضرع] (٧) في قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ تضرعًا بالإنابة
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٤٨، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٢٤، وتفسير ابن عطية ٥/ ١٩٩، ولم أقف عليه في الكتاب، وفيه ٢/ ١٤٨، ٣/ ٢٣٣: (لعل طمع وإشفاق)، وانظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص٣٠، و"معاني الحروف" للرماني ص ١٢٣، و"المغني" لابن هشام ١/ ٢٨٦.
(٢) في (أ): (ظاهر).
(٣) قال أهل اللغة: (ضَرَعَ الرجل يضرَع ضَرَعًا وضَرَاعَة إذا استكان وذل، فهو ضارع بين الضَّراعة، وتَضَرَّع إلى الله، أي: ابتهل، والضَّرَعُ بالتحريك: الضعيف).
انظر: "العين" ١/ ٢٦٩، و"الجمهرة" ٢/ ٧٤٧، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢١١٥، و"الصحاح" ٣/ ١٢٤٩، و "مقاييس اللغة" ٣/ ٣٩٥، و"المفردات" ٥٠٦، و"اللسان" ٥/ ٢٥٨٠ (ضرع).
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٨.
(٥) لفظ: (كانت) ساقط من (أ).
(٦) في (أ): (أو يقول).
(٧) لفظ: (بالتضرع) ساقط من (أ).
137
[وإخلاص الطاعة، لا (١)] تضرعًا بالدعاء في كشف البلية دون إخلاص الإيمان (٢).
٤٣ - وقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ الآية. لولا (٣). إذا دخلت على الاسم كان تعليلًا كقولك: لولا زيد لأتيتك. جعلت العلة المانعة من الإتيان مكان زيد، وإذا دخلت على الفعل كان تخصيصًا بمنزلة هلا، كقوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ [المنافقون: ١٠]، والتقدير في الآية: لولا تضرعوا ﴿إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا﴾؛ وهذا معنى قول الفراء (٤). قال ابن عباس (٥) والحسن (٦) في هذه الآية: (لولا بمنزلة هلا).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ قال صاحب "النظم": (قوله ﴿وَلَكِنْ﴾ معطوف على تأويل الكلام الأول دون اللفظ، وذلك أن في قوله: هلا تضرعوا طرفًا من الجحد، وذلك أنهم لو كانوا قد تضرعوا، ما قيل: هلا تضرعوا، فكأنه قال: فلما جاءهم بأسنا لم يتضرعوا ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٢) انظر: "تفسير الرازي" ١٢/ ٢٢٤، و"الفريد" للهمداني ٢/ ١٤٨، و"تفسير القرطبي" ٦/ ٤٢٥.
(٣) انظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص ٣ - ٥، و"معاني الحروف" للرماني ص ١٢٣، و"المغني" لابن هشام ١/ ٢٧٢.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٣٣٤، وفيه قال: (معنى {فَلَوْلَا﴾ فهلا..).
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٩، وأخرجه ابن حسنون ص ٣٦، والوزان ص ١/ ب في "لغات القرآن" بسند جيد عنه.
(٦) لم أقف عليه عن الحسن، وهو معنى ظاهر وموجود في عامة كتب التفسير. انظر: الطبري ٧/ ١٩٢، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٢٤، والسمرقندي ١/ ٤٨٤، وابن عطية ٥/ ١٩٩.
قُلُوبُهُمْ} فأقاموا على كفرهم، ومعنى ﴿تَضَرَّعُوا﴾ تخشعوا وتذللوا وخضعوا) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ معنى تزيين الشيطان: إغراؤه بالمعصية بما فيها من المتعة واللذة (٢). قال ابن عباس: (يريد زين لهم الشيطان الضلالة التي هم عليها فأصروا على معاصي الله) (٣).
٤٤ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ قال ابن عباس: (تركوا ما وعظوا به) (٤)، وتأويله: تركوا العمل به. وقال مقاتل: (تركوا ما دعاهم إليه الرسل) (٥).
وقال أصحاب اللغة: (وإنما كان النسيان بمعنى الترك؛ لأن التارك للشيء إعراضًا قد صيره بمنزلة ما قد نُسي) (٦).
(١) لم أقف عليه، وكتاب "نظم القرآن" للجرجاني مفقود، وعلى هذا تكون لكن استدراكًا على المعنى، ويكون التخصيص في معنى النفي، وهو ظاهر كلام الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٩، والعكبري في "التبيان" ١/ ٣٣٣، والهمداني في "الفريد" ٢/ ١٤٩، وانظر: "الدر المصون" ٤/ ٦٣٣.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٩٣، وابن عطية ٥/ ١٩٩.
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ١/ ٣٧.
(٤) ذكره المؤلف في "الوسيط" ١/ ٣٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٩، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٩٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٠ بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (يعني: تركوا ما ذكروا به).
وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٢.
(٥) "تفسيرمقاتل" ١/ ٥٦١.
(٦) انظر: "العين" ٧/ ٣٠٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٦٥، و"الصحاح" ٦/ ٢٥٠٨، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤٢١، و"المفردات" ص ٨٠٣، و"اللسان" ٧/ ٤٤١٦ (نسى).
139
وقوله تعالى: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قال ابن عباس: (بركات من السماء والأرض، يريد النعمة والسرور) (١).
وقال مقاتل: (﴿أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الخير بعد التفسير الذي كانوا فيه) (٢).
(٣) وقال الزجاج: (﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ كان مغلقًا عنهم من الخير، ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾ أي: حتى إذا ظنوا أنه ما كان نزل بهم لم يكن انتقامًا من الله، وأنهم لما فتح عليهم ظنوا أن ذلك باستحقاقهم ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ أي: فاجأهم عذابنا من حيث لا يشعرون) (٤). قال الحسن: في هذه الآية (مكر بالقوم، ورب الكعبة) (٥).
(١) قال الواحدي في "الوسيط" ١/ ٣٧: (قال ابن عباس ومقاتل والسدي: رخاء الدنيا وبسرها وسرورها) ا. هـ. وجاء في "تنوير المقباس" ٢/ ١٩ ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الزهرة والخصب والنعيم) ا. هـ وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٩٣ بأسانيد جيدة عن مجاهد قال: (رخاء الدنيا ويسرها على القرون الأولى)، وعن قتادة قال: (يعني الرخاء وسعة الرزق)، وعن السدي قال: (يقول من الرزق)، واللفظ عام يشمل الجميع.
(٢) "تفسيرمقاتل" ١/ ٥٦١.
(٣) هنا حصل اضطراب في ترتيب نسخة (ش) حيث وقع ص ١٠٠ ب في ص ١١٩ ب.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٨، وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٢٤: (التقدير عند أهل اللغة: فتحنا عليهم أبواب كل شيء مغلقًا عنهم. ا. هـ. وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٣٥.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩١ بسند ضعيف، وذكره أكثرهم.
انظر: "الوسيط" ١/ ٣٨، وابن الجوزي ٣/ ٣٩، والرازي ١٢/ ٢٢٦، وابن كثير ٢/ ١٤٩، والبيضاوي ١/ ٣٠١، و"الفتح السماوي" للمناوي ٢/ ٦٠٥، وفيه (أن البيضاوي جعله من قول النبي - ﷺ - وقال السيوطي: لم أقف عليه مرفوعًا، وإنما هو من قول الحسن). ا. هـ.
140
وقال - ﷺ -: "إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله" ثم تلا هذه الآية (١).
قال أهل المعاني: (إنما أخذوا في حال الرخاء ليكون أشد لتحسرهم علي ما فاتهم من حال السلامة والعافية والتصرف في ضروب اللذة إلى حال البلية والنقمة) (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ قال ابن عباس: (آيسون من كل خير) (٣)، وهو قول مقاتل (٤).
وقال الفراء: (المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي يسكت عند إنقطاع حجته أو لا يكون عنده جواب: [قد] (٥) أبلس (٦).
(١) أخرجه أحمد في "المسند" ٤/ ١٤٥، و"الزهد" ص ١٨، وابن أبي الدنيا في "كتاب الشكر" ص ٨٠، رقم (٣٢)، والطبري ٧/ ١٩٥، والدولابي في "الكنى" ١/ ٢١٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩١، والطبراني في "الكبير" ١٧/ ٣٣١، رقم (٩١٣)، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٣٨، من طرق جيدة يقوي بعضها بعضا، وصححه أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٣٠، وحسنه محقق مرويات أحمد في "التفسير" ٢/ ١٠٣، وقال الألباني في "الصحيحة" ١/ ٥/ ١٣، رقم (٤١٤): (هو عندي صحيح بالمتابعة) ا. هـ. وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ١٤٩، و"مجمع الزوائد" ٧/ ٢٠، ١٠/ ٢٤٥، و"الدر المنثور" ٣/ ٢٢.
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٢/ ٢٢٦.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٩، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٣٩، وابن الجوزي ٣/ ٣٩، وابن كثير ٢/ ١٤٩، وروى أبو عبيد ص ٩٥، وابن حسنون ص ٣٦، والوزان ص ٦ أ، كلهم في اللغات في القرآن، بسند جيد عنه قال: (آيسون بلغة كنانة)، وفي "البحر" ٤/ ١٣١، عنه قال: (متحيرون).
(٤) "تفسيرمقاتل" ١/ ٥٦١.
(٥) لفظ: (قد) ساقط من (ش).
(٦) في (ش): (أبليس)، وهو تحريف.
141
قال العجاج:
يا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُه وأَبْلَسَا (١)
أي لم يُحر إليَّ جوابًا) (٢).
وقال الزجاج: (المبلس: الشديد الحسرة اليائس الحزين) (٣). فالإبلاس في اللغة (٤) يكون بمعنى: اليأس من النجاة عند ورود الهلكة، ويكون بمعنى: انقطاع الحجة، ويكون بمعنى: الحيرة بما يرد على النفس من البلية، وهذه المعاني متقاربة (٥).
وقال ابن الأنباري: (في قوله ﴿أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ عم وجمع تأكيدًا وتشديدًا. كما يقول القائل: أكلنا عند فلان كل شيء وكنا عنده في كل سرور. يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه والإطناب فيه ومثله قوله تعالى:
(١) "ديوانه" ١/ ١٨٥، و"مجاز القرآن" ١/ ١٩٢، و"الكامل" للمبرد ٢/ ١٩١، والطبري ٧/ ١٩٥، ١١/ ٣٦٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٨٥، و"الصحاح" ٣/ ٩٠٩، والماوردي ٢/ ١١٤، وابن الجوزي ٣/ ٤٠، والقرطبي ٦/ ٤٢٧، و"اللسان" ١/ ٣٤٣ (بلس) وص ٧/ ٣٨٥٤ (كرس)، والمكرس، بكسر فسكون: المتلبد من آثار الأبوال والأبعار حتى صار طرائق بعضه على بعض. وأبلس: سكت.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٣٠، والرجز فيه غير منسوب.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٩.
(٤) انظر: "العين" ٧/ ٢٦٢، و"الجمهرة" ١/ ٣٤٠، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٨٥، و"الصحاح" ٣/ ٩٠٩، و"مقاييس اللغة" ١/ ٣٠٠، و"مجمل اللغة" ١/ ١٣٥، و"المفردات" ص ١٤٣، و"اللسان" ١/ ٣٤٣ (بلس).
(٥) هذا معنى كلام الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٩٥، والسجستاني في "نزهة القلوب" ص ٤٢٢، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩٢، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٣٦، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٦٤، وذكر مثل كلام الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٢/ ٢٢٦.
142
﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣] (١).
٤٥ - قوله تعالى: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ الدابر: التابع (٢) [للشيء من خلفه كالولد للوالد.
قال الليث: (الدبر التابع (٣)] يقال: دبر فلان القوم يدبرهم دبرًا ودبورًا إذا كان آخرهم) (٤).
قال أمية بن أبي (٥) الصلت:
فَاستؤصلُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلا انْتَصرُوا (٦)
وقال أبو عبيدة: (﴿دَابِرُ الْقَوْمِ﴾: آخرهم الذي يدبرهم (٧)، وأنشد:
آلُ المُهَلَّبِ جَذَّ اللهُ دابِرَهُمْ أَضْحَوْا رَمَادًا فلا أصْلٌ ولا طَرَفُ) (٨)
وقال الأصمعي وغيره: (الدابر: الأصل، يقال: قطع الله دابره، أي:
(١) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٩.
(٢) انظر: "جمهرة اللغة" ١/ ٢٩٦، و"الصحاح" ٢/ ٦٥٣، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٣٢٤، و"مجمل اللغة" ٢/ ٣٤٥، و"المفردات" ص ٣٠٧، و"عمدة الحفاظ" ص ١٧٣ (دبر).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) النص في "العين" ٨/ ٣٢، والرازي ١٢/ ٢٢٦، و"الدر المصون" ٤/ ٦٣٥، بلا نسبة، ولعل الواحدي تأثر برأي الأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٤٢ حيث زعم أن العين لليث وليس للخليل.
(٥) لفظ: (أبي) ساقط من (ش).
(٦) "ديوانه" ص ٣٨٩، والطبري ٧/ ١٩٦، والرازي ١٢/ ٢٢٦، والقرطبي ٦/ ٤٢٧، و"البحر" ٤/ ١٤١، و"الدر المصون" ٤/ ٦٣٥، وحص أي: لم يبق شيئًا، والحص بالفتح: حلق الشعر، انظر: "اللسان" ٢/ ٨٩٩ (حص).
(٧) "مجاز القرآن" ١/ ١٩٢.
(٨) "الشاهد" لجرير في ديوانه ص ٣٠٨، و"مجاز القرآن" ٢/ ٤٠، و"الكامل" للمبرد ٣/ ١٣٥، والجذ، بالفتح: القطع المستأصل. انظر: "اللسان" ١/ ٥٩١ (جذ).
143
أذهب الله أصله، وأنشده (١):
فِدًى لكُمَا رجْلَيَّ رحلي وناقتي غَداةَ الكُلاَّبِ إذ تُحَزُّ الدَّوابِرُ
أي: يقتل القوم فتذهب (٢) أصولهم ولا يبقى لهم أثر) (٣).
وقال ابن بزرج (٤): (دابر الأمر: آخره. ودابر الرجل: عقبه، وقولهم: قطع الله دابرهم: دعاء عليه (٥) بانقطاع العقب حتى لا يبقى أحد يخلفه). (٦)
فأما التفسير: فقال الكلبي: (﴿دَابِرُ الْقَوْمِ﴾ غابرهم الذي يتخلف في آخر القوم) (٧)، ونحو ذلك قال قطرب (٨) (٩).
وقال السدي وابن زيد: (﴿دَابِرُ الْقَوْمِ﴾: أصل القوم) (١٠)، والمعنى:
(١) الشاهد لوعلة بن الحارث الجرمي شاعر جاهلي. في "اللسان" ٣/ ١٣١٨، و"التاج" ٦/ ٣٨٨ (دبر)، وهو للحارث بن وعلة الجرمي في "المفضليات" ص ١٦٥، وبلا نسبة في "الزاهر" ١/ ٤٦٥، و"تهذيب اللغة" ١٤/ ١١١ (دبر)، وفي هذه المراجع: أمي وخالتي، بدل: رحلي وناقتي، وفي "الزاهر": رجلاي، بدل: رجلي، والكلاب بالضم هو يوم كلاب الثاني بين تميم واليمن حيث أكثرت تميم من قتلهم وحز عراقيبهم، وتحز أي: تقطع، والدوابر الأصول، أي: يقتل القوم فتذهب أصولهم ولا يبقى لهم أثر. انظر: حاشية المفضليات.
(٢) في (ش): (فيذهب).
(٣) النص عن الأصمعي في المراجع السابقة سوى المفضليات.
(٤) عبد الرحمن بن بزرج اللغوي، تقدمت ترجمته.
(٥) في (ش): (عليهم).
(٦) "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٤٢.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٣٩، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٠ - ٤١.
(٨) قطرب: محمد بن المستنير بن أحمد اللغوي النحوي أبو علي البصري، تقدمت ترجمته.
(٩) ذكره الثعلبي ١٧٧ ب.
(١٠) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٩٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٣ بسند جيد عن السدي، ولفظه: (قطع أصل الذين ظلموا)، وعن عبد الرحمن بن زيد، ولفظه: قال: (استؤصلوا)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٣.
144
قُطع خلفهم من نسلهم وغيرهم، فلم تبق (١) لهم باقية؛ لأنهم استؤصلوا بالعذاب. وأحسب الذين فسروا الدابر بالأصل ذهبوا إلى أن الأصل يبقى ببقاء النسل، فإذا انقطع النسل (٢) انقطع الأصل وذهب، ففي قطع الدابر قطع الأصل، وحقيقة تفسير الدابر الآخر (٣) والعقب والأصل معنى وليس بتفسير.
وقوله تعالى: ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال الزجاج (٤): (حمد الله عز وجل نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم) (٥)، ومعنى هذا: أن قطع دابرهم نعمة على الرسل الذين أرسل إليهم فكذبوهم، فذكر الحمد هاهنا تعليم لهم ولمن آمن بهم ليحمدوا الله تعالى على كفايته إياهم شر الذين ظلموا، وليحمد محمد - ﷺ - وأصحابه ربهم إذ أهلك المشركين المكذبين (٦).
(١) في (ش): (فلم يبق).
(٢) في (ش): (فإذا انقطع الأصل وذهب ففي قطع الدابر).
(٣) هذا قول أكثر أئمة اللغة والتفسير. انظر: المراجع السابقة في دبر، وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٣٧، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٦٤، و"معاني القرآن" للنحاس ٢/ ٤٢٥، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٠١.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٩، وجاء بعده: [لأنه جل وعز أرسل إليهم الرسل، وأنظرهم بعد كفرهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، فبالغ جل وعز في إنذارهم وإمهالهم فحمد نفسه؛ لأنه محمود في إمهاله من كفر به وانتظاره توبته).
(٥) الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب. أي: إذا قطعت مات صاحبها، واستأصل الله شأفته: أذهبه كما تذهب تلك القرحة، أو أزاله من أصله. انظر: "القاموس" ص ٨٢٢ (شأفه).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٩٦، والبغوي ٣/ ١٤٤، والرازي ١٢/ ٢٢٦.
145
٤٦ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد: فلا يسمعون القرآن (١)، ولا يبصرون (٢) سبل الهدى، ولا يفهمون (٣) ثوابًا، ولا يخافون عقابًا) (٤).
وقال الكلبي: (أي ﴿أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ﴾ فلا تسمعوا موعظة، ﴿وَأَبْصَارَكُمْ﴾ فلا تبصروا الحق، ﴿وَخَتَمَ﴾ وطبع ﴿عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ فلم تعرفوا (٥) الحق ولم تعقلوا الهدى) (٦)، ونحو هذا قال مقاتل (٧).
وقوله تعالى: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾) ﴿مَنْ﴾ رفع بالابتداء وخبره ﴿إِلَهٌ﴾ و ﴿غَيْرُ﴾ صفة له (٨).
وقوله تعالى: ﴿يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ قال الزجاج: (هذه الهاء تعود على معنى الفعل المعنى ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ﴾ ما أُخذ منكم، قال: ويجوز أن يعود
(١) في (أ): (فلا تسمعوا القرآن).
(٢) في (أ): (ولا تبصرون سبيل الهدى).
(٣) في (أ): (ولا تفهمون).
(٤) جاء في "تنوير المقباس" ٢/ ٢٠، قال: (﴿إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ﴾ فلم تسمعوا موعظة ولا هدى ﴿وَأَبْصَارَكُمْ﴾ فلم تبصروا الحق ﴿وَخَتَمَ﴾ طبع ﴿عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ فلم تعقلوا الحق والهدى) ا. هـ.
(٥) في (ش): (يعرفوا الحق).
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٠، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩٢.
(٧) قال مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٦١ (﴿قُلْ﴾ لكفار مكة يا محمَّد ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ﴾ فلم تسمعوا شيئًا ﴿وَخَتَمَ﴾ يعني: وطبع، ﴿عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ فلم تعقلوا شيئًا) ا. هـ.
(٨) انظر: "التبيان" ٣٣٤، و"الفريد" ٢/ ١٥٠، و"الدر المصون" ٤/ ٦٣٦. وفيها: (﴿مَنْ﴾ استفهام في موضع رفع بالابتداء و ﴿إِلَهٌ﴾ خبر، و ﴿غَيْرُ اللَّهِ﴾ صفة الخبر) ا. هـ.
146
على السمع ويكون ما عطف على السمع داخلًا في القصة معه إذ كان معطوفًا عليه) (١).
قال الحسين (٢) بن الفضل (٣): (المخاطبة للمؤمنين؛ لأن الكفار كانوا صماً بكمًا عميًا لا يعقلون؛ لأن (٤) الله قد أخذها منهم، وكأنه يقول للمؤمنين: أرأيتم إن أخذها الله منكم فمن يردها عليكم) (٥).
واختلفوا في قوله: ﴿بِهِ انْظُرْ﴾ فروى المسيبي (٦) عن نافع ﴿بِهِ انْظُرْ﴾
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٤٩، ولم يذكر إلا الوجه الأخير فقط، وذكر الوجه الأول عن الزجاج ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤١، وقد ذكر الوجهان الاْخفش في "معانيه" ٢/ ٢٧٥، و"النحاس" في معانيه ٢/ ٤٢٦، وذكر الفراء في "معانيه" ١/ ٣٣٥: (أنها تعود على الجميع السمع والبصر والختم على الأفئدة، وقال: وقد يقال: إن الهاء التي في "به" كناية عن الهدى، وهو كالوجه الأول) ا. هـ. وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٩٦ - ١٩٧، و"الفريد" ٢/ ١٥٠، و"الدر المصون" ٤/ ٦٣٦.
(٢) في (ش): (الحسن)، وقد ورد كذلك في بعض المصادر. انظر: مقدمة كتاب "الأمثال" له ص ١١ - ١٤.
(٣) الحسين بن الفضل بن عمير بن قاسم بن كيسان البجلي، تقدمت ترجمته.
(٤) في (أ): (كان الله).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) المسيبي هو: إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن المسيب المخزومي أبو محمد المدني، إمام جليل صدوق عالم بالحديث، قيم في قراءة نافع ضابط لها، محقق فقيه، ورمي بالقدر، توفي سنة ٢٠٦ هـ.
انظر: "الجرح والتعديل" ٢/ ٢٣٤، و"معرفة القراء" ١/ ١٤٧، و"ميزان الاعتدال" ١/ ٢٠٠، و"غاية النهاية" ١/ ١٥٧، و"تهذيب التهذيب" ١/ ١٢٧، والمسيبي بالضم وفتح السين والباء المشددة وبعدها ياء نسبة إلى الجد الأعلى. انظر: "اللباب" ٢/ ٢١٤.
147
بضم الهاء (١) هو على لغة من يقرأ: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ [القصص: ٨١] (٢) فحذف الواو لالتقاء الساكنين فصار ﴿بِهِ انْظُرْ﴾، والباقون يكسرون الهاء (٣).
قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ (أي: لا يقدر هؤلاء الذين تعبدون أن يجعلوا لكم أسماعًا وأبصارًا وقلوبًا تعقلون (٤) بها وتفهمون) (٥) وهذا يدل على أن الآية في الكفار، وكذلك باقي الآية يدل على هذا، وحينئذٍ يحمل أخذ هذه الأعضاء على إذهابها أصلا يقول: إن أخذها حتى لا تبصروا ولا تسمعوا بتة من يردها عليكم (٦).
(١) روى المسيبي عن نافع ﴿بهُ انظُر﴾ بضم الهاء، وقرأ الباقون بكسرها. انظر: "السبعة" ص ٢٥٧ - ٢٥٨، و"إعراب القراءات" ١/ ٧٢، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٨.
(٢) القراءة المشهورة بكسر الهاء من ﴿بِهِ وَبِدَارِهِ﴾، وقرأ شيبة بن نصاح المدني المقرئ -بالضم فيهما، انظر: "إعراب القرءات" ١/ ٧٣، وذكر القراءة بالواو أبو علي في الحجة ٣/ ٣١٠ بلا نسبة.
(٣) ما تقدم قول أبي علي في الحجة ٣/ ٣١٠، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٥٤، و"الدر المصون" ٤/ ٦٣٧.
(٤) في (ش): (يعقلون بها ويفهمون).
(٥) جاء في تنوير المقباس ٢/ ٢٠ نحوه، قال: (﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ (يعني: الأصنام) ﴿يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ بما أخذ الله منكم) ا. هـ.
(٦) الأولى العموم، وهو قول الجمهور، وأول ما يدخل في ذلك الكفار، إلا أن ظاهر الآية والسياق يدل على أن المراد الكفار والله سبحانه يخبرهم أنه كامل القدرة ولا أحد يأتي بما أخذ منهم، فيجب إفراده بالعبادة وقد يذهب الله تعالى المعاني القائمة في هذه الجوارح أو يذهب الجوارح والأعراض جميعًا فلا يبقي شيئًا. وهو قول الآكثر. انظر: الطبري ٧/ ١٩٧، والسمرقندي ١/ ٤٨٦، والبغوي ٣/ ١٤٤، وابن عطية ٥/ ٢٠٢، والقرطبي ٦/ ٤٢٨.
148
وقوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ قال الكلبي: (يبين لهم في القرآن الآيات) (١).
وقال أهل المعاني: (معنى تصريف الآيات: توجيهها في الجهات التي تظهرها أتم الإظهار).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ قال الليث: (الصدوف: الميل عن الشيء) (٢)، وقال أبو عبيد: (صدف، ونكب: عدل) (٣).
وقال ابن عباس (٤) والحسن (٥) ومجاهد (٦) وقتادة (٧) والسدي (٨):
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٠.
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٩٠، وانظر: "العين" ٧/ ١٠٢.
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٩٠، وانظر: "الجمهرة" ٢/ ٦٥٥، والصحاح ٤/ ١٣٨٤، والمجمل ٢/ ٥٥٢، و"المفردات" ص ٤٧٨، و"اللسان" ٤/ ٢٤١٦ (صدف).
(٤) أخرجه أبو عبيد ص ٩٦، وابن حسنون ٢٤، والوزان ص ٣/ ب، كلهم في اللغات بسند جيد، وهو في مسائل نافع بن الأزرق ص ١١٣، و"الوسيط" ١/ ٤٠، والقرطبي ٦/ ٤٢٨ - "البحر المحيط" ٤/ ١٣٢، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٩٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٤ بسند جيد عن ابن عباس قال: ﴿يَصْدِفُونَ﴾ (يعدلون) وذكره ابن كثير ٢/ ١٥٠، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٢٣.
(٥) ذكره القرطبي ٦/ ٤٢٨، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٣٢، عن الحسن البصري.
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٤، وأخرجه الطبري ٧/ ١٩٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٤ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٤.
(٧) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ١/ ٢٠٦ - ٢٠٧، والطبري ٧/ ١٩٧ بسند جيد، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٩٤ عن قتادة وأبي مالك، وذكره أيضًا الواحدي في "الوسيط" ١/ ٤٠، والقرطبي ٦/ ٤٢٨، وابن كثير ٢/ ١٥٠.
(٨) ذكره القرطبي ٦/ ٤٢٨، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٣٢، وأخرج الطبري ٧/ ١٩٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٤ بسند جيد عن السدي قال: ﴿يَصْدِفُونَ﴾ يصدون). وذكره ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٥٠.
149
﴿ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾: (يعرضون) (١) قال عدي بن الرقاع:
إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثاً قُلْنَ أَحْسَنَهُ وهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدف (٢)
قال أبو إسحاق: (أعلم الله عز وجل أنه يُصرف لهم الآيات، وهي العلامات التي تدل على توحيده وصحة نبوة نبيه - ﷺ -، ثم هم يعرضون عما وضح لهم وظهر عندهم) (٣).
٤٧ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً﴾ قال ابن عباس والحسن: (ليلًا أو نهارًا) (٤) وقال الكلبي: (فجأة أو علانية) (٥).
قال أهل المعاني: (نقيض الجهرة الخفية، وهاهنا قوبل بالبغتة؛ لأن البغتة متضمنة معنى الخفية؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون، فخفى (٦) سببه) (٧).
(١) هذا قول أكثر أهل اللغة والتفسير، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩٢، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٣٧، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١/ ١٦٤، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٤٨٦، وابن عطية ٥٢/ ٢٠٢.
(٢) "ديوانه" ص ٦٣، والطبري ٧/ ١٩٧، وابن عطية ٥/ ٢٠٢، والقرطبي ٦/ ٤٢٨، و"البحر" ١/ ١١٧، و"الدر المصون" ٤/ ٦٣٦، وصدف أي: معرض.
(٣) "معاني القرآن للزجاج" ٢/ ٢٤٩.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٤١، والبغوي ٣/ ١٤٥، عن ابن عباس والحسن، وذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٢٦، وابن عطية ٥/ ٢٠٣، والقرطبي ٦/ ٤٢٩، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٣٢، عن الحسن فقط، وذكره الخازن في "تفسيره" ٢/ ١٣٤ عن ابن عباس فقط.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٠.
(٦) في (ش): (فيخفى).
(٧) انظر: "تفسير الرازي" ١٢/ ٢٢٨.
وقوله تعالى: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ قال ابن عباس: (يريد: الذين جعلوا لله شركاء) (١)، قال الزجاج: (أي: ﴿هَلْ يُهْلَكُ﴾ إلا أنتم ومن أشبهكم؛ لأنكم كفرتم وأنتم معاندون وقد علمتم أنكم ظالمون) (٢).
٤٨ - قوله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ﴾ الآية، قال أبو إسحاق: (أي: ليس إرسالهم أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات إنما يأتون من الآيات بما يبين براهينهم، وإنما قصدهم التبشير والإنذار) (٣)، ثم ذكر ثواب المصدّق في باقي الآية وعقاب المكذب في الآية الثانية وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ﴾ [الأنعام: ٤٩] ومعنى المسّ (٤) في اللغة: التقاء الشيئين من غير فصل، وقيل: ﴿يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ﴾ لأنه يحل فيهم وكأنه مماس لهم والفرق (٥) بينه وبين اللمس: أن اللمس مماسه بحاسّة والمسّ قد يكون بحاسّة وبغير حاسّة؛ لأن الحجر يماسّ الحجر ولا يلمسه (٦).
(١) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٤٥، و"تنوير المقباس" ٢/ ٢٠.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٠.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٠، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٢٧.
(٤) المَسُّ أصله: جَسُّ الشيء باليد ومسكه بها. انظر "العين" ٧/ ٢٠٨، و"الجمهرة" ١/ ١٣٥، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٩٨، و"الصحاح" ٣/ ٩٧٨، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢٧١، و"المفردات" ص ٧٦٦، و"اللسان" ٧/ ٤١٩٥ (مس).
(٥) في (أ): (في الفرق)، وهو تحريف.
(٦) اللمس: الجس أيضًا. وأصله: المس باليد ليعرف مَسَّ الشيء ثم كثر حتى صار كل طالب مُلتمِسا. انظر: "العين" ٧/ ٢٦٨، و"الجمهرة" ٢/ ٨٥٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٩٦، و"الصحاح" ٣/ ٩٧٥، و"المجمل" ٣/ ٧٧٤، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢١٠، و"المفردات" ص ٧٤٧، و"اللسان" ٧/ ٤٠٧٢ (لمس).
قال العسكري في "الفروق" ص ٢٤٩ - ٢٥٠. (الفرق بينهما أن اللمس يكون باليد =
٥٠ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ الآية الخزائن (١): جمع الخِزانة وهي اسم المكان الذي يُخزن فيه الشيء. وخَزَنُ الشيء إحرازُه بحيث لا تناله (٢) الأيدي، والخزانة أيضًا عمل الخازن (٣)، قال ابن عباس (٤): (يريد: خزائن رحمة الله).
وقال الكلبي (٥): (أي: رزق الله).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ قال ابن عباس: (يريد: عاقبة ما يصيرون إليه) (٦)، وقال الكلبي (٧): (يعني: نزول ذلك الرزق على ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ (٨) فتنكروا قولي وتجحدوا أمري).
= خاصة للتعرف على الشيء، والمس يكون باليد وبالحجر وغير ذلك، ولا يقتضي أن يكون باليد) ا. هـ. بتصرف.
(١) انظر: "العين" ٤/ ٢٠٩، و"الجمهرة" ١/ ٥٩٦، و"الصحاح" ٥/ ٢١٠٨، و"مقاييس اللغة" ٢/ ١٧٨، و"المفردات" ص ٢٨٠، و"اللسان" ٢/ ١١٥٤ (خزن).
(٢) في (ش): (يناله).
(٣) هذا قول الأزهري في "تهذيبه" ١/ ١٠٢٧.
(٤) في "تنوير المقباس" ٢/ ٢١: (مفاتيح خزائن الله من النبات والثمار والمطر والعذاب) ا. هـ.
(٥) ذكره الماوردي ٢/ ١١٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٣٣. والأولى العموم، ويحمل ما ورد على بيان بعض الأنواع، فالخزائن لفظ عام يشمل الغيب والرحمة والقدرة والعذاب وغيره.
انظر: الطبري ٧/ ١٩٩، والسمرقندي ١/ ٤٨٦، والبغوي ٣/ ١٤٥، والقرطبي ٦/ ٤٣٠.
(٦) في "تنوير المقباس" ٢/ ٢١: (أي: من نزول العذاب ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ من السماء) ا. هـ.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) في النسخ: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾، وهو تحريف.
152
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ قال ابن عباس: (يريد: ما أخبركم إلا بما أنزله الله إلى) (١).
وقال الكلبي (٢): (أي: ما أعمل إلا بما ينزل عليّ).
وقال أبو إسحاق: (أعلمهم النبي - ﷺ - أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي ولا يعلم الغيب فيخبركم بما غاب عنه مما مضى ومما سيكون إلا بوحي من الله عز وجل وليس بملك يشاهد من أمور الله عز وجل ما لا يشاهده البشر: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ (٣)، (أي: ما أنبأتكم به من غيب فيما مضى وفيما سيكون فهو بوحي من الله عز وجل) (٤).
وقال أهل العلم (٥) قوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ (يدل بظاهره على (٦) أن الرسل لا يجتهدون ولا يقيسون، والصحيح من مذهب الشافعي أنهم يقيسون ويجتهدون، وعنده أن القياس على النصوص بالوحي اتباع للوحي) (٧).
(١) لفظ: (إلى) ساقط من (أ)، والأثر لم أقف عليه.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ٢١.
(٣) في (أ): (﴿إِلَّا مَا يُوحَى﴾ أي: إلى ما أنبأتكم به) وهو تحريف.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٠، وهذا قول الأكثر. انظر: الطبري ٧/ ١٩٩، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٢٧، والسمرقندي ١/ ٤٨٦، والماوردي ٢/ ١١٦، والبغوي ٣/ ١٤٥.
(٥) في (ش): (المعاني).
(٦) في (ش): (إلى)، وهو تحريف.
(٧) انظر: "الرسالة" للشافعي ص ٣٩ - ٤٠، ص ٥٠٣ - ٥١١، و"تفسير الرازي" ١٢/ ٢٣١، وقال القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٤٣٠: (والصحيح أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد والقياس على النصوص، والقياس أحد أدلة الشرع) ا. هـ.
153
وقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ قال ابن عباس: يريد: بالأعمى: الكافر ﴿وَالْبَصِيرُ﴾ الذي قد أبصر دينه) (١).
وقال قتادة: ﴿الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾: (الكافر والمؤمن) (٢).
وقال سعيد ابن جبير (٣) ومجاهد (٤): (الضالّ، والمهتدي)، وقيل: الجاهل، والعالم) (٥).
(أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) قال ابن عباس: (يريد: يعتبرون (٦)) (٧).
وقال مقاتل: ((أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) (٨) أنهما لا يستويان) (٩).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٢١، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٤٣، و"البحر" ٤/ ١٣٤.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ١٩٩ وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٦ بسند جيد، وذكره أكثرهم، انظر: "الوسيط" ١/ ٤٢، والبغوي ٣/ ١٤٥، وابن الجوزي ٣/ ٤٣، و"الدر المنثور" ٣/ ٢٤، وهو قول مجاهد كما ذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٢٨، والقرطبي ٦/ ٤٣٠.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٤٢، وابن الجوزي ٣/ ٤٣، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٣٤.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٥، وأخرجه الطبري ٧/ ١٩٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٦ من طرق جيدة، وذكره أكثرهم. انظر: "الوسيط" ١/ ٤٢، والبغوي ٣/ ١٤٥، وابن الجوزي ٣/ ٤٣، و"الدر المنثور" ٣/ ٢٤.
(٥) ذكره الماوردي ٢/ ١١٧، والبغوي ٣/ ١٤٥، والقرطبي ٦/ ٤٣٠، والظاهر العموم إلا أن السياق يرجح المؤمن والمهتدي والكافر والضال، وهو اختيار أكثرهم. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٢ والطبري ٧/ ١٩٩، والسمرقندي ١/ ٤٨٦، وابن عطية ٥/ ٢٠٥.
(٦) في (ش): (تعتبرون).
(٧) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٢١، والسمرقندي ١/ ٤٨٦.
(٨) في (أ): (يفكرون)، وهو تحريف.
(٩) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٢.
154
٥١ - قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ الآية، معنى الإنذار (١): الإعلام بموضع المخافة، وهو مما تقدم (٢) بيانه (٣)، وقوله: ﴿بِهِ﴾ قال ابن عباس: (يقول: خوَّف بالقرآن) (٤).
وقاله الزجاج (٥)، وقال الضحاك: (بالله) (٦).
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا﴾ قال ابن عباس (٧) والحسن (٨): (يريد المؤمنين يخافون يوم القيامة وما فيها من شدة الأهوال).
وقال الضحاك (٩): (يعلمون ﴿أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾).
(١) انظر: "العين" ٨/ ١٨٠، و"الجمهرة" ٢/ ٦٩٥، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٤٧، و"الصحاح" ٢/ ٨٢٥، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤١٤، و"المفردات" ص ٧٩٧، و"اللسان" ٧/ ٤٣٩٠ (نذر).
(٢) في (ش): (يقدم)، وهو تحريف.
(٣) انظر "البسيط" ٢/ ٤٦٤ - ٤٦٥، تحقيق الدكتور محمد الفوزان.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٢، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٤٢، والرازي ١٢/ ٢٣٢.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥١.
(٦) ذكره الثعلبي ١٧٧ ب، والرازي ١٢/ ٢٣٢، والأول أولى وهو قول الأكثر، وقال الرازي: (هو أولى لأن التخويف إنما يقع بالقول وبالكلام لا بذات الله تعالى)، وهو اختيار مقاتل ١/ ٥٦٢، والطبري ٧/ ٢٠٠، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٤٢٨، والسمرقندي ١/ ٤٨٦، والبغوي ٣/ ١٤٥، وابن عطية ٥/ ٢٠٦. وانظر: القرطبي ٦/ ٤٣٠، و"البحر" ٤/ ١٣٤.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٤٢.
(٨) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٦/ ٤٣١.
(٩) لم أقف عليه، وذكر الطبري ٧/ ٢٠٠، هذا القول وقال: (وضعت المخافة موضع العلم؛ لأنه خوفهم كان من أجل علمهم بوقوع ذلك ووجوده من غير شك منهم في ذلك) ا. هـ. وقال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص ١٩١: (تأتي خاف بمعنى علم. وقوله: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ لأن في الخشية =
155
قال الفراء: ﴿يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ (علمًا بأنه سيكون، ولذلك فسر المفسرون ﴿يَخَافُونَ﴾: يعلمون) (١).
وقال الزجاج: (المراد بالذين ﴿يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا﴾ كل معترف بالبعث من مسلم وكتابي. قال (٢): وإنما خص الذين يخافون الحشر دون غيرهم وهو - ﷺ - كان ينذر جميع الخلق؛ لأن ﴿الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ الحشر الحجة عليهم أوجب، لاعترافهم بالمعاد) (٣). وقال غيره من أهل المعاني: (هم الكفار؛ لأنهم يشكّون في الحشر، ولذلك قال: ﴿يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا﴾) (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾ أي: إلى المكان الذي جعله ربهم لمجتمعهم (٥).
= والمخافة طرفًا من العلم) ا. هـ وقال ابن عطية ٥/ ٢٠٦: (يخافَوَن على بابها وكونها بمعنى العلم غير لازم) ا. هـ وانظر البغوي ٣/ ١٤٥.
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٣٦.
(٢) لفظ: (قال) ساقط من (ش).
(٣) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥١، و"النحاس" ٢/ ٤٢٨.
(٤) انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٠٦، والرازي ١٢/ ٢٣٢، قال ابن عطية: (الآية تعم بنفس اللفظ كل مؤمن بالبعث من مسلم وكتابي والنبي - ﷺ - مأمور بإنذار جميع الخلائق، وإنما وقع التخصيص هنا بحسب المعنى الذي قصد، ذلك أن فيما تقدم من الآيات نوعًا من اليأس في الأغلب عن هؤلاء الكفرة. فكأنه قيل له هنا: قل لهؤلاء الكفرة المعرضين كذا، ودعهم ورأيهم لأنفسهم، وأنذر هؤلاء الآخرين الذين هم مظنة الإيمان وأهل للانتفاع، ولم يرد أنه لا ينذر سواهم، بل الإنذار العام ثابت مستقر) ا. هـ ملخصًا.
(٥) انظر "تفسير الرازي" ١٢/ ٢٣٣.
156
وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾ موضع ﴿لَيْسَ﴾ نصب بوقوعها موقع الحال، كأنه قيل: متخلّين من ولي أو شفيع والعامل فيه ﴿يَخَافُونَ﴾ (١)، قال الضحاك: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ (أي: غير الله ﴿وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾) (٢).
وقال أبو إسحاق: (إن النصارى واليهود ذكرت أنها أبناء الله وأحباؤه فأعلم الله عز وجل أن أهل الكفر ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع) (٣)، وهذا الذي قاله ظاهر في أهل الكفر.
والمفسرون على أن الآية في المؤمنين، ويكون معنى قوله: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾ على قولهم: إن شفاعة الرسل والملائكة للمؤمنين إنما تكون بإذن الله لقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، وذلك راجع إلى الله لما كان بإذن الله (٤).
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ قال ابن عباس: (كي يخافون في الدنيا وينتهوا عما نهيتهم) (٥).
(١) واختار هذا الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢١.
وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٠٦، و"الفريد" ٢/ ١٥٢، و"البحر" ٤/ ١٣٥، وذكر هذا القول الرازي ١٢/ ٢٣٣٠، عن الزجاج.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٥١.
(٤) انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٠٦، والرازي ١٢/ ٢٣٣.
(٥) ذكره الرازي ١٢/ ١٩٣، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٢٣ نحوه.
157
٥٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ الآية. أخبرنا الشيخ أبو بكر أحمد بن محمد الحارثي، أنبأ أبو محمد عبد الله بن محمد (١) بن جعفر، حدثنا أبو يحيى عبد الرحمن (٢) بن محمد الدارمي (٣)، حدثنا سهل بن عثمان (٤) العسكري، حدثنا أسباط (٥) بن محمَّد، عن
(١) عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري أبو محمد الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ، إمام ورع ثقة محدث مفسر له تصانيف جيدة توفي سنة ٣٦٩ هـ. وله ٩٥ سنة. انظر: "ذكر أخبار أصبهان" ٢/ ٩٠، و"سير أعلام النبلاء" ١٦/ ٢٧٦، و"تذكرة الحفاظ" ٣/ ٩٤٥، و"غاية النهاية" ١/ ٤٤٧، و"طبقات الداودي" ١/ ٢٤٦.
(٢) عبد الرحمن بن محمد بن سَلْم الرازي أبو يحيى الأصبهاني، إمام ثقة كثير السماع، وهو إمام جامع أصبهان، وكان من أوعية العلم، صنف التفسير والمسند، وتوفي سنة ٢٩١ هـ. وله نحو ٨٠ سنة. انظر: "طبقات المحدثين لأبي الشيخ" ٣/ ٥٣٠، وذكر "أخبار أصبهان" ٢/ ١١٢، و"سير أعلام النبلاء" ١٣/ ٥٣٠، و"تذكرة الحفاظ " ٢/ ٦٩٠، و"طبقات الحافظ " ص ٣٠٣، و"طبقات الداودي" ١/ ٢٨٨.
(٣) في (أ): (ابن الدارمي). وهو: بفتح الدال وسكون الألف وكسر الراء وبعدها ميم، نسبة إلى دارم بن مالك بطن كبير من تميم. انظر: "اللباب" ١/ ٤٨٤، ولم أجد من نسبه إلى ذلك، وقد جاء السند نفسه عند الواحدي في "أسباب النزول" ص ٢٢٠، وفيه: (أبو يحيى الرازي عن سهل).
(٤) سَهْل بن عثمان بن فارس الكندي أبو مسعود العسكري نزيل الري، إمام حافظ ثقة كثير الفوائد وله غرائب. توفي سنة ٢٣٥ هـ وله نحو ٨٠ سنة. انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ٢٠٣، و"طبقات المحدثين" ٢/ ١١٩، و"أخبار أصبهان" ١/ ٣٣٨، و"سير أعلام النبلاء" ١١/ ٤٥٤، و"تذكرة الحفاظ" ٢/ ٤٥٢، و "تهذيب التهذيب" ٢/ ١٢٥.
(٥) أسباط بن محمد بن عبد الرحمن بن خالد القرشي أبو محمد الكوفي، إمام ثقة محدث، توفي سنة ٢٠٠ هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ٣٩٣، و"الجرح والتعديل" ٢/ ٣٣٣، و"تاريخ بغداد" ٥/ ٤٦، و"سير أعلام النبلاء" ٩/ ٣٥٥، و"تهذيب التهذيب" ١/ ١٠٩.
158
الأشعث (١) بن سوار عن كردوس (٢)، عن عبد الله بن مسعود قال: (مر الملأ من قريش على رسول الله - ﷺ - وعنده صهيب (٣) وخبّاب (٤) وبلال (٥) وعمار وغيرهم (٦) من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، رضيت بهؤلاء
(١) أشعث بن سوار الكندي النجار القاص، أحد العلماء، على لين فيه، وقد ضعفه أكثر أئمة "الجرح والتعديل" توفي سنة ١٣٦ هـ انظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ٣٥٨، و"الجرح والتعديل" ٢/ ٢٧١، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ٢٧٥، و"ميزان الاعتدال" ١/ ٢٦٣، و"تهذيب التهذيب" ١/ ١٧٨.
(٢) كُرْدُوس بن عباس الثعلبي الكوفي القاص، اختلف في اسم أبيه، وهو تابعي مقبول، توفي بعد المائة.
انظر: "التاريخ الكبير للبخاري" ٧/ ٢٤٢، و"الجرح والتعديل" ٧/ ١٧٥، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٤٦٧، و"تقريب التهذيب" ١٧٣٤.
(٣) صُهَيْبُ بن سِنان بن مالك النَّمِري، أبو يحيى الرُّومي، صاحبي جليل، تقدم.
(٤) خَبَّابُ بن الأَرَتِّ بن جَندلة بن سعد التميمي، أبو عبد الله، نزيل الكوفة، صحابي جليل فاضل عابد ورع شجاع، شهد المشاهد، وكان من كبار السابقين البدريين والمعذبين بمكة، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، توفي سنة ٣٧ هـ. وله ٧٣ سنة.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٣/ ١٦٤، و"الجرح والتعديل" ٣/ ٣٩٥، و"الاستيعاب" ٢/ ٢١، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ٣٢٣، و"الإصابة" ١/ ٤١٦، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٥٣٩.
(٥) بلال بن رباح التيمي أبو عبد الله الحبشي، صحابي جليل فاضل عابد ورع شجاع، شهد المشاهد، وكان من كبار السابقين البدريين والمعذبين بمكة، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، توفي سنة ١٧ هـ. أو بعدها، وله أكثر من ٦٠ سنة.
انظر: "للجرح والتعديل" ٢/ ٣٩٥، و"الاستيعاب" ١/ ٢٥٨، و"سير أعلام النبلاء" ١/ ٣٤٧، و"الإصابة" ١/ ١٦٥، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٢٥٣، و"تهذيب ابن عساكر" ٣/ ٣٠٤.
(٦) في (ش): (وخباب وعمار وبلال).
159
عن قومك، أفنحن نكون تبعًا لهؤلاء (١) الذين مَنَّ الله عليهم! إطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك، فأنزل الله هذه الآية) (٢).
وقال خباب بن الأرت: (كنا مع النبي - ﷺ - أنا وعمار، وصهيب، إذ جاء عيينة بن (٣) حصن (٤) والأقرع (٥) بن حابس. فقالا له: إنه (٦) لا يحسن بنا الجلوس مع هؤلاء العبيد الفقراء، فأقمهم عنك حتى نخلو بك، فإن
(١) في (ش): (نكون تبعًا لهؤلاء أهؤلاء الذين من الله عليهم).
(٢) أخرجه أحمد في "المسند" ٦/ ٣٦ (٣٩٨٥)، تحقيق أحمد شاكر، والطبري ٧/ ٢٠٠، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٨، والواحدي في "أسباب النزول" ص ٢١٩ - ٢٢٠، كلهم من هذا الطريق وصحح إسناده أحمد شاكر في "حاشية المسند"، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢١: (رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير كردوس، وهو ثقة) ا. هـ وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٥، وزاد نسبته إلى: (أبي الشيخ وابن مردويه، وأبي نعيم في "الحلية")، وانظر: "كشف الأستار للهيثمي" ٣/ ٤٨.
(٣) في (ش): (ابن)، وهو تحريف.
(٤) عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري أبو مالك من الأعراب الجفاة المؤلفة قلوبهم، أسلم قبل الفتح، وشهد فتح مكة وحنينا والطائف، وارتد وتبع طليحة الأسدي، وقاتل معه وأسر وحمل إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فأسلم وترك فعاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: "الاستيعاب" ٣/ ٣١٦، و"تهذيب الأسماء واللغات" ٢/ ٤٨، "الإصابة" ٣/ ٥٤.
(٥) الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد المجاشعي التميمي، واسمه فراس، والأقرع لقب لقرع في رأسه، وهو من المؤلفة قلوبهم، أسلم وحسن إسلامه وشهد فتح مكة وحنينًا والطائف واليمامة والعراق وكان من الأشراف وسادات العرب، استشهد في خراسان، نحو سنة ٣١ هـ.
انظر: "الاستيعاب" ١/ ١٩٣، و"تهذيب الأسماء واللغات" ١/ ١٢٤، و"الإصابة" ١/ ٥٨، و"تهذيب ابن عساكر" ٣/ ٨٩، و"الأعلام" ٢/ ٥.
(٦) في (ش): (إنا لا يحسن).
160
وفود العرب تأتيك، فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبُد، ثم إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك، فأجابهم النبي - ﷺ - إلى ذلك فقالا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتابًا فدعا بصحيفة وأحضر عليًّا -رضي الله عنه- ليكتب، فأنزلت هذه الآية وما بعدها، فنحّى رسول الله - ﷺ - الصحيفة، وأقبل علينا، ودنونا منه) (١).
(١) أخرج ابن ماجه رقم (٤١٢٧) كتاب: الزهد، باب: مجالسة الفقراء، والطبري في "تفسيره" ١١/ ٣٧٦ - ٣٧٧، وابن أبي حاتم ٣/ ٧٢/ ب، وأبو نعيم في "الحلية" ١/ ١٤٦، والبيهقي في "الدلائل" ١/ ٣٥٢ - ٣٥٣، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٤٢ - ٤٤، وفي "أسباب النزول" ص ٢٢١، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٥ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وأبي يعلى وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه ا. هـ. وذكر الحديث ابن حجر في "المطالب العالية" ١٤/ ٦٥١، ونقل الأعظمي في "حاشيته" عن الإمام البوصيري أنه قال: (رواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى بسند صحيح) ا. هـ.
والسند هنا فيه أبو سعد الأزدي مقبول كما في "التقريب" ص ٦٤٣ (٨٨١٧)، وفيه أبو الكنود الأزدي مقبول أيضًا كما في "التقريب" ص ٦٦٩ (٨٣٢٨)، وعليه يحتاج إلى متابعة، ولم أقف له على متابعة، وقد ذكره ابن عطية ٥/ ٢٠٧، وقال: (هذا تأويل بعيد في نزول الآية؛ لأنها مكية، وهؤلاء لم يفدوا إلا في المدينة، ويمكن أن يكون هذا وقع بعد نزول الآية بمدة، اللهم إلا أن تكون الآية مدنية) ا. هـ. بتصرف، وقال ابن كثير ٢/ ١٥١: (هذا حديث غريب، فالآية مكية والأقرع وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر) ا. هـ. وذكر قول ابن كثير الشيخ أحمد شاكر في "حاشية الطبري"، وقال: (هذا هو الحق إن شاء الله) ا. هـ.
وأصل القصة ثابتة ولكن بدون تعيين الأقرع وعيينة، فقد أخرج مسلم (٢٤١٣)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل سعد بن أبي وقاص، ابن ماجه (٤١٢٨)، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٤٦٩ - ٤٧٠، و"الحاكم" ٣/ ٣١٩، عن سعد بن أبي وقاص قال: (كنا مع النبي - ﷺ - ستة نفرٍ، منهم أنا وابن مسعود وبلال، فقال المشركون: تدني هؤلاء، اطردهم لا يجنزون علينا فوقع في نفس رسول الله - ﷺ - ما شاء أن يقع فحدث نفسه فنزلت الآية) ا. هـ. ملخصًا. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٧٤.
161
قال ابن الأنباري: (عظم الأمر في هذا على النبي - ﷺ - وخوف الدخول في جملة الظالمين؛ لأنه كان قد همّ بتقديم الرؤساء وأُولي الأموال على الضعفاء وذوي المسكنة، مقدّرًا أنه يستجر بإسلامهم إسلام قومهم وحلفائهم ومن يلوذ بهم، وكان عليه السلام لا يقصد في ذلك إلا قصد الخير، ولا ينوي ازدراء بالفقراء ولا احتقارًا، فأعلمه الله تبارك وتعالى أن ذلك غير جائز) (١).
وأما التفسير فقال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ (يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر) (٢).
فالدعاء هاهنا العبادة في قول ابن عباس والحسن (٣) ومجاهد (٤) وقتادة (٥) والضحاك (٦) قالوا: (يعبدون الله بالصلاة المكتوبة).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٤٦، وابن الجوزي في "المسير" ٣/ ٤٧، وانظر: هذا المعنى عند الرازي ١٢/ ٢٣٥، والقرطبي ٦/ ٤٣١.
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ص ١٧٨/ أ، والبغوي ٣/ ٤٦، والرازي ١٢/ ٢٣٥، وأخرج الطبري ٧/ ٢٠٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٨ بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٦.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ٢٠٣، بسند ضعيف، وذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٢٧، والثعلبي ص ١٧٨/ أ، والرازي ١٢/ ٢٣٥، والقرطبي ٦/ ٤٣٢، وابن كثير ٢/ ١٥١.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٥، وأخرجه الطبري ١١/ ٧/ ٢٠٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٨ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٦.
(٥) أخرجه الطبري ٧/ ٢٠٤ بسند جيد، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٤٦، وابن كثير ٢/ ١٥١.
(٦) أخرجه الطبري ٧/ ٢٠٤، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٢٩٨.
162
وقال إبراهيم (١): (الدعاء هاهنا الذكر، أي: يذكرون ربهم طرفي النهار) (٢). وروي عن إبراهيم بخلاف هذا، وهو أنه قال: (هذا في الصلوات الخمس) (٣)، وهو قول جميع أهل التأويل (٤) قالوا: (هذا في الصلوات المكتوبات).
وقرأ ابن عامر: (بِالْغُدْوةِ) (٥) بالواو (٦)، وقال أبو علي: (الوجه قراءة العامة ﴿بِالْغَدَاوةِ﴾؛ لأنها تستعمل نكرة وتتعرف (٧) باللام، فأما (غدوة) فمعرفة وهو علم صيغ له واسم موضوع (٨) للتعريف وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يُدخل عليه الألف واللام كما لا يُدخل على سائر الأعلام، وإن كانت قد كتبت في المصحف بالواو لم تدل على ذلك ألا ترى أنهم قد كتبوا
(١) إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، تقدمت ترجمته.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٢٠٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٨ بسند جيد وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٦.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ٢٠٤ بسند جيد وذكره الماوردي ٢/ ١١٧ وابن الجوزي ٣/ ٤٦.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٢٠٣ - ٢٠٤، بسند جيد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري وعن عامر الشعبي وغيرهم، والظاهر عموم ذكر الله سبحانه وتعالى، وأول ذلك الصلاة المكتوبة والنوافل وذكره تعالى طرفي النهار، وهو اختيار الطبري ٧/ ٢٠٥ - ٢٠٦، وابن عطية ٥/ ٢٠٩.
(٥) جاء في (أ): (بالغداة)، والرسم القرآني (بِالْغَدَوةِ) بالواو.
(٦) قرأ ابن عامر ﴿بِالغُدْوةِ﴾ بضم الغين وسكون الدال وواو بعدها من غير ألف، وقرأ الباقون بفتح الغين والدال وألف بعدها من غير واو.
انظر: "السبعة" ص ٢٥٨، و"المبسوط" ص ١٦٨، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٨، و"التيسير" ص ١٠٢، و"النشر" ٢/ ٢٥٨.
(٧) في (ش): (ويتعرف)، ووضع عليها في (أ) طمس، والتصحيح من "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣١٩.
(٨) في (أ): (موضع)، وهو تحريف.
163
(الصلوة) بالواو وهي ألف فكذلك (الغداة).
قال سيبويه: (غدوة وبكرة جُعل كل واحد منهما اسمًا للحين، كما جعلوا أم حُبين (١) اسما لدابة معروفة. قال: وزعم يونس عن أبي عمرو أنك إذا قلت: لقيته يومًا من الأيام غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم تنون) (٢)، وهذا يقوي قراءة العامة، ووجه قراءة ابن عامر أن سيبويه (٣) قال: (زعم الخليل أنه يجوز أن يقول: أتيتك اليوم غدوةً وبكرةً، فجعلهما بمنزلة ضحوة (٤)).
وأيضاً فإن بعض أسماء الزمان جاء معرفة بغير ألف ولام ثم أجازوا دخول اللام فيه نحو ما حكاه أبو زيد من: (قولهم: لقيته فَيْنة (٥) غير معروف والفينة بعد الفينة) (٦) فألحق لام المعرفة، ما استعمل معرفةً ووجه ذلك أنه يقدر فيه التنكير والشيوع كما يقدر فيه (٧) ذلك إذا ثني، [وذلك مستمر في جميع المعارف) (٨) انتهى كلامه. قوله: (يقدر فيه التنكير كما يقدر فيه ذلك
(١) أم حُبين: دويبة على خلقة الحرباء، عريضة الصدر عظيمة البطن، وقيل: هي أنثى الحرباء. انظر: "اللسان" ٢/ ٧٦٤ (حبن).
(٢) "الكتاب" ٣/ ٢٩٣، وفيه: (وهو قوله أيضًا وهو القياس.. وكذلك تقول العرب) ا. هـ.
(٣) "الكتاب" ٣/ ٢٩٤.
(٤) الضحوة -بفتح الضاد المشددة وسكون الحاء-: كعشية ارتفاع النهار، ولا تستعمل إلا ظرفًا إذا عنيتها من يومك فإن لم تعن بها ذلك صرفتها. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٥٥٦ (ضحا).
(٥) الفينة -بفتح فسكون-: الحين، والساعة، والوقت من الزمان، عرف بالعلمية والألف واللام. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٥٠٤ (فين).
(٦) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٢٧ (فان).
(٧) في (ش): (كما يقدر ذلك فيه).
(٨) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣١٩، ٦/ ١٤٠، مجموع منهما بتصرف واختصار. =
164
إذا ثني) (١)] كلام يُحتاج إلى شرحه فنقول: اعلم أن المعرفة: [لا يصح تثنيتها من قبل أن حدّ المعرفة (٢)] أنها ما خص الواحد من جنسه ولم يشع في أُمته، فإذا شورك في اسمه فقد خرج عن أن يكون علمًا معروفًا، وصار مشتركًا فيه شائعًا، وإذا كان الأمر كذلك فلا تصح التثنية إلا في النكرات دون المعارف، وإذا صح هذا فإنك لم تُثَنّ زيدًا حتى سلبته تعريفه وأشعته في أمته فجعلته من جماعة كل واحد منهم زيد، فجرى لذلك (٣) مجرى فرس ورجل في أن كل واحد منهما شائع لا يخص واحداً بعينه، وصار كأنه بعد نزع التعريف عنه يجوز أن يقال: الزيد والعمر كما قال ابن ميادة (٤):
وجدنا الَولِيدَ بْنَ اليَزِيدِ مُبَارَكًا شَدِيدًا بأعْبَاءِ الخِلاَفَةِ كَاهِلُهْ (٥)
= وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٥٩، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٨، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٠، ولابن زنجلة ص ٢٥١، و"الكشف" ١/ ٤٣٢.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٣) في (ش): (ذلك).
(٤) ابن ميادة هو: الرَّمَّاح بن أَبْرَد بن ثَوْبَان بن سُرَاقَة المُرِّيُّ الغطفاني، أبو شُرَحْبِيل، مشهور بنسبته إلى أمه مَيَّادة، وهو شاعر مجيد هجَّاء. عاصر الدولة الأموية والعباسية، ومدح الخلفاء، توفي سنة ١٤٩هـ أو قبلها.
انظر: "الشعر والشعراء" ص٥٢٠، و"طبقات الشعراء" لابن المعتز ص ١٠٥، و"معجم الأدباء" ١١/ ١٤٣، و"تهذيب ابن عساكر" ٥/ ٣٣١، و"الأعلام" ٣/ ٣١.
(٥) "ديوانه" ص ١٩٢، و"معاني الفراء" ٢/ ٤٠٨، وليس في "كلام العرب" لابن خالويه ص ٧١، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٤٥١، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٥٨٠، و"الإنصاف" ١/ ٣١٧، و"اللسان" ٣/ ١٨٩٨ (زيد)، وهو يمدح الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، والأعباء جمع عبء بالكسر وسكون العين، وهو الثقل وأراد أمور الخلافة الشاقة، والكاهل ما بين الكتفين. والشاهد: (الوليد - واليزيد) حيث أدخل (أل) فيهما للمح الأصل وتقدير التنكير، وهي في الحقيقة زائدة. انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي ١/ ١٦٤.
165
وكما أنشد ابن السكيت (١):
يا ليتَ أُمَّ العمرو (٢) كانت صاحبي
ويدلك (٣) على أنه لا يثنى إلا بعد خلع التعريف عنه دخول اللام عليه بعد التثنية في قولك: الزيدان والعمران (٤)، ولو كان التعريف الذي كانا يدلان عليه مفردين باقيًا فيهما لما جاز دخول اللام عليهما بعد التثنية، كما لا يجوز ذلك قبل التثنية في وجه الاستعمال وغالب الأمر، وكما نزعوه التعريف بالتثنية نزعوه أيضًا بالإضافة قال الشاعر (٥):
(١) "إصلاح المنطق" ص ٢٦٢، الشاهد لحميد بن ثور الهلالي، شاعر مخضرم، في "اللسان" ٥/ ٢٥٦٩ (ضرب) وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٠٦، و"الحلبيات" ص ٢٨٨، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٦٦، و"المنصف" ٣/ ٢٣٤، وهو رجز آخره:
مكان من أنشأ على الرَّكائب
تمنى أن تكون مصاحبة له في سفره معينة في رفع الأحمال على الجمال، وأنشأ أي: ابتدأ السير، والركوب والركائب من الركْب أصحاب الإبل. انظر شرحه في: "تهذيب إصلاح المنطق" ٢/ ٧٢.
(٢) في (ش): (أم عمر)، بالعين المهملة وكذلك في "المخصص" ١/ ١٦٨، ١٣/ ٢١٦، و"اللسان" ٣/ ١٥٦٣ (ربع) وفي "إصلاح المنطق والمخصص" ١١/ ٢٢٠: (أم الغَمْر) بالغين، قال ابن سيدة: (هكذا رواه ابن السكيت، وعليه لا شاهد فيه على زيادة أل) ا. هـ وفي "أمالي القالي" ١/ ١٤٦: (أم الفَيْض) وأكثر المراجع السابقة (أم العمرو) بالعين المهملة، والشاهد دخول أل على عمرو، وهو علم.
(٣) في (ش): (ويدل).
(٤) في (أ): (العمروان).
(٥) الشاهد لزيد الطائي من ولد عروة بن زيد الخيل في "الكامل" للمبرد ٣/ ١٥٧، وبلا نسبة في "البصريات" ٢/ ٤١٤، و"الحلبيات" ص ٢٩٨، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٤٥٢، و"اللسان" ٣/ ١٨٩٨ (زيد)، و"مغني اللبيب" ١/ ٥٢، والنقا: الرمل الكثيب، ويوم النقا: الوقعة التي كانت عند النقا، والأبيض: السيف، ويمان: =
166
لَاَ زيدُنَا يَوْمَ النَّقَا رأسَ زَيْدِكُمْ بِأَبْيَضَ مِنْ ماءِ الحدِيدِ يَمَانِ
فإضافة الاسم يدل على أنه قد كان خلع عنه ما كان فيه من تعريفه وكساه التعريف بإضافته إياه إلى الضمير (١) فهذا معنى قول أبي علي: (يقدّر فيه التنكير والشيوع كما يقدّر فيه ذلك إذا ثنّى) وكل هذا يقوي قراءة ابن عامر.
وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء عنه: (يطلبون ثواب الله ويعملون ابتغاء مرضاة الله، لا يعدلون بالله شيئًا) (٢).
وقال أهل المعاني: (في هذا قولين: أحدهما: أن معناه: يريدون طاعته (٣)، كأنه بمعنى الوجه الذي وجههم فيه وهو طاعتهم له). ونحو من هذا قال الزجاج فقال: (أعلم الله أنهم يريدون ما عنده، وشهد لهم بصدق النيات، وأنهم مخلصون في ذلك له، فقال: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، أي: (يريدون وجه الله عز وجل ويقصدون الطريق الذي أمرهم بقصده) (٤)، وكان الزجاج ذهب في معنى الوجه إلى الجهة والطريق -وذكرنا هذا مشروحًا في قوله تعالى: ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥]- وعلى هذا ﴿وَجْهَهُ﴾: جهته
= منسوب إلى اليمن. والشاهد: زيدنا، زيدكم، حيث أجرى زيدًا مجرى النكرات فأضافه. انظر: "شرح شواهد المغني للسيوطي" ١/ ١٦٥.
(١) ما تقدم قول ابن جني في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٤٥٠ - ٤٥٢، بتصرف واختصار.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٤٥، والبغوي ٣/ ١٤٧، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٣٦، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٢٣، قال: (يريدون بذلك وجه الله ورضاه) ا. هـ.
(٣) هنا وقع اضطراب في نسخة (ش) فوقع تفسير هذه الآية في ١٠٠ ب.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٥١.
167
التي أمر بقصدها. [و] (١) القول الثاني: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الله﴾ أي: يريدونه إلا أنه يؤتى بلفظ الوجه للتعظيم بتفخيم الذكر، كما يقال: هذا وجه الرأي، وأشار أبو إسحاق إلى هذا المعنى فقال في سورة الكهف: (أي: لا يقصدون بعبادتهم إلا إياه) (٢).
وقوله تعالى: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: (ما عليك من حساب المشركين من شيء ولا على المشركين من حسابك من شيء إنما الله الذي يثيب أولياءه ويعذب أعداءه، وأنت وأصحابك قد غفر الله لهم وصاروا إلى رحمته) (٣)، انتهى كلامه. وعلى هذا الكناية في ﴿حِسَابِهِمْ﴾ و ﴿عَلَيْهِمْ﴾ تعود إلى المشركين (٤) الذين قالوا
(١) لفظ: (الواو): ساقط من (أ).
(٢) "معاني القرآن" ٣/ ٢٨١، وأكثرهم ذكر هذه الوجوه، قال الطبري ٧/ ٢٠٥: (أي: يلتمسون بذلك القربة إلى الله والدنو من رضاه) ا. هـ. وانظر: "تأويل مشكل القرآن" ص ٢٥٤، والماوردي ٢/ ١١٨، والبغوي ٣/ ١٤٧، وابن عطية ٥/ ٢١٠، وابن الجوزي ٣/ ٤٧، والرازي ١٢/ ٢٣٦، والقرطبي ٦/ ٤٣٢، وهذا مجاز وتأويل والأولى الحمل على الحقيقة، قال السمرقندي ١/ ٤٨٧: (يعني: يريدون بصلواتهم وجه الله تعالى) ا. هـ. وقال ابن كثير ٢/ ١٥١: (أي: يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم) ا. هـ. وقال ابن القيم في "مختصر الصواعق" ٣/ ٩٩٢ - ١٠٢٣: (وجه الرب جل جلاله حيث ورد في الكتاب والسنة فليس بمجاز بل على الحقيقة، وصرفه عن هذا خروج عن الأصل والظاهر بلا موجب، وحمله على الثواب المنفصل من أبطل الباطل، فإن اللغة لا تحتمل ذلك، ولا يعرف أن الجزاء يسمى وجهًا للمُجازى) ا. هـ ملخصًا، وانظر: المفسرون بين التأويل والإثبات في "آيات الصفات" للمغراوي ص ٥٩ - ٧٤.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٤٨٧، و"الكشاف" ٢/ ٢٢، ابن عطية ٥/ ٢١٠، ورجح عودة الضمير في: ﴿حِسَابِهِمْ﴾ و ﴿عَلَيْهِمْ﴾ على المشركين والضمير في =
168
للنبي - ﷺ - أن يطرد عنه الفقراء، ومعناه: الإبعاد بينه وبينهم، ونهي النبي - ﷺ - عن استمالتهم بتقريبهم. يقول: ليس عليك من حسابهم من شيء إن كفروا وكذبوا فتطرد الفقراء لتدني مجلسهم منك ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي: ليس ثوابك عليهم حتى تلين لهم وهو معنى قول ابن عباس: (إنما الله الذي يثيب أولياءه ويعذب أعداءه) فهذا وجه، والمفسرون (١) يردون الكناية إلى ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ وهم الفقراء وذلك أشبه بالظاهر؛ لأن الكناية في قوله: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ عائدة على الفقراء لا محالة، فكذلك ما قبله من الكناية أشبه أن تعود عليهم، وعلى هذا ذكروا في قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [قولين] (٢):
أحدهما: ما عليك من عملهم ومن حساب عملهم من شيء، وهذا يروى عن الحسن (٣) وابن عباس (٤).
قال أهل المعاني: (هذه القصة شبيهة بقصة (٥) نوح عليه السلام إذ قال له قومه: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١١] فأجابهم نوح: ﴿قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ [الشعراء: ١١٢ - ١١٣]، وعنوا بقولهم: ﴿الْأَرْذَلُونَ﴾ الحاكة والمحترفين
= ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ على الضعفاء من المؤمنين، ويؤيده أن ما بعد الفاء سبب لما قبلها.
(١) ورجح هذا القول الرازي ١٢/ ٢٣٦، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٣٧، والسمين في "الدر" ٤/ ٦٤٤ - ٦٤٥.
(٢) لفظ: (قولين) ساقط من (ش).
(٣) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٤٧، وذكره ابن عطية ٥/ ٢١١، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٣٦ عن الحسن والجمهور.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) ذكره الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٥١ - ٢٥٢، وانظر: "تفسير الرازي" ١٢/ ٢٣٧.
169
بالحرف الوضيعة، فقال نوح: ﴿وَمَا عِلْمِى﴾ بعملهم، أي: وجه مكاسبهم، [ما حساب] (١) عملهم إلا على الله، فوض دناءة مكاسبهم إلى الله تعالى أي: أنه أعلم بعملهم وما لي ولذلك، وكذلك في هذه الآية كان هؤلاء الفقراء يعملون بالنهار لقوتهم ويرجعون إلى مسجد رسول الله - ﷺ - فازدراهم المشركون لفقرهم وحاجتهم إلى الأعمال الخسيسة لقوتهم، وهمّ النبي - ﷺ - برفع المشركين عليهم في المجلس فقيل له: ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [أي: لا يلزمك عار بعملهم ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾] (٢) ذكر تأكيدًا للمطابقة وازدواج الكلام، وإن كان مستغنى عنه بالأول)، وإلى هذا المعنى أشار الزجاج (٣).
القول الثاني: ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم، ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، أي: ليس رزقك عليهم ولا رزقهم عليك وإنما يرزقك وإياهم الله الرازق، فدعهم يدنون منك ولا تطردهم (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ جواب لقوله: ﴿وَلَا تَطْرُدِ﴾ في أول الآية (٥)، ومعناه: فتكون من الضارين لنفسك بالمعصية؛ قاله ابن عباس (٦).
(١) لفظ: (ما حساب) ساقط من (أ).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من أصل (أ)، وملحق بالهامش.
(٣) لم أقف عليه في "معانيه"، وفي "الكشاف" ٢/ ٢٢ نحوه.
(٤) هذا اختيار الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٠٦.
(٥) هذا قول الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٠٦، والزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٥٢، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٤٣٠، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٥٣، وانظر: "الدر المصون" ٤/ ٦٤٦.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٣.
170
وهذا الظُّلمُ معناه: النقصان، أي: ينقص ثوابك بطردهم لو طردتهم، والظلم بمعنى: النقص معروف في اللغة (١) يقال: ظلم حقه، وهو كثير في القرآن -وقد ذكرنا ذلك-. وقال ابن زيد (٢): (﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (لهم بطردهم)، وهذا قول حسن) أي: إنهم لم يستحقوا منك الطرد فإذا طردتهم فقد ظلمتهم (٣).
٥٣ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ الآية، قال المفسرون (٤): (أي: وكما ابتلينا قبلك الغني بالفقير كما ذكرنا في قصة نوح وكما قال في قوم صالح: ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ لِلَّذِينَ (٥) اسْتُضعِفُوا ﴿إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الأعراف: ٧٦]، ابتلينا أيضًا هؤلاء بعضهم ببعضٍ، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾) [الفرقان: ٢٠]، وهذا معنى قول ابن عباس (٦) في رواية عطاء.
(١) الظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقه أو مكانه. والظلم: الميل عن القصد ومجاوزة الحق.
انظر: "العين" ٨/ ١٦٢، و"الجمهرة" ٢/ ٩٣٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٤٨، و"الصحاح" ٥/ ١٩٧٧، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤٦٨، و"المجمل" ٢/ ٦٠١، و"المفردات" ص ٥٣٧، و"اللسان" ٥/ ٢٧٥٦ (ظلم).
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٩ بسند جيد.
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٢/ ٢٣٧.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٠٦، والسمرقندي ١/ ٤٨٧، والماوردي ٢/ ١١٨، وأخرجه الطبري بسند جيد عن قتادة.
(٥) هكذا جاء سياق الآية ولعله وهم، فليس فيها: للذين استضعفوا.
(٦) أخرج الطبري ٧/ ٢٠٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٢٩٩ بسند جيد عنه قال: (جعل بعضهم أغنياء وبعضم فقراء، فقال الآغنياء للفقراء: ﴿أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ أي: هداهم الله، وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية) ا. هـ. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٦، ومعاني الفتنة في "تأويل مشكل القرآن" ص ٤٧٢ - ٤٧٤.
171
وقال الكلبي: (ابتلينا الشريف بالوضيع، وابتلى هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي، فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله حمي (١) آنفًا أن يسلم، ويقول: سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم) (٢). قال أهل المعاني: (وإنما قال: ﴿فَتَنّا﴾ وهو تعالى لا يحتاج إلى الاختبار؛ لأنه عاملهم معامله المختبر) (٣).
وقوله تعالى ﴿لِيَقُولُوا﴾ هذه اللام تسمى لام العاقبة (٤)، كأن المعنى: فعلنا هذا ليؤول أمرهم إلى هذا القول (٥).
(١) حمى بفتح الحاء وكسر الميم من الشيء حَمِيَّة، ورجل حمي الأنف، أي: أنف أن يضام، وفلان ذو حمية أي: غضب وأنَفَة: انظر: "اللسان" ٢/ ١٠١٤ (حمى)، وأَنِف بفتح الهمزة والنون: استنكف وكره، ويقال: هو أنف بسكون النون للعضو أي: اشتد غضبه وغيظه من طريق الكناية، والمراد هنا أخذته الحِميَة من الغيرة والغضب. انظر: "اللسان" ١/ ١٥٢ (أنف).
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ص ١٧٨/ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٤٧، وابن الجوزي ٣/ ٤٧، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٢٣ (نحوه).
(٣) انظر: "المفردات" ص ٦٢٣ (فتن)، و"بدائع التفسير لابن القيم" ٢/ ١٥٠.
(٤) أي: لبيان عاقبة الشيء ومآله، ويسميها الكوفيون لام الصيرورة، وبعضهم يسميها لام العلة؛ لأنها مستعارة لما يشبه التعليل، قال ابن هشام في "المغني" ١/ ٢١٤: (ومن معاني اللام الصيرورة وتسمى لام العاقبة ولام المآل. وأنكر البصريون ومن تابعهم لام العاقبة) ا. هـ. وانظر: "اللامات للزجاج" ص ١١٩، و"معاني الحروف للرماني" ص ٥٦، و"الصاحبي" ص ١٥٢، و"اللامات للهروي" ص ١٨٢، و"رصف المباني" ص ٣٠١.
(٥) قال السمين في "الدر" ٤/ ٦٤٧: (الأظهر -وعليه، أكثر المعربين والمفسرين- أنها لام كي، والتقدير: ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاءً وامتحانًا. وقيل: إنها لام الصيرورة، أي: العاقبة، ويكون ما بعدها صادرا على سبيل الاستخفاف) ا. هـ ملخصًا، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٤٩، و"المشكل" ١/ ٢٥٣، و"التبيان" ١/ ٣٣٥، و"الفريد" ٢/ ١٥٤، ورجح كونها لام العاقبة ابن عطية ٥/ ٢١١.
172
وقوله تعالى: ﴿أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ يعني: الضعفاء والفقراء والاستفهام معناه: الإنكار (١) كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة أو خصّوا بمنة، فقال الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ أي: بالذين يشكرون نعمته إذا منّ عليهم بالهداية أي: إنما يهدي إلى دينه من يعلم أنه يشكر نعمته، هذا معنى قول المفسرين (٢)، والاستفهام في قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ﴾ تقرير: أي أنه كذلك (٣)، كقول جرير:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطَايَا (٤)
٥٤ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ الآية قال ابن عباس: (نزلت في أصحاب النبي - ﷺ - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم (٥).
(١) انظر: "الفريد" ٢/ ١٥٤.
(٢) انظر: الطبري ٧/ ٢٠٧، والسمرقندي ١/ ٤٨٧، وابن عطية ٥/ ٢١٢، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٥١.
(٣) انظر: "الفريد" ٢/ ١٥٥.
(٤) "ديوانه" ص ٧٧، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٦، و"طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٣٧٩ - ٤١٠، ٤١٨، ٤٩٤، و"الشعر والشعراء" ص ٣٠٧، و"الخصائص" ٣/ ٢٦٩، و"اللسان" ٨/ ٤٥٢٤ (نقص)، و"المغني لابن هشام" ١/ ١٧، وبلا نسبة في "المقتضب" ٣/ ٢٩٢، الخصائص ٢/ ٤٦٣، و"رصف المباني" ص ١٣٦، وتكملته:
وَأَنْدَى العَالَمِينَ بطُونَ رَاحِ
والمطايا: جمع مطية، وهي الدابة، وأندى: أسخى، وراح: جمع راحة، وهي الكف. والشاهد: (ألستم) حيث جاءت همزة الاستفهام للإيجاب والتقرير وتحقق الكلام، أي: أنتم خير من ركب المطايا، انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي ١/ ٤٣.
(٥) ذكره القرطبي ٦/ ٤٣٥، عن ابن عباس، وذكره الثعلبي ١٧٨ أ، والبغوي ٣/ ١٤٨، وابن الجوزى ٣/ ٤٨، والخازن ٢/ ١٣٨ عن عطاء.
173
وقال عكرمة (١) والحسن (٢): (نزلت في الذين سأل المشركون طردهم). قال عكرمة: (وكان النبي - ﷺ - إذا رآهم بدأهم بالسلام، ويقول: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام" (٣)، وقوله: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ﴾ ﴿إِذَا﴾ ظرف للقول أي: قل سلام عليكم إذا جاؤوك، و ﴿جَاءَكَ﴾ في موضع جر؛ لأن ﴿إِذَا﴾ مضاف إليه بمنزلة (٤) حين ﴿جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ أي: يصدقون [بحججنا] (٥) وبراهيننا.
(١) ذكره الثعلبي ١٧٨ أ، والواحدي في "أسباب النزول" ص ٢٢١، والبغوي ٣/ ١٤٨.
(٢) لفظ: (الحسن) ساقط من (ش)، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٤٨، وابن الجوزي ٣/ ٤٨، عن الحسن وعكرمة، وذكره هود الهواري ١/ ٥٢٥، عن الحسن، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٣٩: (هذا هو قول الجمهور، والظاهر أنه يراد به المؤمنون من غير تخصيص) ا. هـ
(٣) الحديث بهذا اللفظ لم أقف على سنده، وفي "الدر المنثور" ٣/ ٢٥، قال: (أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ قال: كانوا إذا دخلوا على النبي - ﷺ - بدأهم فقال: "سلام عليكم" وإذا لقيهم فكذلك أيضًا) ا. هـ وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢١: في الآية (أن النبي - ﷺ - قال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم" قال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) ا. هـ.
(٤) قال السمين في "الدر" ٤/ ٦٤٨: (﴿إِذًا﴾ منصوب بجوابه، أي: ﴿فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ وقت مجيئهم أي: أوقع هذا القول كله في وقت مجيئهم إليك، وهذا معنى واضح) ا. هـ وقال العكبري في "التبيان" ٣٣٥، والهمداني في "الفريد" ٢/ ١٥٥: (العامل في ﴿إِذًا﴾ معنى الجواب، أي: إذا جاؤوك سلم عليهم)، وذكر هذا القول السمين في "الدر" وقال: (لا حاجة تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى؛ لأن كونه يبلغهم السلام والإخبار بأنه كتب على نفسه الرحمة وأنه من عمل سوءًا بجهالة غفر له لا يقوم مقامه السلام فقط وتقديره: يفضي إلى ذلك) ا. هـ.
(٥) في (أ): (بجحتنا).
174
قال الزجاج (١): ﴿فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ (السلام (٢) هاهنا يحتمل تأويلين أحدهما: أن يكون مصدر سلمت تسليمًا وسلامًا مثل: السراح من التسريح والأداء من التأدية، ومضى سلمت عليه سلامًا [أي] (٣): دعوت له بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه، فالسلام بمعنى التسليم. الثاني: أن يكون السلام جمع السلامة، فمعنى قولك: السلام عليكم [السلامة عليكم (٤)]، ويؤكد هذا الوجه قول الشاعر (٥):
تُحَيَّ بالسَّلاَمَةِ أُمُّ بَكْرٍ وَهَلْ لَكِ بَعْدَ قَومِكِ مِنْ سَلاَمِ)
والوجهان ذكرهما الزجاج وابن الأنباري، قال أبو بكر: (قال قوم: السلام الله (٦) تعالى، ومعنى السلام عليكم: الله عليكم، أي: على حفظتكم) (٧)، وهذا الوجه يبعد في هذه الآية لتنكير السلام في قوله:
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٢.
(٢) انظر: "العين" ٧/ ٢٦٥، و"الجمهرة" ٢/ ٨٥٨، و"الصحاح" ٥/ ١٩٥١، و"المجمل" ٢/ ٤٦٩، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٩٠، و"المفردات" ص ٤٢١ (سلم).
(٣) لفظ: (أي) ساقط من (أ).
(٤) لفظ: (السلامة عليكم) ساقط من (ش).
(٥) الشاهد لأبي بكر بن الأسود بن شعوب الليثي، وهو شداد بن الأسود في "سيرة ابن هشام" ٢/ ٤٠٠، و"الروض الأنف" ٣/ ١١٧، ولعمرو بن سُمي بن كعب الليثي، وقد ينسب إلى أمه شعوب الخزاعية في كتاب "من نسب إلى أمه لابن حبيب" ٤٩، وبلا نسبة في "تفسير غريب القرآن" ص١٧٠، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ٢١٥، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٤٢، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٢٤ - ٢٨، و"اللسان" ٤/ ٢٠٧٧ (سلم).
(٦) السلام اسم من أسماء الله تعالى مأخوذ من السلامة، فهو سبحانه السالم من كل ما ينافي كماله ومن مماثلة أحد من خلقه. انظر: "الأسماء والصفات" للبيهقي ص ٥٣، و"المقصد الأسنى" للغزالي ص ٦٧، و"شرح أسماء الله" للرازي ص ١٨٧
(٧) "الزاهر" ١/ ٤٦.
175
﴿فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ (١)، ولو كان معرفًا لصح هذا الوجه (٢).
وقال أبو الهيثم: (السلام والتحية بمعنى واحد معناهما: السلامة من جميع الآفات) (٣)، فأما اللغات في السلام فقد ذكرنا ذلك في سورة هود في قوله: ﴿قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ [هود: ٦٩].
وقوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: قضى [لكم] (٤) ﴿رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾) (٥).
قال أبو إسحاق: (معنى ﴿كَتَبَ﴾: أوجب ذلك إيجابًا مؤكدًا، وإنما خوطب الخلق بما يعقلون وهم يعقلون أن توكيد الشيء المؤخّر إنما يحفظ بالكتاب قال: وجائز أن يكون كتب ذلك في اللوح المحفوظ) (٦) وقد سبق بيان هذا المعنى في أول السورة.
(١) في (ش): ﴿قل سلام....﴾، وهو تحريف.
(٢) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ٣.
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٤٢، و"اللسان" ٤/ ٢٠٧٧ (سلم)، وقال أبو علي في "الحجة" ٢/ ٢٩٨، ٤/ ٣٥٩ - ٣٦٣: (السلام مصدر سَلَّمْتُ، والسلام جمع سلامة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى، والسلام شجر، والسلام البراءة، وأكثر استعماله بغير (أل) وذاك أنه في معنى الدعاء حمل غير المعهود، وجاء بأل محمول على المعهود) ا. هـ.
(٤) لفظ: (لكم) ساقط من (ش).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٤٨، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٢٤، قال في الآية: (أوجب ﴿رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ لمن تاب) ا. هـ
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٤، وقال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" ٢/ ١٥٢: (أي. أوجبهما على نفسه الكريمة تفضلًا منه وإحسانًا وامتنانًا) ا. هـ
انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢١٤، و"الفتاوى" ١٨/ ١٤٨ - ١٥١، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٤٢.
176
وقوله تعالى: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ قال ابن عباس: (يريد: إن ذنوبكم جهل، ليس بكفر ولا جحود) (١).
وقال الحسن (٢) ومجاهد (٣) والضحاك (٤): (كل من عمل بخطيئة فهو جاهل).
قال أبو إسحاق: (معنى الجهالة هاهنا يحتمل أمرين أحدهما: أنه عمله وهو جاهل بمقدار المكروه فيه، أي: لم يعرف أن فيه مكروهًا، والآخر: أنه علم أن عاقبته مكروهة، ولكنه آثر العاجل فجُعل جاهلاً بأنه آثر القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة) (٥)؛ هذا كلامه، والوجه الثاني (٦) أقواهما، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ الآية [النساء: ١٧]، وقد ذكرنا ما فيه هناك.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: رجع عن ذنبه ولم يصرّ على ما فعل ﴿وَأَصْلَحَ﴾ عمله ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
(١) أخرج الطبري في "تفسيره" ٤/ ٢٩٩، بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (من عمل السوء فهو جاهل ومن جهالته عمل السوء)، وذكر القرطبي في "تفسيره" ٥/ ٩٢، نحوه عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي.
(٢) قال الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٢٠: (قال الحسن ومجاهد والضحاك: الجهالة الخطيئة) ا. هـ. وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ٣٧: (قال الحسن وعطاء وقتادة والسدي في آخرين: إنما سموا جهالًا لمعاصيهم، لا أنهم غير مميزين) ا. هـ. وذكر قول الحسن الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٥.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ١٤٩، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٤/ ٢٩٩، ٧/ ٢٠٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠١، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٦ - ٢٧.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٠٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠١ بسند ضعيف.
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٤.
(٦) انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢١٦، والرازي ١٣/ ٥.
177
واختلف القرّاء (١) في قوله: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ﴾ فـ ﴿فَأَنَّهُ﴾ فقرأ بعضهم بالفتح فيهما أما فتح الأولى فعلى التفسير للرحمة، كأنه قيل: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ﴾.
وأما فتح الثانية فعلى أن تجعله بدلاً من الأولى كقوله تعالى: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٥]، وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ﴾ [الحج: ٤]، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [التوبة: ٦٣]، وهذا معنى قول الفراء (٢) والزجاج (٣). قال أبو علي: (من فتح الأولى جعلها بدلاً من ﴿الرَّحْمَةَ﴾، وأما التي بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبرًا تقديره: فله أنه ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: فله غفرانه، أو أضمر مبتدأ يكون أن خبره كأنه فأمره أنه ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وعلى هذا التقدير يكون الفتح في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ (٤) [التوبة: ٦٣] تقديره: فله أن ﴿لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ وإن شئت قدرت، فأمره أن ﴿لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ فيكون خبر هذا المبتدأ المضمر.
(١) (قرأ نافع (أَنَّهُ) بفتح الهمزة: (فَإِنَّهُ) بكسر الهمزة، وفتحهما جميعًا عاصم وابن عامر، وكسرهما الباقون).
انظر: "السبعة" ص ٢٥٨، و"المبسوط" ص ١٦٨، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٨، و"التيسير" ص ١٠٢، و"النشر" ٢/ ٢٥٨.
(٢) انظر: "معاني القرآن للفراء" ١/ ٣٣٦ - ٣٣٧.
(٣) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٣ - ٢٥٤، و"الأخفش" ٢/ ٢٧٥ - ٢٧٦، و"النحاس" ٢/ ٤٣١ - ٤٣٢، و"إعراب القرآن للنحاس" ١/ ٥٣٨.
(٤) في (أ): (تعلموا) بالتاء.
178
قال: ومن ذهب في هذه الآية إلى أن التي بعد الفاء تكرير للأولى لم يستقم قوله، وذلك أن ﴿مَنْ﴾ لا تخلو من أن [تكون] (١) للجزاء الجازم الذي اللفظ عليه أو [تكون] (٢) موصولة فلا يجوز أن يقدر التكرير مع الموصولة؛ لأنها لو كانت موصولة لبقي المبتدأ بلا خبر ولا يجوز ذلك أيضًا في الجزاء الجازم؛ لأن الشرط يبقى بلا جزاء فإذا لم يجز ذلك ثبت أنه علي ما ذكرنا من تقدير: فله أو فأمره وتكون الفاء جواب الشرط، وأيضًا فإن ثبات الفاء في قوله ﴿فَأَنَّ لَهُ﴾ يمنع من أن يكون بدلاً، ألا ترى أنه لا يكون بين البدل والمُبدل منه الفاء العاطفة ولا التي للجزاء، فإن جاءت: إنها زائدة بقي الشرط بلا جزاء فلا يجوز إذن تقدير زيادتها هنا وإن جاءت زائدة في غير هذا الموضع) (٣)، وأما من كسرهما جميعًا فعلى مذهب الحكاية كأنه لما قال: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ قال: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ودخلت الفاء جوابًا للجزاء وكُسِرت إن لأنها على ابتداء وخبر، كأنك قلت: فهو ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، إلا إنْ الكلام بإنْ أوكد؛ هذا قول الزجاج (٤).
(١) في (ش): (يكون).
(٢) في (ش): (يكون).
(٣) "الحجة لأبي علي" ٣/ ٣١١ - ٣١٣.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٣ - ٢٥٤، وقال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ١٥/ ٢٧٦ - ٢٧٧: (الأحسن في هذا أن يقال: كل واحدة من هاتين الجملتين جملة مركبة مؤكدة، فهما تأكيدان مقصودان لمعنيين مختلفين، ألا ترى تأكيد قوله. ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بإن غير تأكيد (مَن عَمِلَ سُوء) له بأن، وهذا ظاهر لا خافاء به، وهو كثير في القرآن وكلام العرب) ا. هـ. ملخصًا.
179
وقال أبو علي: (أما كسر إن في قوله تعالى: ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فلأن ما بعد الفاء حكمه الابتداء، ومن ثم حمل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥]، على إرادة المبتدأ بعد الفاء وحذفه، وقرأ نافع الأولى بالفتح والثانية بالكسر أبدل الأولى من الرحمة واستأنف ما بعد الفاء) (١). قال الفراء: (والكسر بعد الفاء حسن؛ لأنه يحسن في موضع إن بعد الفاء هو ألا ترى أنه لو قيل: ﴿ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ﴾ فهو ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لكان صوابًا، فإذا حسن دخول هو حسن الكسر) (٢).
٥٥ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ الآية، يقول: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين كذلك نميّز ونبيّن لك حجتنا وأدلتنا في كل حق ينكره أهل الباطل (٣)، ومعنى التفصيل (٤): التمييز للبيان، ولهذا فسر بالتبيين وهو قول ابن عباس (٥)
(١) "الحجة لأبي علي" ٣/ ٣١١ - ٣١٣.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٣٣٧، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٥٥ - ٣٥٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٧ - ١٥٨، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٣٩ - ١٤٠، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٥٢ - ٢٥٣، و"الكشف" ١/ ٤٣٣، و"الدر المصون" ٤/ ٦٥٠ - ٦٥٤.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٤٨، الرازي ١٣/ ٦، القرطبي ٦/ ٤٣٦.
(٤) الفَصْل: إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فُرجة، ويستعمل في الأقوال والأفعال، فهو أصل يدل على تمييز الشيء من الشيء وإبانته وتمييزه عنه، ويقال: تفصيل الآيات بيانها، وتفصيلها بالفواصل.
انظر: "العين" ٧/ ١٢٦، و"الجمهرة" ٢/ ٨٩١، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٩٤، و"الصحاح" ٥/ ١٧٩٠، و"المجمل" ٣/ ٧٢٢، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٥٠٥، و"المفردات" ص ٦٣٨، و"اللسان" ٦/ ٣٤٢٢ (فصل).
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٤.
180
وقتادة وابن زيد (١) قالوا في تفسير ﴿نُفَصِّلُ﴾: (نبيّن).
وقوله تعالى: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ عطف على المعنى كأنه قيل ليظهر الحق [وليستبين] (٢)، فترك ذكر ما هو بيّن من المعلوم وذكر ما يحتاج إلى بيانه (٣).
واختلف القراء في قوله: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ﴾ فقرأ بعضهم (٤) بالتاء، ورفع السبيل على أنها فاعل الاستبانة، والسبيل (٥) يؤنث ويذكر، فالتأنيث كقوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ [يوسف: ١٠٨] والتذكير كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ [الأعراف: ١٤٦] ويقال: استبان الشيء (٦) واستبنته، ومن قرأ بالياء ورفع السبيل كان الفعل أيضًا مسندًا إلى السبيل إلا أنه ذكّر السبيل وقرأ نافع ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ بالتاء (سَبِيلَ) نصبًا، والتاء
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٢١٠ بسند جيد عن قتادة وابن زيد. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٦.
(٢) في (ش): ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ بالتاء.
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ٦.
(٤) قرأ نافع: (وَلِتَسْتَبِينَ) بالتاء، و (سَبِيلَ) بالنصب. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية: (وليستبين) بالياء، و (سبيلُ) بالرفع. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم في رواية: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ بالتاء، و (سبيلُ) بالرفع.
انظر: "السبعة" ص ٢٥٨، و"المبسوط" ص ١٦٩، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٩، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٨.
(٥) انظر: "المذكر والمؤنث للفراء" ص ٨٧، ولابن الأنباري ١/ ٤٢٣، ولابن التستري الكاتب ص ٨١.
(٦) هذه القراءات دائرة على تعدي استبان ولزومه وتذكير سبيل وتأنيثه، وكل ذلك لغة فصيحة، وتذكيره لغة تميم ونجد، والتأنيث لغة الحجاز، ويقال: استبان الصبح واستبنت الشيء، والخطاب للنبي - ﷺ - ولأمته، أي: لتستبينوا ﴿سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾.
انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٣٧، والأخفش ٢/ ٢٧٦، والزجاج ٢/ ٢٥٤، والزاهر ٢/ ١٧٩، و"الدر المصون" ٤/ ٦٥٥.
181
في هذه القراءة للخطاب أي: ﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ أيها المخاطب (١).
قال أهل المعاني: (وخص ﴿سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ بالذكر، والمعنى: ﴿سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ وسبيل المؤمنين فحذف؛ لأن ذكر أحد القبيلين يدل على الآخر، كقوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] ولم يذكر البرد لدلالة الفحوى عليه. وهذا قول الزجاج (٢) وأبي علي (٣).
ودل كلام الزجاج على وجه آخر وهو: (أن يكون سبيل المؤمنين مضمنا به الكلام؛ لأن ﴿سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ إذا بانت فقد بانت معها سبيل المؤمنين كما تقول: زيد ضاربٌ، تضمن هذا الكلام ذكر المضروب) (٤). قال ابن عباس: (﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ يا محمد ﴿سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ يريد: ما جعلوا لله في الدنيا من الشرك وما بيّنت من سبيلهم يوم القيامة ومصيرهم إلى الخزي) (٥).
٥٦ - قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يعني: الأصنام، ومعنى ﴿تَدْعُونَ﴾: تعبدون، ويجوز أن يكون المعنى: تدعونهم (٦) في مهمّات أموركم على معنى العبادة، ومعنى ﴿مِنْ﴾ في قوله
(١) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣١٤ - ٣١٦، بتصرف واختصار، وانظر: "إعراب القراءات" ١/ ١٥٨، و"الحجة لابن خالويه" ص ١٤١، ولابن زنجلة ص ٢٥٣، و"الكشف" ١/ ٤٣٣.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٥.
(٣) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣١٦.
(٤) وذكر هذا الوجه أيضاً النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٣٢ - ٤٣٣، واقتصر عليه الأزهري في "معاني القراءات" ١/ ٣٥٨.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٠، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٠.
(٦) أي: الأصنام، وقد ذكر الوجهين ابن عطية ٥/ ٢١٨، وابن الجوزي ٣/ ٥١، والقرطبي ٦/ ٤٣٧.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إضافة الدعاء إلى ﴿دُونِ﴾ بمعنى: ابتداء الغاية؛ لأن كل عبادة كانت لغير الله فهو من جملة عبادة من يُعبد من دون الله فجعل ﴿مِنْ دُونِ﴾] (١) على جهة ابتداء الغاية (٢).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد: دينكم) (٣).
قال أبو إسحاق: (إنما عبدتموها [على طريق الهوى لا] (٤) على طريق البينة والبرهان) (٥).
وقوله تعالى: ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا﴾ معنى ﴿إِذًا﴾ الشرط، المعنى: قد ضللت إن عبدتها (٦)، وهو معنى قول ابن عباس (﴿قَدْ ضَلَلْتُ﴾ إن أنا فعلت (٧)، ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾: من الذين سلكوا سُبَلَ الهدى) (٨).
٥٧ - قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ الآية. معنى البينة: الدلالة التي تفصل الحق من الباطل (٩) قال ابن عباس: (يريد: على يقين من ربي (١٠).
(١) لفظ: (دون) ساقط من (ش).
(٢) ذكر هذا الوجه الهمداني في "الفريد" ٢/ ١٥٨.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٠، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٢٥٥ نحوه.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٥.
(٦) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٥٥، وذكره ابن عطية ٥/ ٢١٨، وابن الجوزي ٣/ ٥١.
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٥، وفيه: (﴿قَدْ ضَلَلْتُ﴾ عن الهدى ﴿إِذًا﴾ إن فعلت ذلك).
(٨) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٤٩.
(٩) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٥١.
(١٠) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٠، وقال في "تنوير المقباس" ٢/ ٢٥: (على بيان من ربي وبصيرة من أمري وديني) ا. هـ.
183
وقال أبو إسحاق: (أنا على أمر بين لا متّبع لهوًى) (١).
وقال بعض أهل المعاني: (البيّنة هاهنا المعجزة يعني: القرآن) (٢)
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَّبْتُمْ بِهِ﴾ هذه الهاء كناية عن البيان، أيَ: وكذبتم بالبيان؛ لأن البيّنة والبيان بمعنى واحد، ويجوز أن تكون الكناية عن معنى البيّنة، وهو ما أتاهم به من القرآن؛ لأنه هو البيّنة، فيكون المعنى: وكذبتم بما أتيتكم به، هذا قول الزجاج (٣).
وقال غيره: (معناه: وكذبتم بربي؛ لأنه قد جرى ذكره) (٤).
وقوله تعالى: ﴿مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ قال ابن عباس (٥) والحسن (٦) (يعني: العذاب، كانوا يقولون: يا محمد، ائتنا بالذي تعدنا، كقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ [الحج: ٤٧]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا﴾) الآية [الأنفال: ٣٢].
قال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون الذي استعجلوا به الآيات التي اقترحوها عليه، فأعلم الله أن ذلك عنده فقال: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾) (٧).
(١) "معانى القرآن" ٢/ ٢٥٥ - ٢٥٦.
(٢) انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢١٨.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٦.
(٤) هذا قول الطبري ٧/ ٢١١، ورجحه أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٤٢، والسمين في "الدر" ٤/ ٦٥٧، وانظر: ابن الجوزي ٣/ ٥١، والقرطبي ٦/ ٤٣٨.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٥، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥١، وابن الجوزي ٣/ ٥١، عن ابن عباس والحسن.
(٦) ذكره الماوردي ١/ ١٢١.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٦، وأكثرهم على أن المراد العذاب والظاهر العموم من العذاب والآيات، انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٤، والطبري ٧/ ٢١٣، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٣٢، والسمرقندي ١/ ٤٨٩، وابن عطية ٥/ ٢١٩، والقرطبي ٦/ ٤٣٩، و"البحر" ٤/ ١٤٢، وابن كثير ٢/ ١٥٣.
184
قال ابن عباس: (يريد: أن ذلك عند ربي) (١).
قال أهل المعاني: قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (أي: الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب أو الحكم الذي يفصل كل حق من باطل لا يكون على هذا الإطلاق إلا لله جل وعز) (٢).
وقوله تعالى: ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ﴾، أي: يقول الحق، ومعناه: أن جميع ما أنبأ به وأمر به فهو من أقاصيص الحق (٣)، كقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: ٣]، هذه قراءة أهل الحجاز (٤) وقرأ الباقون ([يَقْضِ] الْحَقَّ) (٥) وكتب ([يَقْضِ] (٦) الْحَقَّ) في المصاحف بغير ياء؛ لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين (٧) كما كتبوا ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨)﴾ [العلق: ١٨] و ﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ [القمر: ٥].
وقوله تعالى: ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ﴾ (٨) قال أبو إسحاق: (فيه وجهان: جائز أن يكون ﴿الْحَقَّ﴾ صفة للمصدر، المعنى: يقضي القضاء الحق، ويجوز أن يكون ﴿يَقْضِ الْحَقَّ﴾: يصنع الحق؛ لأن كل شيء صنعه الله عز وجل فهو
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٥ وفيه: (ما الحكم بنزول العذاب إلا لله) ا. هـ
(٢) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ٧.
(٣) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٥٧.
(٤) (قرأ ابن كثير وعاصم ونافع: (يَقُصُّ) بضم القاف وصاد مهملة مشددة مرفوعة، من القصص، وقرأ الباقون بسكون القاف وضاد معجمة مخففة مكسورة من القضاء، ولا خلاف أنه بغير ياء في الوصل). انظر: "السبعة" ص ٢٥٩، و"المبسوط" ص ١٦٩، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٠، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٨.
(٥) في النسخ (يقضي) بالياء، وهو خلاف الرسم.
(٦) في (أ): (يقضي) بالياء، وهو خلاف الرسم.
(٧) انظر: "الحجة" لابن خالويه ص ١٤٠، و"الكشف" ١/ ٤٣٤.
(٨) في النسخ (يقضي) بالياء.
185
حق) (١)، وعلى هذا يكون (الحق) مفعولًا به وقضى بمعنى: صنع، كقول الهذلي (٢):
وَعَلَيْهَما مَسْروُدتانِ قَضاهُما... داوُدُ....................) (٣)
أي: صنعهما داود، واحتج أبو عمرو لهذه القراءة (٤) بقوله ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ قال: (والفصل في القضاء ليس في القصص) (٥)، قال أبو علي: (القصص هاهنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول أيضًا في نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ [الطارق: ١٣]، وقال: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ [هود: ١]، وقال: ﴿نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ [الأنعام: ٥٥] فقد حمل الفصل على القول واستعمل معه كما جاء مع القضاء) (٦).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٥٦، وفيه زاد: (فهو حق وحِكمةٌ، إلا أن ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ يدل على معنى القضاء الذي هو الحكم، فأما قضى في معنى صنع فمثله قول الهذلي...) ا. هـ وبمثل قول الزجاج قال الأزهري في "معاني القراءات" ١/ ٣٥٩ - ٣٦٠، وأبو علي في "الحجة" ٣/ ٣١٩.
(٢) الهذلي: خُوَيْلد بن خالد بن مُحرّث الهذلي، أبو ذؤيب، تقدمت ترجمته.
(٣) "شرح أشعار الهذليين" ١/ ٣٩، و"مجاز القرآن" ١/ ٥٢ - ٢٧٥، و"معاني القراءات" ١/ ٣٥٩، و"الحجة لأبي علي" ٣/ ٣١٩، ٤/ ٢٥٤، و"اللسان" ١/ ٤١٨ (تبع)، و"الدر المصون" ٢/ ٨٦، وتكملته: (أو صَنَعُ السَّوابغ تُبَّعُ) وهو من قصيدة من عيون المراثي قالها في رثاء أبنائه الذين أصابهم الطاعون، المسرودتان: درعان، وأصل السَّرْد الخرز في الأديم، والصنع: الحاذق بالعمل، وتبع، بالضم: ملك تصنع له الدروع، انظر: "جمهرة أشعار العرب" ٢٤٧.
(٤) ذكره أبو علي في "الحجة" ٣/ ٣١٨، وابن خالويه في "إعراب القراءات" ١/ ١٥٩، وابن زنجلة في "الحجة" ص ٢٥٤.
(٥) "معاني القرآن للنحاس" ٢/ ٤٣٤ - ٤٣٥.
(٦) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣١٨ - ٣١٩.
186
٥٨ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ الاستعجال: المطالبة بتعجيل الشيء قبل وقته، ولذلك كانت العجلة مذمومة (١)؛ والإسراع: تقديم الشيء في وقته، ولذلك كانت السرعة محمودة (٢) [و] (٣) قال ابن عباس: (يقول لمحمد: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ من العذاب لم أناظركم [ساعة] (٤)، ولكن الله حليم ذو أناة لا يعجل لعجلتكم) (٥).
وقوله تعالى: ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي: لا نفصل مما بيني وينكم من مطالبتي لكم بإخلاص عبادة الله ومطالبتكم بتعجيل العقوبة، فلو كان الأمر بيدي لأتيتكم [بما] (٦) تستعجلون به من العذاب (٧)، فلا يبقي بيننا مطالبة، هذا معنى قوله: ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾، وقد ذكرنا معنى ﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ عند قوله ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [الأنعام: ٨].
وقال أهل المعاني (٨): (في هذه الآية علم الله تعالى أن بعضهم يؤمن من هؤلاء الذين كانوا يستعجلون العذاب، فلذلك أخر العذاب عنهم، والنبي - ﷺ - كان لا يعلم باطن أمرهم فلهذا كان يعجل عليهم بالعقوبة [لو] (٩) كان الأمر بيده).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٤٢، و"المفردات" ص ٥٤٨ (عجل).
(٢) "المفردات" ص ٤٠٧ (سرع).
(٣) لفظ (الواو): ساقط من (ش).
(٤) لفظ (ساعة) ساقط من (أ).
(٥) ذكره المؤلف في "الوسيط" ١/ ٥١، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٢، وانظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٢٥.
(٦) في (أ): (ما).
(٧) لفظ: (من العذاب) ساقط من (أ).
(٨) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٥٢.
(٩) في (ش): (إذا).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ قال ابن عباس: (يريد: لا أحد أظلم منكم ما جهلتم شيئًا من أمري ولا كنت عندكم منذ ولدت إلى اليوم كاذبًا ولا ساحرًا ولا كاهنًا ولا مفتريًا) (١)؛ هذا كلامه يعني: أنهم ظلموه إذ كذبوه وقالوا: إنه كاذب وساحر بعد علمهم بصدقه وأمانته، فيكون في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ [ضرب] (٢) من الوعيد لهم.
وقال بعض أصحاب المعاني قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ (متصل المعنى بالذي قبله كأنه قال: أنا لا أعلم وقت عقوبة الظالمين، والله عز وجل يعلم ذلك، فهو يؤخره إلى وقته) (٣).
٥٩ - قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ الآية. المفاتح جمع مِفْتح وَمَفْتحٍ، فالمفتح بالكسر: المفتاح الذي يفتح به، والمفتح بفتح الميم الخزانة، وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مَفْتح (٤).
قال الفراء في قوله تعالى: ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾ [القصص: ٧٦] (يعني: خزائنه) (٥).
(١) لم أقف عليه.
(٢) في (ش): (ذر).
(٣) انظر: "البحر المحيط" ٤/ ١٤٣.
(٤) انظر: "العين" ٣/ ١٩٤، و"الجمهرة" ١/ ٣٨٦، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٣٢، و"الصحاح" ١/ ٣٨٩، و"مجمل اللغة" ٣/ ٧١٠، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٤٦٩، و"المفردات" ص ٦٢١، و"اللسان" ٦/ ٣٣٣٩ (فتح).
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣١٠.
188
قال السدي (١) والحسن (٢): (و ﴿مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾: خزائن الغيب)، وخو ذلك قال ابن عباس (٣) [والضحاك (٤) ومقاتل (٥) (في المفاتح أنها الخزائن).
واختلفوا في معنى ﴿الْغَيْبِ﴾ هاهنا، فقال ابن عباس] (٦) في رواية عطاء: (يريد: ما غاب عنكم من الثواب والعقاب، وما يصير إليه أمري وأمركم) (٧).
وقال مقاتل: (يعني: خزائن غيب العذاب متى ينزل بكم ﴿لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾) (٨).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٢، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠٤ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٧.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٢، عن ابن عباس والضحاك ومقاتل والسدي والحسن. وقال القرطبي في "تفسيره" ٢/ ٧: (قيل: المراد بالمفاتح خزائن الرزق، عن السدي والحسن) ا. هـ
(٣) ذكره الماوردي ٢/ ١٢١، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٢، وابن الجوزي ٣/ ٥٣، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٣ بسند ضعيف عن عطاء الخرساني عن ابن عباس ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ قال: هن خمس: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٣٤]، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٨.
(٤) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٧٨ ب، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٢، والبغوي ٣/ ١٥٠، والقرطبي ٧/ ٢.
(٥) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٤.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٧) لم أقف عليه.
(٨) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٤.
189
وروي عن ابن عباس: (خزائن الأرض والرزق ونزول العذاب) (١)، وهو قول الضحاك (٢).
وقال أبو إسحاق: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ (أي: عنده الوصلة إلى علم الغيب قال: وكل ما لا يعلم إذا استعلم يقال فيه: افتح عليَّ) (٣)، فعلى هذا المفاتح جمع [المفتح] (٤) بمعنى الفتح، كأن المعنى عنده فتوح الغيب أي: هو يفتح الغيب على من يشاء من عباده بذكره والبيان عنه والدلالة عليه، فيفتح لعباده ما [يشاء] (٥) من ذلك بإعلامهم إياه ويغلق عنهم ما شاء منه بترك دلالتهم عليه.
وقوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ قال مجاهد: (البر: القفار،
(١) ذكره الماوردي ٢/ ١٢١، وابن الجوزي ٣/ ٥٣، وأبو حيان ٤/ ١٤٤، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٢٦ نحوه.
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٧٨ ب، والبغوي ٣/ ١٥٠، والقرطبي ٧/ ٢.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٧، ونحوه ذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٣٥.
(٤) في (أ): (المُفتح)، بالضم، وفي (ش): (المَفتَح)، بسكون ثم فتح، وقال السمين في "الدر" ٤/ ٦٦٠، وابن حجر في "الفتح" ٨/ ٢٩١: (جوز الواحدي أنه جمع مفتح بفتح الميم على أنه مصدر) ا. هـ. زاد ابن حجر: (وهو بمعنى: الفتح، أي: عنده فتوح الغيب، أي: يفتح الغيب على من يشاء من عباده، ولا يخفى بعد هذا التأويل للحديث المذكور في الباب، وأن مفاتح الغيب لا يعلمها أحد إلا الله سبحانه وتعالى) ا. هـ والحديث المقصود هو ما أخرجه البخاري في صحيحه (٤٦٢٧)، كتاب التفسير باب (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) عن عبد الله بن عمر عن النبي - ﷺ - قال: "مفاتح الغيب خمس: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٣٤]، وانظر: الأحاديث في هذا الباب في مرويات الإمام أحمد في "التفسير" ٣/ ٣٧١ - ٣٧٤.
(٥) في (أ): (ما شاء).
190
والبحر: كل قرية فيها ماء) (١) وهذا عام في كل ما في المياه والأرضين من البوادي والقفار، لا يحدث فيها شيء إلا بعلم الله عز وجل.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ قال أبو إسحاق: (المعنى: أنه يعلمها ساقطة وثابتة، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، فليس تأويله إلا وأنا أعرفه في حال مجيئه فقط) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ﴾ تقديره: ولا من ﴿حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ﴾ قالوا: يعني: في الثرى تحت الأرض (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ﴾، قال ابن عباس: (يريد: ما ينبت وما لا ينبت) (٤)، وروي عنه أنه قال: (الرطب: الماء، واليابس: البادية) (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ قال صاحب "النظم" (٦): (تم
(١) ذكره الثعلبي ١٧٨ ب، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٣، وابن الجوزي ٣/ ٥٤. وقال الماوردي ٢/ ١٢١: (الجمهور وهو الظاهر أن: ما في البر ما على الأرض، وما في البحر ما على الماء. وقال مجاهد: البر: القفر، والبحر: القرى لوجود الماء فيها، فلذلك سميت بحرًا) ا. هـ. بتصرف.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٥٧، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٣٦.
(٣) انظر: "الدر المصون" ٤/ ٦٦١.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٣، وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٧٨ ب، والبغوي ٣/ ١٥١، عن عطاء فقط.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٢، وذكره الثعلبي ١٧٨ ب، والبغوي ٣/ ١٥١، وانظر: "زاد المسير" ٣/ ٥٤.
(٦) كتاب "نظم القرآن" للجرجاني مفقود، وذكر قوله السمين في "الدر" ٤/ ٦٦٢، ورجح الزمخشري ٢/ ٢٤ - ٢٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٤٦، كونه استثناء بعد استثناء للتأكيد قال أبو حيان: (هذا الاستثناء جار مجرى التوكيد؛ لأن قوله:=
191
الكلام عند قوله ﴿وَلَا يَابِسٍ﴾ ثم استأنف خبراً آخر بقوله تعالى: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ بمعنى: وهو ﴿فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ أيضًا؛ لأنك لو جعلت قوله ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ متصلًا بالكلام الأول فسد المعنى)، وبيان فساده (١) في فصل طويل ذكرناه في سورة يونس في قوله: ﴿وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (٢) [يونس: ٦١]، [ومعنى قوله ﴿فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (٣)] قال أبو إسحاق: (يجوز أن يكون الله عز وجل أثبت ذلك في كتاب من قبل أن يخلق كما قال جل وعز: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد: ٢٢]، فأعلم جل وعز أنه قد أثبت ما خلق من قبل خلقه) (٤).
قال ابن الأنباري وغيره (٥): (وفائدة كتب الله ذلك في اللوح
= ﴿وَلَا حَبَّةٍ﴾ ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ﴾ معطوف على قوله: ﴿مِنْ وَرَقَةٍ﴾ والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول: ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة، أي: إلا كرمتها، ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة) ا. هـ ملخصًا، وجعل بعضهم الاستثناء الثاني بدلاً من الأول. انظر: "غرائب الكرماني" ١/ ٣٦٣، و"البيان" ١/ ٣٢٤، و"التبيان" ١/ ٣٣٧، و"الفريد" ٢/ ١٦١.
(١) قال السمين في "الدر" ٤/ ٦٦٢: (فساد المعنى من حيث اعتقد أنه استثناء آخر مستقل، ولو جعله استثناء مؤكدًا للأول لم يفسد المعنى، وكيف يتصور تمام الكلام على قوله: ﴿وَلَا يَابِسٍ﴾ ويبتدأ بإلا، وكيف تقع إلا هكذا؟) ا. هـ. ملخصًا.
(٢) لفظ: ﴿وَلَا أَكْبَرَ﴾ ساقط من (أ).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٧، وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٣٧: (أي: إلا يعلمه علمًا يقينًا، ويجوز أن يكون المعنى: إلا قد كتبه قبل أن يخلقه، والله أعلم بما أراد) ا. هـ.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢١٣، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٣٧، و"تفسير الرازي" ١٣/ ١٠ - ١١.
192
المحفوظ مع علمه وأنه لا يفوته شيء هو أنه عز وجل كتب هذه الأشياء وأحصاها قبل أن تكون (١) لتقف (٢) الملائكة على نفاذ علمه، وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء، فيكون في ذلك عبرة للملائكة الموكلين باللوح؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث من الأمور فيجدونه موافقًا له، قال أبو بكر: ويجوز أن يقال: إن الله تبارك وتعالى ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تعظيمًا على خلقِه أمر الحساب، وإعلامًا أنه لا يفوته من جميع ما يصنعون في الدنيا شيء؛ لأن الذي يثبت ويكتب مما لا ثواب فيه ولا عقاب كان مما فيه الثواب والعقاب أولى بالكتب.
فذكر ما ذكر تبارك وتعالى: [من هذا (٣)] معظمًا ومخوفًا ودالًا على أنه لا يغيب عنه من أعمال العباد شيء) (٤)، وهذا معنى قول الحسن: (يكتبه الله رطبًا، ويكتبه يابسًا، لتعلم يا ابن آدم أن عملك أولى بالإحصاء) (٥).
٦٠ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ قال ابن عباس: (يقبض أرواحكم في منامكم) (٦). قال أبو إسحاق: (معنى: ﴿يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ أي: ينيمكم فيتوفى نفوسكم التي بها تميزون (٧) كما قال جل وعز: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر:
(١) في النسخ (يكون) بالياء، والأولى تكون بالتاء.
(٢) في (ش): (ليقف).
(٣) لفظ: (من هذا) ساقط من (أ).
(٤) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٥٤ - ٥٥.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٦، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٤، وابن الجوزي ٣/ ٥٥.
(٧) في (ش): (يميزون).
193
٤٢]) (١)، فالله جل وعز يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت.
وقوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: ما كسبتم من العمل بالنهار) (٢)، ومضى الكلام في معنى الجرح عند ذكر الجوارح (٣).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ قال ابن عباس: (يرد عليكم أرواحكم في النهار) (٤)، وقال قتادة: (البعث هاهنا: اليقظة) (٥)، وقال الزجاج: (أي: ينبهكم في نومكم في النهار) (٦).
وقوله تعالى: ﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ أي: أعماركم المكتوبة، وهو قوله: ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: ٢].
قال السدي: يعني: أجل الحياة إلى الموت) (٧)، وهو قول المفسرين (٨) قال الزجاج: (أي: يبعثكم من نومكم إلى أن تبلغوا
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٧، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٣٧.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٦، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٤، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠٥ بسند جيد عن ابن عباس قال: (ما اكتسبتم من الإثم)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٠.
(٣) انظر: "البسيط" نسخة جامعة الإمام ٣/ ١١ ب.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٦، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٤.
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ١/ ٢٠٨، والطبري ٧/ ٢١٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠٦ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٠.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٨.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٥ بسند جيد.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢١٥، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٣٨، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٤٩٠.
194
آجالكم) (١)، ومعنى القضاء: فصل الأمر على تمام، ومعنى قضاء الأجل: فصل مدة العمر من غيرها بالموت (٢)، وفي هذه الآية حجة على النشأة الثانية؛ لأن منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر (٣).
٦١ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ الآية. ﴿فَوْقَ﴾ يستعمل في كل ما يستحق أن يوصف بأفعل، ولا يراد به المكان العالي، كما يقال: هو فوقه في القدرة، أي: أقدر منه، و [هو] (٤) فوقه في العلم، أي: أعلم [منه] (٥)، و [هو] (٦) فوقه في الجود (٧)، أي: أجود يعبر عن تلك الزيادة بهذه العبارة للبيان عنها (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾، قال ابن عباس: (من الملائكة يحصون أعمالكم كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ [الانفطار: ١٠]) (٩).
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٨.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٨٦ (قضى).
(٣) ذكر هذا المعنى الثعلبي في "الكشف" ١٧٨ ب، والقرطبي في "تفسيره" ٧/ ٦.
(٤) لفظ: (هو) ساقط من (أ).
(٥) لفظ: (منه) ساقط من (ش)، وتكرر فيها لفظ (هو فوقه في العلم أي أعلم).
(٦) لفظ: (هو) ساقط من (أ).
(٧) في (ش): (الجيد)، وهو تحريف.
(٨) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٢٤ (فوق)، وابن عطية ٥/ ٢٢٥، والقرطبي ٧/ ٦، وهذا تأويل وقول نفاة العلو، والحق أنها تستعمل في فوقية المكان والمكانة، والله سبحانه وتعالى مستعل على كل شيء بذاته وقدره وقهره، وقد سبق الكلام على ذلك.
(٩) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٥، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٢٧ نحوه.
195
وقال قتادة: (يحفظون عليك أجلك ورزقك) (١)، وروي عن السدى: (يحفظون العبد من أمر الله الذي لم يُقدر له إلى الأمر الذي قُدر له) (٢)
قال الزجاج: (الحفظة: الملائكة، واحدهم حافظ) (٣).
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ يعني: أعوان ملك الموت، عن ابن عباس (٤) والحسن (٥) وقتادة (٦) وإبراهيم (٧) والربيع (٨).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠٦، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٠.
(٢) لم أقف عليه. وقد أخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠٦ بسند جيد عن السدي قال: (هي المعقبات من الملائكة يحفظونه ويحفظون عمله) وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٠، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ٣١٢.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٨، وفيه: (والجمع حفظة مثل: كاتب، وكتبة، وفاعل، وفعلة) ا. هـ.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠٧ بسند جيد، عن إبراهيم النخعي عن ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٠، وفي "تهذيب التهذيب" ١/ ٩٢ (النخعي لم يسمع من ابن عباس لكن مراسيله جيدة) ا. هـ.
(٥) قال أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٤٨ - ١٤٩ (قال الحسن: إذا احتضر الميت احتضره خمسمائة ملك يقبضون روحه فيعرجون بها) ا. هـ. وقال ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٢٢٥. قوله تعالى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ يريد به على ما ذكر ابن عباس وجميع أهل التأويل ملائكة مقترنين بملك الموت يعاونونه ويأتمرون له) ا. هـ.
(٦) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ١/ ٢٠٩، والطبري ٧/ ٢١٧، وأبو الشيخ في "العظمة" ص ٢١١، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٠.
(٧) أخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" ص ١٠٨، وعبد الرزاق ٢/ ١/ ٢٠٩، والطبري ٧/ ٢١٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠٧، وأبو الشيخ في "العظمة" ص ٢١١، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٠.
(٨) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٧، وأبو الشيخ في "العظمة" ص ٢٠٠ - ٢٠١، بسند لا بأس به، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٠٠.
196
وقال أبو إسحاق: (﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ أي: هؤلاء الحفظة؛ لأنه قال: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾) (١)، فجعل أبو إسحاق رسل الموت من الحفظة المرسلة للحفظ، وعلى هذا يجب أن يكون؛ لأن تقدير اللفظ: وهو الذي يرسل الحفظة ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ توفوه، يريد: أن يرسلهم للحفظ في الحياة والتوفية عند مجيء الممات (٢)، و ﴿حَتَّى﴾ هاهنا هي التي يقع بعدها الابتداء (٣) والخبر، وقد بينا شرح (٤) ذلك عند قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ [يوسف: ١١٠].
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ قال ابن عباس (٥) والسدي (٦): (لا يضيعون). وقال الزجاج: (لا يغفلون ولا يتوانون، قال: ومعنى التفريط: تقدمة العجز، والمعنى: أنهم لا يعجزون) (٧).
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٨.
(٢) قال الفخر الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٦: (الأكثرون أن الذين يتولون الحفظ غير الذين يتولون أمر الوفاة، ولا دلالة في لفظ الآية تدل على الفرق) ا. هـ. وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٤٨: (الأكثرون على أن ﴿رُسُلُنَا﴾ عين الحفظة يحفظونهم مدة الحياة، وعند مجيء أسباب الموت يتوفونهم) ا. هـ
(٣) انظر: "الفريد" ٢/ ١٦٣.
(٤) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ٣/ ٨٠ ب.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٨، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠٧ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣١٠.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٨ بسند جيد.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٨، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ١٩٤: (أي: لا يتوانون ولا يتركون شيئاً ولا يخلفونه ولا يغادرون) ا. هـ. وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٣٩، وقد تقدم بحث معنى فرط.
197
٦٢ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ يعني: العباد يردون بالموت إلى الله ﴿مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾. قد مضى الكلام في معنى المولى عند قوله: ﴿أَنتَ مَوْلَانَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، ﴿أَلَا لَهُ الْحُكْمُ﴾ أي: القضاء فيهم، ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ يقول: إذا حاسب فحسابه سريع، ومضى الكلام في معنى سرعة حساب الله تعالى عند قوله: ﴿والله سَرِيعُ الحِسَابِ﴾ [البقرة: ٢٠٢] في سورة البقرة.
٦٣ - قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ الآية. قرئ (١) قوله: ﴿يُنَجِّيكُمْ﴾ بالتشديد، وكذلك قوله: ﴿قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ﴾ [(والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا، فإن شئت نقلت بالهمز، وإن شئت نقلت بتضعيف العين نحو: أفرحته وفرحته وأغرمته وغرمته وما أشبه ذلك، وفي التنزيل: ﴿فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾ [العنكبوت: ٢٤] ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الأعراف: ٦٤] وفيه (٢): ﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [فصلت: ١٨]، فإذا جاء التنزيل باللغتين جميعًا تبيّنت استواء القراءتين في الحسن) (٣).
(١) قرأ أبو عمرو في رواية ويعقوب: (قُلْ مَن يُنْجِيكُم) مخففة الجيم ساكنة النون، وقرأ الباقون بفتح النون وتشديد الجيم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (قُلِ الله يُنَجَّيكُم) بفتح النون وتشديد الجيم، وقرأ الباقون بإسكان النون مع تخفيف الجيم.
انظر: "السبعة" ٢٥٩، و"المبسوط" ص ١٦٩، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٠، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٨.
(٢) لفظ: (فيه) ساقط من (ش).
(٣) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٢٢ - ٣٢٣، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٦٢، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤١، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ١٥٩ - ١٦٠، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٥٥.
198
غير أن الاختيار التشديد؛ لأن ذلك كان لهم من الله غير مرةٍ (١).
وقوله تعالى: ﴿مَنْ يُنَجِّيكُمْ﴾ سؤال توبيخ لهم وتقرير أن الله يفعل ذلك (٢). وقوله تعالى: ﴿مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ قال ابن عباس: (من أهوالهما وكرباتهما قال: وكانت قريش تسافر في البر والبحر فإذا ضلوا الطريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين فأنجاهم) (٣). قال أبو إسحاق (٤): (﴿ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ شدائد البر والبحر، والعرب تعبر عن الشدة بالظلمة، يقولون لليوم الذي يلقى فيه شدة: يوم مظلم، حتى أنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل، وأنشد (٥):
بَنِي أسَدٍ هَلْ تَعْلمُونَ بَلاَءَنا إذاً كَانَ يَوْمَ ذَا كَواكِبَ مظلم)
(١) قال مكي في "الكشف" ١/ ٤٣٦: (القراءتان متعادلتان، غير أن التشديد فيه معنى التكرير للفعل على معنى نجاة بعد نجاة) اهـ. وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٨، و"تفسير الفخر الرازي" ١٣/ ٢٠.
(٢) انظر: "الفريد" ٢/ ١٦٤، "الدر المصون" ٤/ ٦٦٩.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٨، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠٨ بسند ضعيف من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: (يقول: إذا أضل الرجل الطريق دعا الله: ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٩.
(٥) البيت لعمرو بن شأس الأسدي شاعر مخضرم، في "الكتاب" ١/ ٤٧، وبلا نسبة في "معاني النحاس" ٢/ ٤٤٠، و"الكشاف" ١/ ٤٠٤، والقرطبي ٧/ ٨، و"البحر" ٤/ ١٢٢، ورواية الأكثر: أَشْنَعَا: مكان مظلم، ويروى: أشهب، وانظر: "المعاني الكبير" ٢/ ٩٧٣.
199
وقال غيره: (أراد ظلمة الليل وظلمة الغيم في البر والبحر، فجمع لفظه ليدل على معنى الجميع) (١).
وقوله تعالى: ﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ تقديره: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ﴾ داعين ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ (٢) وقرِئ ﴿وَخُفْيَةً﴾ (٣) وهما لغتان (٤)، قال ابن عباس (٥) والحسن (٦): (﴿تَضَرُّعًا﴾ علانية ﴿وَخُفْيَةً﴾ سرًّا بالنية).
قال أبو إسحاق: (المعنى: تدعونه مظهرين الضراعة، وهو شدة الفقر إلى الشيء والحاجة، وتدعونه خفية أي: في أنفسكم تضمرون (٧) فقركم وحاجتكم إليه كما تظهرون) (٨).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٥، والطبري ٧/ ٢١٩، والأولى العموم، قال ابن عطية ٥/ ٢٢٨: (التخصيص لا وجه له، وهو لفظ عام لأنواع الشدائد) ا. هـ. ملخصًا، وانظر: "البحر" ٤/ ١٥٠.
(٢) أي في محل نصب على الحال من مفعول ﴿يُنَجِّيكُمْ﴾ و ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ مصدر في موضع الحال. انظر: "الفريد" ٢/ ١٦٥، و"الدر المصون" ٤/ ٦٦٩.
(٣) قرأ عاصم في رواية أبي بكر (خِفْيَة) بكسر الخاء، وقرأ الباقون بضمها.
انظر: "السبعة" ص ٢٥٩، و"المبسوط" ص ١٧٠، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٠، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٩.
(٤) انظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٦٢، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٩، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤١، ولأبي علي ٣/ ٣١٧، ولابن زنجلة ص ٢٥٥، و"الكشف" ١/ ٤٣٥.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٧، وقال السيوطي في "الدر" ٣/ ٣١، أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥]، قال: (السر).
(٦) ذكره أبو علي الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣١٧، قال: (روي عن الحسن: التضرع العلانية والخفية بالنية) ا. هـ
(٧) في (ش): (يضمرون).
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٩، ونحوه ذكر النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٤٠.
200
وقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾ وقرأ الكوفيون (١): ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا﴾ حملوه على الغيبة لقوله قبله: ﴿تَدْعُونَهُ﴾ ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا﴾ (٢)، وقوله بعده: ﴿قُلْ الله يُنَجِّيكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٤] ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ﴾ [الأنعام: ٦٥] فأنجانا أولى من ﴿أَنْجَيْتَنَا﴾ لكونه على ما قبله وما بعده [من لفظ الغيبة، وفيه إضمار على تقدير: يقولون: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾ في موضع الحال مثل ﴿تَدْعُونَهُ﴾، ومن قرأ: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾ فالتقدير عنده: داعين وقائلين ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾، فواجه بالخطاب، ولم يراع ما راعاه الكوفيون من المشاكلة بما قبله وما بعده] (٣). ويقوي هذه القراءة قوله في آية أخرى: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: ٢٢]. وأمال (٤) حمزة والكسائي ﴿أَنْجَانَا﴾ وهو مذهب حسن؛ لأن هذا النحو من الفعل إذا كان على أربعة أحرف استمرت فيه الإمالة لانقلاب الألف إلى الياء في المضارع (٥).
وقوله تعالى: ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ قال ابن عباس: (من
(١) قرأ: عاصم وحمزة والكسائي ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا﴾ بألف بعد الجيم من غير تاء ولا ياء وأمال الجيم، حمزة والكسائي، وفتح عاصم، وقرأ الباقون (لَئِنْ أَنجَيْتَنَا] بالياء والتاء من غير ألف.
انظر: "السبعة" ص ٢٥٩، و"المبسوط" ص ١٦٩، و"التذكرة" ٢/ ٤٠١، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٩.
(٢) جاء في (ش): تكرار قوله: (حملوه على الغيبة؛ لقوله قبله ﴿تَدْعُونَهُ﴾ ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا﴾).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٤) في (أ): (وأما حمزة)، وهو تحريف.
(٥) هذا قول أبي علي الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣٢٣ - ٣٢٤، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٦٢، و"إعراب القراءات وعللها" ١/ ١٦٠، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤١/ ١٤٢، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٥٥، و"الكشف" ١/ ٤٣٥، وانظر: "تعريف الإمالة" ومراجعها فيما سبق.
201
المؤمنين) (١)، وقال عطاء عنه: (يريد: من الطائعين) (٢)،
٦٤ - وقوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ (الكَرْبُ: الغم الذي يأخذ بالنفس (٣)، يقال: كرَبه الغم، وإنه لمكروب، والكربة: الاسم، والكريب: المكروب، وأمر كارب، ذكر ذلك الليث) (٤).
قال أبو إسحاق: (أعلمهم الله تعالى أن الله الذي دعوه وأقروا به هو ينجيهم ثم هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها من صنعتهم [و] (٥) أنها لا تضر ولا تنفع ولا تقدر أن تنجي من كربة ويله (٦). ثم أعلمهم أنه قادر على تعذيبهم فقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] (٧).
قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: من السماء كما حُصب قوم لوط وكما رمي أصحاب الفيل، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ يريد: كما خُسف بقارون) (٨).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٧ - ٢٨، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٨.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) في (ش): (يأخذ النفس).
(٤) ذكره عن الليث الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١١٩، وهو في "العين" للخليل ٥/ ٣٦٠، وانظر: "جمهرة اللغة" ١/ ٣٢٧، و"الصحاح" ١/ ٢١١، و"مجمل اللغة" ٣/ ٧٨٣، و"مقاييس اللغة" ٥/ ١٧٤، و"المفردات" ٧٠٦، و"اللسان" ٧/ ٣٨٤٥ (كرب).
(٥) لفظ: (الواو) ساقط من (ش).
(٦) (ويله) غير واضحة في النسخ ولم ترد عند الزجاج.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٩ بتصرف.
(٨) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٨، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٨، وابن الجوزي ٣/ ٥٩.
202
وهو قول السدي (١) وابن جريج (٢) ومجاهد (٣) ومقاتل (٤)، قالوا: ﴿عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ الصيحة والحجارة والريح والغرق بالطوفان وكل عذاب من السماء، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ الرجفة والخسف.
وقال في رواية عكرمة: ﴿عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ الأمراء ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ السفلة (٥)، وهو قول الضحاك: ﴿عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ (من قبل كباركم ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: من أسفل منكم) (٦)، ونحو هذا روى عبد الوهاب بن مجاهد (٧) عن أبيه: (﴿عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾: السلاطين الظلمة، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: العبيد السوء) (٨).
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٢٢٠ بسند جيد.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٨.
(٣) ذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٨٣، وأخرج الطبري ٧/ ٢٢٠ بسند جيد عنه قال: (﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: الخسف).
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٥.
(٥) ذكره الرازي ١٣/ ٢٢، عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج الطبري ٧/ ٢٢٠ بسند جيد عنه قال: ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ يعني: من أمرائكم ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ يعني: سفلتكم) اهـ، وأخرج الطبري وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٠ - ١٣١١ بسند جيد عنه قال: (﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾: أئمة السوء، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: خدم السوء) ا. هـ. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٣١.
(٦) ذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٤٠، والثعلبي ١٧٩ أ، والبغوي ٣/ ١٥٣.
(٧) عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر المخزومي القرشي، روى عن أبيه وعطاء، وروى عنه عبد الرزاق وغيره، وهو متروك، وقيل: لم يسمع من أبيه، انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٦٩، و"ميزان الاعتدال" ٢/ ٦٨٢، و"تهذيب التهذيب" ٦/ ٤٥٣، و"تقريب التهذيب" ص ٣٦٨ (٤٢٦٣).
(٨) ذكره الثعلبي ١٧٩ أ، والبغوي ٣/ ١٥٣، والقرطبي ٧/ ٩، والظاهر: أن المراد بالعذاب من فوق الرجم وما أشبهه، ومن تحت الخسف وما أشبهه؛ لأنه =
203
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ الشيع (١): جمع شيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، والجمع شِيع وأشياع، قال الله عز وجل: ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ﴾ [سبأ: ٥٤]، وأصله من التشييع، وهو التتبع، ومعنى الشيعة: الذين يتتبع بعضهم بعضًا.
قال الربيع بن أنس: (يخلطكم (٢) فرقًا) (٣) وقالوا (٤) جميعًا: (يعني: يبث فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقًا يقاتل بعضكم بعضًا ويخالف بعضكم بعضًا)، وهو قول ابن عباس (٥) ومجاهد (٦)
= هو المعروف عند العرب من معنى فوق وتحت، فحمله على الأغلب والأشهر أولى، وإن كان غيره له وجه من الصحة، وهذا اختيار أكثرهم، وقال ابن عطية ٥/ ٢٣١: (الأقوال في الآية كلها أمثلة لا أنها هي المقصودة؛ إذ هي وغيرها داخلة في عموم اللفظ) ا. هـ. بتصرف. وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٣٨، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٦٤، والطبري ٧/ ٢٢٠، وابن كثير ٢/ ١٥٩، و"البحر" ٤/ ١٥١.
(١) انظر: "العين" ٢/ ١٩٠، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٨، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٠٨، و"الصحاح" ٣/ ١٢٤٠، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٢٣٥، و"المفردات" ص ٤٧٠، و"اللسان" ٤/ ٢٣٧٧ (شيع).
(٢) في (أ): (يخلكم)، ثم كتب فوقها: يجعلكم.
(٣) لم أقف عليه
(٤) يعني المفسرين، قال ابن عطية ٥/ ٢٣١: (قال المفسرون: هو افتراق الأهواء والقتال بين الأمة) ا. هـ.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٢١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١١ بسند جيد، قال: (يعني بالشيع: الأهواء المختلفة). وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٢.
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٦ - ٢١٧، قال: (يعني: ما فيهم من الاختلاف والفتن)، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٢١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١١ بسند جيد، وفي رواية عند الطبري قال: (الأهواء المفترقة).
204
ومقاتل (١) والسدي (٢)
قال أبو إسحاق: (معنى ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾: يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق، فيجعلكم فرقًا لا تكونون فرقة واحدة، فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضًا، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾) (٣).
وقوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ﴾ نبين لهم الآيات في القرآن، ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ يَعلمون (٤).
٦٦ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ﴾ قال ابن عباس (٥) والحسن (٦) والسدي (٧): (يريد: بالقرآن)، ﴿وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ قال الحسن: (لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وأعمالكم، إنما أنا منذر، والله المجازي لكم بأعمالكم) (٨).
(١) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٥، قال: (يعني: فرقًا أحزابًا أهواء مختلفة كفعله بالأمم الخالية) ا. هـ.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٢١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٢ بسند جيد، قال: (يفرق بينكم).
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٠، وفيه زيادة قال: (يقال: لبَسْت الأمر ألبسه: لم أبينه، وخلطت بعضه ببعض. ويقال: لبِستُ الثوب ألبَسه) اهـ، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩٤، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٦٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٤١.
(٤) انظر:"تفسير السمرقندي" ١/ ٤٩٢، وابن عطية ٥/ ٢٣٢، والقرطبي ٧/ ١١.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٨.
(٦) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٢٨، والهمداني في "الفريد" ٢/ ١٦٦.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٢٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٣ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٧.
(٨) ذكره الماوردي ٢/ ١٢٨، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٦٠، وابن الجوزي ٣/ ٦١٢.
205
وقال [أبو] (١) إسحاق: (أي إنما أدعوكم إلى الله وإلى شريعته، ولم أؤمر بحربكم ولا أخذكم بالإيمان كما يأخذ الموكل بالشيء الذي يلزم بلوغ آخره) (٢)، وقيل: (لست (٣) عليكم بحفيظ: يمنعكم من أن تكفروا كما يمنع الوكيل على الشيء من إلحاق الضرر به) (٤). قال ابن عباس (٥) والمفسرون (٦): (نسختها آية (٧) القتال).
(١) لفظ: (أبو) ساقط من (أ).
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٠.
(٣) في (ش): (ليست)، وهو تحريف.
(٤) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٢٨ عن بعض المتأخرين، وانظر: "البحر المحيط" ٤/ ١٥٢.
(٥) أخرجه النحاس في "ناسخه" ٢/ ٣١٧ بسند ضعيف، وذكره مكي في "الإيضاح" ص ٢٤٢، وابن العربي في "ناسخه" ٢/ ٢١١، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٢٤، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٣٧.
(٦) وهو قول مقاتل ١/ ٥٦٦، وابن سلامة في "ناسخه" ص ٦٧، وابن العربي ٢/ ٢١١، وحكاه الرازي ١٣/ ٢٤، عن ابن عباس والمفسرين. وقال ابن عطية ٥/ ٢٣٣: (النسخ متوجه؛ لأن اللازم من اللفظ لست الآن، وليس فيه أنه لا يكون في المستأنف) ا. هـ. وانظر: القرطبي ٧/ ١١.
(٧) آية السيف عند الجمهور وهو أصح الأقوال في سورة التوبة آية (٥) قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ الآية، انظر: "النسخ في القرآن" لمصطفى زيد ٢/ ٥٠٤، والظاهر عدم النسخ؛ لأن المعنى: لست عليكم حفيظًا إنما أطالبكم بالظواهر من الإقرار والعمل لا بالإسرار، فهي خبر محكم، والخبر لا يجوز نسخه، ولعدم التعارض فهذه الآية تحصر وظيفة الرسول - ﷺ - في التبليغ والإنذار، وآية السيف تبين الوظيفة الأخرى وهي القتال إذا تعين وسيلة للدعوة، وهذا قول الأكثر، انظر: "ناسخ النحاس" ٢/ ٣١٨، و"الإيضاح" لمكي ص ٢٤٢، و"النواسخ" لابن الجوزي ص ٣٢٤، و"المصفى" لابن الجوزي ص ٣١، و"تفسير الرازي" ١٣/ ٢٤، و"النسخ" لمصطفى زيد ١/ ٤٢٦ - ٤٢٩.
وينبغي التنبيه على أن النسخ عند السلف رضي الله عنهم في الإطلاق أعم منه عند =
206
٦٧ - قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ المستقر: يجوز أن يكون موضع الاستقرار (١)، ويجوز أن يكون نفس الاستقرار؛ لأن ما زاد على الثلاثي كان المصدر منه على زنة اسم المفعول نحو المدخل والمخرج بمعنى: الإدخال والإخراج كقول الشاعر:
إنَّ المُوَقَّى مِثلُ مَا وُقَّيتُ (٢)
يعني: التوقية، قال المفسرون: (يقول: لكل خبر يخبره الله وقت ومكان يقع فيه من غير خُلف ولا تأخير، وإذا جعلت المستقر مصدرًا كان المعنى: لكل وعدٍ ووعيدٍ من الله وقوع واستقرار لابد ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ إذا نزل) (٣).
= الأصوليين، فالسلف يسمون كل رفع نسخًا، سواء كان رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة، فيستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه من عموم أو إطلاق أو غير ذلك، ويطلقون على تقييد المطلق وتخصيص العموم وبيان المبهم والمجمل ورفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخًا، سواء كان ذلك بدليل متصل أو منفصل كل ذلك عندهم عام ومجمل ومشترك في معنى واحد، وهو مطلق التغيير، وهو في كلام الأصوليين رفع حكم شرعي بدليل شرعي آخر متأخر عنه، أفاده شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ١٣/ ٢٧٢ - ٢٧٣، ١٤/ ١٠١، والشاطبي في "الموافقات" ٣/ ١٠٨، والدكتور مصطفى زيد في "النسخ في القرآن" ١/ ٧٣.
(١) المستقر: يكون مصدرًا بمعنى: الاستقرار، واسم مكان، أي: موضع الاستقرار، واسم زمان، أي: وقت الاستقرار. انظر: الرازي ١٣/ ٢٤، و"الفريد" ٢/ ١٦٧، و"الدر المصون" ٤/ ٦٧٤.
(٢) هذا رجز لرؤبة بن العجاج في "ديوانه" ص٢٥، و"الكتاب"٤/ ٩٧، و"المخصص" ١٤/ ٢٠٠، وتكملته: (أَنْقَذَنيِ مِنْ خَوْفِ مَا خَشِيتُ)، والشاهد مجيء الموقى بمعنى: التوقية، انظر: "شرح أبيات سيبويه" للنحاس ص ١٨٦.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٢٧، والسمرقندي ٤/ ١٣١٤، وابن عطية ٦/ ٧٢، والرازي ١٣/ ٢١.
207
قال الكلبي: (لكل قول حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لكم) (١).
وقال الضحاك: (لكل حديث وخبر منتهى وأجل يتبين فيه صدقه عند وقوعه) (٢) يعني: العذاب الذي وعدهم في الدنيا [و] (٣) الآخرة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص: ٨٨].
وقال الحسن: (لكل عمل جزاء فمن عمل عملًا من الخير جوزي به الجنة، ومن عمل عمل سوء جوزي به النار، ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ يا أهلِ مكة) (٤)، وقال السدي: (استقر بهم القرار [يوم] (٥) بدر بما كان (٦) يعدهم من العذاب) (٧).
قال أبو إسحاق: (يقول: لا آخذكم بالإيمان على جهة الحرب واضطراركم إليه ومقاتلتكم عليه، فلكل ﴿نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ أي: وقت معلوم، ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ جائز أن يكون وعدهم بعذاب الآخرة، وجائز أن يكون
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٨ - ٢٩، وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٧٩ أ، والبغوي ٣/ ١٥٤، وأخرج الطبري ١١/ ٤٣٥، وابن أبي حاتم ٣/ ٧٩ ب بسند جيد عن مجاهد مثله.
(٢) ذكره شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ١٧/ ٣٧٠ عن بعضهم.
(٣) لفظ: (الواو)، ساقط من (أ).
(٤) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٣٤، والثعلبي في "الكشف" ١٧٩ ب، والماوردي في "النكت والعيون" ١/ ٥٣٤، وشيخ الإسلام في "الفتاوى" ١٧/ ٣٧١.
(٥) لفظ (يوم): ساقط من (ش).
(٦) في (أ): (بما هو يعدهم).
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٢٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٣ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٧.
208
وعدهم بالحرب وأخذهم بالإيمان إن شاؤوا أو أبوا) (١)، هذا الذي ذكرنا قول جماعة المفسرين (٢).
وقال ابن عباس في رواية عطاء ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾: (يريد: خبري وخبركم سوف يستقر عند رب العالمين، فيحكم بيني وبينكم ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ من له الحجة على صاحبه) (٣).
٦٨ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ الآية، قال المفسرون (٤): (كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله والقرآن، فشتموا واستهزؤوا، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾).
وهذا قول ابن عباس (٥) وسعيد بن جبير والسدي (٦) ومقاتل (٧)
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٠، وفيه: (وأخذهم بالإيمان شاؤوا أو أبوا، إلا أن يعطي أهل الكتاب الجزية) ا. هـ.
(٢) انظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٤٢.
(٣) لم أقف عليه، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٢٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٣ بسند جيد عنه قال: (﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ يقول: حقيقة)، وأخرج الطبري بسند ضعيف عنه قال: (فعل وحقيقة ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة)، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٣٧.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٢٨، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٤٢، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٤٩٢، و"الكشف" للثعلبي ١٧٩ أ، و"أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٧٣٩.
(٥) سوف يأتي تخريجه.
(٦) أخرجه الطبري ٨/ ٢٢٨، من طرق جيدة عن سعيد بن جير والسدى ومجاهد وأبي مالك غزوان الغفاري، وقتادة، وابن جريج، وأخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٤ - ١٣١٥، من طرق جيدة عن سعيد بن جبير والسدي، وأبي مالك ومقاتل بن حيان.
(٧) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٧.
209
وغيرهم (١)، قالوا: (ومعنى: ﴿يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ أي: بالتكذيب والاستهزاء)، قال ابن عباس: (أمر الله رسوله فقال: إذا رأيت المشركين يكذبون بالقرآن وبك ويستهزئون فاترك مجالستهم ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ يقول: حتى يكون خوضهم في غير القرآن) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾ وقرأ ابن عامر (٣): ﴿يُنْسِيَنَّكَ﴾ بالتشديد، وفعّل وأفعل يجريان مجرى واحداً كما بينّا ذلك في مواضع [و] (٤) من التنزيل ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق: ١٧]، والاختيار قرأه العامة لقوله تعالى (٥): ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ﴾ [الكهف: ٦٣]، قال ابن عباس: (يريد: إن نسيت فقعدت ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾ وقم إذا
(١) وهو قول مجاهد في "تفسيره" ١/ ٢١٧، وأخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢١٢ بسند جيد عن قتادة، وذكره عن عامة المفسرين، السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٩.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٩، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٦١.
وأخرج الطبري ٧/ ٢٢٨، وابن أبي حاتم ٤/ ١٤/ ١٣ بسند جيد عنه قال: (أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله) ا. هـ
وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٧.
(٣)) قرأ ابن عامر: ﴿يُنْسِيَنَّكَ﴾ بفتح النون الأولى وتشديد السين، وقرأ الباقون. بسكون النون الأولى وتخفيف السنن.
انظر: "السبعة" ص ٢٦٠، و"المبسوط" ص ١٧٠، و"التذكرة" ٢/ ٤٠١، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٩.
(٤) لفظ: (الواو)، ساقط من (ش).
(٥) انظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٦٣، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٠، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٢، ولأبي علي ٣/ ٣٢٤، ولابن زنجلة ص ٢٥٦، و"الكشف" ١/ ٤٣٦.
210
ذكرت) (١)، و ﴿الذِّكْرَى﴾: اسم للتذكرة، قاله الليث (٢).
وقال الفراء: (الذكرى يكون بمعنى: الذكر، كقوله تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾ يكون بمعنى: التذكير، كقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ ذِكْرَى﴾ [الأنعام: ٦٩]) (٣)، والكلام في الذكرى موضعه في سورة هود (٤) عند قوله: ﴿ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: ١١٤].
وقوله تعالى: ﴿مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ قال ابن عباس: (يعني: المشركين) (٥).
٦٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ قال ابن عباس: (قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزل: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ فرخص للمؤمنين في القعود معهم
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٩، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٦١، وابن الجوزي ٣/ ٦٢.
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٨٧، وانظر: "العين" ٥/ ٣٤٦ (ذكر)، و"مجاز القرآن" ١/ ١٩٤.
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٨٧، وفيه: (يكون بمعنى: الذكر، وبمعنى: التذكر) ا. هـ. ولم أقف عليه في "معانيه" والذِّكْر والذِّكْرى بالكسر خلاف النسيان، وكذلك الذُّكْرَة بالضم، والذِّكر بالكسر: الصيت والثناء، وقال الراغب في "المفردات" ص ٣٢٩ (الذَّكرى كثرة الذِّكر وهو أبلغ من الذِّكر. والتَّذكِرة: ما يُتذكر به الشيء، وهو أعم من الدلالة والأمارة) ا. هـ، وانظر: "الجمهرة" ٢/ ٦٩٤، و"الصحاح" ٢/ ٦٦٤، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٣٥٨، و"اللسان" ٣/ ١٥٠٧ (ذكر).
(٤) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ٣/ ٤٨ ب.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٩، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٦١، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٦٢.
211
يذكرونهم ويفهمونهم، قال: ومعنى الآية ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الشرك والكبائر والفواحش، ﴿مِنْ حِسَابِهِمْ﴾: من آثامهم ﴿مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى﴾ يقول: ذكّرهم بالقرآن وبمحمد - ﷺ -، فرخص لهم في مجالستهم على ما أمروا به من المواعظ لهم) (١).
وقال أبو إسحاق: (أي (٢): وما عليك أيها النبي وعلى المؤمنين ﴿مِنْ حِسَابِهِمْ﴾ أي: من كفرهم ومخالفتهم أمر الله عز وجل ﴿مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى﴾، ولكن عليكم أن تذكروهم (٣)، قال: و ﴿ذِكْرَى﴾ يجوز أن تكون في موضع رفع من وجهين أحدهما: ﴿وَلَكِنْ﴾ عليكم ﴿ذِكْرَى﴾ أي: أن تذكروهم، وجائز أن يكون ﴿وَلَكِنْ﴾ الذين (٤) تأمرونهم به ﴿ذِكْرَى﴾) وعلى هذا التأويل الذكرى يكون بمعنى الذكر، وعلى الوجه الأول (٥) يكون بمعنى: التذكير. قال: (يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: ذكروهم ﴿ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي: ليرجى منهم التقوى) (٦).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٩، وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٧٩ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٦١ - ٦٢، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٦٢، والرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢٦، والقرطبي ٧/ ١٥.
(٢) لفظ: (أي) ساقط من (أ).
(٣) في (ش): (يذكروهم).
(٤) في (ش): (الذي)، وما في (أ) هو الموافق لما عند الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٦١.
(٥) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٣/ ٢٦.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦١، وقال الفراء في"معانيه" ١/ ٣٣٩: (قوله ﴿وَلَكِنْ ذِكْرَى﴾ في موضع نصب بفعل مضمر، ولكن نذكرهم ذكرى، أو رفع على قوله: ولكن هو ذكرى) ا. هـ. بتصرف، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٥٥، و"المشكل" لمكي ١/ ٢٥٦، و"البيان" ١/ ٣٢٥، و"التبيان" ١/ ٣٣٩، و"الفريد" ٢/ ١٦٧ - ١٦٨، و"الدر المصون" ٤/ ٦٧٦.
212
قال ابن عباس: (تعظونهم لعلهم يخافوني) (١).
وقال مقاتل: ﴿وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (يقول: لعلهم إذا قمتم منعهم ذلك من الخوض والاستهزاء) (٢)، فعلى هذا يكون المعنى: ذكروهم ذكرى بترك المجالسة ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ الخوض، ونحو هذا قال مجاهد في معنى هذه الآية فقال: (﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ (إن قعدوا ولكن لا يقعدون) (٣)، وهذان (٤) جعلا قوله: ﴿وَلَكِنْ ذِكْرَى﴾ ترك القعود.
قال مقاتل (٥) وسعيد بن جبير (٦) وابن جريج والسدي (٧): (هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ الآية التي في النساء؛
(١) لم أقف عليه.
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٧.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٧، وأخرجه الطبري ٧/ ٢٣٠ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٩.
(٤) في (ش): (وهذا إن جعلا)، والصواب ما أثبته، والمراد: مجاهد ومقاتل.
(٥) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٧.
(٦) أخرجه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٢٥ بسند جيد عن أبي مالك وسعيد ابن جبير.
(٧) أخرجه الطبري ٧/ ٢٣٠ بسند جيد عن ابن جريج، والسدي وأخرجه النحاس في "ناسخه" ٢/ ٣١٩ بسند ضعيف عن الضحاك، وذكره ابن كثير ٢/ ١٦١ عن مجاهد، وهو قول ابن حزم في "ناسخه" ص ٣٧، وابن سلامة ص ٦٧، وأبي منصور البغدادي ١٠٢، وابن العربي ٢/ ٢١١، قالوا: (هذا صريح أمر، وليس بخبر، وهو مأمور أن يقوم عنهم إذا استهزؤوا بآيات الله، ثم أمر بقتلهم وإقامة الحد عليهم في ذلك، فهي منسوخة بأمره بالقتال).
وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٣٨.
213
لأن الله تعالى خوفهم فقال: إن قعدتم معهم ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٠] وقال غيرهم: (ليست بمنسوخة، ولكن المعنى: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ إذا قعدوا معهم بشرط التذكير والموعظة) (١).
٧٠ - قوله تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ الآية، قال ابن عباس (٢) والمفسرون (٣): (يعني: الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها وتلاعبوا عند ذكرها).
وقال الفراء: (يقال: ليس من قوم إلا ولهم عيد فهم (٤) يلهون في أعيادهم إلا أمة محمد، فإن أعيادهم برّ وصلاة وتكبير وخير) (٥)، وهذا قول الكلبي (٦)، فعلى القول الأول معنى قوله ﴿دِينَهُمْ﴾: الذي شرع لهم، وعلى قول الفراء المراد بالدين: العيد؛ لأنه مما يتدين (٧) به فصار داخلًا في جملة الدين.
(١) هذا هو الظاهر، واختيار النحاس في "ناسخه" ٢/ ٣١٩، ومكي في "الإيضاح" ص ٢٤٣، وابن الجوزي في "النواسخ" ص ٣٢٥، ومصطفى زيد في "النسخ في القرآن" ١/ ٤٤٠، قالوا: (الآية خبر ومحال نسخه، والمعنى فيه بين، أي: ما عليكم شيء من آثامهم إنما يلزمكم الإنذار والنهي عن المنكر، ولا يقعد معه راضيًا بقوله وفعله وإلا كان مثله) وانظر: ابن عطية ٥/ ٢٣٥، والقرطبي ٧/ ١٥، وانظر: "مفهوم النسخ عند السلف" في ص ٢٦٧.
(٢) ذكر نحوه بدون نسبة البغوي ٣/ ١٥٥، وابن الجوزي ٣/ ٦٤.
(٣) انظر: الطبري ٧/ ٢٣١، والماوردي ٢/ ١٢٩.
(٤) في (ش): (عيد فلهم)، وهو تحريف.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٣٩.
(٦) ذكره السمرقندي ١/ ٤٩٣، والقرطبي ٧/ ١٦، وذكره الرازي ١٣/ ٢٧ عن ابن عباس.
(٧) في (ش): (مما تدين به).
214
وقوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ بِهِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: وَعِظْ بالقرآن (١) ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ قال: يريد ترتهن في جهنم بما كسبت في الدنيا) (٢)، وهو قول (٣) الفراء قال: (﴿تُبْسَلَ﴾: ترتهن).
وقال الحسن (٤) ومجاهد (٥) وعكرمة (٦) والسدي: (تُسلم للهلكة)، قال الليث (٧): (الإبسال: أن يُبسل الرجل فيخذل، واستبسل الرجل للموت: إذا وطن نفسه عليه، من هذا).
وقال أبو الهيثم (٨): (يقال: أبسلته بجريرته، أي: أسلمته بها) وينشد على هذا قول الشَّنْفَرَى:
سَجِيسَ اللَّيَالِي مُبْسَلًا بِالجَرَائِرِ (٩)
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٣٠، وهو بلا نسبة في "الوسيط" ١/ ٦٢، والبغوي ٣/ ١٥٥، وابن الجوزي ٣/ ٦٤.
(٢) ذكره الرازي ١٣/ ٢٨، وهو قول مقاتل ١/ ٥٦٨، والأخفش كما ذكره السمرقندي ١/ ٤٩٣.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٣٩.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٢٣١، من عدة طرق جيدة عن الحسن ومجاهد وعكرمة، وأخرجه الأزهري في "تهذيبه" ١/ ٣٣٦ بسند جيد عن الحسن.
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٧ - ٢١٨.
(٦) ذكره الثعلبي ١٧٩ أ، والماوردي ٢/ ١٣٠، عن الحسن وعكرمة والسدي وغيرهم، وأخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٨، بسند ضعيف عن ابن عباس، وقال بعده: (وروي عن مجاهد وعكرمة والحسن والسدي مثل ذلك) ا. هـ. وهو اختيار ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ١/ ١٦٤.
(٧) "تهذيب اللغة" ١/ ٣٣٦، وانظر: "العين" ٧/ ٢٦٣ (بسل).
(٨) "تهذيب اللغة" ١/ ٣٣٦، و"اللسان" ١/ ٢٨٥ (بسل)، وراد: (ويقال: جزيته بها).
(٩) "ديوانه" ص ٤٨، "مجاز القرآن" ١/ ١٩٥، و"الحماسة" لأبي تمام ١/ ١٨٨، و"إصلاح المنطق" ص ٣٩٤، و"الشعر والشعراء" ص ٣١، و"الزاهر" ٢/ ٢١٣، =
215
وقال آخر (١):
وإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدمٍ مُرَاقِ
أي: إسلامي وتركي إياهم، وهذا الوجه اختيار الزجاج، قال: (معنى ﴿تُبْسَلَ﴾: تسلم بعملها غير قادرة على التخلص، والمستبسل المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص) (٢).
وقال قتادة: (أن تحبس) (٣) وهو قول ابن الأعرابي، قال في قوله تعالى: ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ (٤) (أي: تحبس في جهنم) (٥).
= والطبري ٧/ ٢٢٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٣٦، والثعلبي ١٧٩ أ، و"اللسان" ١/ ٢٨٥ (بسل)، وصدره:
هُنَالِكَ لا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي
وسجيس: أي أبد الليالي وطولها، ومبسلا أي: مسلما ومرتهنا، أسلم إلى عدوه بما جنى عليهم، والجرائر: الجرائم والذنوب.
(١) الشاهد لعوف بن الأحوص الكلابي، شاعر جاهلي، في المراجع السابقة سوى الحماسة والشعر، وإصلاح المنطق، وهو في "النوادر" لأبي زيد ص ١٥١، و"المعاني الكبير" ٢/ ١١١٤، و"الصحاح" ٤/ ١٦٣٤، و"المجمل" ١/ ١٢٥، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٤٨، والماوردي ٢/ ١٣١، وبلا نسبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١/ ١٦٥، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٦١، و"الجمهرة" ١/ ٣٣٩، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٤٤، و"المخصص" ١٣/ ٧٩، وبعوناه: أي جنيناه، والبعو: الجرم والجناية. يقول: رهنت بني في العرب وأسلمتهم من غير جرم.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦١، وفيه أيضًا: أي: تسلم، وقيل: ترتهن، والمعنى واحد. اهـ.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ٢٣٢، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٨ من طرق جيدة بلفظ: (تؤخذ فتحبس).
(٤) لفظ: (أن) ساقط من (ش).
(٥) "تهذيب اللغة" ١٢/ ٤٣٩، و"اللسان" ١٢/ ٥٤ (بسل).
216
وروى عن ابن عباس: (﴿تُبْسَلَ﴾: (تُفضح (وأُبسلو): أُفضحوا) (١).
ومعنى الآية: وذكرهم (٢) بالقرآن إسلام الجانيين بجناياتهم لعلهم يخافون فيتقون، وليس قول من قال: معناه: وذكرهم كيلا ﴿تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ بشيء البتة (٣).
(١) ذكره البخاري في "صحيحه" ٨/ ٢٨٦، كتاب: التفسير، تفسير سورة الأنعام، وأخرجه الطبري ٧/ ٣٣٢، وابن أبي حاتم ٣/ ٨١ ب و٨٢ أبسند جيد بلفظ: (تفضح - وفضحوا).
وقال ابن حجر في "الفتح" ٨/ ٢٨٧: (أفضحوا من الرباعي، وهي لغة، يقال: فضح وأفضح، وروى عنه: فضحوا) ا. هـ. ملخصًا.
وفي "مسائل نافع بن الأزرق" ص ١١٤، قال: (تبسل تحبس) ا. هـ
وهذه الأقوال متقاربة، وأكثرهم على أنه بمعنى: تسلم وترتهن، ولعل تفسيره بتفضح تفسير باللازم؛ لأن من لازم أخذهم بالعذاب بما كسبوا أن يفضحوا.
وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٤٣: (تُسلم حسن، أي: تسلم بعملها لا تقدر على التخلص؛ لأنه يقال: استبسل فلان للموت، أي: رأى ما لا يقدر على دفعه) ا. هـ. ملخصًا.
وقال ابن كثير ٢/ ١٦٢: (الأقوال متقاربة في المعنى، وحاصلها الإِسلام للهلكة والحبس عن الخير والارتهان عن درك المطلوب) اهـ.
وانظر: المراجع المذكورة في الحواشي، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٣٧، و"الوسيط" ١/ ٦٢، و"الكشاف" ٢/ ٢٧، والبغوي ٣/ ١٥٦، وابن عطية ٥/ ٢٣٨، وابن الجوزي ٣/ ٦٥، والقرطبي ٧/ ١٦، و"البحر" ٤/ ١٥٥، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٩، وفيها ذكر عامة الأقوال، وانظر: "الفتاوى" ١٣/ ٣٤٣.
(٢) لفظ: (الواو): ساقط من (ش).
(٣) لم أقف على هذا القول بنصه.
وفي الطبري ٧/ ٢٣٣، قال: (ذكرهم كيلا تبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها، وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله) ا. هـ. ملخصًا.
وانظر: الرازي ١٣/ ٢٨، و"البحر" ٤/ ١٥٥، و"الدر المصون" ٤/ ٦٧٩.
217
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ قال ابن عباس (١) وقتادة (٢) والسدي (٣) وابن زيد (٤): (وإن تفد كل فداء)، وذكرنا هذا المعنى عند قوله تعالى: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ (٥) [البقرة: ١٢٣]، وهؤلاء قالوا: (إن تفد كل فداء من جهة المال) قال ابن عباس (٦): (إن تفتد بالدنيا وما فيها لا يؤخذ منها) (٧).
وقال قتادة (٨): (لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها). [و] (٩) روي عن الحسن أنه قال: (هذا الفداء من جهة الإسلام والتوبة ولا ينفعهم ذلك في الآخرة) (١٠).
(١) أخرج الطبري ١/ ٢٦٨ بسند جيد عنه قال: (العدل: البدل، والبدل: الفدية)، وانظر: ابن كثير ٢/ ١٦٢، و"الدر المنثور" ١/ ١٦٦.
(٢) ذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٥٥، والماوردي ٢/ ١٣١، وابن كثير ٢/ ١٦٢، وأخرج ابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٩، و"تحقيق الغماري" بسند جيد عن أبي العالية، قال: (العدل: الفداء).
قال ابن أبي حاتم: (وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع نحوه) اهـ.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ٢٣٣ بسند جيد عن السدي وابن زيد.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٨ بسند جيد، وذكره الماوردي ٢/ ١٣١، عن السدي وابن زيد.
(٥) لفظ: (الواو): ساقط من النسخ.
(٦) في (أ): (قال ابن عباس: قال): وهو تحريف.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٦٢، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٣٠ نحوه.
(٨) أخرجه عبد الرزاق في التفسير ١/ ٢/ ٢١٢، والطبري ٧/ ٢٣٣، ٢/ ٣٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٩، من عدة طرق جيدة.
(٩) لفظ: (الواو): ساقط من (أ).
(١٠) ذكره الماوردي ٢/ ١٣١.
218
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا﴾ يقول: أسلموا للهلاك. وقال العوفي: (أسلموا إلى خزنة جهنم) (١).
وقال ابن عباس (٢): (ارتهنوا بما كسبوا)، ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ وهو الماء (٣) الحار.
قال المفسرون (٤): قوله تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ منسوخ بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ (٥) [التوبة: ٥]، وقال مجاهد (٦): (ليست بمنسوخة؛ لأن قوله: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ معناه: التهديد، كقوله: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ [المدثر: ١١]).
(١) ذكره الثعلبي ١٧٩ أ.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) انظر: الطبري ٧/ ٢٣٤، والسمرقندي ١/ ٤٩٣، وابن الجوزي ٣/ ٦٦.
(٤) هذا قول قتادة في "ناسخه" ص ٤٢.
وأخرجه عبد الرزاق في التفسير، والطبري ٧/ ٢٣١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٧، والنحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٢١، وابن الجوزي في "النواسخ" ص ٣٢٦ عنه من طرق جيدة، وذكره ابن الجوزي في "النواسخ" ص ٣٢٦، عن السدي، وهو قول ابن حزم في "ناسخه" ص ٣٧، وابن سلامة ص ٦٨، وأبي منصور البغدادي ص ١٠٢، وابن العربي ٢/ ٢١٢.
(٥) في النسخ: (اقتلوا)، وهو تحريف.
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٨، وأخرجه الطبري ٧/ ٢٣١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٧ من طرق جيدة، وهذا هو الظاهر، وإن كان النسخ جائزًا، لكن أكثرهم على أنه غير منسوخ؛ لأنه تهديد ووعيد للكفار، وليس هو بمعنى الإلزام، والمعنى: ذرهم فإن الله معاقبهم، وهو اختيار النحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٢١، ومكي في "الإيضاح" ص ٢٤٤، وابن الجوزي في "النواسخ" ص ٣٢٦، ومصطفى زيد في "النسخ" ١/ ٤٨٠، وانظر: الطبري ٧/ ٢٣١، وابن عطية ٥/ ٢٢٧، والقرطبي ٧/ ١٧، وانظر: مفهوم النسخ عند السلف ص ٢٦٧.
219
٧١ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا﴾ الآية ﴿أَنَدْعُو﴾] (١) هاهنا يجوز أن يكون معناه: نطلب النجاح كالعبد إذا دعا الله تعالى بطلب نجاح حاجته (٢). ويجوز أن يكون معناه: نعبد وهو الذي عليه المفسرون (٣).
قال ابن عباس: (يقول: أنعبد ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ما ليس عنده لنا منفعة، وإن عصينا لم يكن عنده لنا مضرة) (٤)، قال أهل المعاني: (المعنى: ما لا يملك لنا نفعًا ولا ضرًا؛ لأنه جماد لا يقدرعلى فعل شيء أصلًا) (٥)،
وقوله تعالى: ﴿وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ قال الكلبي: (أي: نرد وراءنا إلى الشرك بالله) (٦)، قال أبو إسحاق: (ويقال لكل من أدبر: رجع إلى خلف، ورجع على عقبيه) (٧).
(١) لفظ: ﴿أَنَدْعُو﴾ ساقط من (أ).
(٢) قال ابن عطية ٥/ ٢٤١، في الآية: (الدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئًا موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل).
(٣) انظر: الطبري ٧/ ٢٣٥، والسمرقندي ١/ ٤٩٣، والبغوي ٣/ ١٥٦.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٦٣، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٣٠ نحوه، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٦٦ بدون نسبة.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٣٦، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٤٥، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٤١.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٣٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٦٣.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٢، والنص فيه: (أي: نرجع إلى الكفر، ويقال لكل من أدبر: قد رجع إلى خلف، ورجع القَهْقَرى) اهـ.
وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩٦، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٣٨، و"تفسير الطبري" ٧/ ٢٣٥ - ٢٣٦، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٤٥، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٤١.
220
وقوله تعالى: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ﴾ اختلف أهل اللغة في معنى (١) ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾ فقال الزجاج: (أي: كالذي زينت له الشياطين هواه) (٢)، فعلى هذا معنى الاستهواء: الدعاء إلى الأمر بالهوى من هوى النفس. وقال أبو عبيدة (٣): (﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ﴾ استمالته).
وقال الليث (٤): (يقال للمستهام الذي يستهيمه الجن: استهوته الشياطين، فهو حيران هائم).
وقال غيره: (﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ﴾ بمعنى استغوته ودعته إلى الضلال واستتبعته (٥)، فهوى، أي: أسرع، والعرب تقول: استهوى فلان فلانًا، واستغواه، إذا دعاه إلى الغي، وهو من قولهم: هوى يهوي إلى الشيء إذا أراده وأسرع إليه (٦)، ومنه قوله تعالى: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: ٣٧] أي: تنزع إليهم وتقعدهم) (٧).
(١) هوى أصل يدل على خُلُوٍّ وسقوط، والهَوَى بالفتح مقصور: هوى النفس؛ وهَوِيَ، بكسر الواو: أحَبَّ، وهَوَى، بالفتح أيضًا: سقط، واستهواه الشيطان: اسْتَهَامه، انظر: "البارع" ص ١٦٦، و"الصحاح" ٦/ ٢٥٣٧، و"المجمل" ٤/ ٨٩٣، و"مقاييس اللغة" ٦/ ١٥، وقال الراغب في "المفردات" ص ٧٤٩ معنى الآية: (حملته على اتباع الهوى) اهـ.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٢، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٤٦.
(٣) ذكره أبو علي في "الحجة" ٣/ ٣٢٥، وهو قول اليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٣٨، وقال أبو عبيدة في "المجاز" ١/ ١٩٦: (هو الحيران الذي يشبه له الشياطين فيتبعها حتى يهوى في الأرض فيضل) اهـ.
(٤) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨١٤، وانظر: "العين" ٤/ ١٠٥ (هوى).
(٥) في (ش): (فاستتبعته).
(٦) انظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ١٨.
(٧) هذا قول الطبري في "تفسيره" ١٣/ ٢٣٤، وفي "تفسير غريب القرآن" ص ٢٣٧ قال: (هوت به وذهبت).
221
قال أبو علي الفارسي: (أرى قولهم: استهواه كذا، إنما هو من قولهم: هوى من حالق (١) إذا تردى منه، ويشبه به الذي يزل عن الطريق المستقيم كما أن زل إنما هو من العثار في المكان، ثم يشبه به المخطئ في طريقته، وتقول: أزله غيره، كما قال تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [البقرة: ٣٦]، وكذلك هوى هو وأهواه غيره، وتقول (٢): أهويته واستهويته، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ [النجم: ٥٣]، كما تقول: أزله واستزله؛ قال تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [البقرة: ٣٦]، وقال: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ [آل عمران: ١٥٥]، فكما أن استزله بمنزلة أزله، كذلك استهواه بمنزلة أهواه، كما أن استجاب بمنزلة أجاب) (٣). فأكثر أهل (٤) اللغة على أن: استهوى من هوى يهوى، وعلى هذا يدل (٥) كلام ابن عباس؛ لأنه قال: (كالذي استفزته (٦) الغيلان (٧) في الهامة) (٨).
(١) في (ش): (خالق)، وهو تصحيف.
(٢) في (ش): (ويقول).
(٣) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٢٥ - ٣٢٦ بتصرف يسير. وقال ابن عطية ٥/ ٢٤٢، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٥٧: (ذهب أبو علي إلى أنه بمعنى: أهوى من هوى يهوي إذا سقط من علو، أي: ألقته الشياطين في هوة) ا. هـ. بتصرف.
(٤) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٩٩٨، و"اللسان" ٨/ ٤٧٢٨ (هوى) والمراجع السابقة.
(٥) في (أ): (وعلى هذا كلام ابن عباس: يدل).
(٦) في (ش): (استغوته).
(٧) غيلان: جمع غول بالضم، وهو شيطان يأكل الناس، وسحرة الجن، والداهية. انظر: القاموس ص ١٠٤٠ (غول).
(٨) ذكره الثعلبي ١٧٩ ب بلفظ: (استفزته)، والبغوي ٣/ ١٥٦. بلفظ: (استهوته)، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٤٠ بلفظ (أضلته) وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٣١ بلفظ (استزلته).
222
وانفرد أبو إسحاق بقوله (١).
وقوله تعالى ﴿حَيْرَانَ﴾، قال الأصمعي (٢): (يقال: حار يحَار حيرة وحيرًا) (٣)، وزاد الفراء: (حيرانًا وحيرورة) (٤).
ومعنى الحيرة (٥): هي التردد في الأمر لا يهتدي إلى مخرج منه ولا يتوجه له طريق، ومنه يقال: الماء يتحيّر في الغيمِ أي: يتردد، وتحيّرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء.
ومنه قول لبيدٍ (٦):
(١) قال الأزهري في "تهذيبه" ٤/ ٣٨١٣: (جعله الزجاج من هوِي بفتح الهاء وكسر الواو يَهْوَى بالفتح) اهـ. فيكون من هوى النفس، وليس من هَوَى بالفتح يَهْوِي بكسر الواو إلى الشيء إذا أسرع إليه.
وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٥٥: (جعله الزمخشري من الهوى، وهو الميل والمودة، أي: أمالته الشياطين عن الطريق الواضح إلى المهمه القفر) ا. هـ. بتصرف، وانظر: "الكشاف" ٢/ ٢٨، والقرطبي ٧/ ١٨.
(٢) "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٥ (حار).
(٣) في (ش): (يحار، حيرة وحيرة)، ولعل حيرة الثانية تحريف عن: وحيرًا.
(٤) ذكره الرازي ١٣/ ٣٠، والمصدر: حيرورة، ذكره القرطبي ٧/ ١٨، والشوكاني ٢/ ١٨٨، وفي "البحر" ٤/ ١٤٤ قال: (حارَ يحَارُ حَيْرَة وحَيْرًا وحيرانًا وحيرورة) ا. هـ. والنص عن الفراء لعله من كتاب المصادر المفقود.
(٥) انظر: "العين" ٣/ ٢٨٨، و"الصحاح" ٢/ ٦٤٠، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٣، و"المفردات" ص ٢٦٣، و"عمدة الحفاظ" ص ١٤٥ (حير).
(٦) "ديوانه"ص ١٥٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٨، و"اللسان" ٢/ ١٠٦٧ (حار)، وتحيرت: امتلأت وأقام فيها الماء ولم يشرب، والدبار: جمع دبرة، وهي الساقية ومجاري الماء في المزرعة، والزلف: جمع زلفة، وهي مصانع الماء، والقِتْبُ -بالكسر-: السانية وأدواتها، والمحزوم: المربوط بالحزام. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٥٢٤ (قتب).
223
حَتى تَحَيَّرَتِ الدَّبَارُ كأنَّها زَلَفٌ وألْقَى قِتُبها المَحْزُومُ (١)
يقول: امتلأت ماءً فتردد على جوانبها.
قال ابن عباس: (هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى الله، كمثل رجل تائه ضال عن الطريق له أصحاب يدعونه إلى الطريق: هلم يا فلان إلى الطريق، فإن أتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في هلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الطريق اهتدى. يقول: مثل من يعبد هذه الآلهة مثل من دعاه الغيلان في المفازة باسمه واسم أبيه فيتبعها، ويرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في هلكة أو في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشًا، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله) (٢).
وقال مجاهد (٣): (هذا مثل من ضل بعد الهدى)، وقال ابن عباس في رواية عطاء: (يعني بهذه الآية: عبد الرحمن (٤) بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-،
(١) في النسخ الديار. وفي (ش): (المخزوم)، وهو تصحيف وخلاف ما في المراجع.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٢٣٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣١٢ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٥٩.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٨، وأخرج الطبري ٧/ ٢٣٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٢ من طرق جيدة نحوه، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٤١.
(٤) عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن عامر التيمي القرشي أبو محمد صحابي جليل، أكبر ولد الصديق، وشقيق عائشة رضي الله عنهما، أسلم قبيل الفتح، وكان فارسًا من أشجع قريش وأرماهم بسهم، شهد اليمامة والفتوح. وتوفي سنة ٥٣ هـ أو بعدها.
انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري ٥/ ٢٤٢، و"الاستيعاب" ٢/ ٣٨٢، و"تهذيب الأسماء واللغات" ١/ ٢٩٤، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ٤٧١، و"الإصابة" ٢/ ٤٠٧، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٥٢٥.
224
كان يدعو أباه إلى الكفر وأبوه يدعوه إلى الإِسلام) (١) فقوله: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ﴾ يريد: عبد الرحمن بن أبي بكر، قال الكلبي: (استفزّته الشياطين فعمل بالمعاصي ﴿حَيْرَانَ﴾: ضال عن الهدى ﴿لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا﴾ يعني أبويه وأصحاب محمد - ﷺ -) (٢).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ هذا جواب لعبد الرحمن حين دعا أباه إلى دين آبائه، قال ابن عباس في رواية عطاء: (وأبو بكر يقول: أَتبع ديني، ويخبره أن دين الله الهدى الذي هو عليه) (٣).
قال أهل المعاني: (الآية من أولها إلى قوله ﴿اَئتِنَا﴾ إنكار على من دعا إلى الضلال وعبادة الأصنام، من آمن بالله وسلك طريق الهدى، وتشبيه حاله لو أجاب داعي الضلال بتشبيه حال التائه بسلوكه غير المحجة).
وقوله بعد هذا: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ رد على من دعا إلى عبادة الأصنام، وكأنه بمنزلة: لا تفعل (٤) ذلك؛ لأن ﴿هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٣١، وذكره السمرقندي ١/ ٤٩٤، والماوردي ٢/ ١٣٢، وابن الجوزي ٣/ ٦٧، والقرطبي ٧/ ١٨، وذكره أكثرهم بلا نسبة.
انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٦٨، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٢، والثعلبي ١٧٩ ب، و"الكشاف" ٢/ ٢٩، والرازي ١٣/ ٣٠، وضعف هذا القول ابن عطية ٥/ ٢٤٤، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٥٧ لما في "صحيح البخاري" (٤٨٢٧) كتاب: التفسير، تفسير سورة الأحقاف عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عُذري) ا. هـ. وانظر: شرحه في "فتح الباري" ٨/ ٥٧٦.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ٣١، وفي "معاني الفراء" ١/ ٣٣٩، قال: (كان أبو بكر الصديق وامرأته يدعوان عبد الرحمن ابنهما إلى الإسلام فهو قوله: ﴿إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا﴾ أي: أطعنا) اهـ.
(٣) سبق تخريجه في الفقرة السابقة.
(٤) في (ش): (يفعل).
225
لا هدى غيره (١).
وقوله تعالى: ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال أبو إسحاق (٢): (العرب تقول: أمرتك لتفعل، وأن تفعل، وبأن تفعل، فمن قال: بأن تفعل، فالباء للإلصاق، والمعنى: وقع الأمر بهذا الفعل، ومن قال: أن تفعل، فعلى حذف الباء، ومن قال: لتفعل، فقد أخبر بالعلة التي وقع لها الأمر) (٣).
٧٢ - وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ قال الفراء: (﴿وَأَنْ﴾ مردودة على اللام التي في قوله ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ﴾، والعرب تقول: أمرتك لتذهب وأن تفعل كذا، فإن في وضع نصب بالرد على الأمر) (٤).
وقال الزجاج (٥): (موضع ﴿أَنْ﴾ نصب؛ لأن الباء لما سقطت أفضى
(١) انظر: "الطبري" ٧/ ٢٣٨، والبغوي ٣/ ١٥٦، و"البحر المحيط" ٤/ ١٥٧ - ١٥٨.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٢، وزاد: (أي: يدعونه ويقولون له: ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: أمرنا للإسلام...) اهـ.
(٣) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٣٩، والأخفش ٢/ ٢٧٧، والطبري ٧/ ٢٣٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٥٦، و"الدر المصون" ٤/ ٦٨٦.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٣٩، وهو قول الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٣٨، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٧٨.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٣. والنص فيه قال: (فيه وجهان أحدهما: أن تكون أمرنا لأن نسلم ولأن نقيم الصلاة، ويجوز أن يكون محمولًا على المعنى لأن المعنى: أمرنا بالإِسلام وبإقامة الصلاة، وموضع أن نصب لأن الباء لما سقطت أفضى الفعل فنصب، وفيه وجه آخر: يجوز أن يكون محمولًا على قوله ﴿يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا﴾، ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي: يدعونه أن أقيموا الصلاة) ا. هـ. وقد ذكر هذه الأوجه النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٥٦، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٥٦، والعكبري في "التبيان" ١/ ٣٤٠.
الفعل) (١)، فعنده كأن التقدير: وبأن أقيموا ثم حذفت الجارّة، وهو قريب من قول الفراء.
٧٣ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أي: بكمال قدرته وشمول علمه وإتقان صنعه (٢)، وكل ذلك حق (٣)، وذكرنا وجهين آخرين في قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ في سورة يونس [٥].
وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ ذكر الزجاج في نصب ﴿يَوْمَ﴾ أوجهًا: (أحدها: أن يكون منسوقًا على الهاء في قوله: ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ [الأنعام: ٧٢] في الآية الأولى، كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي﴾ [البقرة: ٤٨] والثاني (٤): أن يكون منصوبًا بإضمار: واذكر. قال: ويدل على هذا قوله بعده: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ﴾ [الأنعام: ٧٤] والمعنى: اذكر ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾، واذكر ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾، والوجه الثالث: أن يكون معطوفًا على ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، والمعنى: وخلق ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويكون هذا إخبارًا عن وقوعه وكونه؛ لأن ما أنبأ الله تعالى بكونه فهو واقع لا محالة، فجاز أن يقال: المعنى وخلق يوم يقول. وإن لم يأت يوم القيامة) (٥).
(١) وهذا قول ابن الأنباري في "البيان" ١/ ٣٢٦، وانظر: تفسير ابن عطية ٥/ ٢٤٦ - ٢٤٧، و"الفريد" ٢/ ١٧١، و"البحر" ٤/ ١٥٩، و"الدر المصون" ٤/ ٦٨٧.
(٢) في (ش): (صنعته).
(٣) انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٤٧.
(٤) وفيه ذكر أنه الأجود.
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٣، و"معاني الأخفش" ٢/ ٢٧٨، وقد ذكر الأوجه الثلاثة النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٥٧، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٥٦.
227
قال ابن عباس: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يريد: يوم القيامة) (١)، وذكر غير الزجاج من النحويين: (أن قوله: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ ينتصب بإضمار: وقدر أو قضى، والكلام دل على هذا، فيكون ذلك المقدّر معطوفًا على خلق (٢)، وهذا أحسن من القول الثالث الذي ذكره الزجاج.
واختلفوا في أن الخطاب في قوله ﴿كُنْ﴾ لماذا، فقال الفراء (٣) وحكاه الزجاج (٤): (المخاطبة للصورة خاصة، المعنى: ويوم يقول (٥) للصور كن فيكون)، وقد ذكر الصور في هذه الآية وكان ذكره فيما بعد دليلًا على أن الخطاب له. ويذكر الاختلاف (٦) في الصور.
وقال الزجاج وحده: (وقيل: إن قوله: ﴿كُنْ﴾ فيه إضمار جميع ما يخلق في ذلك الوقت المعنى: و (٧) يوم يقول (٨) للشيء كن فيكون، وهذا ذكر ليدل على سرعة أمر البعث والساعة، كأنه قال: ويوم يقول للخلق موتوا فيموتون، وانتشروا فينتشرون، كأنه يأمر الحياة فتكون (٩) فيهم
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٣٢.
(٢) انظر: "البيان" ١/ ٣٢٦، و"التبيان" ١/ ٣٤٠، و"الفريد" ٢/ ١٧٢، و"الدر المصون" ٤/ ٦٩٠، وقال البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٥٧: (قيل: هو راجع إلى خلق السموات والأرض، والخلق بمعنى: القضاء والتقدير، أي: كل شيء قضاه وقدره قال له: كن فيكون) اهـ.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٠ وفيه: (يقال: إنه خطاب للصور خاصة) ا. هـ
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٣.
(٥) في (أ): (نقول) بالنون بدل الياء.
(٦) يريد الخلاف في معناه كما سيأتي.
(٧) لفظ: (الواو): ساقط من (أ).
(٨) في (أ) (نقول).
(٩) في (ش): (فيكون).
228
والموت فيحل بهم) (١)، وعلى هذين القولين يكون قوله بعد هذا (٢): ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ رفع بالابتداء. وقال معًا (٣): (يجوز أن يكون الخطاب لقوله: ﴿الْحَقُّ﴾ والمعنى: أنه يأمر فيقع أمره، فيرتفع ﴿قَوْلُهُ﴾ باسم كان و ﴿الْحَقُّ﴾ نعته). قال الزجاج: (وهذا كما تقول: قد قلت فكان قولك، ليس المعنى: فكان الكلام إنما المعنى أنه كان ما دل عليه القول) (٤).
وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ يجوز أن يكون نصب ﴿يَوْمَ﴾ على (٥) ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ﴾ كما قال: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر: ١٦] ويجوز أن يكون قوله: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ بدلاً من (٦) قوله: ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾، ويجوز أن يكون منصوبًا بقوله الحق؛ المعنى: وقوله الحق يوم ينفخ في الصور.
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٣ - ٢٦٤، وذكره النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٥٧، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٥٦.
(٢) هذا قول النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٥٧، قال: (وعلى هذين الجوابين ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ ابتداء وخبر) اهـ.
(٣) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٤٠.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٤، وخلاصة ما ذكره الواحدي رحمه الله تعالى: (أن كان تامة، وفي فاعلها أوجه: الأول: ضمير جميع ما يخلق الله تعالى. والثاني: ضمير الصور، وعلى هذا يكون ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ مبتدأ، وخبر، أو ﴿قَوْلُهُ﴾: مبتدأ، و ﴿الْحَقُّ﴾: نعته، والخبر: ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾، أو: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ﴾. والوجه الثالث: الفاعل، هو: ﴿قَولُهُ﴾، و ﴿الْحَقُّ﴾ صفته، والواحدي عبر عن ذلك بقوله (يرتفع باسم كان). وانظر: "التبيان" ٣٤٠، و"الفريد" ١/ ١٧٣، و"الدر المصون" ٤/ ٦٩١.
(٥) أي ظرف لقوله ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ﴾ أي: وله الملك في ذلك اليوم. قال الهمداني في "الفريد" ١/ ١٧٣: (وهو المختار للقرب ولسلامته من الاعتراض) اهـ.
(٦) في (أ): (عن) بدل (من).
229
فإن قال قائل: لله الملك في كل يوم وقوله الحق في كل وقت، فلم خص ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾؟ والجواب: أنه اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع لأحد ولا ضر، فكان كما قال الله تعالى: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)﴾ [الانفطار: ١٩] والأمر في كل وقت لله عز وجل؛ ذكر هذا كله أبو إسحاق (١). وأما الصور فقال الفراء والزجاج: (يقال: إن الصور قرن ينفخ فيه، ويقال: الصور جمع سورة ينفخ في صور الموتى -والله أعلم-) (٢)، قال الزجاج: (وكلاهما جائز، وأثبتهما في الحديث والرواية أن الصور قرن) (٣).
وقال أبو عبيدة: (الصور جمع سورة مثل سورة البناء وسور) (٤).
وأخبرني أبو الفضل العروضي قراءة وسعيد بن العباس القرشي كتابة قالا: أنبأنا الأزهري قال: عن أبي الهيثم أنه قال: اعترض قوم فأنكروا (٥)
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٤، ولم يذكر الوجه الثاني، وهو كونه بدلاً. وقد ذكر الأوجه الثلاثة النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٥٧، وانظر: " المشكل" ١/ ٢٥٧، و"التبيان" ١/ ٣٤١، و"الدر المصون" ٤/ ٦٩٢.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٠، وفيه: (ويقال: هو جمع للصور ينفخ في الصور في الموتى. والله أعلم بصواب ذلك) اهـ.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٤، وقال بعده: (والصور جمع سورة، أهل اللغة على هذا) اهـ وانظر: "العين" ٧/ ١٤٩، و"الجمهرة" ٢/ ٧٤٥، و"الصحاح" ٢/ ٧١٦، و"المجمل" ٢/ ٥٤٥، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٣٢٠، و"المفردات" ص ٤٩٨، و"عمدة الحفاظ" ص ٣٠٣، و"التاج" ٧/ ١١٠، وأكثرهم قال: (الصور بالضم: القَرْن، ويقال: هو جمع صُورَة، والصِّوَر بالكسر لغة في الصُّوَر جمع صُورة).
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ١٩٦ (٤١٦)، ٢/ ١٦٢ - ١٦٣، وهو قول الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" ٥/ ١٩٢ في "كتاب التفسير، تفسير سورة الأنعام"، وحكاه البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٥٧ عن قتادة، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٦٩؛ عن الحسن، وانظر: "الزاهر" ١/ ٤١٦.
(٥) في (أ): (وأنكروا).
230
أن يكون الصور قرنًا، كما أنكروا (١) العرش والميزان والصراط، وادعوا أن الصور جمع الصورة كما أن الصوف جمع الصوفة والثوم جمع الثومة، ورووا ذلك عن أبي عبيدة، قال أبو الهيثم: وهذا خطأ فاحش وتحريف لكلم الله عن مواضعه؛ لأن الله قال: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر: ٦٤] وقال: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ [الكهف: ٩٩] فمن قرأها (٢): ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ وقرأ (٣): ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ فقد افترى الكذب وبدل كتاب الله، وكان أبو عبيدة صاحب أخبارٍ وغريب ولم يكن له معرفة بالنحو.
قال الفراء (٤): كل جمع على لفظ الواحد المذكر سبق جمعه واحدته فواحده بزيادة هاء فيه، وذلك مثل الصوف والوبر والشعر والقطن والعشب، فكل واحد من هذه الأسماء اسم لجميع جنسه، فإذا أفردت واحدته (٥) زيدت فيها هاء؛ لأن جمع هذا الباب سبق واحدته، ولو أن الصوفة كانت سابقة للصوف لقالوا: صوفَةٌ وصُوَف وبُسْره وبُسَر كما قالوا:
(١) جاء عند القرطبي ٧/ ٢٠ عن أبي الهيثم قال: (من أنكر أن يكون الصور قرنًا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط وطلب لها تأويلات) اهـ، وهذا الكلام عن أبي الهيثم فيه مبالغة ونظر، خاصة وأن إمام الحفاظ قد ارتضاه في "صحيحه". قال السمين في "الدر" ٤/ ٦٩٤: (ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم) اهـ.
(٢) يعني بفتح الواو، وهي قراءة الحسن، ومعاذ القارئ، وأبي مجلز وأبي المتوكل، وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض، وقراءة الجمهور بسكونها. انظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٤٨، و"مختصر الشواذ" ص ٣٨، و"زاد المسير" ٣/ ٦٩.
(٣) يعني بسكون الواو: صُورَكم.
(٤) انظر: "المذكر والمؤنث" للفراء ص ٦٩، ١٠١، و"المذكر والمؤنث" لابن التستري ص ٥٢، و"الإغفال" لأبي علي الفارسي ص ١١١٣.
(٥) في (ش): (واحد)، وهو تحريف.
231
غُرْفة وغُرَف وزُلْفَة وزُلَف. وأما الصور: القرن فهو واحد لا يجوز أن يقال: واحدتها صورَة، وإنما تَجمع صورة الإنسان صورًا لأن واحدته لسبقت جمعه) (١).
قال الأزهري: (قد احتج أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه، وهو قول أهل السنة والجماعة، والدليل على صحة ما قال أن الله تعالى إذا بعث الأموات ينشئهم كيف شاء، ومن ادعى أنه يصورهم ثم ينفخ فيهم فعليه البيان) (٢)، انتهى كلامه.
وقد ذكرنا من كلام أبي الهيثم مثل ما ذكرها هنا في جمع السور في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ﴾ [البقرة: ٢٣]، واحتج أهل التفسير (٣) علَى أن المراد بالصور هاهنا القرن بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى﴾ [الزمر: ٦٨] ولم يقل: فيها، وأيضًا فإنه لا ينفخ في الصور للبعث مرتين إنما ينفخ مرة واحدة، وبما ورد في الأخبار من ذكر النفخ في القرن كقوله عليه السلام: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه" (٤)
(١) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٦٠، و"اللسان" ٤/ ٢٥٢٤ - ٢٥٢٥ (صور)، وذكره عن الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٣٣.
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٦٠، وهذا القول هو الظاهر عند أكثر أهل العلم. وقال الزجاجي في "اشتقاق أسماء الله" ص ٢٤٣ - ٢٤٤: (أهل اللغة على أن الصّور جمع صورة، وقيل: إنه قرن، ومذهب أهل العربية غير فاسد؛ لأنه جائز أن يُنفخ في القرن ثم يمتد النفخ بإرجاع تلك الأرواح إلى الصور فتحيا بإذن الله) ا. هـ. بتصرف.
وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٣٩ وما بعدها، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٤٧، وابن عطية ٥/ ٢٤٩، و"النهاية" لابن الأثير ٣/ ٦٠، والقرطبي ٧/ ٢٠، وابن كثير ٢/ ١٦٣، وكلهم رجح أنه قرن، وحكى السمرقندي ١/ ٤٩٤، إجماع المفسرين عليه.
(٣) انظر: "الإغفال" ص ١١١٣.
(٤) الحديث روي من طرق يقوي بعضها بعض عن جماعة من الصحابة عن =
232
الحديث، قال الفراء: (والعرب (١) تقول: نفخ الصور ونفخ في الصور وأنشد (٢):
لَوْلَا ابْنُ جَعْدَةَ لَمْ يُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُمْ وَلاَ خُرَاسَانُ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّورُ) (٣)
= النبي - ﷺ -، فقد أخرجه ابن أبي شيبة ٦/ ٧٧ (٢٩٥٨)، وأحمد ١/ ٣٢٦، ٣/ ٧٣، ٤/ ٣٧٤، والترمذي (٢٤٣١) كتاب: صفة القيامة، باب: ما جاء في شأن الصور، (٣٢٤٣)، كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الزمر، والنسائي في "التفسير" ١/ ٣٤٠، والحاكم ٤/ ٥٥٩، وقال الترمذي: (حديث حسن)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٤٢: (وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني في "الأوسط" وأبي نعيم في "الحلية" والبيهقي في "البعث".)، وأخرج أبو داود (٤٧٤٢)، كتاب: السنة، باب: في ذكر البعث والصور، والترمذي (٢٤٣٠)، كتاب: صفة القيامة، باب: ما جاء في شأن الصور) (٣٢٤٤)، كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الزمر، وأحمد ١٠/ ٩، ١١/ ٥٨، والدارمي ٣/ ١٨٤٤ (٢٨٤٠)، والحاكم ٢/ ٤٣٦، ٥٠٦، ٤/ ٥٦٠، والنسائي في "التفسير" ٢/ ٢٤٤ من طرق جيدة عن عبد الله بن عمرو، أن أعرابيًّا سأل النبي - ﷺ - عن الصور؟ فقال: "قرن ينفخ فيه"، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه أحمد شاكر في "حاشية المسند"، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٤٢، وزاد نسته إلى ابن المبارك في "الزهد" وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "البعث"، وهذا الحديث يُعَدُّ نصًّا في أن الصور قرن.
(١) في (أ): (والعرب تقول والعرب)، وهو تحريف.
(٢) لم أقف على قائله، وهو في "تفسير الطبري" ٧/ ٢٤١، و"الزاهر" ١/ ٤١٦، و"المعرب" للجواليقي ص ٥١٢، و"الأنساب" للسمعاني ٤/ ٥٦٦، و"الدر المصون" ٤/ ٦٩٤.
وقهندز: بالضم، وقيل: بالفتح: كلمة أعجمية معربة تعني القلعة أو الحصن. انظر: "معجم البلدان" ٤/ ٤١٩، و"التاج" ٨/ ١٣٣، وابن جعدة هو عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي، انظر: "حاشية الطبري".
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٠.
233
٧٤ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾ قال محمد بن إسحاق (١) والضحاك (٢) والكلبي: (آزر: أبو إبراهيم، وهو تارح (٣) مثل إسرائيل ويعقوب)، وهو قول الحسن (٤) والسدي (٥) قالوا جميعًا: (آزر: اسم أبي إبراهيم)، وقال مقاتل بن حيان (٦): (هو لقب [له] (٧)).
وقال سليمان (٨) التيمي (٩): (هو سبّ وعيب، ومعناه في كلامهم: المعوّج).
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٢٤٢، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٢٥ بسند جيد.
(٢) ذكره الثعلبي ١٧٩ ب، والبغوي ٣/ ١٥٨، والقرطبي ٧/ ٢٢ عن الضحاك وابن إسحاق والكلبي.
(٣) في (ش): (تارخ) وأكثر المصادر تذكره بالحاء المهملة، قال ابن كثير في البداية والنهاية ١/ ١٤٢: (ابن عباس والجمهور على أن اسم أبيه تارح، وأهل الكتاب يقولون: تارخ بالخاء المعجمة) ا. هـ. بتصرف، وانظر: "عرائس المجالس" ص ٧٢، و"تفسير مبهمات القرآن" ١/ ٤٣١.
(٤) ذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٤٨، وذكره الماوردي ٢/ ١٣٤، وابن الجوزي ٣/ ٧٠ عن الحسن والسدي.
(٥) أخرجه الطبري ٧/ ٢٤٢ بسند جيد، وذكره السمرقندي ١/ ٤٩٥ عن السدي والكلبي.
(٦) ذكره الثعلبي ١٧٩ ب، والبغوي ٣/ ١٥٨، وابن الجوزي ٣/ ٧١، والقرطبي ٧/ ٢٢.
(٧) لفظ: (له) ساقط من (ش).
(٨) سليمان بن طرخان القيسي التيمي أبو المعتمر البصري، إمام عابد تابعي محدث علامة، وثقه وأثنى عليه العلماء، توفي سنة ١٤٣هـ، وله ٩٧ سنة.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٢٥٢، و"الجرح والتعديل" ٤/ ١٢٤، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ١٩٥، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ١٥٠، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٩٩.
(٩) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٣٢٥ بسند صعيف، وذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٤٨، والثعلبي ١٧٩ ب، والبغوي ٣/ ١٥٨.
قال أبو إسحاق (١): (وليس بين النسّابين اختلاف أن اسم أبي إبراهيم تارح (٢)، والذي في القرآن يدل على [أن] (٣) اسمه آزر فكأن آزر لقب له، وقيل: آزر عندهم ذمّ في لغتهم، كأنه قيل: وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطئ، كأنه عابه بزيغِه وتعوّجِه عن الحق)، ونحو هذا قال الفراء (٤) سواء.
وقال ابن الأنباري: (قد يغلب على اسم الرجل لقبه حتى يكون به أشهر منه باسمه، فيمكن أن يكون آزر اسم أبي (٥) إبراهيم الصحيح وتارح (٦) لقب له، وجائز أن يكون آزر لقبًا أبطل الاسم لشهرة الملقّب به، فخبّر الله تعالى بأشهر اسميه؛ لأن اللقب مضارع للاسم) (٧).
٧٥ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال الزجاج: (أي: ومثل ما وصفنا من قصة إبراهيم من قوله لأبيه ما قال نريه ﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (٨) يعني: كما أريناه استقباح ما كان عليه أبوه وقومه من عبادة الأصنام نريه الملكوت للاعتبار.
(١) "معانى الزجاج" ٢/ ٢٦٥ بتصرف، وزاد: (وقيل: آزر: اسم صنم).
(٢) في (ش): (تارخ)، بالخاء المعجمة، وعند الزجاج بالمهملة.
(٣) لفظ: (أن) ساقط من (أ).
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٠.
(٥) جاء في (أ): (أب)، في كل المواضع السابقة.
(٦) في (ش): (تارخ)، في كل المواضع السابقة.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٦٦، وابن الجوزي ٣/ ٧١، والراجح أن آزر اسم أبي إبراهيم، وهو علم وليس لقب؛ لأن ظاهر القرآن والمحفوظ عن أهل العلم وغيره مجرد احتمالات ودعوى تحتاج إلى دليل، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٤٢ - ٢٤٣، وابن كثير ٢/ ١٦٨، وغيرهما، وانظر: "المعارف" لابن قتيبة ص ٣٠، وابن عطية ٥/ ٥٢٥١، و"المعرب" للجواليقي ص ١٣٤، والرازي ١٣/ ٣٧، والقرطبي ٧/ ٢٢.
(٨) "معانى الزجاج" ٢/ ٢٦٥.
235
والملكوت: بمنزلة الملك، إلا أن (١) التاء زيدت للمبالغة، كالرَّغَبُوت (٢) والرهبوت (٣)، ووزنه من الفعل فعلوت (٤). كذلك قال أهل اللغة (٥).
واختلفوا في: ﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ما هو؟ فقال ابن عباس في رواية (٦) عطاء: (يريد: أن الله أراه ما يكون في السموات من عجائب خلق ربه من عبادة الملائكة ومن طاعتهم ومن خشوعهم وخوفهم من الله عز وجل، وما في جميع الأرض من عصيان بني آدم وجرأتهم على الله، فكان يدعو على كل من يراه في معصية فيهلكه الله، فأوحى الله إليه: [يا إبراهيم] (٧) أمسك عن عبادي، أما علمت أنه من أسمائي أنا الصبور) (٨).
(١) في (أ): (لأن التاء).
(٢) الرغبوت، بفتح الراء والغين وضم الباء: من رغب بمعنى أراد. انظر: "القاموس" ص ٩٠ (رغب).
(٣) الرَّهَبُوت، بفتح الراء والهاء، وضم الباء: من رهب بمعنى خاف. انظر: "القاموس" ص ٩٢ (رهب).
(٤) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٦٥، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٩٧ - ١٩٨، و"تفسير الطبري" ٧/ ٢٤٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٤٩.
(٥) انظر: ملك في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٤٩، و"الصحاح" ٥/ ١٦١٠، و"اللسان" ٧/ ٤٢٦٧.
(٦) أخرج الطبري ٧/ ٢٤٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٢٦ بسند ضعيف عنه نحوه، وأخرج الطبري ٧/ ٢٤٧ بسند ضعيف عن عطاء نحوه، وأخرج الطبري ٧/ ٢٤٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٢٦ بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني به: الشمس والقمر والنجوم) اهـ. وفي رواية عند الطبري بسند جيد قال: (خلق السموات والأرض)، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٤٥.
(٧) لفظ: (يا إبراهيم) ساقط من أصل (أ) وملحق بالهامش.
(٨) الصبور صفة لله سبحانه وتعالى ومعناه: الذي يملي ويمهل ولا يعجل بالعقوبة، وأكثرهم عده =
236
وقد روى علي -رضي الله عنه-، عن النبي - ﷺ - (١) في تفسير: ﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مثل هذا الذي ذكره ابن عباس.
وهو قول مجاهد (٢) وسعيد (٣) بن جبير قالا: (إنه كشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين).
وقال قتادة (٤) والضحاك (٥): (﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ﴾: الشمس والقمر
= اسمًا من أسماء الله تعالى، ولم يثبته محمَّد العثيمين في "القواعد المثلى" ص ٢١ - ٢٢. وانظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص ٦٥، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص ٤٨١، و"المقصد الأسنى" للغزالي ص ١٣٣، و"شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص ٣٥٢، و"الحق الواضح" للسعدي ص ٥٧؛ وكلهم عده من الأسماء.
(١) ذكره البغوي ٣/ ١٥٨، والقرطبي ٧/ ٢٣، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٤٥، وقال ابن كثير ٢/ ١٦٨: (روى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين عن معاذ وعلي، ولكن يصح إسنادهما) اهـ. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٨/ ٢٠١ (روى الطبراني في "الأوسط" عن جابر عن النبي - ﷺ - نحوه وفيه علي بن أبي علي اللهبي متروك) ا. هـ. بتصرف.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٢٤٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٢٧ من طرق جيدة، وفي "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٨ قال: (الملكوت: الآيات)، وأخرجه الطبري من طرق جيدة، وأخرج أبو الشيخ في "العظمة" ص ٢٩٧ بسند جيد عنه قال: (الشمس والقمر)، وقال ابن أبي حاتم: (وروي عن مجاهد أنه قال: يعني الشمس والقمر والنجوم) اهـ. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٤٤.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ٢٤٧ من طرق جيدة عن سعيد بن جبير وقتادة.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢١٢ - ٢١٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٢٧ من طرق جيدة.
(٥) أخرجه الطبري ٧/ ٢٤٧ بسند ضعيف بلفظ: (الشمس والقمر والنجوم) اهـ، وهذه الأخبار لا حجة فيها وتحتاج إلى مستند، والأولى حمل الآية على ظاهرها، فالملكوت بمعنى الملك أراه الله سبحانه عظيم سلطانه، وجلى له بواطن الأمور وظاهرها، ويحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عيانًا، =
237
والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار، وذلك أن الله تعالى أراه هذه الأشياء حتى نظر إليها معتبرًا مستدلًا بها على خالقها).
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ قال أهل المعاني: (هو معطوف على المعنى؛ لأن معنى الآية: نريه ﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ليستدل به ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ (١)، وقيل: (هو عطف جملة على جملة بتقدير: وليكون من الموقنين أريناه) (٢). قال أبو علي الفارسي: (اليقين (٣) والتيقن: ضرب من العلم مخصوص، فكل علم ليس تيقنًا وإن كان كل تيقن علمًا؛ لأن التيقّن هو العلم الذي قد كان عرض لعالمه إشكال فيه، يبين (٤) ذلك قوله تعالى: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾) (٥).
= ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة، وهذا اختيار الطبري ٧/ ٢٤٧، وابن كثير ٢/ ١٦٨، وانظر: السمرقندي ١/ ٤٩٥، وابن عطية ٥/ ٢٥٥.
(١) هذا ظاهر قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٦٥، قال: (أي نريه ﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لما فعل وليثبت على اليقين).
(٢) هذا قول النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٥٨، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٥٨، وانظر: "البيان" ١/ ٣٢٨، و"التبيان" ٣٤٢، و"الفريد" ٢/ ١٧٧، و"الدر المصون" ٥/ ٧.
(٣) اليقين في اللغة: العلم وتحقق الأمر وزوال الشك. وقال العسكري في "الفروق" ص ٦٣: (هو سكون النفس وثلج الصدر بما علم) ا. هـ. وقال الراغب في "المفردات" ص ٨٩٢: (هو من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم) اهـ، وانظر "العين" ٥/ ٢٢٠، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٨، و"الصحاح" ٦/ ٢٢١٩، و"مقاييس اللغة" ٦/ ١٥٧، و"اللسان" ٨/ ٤٩٦٤ (يقن).
(٤) في (أ): (تبين) بالتاء، وهو تصحيف.
(٥) "الحجة" لأبي علي ١/ ٢٥٦، وزاد: (اليقين كأنه علم يحصل بعد استدلال ونظر لغموض المعلوم أو لإشكال ذلك على الناظر، فليس كل علم يقينًا؛ لأن من المعلومات ما يعلم ببداءة العقول والحواس) ا. هـ. ملخصًا.
238
٧٦ - [و] (١) قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾ الآية. يقال: جنّ عليه الليل وأجنَّه الليل، ويقال لكل ما ستر: قد جنّ وأجن، ويقال أيضًا: جَنت الليل (٢)، ولكن الاختيار جنّ عليه الليل، وأجنه الليل (٣)، هذا قول جميع أهل اللغة، ومعنى ﴿جَنَّ﴾: ستر، ومنه الجَنَّة (٤) والجِنُّ والجُنُون
(١) لفظ: (الواو): ساقط من (أ).
(٢) (جن يستعمل لازمًا ومتعديًا، وهو مما اتفق فيه أفعل وفعل، إلا أن الأجود جن عليه الليل وأجنه الليل، فيكون الثلاثي لازمًا وأفعل متعديًا). انظر: "الدر المصون" ٥/ ٨.
(٣) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٦٦.
(٤) هذه كلمات تحتاج إلى ضبط وهي على الترتيب كما يلي:
الجَنَّة: بفتح الجيم والنون المشدد. البستان كثير الشجر.
والجِنّ: بكسر الجيم وتشديد النون: خلاف الإنس والواحد، جِنّيٌّ.
والجُنُون: بضم الجيم والنون، يقال: جُنَّ الرَّجُلُ جُنُونًا، وأَجَنَّه الله، فهو مَجْنُون. ويقال: جن عليه الليل يُجنُّ جُنونًا، أي ستره، وجن النباتُ جُنُونًا أي طال والتف.
والجَنَانُ، بالفتح: القَلْبُ، والرُّوحُ، وظَلامُ الليل.
والجنين، بفتح الجيم وكسر النون: الولد في البطن، وكل مستور.
والمِجَنُّ، بكسر الميم وفتح الجيم: التُّرْس، وكل ما استتر به من السلاح.
والجَنَنُ، بالفتح: القبر، والميت، والكفن.
والجُنُنُ، بالضم: الجُنُونُ، حذفت منه الواو.
والمُجَنُّ، ضبط في النسخ بضم الميم وفتح الجيم، ولم أقف على أنه المقبور، وفي "الصحاح": (جُنَّ الرجل جنونًا وأجنَّه الله فهو مجنون ولا يقال مُجَنٌّ).
والجُنَّة، بضم الجيم وفتح النون المشددة: ما استتر به من السلاح، وكل ما وَقَى. والجِنَّة، بكسر الجيم: الجنون، وذلك أن يغطي العقل.
انظر: "العين" ٦/ ٢٠، و"الجمهرة" ١/ ٩٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٦٧٣، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٩٣، و"المجمل" ١/ ١٧٥، و"مقاييس اللغة" ١/ ٤٢١، و"المفردات" ص ٣٠٣، و"اللسان" ٢/ ٧٠٢، و"القاموس" ص ١١٨٧ (جن).
239
والجَنان والجنين، المجنُ والجنن والمُجن وهو المقبور، والجُنَّة والجِنّة، كل هذا يعود أصله إلى الستر والاستتار، ويقال في مصدره: جَنّ جَنًّا وجنونًا وجنانًا (١).
ويروى بيت دُريد (٢) بالوجهين:
وَلَوْلَا جَنونُ اللَّيلِ أَدْرَكَ رَكْضُنَا بِذِي الرَّمْثِ والأَرْطَى عِياضَ بنَ ناشِبِ (٣)
ويروى (٤): (جنان الليل). قال بعض النحويين: (﴿جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ أي: أظلم عليه الليل (٥) ولهذا دخلت على، كما تقول في أظلم، فأما جنّه فستره من غير تضمين معنى أظلم) (٦).
(١) انظر: المراجع السابقة. وقال الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٤٧: (المصدر من جن عليه: جنًّا وجُنُونًا وجَنَانًا، ومن أجن إجنانًا...) اهـ. وقال السمين في ٥/ ٨: (مصدره جَنُّ وجَنان وجُنون) اهـ.
(٢) درَيْد بن الصِّمَّة الجُشمي من هوازن، شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته.
(٣) "ديوانه" ص ٢٩، و"مجاز القرآن" ١/ ١٩٨، و"الأصمعيات" ص ١١٢، و"إصلاح المنطق" ص ٢٩٥، و"الجمهرة" ١/ ٩٣، و"الأغاني" ١٠/ ١٦، و"المجمل" ١/ ١٧٥، و"مقاييس اللغة" ١/ ٤٢٢، و"اللسان" ٢/ ٧٠١، وهو لخفاف بن ندبة السُّلَمي في "ديوانه" ص ١٣٠، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٩٤.
والرمث والأرطى: نبتان معروفان، وذو الرمث: وادٍ لبني أسد. يقول: لولا أن الليل سترنا لأدركنا عياض بن ناشب الفزاري بذلك المكان فقتلناه.
انظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ٢/ ١٢٩، و"معجم البلدان" ٣/ ٦٨، و"اللسان" ٢/ ٧٠١ (جن).
(٤) ذكره أكثرهم، وهو في "الديوان" وأكثر المراجع، (ولولا جنان)، وهما بمعنى واحد، وفي "الأغاني": (ولولا سواد) بدل (جنان).
(٥) لفظ: (الليل) ساقط من (ش).
(٦) انظر: "الفريد" ٢/ ١٧٧.
240
وقوله ﴿رَأَى﴾ فيه ثلاثة أوجه (١) من القراءة، فتح الراء والهمزة. [وفتح الراء وكسر (٢) الهمزة نحو الإمالة. وكسر الراء والهمزة] (٣) للإمالة، فأما من فتحهما جميعًا فعلّته واضحة؛ وهي ترك الألف على الأصل نحو: رَعَى ورمى لمَّا لم يُمِل الألف لم يمل الفتحة الفتحة التي قبلها، كما يميلها من يرى الإمالة ليميل الألف نحو: الياء.
وأمّا من فتح الراء وكسر الهمزة فإنه أمال الهمزة نحو الكسرة لتميل الألف التي في رأى نحو الياء، كما تمال الفتحة التي على الدال في هدى والميم من رمى لتميل الألف، وترك الراء مفتوحة على الأصل.
وأمّا من كسرهما جميعًا فإنه كسر الراء من رأى؛ لأن المضارع منه على يفعل، وإذا كان المضارع على يفعل كان الماضي على فَعِل، ألا ترى أن المضارع في الأمر العام إذا كان على يفعل كان الماضي على فَعِلَ، وإنما فتحوا الماضي في حروف ذوات عدد اختص موضع العين منها واللام بأحد حروف الحلق، وهي متسفلة المخارج، فشابوا ذلك منها بشيء من التصعّد وهو الفتحة في العين، ليعتدل الكلام، وإذا كان الماضي كأنه على فِعِلَ كسر (٤) الراء التي هي فاء؛ لأن العين همزة، وحروف الحلق إذا جاءت
(١) قرأ ابن عامر وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: (رأى) بكسر الراء والهمزة. وقرأ ابن كثير وعاصم: (رأى) بفتح الراء والهمزة. وقرأ أبو عمرو: بفتح الراء وكسر الهمزة. وقرأ نافع: بين الفتح والكسر. انظر: "السبعة" ص ٢٦٠، و"المبسوط" ص ١٧٠، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٢، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٩.
(٢) في (ش): (وكسرة)، وهو تحريف.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٤) كذا في النسخ، وفي "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٢٨: (كسرة الراء)، وهو الصواب، وقد ورد في بعض نسخ "الحجة" كسر الراء كما في "الحاشية".
241
في كلمة على زنة فِعِل كسرت فيها الفاء لكسرة العين في الاسم والفعل، وذلك نحو قولهم في الاسم: حمار نِعرٌ (١) ورجل محك (٢) وماضغ لهم، وفي الفعل نحو: شِهِدَ ولِعِبَ ونِعِمَ، فكسرة الراء على هذا كسرة مخلصة محضة، وليست بفتحة مُمالةٍ، وأما كسرة الهمزة فإنه يراد بها إمالة فتحتها إلى الكسرة لتميل (٣) الألف نحو الياء، فإن قلت: إن الفاء إنما تكسر لتتبع الكسرة في نحو: شهد، والهمزة في رأى مفتوحة، فكيف أجيز كسره، مع أن بعدها حرفًا مفتوحًا؟.
قيل: إنه فيما نزلناه وبينّاه بمنزلة الكسرة، فأتبع الفتحة الكسرة المقدرة، فإن لقي رأى ساكن نحو: ﴿رَأَى القَمَرَ﴾ و ﴿رَأَى الشَّمسَ﴾ ففيه أيضًا ثلاثة أوجه من القراءة (٤):
أحدهما: فتح الراء والهمزة معًا، وهو قراءة العامة، ووجه ذلك أنه الأصل على قراءة من فتحهما إذا لم يلقه ساكن، وأما من كان يكسرهما إذا لم يلقه ساكن ثم فتحهما عند الساكن مثل الكسائي، فوجه ذلك: أن إمالة الفتحة في الهمزة إنما كانت لتميل الألف نحو الياء، فلما سقطت الألف بطلت إمالتها لسقوطها، ولما بطلت إمالتها لسقوطها بطلت إمالة الفتحة نحو الكسرة لسقوط الألف التي كانت الفتحة الممالة تميلها نحو الياء، وأما
(١) النُّعَر: داء يأخذ الإبل في رؤوسها، وحمار نَعِرٌ، بفتح النون وكسر العين: أي لا يستقر في مكان.
انظر: "الكتاب" ٣/ ٥٨٥، و"اللسان" ٧/ ٤٤٧٢ (نعر).
(٢) رجل محك، بفتح الميم وكسر الحاء، أي: لجُوج عسر الخُلق. انظر: "اللسان" ٧/ ٤١٤٧ (محك).
(٣) انظر: في (ش): (ليميل).
(٤) انظر: المراجع السابقة في قراءة (رَأَى).
242
فتح الراء هاهنا وقد كسره في ﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾ فلأنه أخذ باللغتين فكسر هناك لما ذكرناه (١) وفتح هاهنا؛ لأنه جعله بمنزلة الراء في رمى (٢) ورعى.
الوجه الثاني في القراءة: كسر الراء وفتح الهمزة، وهي قراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر (٣)، أما كسر الراء فإنما هو للتنزيل والتقدير الذي ذكرنا، وهو معنى منفصل عن إمالة فتحة الهمزة، ألا ترى أنه يجوز أن يُعمل هذا المعنى من لا يرى الإمالة، كما يجوز أن يُعمله من يراها، فإذا كان كذلك كان انفصال أحدهما عن الآخر سَائغًا غير ممتنع.
وروى يحيى بن (٤) آدم عن أبي بكر (٥): ﴿رِأِى القمر﴾: بكسر الراء والهمزة معًا، أما وجه كسر الراء فقد ذكرنا، وأما إمالة فتحة الهمزة مع
(١) في (ش): (ذكرنا).
(٢) في (أ): (رما، ورعا). وكذلك جاء في بعض نسخ "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٣٠.
(٣) أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الحفاظ الكوفي، مشهور بكنيته، مختلف في اسمه، فقيل: كنيته هي اسمه، وقيل: اسمه شعبة، وهو إمام فاضل عابد ثقة مقرئ أتقن قراءة عاصم وعرض القرآن عليه ثلاث مرات، توفي سنة ١٩٤هـ، أو قبلها، وله نحو ١٠٠ سنة.
انظر: "الحلية" ٨/ ٣٠٣، و"سير أعلام النبلاء" ٨/ ٤٩٥، و"معرفة القراء" ١/ ١٣٤، و"ميزان الاعتدال" ٦/ ١٧٣، و"غاية النهاية" ١/ ٣٢٥، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٤٩٢.
(٤) يحيى بن آدم بن سليمان الأموي أبو زكريا الكوفي إمام فاضل حافظ ثقة مقرئ فقيه من أوعية العلم، وله كتب جيدة توفي سنة ٢٠٣ هـ، وله نحو ٧٣ سنة.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ٤٠٢، و"الجرح والتعديل" ٩/ ١٢٨، و"سير أعلام النبلاء" ٩/ ٥٢٢، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ٣٥٩، و"غاية النهاية" ٢/ ٢٦٣، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٣٣٧.
(٥) في "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٣١: (روى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن عاصم).
243
زوال ما كان يوجب إمالتها من حذف الألف فلأن الألف محذوفة لالتقاء الساكنين، وما يحذف لالتقاء الساكنين فقد ينزّل تنزيل المثبت، ألا ترىَ أنهم قد أنشدوا:
وَلاَ ذَاكِرِ الله إلاَّ قَلِيلا (١)
فنصب الاسم بعد ذاكر، وإن كانت النون محذوفة لمّا كان الحذف لالتقاء الساكنين، والحذف لذلك في تقدير الإثبات من حيث كان التقاؤهما غير لازم، ومن ثم لم يرد الألف في نحو: رمت المرأة (٢).
فأما قصة الآية ومعناها، فقال السدي (٣)، ومحمد بن إسحاق (٤)
(١) "الشاهد" لأبي الأسود الدؤلي في "ديوانه" ص ٥٤، و"الكتاب" ١/ ١٦٩، و"معاني الفراء" ٢/ ٢٠٢، و"المقتضب" ٢/ ٣١٢، و"اللسان" ٥/ ٢٧٩٣، عتب، وبلا نسبة في "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٧، و"معاني الأخفش" ١/ ٨٦، و"مجالس ثعلب" ص ١٢٣، و"الأصول" ٣/ ٤٥٥، و"الشعر" لأبي علي ١/ ١١٤، و"الخصائص" ١/ ٣١١، و"المنصف" ٢/ ٢٣١، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٦٤، وصدره:
فَاْلفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ
الشاهد: حذف التنوين من ذاكر لالتقاء الساكنين أو ضرورة. انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي ٢/ ٩٣٤.
(٢) هذا قول أبي علي الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣٢٦ - ٣٣٢، وانظر: "معاني القراءات" للأزهري ١/ ٣٦٤، و"إعراب القراءات" لابن خالويه ١/ ١٦١، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٢، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٥٦، و"الكشف" ١/ ٤٣٦.
(٣) أخرجه الطبري في "تاريخه" ١/ ٢٣٦ عن السدي وابن إسحاق، وأخرجه ابن أبي هاشم ٤/ ١٣٢٩ عن السدي، وذكره الثعلبي في "عرائس المجالس" ص ٧٤، عن السدي وابن إسحاق.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٤٦ - ٣٤٧ عن السدي وابن إسحاق وقتادة، وانظر: نحوه في "تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٢/ ١٣٧، وهذا من الإسرائيليات، والآية ظاهرة =
244
والعلماء بأخبار الماضين: (٨) (لما شب إبراهيم في السرب [الذي ولد فيه، قال لأبويه: أخرجاني فأخرجاه، من السرب] (١) وانطلقا به حين غابت الشمس، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم، فقال: ما لهذه بُدّ من أن يكون لها رب وخالق، ثم نظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي ما لي إله غيره، ثم نظر فإذا المشتري قد طلع، ويقال: الزهرة، وكانت تلك الليلة في آخر الشهر، فرأى الكوكب قبل القمر فقال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾).
واختلفوا في معنى قوله: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ فقال أهل التحقيق من العلماء: (إن إبراهيم عليه السلام لم يكن قط في ضلال وحيرة، وكيف يتوهم ذلك على من عصمه الله وطهّره في مستقره ومستودعه؟ وما زال في حكم الله نبيًّا والله تعالى يقول: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٤] أي: لم يشرك به قط، كذلك قال المفسرون، ويقول (٢): ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية. [الأنعام: ٧٥] أفترى الله أراه الملكوت ليوقن، فلما أيقن ﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾ فقال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ على الحقيقة والاعتقاد! هذا ما لا يكون أبدًا، وإنما معنى قوله: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ أن قومه كانوا يعبدون النجوم ويعظمونها ويحكمون بها.
= واضحة، وليس تفسيرها في حاجة إلى هذه المرويات قال ابن كثير في "تاريخه" ١/ ١٤٣: (الظاهر أن الموعظة لأهل حران، فإنهم يعبدون الكواكب، وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب، لما كان صغيرًا، كما ذكره ابن إسحاق وغيره، وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها، ولا سيما إذا خالفت الحق..) اهـ.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٢) لفظ: (الواو): ساقط من (أ).
245
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ رأى الزهرة فقال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ يريد: أن يستدرجهم بهذا القول، ويعرفهم خطأهم، وجهلهم في تعظيمهم شأن النجوم وقضائهم على الأمور بدلالاتها، فأراهم أنه معظَّم ما عظّموا، وملتمس الهدى من حيث التمسوا، وكل من تابعك على هواك وشايعك على أمرك كنت به أوثق وإليه أسكن وأركن، فأنِسوا واطمأنوا ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أراهم النقص الداخل على النجم بالأفول؛ لأنه ليس [ينبغي] (١) [لإله] (٢) أن يزول ولا أن يغيب فقال: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ أي: لا أحب من كانت حالته أن يطلع ويسير على هيئة يتبين معها أنه محدث منتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، أي: لا أتخذ ما هذه حاله إلها، كما أنكم لا تتخذون كل ما قد يجري مجرى هذا من سائر الأشياء آلهة.
وقيل: إنه قال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ على جهة الاحتجاج على قومه لا على معنى الشك ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ عندكم وفيما تظنون وفي زعمكم، كما قال الله عز وجل: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢)﴾ [القصص: ٦٢] فأضافهم إلى نفسه حكايته لقولهم، وكقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩] أي: عند نفسك.
وجائز أن يكون هاهنا إضمار القول كأنه قال: [تقولون] (٣): ﴿هَذَا رَبِّي﴾ وإضمار القول كثير كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا﴾ [البقرة: ١٢٧] أي: يقولان: ربنا، وقوله تعالي: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ﴾ [الزمر: ٣] معناه: يقولون ما نعبدهم،
(١) في (أ): (يتبغى)، وهو تصحيف.
(٢) في (أ): (للاله).
(٣) في (ش): (يقولون).
246
فكأن إبراهيم قال لقومه: [تقولون] (١) ﴿هَذَا رَبِّي﴾ أي: هذا الذي يدبّرني؛ لأنهم كانوا أصحاب نجوم يرون التدبير في الخليقة لها، فاحتج عليهم بأن الذي [تزعمون] (٢) أنه مُدَبِّر فيه أثر أنه مُدبّر لا غير).
فهذه ثلاثة أوجه صحيحة في تأويل الآية، ذكرها أهل المعاني، الوجه الأول: قول الفراء (٣)، واختيار عبد الله بن مسلم (٤)، والثاني والثالث: ذكرهما الزجاج (٥) وابن الأنباري (٦) وفي قوله: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ دلالة على أن ما غاب بعد ظهوره فليس برب، وفيه حجة على
(١) في (ش): (يقولون).
(٢) في (ش): (يزعمون).
(٣) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٤١.
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٣٥ - ٣٣٨، وقد نقل المؤلف نص كلامه.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٧ وفيه قال: (والذي عندي في هذا القول أنه قال لهم: تقولون هذا ربي، أي: هذا يدبرني؛ لأنه فيما يروى أنهم أصحاب نجوم فاحتج عليهم بأن الذي تزعمون أنه مدبر إنما يرى فيه أثر مُدبر لا غير) اهـ. وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٥٠.
(٦) ذكره المؤلف في "الوسيط" ١/ ٦٨ - ٦٩، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٧٤، والصحيح في معنى الآية ما ذهب إليه الجمهور من أن هذا القول كان في مقام المناظرة لقومه؛ لإقامة الحجة عليهم في بطلان ما هم عليه من عبادة الكواكب والشمس والقمر؛ لأن الموافقة في العبارة على طريق إلزام الخصم من أبلغ الحجج وأوضح البراهين، ولأن الله تعالى قال في نفس القصة: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ [الأنعام: ٨٠].
وهو اختيار الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره" ٢/ ١٦٩.
وانظر "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٦٠، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٦١، وابن عطية ٥/ ٢٦١، والفخر الرازي ١٣/ ٥٩، و"البحر المحيط" ٤/ ١٦٦.
247
أن ما تغير (١) بالظهور تارة والأفول (٢) تارة كان حادثًا مدبرّا مسخرًا مصرفًا (٣)، وذلك ينافي صفة الإله المعظم.
٧٧ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا﴾ يقال: بزغ القمر: إذا ابتدأ في الطلوع، وبزغت الشمس إذا بدا منها (٤) طلوع، ونجوم بوازغ (٥).
قال الأزهري (٦): (كأنه مأخوذ من البزغ، وهو الشقّ، كأنه يشق بنوره الظلمة شقًّا، ومن هذا يقال: بزغ البيطار (٧) أشعار الدابة إذا شق ذلك المكان منها [بمبزغه] (٨)). قال الطرماح:
كَبزْغِ البِيَطْرِ الثَّقْفِ رَهْصَ الكوادِنِ (٩)
(١) في (ش): (يغبر)، وهو تصحيف.
(٢) في (ش): (وبالأفول). وقال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ٥/ ٥٤٧، ٦/ ٢٨٤: (اتفق أهل اللغة والتفسير على أن الأفول هو: التغيب والاحتجاب).
(٣) في (ش): (ومدبرًا مسخرًا ومصرفًا).
(٤) في (ش): (فيها).
(٥) انظر: "العين" ٤/ ٣٨٥، و"الجمهرة" ١/ ٣٣٣، و"البارع" ص ٣٦٤، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٤٤، و"المجمل" ١/ ١٢٤، و"المفردات" ص ١٢٢ (بزغ).
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٣٢٨.
(٧) البَطْر: الشق، وبه سمى البَيْطار بَيْطارًا. انظر: "اللسان" ١/ ٣٠١ (بطر).
(٨) في (ش): بمبزعه: بالعين المهملة، وهو تصحيف، وعند الأزهري [بمبضعه]، وفي "اللسان" ١/ ٢٧٦ (بزغ): (يقال للحديدة التي يشترط بها: مبزغ ومبضع) اهـ.
(٩) الشاهد في "ديوانه" ص ١٧٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٢٨، و"اللسان" ١/ ٣٠١ (بطر)، وهو في "الصحاح" ٤/ ١٣١٥ (بزغ) للأعشى وليس في "ديوانه" وأوله:
يُساقطُها تَتْرَى بِكُلِّ خَميلَة
قال ابن منظور في "اللسان" ١/ ٢٧٦ (بزغ): (هو للطرماح يصف ثورًا طعن الكلاب بقرنيه، والرَّهْص جمع رَهْصة وهي أن يَدْوَى حافِر الدابة من حجر تطؤه، والكوادن البراذين) اهـ.
فأما معنى الآية: فإن إبراهيم عليه السلام اعتبر في القمر والشمس مثل ما اعتبر في النجم، وكانت حجته فيهما على قومه كالحجة في الكواكب (١).
وقوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ لا يوجب أنه لم يكن مهتديًا؛ لأن معناه: لئن لم يثبتني على الهدى، والأنبياء لم تزل تسأل الله ذلك وتعلم أنه لولا هداية الله (٢) ما اهتدت، وإبراهيم يقول: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥]
٧٨ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ قال أبو بكر ابن الأنباري: (إنما قال: هذا والشمس (٣) مؤنثة؛ لأن الشمس بمعنى: الضياء والنور، فحمل الكلام على تأويلها فذكر وأعان على التذكير أيضًا أن (٤) الشمس ليست فيها علامة التأنيث، فلما أشبه لفظها المذكر وكان تأويلها تأويل النور صلح التذكير من هاتين الجهتين) (٥)، وأنشد قول الأعشى (٦):
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٧.
(٢) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٨، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٦٢ - ١٦٣.
(٣) انظر: "المذكر والمؤنث" للفراء ص ٩٦، ولابن الأنباري ١/ ١٤٥، ٢١٩، ولابن التستري ص ٨٧. وقال ابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" ١/ ٣٦٢: (قال الفراء: العرب تجتري على تذكير المؤنث إذا لم تكن فيه الهاء) ثم أنشد الشاهد وهو في "المذكر والمؤنث" للفراء ص ٨١، و"معاني القرآن" للفراء ١/ ١٢٧ مع الشاهد.
(٤) (أن): كأنها في النسخ، (إذ)، والأولى ما أثبته.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٦٩، وابن الجوزي ٣/ ٧٦. وذكر ابن الأنباري الشاهد في "المذكر والمؤنث" ١/ ٣٦٦ ونسبه للأعشى وليس في "ديوانه".
(٦) تقدمت ترجمته.
وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا (١)
فذكر أبقل إذ كانت الأرض عارية من علامة التأنيث، وقيل: أراد هذا الطالع وهذا الذي أراه ربي (٢).
وقوله تعالى: ﴿هَذَا أَكْبَرُ﴾ أي: من الكواكب (٣) والقمر، فلما توجّهت الحجة على قومه (٤) قال: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
٧٩ - قوله تعالى: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قال أبو إسحاق: (أي: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل) (٥)، وباقي الآية مفسر فيما تقدم (٦).
(١) الشاهد لعامر بن جوين الطائي شاعر جاهلي، في: "الكتاب" ٢/ ٤٦، و"مجاز القرآن" ٢/ ٦٧، و"الكامل" للمبرد ٢/ ٣٧٩، ٣/ ٩١، و"الأصول" ٢/ ٤١٣، و"اللسان" ١/ ٦١ (أرض)، ١/ ٣٢٨ (بقل)، ٨/ ٤٨٠٠ (ودق) وبلا نسبة في: "معاني الأخفش" ١/ ٥٥، ٢/ ٣٠٠، و"الحجة" لأبي علي ٤/ ٢٣٨، و"المحتسب" ٢/ ١١٢، و"الخصائص" ٢/ ٤١١، و"المخصص" ١٦/ ٨٠، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ٢٤٢، و"المقرب" ١/ ٣٠٣ وصدره:
فَلاَ مُزْنَة وَدَقَتْ وَدْقَها
والمزن: السحاب، والودق: المطر، وأبقلت: أخرجت البقل. والشاهد: حذف التاء من أبقلت للضرورة ولأن الأرض مؤنث مجازي.
(٢) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٠، والطبري ٧/ ٢٥١، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٥٩، و"الدر المصون" ٥/ ١٤.
(٣) في (أ): (الكوكب).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٥١.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٨.
(٦) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ٩٠ أ.
٨٠ - قوله تعالى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ قال ابن عباس: (خاصمه وجادله في آلهتهم وخوفوه بها) (١).
وقال أبو إسحاق: (ومحاجتهم إياه كانت -والله أعلم- فيما عبدوا مع الله جل وعز من الكواكب والشمس والقمر والأصنام فقال: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ﴾ أي: في توحيد الله عز وجل ﴿وَقَدْ هَدَانِ﴾ [أي] (٢) بيّن لي ما به اهتديت) (٣)، وهذا الاستفهام معناه الإنكار للمحاجة في الصرف عن الهداية، والتشديد على النون لاجتماع النونين وإدغام أحدهما (٤) في الآخر. وقرأ (٥) نافع مخففة النون حذف إحدى النونين تخفيفًا، والتضعيف يكره فيتوصل (٦) إلى إزالته تارة بالحذف (٧) نحو: علماء بنو فلانٍ، وتارة بالإبدال نحو: ديوانٍ (٨) وقيراطٍ (٩) والمحذوف الثانية؛ لأن الاستثقال يقع
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٣٥، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧٠، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٧٦.
(٢) لفظ: (أي) ساقط من (ش).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٨.
(٤) أي: إدغام نون الرفع في نون الوقاية.
(٥) قرأ ابن عامر ونافع (أتحاجوني) بتخفيف النون، وشددها الباقون.
انظر: "السبعة" ٢٦١، و"المبسوط" ص ١٧١، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٣، و"التيسير" ص ١٠٤، و"النشر" ٢/ ٢٥٩.
(٦) في (ش): (فتوصل).
(٧) في (ش): (وبالحذف)، وهو تحريف.
(٨) ديوان، بالكسر: مجتمع الصحف والدفتر الذي يكتب فيه، وأصله دوَّان بتشديد الواو عوض من إحدى الواوين ياء؛ لأنه يجمع على دواوين. انظر: "اللسان" ٣/ ١٤٦١ (دون).
(٩) القيراط: وحدة وزن معروفة، وأصله قرط بتشديد الراء، أبدل من إحدى حرفي تضعيفه ياء؛ لأن جمعه قراريط. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٥٩١ (قرط).
251
بها، ولأن الأولى في دلالة الإعراب، وقول عمرو:
تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكًا يَسُوءُ الْفَالِياتِ إذَا فَلَيْنِي (١)
فالمحذوفة المصاحبة للياء، ولا يجوز أن يكون الأولى؛ لأن الفعل يبقى بلا فاعل.
وقد جاء حذف هذه النون في كلامهم قال (٢):
أَبِالْمَوتِ (٣) الَّذِي لابُدَّ أَنَّيَ مُلاقٍ لا أباكِ تُخَوّفِيني (٤)
(١) "ديوان عمرو بن معد يكرب" ص ١٨٠، و"الكتاب" ٣/ ٥٢٠، و"معاني الفراء" ٢/ ٩٠، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٥٢، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٥٧، و"اللسان" ٦/ ٣٤٧٠، (فلا). وبلا نسبة في: "معاني الأخفش" ١/ ٢٣٥، و"الجمهرة" ١/ ٤٥٩، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٣، "المنصف" ٢/ ٣٣٧، و"المغني" ٢/ ٦٢١، والثغام: نبات أبيض، ويعل: يطيب، والفاليات من الفلي، وهو إخراج القمل. والشاهد: حذف النون من فلينني.
(٢) الشاهد لأبي حَيّة النميري الهَيْثم بن الربيع، شاعر أموي عباسي. في "مجاز القرآن" ١/ ٣٥٢، و"معاني الأخفش" ١/ ٢٣٥، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٥٧، و"اللسان" ٢/ ١٢٠٧ (خعل)، ١/ ١٨ (أبى)، ٦/ ٣٤٧٠ (فلا)، وبلا نسبة في: "المقتضب" ٤/ ٣٧٥، و"الكامل" للمبرد ٢/ ١٤٢، ٣/ ٢١٨، و"الأصول" ١/ ٣٩٠، و"إعراب النحاس" ٢/ ١٩٧، و"اللامات" للزجاجي ص ١٠٣، و"الخصائص" ٢/ ١٤٢، ٣/ ٢١٨، و"المنصف" ٢/ ٣٣٧، وهو في "أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٢٨ للأعشى وليس في "ديوانه"، والشاهد: حذف النون من تخوفينني.
(٣) جاء في هامش (أ) تصحيح: (أبا الموت) إلى (أبي الموت).
(٤) ما سبق قول إبي علي الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣٣٣ - ٣٣٥، بتصرف. وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٦٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٢، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٥٧، و"الكشف" ١/ ٤٣٦.
252
وقوله تعالى: ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ قال ابن جريج: (خوفوه آلهتهم أن يصيبه منها خبل فقال: ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾) (١)، وقال أبو إسحاق: (أي: هذه الأشياء التي تعبدونها (٢) لا تضر (٣) ولا تنفع ولا أخافها ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾، أي: إلا أن يشاء أن يعذبني، وموضع (أن) نصب، أي: لا أخاف إلاَّ مشيئة الله) (٤)، والتقدير: لكن أخاف مشيئة ربي يعذبني (٥) و (إلا) هاهنا بمعنى: لكن، والاستثناء (٦) منقطع، وهو كما تقول: لا أخاف من السلطان شيئًا إلا أن يظلمني غيره.
وقال ابن عباس (٧): (يريد: أن المشيئة والأسقام والأمراض إليه)، وهذا يدل على أنهم قالوا له: أما تخاف أن تمسَّك آلهتنا بسوءٍ.
٨١ - قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ﴾ معناه: الإنكار للخوف، وهو سؤال تعجيز عن تصحيح الخوف بالبرهان.
وقوله تعالى: ﴿مَا أَشْرَكْتُمْ﴾ يعني: الأصنام (٨): ﴿وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ قال ابن عباس: (يريد: ما
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٢٥٣ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٤٩.
(٢) في (أ): (يعبدونها).
(٣) في (ش): (لا يضر ولا ينفع).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٨ - ٢٦٩، وانظر: "بدائع التفسير" ٢/ ١٥٢ - ١٥٦.
(٥) في (ش): (تعذبني).
(٦) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٦١، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٥٣، وابن عطية ٥/ ٢٦٦، و"التبيان" ص ٢٤٤، و"الفريد" ٢/ ١٨٠، و"الدر المصون" ٥/ ١٩.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٥٣، وابن عطية ٥/ ٢٦٦.
ليس لكم فيه حجة) (١)، والسلطان قوة وحجة يتمكن بها ويتسلط، وقد برق القول فيه (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ﴾ أي: أحق بأن يأمن العذاب الموحّد أم المشرك (٣).
٨٢ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قال ابن عباس: (هذا من قول إبراهيم لقومه) (٤) يريد: أن هذا من تمام كلام إبراهيم في المحاجة، كما يسأل العالم ويجيب نفسه.
وقال ابن زيد (٥): (هذا من قول (٦) قوم إبراهيم لإبراهيم أجابوه لما سألهم أي الفريقين أحق بالأمن؟ بما فيه حجة عليهم).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٣٦، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧١، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٧١، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٣٢ بسند جيد عن ابن عباس قال: (كل سلطان في القرآن حجة)، قال ابن أبي حاتم بعده: (وروي عن أبي مالك ومحمد بن كعب وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي مثله) اهـ.
(٢) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ٢١٢ أ، ونسخة تشستربتي ٢/ ٣٢ أ، ٣٣/ ب.
(٣) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٦٩، والنحاس ٢/ ٤٥٣، وانظر: "بدائع التفسير" ٢/ ١٥٣.
(٤) ذكره القرطبي ٧/ ٣٠، وهو اختيار الرازي ١٣/ ٦٠، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧١، وحكاه النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٥٣ عن مجاهد.
(٥) أخرجه الطبري ٧/ ٢٥٥ بسند جيد عن ابن جريج، وذكره ابن عطية ٥/ ٢٦٧، والقرطبي ٧/ ٣٠، ولم أقف عليه عن ابن زيد.
(٦) لعله يريد المشركين منهم، قال الطبري ٧/ ٢٥٥: (لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الأوثان ويشركونها في عبادة الله لكانوا قد أقروا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد) اهـ.
254
وقال ابن جريج: (هذا من قول الله تعالى على جهة فصل القضاء بذلك بين إبراهيم ومن حالفه) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قال ابن عباس: (لم يخلطوا إيمانهم بشرك) (٢).
وقال سعيد بن جبير: (﴿بِظُلْمٍ﴾ أي: بكفر وشرك) (٣).
وروى علقمة عن ابن مسعود: (قال لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله! وأينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول (: "ليس ذلك، إنما هو [الشرك] (٤)، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]) (٥) ".
(١) أخرجه الطبري ٧/ ٢٥٤ بسند جيد عن ابن زيد وابن إسحاق. وذكره ابن عطية ٥/ ٢٦٧، ولم أقف عليه عن ابن جريج، وأخشى أن يكون الناسخ أو الواحدي وهم في نسبة الأقوال، فالقول الأول مشهور عن ابن جريج. والثاني عن ابن زيد، والظاهر أن الآية خبر من الله سبحانه وتعالى وهو اختيار الطبري ٧/ ٢٥٥، وابن عطية ٥/ ٢٦٨، وابن كثير ٢/ ١٧٠، قال ابن عطية: (هذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية ويحسن رصفها) اهـ.
وقال ابن القيم، كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٥٣: (في هذه الآية حكم الله سبحانه بين الفريقين بالحكم العدل الذي لا حكم أصلح منه) اهـ.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٢٥٧ من طرق جيدة، انظر: "الدر المنثور" ٣/ ٤٩، وانظر: معنى الظلم في "الزاهر" ١/ ١١٦.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٣٣ بسند جيد وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٠.
(٤) في (ش): (شرك).
(٥) أخرجه البخاري في تفسير سورة لقمان، ومسلم (٤٧٧٦)، (١٩٧ - ١٩٨)، مع بعض الاختلاف؛ وانظر: شرحه في "شرح مسلم" للنووي ٢/ ١٨٧ - ١٨٨، و"الفتاوى" لشيخ الإسلام ٧/ ٧٩ - ٨٠، و"فتح الباري" ١/ ٨٧ - ٨٩.
255
وقال ابن جريج: (لم يختلفوا في أن الظلم هاهنا الشرك) (١)، وهذه الآية دليل أن من مات لا يشرك بالله وجب أن يكون عاقبته الأمن من النار (٢).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ﴾ قال ابن عباس: (يريد: من العذاب، ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ يريد: أرشدوا إلى دين الله) (٣).
٨٣ - قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا﴾ الآية، أشار إلى ما جرى بينه وبين قومه من المجادلة وإلزامه إياهم الحجة حتى أفحمهم بها. قال الفراء: (وذلك أنهم قالوا له: أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها؟ فقال لهم: [أفلا] (٤) تخافون أنتم ذلك منها إذ سويتم بين الصغير والكبير أن يغضب الكبير إذا سويتم به الصغير؟ ثم قال لهم: أمن يعبد إلهًا واحداً أحق أن يأمن أمّن يعبد آلهة شتّى؟ فقالوا: من يعبد إلهًا واحداً. فقضوا على أنفسهم، فذلك.
(١) لم أقف عليه. وهو قول مشهور عن عامة السلف، قال ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٣٣: (روي عن أبي بكر الصديق وعمر وسلمان وحذيفة وأبي بن كعب وابن عمر وعمرو ابن شرحبيل وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي ومجاهد والنخعي وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي أنهم قالوا: (الظلم هاهنا الشرك) اهـ. وأخرجه الطبري ٧/ ٢٥٧/ ٢٥٨ من طرق عن هؤلاء وغيرهم، ورجحه الطبري.
وانظر: "الفتاوى" لشيخ الإسلام ٧/ ٩٧ - ٨٢، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٥٣ - ١٥٧، و"البحر" ٤/ ١٧١.
(٢) لعل المراد الأمن من الخلود في النار. انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٥٩، والرازي ١٣/ ٦٠، والخازن ٢/ ١٥٤.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٣٧، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧٣.
(٤) في (ش): (ألا).
قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾) قال ابن عباس: (يريد: ألهمناها إبراهيم [وأرشدناه] (١) إليها) (٢).
وقوله تعالى ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ قال الحسين بن الفضل: (يعني: مراتبهم بالعلم والفهم والفضيلة والعقل) (٣).
٨٤ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ﴾ قال عطاء عن ابن عباس (٤): (يريد: من ذرية إبراهيم).
وقال الفراء (٥) وغيره (٦): (الهاء في ﴿ذُرِّيَّتِهِ﴾ لنوح).
قال الزجاج: (كلا القولين جائز؛ لأن ذكرهما جميعًا قد جرى) (٧).
قال العلماء بالنسب: (الأولى (٨) أن تعود الكناية إلى نوح؛ لأنه ذكر في جملة من عُدّ من (٩) هذه الذرية يونس ولوط، ولا شك أنهما لم يكونا
(١) في (ش): (وأرشده).
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ٣٧، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧٥.
(٣) لم أقف عليه. وما ذكره هو اختيار البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦٤، والقرطبي ٧/ ٣٠، وانظر: "زاد المسير" ٣/ ٧٨، و"تفسير الرازي" ١٣/ ٦٢.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٣٦ بسند جيد، وذكره القرطبي ٧/ ٣٠، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧٣، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٥٢، وهو في "تنوير المقباس" ٢/ ٣٨، وقول عطاء كما في "الوسيط" ١/ ٧٥، و"زاد المسير" ٣/ ٧٩ وذكره السمرقندي ١/ ٤٩٩، عن الضحاك.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٢.
(٦) وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٧٣، والكلبي، كما ذكره السمرقندي ١/ ٤٩٩، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٧٩ (عن أبي صالح عن ابن عباس).
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٩.
(٨) في (أ): (الألى)، وهو تحريف.
(٩) في (ش): (في هذه). ويونس ولوط عليهما السلام ذكرا في الآية ٨٦ من سورة الأنعام.
257
من ذرية إبراهيم) (١).
٨٦ - وقوله تعالي: ﴿وَالْيَسَعَ﴾ وقرأ حمزة (٢) والكسائي (والليسع) بتشديد اللام، والمعنى واحد في أنه اسم لنبي معروف، واللام الواحدة أشهر في اسمه.
قال الزجاج: (يقال فيه: اليسع والليسع بتشديد اللام وتخفيفه) (٣).
قال الفراء (٤): (والتشديد أشبه بأسماء العجم من الذين يقولون: اليسع ولا تكاد العرب تُدخل الألف واللام فيما لا يجري مثل: يزيد ويعمر، فإن أدخلت أدخلت للمدح بتفخيم الاسم على طريق النادر، وأنشد:
وَجَدْنَا الوليد بن اليزيد مباركا شديدًا بأعباء الخِلافِة كاهِله) (٥)
(١) هذا اختيار الجمهور ومنهم الطبري ٧/ ٢٦٠، والبغوي ٣/ ١٦٥، وابن عطية ٥/ ٢٦٩، وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٧٣: (عود الضمير إلى نوح لأنه أقرب مذكور ظاهر لا إشكال فيه، وعوده إلى إبراهيم لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل عليه لوط فإنه ليس من ذرية إبراهيم، اللهم إلا أن يقال: إنه داخل في الذرية تغليبًا) ا. هـ. ملخصًا، وانظر: ابن الجوزي ٣/ ٧٩، والرازي ١٣/ ٦٤، والخازن ٢/ ١٥٥.
(٢) قرأ حمزة والكسائي (والليسع) بلامين الأولى ساكنة والثانية مفتوحة مشددة وسكون الياء، وقرأ الباقون بلام واحدة ساكنة وفتح الياء.
انظر: "السبعة" ص ٢٦٢، و"المبسوط" ص ١٧١، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٤، و"التيسير" ص ١٠٤، و"النشر" ٢/ ٢٦٠.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٩.
(٤) "معانى الفراء" ١/ ٣٤٢.
(٥) البيت لابن ميادة الرماح بن أبرد، وقد سبق الكلام عليه.
258
قال أبو علي: (الأسماء الأعلام لا تدخل (١) عليها الألف واللام، وذلك أن تعليقها على من تُعلق عليه وتخصيصها يغني عن الألف واللام، فإنهما يدخلان للتعريف ولا حاجة إلى التعريف هاهنا، فأما العباس والحارث (٢) والقاسم والحسن فإنما دخلت الألف واللام فيها على تقدير أنها صفات جارية على موصوفين، فإن لم يقدر (٣) هذا التقدير لم يلحقوه الألف واللام، وقالوا: حارث وعباس وقاسم على المذهبين، جاء [ذلك] (٤) في كلامهم، وقد جمع الأعشى الأمرين في بيت واحد فقال (٥):
أَتَانِي وَعِيدُ الحُوصِ مِنْ آلِ جَعْفَرٍ فَيَا عَبْدَ عَمْرٍو لَوْ نَهَيْتَ الأَحَاوِصَا
فجمع الأحوص على ضربين، حيث جعله نعتًا جمعه على فُعْل نحو: أحمرِ وحمرٍ، وحيمث جعله [اسما] (٦) محضا جمعه على أفاعَل نحو:
(١) في النسخ: (يدخل) بالياء والأولى، بالتاء كما في "الحجة" ٣/ ٣٣٨.
(٢) في (ش): (الحرث والقسم).
(٣) في (ش): (تقدر).
(٤) لفظ: (ذلك) ساقط من (أ).
(٥) "ديوانه" ص ٩٩، و"إصلاح المنطق" ص ٤٠١، و"الاشتقاق" ص ٢٩٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٧٠٥، و"المبهج" ص ٦٥، و"الصحاح" ٣/ ١٠٣٤، و"المخصص" ١/ ١٠٢، و"اللسان" ٢/ ١٠٥١ (حوص)، والحوص: هم قوم علقمة بن علاثة بن الأحوص، والأحاوص: أولاده. وعبد عمرو بن الأحوص: زعيمهم. انظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ٢/ ٣١٣.
والشاهد: جمع الأحوص على الحوص بالنظر إلى كونه في الأصل وصفًا، وعلى الأحاوص بالنظر إلى الاسمية.
(٦) لفظ: (اسما) ساقط من (أ).
259
الأفاكل (١) والأرامل (٢)، وكذلك في الحارث والعباس الوجهان جميعا، فأما قول ابن مقبل (٣):
والتَّيمُ أَلأَمُ مَنْ يَمْشي وأَلأَمُهُمْ ذُهْلُ بنُ تَيْمٍ بَنُو السُّودِ المَدانِيسِ (٤)
فإنه يحتمل أمرين: يجوز أن يكون بمنزلة العباس، وذلك أن التيم مصدر، والمصادر قد أجريت مجرى أسماء الفاعلين، ألا ترى أنه قد وصف بها كما وصف بأسماء الفاعلين نحو قولهم: رجل عدل، بمنزلة عادل، وجمع جمعها نحو: نور ونوار، وكما يقولون: مانع ومَنَّاع، وقالوا
(١) الأفاكِل: أولاد أفكل أبو بطن من العرب، والأفْكَل عمرو بن جُعَيد الدَّيل سيد ربيعة في الجاهلية، ولَقَب للشاعر الجاهلي الأفوه الأوْدِيِّ لِرعْدة كانت فيه.
انظر: "الاشتقاق" ص ٣٢٥، و"اللسان" ٦/ ٣٤٥٣ (فكل).
(٢) الأرامل: المساكين. انظر: "اللسان" ٣/ ١٧٣٥ (رمل). وجاء في (ش): (الأزامل).
(٣) تميم بن أُبَيِّ بن مُقْبل العجلاني، شاعر جاهلي مخضرم، أدرك الإسلام فأسلم وعُمِّر طويلاً، يتميز شعره بالمفردات الغريبة والأوصاف الجاهلية، وتوفي سنة ٢٥هـ، وله نحو ١٢٠ سنة.
انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ١٤٣، و"الشعر والشعراء" ص ٢٩٧، و"الإصابة" ١/ ١٨٧، و"الأعلام" ٢/ ٨٧، و"معجم شعراء لسان العرب" ص ٣٤١.
(٤) الشاهد لجرير في "ديوانه" ص ٢٥٢، و"كتاب الشعر" ١/ ٣٨، و"المخصص" ١٦/ ١٠٢، و"اللسان" ٥/ ٢٥٩٠ (ضغبس)، والمدانيس جمع مدناس، وهو كثير الدنس أي الوسخ في الثوب والعِرض.
والشاهد: والتيم، وابن تيم: فألحق مرة ولم يلحق أخرى، وفي "الديوان" (أوْلاد ذُهْلٍ بَنُو السود)، وعليه فلا شاهدًا فيه. ونسبته إلى ابن مقبل لعلها سبقة نظر في النقل من "الحجة" للفارسي ٣/ ٣٤١ حيث ذكر فيها شاهد لابن مقبل ثم آخر لجرير فذكر الواحدي وابن مقبل ثم انتقل نظره إلى بيت جرير. والله أعلم.
260
أيضًا: سيل وسوائل، كما يقال في جمع سائلة، فلما كان مثلها أجراه مجراها، وعلى هذا قالوا: الفضل في اسم رجل، كأنهم جعلوه الشيء الذي هو خلاف النقص. والآخر: أن يكون تيمي وتيم كزنجي وزنج ويهوديّ ويهودٍ، وفي التنزيل ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾ [البقرة: ١١٣] فاليهود إنما هو جع يهودي ولو لم يكن جمعًا لم تدخل (١) اللام؛ لأن يهود جرت عندهم اسمًا للقبيلة، وعلى هذا ينشد (٢):
فَرَّتْ يَهُودُ وأسْلَمَتْ جيِرانَها صَمِّي لِمَا فَعَلتْ يَهُودُ صَمَامِ
وفي حديث القسامة (٣): "تقسم (٤) يهود" (٥).
(١) في (ش): (يدخل).
(٢) الشاهد: للأسود بن يعفر النهشلي شاعر جاهلي. في "ديوانه" ص ٦١، و"مجالس ثعلب" ص ٥٢١، و"كتاب الشعر" ١/ ٤، و"العسكريات" ص ١٤٤، و"المستقصى" للزمخشري ٢/ ١٤٤، و"اللسان" ٤/ ٢٥٠٢ (صمم)، وصمى: زيدي، وصمام: اسم للداهية الشديدة، وهو مثل يضرب للداهية تقع فتستفظع. انظر: "جمهرة الأمثال" ١/ ٤٧٥، و"مجمع الأمثال" ١/ ٤٩٨.
(٣) القسامة: مصدر أقْسَمَ بمعنى حَلَف، وهي الأيمان المكررة في دعوى القتل. انظر: "المغني" لابن قدامة ١٢/ ١٨٨.
(٤) في (ش): (يقسم) بالياء.
(٥) حديث القسامة متفق عليه، أخرجه البخاري (٦٨٩٨)، كتاب الديات، باب: القسامة، ومسلم (١٦٦٩ - ١٦٧٠)، بألفاظ مختلفة، وملخص الحديث: (أن عبد الله بن سهل الأنصاري وجد مقتولًا في خيبر فاتهموا اليهود في قتله، فقال رسول الله - ﷺ -: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" قالوا: لا. قال: "فتحلف لكم يهود" قالوا: ليسوا بمسلمين، فكره النبي - ﷺ - أن يبطل دمه فعقله من عند).
والشاهد في الحديث والبيت: لفظ: يهود، حيث لم يصرف على أنه علم للقبيلة، وانظر: شرح الحديث في "شرح مسلم" للنووي ١١/ ١٤٣، و"فتح الباري" ١٢/ ٢٣١.
261
ومن الصفات الغالبة التي تجرى مجرى (١) الحارث والقاسم قولهم: النابغة، فالنابغة وصف جرى مجرى الأعلام وغلب هذا الوصف حتى جرى مجرى العلم وسدّ مسدّه فصار يعرف به كما يعرف بالعلم مثل الحَارث ونحوه، قد نزل منزلة الاسم العلم لما غلب هذا الوصف على المسمى به فجرى الوصف الغالب مجرى العلم، ولما سدّ مسدّه وكفى منه أجري مجراه في طرح الألف واللام منه كما قال:
ونابِغةُ الجَعْدِيِّ بالرَّمْلِ بَيتُهُ (٢)
فأما لام اليسع فهي زائدة) (٣) -وقد ذكرنا زيادة هذه اللام في الذي والتي وبابهما- وفي الآن عند قوله تعالى: ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ (٤) [البقرة: ٧١]، ومما جاءت اللام فيه زائدة قولهم: اللات والعزّى، وسنذكر (٥) ذلك إذا انتهينا إليه إن شاء الله. وقولهم: الخَمْسَةَ العَشَرَ درهمًا،
(١) في (أ) تكرار لفظ: (مجرى).
(٢) الشاهد لِمسْكِين الدارمي، شاعر أموي، في "ديوانه" ص ٤٩، و"الكتاب" ٣/ ٢٤٤، و"المقتضب" ٣/ ٣٧٣، و"كتاب الشعر" ٢/ ٥٣٢، و"التكملة" ص ٢٥٥، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٣٦٠، و"اللسان" ٧/ ٤٨٣٤ (وسط)، وعجزه: عليه صَفِيحٌ مِنْ رُخامٍ مرصَّع. والشاهد: ونابغة؛ حيث حذف أل؛ لأنها كانت للمح الأصل، وهو الوصف بالنبوغ، فلما نظر إلى الأصل نزل منزلة الأعلام وغلبت عليه الاسمية فلم تدخل عليه أل.
(٣) "الحجة" للفارسي ٣/ ٣٣٧ - ٣٤٥ بتصرف واختصار. وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٦٨، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٣، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٤، ولابن زنجلة ص ٢٥٩، و"الكشف" ١/ ٤٣٨.
(٤) (لفظ قالوا): ساقط من (أ).
(٥) ورد ذلك في سورة النجم آية ١٩، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ قال الواحدي في "البسيط": (اللام فيهما زائدة، وهو قول الأخفش وابن جني) اهـ.
262
حكاه الأخفش (١)، ألا ترى أنها اسم واحد، ولا يجوز أن يتعرف اسم واحد تعريفين، وإذا كان كذلك علمت زيادة اللام في الخمسة العشر درهما، ومما جاءت اللام فيه زائدة أيضًا ما أنشده الفراء (٢):
وجدنا الوليد بن اليزيد
وقد ذكرناه آنفًا، فأما (الليسع) فإنه ليسع أدخلت عليه الألف واللام وهما فيه كهما في اليسَع، ألا ترى أنه لم يجيء في الأسماء الأعجمية في حال التعريف نحو: إسماعيل (٣) وإبراهيم شيء على هذا النحو، وإذا كان كذلك كان الليسع بمنزلة اليسع في أنه خارج عما كانت عليه الأسماء الأعجمية المعربة (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلُوطًا﴾ قال ابن عباس: (وهو ابن أخيه) (٥) يعني: ابن أخي إبراهيم صيره في هذا الموضوع ابنه.
وقوله تعالى: ﴿وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ يعني: وكل الأنبياء، على هذا دل كلام ابن عباس فقال: (يريد: المرسلين) (٦)، وقيل: وكلًّا من
(١) حكاه الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣٤٨، ولم أقف عليه في "معانيه". وجزم الفارسي في "الحلبيات" ص ٢٨٩ - ٢٩٠، بزيادة اللام في (اللات والعزى)؛ لأنهما علم، وكذلك اللام في الخمسة العشر درهما؛ لأنهما اسمان جعلا اسما واحداً، وانظر: "الأصول" ٢/ ٣١٢، و"التكملة" ص ٢٦٢، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٦٥.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٣٤٢.
(٣) في (ش): نحو (إبراهيم وإسماعيل).
(٤) ما تقدم قول الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣٤٨ - ٤٥٠.
(٥) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٧/ ٣١، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧٣.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٣٨، وفيه قال: (كل هؤلاء الأنبياء فضلنا بالنبوة والإسلام) ا. هـ.
263
المذكورين هاهنا فضَّلنا على عالمي زمانهم (١).
٨٧ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾، قال أبو إسحاق: (أي: هدينا هؤلاء الذين ذكرناهم وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) (٢)، فمن هاهنا للتبعيض (٣)، وأعاد ذكر الهداية في (٤) قوله: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ﴾ بعد ما عطف على الهداية في قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ﴾؛ لأنه إذا طال الكلام حسن أن يذكر المعنى الذي عليه الاعتماد (٥).
٨٨ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: ذلك دين الله الذي هم عليه، ﴿يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يريد: يرشد إليه من يشاء، ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾ يريد: من أوليائه، ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا﴾ يريد: ولو (٦) عبدوا غيري، ﴿لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ولكني عصمتك وعصمتهم، واخترتك واخترتهم (٧)) (٨).
(١) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٦٥، وابن الجوزي ٣/ ٨٠.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٩.
(٣) هذا قول الجمهور، وهو الظاهر؛ لأن آباء بعضهم كانوا مشركين. وهو قول البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦٥، وابن عطية ٥/ ٢٧٣، وابن الجوزي ٣/ ٨٠، والقرطبي ٧/ ٣٤، وانظر: "الفريد" ٢/ ١٨٦، و"الدر المصون" ٥/ ٣٠.
(٤) في (أ): (وأعاد ذكر الهداية وقوله...).
(٥) قال السمين في "الدر" ٥/ ٣٠: (كرر لفظ الهداية توكيدًا ولأن الهداية أصل كل خير..).
(٦) (الواو): ساقط من (أ).
(٧) في (أ): (واخترهم)، وهو تحريف.
(٨) في "تنوير المقباس" ٢/ ٣٩ نحوه، وذكر الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٨٠، عن ابن عباس نحوه.
٨٩ - قوله عز وجل: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ قال ابن عباس: (يعني: الكتب التي أنزلها الله عليهم التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى وكتبًا أنزلها الله تعالى كثيرة، وهو أعلم بها.
وقوله تعالى: ﴿وَالْحُكْمَ﴾ قال: يعني: العلم والفقه) (١)، ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا﴾ أي: بآياتنا؛ قاله الفراء (٢) والزجاج (٣).
﴿هَؤُلَاءِ﴾ يعني: أهل مكة، في قول ابن عباس (٤) وغيره (٥)، وقال عطاء عنه: (يريد: الذي كذّبوك) (٦).
﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا﴾ قال عبد العزيز بن يحيى: (يعني: أرصدنا لها قوماً وفقناهم لها، وفي هذا دليل على أنهم خلقوا للإيمان بها مخصوصين دون من كفروا فهم آمنوا بتوفيق الله؛ لأنه قال: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا﴾ ولم يقل:
(١) ذكر في "تنوير المقباس" ٢/ ٣٩ نحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٦٦، و"زاد المسير" ٣/ ٨١.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٢.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٠.
ولم يصرح بأن المراد الآيات، ولكن يظهر من كلامه ذلك فقد قال: (أي: قد وكلنا بالإيمان بها).
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٦٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٣٩ بسند جد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣١٢.
(٥) منهم مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٧٤، الفراء في "معانيه" ١/ ٣٤٢. وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٦٤، عن قتادة والضحاك وابن جريج. وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٣٩ عن سعيد بن المسيب. وذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٥٥ عن مجاهد. واقتصر على هذا القول السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٤٩٩، والبغوي ٣/ ١٦٦.
(٦) لم أقف عليه.
265
فقد قام بها، فأضاف ذلك إلى نفسه لا إليهم) (١)، واختلفوا في المعنى بقوله: (قومًا) فقال ابن عباس (٢) والضحاك والسدي وابن جريج (٣) والكلبي (٤): (يعني: أهل المدينة الأنصار)، وهو اختيار الفراء (٥).
وقال عطاء عن ابن عباس: (﴿وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا﴾: اختصصنا بها المهاجرين والأنصار (٦).
[وقال الحسن (٧) وقتادة (٨): (هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم)] (٩)، وهذا القول اختيار أبي إسحاق قال: (يعني بذلك: الأنبياء الذي ذكروا، آمنوا بما أتى به النبي في وقت مبعثهم؛ لقوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠] أي: اصبر كما صبروا، فإن قومهم قد كذبوهم فصبروا على ما كُذبوا وأوذوا فاقتدِ بهم) (١٠).
(١) لم أقف عليه. وذكر نحوه الرازي ١٣/ ٦٨ بلا نسبة.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٣٩ بسند جيد.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ٢٦٤ من طرق جيدة عن ابن عباس والسدي وابن جريج، وبسند ضعيف عن الضحاك. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٥٢.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٣٩.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٢.
(٦) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٨١، والقرطبي ٧/ ٣٥ بدون نسبة.
(٧) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٤٠، وابن عطية ٥/ ٢٧٤، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٣٩ عن الحسن قال: (الأنبياء والصالحون).
(٨) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢١٣، والطبري ٧/ ٢٦٥، وابن أبي هاشم ٤/ ١٣٣٩ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٢.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(١٠) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٠، وهذا أيضًا اختيار الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٦٦، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٤٥٦.
266
وقال أبو رجاء: (يعني الملائكة) (١)، وهذا كالمستبعد؛ لأن اسم القوم قل ما يقع على غير بني آدم (٢).
وقال مجاهد: (هم الفرس) (٣).
وقال الزهري: (هم العجم) (٤)، وقال أبو روق: (هم علماء أهل الكتاب الذين آمنوا) (٥)، وقال ابن زيد: (كل من لم يكفر فهو منهم ملكًا كان أو نبيًّا، ومن الصحابة كان أو من التابعين) (٦).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٦٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٣٩ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٢.
(٢) ونحو هذا قال الرازي ١٣/ ٦٨، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٥٨: (هذا قول ضعيف جدًّا لا يدل عليه السياق وتأباه لفظه (قوما)، إذ الغالب في القرآن بل المطرد تخصيص القوم ببني آدم دون الملائكة) اهـ وانظر: "اللسان" ١٢/ ٥٠٥ (قوم).
(٣) لم أقف عليه.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) ذكره الرازي ١٣/ ٦٨، وفي "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٩ قال: (النبيين والصالحين)، وحكى البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦٦ عن مجاهد قال: (يعني: الأنصار وأهل المدينة)، وذكره ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٦١ عن ابن عباس ومجاهد، وقال الإمام أحمد كما في مروياته في "التفسير" ٢/ ١٢٠: (هم أهل المدينة) اهـ.
(٦) ذكره الرازي ١٣/ ٦٨، والخازن ٢/ ١٥٦، والظاهر أن الآية عامة فيمن كفر ومن آمن إلى يوم القيامة، ويحمل ما ورد على التمثيل، وأول من يدخل كفار مكة ومن آمن من المهاجرين والأنصار، وهو اختيار ابن عطية ٥/ ٢٧٤، وابن كثير ٢/ ١٧٤، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٥٨ - ١٦٢: (الإشارة بقوله: (هؤلاء) إلى من كفر به من قومه أصلاً ومن عداهم تبعاً، فيدخل فيها كل من كفر بما جاء به من هذه الأمة، والقوم الموكلون بها هم الأنبياء أصلاً، والمؤمنون بهم تبعًا فيدخل كل من قام بحفظها والذب عنها والدعوة إليها، ولا ريب أن هذا للأنبياء أصلًا وللمؤمنين بهم تبعًا، وأحق من دخل فيها من أتباع الرسول خلفاؤه في أمته وورثته، فهم الموكلون بها وهذا ينتظم في الأقوال التي قيلت في الآية) اهـ.
267
قال أهل المعاني: (هذه الآية تتضمن البيان عن أن الله تعالى سيحوط نبيه عليه السلام وينصر دينه بهؤلاء المؤمنين الذين أرصدهم للإيمان به حتى يستعلي على كل من عاداه وناوأه، ولا يضرّه كفر هؤلاء، وفيه تقريظ للمؤمنين وتقريع لهؤلاء الكافرين) (١).
٩٠ - قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ الآية، هذه الآية متصلة بالأولى على قول الحسن وقتادة والزجاج؛ لأنه في ذكر النبيين الذين تقدم ذكرهم إذ هم الموكلون بآيات الله، وعلى قول الباقين رجع إلى ذكر النبيين (٢)، وفي قوله ﴿هَدَى اللَّهُ﴾ دليل على أنهم مخصوصون بالهدى؛ لأنه لو هدى جميع المكلفين لم يكن لقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ فائدة وتخصيص (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾، قال الكلبي: (فبشرائعهم وبسنتهم اعمل) (٤)، وذكرنا قول أبي إسحاق (٥) في هذا، ومعنى الاقتداء في (٦) اللغة: طلب موافقة الثاني للأول في فعله.
قال الليث: (القدو (٧) أصل البناء الذي [ينشعب] (٨) منه تصريف
(١) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ٦٩، والخازن ٢/ ١٥٦.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٦٦.
(٣) ذكره الرازي ١٣/ ٧٠ عن الواحدي.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧٨، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٨١.
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٠.
(٦) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٦٧٧، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٥٩، و"مجمل اللغة" ٣/ ٧٤٦، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٦٦، و"اللسان" ٦/ ٣٥٥٦ (قدا).
(٧) القدو: بفح القاف، وسكون الدال وبعدها واو.
(٨) في (ش): (يتشعب).
268
الاقتداء ويقال: قِدوة (١) وقُدوة لما يُقتدى (٢) به) (٣)، اللحياني عن الكسائي (٤): (يقال: لي بك قُدْوة وقِدْوة وقِدَة) (٥).
واختلف القراء (٦) في الهاء من قوله: (اقتده)، فالأكثرون أثبتوها في الوصل والوقف ساكنة، والوجه الإثبات في الوقف والحذف في الوصل؛ لأن هذه الهاء في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء في أن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن، فكما لا تثبت (٧) الهمزة في الصلة فكذلك ينبغي أن لا تثبت (٨) الهاء، إلا أن هؤلاء الذين أثبتوا راموا (٩)
(١) قدوة: بكسر القاف وضمها، وسكون الدال.
(٢) في (ش): (ولما يقتدى به)، وهو تحريف.
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٩٣ (قدا).
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٩٣.
(٥) جاء في (ش): (يقال: لي بك قدوة وقدوة وقدوة)، وهو تحريف والصواب: قدوة، بكسر القاف وضمها، وقدة: بكسر القاف وفتح الدال بعدها هاء، كما ورد في المراجع السابقة.
(٦) قرأ حمزة والكسائي: (اقتد قل) بغير هاء في الوصل. وقرأ ابن عامر: (اقتده قل) بكسر الدال ويشم الهاء الكسر في الوصل من غير بلوغ ياء، وروي عنه: (اقتدهي قل) بياء بعد الهاء في الوصل. وقرأ الباقون: (اقتده) بهاء ساكنة في الوصل والوقف. ولا خلاف بينهم أنه بهاء ساكنة في الوقف.
انظر: "السبعة" ص ٢٦٢، و"المبسوط" ص ١٧١، و"الغاية" ص ٢٤٥، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٤، و"التيسير" ص ١٠٥.
(٧) في (ش): (لا يثبت)، بالياء.
(٨) في (ش): (لا يثبت)، بالياء.
(٩) نقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٧١، وهذا القول فيه نظر؛ لأن القراءة سبعية مأخوذة بالرواية، وقد ذكر هذا القول عن الواحدي القاسمي في "تفسيره" ٦/ ٦١٩، وذكر عن الخفاجي أنه قال: (إن هذا مما لا ينبغي ذكره؛ لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليد للخط، فمن قاله فقد وهم) اهـ.
269
موافقة المصحف، فإن الهاء ثابتة في الخط فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل فأثبتوا.
والاختيار عند النحويين (١) الوقف على قوله (اقتده) لتمام الكلام هاهنا ولكون (٢) الهاء ثابتة للاستراحة؛ لأنك إن أدرجت بالهاء (٣) خالفت القياس المستمر في حذف حرف الاستراحة، وإن أسقطت الهاء في الإدراج خالفت خط المصحف، وأما حمزة والكسائي فإنهما يقفان بالهاء ويصلان بغير هاء.
قال أبو علي: (وقول حمزة والكسائي القياس، وفي ترك قول الأكثر ضرب من الاستيحاش وإن كان الصواب والقياس ما قرأ) (٤).
وقرأ ابن عامر (اقتدِه) بكسر الدال وبشمِّ الهاء الكسر من غير بلوغ ياء، قال أبو بكر بن مجاهد (٥): (وهذا غلط لأن هذه الهاء هاء وقفٍ لا تعرب في حال من الأحوال وإنما تدخل لتتبين (٦) بها حركة ما قبلها) (٧).
(١) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨١، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٠، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٦٤.
(٢) في (أ)، (ش): (وليكون) والصواب: ولكون.
(٣) في (ش): (أدرجت، الهاء).
(٤) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٥٢.
(٥) أبو بكر بن مجاهد: أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي، تقدمت ترجمته.
(٦) في (ش): (يدخل لتبيين). وانظر: "البغداديات" ص ١٥٢.
(٧) "السبعة" ص ٢٦٢، ونحوه قال النحاس في "إعرابه" ١/ ٥٦٤، وابن خالويه في "إعراب القراءات" ١/ ١٦٤، وفي "الحجة" لابن خالويه ص ١٤٥ قال: (وهذا قول ضعيف مردود؛ لأنها قراءة سبعية)، قال أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧٦: (تغليط ابن مجاهد غلط) اهـ، وانظر: "الدر المصون" ٥/ ٣٢.
270
قال أبو علي: (ليس بغلط، ووجهها أن تجعل الهاء كناية عن المصدر لا التي تلحق (١) للوقف، وحَسُن إضمار المصدر لذكر الفعل الدال عليه كما أضمر في قوله تعالى: (﴿ولا تحسبن (٢) الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم﴾ [آل عمران: ١٨٠] وعلى هذا قول الشاعر (٣):
هذا سُرَاقَةُ لِلقُرْآنِ يَدْرُسُهُ والمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إِنْ يَلْقَها ذِئبُ
فالهاء كناية عن المصدر، ودل يدرسه على الدرس، ولا يجوز أن يكون ضمير القرآن؛ لأن الفعل قد تعدى إليه باللام فلا يجوز أن يتعدى إليه وإلى ضميره، كما أنك إذا قلت: أزيدًا ضربته، لم تنصب (٤) زيدًا بضربت لتعديه إلى الضمير، فإذا لم يجز ذلك علمت أنه للمصدر، فكذلك قراءة ابن عامر: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ يكون اقتد الاقتداء، فتضمر (٥) الاقتداء لدلالة الفعل عليه، وقياسه إذا وقف أن يُسكن الهاء؛ لأن هاء الضمير تسكن في الوقف كما تقول: اشتره) (٦).
(١) في (ش): (يلحق)، وانظر: "كتاب الشعر" ٢/ ٥٠١.
(٢) قراءة المصحف بالياء، وهي قراءة الجمهور، وقرأ حمزة بالتاء. انظر: "السبعة" ص ٢١٩، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ١٠٠.
(٣) لم أقف على قائله، وهو في "الكتاب" ٣/ ٦٧، و"الأصول" ٢/ ١٩٣، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٩١، و"المقرب" ١/ ١١٥، و"رصف المباني" ص ٣٢٠، ٣٨٢، و"اللسان" ٤/ ١٩٩٩ (سرق)، و"الدر المصون" ٥/ ٣٢، والرشا بضم الراء وكسرها جمع رشوة، وهو يصف مقرئًا بقبول الرشوة والحرص عليها كحرص الذئب على فريسته. والشاهد: يدرسه: حيث جاءت الهاء مفعولًا مطلقًا ترجع إلى المصدر المدلول عليه بالفعل وهو مضمون الدرس، أي: يدرس الدرس. انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي ٢/ ٥٨٧.
(٤) في (ش): (ينصب).
(٥) في (ش): (فيضمر).
(٦) "الحجة" ٢/ ٣٧٥، ٣/ ٣٥٢ - ٣٥٣، وانظر: "الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦٠،=
271
وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ قال ابن عباس: (يريد: مالاً تعطونيه) (١)، وقال [الكلبي] (٢): (جعلًا على القرآن ولا رزقًا) (٣)، ﴿إِنْ هُوَ﴾ يعني: القرآن ﴿إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ قال ابن عباس: (يريد: موعظة للخلق أجمعين) (٤) فالقرآن هو المذكر بكل ما يحتاج إليه العباد في دينهم من حجة بيّنة وموعظة بليغة (٥). قال أهل المعاني: (قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ مما أمر به من هدى النبيين والاقتداء بهم في ذلك، وذلك أن من الاقتداء بالنبيين ترك طلب الأجر من الناس على دعائهم إلى الله عز وجل وتبيين طريق الحق لمن التمسه، فكأنه يقول: فبهدى الأنبياء حيث لم يسألوا أجرًا اقتد و ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ (٦). كما قالوا) (٧).
= و"الكشف" ١/ ٤٣٨، وقال الأزهري في "معاني القراءات" ١/ ٣٧٠، في توجيه قراءة ابن عامر: (جعلها اسمًا ولم يجعلها هاء السكت؛ لأنها لو كانت عنده هاء السكت ما جرها، والمعنى: فبهداهم اقتد اقتداء، وهو مذهب حسن في اللغة) اهـ.
(١) لم أقف عليه. وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٤٠ بسند ضعيف عنه قال: (يقول: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه عرضا من عرض الدنيا) اهـ، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٣.
(٢) لفظ: (الكلبي) ساقط من (أ).
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٤٠.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧٩، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٤٠ نحوه.
(٥) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ٧٢، والخازن ٢/ ١٥٧، والقاسمي ٦/ ٦١٩.
(٦) جاء في (ش): تكرار قوله (اقتد وقيل لا أسألكم عليه أجرًا).
(٧) انظر: الرازي ١٣/ ٧٢، والخازن ٢/ ١٥٧.
272
وقال أهل العلم: (وهذه الآية تدل على أن شريعة محمد - ﷺ - وشريعة الأنبياء الماضين (١) واحد (٢) حيث أمر بالاقتداء بهم، وكل شيء ثبت عن نبي من الأنبياء ما لم ينسخ فعلينا الأخذ به).
٩١ - قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ قال ابن عباس: (يقول: ما عظموا الله حق تعظيمه) (٣).
وهو قول الحسن (٤) والفراء (٥) والزجاج (٦)، وروي عن ابن عباس [أيضًا (ما آمنوا أن الله على كل شيء قدير) (٧).
(١) أي في التوحيد، أما أعمال الشرائع فمختلفة، انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٧٦، والرازي ١٣/ ٧١ - ٧٢، والقرطبي ٧/ ٣٥ - ٣٦، وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "الفتاوى" ١٩/ ٧: (وشرع من قبلنا إنما هو شرع لنا فيما ثبت أنه شرع لهم دون ما رووه لنا) اهـ.
(٢) الأولى: واحدة لأنها خبر عن الشريعة فتوافقها في التأنيث.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٤٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧٩، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٨٣، والرازي في "تفسيره" ١٣/ ٧٢، والخازن ٢/ ١٥٧، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٦٦، والجوهري في "الصحاح" ٢/ ٧٨٦، وابن كثير ٢/ ١٧٤.
وقال ابن فارس في "مقاييس اللغة" ٥/ ٦٣، في الآية: (قال المفسرون: ما عظموا الله حق عظمته، وهذا صحيح، وتلخيصه أنهم لم يصفوه بصفته التي تنبغي له تعالى) اهـ. وانظر: "مجمل اللغة" ٣/ ٧٤٥ (قدر).
(٤) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٤١، وابن الجوزي ٣/ ٨٣، والقرطبي ٧/ ٣٧.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٣.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧١.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٦٨، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤١ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٣.
273
وقال أبو العالية (١)]: (ما وصفوه حق صفته) (٢)، وهو قول الليث (٣) من أهل اللغة، وقال الأخفش (٤) وأبو عبيدة (٥): (ما عرفوه حق معرفته)
ويقال: قدر (٦) الشيء: إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقداره، يقدره بالضم، قَدْرًا، ومنه قوله عليه السلام: " إن غمّ عليكم فاقدروا له" (٧)، أي: فاطلبوا أن تعرفوه، هذا أصله في اللغة، ثم (٨) يقال لكل من عرف شيئًا: هو يقدر قدره، ولا يقدر قدره إذا لم يعرفه بصفاته وما هو منعوت به، فقوله ﴿مَا
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٧٩، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٨٣، والرازي ١٣/ ٧٢، والخازن ٢/ ١٥٧.
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٩٧، وانظر: "العين" ٥/ ١١٣.
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٧٢، والخازن ٢/ ١٥٧، ولم أقف عليه في "معانيه".
(٥) "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٠، وهو قول اليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٣٩، وذكر هذا القول النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٥٦ - ٤٥٧، وقال: (هذا قول حسن؛ لأن معنى قدرت الشيء وقدرته: عرفت مقداره، ويدل عليه قوله جل وعلا: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١]، أي: لم يعرفوه حق معرفته، إذ أنكروا أن يُرسل رسولاً، وقيل: المعنى: وما عظموا الله حق عظمته، ومن هذا لفلان قَدرٌ، والمعنيان متقاربان) اهـ.
(٦) قدر الشيء: بفتح القاف والدال يَقْدِرُه، قَدْرًا، انظر: "الجمهرة" ٢/ ٦٣٥، و"اللسان" ٦/ ٣٥٤٧ (قدر).
(٧) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري (١٩٠٦)، كتاب الصوم، باب قول النبي: "إذا رأيتم الهلال" ومسلم (١٠٨٠) كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فَاقْدِرُوا له"). وانظر: "شرح مسلم" للنووي ٧/ ٢٦٦، و"فتح الباري" ٤/ ١٢٠.
(٨) لفظ: (ثم) ساقط من (ش).
274
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} صحيح في المعاني التي ذكرنا (١).
وقوله تعالى. ﴿إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ قال ابن عباس: (كان مالك بن الضيف (٢) رأس اليهود، وكان سمنًا، فأتى رسول الله - ﷺ - بمكة، فقال له رسول الله - ﷺ -: "أنشدك باللهِ الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر (٣) السمين؟ "، قال: نعم. قال: "فأنت الحبر السمين، قد سمنت من مأكلتك التي [يطعمك] (٤) اليهود"، فضحك القوم فغضب مالك، وقال: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾) (٥)، وهذا قول
(١) نقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٧٢، وذكر مثل قول الواحدي الخازن في "تفسيره" ٢/ ١٥٧، وقال ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٢٧٩: (هو من توفية القدر والمنزلة فهي عامة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك، غير أن تعليله بقولهم: (ما أنزل الله) يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثة الرسل) اهـ.
وانظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ١/ ١٦٨، و"الفتاوى" ١٣/ ١٦٠ - ١٦٤، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٦٢.
(٢) مالك بن الضَّيْف: يهودي خاصم النبي عليه السلام، ويقال فيه: ابن الصيف بالصاد المهملة، وهما روايتان فيه، ذكره ابن هشام في "السيرة النبوية" ٢/ ١٧٤.
(٣) حديث: "إن الله يبغض الحبر السمين" تكلم فيه أهل العلم، قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص ١٢٥: (ما علمته في المرفوع). وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيعلي ١/ ٤٤٣، و"الكافي الشاف" ص ٦٢، و"تمييز الطيب من الخبيث" ص ٨٢، و"الفتح السماوي" ٢/ ٦١١، و"كشف الخفاء" ١/ ٢٨٩.
(٤) في (أ): (تطعمك).
(٥) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٨٢، والرازي ١٣/ ٧٤، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧٦، وذكره أكثرهم بلا نسبة. انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧١، والنحاس ٢/ ٤٥٧، والسمرقندي ١/ ٥٠٠، و"غرائب الكرماني" ١/ ٣٧٠، وابن عطية ٥/ ٢٨٠، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٤٠: قال: (نزلت الآية في مالك بن الصيف) اهـ.
275
الحسن (١) وسعيد (٢) بن جبير وعكرمة (٣) وأكثر أهل التفسير (٤)، وروي عن ابن عباس: (أن اليهود قالوا: يا محمد، أنزل الله عليك كتابًا؟ قال: "نعم". قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابًا، فأنزل الله هذه الآية) (٥).
وقوله تعالى: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ﴾ قال المفسرون (٦): (أي: تكتبونه في قراطيس مقطّعة حتى لا تكون مجموعة لتخفوا منها ما شئتم ولا يشعر بها العوام). (تبدونها) يعني: القراطيس (٧) ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ قال ابن عباس: (يريد: تظهرون بعض ما فيها، ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾: مما لا تهوون) (٨)، قرأ
(١) ذكر هود الهواري ١/ ٥٤٢، والقرطبي ٧/ ٣٧ عن الحسن قال: (نزلت في اليهود).
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٢٦٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٢ بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٤٠، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص ٢٢٢ - ٢٢٣، والرواية فيها الحديث السابق، فهو ضعيف ومرسل.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ٢٦٧ بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٤.
(٤) ومنهم مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٧٤، وانظر: "الرازي" ١٣/ ٧٤، والخازن ٢/ ١٥٨.
(٥) أخرجه الطبري ٧/ ٢٦٨، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٢ بسند جيد، وأخرج الطبري من طرق جيدة عن محمد بن كعب وقتادة والسدي أنها نزلت في اليهود، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٤، وهو قول الزجاج ٢/ ٢٧١.
وقال ابن كثير ٢/ ١٧٤: (قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: نزلت في قريش، واختاره الطبري، وهو الأصح؛ لأن الآية مكية، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمَّد (لأنه من البشر) اهـ.
(٦) انظر: الطبري ٧/ ٢٦٩، وأخرج نحوه عن مجاهد وعكرمة.
(٧) انظر: الطبري ٧/ ٢٦٩، والسمرقندي ١/ ٥٠٠، والبغوي ٣/ ١٦٧، وابن الجوزي ٣/ ٨٤.
(٨) في "تنوير المقباس" ٢/ ٤٠ نحوه.
276
أبو عمرو وابن كثير: (يجعلونه) بالياء (١) وكذلك: يبدون، (ويخفون) (٢)؛ لأنهم غيب، يدل على ذلك قوله (٣): ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا﴾، ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ﴾، (يجعلونه)، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب أي: قل لهم ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ﴾.
قال أبو علي: (ومعنى ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ﴾: تجعلونه ذوات (٤) قراطيس أي: تودعونه إياها.
وقوله تعالى: ﴿تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ يحتمل موضعه ضربين: أحدهما. أن يكون صفة للقراطيس؛ لأن النكرة توصف بالجمل (٥) والآخر: أن تجعله حالاً من ضمير الكتاب من قوله: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ﴾ على أن تجعل الكتاب: القراطيس في المعنى؛ لأنه مكتتب فيها (٦)، ومن
(١) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (يجعلون قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا) بالياء في الأفعال الثلاثة على الغيبة، وقرأ الباقون بالتاء في الثلاثة على الخطاب.
انظر: "السبعة" ص ٢٦٢، و"المبسوط" ص ١٧٢، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٤، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦٠.
(٢) في (ش): (تجعلونه، وتبدون، وتخفون) بالتاء. وفي (أ): (يبدون) والأولى (يبدونها).
(٣) لفظ: (قوله) ساقط من (ش).
(٤) فيكون على حذف مضاف، وقال النحاس في "إعرابه" ١/ ٥٦٥: (تجعلونه في قراطيس) اهـ، وعليه يكون منصوب بنزع الخافض، وهو قول مكي في "المشكل" ١/ ٢٦٠، وابن الأنباري في "البيان" ١/ ٣٣١، وانظر: "التبيان" ١/ ٣٤٦، و"الفريد" ٢/ ١٨٨، و"الدر المصون" ٥/ ٣٥.
(٥) وهذا قول العكبري في "التبيان" ١/ ٣٤٦، وقال مكي في "المشكل" ١/ ٢٦٠: (تبدونها) نعت للقراطيس، وقوله: (وتخفون) مبتدأ لا موضع له من الإعراب. اهـ، وانظر: "الدر المصون" ٥/ ٣٦
(٦) قال السمين في "الدر" ٥/ ٣٦: (وقد جوز الواحدي في: "تبدون"، أن يكون =
277
قرأ بالتاء فحجته قوله: ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ [الأنعام: ٩١] فجاء علي الخطاب فكذلك يكون ما قبله) (١).
وقال الفراء في هذه الآية: ([يقول]: (٢) تبدون (٣) ما تحبون وتكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ الأكثرون (٥) علي أن هذا خطاب لليهود، يقول: ﴿وَعُلِّمْتُمْ﴾ على لسان محمد - ﷺ - ﴿مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾، وقال الحسن في هذا: (جعل لهم علم ما جاء به محمد عليه السلام فضيّعوه ولم ينتفعوا به) (٦).
وقال مجاهد: (هذا خطاب للمسلمين [يذكرهم النعمة] (٧) فيما علمهم على لسان محمد - ﷺ -) (٨).
= حالاً من ضمير الكتاب من قوله: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ﴾ على أن تجعل الكتاب القراطيس في المعنى؛ لأنه مكتتب فيها. انتهى. وقوله: على أن تجعل اعتذارًا عن مجيء ضميره مؤنثًا، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع) اهـ.
(١) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٥٥ - ٣٥٦، وانظر: في "توجيه القراءة"، و"معاني القراءات" ١/ ٣٧٠ - ٣٧١، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٥، و"الحجة" لابن زنجلة ص٢٦٠ - ٢٦١، و"الكشف" ١/ ٤٤٠.
(٢) لفظ: (يقول) ساقط من (أ).
(٣) جاء في (أ): (يبدون ما يحبون ويكتمون....) بالياء بدل التاء.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٣، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧١.
(٥) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٦٧، وابن الجوزي ٣/ ٨٤. وهو اختار الزمخشري في "الكشاف" ١/ ٣٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧٨.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦٧.
(٧) في (ش): (يذكرهم بالنعمة).
(٨) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٦٧، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٧٠، وابن أبي حاتم ٥/ ٢٨٢ بسند جيد عنه قال: (هذه =
278
وقوله: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾، قال الفراء: (هذا جواب لقوله: ﴿مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ﴾ ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أي: الله أنزله) (١).
قال أبو بكر: (فلما وضح معنى الإنزال لم يذكر إفراد الاسم، ألا ترى أن الرجل يقول للرجل: إذا قيل لك: من قام؟ فقل: زيد، تريد (٢) فقل: زيد قام) (٣).
قال الفراء (٤): (وإن شئت قلت: قل هو الله.. (٥))، قال أبو بكر: (فأضمر هو في هذا الموضع كما أضمر في قوله: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢]، وفي قوله: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ [النساء: ٨١]) (٦).
وقال أهل المعاني: (هذا من حسن تعليم السؤال والجواب).
= للمسلمين"، وفي "الدر المنثور" ٣/ ٥٤ عن مجاهد قال: ((وعلمتم) معشر العرب ﴿مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾)
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٣.
(٢) في (ش): (يريد)، بالياء.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٣.
(٥) في (أ): (قل هو الله أحد)، ولعل زيادة (أحد) وهم من الناسخ.
(٦) لم أقف عليه. وأكثرهم على أن المعنى: قل الله أنزله، قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" ١٠/ ٥٥٩: (المعنى: قل الله أنزل الكتاب، وهو كلام تام وجملة اسمية مركبة من مبتدأ وخبر، حذف الخبر لدلالة السؤال على الجواب، وهو قياس مطرد كثير في كلام العرب) ا. هـ. ملخصًا. ونحوه قال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٦٣ - ١٦٦، وقال: (هذا معنى الآية الذي لا تحتمل غيره) اهـ، وقال ابن كثير ٢/ ١٧٥: (قال ابن عباس: أي: قل الله أنزله، وورد هو المتعين، لا ما قاله بعضهم من أن المعنى لا يكون خطابك لهم إلا كلمة: الله، وهذا أمر بكلمة مفردة من غير تركيب، وهو في لغة العرب لا يفيد فائدة يحسن السكوت عليها) ا. هـ. بتصرف، وانظر: الطبري ٧/ ٢٧٠، والسمرقندي ١/ ٥٠٠، وابن الجوزي ٣/ ٨٤، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦.
279
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ ﴿يَلْعَبُونَ﴾ حال تقديره: لاعبين (١)، يريد: عاملين ما لا يجدي عليهم، والعرب تقول لمن كان في عمل لا يجدي عليه: إنما أنت لاعب (٢)، وحقيقة هذا الكلام التهدد (٣).
قال المفسرون: وقوله: ﴿ذَرْهُمْ﴾ منسوخ بآية السيف (٤).
٩٢ - وقوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ المبارك: الذي بورك فيه، ومعنى البركة: الكثرة في كل خير (٥)، الأزهري (٦): (وأصل البركة الزيادة والنماء وثبوت الخير (٧) على الازدياد والنماء)، قال أهل اللغة (٨): وأصله الثبوت، قال اللحياني (٩): (يقال: بَارَكت على التجارة وغيرها،
(١) انظر: "المشكل" ١/ ٢٦٠، و"البيان" ١/ ٣٣١، و"التبيان" ١/ ٣٤٧، و"الفريد" ٢/ ١٨٩، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦.
(٢) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٧١.
(٣) انظر: الطبري ٧/ ٢٧١.
(٤) هذا قول ابن حزم في "ناسخه" ص ٣٧، وابن سلامة ص ٦٨، وابن العربي ٢/ ٢١٢، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧٨: (ظاهر الأمر أنه موادعة فيكون منسوخًا بآيات القتال، وإن جعل تهديدًا أو وعيدًا خاليًا من الموادعة فلا نسخ) اهـ. والظاهر عدم النسخ وأنها تهديد، وهو قول الجمهور. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٣٢١، و"الإيضاح" لمكي ص ٢٤٤، وابن عطية ٥/ ٢٨٣، و"النواسخ" لابن الجوزي ص ٣٢٧، و"المصفى" ص ٣٢، والرازي ١٣/ ٧٨، والقرطبي ٧/ ٣٨، و"النسخ في القرآن" لمصطفى زيد ١/ ٤٨٣.
(٥) انظر: "العين" ٥/ ٣٦٨، و"الجمهرة" ١/ ٣٢٥، و"الصحاح" ٤/ ١٥٧٤، و"المجمل" ١/ ١٢١، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٢٧، و"المفردات" ص ١١٩، و"اللسان" ١/ ٢٦٦ (برك).
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩.
(٧) في (ش): (وثبوت الحكم).
(٨) انظر: "الزاهر" ١/ ٥٣.
(٩) "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩.
280
أي: داومت وواظبت)، ومنه قول الشاعر (١):
ولا يُنْجِي مِنَ الغَمَرَاتِ إلَّا بَرَاكاءُ القِتالِ (٢) أوِ الفِرَارُ
أي: الثبوت في القتال، ومنه ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٥٤] أي: ثبت مما به استحق التعظيم فيما لم يزل ولا يزال. قال الكلبي: (﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ فيه مغفرة لذنوبهم، وتوبة من أعمالهم) (٣)، قال أهل المعاني: (معنى قوله (كتاب) (مبارك) أي: كثير خيره، دائم منفعته، يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية إلى ما لا يعد من بركاته) (٤)، و (مبارك): خبر الابتداء فصل بينهما بالجملة والتقدير: (٥)
(١) الشاهد لبشر بن أبي خازم الأسدي، شاعر جاهلي في "ديوانه" ص ٦٩، و"المفضليات" ص ٣٤٥، و"الاشتقاق" ص ٢٤٧، وجميع كتب اللغة السابقة في (برك) سوى "المفردات"، الغمرات: بالفتح: الشدائد، والبراكاء: بفتح الباء وضمها: من البروك، وهو الثبات في العرب.
(٢) في (أ): (للقتال)، وهو تحريف.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨١، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٤١ نحوه.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٦، و"الوسيط" للواحدي ١/ ٨١، والرازي ١٣/ ٨٠.
(٥) هذا قول الثعلبي ١٨١ أ، وقال الكرماني في "غرائبه" ١/ ٣٧١، وابن عاشور في "التحرير" ٧/ ٣٦٩: (هو خبر بعد خبر) اهـ. والجمهور على أنه صفة لكتاب، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٣٨: (ما ذكره الواحدي لا يتمشى إلا على أن يكون خبرًا ثانيا، لهذا وهو بعيد جدًا، وإذا سُلم ذلك فيكون: (أنزلناه) عنده اعتراضًا على ظاهر عبارته، ولكن لا يحتاج إلى ذلك بل يجعل (أنزلناه) صفة لكتاب، ولا محذور حينئذ على هذا التقدير، وبالجملة فالوجه كونه صفة أو خبرًا لمبتدأ مضمر) ا. هـ. بتصرف.
وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٢، و"إعراب النحاس" ٢/ ٨٢، و"كتاب الشعر" ٢/ ٥٠٥، و"الإيضاح العضدي" ١/ ٢٨٧، وابن عطية ٥/ ٢٨٣، و"التبيان" ١/ ٣٤٧ و"الفريد" ٢/ ١٩٠.
281
و (١) هذا كتاب مبارك أنزلناه، كقوله تعالى: ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾ [الأنبياء: ٥٠].
وقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: جميع الكتب) (٢).
وقال الكلبي: (موافق لما بين يديه من التوراة والإنجيل وسائر الكتب) (٣) ونحوه قال الحسن (٤) [وغيره] (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ هو عطف (٦) على معنى الكلام (٧) قال أبو إسحاق: (المعنى: أنزلناه للبركة والإنذار، قال: ومعنى ﴿أُمَّ الْقُرَى﴾: أهل أم القرى) (٨)، فعلى هذا هو من باب حذف المضاف، قال ابن عباس وغيره: (يريد: مكة) (٩).
(١) لفظ: (الواو): ساقط من (ش).
(٢) أخرج الطبري ٧/ ٢٧١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٤، و"تحقيق الغماري" بسند ضعيف عنه قال: (مصدق لما قبله من الكتب التي أنزلها الله والآيات والرسل الذين بعثهم الله بالآيات).
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٤١.
(٤) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٤٢.
(٥) في (ش): (وغيرهم)، وقد أخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٧١ هذا القول عن قتادة والربيع بن أنس، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٤٤، و"تحقيق الغماري"، عن أبي العالية، ورجحه ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٢٨٤.
(٦) في (ش): (هو معطوف).
(٧) انظر: "الدر المصون" ٥/ ٣٨ - ٣٩.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧١، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٥٧.
(٩) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٧١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٥ بسند جيد، وقال الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٨١: (اتفقوا على أن هاهنا محذوفًا، والتقدير: ولتنذر أهل أم القرى؛ واتفقوا على أن أم القرى هي مكة) اهـ.
282
قال الزجاج: (وسميت أم القرى؛ لأنها قبلة جميع الناس يؤمونها، قال: وجائز أن تكون سميت أم القرى؛ لأنها كانت أعظم القرى شأنًا) (١).
وقال المفسرون: (سميت مكة أم القرى؛ لأن الأرض كلها دُحيت من تحتها، فهي أصل للأرض كلها) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ قال ابن عباس: (يريد: جميع الآفاق) (٣)، وقال الكلبي: (سائر الأرضين) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ قال الفراء: (الهاء تكون لمحمد وللتنزيل) (٥)، فإن قيل: كثير ممن يؤمن بالآخرة لا يؤمن بمحمد ولا بالقرآن، فلم قال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾؟ قيل:
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧١، ولم يذكر إلا الوجه الثاني فقط، والوجه الأول نسبه إلى الزجاج، ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٨٥.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢١٣، والطبري ٧/ ٢٧٢ بسند جيد عن قتادة، وأخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٥ عن عطاء وعمرو بن دينار، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٨٥، عن ابن عباس، وهو قول مقاتل ١/ ٥٧٥، والثعلبي ١٨١/ أ، والبغوي ٣/ ١٦٨، وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند جيد عن السدي قال: (أم القرى مكة سميت؛ لأن أول بيت وضع بها) اهـ. وذكره ابن أبي حاتم عن جماعة من السلف، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٧٩: (سميت بذلك؛ لأنها منشأ الدين، ولدحو الأرض منها، ولأنها وسط الأرض، ولكونها قبلة وموضع الحج، ومكان أول بيت وضع للناس) اهـ.
انظر: الطبري ٧/ ٢٧٢، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٥٧، والسمرقندي ١/ ٥٠١، والماوردي ٢/ ١٤٢، و"الكشاف" ٢/ ٣٥، وابن عطية ٥/ ٢٨٤.
(٣) أخرجه الطبري ٧/ ٢٧١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٥ بسند جيد، وهذا المعنى متفق عليه. انظر: السمرقندي ١/ ٥٠١، وابن عطية ٥/ ٢٨٤، والرازي ١٣/ ٨١.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٤٢.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٤.
283
ذهب بعضهم إلى أن هذا مما أُريد به الخصوص بدليل قوله: ﴿وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [الأنعام: ٩٢] وهذا من صفة المؤمنين، وقال بعض أهل المعاني: (لم يعتد بإيمان أولئك الذين آمنوا بالآخرة ولم يؤمنوا بمحمد، وإنما يؤمن بالآخرة حقيقة من آمن بمحمد وبكتابه، فلذلك وصف المؤمنين بالآخرة بأنهم يؤمنون بمحمد والقرآن، ألا ترى أنه قال: ﴿وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ فبيّن أن إيمانهم بالآخرة يدعوهم إلى الإيمان به والمحافظة على صلاتهم) (١)، وعامة القراء (٢) قرؤوا (ولتنذر) بالتاء خطاب للنبي - ﷺ -؛ لأن المأمور والموصوف بالإنذار هو، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ﴾ [الرعد: ٧]. وقال: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء جعل الكتاب هو المنذر؛ لأن فيه إنذارًا، ألا ترى أنه قال: ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ [إبراهيم: ٥٢] أي: بالكتاب، وقال: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ﴾ [الأنعام: ٥١]، وقال: ﴿إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء: ٤٥] فلا يمتنع أن يسند الإنذار إليه على الاتساع (٣).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٧٢، والسمرقندي ١/ ٥٠١، وابن الجوزي ٣/ ٨٥، والرازي ١٣/ ٨٣.
(٢) قرأ عاصم في رواية أبي بكر بن عياش (ولينذر) بالياء، وقرأ الباقون بالتاء.
انظر: "السبعة" ص ٢٦٣، و"المبسوط" ص ١٧٢، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٤، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦٠، ووقع في "التيسير" نسبة القراءة بالياء إلى أبي عمرو، ولعله تحريف أو وهم.
(٣) ما سبق قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٥٦، وانظر: "إعراب القراءات" ١/ ١٦٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٥، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦١، و"الكشف" ١/ ٤٤٠.
284
٩٣ - قوله (١) تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ الآية معنى ألفاظ هذه الحروف، وهذا الاستفهام ذكرناه في رأس العشرين من هذه السورة.
قال ابن عباس، والمفسرون: (نزلت في مسيلمة (٢) والأسود العنسي (٣) ادعيا النبوة) (٤).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ قال أبو بكر بن الأنباري: (خص بعد أن عمّ؛ لأنه ليس كل من يكذب على الله يدعي أن الله عز وجل أوحى إليه وحيًا، قال: ويجوز أن يكون الأمران من صفة مدعي النبوة وصفه الله عز وجل بأمرٍ بعد أمرٍ ليدل على لعنته وجرأته على الله) (٥).
(١) جاء في (أ): تكرار لفظ (قوله).
(٢) مسيلمة بن حبيب الحنفي، أبو ثمامة الكذاب، مشعوذ جبار متنبئ معمر، قتله وحشي رضي الله عنه في موقعة اليمامة سنة ١٢ هـ. انظر: "سيرة ابن هشام" ٢/ ٧٤، و"جوامع السيرة" ص ٢٥٩، ٣٤٠، و"التعريف" للسهيلي ص ٥٦، و"الأعلام" ٧/ ٢٢٦.
(٣) الأسود بن كعب بن عوف العَنْسي، يعرف بعيهلة، مشعوذ متنبئ جبار، من أهل اليمن أسلم ثم ارتد وادعى النبوة، وقتله فيروز الفارسي قبل موت النبي - ﷺ - بقليل، انظر: "جوامع السيرة" ص ١٠، ٣٣٩، و"التعريف والإعلام" ص ٥٥ - ٥٦، و"الأعلام" ٥/ ١١١.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٤٣، وذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٥٨، والقرطبي ٧/ ٣٩، وأخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ١٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٦ بسند جيد عن قتادة، وأخرجه الطبري ٧/ ٢٧٢، عن قتادة وعكرمة، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٦، عن ابن جريج، وهو قول أكثرهم.
انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٤٤، والزجاج ٢/ ٢٧١، والسمرقندي ١/ ٥٠١، والثعلبي ١٨١ أ، و"غرائب الكرماني" ١/ ٣٧١.
(٥) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٨٦.
285
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ (من): عطف على (من) في قوله: ﴿مِمَّنِ﴾ (١) قال ابن عباس: (يريد: المستهزئين) (٢)، وهو قول الزجاج قال: (هذا جواب لقولهم: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ [الأنفال: ٣١]) (٣).
وقال عامة أهل التفسير (٤): (نزلت في ابن أبي سرح (٥)، وكان يكتب الوحي لرسول الله - ﷺ - فأملَى عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤]، فقال ابن أبي سرح: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ تعجبًا من تفضيل خلق الإنسان، فقال النبي - ﷺ -: "هكذا أنزلت" فشك وارتد، وقال: لئن
(١) انظر: "التبيان" ١/ ٣٤٨، و"الدر المصون" ٥/ ٤٠.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٢، والبغوي ٣/ ١٦٩، وابن الجوزي ٣/ ٨٦، ورجح السهيلي في "التعريف" ص ٥٦ أنها نزلت في النضر بن الحارث من المستهزئين.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٧٢.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٧٣، فقد أخرجه عن عكرمة والسدي، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ١/ ٤٥ - ٤٦، عن شرحيل بن سعد المدني، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٦: (عن موسى بن خلف البصري وابن جريج).
(٥) عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أبو يحيى القرشي، إمام فاضل فارس صحابي جليل أخو عثمان بن عفان رضي الله عنه من الرضاع، أسلم قبل فتح مكة، وهاجر، وكتب الوحي للنبي - ﷺ -، ثم ارتد، ثم أسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه، وشارك في الفتوح، وتوفي سنة ٣٦ هـ.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٤٩٦، و"الجرح والتعديل" ٥/ ٦٣، و"تهذيب الأسماء واللغات" ١/ ٢٩٦، و"سير أعلام النبلاء" ٣/ ٣٣، و"الإصابة" ٢/ ٣١٦، و"الأعلام" ٤/ ٨٨.
286
كان محمد صادقًا لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، ولئن كان (١) كاذبًا لقد قلت كما قال) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ يعني: الذين ذكرهم (٣) ﴿فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾: جمع غَمْرَةٍ (٤)، وهي شدة الموت وما يغشى الإنسان من همومه وسكراته، وغَمْرة كل شيء: كثرته ومعظمه، ومنه غَمَرة الماء وغَمَرة الحرب، ويقال: غَمَرَه الشيءُ: إذا علاه وغطاه.
قال الزجاج: (يقال: لكل من كان في شيء كثير قد غَمَره ذلك، وغَمره الدَّينُ: إذا كثر عليه) (٥)، هذا هو الأصل، ثم يقال للشدائد والمكاره: الغمرات، وجواب (لو) محذوف وقد مضت هذه المسألة في هذه السورة (٦) بأبلغ بيان.
(١) جاء في (ش): تكرار (كان).
(٢) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص ٢٢٣، والقرطبي ٧/ ٤٠ من رواية الكلبي عن ابن عباس، وذكره أكثرهم بلا نسبة.
انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٤٤، والثعلبي ١٨١ أ، والبغوي ٣/ ١٦٩، والرازي ١٣/ ٨٤، والظاهر أن الآية عامة يدخل تحتها كل ما ذكر قاله ابن عطية ٥/ ٢٨٦، وانظر: "الفتاوى" ٤/ ٨٦، ١٢/ ٢٥، ١٥/ ١٥٦، و"الكافي الشاف" ص ٦٠.
(٣) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٨٧
(٤) انظر: "العين" ٤/ ٤١٦، و"الجمهرة" ٢/ ٧٨١، و"البارع" ص ٣١٧، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٩٣، و"الصحاح" ٢/ ٧٧٢، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٣٩٢، و"المفردات" ص ٦١٤، و"اللسان" ٦/ ٣٢٩٤ (غمر).
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٢.
(٦) قال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٧٢: (الجواب محذوف، أي: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت لرأيت عذابًا عظيمًا) اهـ. وانظر "الدر المصون" ٥/ ٤١.
287
وقوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد: ملائكة العذاب ﴿بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ بمقامع من الحديد) (١)، وقال الحسن (٢) والضحاك: (﴿بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ بالعذاب).
قال الضحاك: (﴿بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾: يضربونهم ويعذبونهم، كما يقال: بسط إليه يده بالمكروه) (٣)، وقال مجاهد: (﴿بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ بالضرب يضربون وجوههم وأدبارهم) (٤)، قال الفراء: (ويقال: ﴿بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ لإخراج أنفس الكفار) (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ قال الفراء والزجاج: (أي: يقولون: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾) (٦)، قال الفراء: (وإذا طرحت من مثل هذا الكلام أن ففيه القول مضمر) (٧)، وذكر أبو إسحاق في معنى: {أَخْرِجُوا
(١) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٧٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٨ بسند جيد عن ابن عباس، قال: (البسط: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم) اهـ، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٥.
(٢) ذكره الماوردي في "تفسيره" ١/ ٥٤٥، وابن الجوزي ٣/ ٨٧، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٨١.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٧٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٤٨ بسند ضعيف عن الضحاك نحوه، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٥.
(٤) لم أقف عليه عن مجاهد.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٥، وقال ابن عطية ٥/ ٢٨٨ في تفسير الآية: (﴿بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ كناية عن مدها بالمكروه، وهو لا محالة أوائل العذاب وأماراته. وأما البسط لمجرد قبض النفس فإنه يشترك فيه الصالحون والكفرة) ا. هـ. بتصرف
(٦) لا يوجد هذا التقدير عن الفراء في "معانيه"، ولعله مفهوم من كلامه، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٢.
(٧) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٥.
288
أَنْفُسَكُمُ} وجهين: أحدهما، قال: (جائز أن يكون كما تقول للذي تعذبه: لأزهقن نفسك ولأخرجن نفسك، فهم يقولون: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ على هذا المعنى) (١)، ومعنى هذا الكلام أن قول القائل إذا أراد تعذيب إنسان [يقول] (٢): لأخرجن نفسك، معناه: لأذيقنك العذاب، ولأعذبنك أشد العذاب، كذلك قول الملائكة لهم ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ معناه: ذوقوا العذاب، وليس المراد من هذا أمرهم بإخراج أنفسهم؛ لأن أرواحهم ليسوا [هم] (٣) مخرجيها حتى يؤمروا بإخراجها، وإنما [مخرجها] (٤) ملك الموت وأعوانه، وقال بعض أهل المعاني: (هذا تغليظ لحالهم أي: أنهم بمنزلة من تولى إزهاق نفسه إكراهًا له، وهو أغلظ عليه، فلذلك يؤمرون بإخراج أنفسهم) (٥).
وأما أهل التفسير فإنهم يقولون في هذا: (إن نفس المؤمن [تنشط] (٦) في الخروج للقاء ربه، ونفس الكافر [تكره] (٧) ذلك، ويشق عليها الخروج؛ لأنها [تصير] (٨) إلى أشد العذاب (٩) كما قال رسول الله - ﷺ -: "من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٢.
(٢) لفظ: (يقول) ساقط من (ش).
(٣) لفظ: (هم) ساقط من (أ).
(٤) في (ش): (مخرجيها).
(٥) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ١٤٤، وابن الجوزي ٣/ ٨٧ - ٨٨، والرازي ١٣/ ٨٥.
(٦) في (ش): (ينشط) بالياء.
(٧) في (ش): (يكره) بالياء.
(٨) في (ش): (يصير) بالياء.
(٩) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٠١، والبغوي ٣/ ١٦٩.
289
لقاءه" (١)، وذلك يكون عند نزع الروح، وقد بُيّن ذلك في هذا الخبر، فهؤلاء الكفار [تُكرههم] (٢) الملائكة على نزع الروح ويقولون لهم: أخرجوا أنفسكم كرهًا).
والوجه الثاني الذي ذكره أبو إسحاق قال: (وجائز أن يكون المعنى: خلصوا أنفسكم، أي: لستم تقدرون على الخلاص) (٣)، ومعنى هذا الكلام أنهم يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم من العذاب على جهة التوبيخ، وهذا قول الحسن (٤)، وجائز أن يكون هذا القول منهم للكفار في نار جهنم، وقد (٥) غشيتهم شدائد هي كغمرات الموت، والملائكة يقولون لهم على جهة التوبيخ: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ من هذا العذاب (٦)، وجواب (لو) هنا مضمر، أي: لرأيت عجبًا أو لرأيت أمرًا فظيعًا (٧).
(١) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في "صحيحه" (٦٥٠٧)، ومسلم (٦٥٠٨)، (٢٦٨٣ - ٢٦٨٦)، البخاري في كتاب الرقاق، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، كلاهما في باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، من عدة طرق عن عبادة بن الصامت وعائشة وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم عن النبي - ﷺ - قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" اهـ.
(٢) في (أ): (يكرههم) بالياء.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٢.
(٤) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٤٥، والماوردي ٢/ ١٤٥، وابن الجوزي ٣/ ٨٧.
(٥) في (أ): تكرار لفظ (قد).
(٦) هذا قول الحسن البصري كما ذكرنا في المصادر السابقة، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٨٨.
(٧) أعاد المؤلف رحمه الله تعالى ذكره مرة أخرى فقد سبق بيانه في ص ٣٣٣، وقال =
290
وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾، الْهُونِ (١): هَوَان الشيء الحقير الهين، قال الله تعالى: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾ [النحل: ٥٩] وقال ذو الإصبع (٢):
أَذْهبْ إلَيْكَ فَمَا أُمِّي بِرَاعِيَةٍ تَرْعَى المَخَاضَ وَلاَ أُغْضِي عَلَى الهُونِ (٣)
وقالت الخنساء:
تُهينُ (٤) النُّفُوسَ وَهوْنُ النُّفُوسِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ أَبْقَى لَهَا (٥)
= ابن عطية في "تفسيره" ٦/ ١٠٩: (جواب لو محذوف تقديره: لرأيت عجبًا أو هولًا، ونحو هذا، وحذف هذا الجواب أبلغ من نصه؛ لأن السامع إذا لم ينص له الجواب يترك مع غاية تخيله) اهـ. وانظر: "كتاب الشعر" ٢/ ٣٩١.
(١) الهون: بضم الهاء. انظر: "العين" ٤/ ٩٢، و"الجمهرة" ٢/ ٩٩٦، و"البارع" ص ١٢٧، و"الصحاح" ٦/ ٢٢١٨، و"المقاييس" ٦/ ٢١، و"المجمل" ٣/ ٨٩٥، و"المفردات" ص ٨٤٨ (هون).
(٢) ذو الإصْبَع: حُرْثان بن الحارث بن محرث العَدْواني، شاعر جاهلي حكيم شجاع له وقائع مشهورة، لقب بذي الإصبع؛ لأن حية نهشت إصبع رجله فقطعها، وهو معمر ترك ثروة شعرية كبيرة فيها العظة والحكم والفخر. انظر: "الشعر والشعراء" ص ٤٧٣، و"الإكمال" لابن ماكولا ١/ ٩٦، و"نزهة الألباب" ١/ ٢٧٨، و"الأعلام" ٢/ ١٧٣، و"معجم الشعراء في لسان العرب" ص ١٤٣.
(٣) البيت في "تفسير الطبري" ٧/ ٢٧٧، والماوردي ٢/ ١٤٥، وابن عطية ٥/ ٢٨٨، و"اللسان" ٨/ ٤٧٢٥ (هون)، و"الدر المصون" ٥/ ٤٣.
والمخاض: النوق الحوامل، وأصله الطلق عند الولادة. انظر "اللسان" ٧/ ٤١٥٣ (مخض).
(٤) في النسخ: (تهيّن). وفي "الديوان" بالنون وفي بعض المراجع بالياء.
(٥) "ديوانها" ص ٨٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٩٩، و"اللسان" ٨/ ٤٧٢٥ (هون)، و"الدر المصون" ٥/ ٤٣، وهو في الطبري ٧/ ٢٧٧، لعامر بن جوين الطائي، =
291
تريد: وإهانة النفوس، قال الزجاج: (﴿عَذَابَ الْهُونِ﴾ أي: العذاب الذي يقع به الهوان الشديد) (١)، وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد: الهوان والخزي) (٢)، وقوله تعالى: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ قال: (يريد: تزعمون أن الملائكة بناته: ﴿وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ يريد: عن فرائضه والسجود له لا تصلون (٣)، وقد قال رسول الله - ﷺ -: "من سجد لله سجدة بنية صادقة فقد برئ من الكبر" (٤).
= والمشهور أنه للخنساء. والكريهة الحرب. وأبقى لها، أي: في الذكر وجميل القول. انظر "شرح ديوان الخنساء" لثعلب ص ٤٦.
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٢، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٠ واليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٣٩، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١٦٨، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٦٥: (﴿عَذَابَ الْهُونِ﴾ أي: الهوان)، وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٧٧.
(٢) في "مسائل نافع بن الأزرق" ص ١٣١، قال: (الهوان) وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٤٣، قال (الشديد)، وفي "الدر المنثور" ٣/ ٥٩، عن ابن عباس قال: (الهوان الدائم الشديد) اهـ.
(٣) لم أقف عليه، وقال البغوي في تفسير الآية ٣/ ١٦٩: (أي: تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه) اهـ، وقال الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٨٦: (ذكر الواحدي أن المراد لا تصلون له، قال - ﷺ -: "من سجد لله سجدة بنية صادقة فقد برئ من الكبر") اهـ.
(٤) ذكر الحديث صاحب "كنز العمال" ٧/ ٣٠٨ (١٩٠١٧)، وعزاه للديلمي من حديث ابن عباس، ولم أقف عليه في المطبوع من "مسند الديلمي"، وقد ورد نحوه من قول جماعة من العلماء رحمهم الله تعالى، فقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "التواضع" (٢١٧)، (٢٢٧)، (٢٣١) من طرق جيدة عن يحيى بن أبي جعدة المخزومي، قال: (من وضع وجهه لله عز وجل ساجدًا فقد برئ من الكبر) اهـ، وعن الحسن البصري قال: (السُّجُود يَذْهب بالكبر) اهـ. وعن يونس بن عبيد العبدي قال: (لا كبر مع السجود) اهـ وأخرج أبو نعيم في "الحلية" ٥/ ٦١ عن حبيب بن =
292
٩٤ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى﴾ الآية. قال أهل المعاني: (هذا يكون على وجهين أحدهما: أنه على الحكاية أن يقال لهم في الآخرة هذا كما دلت الآية الأولى على الحكاية، والثاني: أن المعنى على الاستقبال كأنه: تجيئوننا فرادى إلا أنه جاء على لفظ الماضي؛ لأنه بمنزلة ما قد كان لتحقيق الخبر به) (١).
وأما ﴿فُرَادَى﴾ (٢) فقال الفراء: (﴿فُرَادَى﴾ جمع، قال: والعرب تقول: قوم فرادى، وفراديا هذا، فلا يجرونها (٣) شبهت بثُلاث ورباع قال: وفرادى: واحدها فَرْد وفريد وفرد وفردان) (٤).
= أبي ثابت الأسدي قال: (من وضع جبينه لله تعالى فقد برئ من الكبر). وقد ورد في فضل السجود أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه مسلم (٤٨٨) عن ثوبان رضي الله عنه قال: (سألت النبي - ﷺ - عن أحب الأعمال إلى الله، وعمل يدخلني الله به الجنة فقال: "عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة") اهـ.
انظر: "مسند أحمد" ٥/ ١٤٧، ١٤٨، ٢٧٦، ٢٨٠، ٢٨٣، والدارمى (١٥٠٢) كتاب الصلاة، باب: فضل من سجد لله سجدة، وابن ماجه كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في كثرة السجود (١٤٢٢ - ١٤٢٤).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٧٧، والماوردي ٢/ ١٤٥، وابن عطية ٥/ ٢٩٠، وابن الجوزي ٣/ ٨٨، والرازي ١٣/ ٨٦، وابن كثير ٢/ ١٨٦.
(٢) انظر: "العين" ٨/ ٢٤، و"الجمهرة" ٢/ ٦٣٤ - ٦٣٥، و"الصحاح" ٢/ ٥١٨، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٥٠٠، و"المجمل" ٣/ ٧٢٠ (فرد).
(٣) قوله: فلا يجرونها، أي: يصرفونها.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٥، وفيه: (وفرادى واحدها فَرْد وفِرد وفريد، وفراد للجمع، ولا يجوز فرد في هذا المعنى) اهـ، وأشار المحقق في الهامش إلى ورود لفظ فردان في بعض النسخ، كذلك جاء في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٦١، و"اللسان" ٦/ ٣٣٧٣ (فرد)، عن الفراء لفظ (فردان).
293
وقال الليث: (الفَرْد: ما كان وحده، يقال: فَرَد يَفْرد، وأفردته: جعلته واحداً، ويقال: جاء القوم فُرادى (١)، [وعددت] (٢) الجوز [والدراهم] (٣) أفرادًا، أي: واحدًا واحدًا).
وقال ابن قتيبة: (فرادى جمع فردان مثل: سكران وسكارى وكسلان وكسالى) (٤)، وقال غيره: (فرادى جمع فريد مثل رديفٍ ورُدافَى) (٥)، وذكرنا عن الفراء هذين القولين وزيادة.
وأما التفسير فقال ابن عباس: (يريد: بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا شيء قدمتموه) (٦)، وقال الحسن: (فرادى كل واحدٍ على حدة) (٧)، وقال ابن كيسان (٨): (ولقد جئتمونا مفردين مما كنتم تعبدون ومن المظاهرين
(١) النص في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٦١، وفيه (جاء القوم فُرادًا)، بضم الفاء وفتح الراء مع التنوين.
وجاء في "اللسان" ٦/ ٣٣٧٤، عن الليث أنه قال: (ويقال: جاء القوم فرادًا وفرادى، منونًا وغير منون، أي: واحداً واحداً) اهـ.
(٢) في (ش): (وغدت).
(٣) في (أ): (الدرهم).
(٤) "تفسير غريب القرآن" ص ١٦٨، وفيه: (فرادى فَرْد، وكأنه جمع فردان، كما قيل...) اهـ.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٧٧ - ٢٧٨، و"المفردات" ص ٦٢٩، و"الدر المصون" ٥/ ٤٤.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٤٤، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٨٨، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٨٢.
(٧) ذكره الثعلبي في "الكشف" ص ١٨١ أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٨٨، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٨٢.
(٨) ابن كيسان محمد بن أحمد بن كيسان، تقدمت ترجمته.
294
لكم) (١)، ونحو ذلك قال أبو إسحاق قال: (كل واحد منفرد عن شريكه في الغي وشقيقه) (٢).
وقوله تعالى: ﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ قال ابن عباس: (يريد: حفاة عُرَاة كما خرجتم من بطون أمهاتكم) (٣)، وذكر الزجاج وجهًا آخر تحتمله اللغة: (كما بدأناكم أول مرة أي: كان بعثكم كخلقكم) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ أي: ملكناكم، يقال: خوّله الشيء، أي: مَلَّكه إياه، والخَوَل (٥) ما أعطى الله الإنسان من العبيد والنعم، قال أبو النجم (٦):
كُومَ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّلِ (٧)
(١) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨١ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٨٨، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٨٢.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٣، وقوله: (وشقيقه) غير واضحة في الأصل وكأنها: وشفيعه.
(٣) لم أقف عليه، وأخرجه البخاري (٦٥٢٤) كتاب الرقاق، باب: كيف الحشر، ومسلم (٢٨٦٠)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي - ﷺ - يقول: "إنكم ملاقو الله مشاة حُفاة عراة غُرْلًا"، والمقصود أنهم يحشرون كما خلقوا لا شيء معهم ولا يفقد منهم شيء حتى الغرلة، وهي القلفة التي تقطع عند الختان تكون معهم. وانظر: "شرح مسلم" للنووي ١٧/ ٢٨٠ - ٢٨٣، و"فتح الباري" ١١/ ٣٧٧ - ٣٨٨.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٣، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٦٦.
(٥) الخول: بفتح الخاء والواو. انظر: "الجمهرة" ١/ ٦٢١، و"الصحاح" ٤/ ١٦٩٠، و"المجمل" ٢/ ٣٠٧، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٣٠، و"المفردات" ص ٣٠٤.
(٦) أبو النَّجم: الفضْل بن قدامة بن عبيد العِجْلي الكوفي، تقدم.
(٧) "ديوانه" ص ١٧٥، وهو من لاميته المشهورة في هشام بن عبد الملك، ومطلعها:
295
قال ابن عباس: ﴿وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ﴾: (يريد: من النعيم والمال والعبيد والرباع (١) والمواشي) (٢)، ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾ قال ابن عباس: (يريد: شركاء لي) (٣) و ﴿شُفَعَاءَكُمُ﴾، قال المفسرون (٤): (وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام؛ لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده).
وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ قال الزجاج (٥): (الرفع (٦) أجود، [و] (٧) معناه: لقد تقطع وصلكم، والنصب جائز، والمعنى: لقد تقطع ما
= انظر: "طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٤٧٨، وكوم جمع كوماء، وهي الناقة عظيمة السنام، والذرى جمع ذروة السنام وأعلى كل شيء، والخول: ما أعطى من النعم، والمخول بتشديد الواو وكسرها: الله سبحانه وتعالى خولهم النعم.
والشاهد في: "العين" ٤/ ٣٠٥، والطبري ٧/ ٢٧٨، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٦٨، و"اللسان" ٣/ ١٢٩٣ (خول).
(١) الرِّباع: بالكسر جمع الرَّبْع بفتح الراء المشددة وسكون الباء، وهو المنزل، والدار بعينها، والوطن، والموضع يرتعون فيه في الربيع. انظر: "اللسان" ٣/ ١٥٦٣، و"القاموس" ص ٧١٨ (ربع).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٤.
(٣) في "تنوير المقباس" ٢/ ٤٤ نحوه، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٨٩.
(٤) أخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٧٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٠ بسند جيد، عن عكرمة والسدي نحوه، وانظر: السمرقندي ١/ ٥٠٢.
(٥) في (ش): تكرر (قال الزجاج: الرفع أجود ومعناه تقطع بينكم...).
(٦) قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية (لقد تقطع بينكم) بنصب النون، وقرأ الباقون بالرفع.
انظر: "السبعة" ص ٢٦٣، و"المبسوط" ص ١٧٢، و"الغاية" ص ٢٤٥، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٥، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦٠.
(٧) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
296
كنتم فيه من الشركة بينكم) (١).
قال أبو علي: (هذا الاسم يستعمل على ضربين: أحدهما: أن يكون اسمًا متصرفًا كالافتراق، والآخر: أن يكون ظرفًا، والمرفوع في قراءة من قرأ ﴿بَيْنَكُمْ﴾ الذي كان ظرفاً ثم استعمل اسمًا، والدليل على جواز كونه اسمًا قوله تعالى: ﴿وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: ٥]، و ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨]، وقال (٢) مهلهل (٣):
الحمدُ للهِ الوْهُوبِ المْجْزِل أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَم يُبَخَّل
كُومَ الذُّرى منْ خَولِ المخول تبَقَّلَتْ مِنْ أَوّلِ التَّبْقُّلِ
كَأَنَّ رِمَاحَهُمْ أَشْطَانُ بِئْرٍ بِعيدٍ بَيْنُ جَالَيْهَا جَرُورِ (٤)
فلما استعمل اسمًا في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو (تقطع) في قول من رفع. قال: ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفًا؛ لأنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه، أو يكون الذي هو مصدر، فلا يجوز أن يكون هذا القسم؛ لأن التقدير يصير: لقد تقطع افتراقكم، وهذا خلاف القصد والمعنى [المراد] (٥)، ألا ترى أن المراد: لقد تقطع وصلكم وما كنتم تتألفون عليه. فإن قلت: كيف جاز أن يكون
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٣.
(٢) هذا الشاهد لا يوجد في "الحجة" لأبي علي.
(٣) مُهَلْهِل بن ربيعة التغلبي: أبو ليلى، من نجد شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته.
(٤) ليس في "ديوانه"، وهو في: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠١، و"الكامل" للمبرد ١/ ٣٧٦، والطبري ٧/ ٢٨٠، و"الدر المصون" ٥/ ٥٣، وبلا نسبة في "مجالس الزجاجي" ص ١١٠، و"أمالي القالي" ٢/ ١٣٢، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٥، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٥، و"المحتسب" ٢/ ١٩٠، و"اللسان" ١/ ٤٠٣ (بين)، والأشطان جمع شطن بالتحريك: الحبال الطويلة الشديدة الفتل، والجال: الجانب، والناحية، والجرور: بعيدة القعر.
والشاهد: بين ظرف في الأصل، فصيره اسمًا ورفعه.
(٥) لفظ: (المراد) ساقط من (أ).
297
بمعنى الوصل، وأصله: الافتراق (١) والتباين، قيل: إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو: بيني وبينه شركة، وبيني وبينه رحم وصداقة صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمنزلة الوصلة، وعلى خلاف الفرقة، لهذا جاء ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ بمعنى: لقد تقطع وصلكم، وحكى سيبويه: (هو أحمر بين العينين) (٢)، وهذا يدل على جواز استعماله اسمًا.
فأما من قرأ: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ بالنصب ففيه مذهبان أحدهما: أنه أضمر الفاعل في الفعل، ودل عليه ما تقدم من قوله: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾، ألا ترى أن هذا الكلام فيه دلالة على التقاطع والتهاجر، فكأنه قيل: لقد تقطع وصلكم بينكم.
وقد حكى سيبويه أنهم قالوا: (إذا كان غدًا فأتني) (٣)، [فأضمر ما كانوا فيه من رخاء أو بلاء على معنى: إذا كان الرخاء أو البلاء غدًا فأتني (٤)]، فأضمر لدلالة الحال عليه، وصار دلالة الحال بمنزلة جَرْي الذكر وتقدمه، والمذهب الآخر من انتصاب البين: شيء يراه أبو الحسن (٥)، وهو أنه يذهب إلى: (أنه وإن نُصب يكون معناه معنى المرفوع لمّا جرى في كلامهم منصوبًا ظرفًا تركوه على ما يكون عليه في أكثر
(١) هو من الأضداد، يكون البَيْنُ الفراق ويكون الوصال. انظر: كتاب "الأضداد" لقطرب ص ١٣٨، وللأصمعي ص ٥٢، ولابن السكيت ص ٢٠٤، ولابن الأنباري ص ٧٥، و"شرح القصائد" لابن الأنباري ص ٤٣٣.
(٢) "الكتاب" ١/ ١٩٥.
(٣) "الكتاب" ١/ ٢٢٤.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٥) أبو الحسن هو سعيد بن مسعدة المجاشعي البصري الأخفش الأوسط، تقدمت ترجمته.
298
الكلام، وكذلك يقول في قوله تعالى (١): ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة: ٣] أنه على معنى الرفع، وكذلك يقول في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الجن: ١١] فدون: في موضع رفع عنده) (٢)، وإن كان منصوب اللفظ، ألا ترى أنك تقول: منا الصالحون (٣)، ومنا الطالحون؛ فترفع) (٤)، وذكر ابن الأنباري هذين الوجهين في علة النصب فقال: (التقدير: لقد تقطع ما بينكم، فحذفت ما لوضوح معناها، ونصبت بين على طريق المحل والصفة، ومثله قول الشاعر:
ما بين عَوْفٍ وإبراهيمَ من نَسَبٍ إلا قرابةُ بين الزنج والرومِ (٥)
أراد: إلا قرابة ما بين الزنج والروم، وقال آخر:
يُدِيرُونَنِي عَنْ سَالِمٍ وأُدِيرُهُمْ وَجِلْدَةُ بَيْن العَيْنِ وَالأنْفِ سالِمُ (٦)
(١) في النسخ: (ويوم)، وهو تحريف.
(٢) انظر: "معاني الأخفش" ١/ ٢٣٧، و"الحجة" لأبي علي ١/ ٢٥٠ - ٢٥١، ٣/ ٢٦٢، ٥/ ٤٢٩، ٦/ ٢٨٥، و"كتاب الشعر" ١/ ٣٠٦، و"المحتسب" ٢/ ١٩٠، وفيها كلام الأخفش وشرحه.
(٣) في (أ): (منا الطالحون ومنا الطالحون)، وهو تحريف.
(٤) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٥٧ - ٣٦١ بتصرف واختصار، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٧١، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٥، ولابن زنجلة ص ٢٦١، و"الكشف" ١/ ٤٤٠.
(٥) لم أقف على قائله، وهو في "الدر المصون" ٥/ ٥١.
(٦) البيت لأبي الأسود الدؤلي في "ديوانه" ص ٢٥٠، و"الدر المصون" ٥/ ٥١، ولزهير في "ديوانه" ص ١٢١، و"شرحه لثعلب" ص ٢٥٠، وبلا نسبة في "أمالي القالي" ١/ ٥١، ونسب في "العقد الفريد" ٢/ ٢٧٣، ٦/ ١٣٧ إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ وقال البغدادي في "الخزانة" ٥/ ٢٧٢ - ٢٧٣: (هذا خطأ، والصواب أنَّه تمثَّل به لا أنه قاله، والبيت لزهير، وهو ثابت في ديوانه) اهـ.
299
أراد: وجلدة ما بين العين، قال: وفيه وجه آخر؛ وهو: أن يكون [بين] (١) في موضع رفع وإن نصبت في اللفظ؛ لأن أصلها المحل، فنابت عن الفاعل المرفوع، وأُقرت على أصلها من النصب، كما قالت العرب: قد افترق بين عبد الله وزيد، فجعلوا بين نائبه عن الفاعل ومقرةً على أصلها من النصب، وقالوا أيضًا: هذا ثوب بينَ الثوبين، [وبينُ الثوبين] (٢)، فنصب بعضهم تغليبًا للأصل وهو يحكم عليها بالرفع، وأعطاها آخرون في اللفظ ما تستحقه من جهة المعنى) (٣).
وأجاز الفراء هذا الوجه أيضًا فقال: (إذا جعل الفعل لبين ترك نصبًا كما قالوا: أتاني دونك من الرجال فترك نصبًا وهو في موضع رفع) (٤).
وأما التفسير فقال ابن عباس: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ (يريد: وصلكم ومودتكم) (٥)، وقال مقاتل: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ (يعني: ما تواصلتم بينكم) (٦)، وقال الحسن: (لقد تقطع الأمر بينكم) (٧)، وقال قتادة:
(١) لفظ: (بين) ساقط من (ش)، وانظر: "التبيان" ١/ ٣٤٩، و"الفريد" ٢/ ١٩٤.
(٢) لفظ: (وبين الثوبين) الثانية ساقط من (ش).
(٣) ذكره الواحدي ١/ ٨٥، وابن الجوزي ٣/ ٨٩، والرازي ١٣/ ٨٧ - ٨٨ مختصرًا.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٥، قال: (هو في موضع رفع لأنه صفة...)، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٦٦، و"المشكل" ١/ ٢٦٢، و"البيان" ١/ ٣٣٢.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٤٤، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٥، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٧٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٠ بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (يعني: الأرحام والمنازل) ا. هـ، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٠.
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٧٩، وفيه قال: (لقط تقطع بينكم وبين شركائكم، يعني: من الملائكة من المودة والتواصل) ا. هـ.
(٧) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٤٦، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٥، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٦٠.
300
(ما بينكم من الوصل) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾، قال ابن عباس: (ذهب عنكم ما كنتم تكذبون في الدنيا) (٢).
٩٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: بالنبات) (٣)، قال الكلبي: (الحب ما لم يكن له نوى كالبر والشعير، والنوى: ما لم يكن له حب مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما، فلقهما الله بالنبت) (٤).
وقال الحسن (٥) وقتادة (٦) والسدي (٧) وابن زيد (٨): (فلق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة).
وقال أبو إسحاق: (أي: يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج
(١) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ١/ ٢١٤، والطبري ٧/ ٢٧٩، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٠.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٥، بدون نسبة. وانظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٤٤.
(٣) لم أقف عليه
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٩٠.
(٥) ذكره هود في "تفسيره" ١/ ٥٤٦، والماوردي ٢/ ١٤٦، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٠، وابن الجوزي ٣/ ٩٠، وذكره شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ١٧/ ٥٠٤ عن الحسن أنه قال: (الفلق: كل ما انفلق عن شيء، كالصبح والحب والنوى) ا. هـ.
(٦) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ١/ ٢١٤، والطبري ٧/ ٢٨٠، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥١ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦١.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٠، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥١ بسند جيد.
(٨) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٠ بسند جيد.
301
منهما ورقًا أخضر) (١)، وقال مجاهد (٢) وأبو مالك: (يعني: الشقين الذين فيهما) (٣)، وروي عن ابن عباس (٤) وهو قول الضحاك ومقاتل: ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ (أي: خالقهما)، ذهبوا بفالق مذهب فاطر.
قال مقاتل: (يعني: خالق الحب البر والشعير والذرة والحبوب كلها، ﴿وَالنَّوَى﴾ يعني: نوى كل ثمرة لها نوى الخوخ والتين والنبق والمشمش والغبيراء (٥) والإجاص (٦) وما كان من الثمار لها نوى) (٧).
قال الليث (٨): (النَّوى: نَوَى التمر وأشباهه من كُلٍّ (٩)، والواحدة نواة، ونَوَّت البسرة وأَنْوَت: إذا انعقدت نواتها).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٣.
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٢١٩ - ٢٢٠، وأخرجه الطبري ٧/ ٢٨١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥١ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦١.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨١ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦١.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥١ بسند ضعيف عن ابن عباس والضحاك.
(٥) الغبيراء: بضم الغين، وفتح الباء، وسكون الياء، شجرة معروفة من الفواكه، سميت بذلك للون ورقها وثمرتها.
انظر: "اللسان" ٦/ ٣٢٠٧ (غير).
(٦) الإجاص: بكسر الهمزة، وفتح الجيم المشدودة، فاكهة معروفة. انظر: "اللسان" ١/ ٣٢، مادة (أجص).
(٧) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٧٩، وانظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ٩٠.
(٨) النص في "العين" ٨/ ٣٩٤، ونقل الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٨٣ عن الليث قوله: (نَوَّت البُسرة وأَنْوَت إذا عقدت نواتها) ا. هـ. وانظر: "اللسان" ٨/ ٤٥٩٠ مادة (نوى).
(٩) كذا في النسخ (من كُلٍّ) ولعله من أُكلٍ.
302
وقوله تعالى: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ قال ابن عباس: (يخرج من النطفة بشرًا حيًّا ثم يخرج النطفة الميتة من الحي) (١)، وهو قول الكلبي ومقاتل (٢)، قال الكلبي: (يخرج النسمة والفروجة (٣) والفرخ من النطفة والبيضة، ثم يخرج النطفة والبيضة من الحي) (٤).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: (يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والعاصي من الطائع) (٥)، وهو قول الحسن (٦). وقال السدي: (يخرج النبات عن الحب) (٧)، وهذا اختيار أبي إسحاق قال: معنى ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ يخرج النبات: الغض الطري الخضِر من الحب اليابس، ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ [أي] (٨): ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي) (٩).
(١) ذكره النحاس في "إعرابه" ١/ ٥٦٦، وأخرج الطبري ٧/ ٢٨٢ بسند جيد عنه قال: (يخرج النطفة الميتة من الحي ثم يخرج من النطفة بشرًا حيًا) ا. هـ وأخرج ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٢، بسند ضعيف عنه قال: (﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾، أي: يخرج النطفة بشراً) ا. هـ قال: (وروي عنه أنه قال: ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾، أي: يخرج النطفة الميتة من الرجل الحي) ا. هـ
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٧٩ - ٥٨٠.
(٣) الفروجة، والفروج: بفتح الفاء، وقد تضم وهي لغة، وضم الراء المشددة: فرخ الدجاج، انظر: "اللسان" ٦/ ٣٣٧٠ مادة (فرج).
(٤) في "تنوير المقباس" ٢/ ٤٤ - ٤٥ نحوه.
(٥) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣٧٠ عن ابن عباس والحسن وعطاء، وذكره الرازي ١٣/ ٩٢ عن ابن عباس، وهو في "الوسيط" ١/ ٨٦، عن عطاء فقط.
(٦) أخرجه الطبري ٦/ ٣٠٦ - ٣٠٨ من طرق جيدة، وذكره ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٢ عن الحسن وقتادة.
(٧) أخرجه الطبري ٧/ ٢٨٢ بسند جيد.
(٨) لفظ: (أي) ساقط من (ش).
(٩) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٣، والآية عامة والأقوال متقاربة، قال ابن كثير٢/ ١٧٧:=
303
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ قال ابن عباس (١): (يريد: الله وحده لا شريك له يفعل هذا فكيف [تكذبون]؟) (٢).
قال الزجاج: (احتج الله عليهم بما يشاهدونه من خلقه؛ لأنهم أنكروا البعث، فأعلمهم أنه خلق هذه الأشياء، وأنه قادر على بعثهم، ثم قال: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أي: فمن أين تصرفون عن الحق بعد هذا البيان) (٣).
٩٦ - قوله تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾ الآية: الفَلْق: مصدر فَلَقْتُ أفْلِق فَلْقًا، ويقال: سمعت ذاك من فَلْق (٤) فيه، ذكره ابن السكيت (٥)، وأما ﴿الْإِصْبَاحِ﴾ فقال الليث (٦): (الصُّبْح والصَّباح هما أول النهار، وهو
= (يخبر تعالى أنه ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ أي: يشقه في الثرى فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها، ولهذا فسره بقوله: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ أي: يخرج النبات الحي من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت، وقوله ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ﴾ معطوف على ﴿فَالِقُ الْحَبِّ﴾، وقد عبروا عن ذلك بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى وتشملها الآية) ا. هـ بتصرف، وانظر: السمرقندي ١/ ٥٠٢، وابن عطية ٥/ ٢٩٤.
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٤٥، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٦، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٥٣ بسند ضعيف قال: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ (أي: كيف تكذبون).
(٢) في (ش): (يكذبون)، بالياء.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٣.
(٤) من فَلْق: بفتح الفاء، وقد تكسر. انظر: "العين" ٥/ ١٦٤، و"الجمهرة" ٢/ ٩٦٥، و"الصحاح" ٤/ ١٥٤٤، و"المجمل" ٣/ ٧٠٥، و"المفردات" ص ٦٤٥، و"اللسان" ٦/ ٣٤٦٢ مادة (فلق).
(٥) "إصلاح المنطق" ص ١٩، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٢٩، وانظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ١/ ٨٥.
(٦) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٦٩، وانظر: "العين" ٣/ ١٢٦، و"الجمهرة" ١/ ٢٧٩،=
304
الإصباح أيضًا، قال الله تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾ يعني: الصبح، وقال:
أَفْنَى رِياحًا وذَوِى رِياحِ تَناسُخُ الإِمْسَاءِ وَالإِصْبَاحِ (١)
يريد: المساء والصباح). الفراء مثله في الإصباح (٢)، وقال الزجاج: (الإصباح والصبح واحد) (٣). وأما التفسير، فقال كثير من أهل التفسير في قوله ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾: (شاقّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده) (٤)، ولا أدري كيف قالوا هذا؛ فإن الليل يشق عن عمود الصبح لا الصبح عن الليل (٥).
= و"الصحاح" ١/ ٣٧٩، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٣٢٨، و"المجمل" ٢/ ٥٤٨، و"المفردات" ص ٤٧٣ مادة (صبح).
(١) لم أعرف قائله. وهو في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٦٩، و"الكشاف" ٢/ ٣٧، والرازي ١٣/ ٩٨، و"اللسان" ٤/ ٢٣٨٨ مادة (صبح)، (البحر) ٤/ ١٨٥، و"الدر المصون" ٥/ ٥٩، والإمساء والإصباح بالكسر مصدر، وبالفتح جمع مُسى وصُبْح، وجاء عند الأزهري (رباحًا، ورباح) بالباء بدل الياء.
(٢) هذه عبارة الأزهري في "التهذيب" ٢/ ١٩٦٩، وقال الفراء في "معانيه"١/ ٣٤٦: (والإصباح مصدر أصبحنا إصباحًا، والإصباح صُبح كل يوم بمجموع) ا. هـ.
ونحوه ذكر الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٨٢.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٤.
(٤) هذا قول الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٢، والثعلبي في "الكشف" ١٨١ ب، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٠، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٩٥، والبيضاوي ١/ ١٤٥.
(٥) قال الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٣٨: (فإن قلت: فما معنى فلق الصبح والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يراد فالق ظلمة الصبح، يعني: أنه على حذف مضاف. والثاني: أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره..) ا. هـ. ملخصا. وانظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ٩٨، و"الخازن" ٢/ ١٦٣.
305
[وأما] (١) ابن عباس (٢) والمحققون (٣) قالوا: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾ أي: خالق الإصباح كل يوم جديد).
وقال الكلبي: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾: خالق الصباح كل يوم) (٤).
وقال أبو إسحاق: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾: (جائز أن يكون خالق الإصباح، وجائز أن يكون معناه: سياق الإصباح، وهو راجع إلى معنى خالق) (٥)، وقال في سورة الفلق: (الفلق الخلق، وإذا تأملت الخلق تبين لك أن أكثره عن انفلاق) (٦)، وقد ذكرنا هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ [الأنعام: ٩٥].
وقال الليث: (الله تعالى فلق الصبح، أي: أبدأه وأوضحه) (٧)، فعلى
(١) لفظ: (الواو) ساقط من (أ)، ولفظ: (قالوا) بعده الأولى أن يكون فقالوا.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٤ بسند ضعيف عن العوفي عن ابن عباس قال: (خلق الليل والنهار) ا. هـ، وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني: بالإصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل) ا. هـ
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٣ بسند ضعيف عن الضحاك. وبه قال مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٨٠، والسمرقندي ١/ ٥٠٢، وانظر: "الفتاوى" ١٧/ ٥٠٥، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٥٧: (فسر بعضهم فالق هنا بمعنى: خالق. قيل: ولا يعرف هذا لغة، وهذا لا يتلفت إليه؛ لأن هذا منقول عن ابن عباس والضحاك، أيضاً لا يقال ذلك على جهة التفسير للتقريب؛ لأن الفراء نقل في اللغة أن فطر وخلق وفلق بمعنى واحد) ا. هـ، وانظر: "البحر المحيط" ٤/ ١٨٤.
(٤) "تنوير المقباس " ٢/ ٤٥.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٤.
(٦) "معاني الزجاج" ٥/ ٣٧٩.
(٧) النص في "العين" ٥/ ١٦٤.
306
هذا المعنى ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾: مبديه وموضحه، وذلك أن معنى الفلق راجع إلى الإبداء والإيضاح؛ لأن الفلق يتضمن الإبداء (١).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾ السكن: معناه في اللغة ما سكنت إليه، يريد: أن الناس يسكنون في الليل سكون الراحة، بأن جعل الله تعالى ذلك لهم سكنًا (٢). قال ابن عباس: (يريد: أن كل ذي روح يسكن فيه) (٣)، وقال الكلبي: (يسكن فيه الخلق ويرجعوا إلى أوطانهم) (٤)، وهو مثل قوله تعالى: ﴿هُوَ (٥) اَلَّذِى جَعَلَ لَكُمٌ الّيلَ لِتَسكنُواْ فِيهِ﴾ [يونس: ٦٧].
واختلف القراء (٦) في قوله: ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ﴾ فقرأ الأكثرون (جَاعِلُ) بالألف؛ لأن قبله اسم فاعل وهو [قوله] (٧): ﴿فَالِقُ الْحَبِّ﴾ و ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾ و (جاعل) هاهنا حسن ليكون المعطوف [مثل المعطوف] (٨) عليه، ألا ترى أن حكم الاسم أن يعطف على اسم مثله؛ لأن الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم، وقرأ أهل الكوفة ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ﴾ لأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى الماضي، فلما كان فَاعِلٌ بمنزلة فَعَلَ في المعنى عطف عليه فعل؛ لموافقته له
(١) في (ش): (الابتداء)، وهو تحريف، وانظر: "المفردات" ص ٦٤٥.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٨٣.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٧.
(٥) جاء في النسخ: (وهو الذي) بالواو، وهو خطأ واضح.
(٦) قرأ عاصم وحمزة والكسائي (جَعَلَ الليلَ) بفتح العين واللام من غير ألف بينهما على أنه فعل ماض و (الليل)، بالنصب على أنه مفعول به. وقرأ الباقون (جاعِلُ الليلِ) بالألف وكسر العين ورفع اللام، و (الليلِ) بالخفض على الإضافة. انظر: "السبعة" ص ٢٦٣، و"المبسوط" ص ١٧٢، و"الغاية" ص ٢٤٥، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٥، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦٠.
(٧) لفظ: (قوله) ساقط من (ش).
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
307
في المعنى، ويدلك على أنه بمنزلة فَعَل أنه نزل منزلته فيما عُطِفَ عليه، وهو قوله تعالى ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ [الأنعام: ٩٦]، ألا ترى أنه لما كان المعنى فعل في (جاعل) حمل المعطوف على ذلك فنصب (الشَّمْسَ [والْقَمَرَ] (١) (٢)
وقوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا﴾ قال ابن عباس: (يريد: بحساب) (٣) مثل ما قال في سورة يونس ﴿لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: ٥]، وقال الكلبي: (منازلهما بحساب لا يُجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما) (٤).
وروى شيبان (٥) عن قتادة قال: ([يدوران] (٦) في حساب) (٧)، وأما
(١) لفظ (القمر) مكرر في (أ).
(٢) ما تقدم قول الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣٦١ - ٣٦٣، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٧٢، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٥، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٦، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦٢، و"الكشف" ١/ ٤٤١.
(٣) ذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٦١، والقرطبي في "تفسيره" ٧/ ٤٥، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٤، بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني: عدد الأيام والشهور والسنين) ا. هـ، وعلى هذا يراد بالحسبان: الحساب، وهو قول الجمهور، كما ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٩١.
(٤) ذكره السمرقندي ١/ ٥٠٣.
(٥) شَيْبان بن عبد الرحمن التميمي مولاهم أبو معاوية البصري، نزل الكوفة، إمام ثقة، محدث، نحوي مقرئ، أكثر عن قتادة والحسن وغيرهما، توفي سنة ١٦٤هـ. انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ٣٥٥، و"تاريخ بغداد" ٩/ ٢٧١، و"إنباه الرواة" ٢/ ٧٢، و"سير أعلام النبلاء" ٧/ ٤٠٦، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ١٨٤.
(٦) في (أ): (تدوران)، وهو تحريف.
(٧) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢١٤، والطبري ٧/ ٢٨٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٤، بسند جيد من طريق معمر عن قتادة، ولم أقف عليه من طريق شيبان عن قتادة.
308
معنى الحساب فإن العروضي (١) والقرشي (٢) أخبراني عن الأزهري قال: أخبرني المنذري (٣) عن أحمد بن يحيى، أنه حكى عن الأخفش أنه قال: (معناه: بحسابٍ، فحذف الباء) (٤)، والكلام مختصر تقديره: وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب كقوله: ﴿لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء: ٦١] أي: من طين، وقال ثعلب: (﴿حُسْبَانًا﴾ مصدر كما تقول: حَسَبْته أَحْسبُه حُسْبانًا وحِسَابًا) (٥)، وأنشد أبو عبيد عن أبي زيد:
على الله حُسْباني إذا النَّفْسُ أَشْرَفَتْ على طَمَعٍ أَو خافَ شيئًا ضَمِيرُها (٦)
وجعله الأخفش (٧) جمع حِسَابٍ، وهو قول أبي الهيثم (٨) قال: (الحُسبان جمع حساب مثل: رِكَابٍ ورُكْبَانٍ، وشِهَابٍ وشُهْبَانٍ، وكذلك أحسبة مثل: شهاب وأشهبة) (٩).
(١) العروضي: أبو الفضل أحمد بن محمد الصفار، تقدمت ترجمته ترجمته.
(٢) القرشي: أبو عثمان سعيد بن العباس الهروي، تقدمت ترجمته.
(٣) المنذري: أبو الفضل محمد بن أبي جعفر الهروي، تقدمت ترجمته.
(٤) "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٨١١.
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٨١٠.
وانظر: "العين" ٣/ ١٤٨، و"الجمهرة" ١/ ٢٧٧، و"الصحاح" ١/ ١٠٩، و"المجمل" ١/ ٢٣٣، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٥٩، و"المفردات" ص ٢٣٢ مادة (حسب).
(٦) لم أقف على قائله، وهو في "تهذيب اللغة" ١/ ٨١٠، و"اللسان" ٢/ ٨٦٥ مادة (حسب)، و"الدر المصون" ٥/ ٦٤.
(٧) "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٢.
(٨) أبو الهيثم: خالد بن يزيد الرازي، تقدمت ترجمته.
(٩) "تهذيب اللغة" ١/ ٨١١، وفيه قال: (الحسبان جمع حساب، وكذلك أَحْسِبَةٌ مثل شِهاب وأَشْهبة) ا. هـ.
309
وهو قول أبي عبيدة (١) والمبرد (٢) ذكرا ذلك في قوله تعالى: ([الشَّمْسُ] (٣) وَالقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن: ٥]، ومن جعل الحسبان مصدرًا جعله كالرجحان والنقصان (٤).
فأما نصب ﴿الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ فقال أبو إسحاق: (النصب على تأويل وجعل الشمس والقمر؛ لأن في ﴿جَاعِلٌ﴾ معنى جعل، وبه نصبت ﴿سَكَنًا﴾، كما تقول: هو معطي زيدٍ درهمًا، فنصب الدرهم محمول على تأويل أعطى) (٥)، ونحو هذا قال أبو علي (٦). وقال الفراء: (الليل في قوله (وَجَاعِلُ الَّليْلِ) في موضع نصب في المعنى فرُد ﴿الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ على معناه لما فرّق بقوله ﴿سَكَنًا﴾، فإذا لم تفرق بينهما بشيء آثروا الخفض، وقد يجوز أن ينصب وإن لم يحل بينهما بشيء) (٧)، وأنشد:
بَيْنَا نَحْنُ ننظره أَتَانَا مُعَلّقَ شِكوة وزِنَادَ رَاعِ (٨)
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٢٠١، ٢/ ٢٤٢، وانظر: "أدب الكاتب" ص ٦٧، و"الزاهر" ٢/ ٧٦.
(٢) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٦٤، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٥.
(٣) في (ش): (والشمس)، وهو تحريف.
(٤) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٦٧، و"الدر المصون" ٥/ ٦٤.
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٤.
(٦) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٦٣.
(٧) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٦، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠١.
(٨) الشاهد لنُصَيْب الأسود، شاعر أموي في "ديوانه" ص ١٠٤، ولرجل من قيس عيلان في "الكتاب" ١/ ١٧٠ - ١٧١، وبلا نسبة في "المحتسب" ٢/ ٧٨، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٣، و"الصاحبي" ص ٢١٢، و"أمالي ابن الحاجب" ٢/ ٧٤، و"رصف المباني" ص ١٠٥، و"اللسان" ١/ ٤٠٥، (بين) وللبيت روايات مختلفة، والشكوة: وعاء لتبريد الماء. والزناد: ما تقدح به النار. والشاهد: نصب زناد حملًا على موضع شكوة. انظر: "شرح شواهد المغني" ٢/ ٧٩٨، و"الخزانة" ٧/ ٧٤.
310
وقد شرح ابن الأنباري هذا فقال: (العرب قد تجرى اسمًا على الخفض ثم تعطف عليه منصوبًا، وكذلك يقدمون المنصوب ثم يعطفون عليه المخفوض في باب فاعل، فيقولون: هو ضارب عبد الله في الدار ومحمدًا، وهو ضارب عبد الله في الدار ومحمدٍ، إذا نصبوا بعد الخفض قدروا أن المعطوف عليه منصوب وأن الفاعل منوّن، وذلك أن قولنا: هو ضارب عبد الله يجري مجرى ضارب عبد الله، وإذا خفضوا بعد النصب قدّروا أن المنصوب مخفوض وأن الاسم المبني على فاعل لا تنوين فيه، وأنشد:
فنبَيْنَا نَحْنُ ننظره أَتَانَا مُعَلّقَ شِكوة وزِنَادَ رَاعِ
فحمل على تأويل النصب أراد: معلقًا شكوةً، وقال امرئ القيس:
فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ [مِنْ بَيْنِ] (١) مُنْضِجٍ صَفِيفَ شِوَاءٍ أوْ قدِيرٍ مُعَجَّلِ (٢)
فخفض القدير وهو نسق على الصفيف تقديرًا أن الصفيف مخفوض، كأنه قال: من بين منضج صفيف) (٣).
(١) في (ش): (ما بين)، وهي رواية للبيت.
(٢) الشاهد في "ديوانه" ص ١٢٠، و"معاني الفراء" ١/ ٣٤٦، و"جمهرة اللغة" ٢/ ٩٢٩، و"الاشتقاق" ص ٢٣٣، و"اللسان" ٤/ ٢٤٦٣، مادة (صفف)، والطهاة: الطباخون، وصفيف شواء: شرائح لحم مشوي، وقدير، أي: مطبوخ في قدْر، انظر: "شرح المعلقات" للنحاس ١/ ٤١.
(٣) انظر: "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص ٩٧ - ٩٨، وفي "معاني الفراء" ١/ ٣٤٦، و"الجمل" للزجاجي ص ٨٤ - ٨٥، نحوه، وقال مكي في "المشكل" ١/ ٢٦٣: (﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ انتصبا عطفا على موضع (الليل) لأنه في موضع نصب وقيل: على تقدير وجعل. وأما على قراءة ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ﴾ فهو عطف على اللفظ والمعنى) ا. هـ. وانظر: "البيان" ١/ ٣٣٢، و"التبيان" ١/ ٣٤٩ و"الفريد" ٢/ ١٩٨، و"الدر المصون" ٥/ ٦١.
311
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: الذي قدر الأقوات في كل زمان وما يصلح فيه) (١)، وقال المفسرون: (يعني: ﴿الْعَزِيزِ﴾: في ملكه يصنع ما أراد، ﴿الْعَلِيمِ﴾: بما قدر من خلقهما) (٢).
٩٨ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ قال ابن عباس: (يريد: آدم) (٣)، ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ قال ابن الأنباري: (أي: أراد: فلكم مستقر ومستودع، وبهذا الإضمار يحسن اتصال هذا الكلام بما قبله وحسن الإضمار؛ لأن الفاء يغلب على ما بعدها الاتصال بما يسبقها، فحذف ما يحذف بعد الفاء؛ إنما هو لدلالة الذي قبلها عليه للمواصلة، كقول العرب: إن تزرني فمحسن، وإن قصدتني فبار، وهم يريدون: فأنت بار، فيحذفون لوضوح المعنى) (٤).
وأما تفسير: المستقر والمستودع، فقال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: مستقر في الأرحام ومستودع في الأصلاب) (٥)، وهذا التفسير على القراءتين (٦) في المستقر، وقال في رواية سعيد بن جبير: (المستقر ما في
(١) لم أقف عليه.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٠، والطبري ٧/ ٢٨٥، والسمرقندي ١/ ٥٠٣.
(٣) ذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٦، وذكره ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٥ عن أكثرهم.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٨ لفظ: (أي: فلكم مستقر ومستودع) فقط، والباقي لم أقف عليه.
(٥) لم أقف عليه من رواية عطاء، وهو في "تفسير عطاء الخراساني" ص ٨٨، من قوله، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٩ بسند جيد عن عطاء فقط.
(٦) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فمُسْتَقِر) بكسر القاف وفتحها الباقون. انظر: "السبعة" ص ٢٦٣، و"المبسوط" ص ١٧٢، و"الغاية" ص ٢٤٦، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٥، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦٠.
312
الرحم، والمستودع ما في الصلب) (١)، وهذا على قراءة من كسر القاف.
وقال كريب (٢): (كتب حبر تيماء (٣) إلى ابن عباس يسأله عن هذه، فكتب إليه المستودع: الصلب، والمستقر: الرحم، ثم قرأ: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ﴾ [الحج: ٥]) (٤)، وهذا التفسير على قراءة من فتح القاف، وقال في رواية العوفي: (كل مخلوق قد فرع من خلقه فهو المستقر، والمستودع: ما في أصلاب الرجال الذي الله خالقه) (٥)، ونحو
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٧ - ٢٨٨، من عدة طرق جيدة، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣١٦. وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وذكره ابن حجر في "فتح الباري" ٨/ ٢٨٩، وقال: (أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عباس بإسناد صحيح) اهـ.
(٢) كريب بن أبي مسلم، أبو رشدين المدني، الهاشمي، مولى ابن عباس، تابعي، إمام ثقة، موصوف بالخير والديانة، لازم ابن عباس رضي الله عنهما، وكان عنده عنه حمل بعير من الكتب، توفي رحمه الله تعالى سنة ٩٨ هـ.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٥/ ٢٩٣، و"الجرح والتعديل" ٧/ ١٦٨، و"تهذيب الأسماء واللغات" ٢/ ٦٦، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٤٧٩، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٤٦٨.
(٣) تَيْماء: بالفتح والمد، بلد في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى. انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٦٦.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٨، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٩ بسند ضعيف وفيه قال: (المستقر: الرحم، ثم قرأ: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ﴾ [الحج: ٥]، وقرأ ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ﴾ [البقرة: ٣٦]، قال: مستقرة فوق الأرض، ومستقرة في الرحم، ومستقرة تحت الأرض، حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار) اهـ.
(٥) أخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٩ بسند ضعيف عن العوفي عن ابن عباس قال: (المستقر في الأرحام، والمستودع في الصلب لم يخلق وهو خالقه) ا. هـ.
313
هذا روى عكرمة عنه قال: (المستقر: الذي قد خُلق واستقر في الرحم، والمستودع: الذي قد استودع في الصلب مما لم يخلق بعد) (١). وقال الوالبي (٢) والضحاك عنه: (المستقر في الرحم، والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب) (٣).
وقال سعيد بن جبير: (﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾ في بطون الأمهات ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾: في أصلاب الآباء، قال: وقال لي ابن عباس: أتزوجتَ يا ابن جبير؟ قلت: لا، وما أريد ذلك يومي هذا. قال: فضرب ظهري، وقال: أما أنه مع ذاك ما كان من مستودع في ظهرك فسيخرج) (٤).
وأكثر أهل التفسير والمعاني: على أن المستقر والمستودع في الأصلاب والأرحام (٥) وقد أحسن أبو علي شرح الحرفين كل الإحسان،
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٩٠، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٥ عن عكرمة عن ابن عباس.
(٢) الوالبي هو: علي بن أبي طلحة. والأثر عنه أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٧ بسند جيد.
(٣) لم أقف عليه من رواية الضحاك، وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٩ بسند ضعيف عن الضحاك من قوله. وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٥٧ روى عن الضحاك عن ابن عباس قال: (المستودع: المكان الذي تموت فيه) اهـ.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٨٨ - ٢٨٩، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٨٨ من عدة طرق جيدة.
(٥) قال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٦٨: (أكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب)، وهو قول الفراء في "معانيه" ١/ ٣٤٧، ونحوه قال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٠١، واليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٤٠، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١٥٧، وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٧٨: (وهذا القول أظهر والله أعلم) ا. هـ، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٢٩٨، والقرطبي ٧/ ٤٦.
314
مع ذكر اختلاف القراءتين في المستقر فقال: (قال سيبويه: "قالوا: قرَّ في مكانه واستقر" (١)، فمن كسر القاف كان المستقر بمعنى: القارّ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون خبره المضمر منكم، أي: منكم مستقر، كقولك: بعضكم مستقر، أي: مستقر في الأرحام، ومن فتح القاف فليس على أنه مفعول به، ألا ترى أن استقر لا يتعدى، وإذا لم يتعد لم يبن منه اسم مفعولٍ به، وإذا لم يكن مفعولًا به كان اسم مكان، فالمستقر بمنزلة المقرّ، كما كان المستقر بمنزلة القارّ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون خبره المضمر منكم، كما جاز ذلك في قول من كسر القاف، فإذا لم يجز ذلك جعلت الخبر المضمر لكم، فيكون التقدير: لكم مَقَرٌّ.
فأما المستودع فإن استودع فعلٌ يتعدى إلى مفعولين، [تقول] (٢): استودعت زيدًا ألفًا، وأودعت مثله، فاستودع مثل أَوْدَع، كما أن استجاب بمنزلة أجاب، فالمستودع يجوز أن يكون الإنسان الذي استودع ذلك المكان، ويجوز أن يكون المكان نفسه، فمن قرأ (فَمُستقَر) بفتح القاف جعل المستودع مكانًا ليكون مثل المعطوف عليه، أي: فلكم مكان استقرار، ومكان استيداع، ومن قرأ (فمستقِر) فالمعنى: منكم مستقر في الأرحام، ومنكم مستودع في الأصلاب، فالمستودع اسم المفعول به ليكون مثل المستقر في أنه اسم لغير المكان) (٣).
(١) "الكتاب" ٤/ ٧٠.
(٢) في (ش): (يقول)، بالياء.
(٣) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٦٤ - ٣٦٥، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٤٧، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٤، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٦٨، و"معاني القراءات" ١/ ٣٧٣، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٦، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦٢، و"الكشاف" ١/ ٤٤٢.
315
٩٩ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ قال ابن عباس: (يريد: المطر الذي ينزل، ليس من نقطة إلا ومعها ملك) (١).
﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ يعني: بالمطر ﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ذكر الفراء فيه قولين: (أحدهما يقول: رزق كل شيء، يريد: ما ينبت مما يصلح غذاء لكل شيء، قال: وكذا جاء التفسير، وهو وجه الكلام، قال: وقد يجوز في العربية أن [تضيف] (٢) النبات إلى ﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ وأنت تريد بكل شيء النبات أيضًا، فيكون مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ [حَقُّ] (٣) الْيَقِينِ﴾ [الواقعة: ٩٥] واليقين هو الحق) (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا﴾ قال أبو إسحاق: (معنى خَضِر كمعنى أَخْضَر، يقال: اخْضَرَّ فهو أخضَرُ وخَضِرٌ، مثل اعْوَرَّ فهو أَعْوَرُ وعَوِرٌ) (٥)، وقال غيره: ومثله نَمِرَ بمعنى: أنمر، تقول العرب: أَرِنيهَا نَمِرَةً أُرِكَهَا مَطِرَةً) (٦).
(١) ذكره الرازي ١٣/ ١٠٧ عن الواحدي.
(٢) في (ش): (يضيف).
(٣) في (ش): (الحق)، وهو تحريف واضح.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٧، وعلى القول الأول يكون النبات مخصوصًا بالمتغذى به، وعليه تكون الإضافة إضافة بين متباينين إذ يصير المعنى: غذاء كل شيء أو رزقه، وعلى القول الثاني: يكون النبات عامًّا في كل ما يتغذى بالماء من الحيوان والنبات، وعليه تكون الإضافة راجعة في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها، والمعنى: أخرجنا به كل شيء منبت؛ لأن النبات بمعنى المُنبت أفاد ذلك السمين في "الدر" ٥/ ٦٧ - ٦٨، وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٩٢، و"إعراب القرآن" للنحاس ٥٦٨.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٥، وانظر: "غريب اليزيدي" ص ١٤٠.
(٦) هذا مثل قائله أبو ذؤيب الهذلي كما في "اللسان" ٨/ ٤٥٤٥ مادة (نمر)، وهو بلا نسبه في "العين" ٨/ ٢٧١، و"معانى الأخفش" ٢/ ٢٨٣، و"الجمهرة" =
316
وقال الليث: (الخضر في كتاب الله هو الزرع، وفي الكلام كل نبات من الخُضَر) (١)، قال ابن عباس: (يريد: القمح والسلت (٢) والشعير والذرة والأرز) (٣)، ويعني بهذا: ما كان رطبًا أخضر مما ينبت من هذه الحبوب.
وقوله تعالى: ﴿نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا﴾ يعني: من الخضر، نخرج ﴿حَبًّا مُتَرَاكِبًا﴾ بعضه على بعض في سنبلة واحدة (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾ قال أبو عبيد: (أَطْلَعَت النخلة إذا أخرجت طَلْعَها، وطَلْعُها كُفُرَّاها (٥) قبل أن ينشق عن الإغَريض (٦)، والإغريض يسمى طَلْعًا أيضًا، قال: والطلع أول ما يرى من
= ٢/ ٨٠٢، والطبري ٧/ ٢٩٢، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٦٨، و"الصحاح" ٢/ ٦٤٧ مادة (خضر)، ونمرة: بفتح النون، وكسر الميم: السحابة التي فيها سواد وبياض، وهو مثل يضرب في صحة مخيلة للشيء وصحة الدلالة عليه، وإذا رأيت دليل الشيء علمت مما يتبعه. انظر: "جمهرة الأمثال" ١/ ٤٩، و"مجمع الأمثال" ١/ ٣٠٦، و"المستقصى" ١/ ١٤٤.
(١) النص في "العين" ٤/ ١٧٥ مادة (خضر)، وفي "التهذيب" ١/ ١٠٤٤ مادة (خضر)، وقال الليث: الخضِرُ في هذا الموضع الزرع الأخْضَرُ) ا. هـ انظر: "مقاييس اللغة" ٢/ ١٩٥، و"المفردات" ص ٢٨٥، و"اللسان" ٢/ ١١١٢ مادة (خضر).
(٢) السُّلْت: بالضم، ضرب من الشعير أبيض لا قشر له. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٠٥٩ مادة (سلت).
(٣) قوله: (الأرز) غير واضح في (أ)، والأثر ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٠٨، والقرطبي ٧/ ٤٨.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٩٢، والسمرقندي ٣/ ٥٠٣.
(٥) كُفَرَّاها: بضم الكاف، وتشديد الراء المفتوحة، وفتح الفاء أو ضمها: وعاء الطلع، وقشره الأعلى. انظر: "اللسان" ٧/ ٣٩٠١ مادة (كفر).
(٦) الإغريض بكسر الهمزة وسكون الغين: كل أبيض مثل اللبن، والطلع حين ينشق عنه كافوره. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٢٤٢ مادة (غرض).
317
عذق النخلة، الواحدة طلعة) (١)، قال أبو زيد: (أَطْلَعَ النَّخْلُ الطَّلْعَ إطْلاعًا، وطَلَعَ الطَّلْع يَطْلعُ طُلوعًا) (٢).
و ﴿قِنْوَانٌ﴾، قال الزجاج: (جمع قِنْو، مثل صِنْوٍ وصِنْوَانٍ، وإذا ثنيت القِنْو قلت: قِنْوانِ، بكسر النون) (٣).
قال أبو عبيدة: (ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل صنو وصنوان، والإعراب في النون للجمع، وليس لهما في كلام العرب نظير) (٤)، قال امرؤ القيس (٥):
فَأَثتْ أَعَالِيه وآدت أُصُولُهُ وَمَالَ بِقِنْوانٍ مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَا
(١) النص عن أبي عبيد في "الدر المصون" ٥/ ٧٤، ونقله الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٠٨، عن الواحدي عن أبي عبيدة، والنص عند الأزهري في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٠٨، عن أبي زيد، وقوله: (والطلع أول ما يرى) في التهذيب من قول المفضل الضبي.
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٠٦، وانظر: "العين" ٢/ ١٢، و"الجمهرة" ٢/ ٩١٥، و"الصحاح" ٣/ ١٢٥٤، و"المجمل" ٢/ ٥٨٥، و"اللسان" ٥/ ٢٦٩١ مادة (طلع).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٥، وفيه: (والقنو: العذق، بكسر العين) ا. هـ، ونحوه ذكر الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٨٣، قال: (وواحد القِنْوان قِنو، وكذلك الصنوان واحدها صِنو) ا. هـ، وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٦٣: (القنوان: العذُوق عند أكثر أهل اللغة).
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٢، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٦٨.
(٥) "ديوانه" ص ٦٠، والطبري ٧/ ٢٩٣، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٥١ مادة (قنا)، والماوردي ٢/ ١٤٩، وابن الجوزي ٣/ ٩٣، و"اللسان" ٦/ ٣٧٦٢ مادة (قنا) و"البحر" ٣/ ٤٤٣، و"الدر المصون" ٥/ ٧٢، وفي الديوان:
سَوامقَ جَبَّار أثيث فروعُهُ وعالين قِنْوانًا مِنَ البُسْرِ أَحْمَرا
والسوامق: العاليات، والجبار: الذيَ فات الأيدي فلم تنله، والأثيث: الكثير الملتف بعضه على بعض، وآدت، أي: تثنت ومالت.
318
قال أبو علي: الكسرة التي في (قنوان) ليست التي كانت في قنو، لأن وتلك قد حذفت في التكسير، وعاقبتها الكسرة التي [يجلبها التكسير، وكذلك التي (١)] في هجان (٢)، وأنت تريد الجمع ليست الكسرة التي كانت في الواحد، ولكنه مثل الكسرة في ظراف (٣) إذا جمعت عليه ظريفًا) (٤)، وقد ذكرنا مثل هذا في الفُلك في سورة البقرة [: ١٦٤]، ونظير هذا مما يوضحه الضمة التي في آخر مَنْصُور على قول من قال: يا جارُ (٥) ليست التي كانت فيه في قول من قال: يا جارِ (٦)، قال ابن عباس: (يريد: العراجين (٧) التي قد تدلت من الطلع، ﴿دَانِيَةٌ﴾ يريد: تدنو ممن يجتنيها) (٨)، وروي عنه أيضاً أنه قال: (يعني: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض) (٩).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٢) الهجان: بكسر الهاء من الإبل البيض الكرام الخالصة اللون. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٦٢٦ مادة (هجن).
(٣) في (ش): (في طراف إذا جمعت عليه طريفًا) بالطاء المهملة، ولعله تصحيف.
(٤) انظر: "كتاب الشعر" لأبي علي ١/ ١٢٠، و"الدر المصون" ٥/ ٧٢.
(٥) يعني: بالضمة، أفاده السمين في "الدر" ٥/ ٧٢، حين نقل قول الواحدي.
(٦) يعني: بالكسرة. ويعني: أننا حين نرخم منصورًا بقولنا: منصُ، فإن الضمة فيه على لغتي الترخيم من ينتظر ومن لا ينتظر، تختلف الواحدة منهما عن الأخرى في الفرض والتقدير، أفاده الدكتور أحمد الخراط في "حاشية الدر المصون".
(٧) العرجون: بضم العين، وسكون الراء، العِذق عامة، وقيل: هو العذق إذا يبس واعوج. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٨٧١ مادة (عرجن).
(٨) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٠٨، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٩٤ بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (دَانِيةٌ: تهدل العذوق من الطلع) اهـ.
(٩) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ١٩٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٨، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٧.
319
قال أبو إسحاق: (﴿دَانِيَةٌ﴾ أي: قريبة المتناول، قال: ولم يقل: ومنها قنوان بعيدة؛ لأن في الكلام دليلًا أن البعيدة السحيقة قد كانت غير سحيقة، فاجتزأ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة كما قال: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] ولم يقل: وسرابيل تقيكم البرد؛ لأن في الكلام دليلاً على أنها تقي البرد؛ لأن ما ستر من الحر ستر من البرد) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ﴾ الوجه: كسر (٢) التاء؛ لأنها في موضع نصب نسقًا على قوله (خَضِرًا) أي: فأخرجنا خَضِرًا ﴿وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ﴾ وروى الأعشى (٣) عن أبي بكر (٤) [وجنات) رفعًا (٥) قال أبو بكر (٦)] ابن الأنباري: (وله مذهبان أحدهما: أن يكون الجنات مفعولة في
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٥، ونحوه ذكر النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٦٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٢.
(٢) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٣، و"الزجاج" ٢/ ٢٧٦.
(٣) الأعشى: يعقوب بن محمد بن خليفة التميمي، أبو يوسف الكوفي، إمام عابد، مقرئ، تصدر للإقراء بالكوفة، فقرأ عليه خلق كثير، وهو من جلة أصحاب ابن عياش، توفي نحو ٢٠٠ هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ١٥٩، و"غاية النهاية" ٢/ ٣٩٠.
(٤) أبو بكر: هو شعبة بن عياش الأسدي، تقدمت ترجمته.
(٥) قرأ عامة القراء (وجناتٍ) بكسر التاء وموضعها نصب. وروى يعقوب الأعشى وعبد الحميد الرجمي عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود (وجناتٌ) بالرفع. قال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٦٩، والقرطبي في "تفسيره" ٧/ ٤٩: (وهو الصحيح من قراءة عاصم) ا. هـ، وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٩٤، و"مختصر الشواذ" ص ٣٩، و"المبسوط" ص ١٧٢، و"الغاية" ص ٢٤٦، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٥، و"الإتحاف" ٢/ ٢٤.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
320
المعنى رفعت بمضمر بعدها، تأويله ﴿وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ﴾ أخرجناها، فجرى مجرى قول العرب: أكرمت عبد الله وأخوه، يريدون: وأخوه أكرمته أيضاً، ومثله [قول] (١): أكلت طعامك وطعام أخيك، قال الفرزدق:
غَداةَ أحلَّتْ لابْنِ أَصْرَمَ طَعْنَةُ حُصَيْنٍ عَبيطَاتِ السَّدَائِفِ والخَمْرُ (٢)
فرفع الخَمر، وهي مفعولة، على معنى: والخمر أحلتها الطعنة، والمذهب الآخر: رفع الجنات بالنسق على القنوان؛ تغليبًا لمعنى الجوار، كما قال الشاعر:
وزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا (٣)
فنسق العيون على الحواجب تغليبًا للمجاورة، والعيون لا تزجج، كما أن الجنات من الأعناب لا [يكنّ] (٤) من الطلع) (٥).
(١) لفظ: (قول) ساقط من (ش).
(٢) "ديوانه" ١/ ٣٥٤، و"الكامل" ١/ ٣٧٠، و"الإنصاف" ١٦٠، و"الدر المصون" ٥/ ٧٦، وعبيطات: جمع عبيطة بفتح العين، وهي السمينة الفتية، والسدائف جمع سديف وهو السنام.
(٣) الشاهد للراعي النميري، شاعر أموي فحل في "ديوانه" ص ١٥٠، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٢١٣، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص ١٤٨، و"الخصائص" ٢/ ٤٣٢، و"الإنصاف" ٤٨٨، و"اللسان" ٣/ ١٨١٢ مادة (زجج)، و"الدر المصون" ٥/ ٧٧، وصدره:
إِذَا ما الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَوْمًا
وفي "الديوان": (وهزة نشوة من حي صدق) وزججن: أي: رققن. انظر: "الزاهر" ١/ ٥٢.
(٤) في (ش): (لا تكن)، بالتاء.
(٥) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٧٦ - ٧٧، عن ابن الأنباري، وذكر الواحدي بعضه في "الوسيط" ١/ ٩٠، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٤٧، و"معانى القراءات" =
321
وقوله تعالى: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾ قال الفراء: (يريد: شجر الزيتون، وشجر الرمان، كما قال: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] يريد: أهلها) (١)
وقوله تعالى: ﴿مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾، قال قتادة: (مشتبهًا ورقها مختلفًا ثمرها) (٢)، وهو قول مقاتل (٣) وأكثر المفسرين (٤)، وقال الزجاج: (أي: شجره، يشبه بعضه بعضًا ﴿وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ في الطعم) (٥).
وقوله تعالى: ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ﴾ قال عبد العزيز بن يحيى: (نظر الاستدلال والعبرة) (٦)، وقال أبو روق: (اعتبروا واتعظوا) (٧)، ﴿إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾، قال الفراء: (يقول: انظروا إليه أول ما يعقد) (٨)، والثمر: جمع ثمرة مثل: بقرة وبقر وشجرة وشجر وجزرة وجزر، وقد كسروها على فِعال، كما قالوا: أكمة وأكام ورقبة ورقاب (٩).
= ١/ ٣٧٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٦، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦٤، و"المشكل" لمكي ١/ ٢٦٤.
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٨، وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٩٤.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٩٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٥٩ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٧.
(٣) "تفسيرمقاتل" ١/ ٥٨١.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٩٤، والسمرقندي ١/ ٥٠٣، والماوردي ٢/ ١٤٩، وابن عطية ٥/ ٣٠١، وابن الجوزي ٣/ ٩٤، والقرطبي ٧/ ٤٩.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٦، وفيه: (أي: في الطعم وفيه ما يشبه طعم بعضه طعم بعض) ا. هـ، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٦٤.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩١ بدون نسبة، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٦/ ١١٩، والقرطبي ٧/ ٤٩.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٨.
(٩) انظر: "الكتاب" ٣/ ٥٨٣، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٦٦.
322
وقرأ حمزة والكسائي (ثُمُرِه) بضم الثاء (١) والميم، وله وجهان: الأبين أن يكون جمع ثمرة على ثُمُر، كما قالوا: خشبة وخُشُب؛ قال الله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ [المنافقون: ٤] وكذلك أكمة وأكم، ثم يخففون [فيقولون] (٢): أكم (٣) قال:
ترى الأكم منه (٤) سجدًا للحوافر (٥)
ونظيره من المعتل ساحَة وسُوْح (٦) وقارَة وقور، ولابهَ (٧) ولُوب، وناقة ونُوق. والوجه الآخر: أن يكون جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمارًا على ثُمرٍ، فيكون ثُمر جمع الجمع (٨).
(١) قرأ حمزة والكسائي (ثُمُرِه) بضم الثاء والميم، وقرأ الباقون: بفتحهما. انظر: "السبعة" ص ٢٦٢، و"المبسوط" ص ١٧٢، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٦، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦٠.
(٢) في (أ): (فيقول)، وهو تحريف.
(٣) في "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٦٧ - ٣٦٩: (وكذلك أكمة وأكُم، وتخفيف العين كما قالوا: الأكْم في جمع أَكَمَةٍ) ا. هـ.
(٤) في (ش): (فيه).
(٥) الشاهد لزيد الخمِل الطائي شاعر مخضرم فحل في "المعاني الكبير" ٢/ ٨٩٠، و"الكامل للمبرد" ٢/ ٢٠١، وبلا نسبة في: "تأويل مشكل القرآن" ٤١٧، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٢٩٥، و"كتاب الشعر" ١/ ١٨٣، و"الصحاح" ٢/ ٤٨٣ مادة (سجد)، و"الصاحبي" ص ٤٥٣، و"اللسان" ٤/ ١٩٤١ مادة (سجد)، وصدره:
بجَيْشٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَرَاتِهِ
(٦) في النسخ: (ساجة - وسوج) بالجيم، ولعله تصحيف.
(٧) اللَّابة: الحرة والأرض التي كسيت بحجارة سوداء. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٠٩٢ مادة (لوب).
(٨) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٦٦ - ٣٦٩ (بتصرف). وانظر: "معاني =
323
وقوله تعالى: ﴿وَيَنْعِهِ﴾ الينع: النضج (١). قال أبو عبيدة: (يقال: يَنَع يَيْنَع بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل) (٢)، وأنشد:
حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا (٣)
= القراءات" ١/ ٣٧٥، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٦، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٦، ولابن زنجلة ص ٢٦٤، و"الكشف" ١/ ٤٤٣.
وقراءة الجماعة بالفتح الثمر اسم جنس مفرده ثمرة، أما قراءة الضم، فالجمهور على أنه جمع ثمرة.
انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٩٤ - ٢٩٥، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٦، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٧٠، و"الدر المصون" ٥/ ٨٠.
(١) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٤٨، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٦٤، و"الصحاح" ٣/ ١٣١٠، و"مجمل اللغة" ٤/ ٩٤٣، و"المفردات" ص ٨٩٤ مادة (ينع). قال الجوهري: (يَنَع الثمر يَيْنَع وَييْنِعُ يَنْعا ويُنْعا وُينُوعًا، أي: نضج؛ وأَيْنَع مثله).
(٢) نقله بهذا اللفظ الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١١١ عن الواحدي عن أبي عبيدة. وذكره السمين في "الدر" ٥/ ٨٢ عن أبي عبيد، وفي "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٢ نحوه، لكنه ضبط بالمطبوعة بالفتح. قال: (ينعه مصدر من يَنع إذا أينع.. واحده يانع، والجمع يَنْع، ويقال: ينَع يَيْنَع ينوعًا، فمنه اليانع، ويقال: ينعت وأينعت لغتان) ا. هـ. ملخصًا.
(٣) الشاهد مختلف في نسبته، وهو للأحوص الأنصاري شاعر أموي، في "ديوانه" ص ٩١، وليزيد بن معاوية في "الجمهرة" ٢/ ٩٥٦، ونقل المبرد في "الكامل" ١/ ٣٨٤ عن الأخفش أنه قال: (الصحيح أنه ليزيد) اهـ.
ونسب في "اللسان" ٣/ ١٣٧٥ مادة (دسكر) إلى الأخطل، وفي ٨/ ٤٩٧١ مادة (ينع) إلى عبد الرحمن بن حسان، ونسب في "التاج" ١١/ ٥٥٨، إلى أبي دهبل الجمحي، وهو بلا نسبة في: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٢، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٧، و"تفسير الطبري" ٧/ ٢٩٥، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٨٨ مادة (ينع)، و"زاد المسير" ٣/ ٩٥، و "الدر المصون" ٥/ ٨٢، وصدره: (في قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكرة) والدسكرة: القرية، والبناء الضخم.
324
وقال الليث: (ينعت الثمرة، بالكسر، وأينعت، فهي [تينع] (١) وتونع إيناعًا، ويَنعًا بفتح الياء، ويُنعًا [بضهما] (٢)، والنعت يانِع ومونِع) (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يريد: يصدّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم.
قال أبو إسحاق (٤): (احتج الله عز وجل بتصريف ما خلق، ونقله من حالٍ إلى حالٍ بما يعلمون أنه لا يقدر عليه [المخلوقون] (٥)، وأعلم أنه كذلك يبعثهم؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، أعلمهم أن فيما قصّ عليهم دليلًا [لمن صدّق]) (٦).
١٠٠ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ﴾ قال الحسن: (معناه: أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان) (٧)، وهو اختيار الزجاج قال: (المعنى: أنهم أطاعوا الجن فيما سوّلت من شركهم فجعلوهم شركاء لله) (٨).
(١) (تينع) غير واضحة في (أ) وكأنها (تيينع أو يينع).
(٢) في (أ): (بضمه).
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١١١ عن الواحدي عن الليث، وفي "الدر المصون" ٥/ ٨٢: (قال الليث بكسرها في الماضي وفتحها في المستقبل) ا. هـ.
وفي "العين" ٢/ ٢٥٧: (يَنَعت الثمرة يُنعا ويَنَعا، وأيْنعَ إيناعًا، والنعت: يانِع ومُونِع) ا. هـ.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٧.
(٥) في (أ): (المخلوقين)، وهو تحريف.
(٦) في (ش): (لمن صدق قوله).
(٧) ذكره الماوردي ٢/ ١٥٠، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٩١، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٩٦، والقرطبي في "تفسيره" ٧/ ٥٣.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٧، وانظر: "معانى النحاس" ٢/ ٤٦٥.
325
وذكر الفراء (١) وأبو إسحاق (٢) في نصب (الجن) وجهين: (أحدهما: أن يكون الجن مفعولاً فيكون المعنى: وجعلوا لله الجن شركاء، ويكون الشركاء مفعولاً ثانياً. والثاني (٣): أن يكون الجن بدلاً من الشركاء ومفسراً للشركاء) (٤).
وقوله تعالى: (وَخَلَقَهُمْ) يجوز أن تعود الكناية على هؤلاء الذين جعلوا لله شركاء، والمعنى: وجعلوا لله الذي خلقهم شركاء لا يخلقون، ويجوز أن تعود الكناية على الجن، فيكون المعنى: والله خلق الجن، فكيف يكون الشريك لله عز وجل، المحدث الذي لم يكن ثم كان (٥).
وقوله تعالى ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ﴾، قال المفسرون (٦): (يعني: كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله). قال ابن عباس: يريد: افتعلوا له بنين وبنات) (٧).
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٨.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٧، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٣.
(٣) جاء في (ش): (والثاني أن يكون الجن بدلاً من الشركاء، ويكون الشركاء مفعولًا ثانيًا)، ثم ذكر الوجه الثاني على الوجه الصحيح، وهو تكرار وتداخل.
(٤) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٧٥٠، و"المشكل" ١/ ٢٦٤، و"الدر المصون" ٥/ ٨٣.
(٥) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٧٧، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٦٥.
(٦) قال ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣٠٣: (الذين خرقوا البنين اليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح، وأما ذاكروا البنات فالعرب الذين قالوا للملائكة بنات الله، فكأن الضمير في (جعلوا) (وخرقوا) لجميع الكفار، إذ فعل بعضهم هذا) ا. هـ، وانظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١١٦، و"الفتاوى" ١٧/ ٢٧١.
(٧) أخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٩٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٠ بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني: أنهم تخرصوا)، وأخرجا عنه بسند ضعيف قال: (جعلوا له بنين وبنات بغير علم) ا. هـ، وذكر السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٨، أنه روي عن ابن عباس أنه قال: (وصفوا لله بنين وبنات افتراء عليه) ا. هـ.
326
وقال قتادة (١) وابن زيد (٢) ومجاهد (٣) وابن جريج (٤): (كذبوا).
وقال الفراء: (معنى ﴿وَخَرَقُوا﴾: افتعلوا ذلك كذباً وكفراً، قال: [وخَرَقوا] (٥) واخترقوا وخلقوا واختلقوا وافتروا واحد (٦)، يقال (٧): خلق فلان الكلمة واختلقها واخترقها وخرّقها إذا افتعلها وابتدعها كذباً)، الليث: (تخرّق الكذب وتخلقه) (٨).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٩٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦١ بسند جيد، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ١/ ٢١٥، والطبري ٧/ ٢٩٧ بسند جيد عن قتادة، قال: (خرصوا) ا. هـ.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٩٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦١ بسند جيد.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٠.
وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٩٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٠ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٨.
(٤) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٥١، والقرطبي ٧/ ٥٣، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٤/ ١٩٤.
(٥) لفظ (الواو)، ساقط من (أ).
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ١٠١٦، و"اللسان" ٢/ ١١٤٢ مادة (خرق)، ولفظ: (افتراء) - لم ترد عندهما. وذكرها الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١١٦، وفي "معاني الفراء" ١/ ٣٤٨، (وقوله (وخرقوا) واخترقوا وخلقوا واختلقوا يريد افتروا) ا. هـ. وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٣، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤١، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٦٩، و"تفسير المشكل" لمكي ص ٧٨.
(٧) هذا قول أبي الهيثم خالد بن يزيد الرازي كما في "تهذيب اللغة" ١/ ١٠١٦، و"اللسان" ٢/ ١١٤٣ مادة (خرق).
(٨) "تفسير الرازي" ١٣/ ١١٦، وفي "العين" ٤/ ١٥٠ مادة (خرق): (والاختراق كالاختلاق وتخرق الكذب كتخلقه) اهـ.
327
وقال الزجاج: (معنى خرقوا واختلقوا: كذبوا) (١)، وقرأ (٢) نافع: (وَخَرَّقُوا) (٣) مشددة، والاختيار التخفيف؛ لأنها أكثر، والتشديد للمبالغة والتكثير (٤). وزعمت النصارى أن المسيح ابن الله، واليهود أن عزيزاً ابن الله، فأعلم الله عز وجل أنهم اختلقوا ذلك ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي: لم يذكروه عن علم، إنما ذكروه تكذباً، قاله (٥) الزجاج، وقال غيره: معناه ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ منهم أن هذا لا يجوز على القديم جل وعز، فهو داخل في الذم لهم (٦).
١٠١ - قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ﴾ أي: من أين يكون له ولد ولا يكون الولد إلا من صاحبه
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٨، وفيه: (معنى خرقوا: اختلقوا وكذبوا) ا. هـ. وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٦٦ (قال أهل اللغة: معنى (خرقوا) اختلقوا وافتعلوا) ا. هـ، وانظر: "الجمهرة" ١/ ٥٩٠، و"الصحاح" ٤/ ١٤٦٦، و"المجمل" ٢/ ٢٨٤، و"المفردات" ص ٢٧٩ مادة (خرق).
(٢) قرأ نافع: (وخرَّقوا) بتشديد الراء، والباقون بتخفيفها. انظر: "السبعة" ص ٢٦٤، و"المبسوط" ص ١٧٣، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٦، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦١.
(٣) لفظ: (الواو)، ساقط من (ش).
(٤) انظر: "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٧٢، و"معاني القراءات" ١/ ٣٧٦، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٦، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦٤، و"الكشف" ١/ ٤٤٣، ونقل قول الواحدي في اختيار قراءة التخفيف، الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١١٧.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٨.
(٦) قال الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٩٨: (تخرصوا لله كذبًا، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون، ولكن جهلاً بالله وبعظمته) ا. هـ. وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٠٤، والماوردي ١/ ١٥١.
﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ احتج جل وعز في نفي الولد بأنه خالق كل شيء، وليس كمثله شيء، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له، وإذا نسب إليه الولد فقد جعل له مثل (١)، فالآية متضمنة للحجة على استحالة أن يكون لله ولد؛ لأن ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لا مثل له، والولد لا يصح إلا مع المماثلة.
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ قال ابن عباس: (لأنه هو الخالق لخلقه) (٢).
١٠٢ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ارتفع ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ على أنه خبر ابتداء محذوف، كأنه قيل: هو خالق كل شيء؛ لأنه لما تقدم ذكره استغنى عن هو (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ قال ابن عباس: (فأطيعوه) (٤)، وقيل: وحدوه (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ قد ذكرنا معنى الوكيل (٦) في صفة الله تعالى، وقال بعض أصحاب المعاني: (إنما جاز وصف القديم
(١) ما تقدم هو نص كلام الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٧٨، ونحوه ذكره الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٩٨، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٤٦٦.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٣ بدون نسبة.
(٣) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٤٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٧١، و"الكشاف" ٢/ ٤١، و"التبيان" ١/ ٣٥٢، و"الفريد" ٢/ ٢٠٦، و"الدر المصون" ٥/ ٩١.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٣ بدون نسبة.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٦٢ عن ابن عباس، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٨٢، وقال السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٠٥: (يعني: وحدوه وأطيعوه) ا. هـ.
(٦) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ٢٠٦/ أ، و٢١٥ أ، ٢١٨ أ، و٢١٩ أ.
بأنه وكيل فيما هو مالك، لأنه لما كانت منافع مملوكاته لغيره وجلّ عن أن تلحقه المنافع والمضار صحت هذه الصفة في هذه الجهة من حيث إن له أن يصرف ما هو مالك له، ثم التصريف فيما يدبره بمنزلة ما يدبره الوكيل فيما تعود منافعه على غيره، فهو على كل شيء وكيل بالحفظ له والتدبير) (١).
١٠٣ - قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ الآية. احتج نفاة الرؤية (٢) بهذه الآية على أهل السنة (٣) فقالوا: أخبر الله تعالى أن الأبصار لا تدركه، وإنما قال هذا على سبيل التمدح، وما نفى عن نفسه على سبيل التمدح به وجب أن يكون ذلك على التأييد كقوله: ﴿لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام: ١٦٣]، و ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] (٤).
والجواب [عن] (٥) هذا من وجوه:
أحدها: أن الإدراك غير الرؤية لأنه يصح أن يقال: رآه وما أدركه،
(١) لم أقف عليه بعد طول بحث في كتب المعاني والتفسير. وانظر: "المقصد الأسنى" للغزالي ص ١١٤، و"شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص ٢٩٣، و"اللسان" ٨/ ٤٩٠٩ مادة (وكل).
(٢) نفاة الرؤية: هم الجهمية والمعتزلة والخوارج، وبعض المرجئة، قالوا: (لا يُرى الله تعالى في الدنيا ولا في الآخرة). انظر: "الفتاوى" لابن تيمية ٢/ ٣٣٦ - ٣٣٧، و"تفسير الخازن" ٢/ ١٦٦.
(٣) أهل السنة والجماعة على أن الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار عيانًا وأن أحدًا لا يراه في الدنيا بعينه، كما تواترت به الأخبار عن النبي - ﷺ -. انظر: "كتاب التوحيد" لابن خزيمة ١/ ٤٣٧، و"الشريعة" للآجري ص ٢٣١، و"الفتاوى" لابن تيمية ٢/ ٣٣٦، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ١٨٠، و"شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز ١/ ٢٠٧.
(٤) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٠٤.
(٥) في (ش): (على).
330
ويدل على هذا قوله تعالى إخباراً عن قوم موسى ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا﴾ [الشعراء: ٦١ - ٦٢] وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم، [و] (١) الدليل على ذلك قوله تعالى ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾ [الشعراء: ٦١] أي: رأى أحدهما الآخر، وكان الله تعالى قد (٢) وعد موسى أنهم لا يدركونه بقوله تعالى: ﴿لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: ٧٧].
وقولهم: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: ٦١] يريدون أنهم قد قربوا من إدراكهم إياهم، ألا ترى أن موسى نفى ذلك بقوله: (كلّا)، وهذا مذهب جماعة من المفسرين (٣) قالوا: [معنى] (٤) الإدراك: الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته، فالأبصار ترى الباري ولا تحيط به، كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به، قال الله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠] قال سعيد بن المسيب في تفسير قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾: (لا تحيط به الأبصار) (٥).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: (كلت (٦) أبصار المخلوقين عن
(١) لفظ: الواو ساقط من (أ).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٢٩٩ وما بعدها، والبغوي ٣/ ١٧٤.
(٣) قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" ١٧/ ١١١، في شرح الآية: (الإدراك عند السلف والأكثرين: هو الإحاطة، وقال طائفة: هو الرؤية، وهو ضعيف؛ لأن نفي الرؤية عنه لا مدح فيه..) ا. هـ، وانظر: "الفتاوى" ١٦/ ٨٧ - ٨٩.
(٤) في (أ): (معنا).
(٥) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٢ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٣، والبغوي ٣/ ١٧٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٩٨.
(٦) كلت: يقال: كل بصره، بفتح الكاف، أي: ثقل. انظر: "اللسان" ٧/ ٣٩١٨ مادة (كلل).
331
الإحاطة به) (١)، وقال الزجاج: (معنى إدراك الشيء: الإحاطة بحقيقته، وقد ينظر الرجل إلى الشيء ولا يدركه)، ثم احتج على أن معنى الإدراك هاهنا الإحاطة بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: ١٠٣] فقال: (أعلم الله تعالى أنه يدرك الأبصار، وفي هذا الإعلام دليل أن خلقه لا يدركون الأبصار، أي ة لا [يعرفون] (٢) [كيف] (٣) حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه، فأعلم جل وعز أن خلقاً من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه ولا يحيطون بعلمه، فكيف به جل وعز والأبصار لا تحيط به) (٤)، قال أصحابنا فعلى هذا نقول: الباري يُرى ولا يُدرك؛ لأن معنى الإدراك هو: الإحاطة بالرؤية بالمرئي، وإنما يجوز ذلك على من كان محدوداً وله جهات، والقديم (٥) الذي لا نهاية لوجوده يُرى ولكن لا يُدرك، وعلى هذا القول فاقد قلنا بظاهر الآية.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٣، وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٢ أ، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٤ عن عطاء من قوله، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٩٩ بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (لا يحيط بصر أحد بالملك) ا. هـ.
(٢) في (أ): (أي: لا يدركون).
(٣) في (ش): (عنه).
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٨، وفيه: (فأما ما جاء من الأخبار في الرؤية وصح عن رسول الله فغير مدفوع، وليس في هذه دليل على دفعه؛ لأن معنى هذه الآية معنى إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته، وهذا مذهب أهل السنة والعلم والحديث) ا. هـ. وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٤٦ - ٤٦٧.
(٥) أسماء الله توقيفية، ولفظ القديم لا يرتضي السلف تسمية الله تعالى به؛ لعدم ورود النص به، لكن يصح الإخبار به عن الله تعالى، لأن باب الإخبار والصفات أوسع من باب الإنشاء والأسماء، والله أعلم. انظر: "منهاج السنة" ٢/ ١٢٣ - ١٣١، =
332
الوجه الثاني: تخصيص الآية، وهو قول جماعة من المفسرين أيضاً، قال ابن عباس: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ (ينقطع عنه في الدنيا) (١)، وقال مقاتل: (لا تراه الأبصار في الدنيا، وهو يُرى في الآخرة) (٢)، وعلى هذا القول لا فرق بين الرؤية والإدراك، وهو مذهب شيخنا أبي الحسن (٣)؛ لأنه لا يفرق بينهما، ويقول: (معنى الآية ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ في الدنيا، قال: والدليل على أن هذه الآية مخصوصة بالدنيا قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣] وهذه الآية مطلقة، وقوله ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ [القيامة: ٢٢] مقيد، والمطلق يحمل على المقيد، فلما كان قوله ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ يوجب نفي الرؤية، وقوله: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣] يوجب الرؤية، ولا يجوز التضاد، قلنا: الذي نفاه أراد به في الدنيا، والذي أثبته أراد به في الآخرة) (٤).
= و"الفتاوى" ١/ ٢٤٥ - ١٧/ ١٦٨، ٩/ ٣٠٠ "معجم المناهي اللفظية" لبكر بن عبد الله أبو زيد ص ٤٣٦.
(١) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٢ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٣، والبغوي ٣/ ١٧٣، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٩٨.
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٢ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٤، وفي "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٢: (يقول: لا يراه الخلق في الدنيا) ا. هـ. وأخرج الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٤، هذا القول عن الحسن البصري.
(٣) أبو الحسن شيخ الواحدي، لم أستطع تحديده، وفي "مقدمة البسيط" ذكر من شيوخ الواحدي: علي بن محمد بن إبراهيم الضرير أبو الحسن النحوي، وعمران ابن موسى المغربي أبو الحسن، وعلي بن محمد الفارسي أبو الحسن.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٣٠٢، وابن الجوزي ٣/ ٩٨ - ٩٩، وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" ٢/ ٣٣٥. (وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحدًا من المؤمنين =
333
الوجه الثالث: ما قاله السدي وهو أنه قال: (البصر بصران، بصر معاينة، وبصر علم) (١)، وكذا هو في اللغة، قال الليث: (البَصَر: العين، والبَصَر: نفاذ في القلب. قال: فمعنى قوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ لا يدركه علم العلماء، ونظيره ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠] (٢)، وهذا وجه حسن، وأما قولهم: إن هذا على سبيل التمدح، قلنا: ليس كذلك؛ لأنه ليس في أن يستحيل أن يرى استحقاق مدح، ألا ترى أن كثيراً من الأشياء الناقصة يستحيل أن يرى كالكفر والجهل، ثم لا يجب (٣) لها بذلك صفة مدح، فليس بأن يستحيل أن يرى تمدح؟، وإنما معنى الآية: أنه منع الرائين من رؤيته في الدنيا ولا يقدر أحد على أن يمنعه من رؤيته له، فهذا وجه التمدح، وهو معنى الآية، وعلى هذا الوجه، قال ابن عباس في قوله ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ قال: (يرى ولا يُرى، ولا يخفى عليه شيء ولا يفوته) (٤). وإنما خص الأبصار بإدراكه إياها مع أنه يدرك كل شيء تحقيقاً
= لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي - ﷺ - خاصة مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي - ﷺ - والصحابة وأئمة المسلمين..) ا. هـ، وانظر: "مرويات الإمام أحمد في التفسير" ٢/ ١٢١.
(١) لم أقف عليه
(٢) "تهذيب اللغة" ١/ ٣٤٠، وفيه: (قال الليث: البَصَرُ: العَيْن، إلا أنه مذكر. والبَصَر: نفاذ في القلب). وانظر: "العين" ٧/ ١١٧، و"اللسان" ١/ ٢٩٠ مادة (بصر).
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٢٥ وما بعدها، و"الفتاوى" لابن تيمية ١٦/ ٨٧ - ٨٨، ١٧/ ١١١.
(٤) لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٤٩: (يرى ما لم ير الخلق ولا يخفى عليه شيء ولا يفوته) اهـ.
334
للمعنى الذي ذكرنا؛ لأن غير الباري لا يجوز أن يرى البصر، ولا يراه البصر، وقد يرى غير البصر، ولا يراه البصر، فلا يبعد ذلك (١) وذكرنا قول الزجاج في معنى ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ قال الأزهري: (اللطيف من أسماء الله عز وجل [ومعناه] (٢) الرفيق بعباده) (٣)، وقال عمرو بن أبي (٤) عمرو، عن أبيه (٥): (اللطيف الذي يوصل إليك أَرَبَك في رفق) (٦)، وقال أبو العباس (٧) عن ابن الأعرابي: ([يقال] (٨): لطف فلان لفلان يلطف: إذا رفق، لطفاً، ويقال: لطف الله لك، أي: أوصل إليك ما تحب برفق) (٩)، وقال الليث: (اللَّطف: البِرُّ والكرامة، وأمٌّ لطيفةٌ بولدها، وفلان لَطيفٌ
(١) انظر: مسألة رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة في: "الإبانة" للأشعري ١٣/ ٢١، و"تفسير الماوردي" ٢/ ١٥٢، والقرطبي ٧/ ٥٤ - ٥٧، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٦٧.
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٦٧. وانظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص ٤٤، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١٣٨، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص ٨٣، و"المقصد الأسنى" للغزالي ص ٩٢، و"شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص ٢٤٦.
(٤) عمرو بن أبي عمرو: هو عمرو بن إسحاق بن مرار الشيباني إمام لغوي ثقة، واسع الرواية، أخذ علم أبيه، سمع منه ثعلب وأبو إسحاق الحربي. توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين ٢٣١هـ أو بعدها. انظر: "مقدمة تهذيب اللغة" ١/ ٣٥، و"إنباه الرواة" ٢/ ٣٦٠، و"معجم الأدباء" ٤/ ٤٧٣.
(٥) هو إسحاق بن مرار الشيباني أبو عمرو الكوفي، تقدمت ترجمته.
(٦) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٦٧.
(٧) أبو العباس هو ثعلب أحمد بن يحيى، تقدمت ترجمته.
(٨) لفظ: (يقال) ساقط من (ش).
(٩) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٦٧، و"اللسان" ٧/ ٤٠٣٦ مادة (لطف).
335
بهذا الأمر أي: رفيق) (١)، قال ابن عباس: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾ بأوليائه ﴿الْخَبِيرُ﴾ بهم) (٢).
١٠٤ - قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الآية. البصائر: جمع البصيرة، وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء، ومنه يقال للدم الذي يستدل به (٣) على القتيل: بصيرة (٤)؛ قال ابن عباس: (يريد: رشداً أو بياناً، وهدىً من ربكم) (٥)، وقال الكلبي: (يعني: بينات القرآن) (٦)، وقال الزجاج: (أي قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر) (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾ قال ابن عباس: (يريد: فمن اهتدى فلنفسه ﴿وَمَنْ عَمِيَ﴾ يريد: عن سبيل الهدى، فعليها) (٨)، وقال الكلبي: (﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ صدّق بالقرآن، وآمن بمحمد - ﷺ - ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾ عمل
(١) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٦٨، وانظر: "العين" ٧/ ٤٢٩، و"الصحاح" ٤/ ١٤٢٧، وقد جاء في "العين" و"التهذيب": (اللطف البر والتَّكرمة..) بدل والكرامة.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٤، و"الخازن" ٢/ ١٦٨، وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٣٠٤، والسمرقندي ١/ ٥٠٥، والماوردي ٢/ ١٥٣.
(٣) لفظ: (به) ساقط من (أ).
(٤) انظر: "الجمهرة" ١/ ٣١٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٤٢، و"الصحاح" ٢/ ٥٩١، و"المجمل" ١/ ١٢٧، و"المفردات" ص ١٢٧، و"اللسان" ١/ ٢٩١ مادة (بصر)، وفيها: (البصيرة جمع بصائر، وهي البرهان والدلالة والعبرة).
(٥) لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٤٩، قال: (بيان من ربكم يعني: القرآن)، وهو قول السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٠٥.
(٦) ذكره الثعلبي في "الكشف" ص ١٨٢/ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٥.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٩.
(٨) لم أقف عليه.
336
﴿وَمَنْ عَمِيَ﴾ عن الحق فلم يصدّق، فعلى نفسه جنى العذاب) (١)، وقال الزجاج: (المعنى: فلنفسه نفع ذلك ﴿وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾، أي: فعلى نفسه ضرر ذلك، لأن الله جل وعز غني عن خلقه) (٢).
وقوله: ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: ما أدفع عنكم ما يريد الله بكم) (٣)، وقال الكلبي: (﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ [أي: برقيب أحصي عليكم أعمالكم (٤)] أي: إنما أنا رسول أبلغكم عن ربي، وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم) (٥)، ونحو هذا قال الحسن: (أي: برقيب على آعمالكم حتى أجازيكم بها) (٦)، قال أبو إسحاق (٧): (أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم، والوكيل، وهذا قبل الأمر بالقتال، فلما أُمر (٨) بالقتال صار حفيظاً عليهم، ومسيطراً على كل من تولى).
(١) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٩٢ - ٩٣، وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٠٥، و"الوسيط" ١/ ٩٥، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٧٥، و"تنوير المقباس" ٢/ ٤٩.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٩، وانظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٣٠٥، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٦٧.
(٣) لم أقف عليه، وذكر القرطبي في "تفسيره" ٧/ ٥٨ نحوه بدون نسبة.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٥) ذكره أهل التفسير بدون نسبة. انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٣٠٥، والبغوي ٣/ ١٧٥، والقرطبي ٧/ ٥٨.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ١٩٧.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٩.
(٨) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٠٥، والظاهر أن المعنى: لست رقيبًا عليكم أحصي أعمالكم، فالآية محكمة. وهو قول مكي في "الإيضاح" ص ٢٤٢، والرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٣٤، وقال ابن حزم في "ناسخه" ص ٣٧، وهبة الله بن سلامة =
337
١٠٥ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾، قال الزجاج: (موضع الكاف التي في أول (كذلك) نصب، المعنى: ونصرف الآيات مثل ما صرفناها فيما تلي عليكم) (١)، وقال غيره من النحويين (٢): (المعنى: نصرف الآيات في غير هذه السورة مثل التصريف في هذه السورة، فهو في موضع صفة المصدر، كأنه قيل: تصريفاً مثل هذا التصريف) (٣)، وذكرنا معنى تصريف الآيات في هذه السورة قبل.
وقال ابن عباس في هذه الآية: ((﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ﴾ (٤) نبيّن الآيات في القرآن في كل وجه ندعوهم بها ونخوّفهم) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ قال أبو بكر (٦): (دخلت الواو في ﴿وَلِيَقُولُوا﴾ عطفاً على مضمر، التقدير: وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة ﴿وَلِيَقُولُوا﴾ فحذف المعطوف عليه لوضوح معناه) (٧).
= في "ناسخه" ص ٦٨: (أن الآية تتضمن ترك قتال الكفار ثم نسخت بآية السيف)، وانظر: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص ٣٢٧ - ٣٢٨.
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٩.
(٢) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٧١، و"المشكل" ١/ ٢٦٤، و"التبيان" ١/ ٣٥٢، و"الفريد" ٢/ ٢٠٧.
(٣) قال السمين في "الدر" ٥/ ٩٣: (الكاف في محل نصب نعتا لمصدر محذوف، فقدره الزجاج: ونصرف الآيات مثل ما صرفناها فيما تلي عليكم. وقدره غيره: نصرف الآيات في غير هذه السورة تصريفًا مثل التصريف في هذه السورة) اهـ.
(٤) في (ش): (وكذلك نصر)، وهو تحريف واضح.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٠٠.
(٦) أبو بكر: هو ابن الأنباري محمد القاسم، تقدمت ترجمته.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٠٠، والسمين في "الدر" ٥/ ٩٥، وانظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ٥٨.
338
وأما (درست) (١). فقال أبو زيد: (درسْت أدرس دِراسة وهي القراءة، وقال: وإنما يقال ذلك إذا قرأت على غيرك) (٢)، وقال ابن الأعرابي: (درست الكتاب أدرسُه دَرْساً ودراسةً، أي: ذللته بكثرة القراءة) (٣). قال الأصمعي: (أصل درس الكتاب من قولهم: درس الطعام إذا داسه يدرسه دِراساً، والدِّراس الدِّياس بلغة أهل الشام. قال وأنشدني ابن ميادة (٤):
يكفيك من بعض ازدياد الآفاق سَمْرَاءَ مما دَرَسَ ابن مِخْرَاقْ (٥)
أي: داس: يعني حنطةً سمراء، قال: ودرس السورة من هذا، أي: يدرسها، فيخف على لسانه) (٦)، وقال أبو الهيثم: (درست الكتاب، أي: ذللته بكثرة القراءة حتى خَفّ حِفظه عليّ، من قولهم: دَرَسْتُ الثوبَ أدرُسه دَرْساً فهو مَدْرُوس وَدَرِيس، أي: أَخْلَقْتُه، ومنه قيل للثوب الخَلَق: دِريس، لأنه قد لان. وقال كعب بن زهير (٧):
(١) انظر: "العين" ٧/ ٢٢٧، و"ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي ص ٢٦٦، و"المفردات" ص ٣١١ مادة (درس).
(٢) "الحجة" لأبي علي الفارسي ٣/ ٣٧٣.
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ١١٧٣ بلفظ: (دَرَسْتُ الكتاب أدرُسُه دراسة) فقط.
(٤) في النسخ: ابن أبي ميادة، وهو تحريف، والصواب: ابن ميادة الشاعر المشهور الرماح بن أبرد الغطفاني. تقدمت ترجمته.
(٥) ديوانه ص ٧٥، و"الحجة" لأبي على ٣/ ٣٧٣، و"الصحاح" ٣/ ٩٢٧، و"اللسان" ٣/ ١٣٦٠ درس، بلا نسبة في "الجمهرة" ٢/ ٦٢٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ١١٧٤، و"المجمل" ٢/ ٣٢٢، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٦٧ (درس).
(٦) ذكره الرازي ١٣/ ١٣٥، عن الواحدي عن الأصمعي، وفي "جمهرة اللغة" ٢/ ٩٢٧، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٧٣، بعضه عن الأصمعي، وهو في "تهذيب اللغة" ٣/ ١١٧٤ بلا نسبة.
(٧) كعب بن زُهَيْر بن أبي سلمى المزني أبو المضراب، تقدمت ترجمته.
339
وفي الحِلْم إدْهان وفي العَفو دُرْسة وفي الصِّدق مَنْجاةُ من الشر فاصدْق (١)
قال: الدُّرْسةُ: الرياضة، ومنه درست السورة حتى حفظتها) (٢)، وهذا القول قريب مما قاله الأصمعي بل هو نفسه، لأن المعنى فيهما يعود إلى التذليل والتليين (٣).
قال ابن عباس: ﴿وَلِيَقُولُوا﴾ (يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن ﴿دَرَسْتَ﴾ يقولون: تعلمت من يسار (٤) [أبي فكيهة] (٥) وجبر (٦) مولى قريش، وقرأت علينا تزعم أنه من عند الله) (٧)، وفي قول ابن عباس تعلّمت
(١) "ديوانه" ص ٢٥٢، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١١٧٤، و"اللسان" ٣/ ١٣٦٠ مادة (درس)، وفي الديوان: (وفي العفو دربة) بدل (درسة)، وعليه فلا شاهد فيه.
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٧٤.
(٣) نقله الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٣٥ عن الواحدي.
(٤) يسار أبو فكيهة مولى صفوان بن أمية، عبد نصراني عالم بالكتب المتقدمة أسلم بمكة وزعمت قريش أن النبي - ﷺ - يتعلم منه.
انظر: "السيرة" لابن هشام ١/ ٤٢٠، و"تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي ١/ ١١٦، ٢٦٨، و"الإصابة" ٤/ ١٥٦.
(٥) في النسخ: (يسار بن فكيهة) ثم صحح في (أ) إلى (أبي)، وهو الصواب.
(٦) جبر مولى بني عبد الدار نصراني أو يهودي قرأ الكتب المتقدمة، وأسلم بمكة وزعمت قريش أن النبي - ﷺ - يتعلم منه. انظر: "السيرة" لابن هشام ١/ ٤٢٠، و"تفسير القرطبي" ٧/ ٥٨، و"تفسير مبهمات القرآن" ١/ ١١٦، و"الإصابة" ١/ ٢٢١.
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ٤٩ - ٥٠، وذكر الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٥، و"الخازن" ٢/ ١٦٩، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٣٠٥ - ٣٠٨، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٥، من عدة طرق جيدة عن ابن عباس قال: (قرأت وتعلمت تقول ذلك قريش) ا. هـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٠.
340
دليل على أن معنى ﴿دَرَسْتَ﴾ قرأت على غيرك. وأخبرنا سعيد بن (١) محمد -رحمه الله- أنبا ابن مقسم (٢) العطار ببغداد عن أبي إسحاق (٣) النحوي قال: (معناه: وليقولوا قرأت كتب أهل الكتاب) (٤)، وقال الفراء: (يقولون: تعلمت من يهود) (٥)، وأخبرني العروضي (٦) عن الأزهري، قال: أخبرني المنذري (٧) عن أبي العباس (٨) في قول الله تعالى: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ قال: (معناه وكذلك نبين لهم الآيات من هنا وهنا لكي يقولوا إنك دَرَسْت، أي: تعلمت، أي: هذا الذي جئت به [عُلِّمتَ] (٩) (١٠).
وقرأ ابن كثير (١١) وأبو عمرو (دَارسْت) وهو قراءة ابن عباس (١٢)
(١) سعيد بن محمد الحيري أبو عثمان الزعفراني، إمام تقدمت ترجمته.
(٢) ابن مقسم: محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن العطار، إمام مقرئ تقدمت ترجمته.
(٣) أبو إسحاق النحوي هو الزجاج إبراهيم بن السري، تقدمت ترجمته.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٩.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٩.
(٦) العروضي: أحمد بن محمد بن عبد الله السهلي أبو الفضل، تقدمت ترجمته.
(٧) المنذري: أبو الفضل محمد بن أبي جعفر الهروي إمام، تقدمت ترجمته.
(٨) أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيى، تقدمت ترجمته.
(٩) في (ش): (علمته).
(١٠) (تهذيب اللغة) ٢/ ١١٧٣، وانظر: "مجالس ثعلب" ص ١١٧.
(١١) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (دَارَسْتَ) بألف بعد الدال وسكون السين وفتح التاء، وقرأ ابن عامر بغير ألف وفتح السين وسكون التاء، وقرأ الباقون بغير ألف وسكون السين، وفتح التاء. انظر: "السبعة" ٢٦٤، و"المبسوط" ص ١٧٣، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٦، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦١.
(١٢) أخرجه الطبري ٧/ ٣٠٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٥، من طرق جيدة عن أبن عباس ومجاهد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٩، ٧٠.
341
ومجاهد (١)، وفسرها (قرأت على اليهود وقرؤوا عليك).
وقال الزجاج (٢) وأبو علي: (أي: دارست أهل الكتاب وذاكرتهم ويقوّي هذه القراءة قوله تعالى: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤]، (٣)، وقرأ ابن عامر: (دَرَسَتْ) أي: هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة، قد درست وانمحت ومضت، من الدرس الذي هو تعفي الأثر وامحاء الرسم (٤).
قال الأزهري: (من قرأ (دَرسَتْ) (٥) فمعناه: تقادمت، أي: هذا الذي تتلوه علينا شيء قد تطاول ومرّ، من قولهم: درس الأثر يدرس درساً) (٦).
(١) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢١، وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٦٨: (قرأ علي بن أبي طالب (دارست)، وهو الصحيح من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأبي عمرو وأهل مكة) ا. هـ وانظر: "مختصر السواد" ص٤٠، و"المحتسب" ١/ ٢٢٥.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٩ - ٢٨٠، وهو قول الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٨٥، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١٦٩، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٠٥، ومكي في "الكشف" ١/ ٤٤٤، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٧٢: (أحسن ما قيل في (دارست) أن معناه: دارستنا فيكون معناه كمعنى (دَرَسْتَ) وقيل: معناه دارست أهل الكتاب، فهذا مجاز) اهـ.
(٣) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٧٤، وانظر: "الحجة" لابن خالويه ص ١٤٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٦، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦٤.
(٤) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٨٥.
(٥) يعني: قراءة ابن عامر، بفتح السين، وسكون التاء.
(٦) "تهذيب اللغة" ١٢/ ١١٧٤، و"معاني القراءات" ١/ ٣٧٧؛ وهو قول الزجاج في =
342
فأما معنى اللام في قوله: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ فقال أبو بكر: (وأما تصريف الآيات فليسعد بها قوم بفهمها والعمل بما فيها، ويشقى آخرون بالإعراض عنها، فمن يقول للنبي: ((دارست) أو (درست) فهو شقي، ومن يتبين الحق فيها ويعمل [بها] (١) سعيد) (٢)، ويقوي هذا الذي قاله أبو بكر قوله تعالى: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ١٠٥] قال ابن عباس: (يريد: أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد) (٣)، وقال أبو إسحاق: (إن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا: (درست) هو تلاوة الآيات عليهم، وهذه اللام يسميها أهل اللغة: لام الصيرورة (٤)، وهو كقوله عز وجل: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] وهم لم يلتقطوه يطلبون بأخذه أن يعاديهم، ولكن كانت عاقبة الأمران صار ﴿لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ كما [يقول] (٥): كتب فلان هذا الكتاب لحتفه، وهو لم يقصد بالكتاب أن يهلك نفسه، ولكن العاقبة كانت الهلاك) (٦)، ومعنى هذا
= "معانيه" ٢/ ٢٨٠، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٦٤، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٧٢: (أحسن ما قيل فيه أن المعنى: ولئلا يقولوا انقطعت وامحت وليس يأتي محمد بغيرها) اهـ.
(١) لفظ (بها) ساقط من (أ).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٠٠، وذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٥ بدون نسبة.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٥.
(٤) أي: التحول وهو من معاني اللام عند الكوفيين، وعند البصريين تسمى لام العاقبة، ويقال لها أيضاً: لام العلة والمآل والعرض. انظر: "البيان" لابن الأنباري ١/ ٣٣٤، وما سبق من هذا البحث ص ٢٣٨.
(٥) في (ش): (يقولون).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٠. وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٦٩ - ٤٧٠، وقال أبو =
343
الكلام يعود إلى معنى قول أبي بكر، لأن المعنى: أن تصريف الآيات صار سبباً لمقالتهم هذه، وذلك للشقاوة التي لحقتهم وقضيت عليهم، وهذا يدل على أن الله تعالى جعل تصريف الآيات سبباً لضلالة قوم وشقوتهم بما قضى عليهم في الأزل من الضلالة، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥] (١).
١٠٧ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾، قال الزجاج: (أي: لو شاء لجعلهم مؤمنين) (٢)، وهذا نص صريح في أن شركهم كان بمشيئة الله تعالى (٣).
= علي في "الحجة" ٣/ ٣٧٥: (من قال (درستْ): بسكون التاء، فالمعنى في (ليقولوا) لكراهة أن يقولوا، ولأن لا يقولوا: درست، أي: فُصِّلت الآيات وأحكمت لئلا يقولوا: إنها أخبار وقد تقدمت وطال العهد بها وباد من كان يعرفها كما قالوا: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الفرقان: ٥]، وأما من قرأ: (دارستَ) و (درستَ) أي: بفتح التاء، فاللام على قولهم كالتي في قوله: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] ولم يلتقطوه لذلك، كما لم تفصل الآيات ليقولوا (درست) و (دارست)، ولكن لما قالوا ذلك أطلق هذا عليه في الاتساع) ا. هـ ملخصًا. وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٧١ - ٥٧٢، بعد ذكر قول الزجاج: (وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى: (نصرف الآيات) نأتي بها آية بعد آية ليقولوا: (درست) علينا، فيذكرون الأول بالآخر، فهذا حقيقة، والذي قال الزجاج مجاز) ا. هـ. وانظر: "المشكل" ١/ ٢٦٤، و"الدر المصون" ٥/ ٩٣ - ٩٦.
(١) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٣٨.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٠، وهذا أظهر الأقوال ورجحه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٣٠٩، والبغوي ٣/ ١٧٦، وأخرجه الطبري في "تفسيره" وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٦ بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(٣) انظر" "تفسير ابن عطية" ٥/ ٣١٢، والرازي ١٣/ ١٣٨، والقرطبي ٧/ ٦٠.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: تمنعهم (١) مني) (٢)، ومعنى هذا الكلام أنك لم تُبعث لتحفظ المشركين عن العذاب، إنما بُعثت مبلغاً فلا تهتم لشركهم، فإن ذلك بمشية الله (٣). وقال مقاتل: (﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ رقيباً إن لم يوحدوا، ومما أنت عليهم بمسيطر، نسختها آية السيف) (٤).
١٠٨ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الآية قال [قتادة] (٥) (٦) والمفسرون (٧): (كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهاهم عن ذلك لئلا يسبوا الله).
وقال الزجاج: (نهوا في ذلك الوقت قبل القتال أن يلعنوا الأصنام التي كانت يعبدها المشركون) (٨).
(١) في (ش): (يمنعهم).
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٢ أ، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٦، و"الخازن" ٢/ ١٦٩ عن عطاء فقط.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٣٠٥.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٣، وهو قول ابن حزم في "ناسخه" ص ٣٨، وهبة الله بن سلامة ص ٦٨، وحكاه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٢٨ عن ابن عباس، والظاهر أنها محكمة. ورجحه مكي في "الإيضاح" ص ٢٤٢، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لابن العربي ٢/ ٢١٢.
(٥) لفظ: (قتادة) غير واضح في (أ).
(٦) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢١٥ بسند جيد.
(٧) أخرجه الطبري ٧/ ٣٠٩، وابن أبي حاتم ٥/ ٣١٢ من طرق جيدة عن ابن عباس وقتادة والسدي، وهو قول مقاتل ١/ ٥٨٣، والسمرقندي ١/ ٥٠٦، وحكاه هود الهواري ١/ ٥٥١ عن الحسن والكلبي. وانظر: "أسباب النزول" للواحدي ص ٢٢٥، و"الدر المنثور" ٣/ ٧٢.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٠.
345
وقال أبو بكر (١) بن الأنباري: (هذه آية منسوخة أنزلها الله [عز وجل] (٢) والنبي بمكة، فلما قواه بأصحابه نسخ هذه الآية ونظائرها بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا (٣) الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي: فيسبوا الله ظلمًا بالجهل، يقال: عَدَا (٥) فلان عَدْوًا وعُدُوًا وعُدْوانًا وعَدَاء، أي: ظلم ظلمًا جاوز القدر (٦).
(١) لم أقف عليه.
(٢) في (ش): (جل وعز).
(٣) في النسخ: (واقتلوا)، وهو تحريف.
(٤) هذا قول ابن حزم في "ناسخه" ص ٣٨، و (ابن سلامة) ص ٦٩، والظاهر عدم النسخ وأن الآية محكمة، وهو اختيار أكثرهم، قال ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٢٩: (لا أرى النسخ بل يكره للإنسان أن يتعرض بما يوجب ذكر معبوده بسوء أو نبيه) ا. هـ، وقال القرطبي ٧/ ٦١: (قال العلماء: الآية حكمها باق على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يُسب الإِسلام أو النبي - ﷺ - أو الله عز وجل فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية) ا. هـ وانظر: "أحكام القرآن" للكيا الهراس ٣/ ٣٢٥، وابن عطية ٥/ ٣١٣، وابن كثير ٢/ ١٨٣.
(٥) العَدَاء: بالفتح والمد: تجاوز الحد والظلم والجور، يقال: عَدَا -بفتح العين والدال-، فلان عَدْوًا: بفتح العين وسكون الدال، وعُدُوًّا بضم العين والدال وتشديد الواو المفتوحة، وعُدْوانا، بضم العين، وسكون الدال، وعَدَاء: بفتح العين والدال. انظر: "العين" ٢/ ٢١٣، و"الجمهرة" ٢/ ٦٦٦، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٢٠، و"المجمل" ٣/ ٦٥٢، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٤٩، و"المفردات" ص ٥٥٣، و"اللسان" ٥/ ٢٨٣٢ مادة (عدا).
(٦) هذا كلام الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٨١، والأزهري في "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٣٤٧ مادة (عدا)، وانظر: "الزاهر" ١/ ٢١٦.
346
قال السدي: (معناه: لا تسبوا الأصنام فيسبوا من أمركم بما أنتم عليه من عيبها) (١).
وقال آخرون: (معنى ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون، كما سببتم من تعبدون) (٢). هذا معنى ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ﴾ لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله لأنهم كانوا يقرون أن الله خالقهم وإن أشركوا به.
قال الزجاج: (وعدوا) منصوب على المصدر؛ لأن المعنى: فيعدوا عدوًا (٣)، قال: ويكون بإرادة اللام (٤) والمعنى: فيسبوا الله للظلم) (٥).
(١) أخرج الطبري ٧/ ٣١٠، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٦، بسند جيد عنه نحوه، وذكره الماوردي ١/ ٥٥٢، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٨.
وقال ابن العربي في "أحكام القرآن" ٢/ ٧٤٣: (اتفق العلماء على أن المعنى: لا تسبوا آلهة الكفار فيسبوا إلهكم، وكذلك هو، فإن السب في غير الحُجَّة فعل الأدنياء) ا. هـ.
وقال ابن الجوزي ٣/ ١٠٢: (المعنى: فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك إلى الله تعالى لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى؛ لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم وإن أشركوا به) ا. هـ. وانظر: "بدائع التفسير" ٢/ ١٧٠.
(٢) هذا قول الطبري في "تفسيره" ٧/ ٣٠٩، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٣، و"معاني الأخفش" ١/ ٢٨٥، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤١.
(٣) عدوا: بفتح العين وسكون الدال، وتخفيف الواو المفتوحة.
(٤) وعليه يكون مفعولًا من أجله، أي: لأجل العدو.
انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٧٣، و"المشكل" ١/ ٢٦٥، و"التبيان" ١/ ٣٥٣، و"الفريد" ٢/ ٢١٠، و"الدر المصون" ٥/ ١٠٠.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨١، ومثله قال الأزهري في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٤٧ مادة (عدا).
347
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ قال المفسرون (١). (يعني: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام والأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخِذلان ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ من الخير والشر والطاعة والمعصية)، قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: زينت لأوليائي وأهل طاعتي محبتي وعبادتي، وزينت لأعدائي وأهل معصيتي كفر نعمتي وخذلتهم حتى أشركوا) (٢)، قال الزجاج: (وهذا هو القول، لأنه بمنزلة (٣): ﴿وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: ٩٣]، والدليل على هذا قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: ٨] (٤).
وهذه الآية بتفسير هؤلاء دليل على تكذيب القدرية (٥) حيث قالوا: لا يحسن من الله خلق الكفر وتزيينه (٦).
(١) وهو الأظهر وقول الأكثر، انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٣١١، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٧٢، والسمرقندي ١/ ٥٠٦، والبغوي ٣/ ١٧٧، وابن عطية ٥/ ٣١٣، وابن الجوزي ٣/ ١٠٣، وابن كثير ٢/ ١٨٤.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٨، والقرطبي ٧/ ٦١ - ٦٢.
(٣) في النسخ: (بل طبع الله على قلوبهم)، وهو تحريف. وفي سورة النساء آية ١٥٥ ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم﴾، وفي "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨١: (الأجود أنه بمنزلة ﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [النحل: ١٠٨]، فذلك تزيين أعمالهم، قال الله ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم﴾) ا. هـ.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨١.
(٥) القدرية تزعم أن العبد يخلق فعله، والكفر والمعاصي ليست بتقدير الله تعالى، وقولهم باطل. انظر مذهبهم والرد عليهم في: "الإبانة" للأشعري ص ٥٦، و"الشريعة"، للآجري ص ١٢٨، و"شرح الطحاوية" لابن أبي العز ٢/ ٣٥٥.
(٦) ذكر نحوه القرطبي ٧/ ٦٢، والخازن ٢/ ١٧٠، وانظر: "الفتاوى" ١٤/ ٢٩٠، =
348
١٠٩ - [قوله تعالى] (١): ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ الآية، ذكرنا معنى القسم (٢) عند قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ [النساء: ٨] والاستقسام في سورة المائدة (٣) والإقسام من ذلك الأصل أيضًا، وذلك أن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر الذي يخبر به الإنسان إما مثبتًا للشيء أو نافيًا. ولما كان الخبر يدخله الصدق والكذب لم يأمن المخبر بالشيء عن نفسه أن يرد خبره ولا يقبل، فأكّد خبره باليمين، ولما كان التنازع يكثر في الإقسام، والدعاوى في الأشياء لا تنقطع إلا بالتوكيد، اشتقوا لفظه من القسم، وبنوها على أَفَعَل، فقالوا: أَقْسَم (٤) فلان بالله، يقسم إقسامًا، وأرادوا أنه حاز القسم الذي وقع التنازع فيه، بذكر الله، وبنوا الفعل على أفعل؛ لأنهم قصدوا قصد رجل أمال الشيء إلى جانبه باليمين، واسم اليمين القَسَم، والجمع الأقسام.
= وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٧٠ - ١٧١: (يضاف التزيين إليه سبحانه خلقًا ومشيئة، وحذف فاعله تارة، ونسبه إلى سببه، ومن أجراه على يده تارة، وهذا التزيين ابتلاء واختبار للعبد، ليتميز المطيع منهم من العاصي، وعقوبة منه له على إعراضه وإيثاره سيئ العمل على حسنه، وحجة الله قائمة عليه بالرسالة وبالتعريف الأول، فتزيِن الرب تعالى عدل، وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء وظلم، وهو السبب الخارج عن العبد، والسبب الداخل فيه حبه وبغضه وإعراضه، والرب سبحانه خالق الجميع، والجميع واقع بمشيئته وقدرته) ا. هـ. ملخصًا.
(١) في (أ): (قوله عز وجل).
(٢) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ٢٢٩ ب.
(٣) انظر: "البسيط" صورة في مكتبة جامعة الإمام ٣/ ٩ أ.
(٤) القَسَم: بالفتح، اليَمين والحَلف، وأصله من القَسَامَة، بالفتح، وهي أيمان تقسم علي أولياء المقتول، ثم صار اسمًا لكل حَلِف؛ يقال: أَقْسَم بسكون القاف وفتح =
349
وهذا الذي ذكرنا في معنى القسم مذهب الزجاج وأبي علي الفسوي (١) وغيرهما ممن يوثق بعربيتهم، قال المفسرون: (٨) (لما أُنزل قوله تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤] أقسم المشركون بالله ﴿لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ وسأل المسلمون رسول الله - ﷺ - أن ينزلها الله عليهم حتى يؤمنوا، وعلم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون، فأنزل هذه الآية: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ (٢)، قال الكلبي (٣) ومقاتل (٤): (إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه)، وقال الزجاج: (اجتهدوا في المبالغة في اليمين) (٥)، وقال عطاء (٦): (يريد. بأغلظ الأيمان).
= السين، يُقْسِم: بكسر السين، إقسامًا، والجمع أقْسَام.
انظر: "العين" ٥/ ٨٦، (الجمهرة) ٢/ ٨٥٢، و"الاشتقاق" لابن دريد ص ٦٢، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٦٣، و"الصحاح" ٥/ ٢٠١٠، و"المجمل" ٣/ ٧٥٢، و"المفردات" ص ٦٧٠، و"اللسان" ٦/ ٣٦٣٠ مادة (قسم).
(١) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١١٧ عن الواحدي، ولم أقف عليه عند الزجاج وأبي علي الفارسي بعد طول بحث.
(٢) ذكره الفراء في "معانيه" ١/ ٣٤٩، و"النحاس" ٢/ ٤٧٤، والسمرقندي ١/ ٥٠٦، وقال ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٠٣: (رواه أبو صالح عن ابن عباس) ا. هـ. وحكاه الماوردي ٢/ ١٥٦، عن الكلبي، وانظر: "أسباب النزول" للواحدي ص ٢٢٨.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٥١، وذكره الثعلبي ١٨٢ ب، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٩، والبغوي ٣/ ١٧٧، والرازي ١٣/ ١٤٣ عن الكلبي ومقاتل.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٣.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨١، وذكر النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٧٢، نحوه، والجهد: بفتح الجيم، وسكون الهاء المبالغة والغاية، وقيل: الوسع والطاقة، وقيل: المشقة. انظر: "اللسان" ٢/ ٧٠٨ مادة (جهد).
(٦) ذكره ابن الجوزي ٢/ ٣٨٠، عن ابن عباس وذكره البغوي ٣/ ٦٩، بلا نسبة.
350
وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: إنه هو القادر على الإتيان بها (١)، وقيل: (معناه: إنها عند الله يأتي بها متى شاء، وليس لكم أن تتحكموا في طلبها) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ قال أبو علي: (ما) استفهام وفاعل ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾ ضمير ما، والمعنى: وما يدريكم إيمانهم، فحذف المفعول، وحذف المفعول كثير، والتقدير: وما يدريكم إيمانهم، أي: هم لا يؤمنون مع مجيء الآية إياهم (٣).
ونحو هذا ذكره ابن الأنباري (٤) فقال: (كأن الكلام انقطع عند
(١) هذا قول الطبري في "تفسيره" ٧/ ٣١١، والثعلبي في "الكشف" ١٨٢ ب، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٧، وابن الجوزي ٣/ ١٠٤.
(٢) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١١٤.
(٣) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٧٧: (وعليه تكون ما استفهامًا إنكاريًّا مبتدأ، وجملة (يشعركم) خبرها. و (يشعركم) مضارع فاعله ضمير يعود على ما، وكم مفعول أول، والثاني محذوف، والتقدير: وما يدريكم إيمانهم وقت مجيئها). انظر: "البيان" ١/ ٥٣٠، و"الفريد" ٢/ ٢١٠، و"الدر المصون" ٥/ ١٠١.
(٤) لم أقف عليه وفي إيضاح الوقف والابتداء ٢/ ٦٤٢ - ٦٤٣، قال في الآية: (من قرأ (إنها) بالكسر وقف على (وما يشعركم) وابتدأ (إنها)، ومن قرأ (أنها) بالفتح كان له مذهبان أحدهما: أن يكون المعنى: وما يشعركم بأنهم يؤمنون أو لا يؤمنون ونحن نقلب أفئدتهم، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على (يشعركم)؛ لأن (أن) متعلقة به، والوجه الآخر أن يكون المعنى: وما يشعركم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، فيحسن الوقف على (يشعركم) والابتداء بأن مفتوحة، حكي عن العرب: ما أدرى أنك صاحبها، المعنى: لعلك صاحبها، وقرئ: (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) على خطاب الكفرة إليكم) ا. هـ. وقال في (الأضداد) ص ٢١١ - ٢١٦: (لا جحد محض، وأن دخلت إيذانا بالقول إذ لم يصرح لفظه، وتكون لا بمعنى الإثبات وما للتوكيد، والمعنى: أنها إذا جاءت يؤمنون) ا. هـ. ملخصًا.
351
﴿يُشْعِرُكُمْ﴾ بتقدير مفعول معه يراد به، أي شيء يشعركم إيمانهم، ويوقع في أنفسكم صحة ما حلف عليه الكفار)، وهذا معنى قول الزجاج: (أي لستم تعلمون الغيب، ولا تدرون أنهم يؤمنون) (١)، ألا ترى أنه ذكر مفعول الإشعار، وقال مجاهد: (وما يدريكم [أنكم] (٢) تؤمنون، ثم استقبل يخبر فقال: ﴿أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾) (٣).
وقوله تعالى: ﴿أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قرأ ابن كثير (٤) وأبو عمرو (إنها) بكسر الهمزة على الاستئناف، وهي القراءة الجيدة. قال سيبويه: (سألت الخليل عن هذه القراءة، فقلت: ما منع أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع إنما قال: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ ثم ابتدأ فأوجب فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) ولو قال: (وما يشعركم أنها) بالفتح كان ذلك عذرًا لهم (٥)، انتهى كلامه.
ومعنى قوله: (كان [ذلك] (٦) عذرًا لهم) أنك لو فتحت أن وجعلتها التي في نحو: بلغني أن زيدًا (٧) منطلق، لكان عذرًا لمن أخبر عنهم أنهم
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٢.
(٢) في (ش): (أنهم يؤمنون). وعليه يكون الخطاب للمؤمنين وهو أحد قولي مجاهد، كما في "تفسيره" ١/ ٢٢١، قال: (وما يدريكم أنهم يؤمنون، ثم أوجب عليهم أنهم لا يؤمنون) ا. هـ.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٧/ ٣١٢، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٨ من عدة طرق جيدة، وذكر السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٣.
(٤) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية (إنها) بكسر الهمزة، وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "السبعة" ص ٢٦٥، و"المبسوط" ص ١٧٣، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٧، و"التيسير" ١٠٦، و"النشر" ٢٦١.
(٥) "الكتاب" ٣/ ١٢٣.
(٦) لفظ: (ذلك) ساقط من (أ).
(٧) انظر: "الكتاب" ٣/ ١٢٢.
352
لا يؤمنون، لأنه إذا قال القائل: إن زيداً لا يؤمن، فقلت: وما يدريك أنه لا يؤمن، كانت المعنى: انه يؤمن، وإذا كان كذلك كان عذرًا لمن نفى الإيمان عنه، وليس المراد في الآية عذرهم وأنهم يؤمنون (١)، ألا ترى أن الله سبحانه قد أعلمنا في الآية الثانية أنهم لا يؤمنون بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا﴾ إلى قوله: ﴿مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ١١١] وقرأ الباقون (أنها) بالفتح.
قال الخليل: (هي بمنزلة قول العرب: أئت السوق أنك تشتري لنا شيئًا، أي: [لعلك] (٢) فكأنه قال: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون) (٣)، انتهى كلامه. وأن بمعنى (٤) لعل كثير في كلامهم كقوله (٥):
(١) هذا شرح لأبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٧٨، وقال السمين في "الدر" ٣/ ١٠٢: (وقد شرح الناس قول الخليل وأوضحوه فقال الواحدي وغيره)، ثم ذكر هذا الشرح، وانظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٤٥.
(٢) في (ش): (لعل).
(٣) "الكتاب" ٣/ ١٢٣.
(٤) من معاني أن المشددة المفتوحة أنها تكون بمعنى لعل عند الأكثر. انظر: "حروف المعاني" ص ٥٧، و"معاني الحروف" ص ١١٢، و"الصاحبي" ص ١٧٦، و"رصف المباني" ص ٢٠٧، و"مغني اللبيب" ١/ ٤٠.
(٥) الشاهد مختلف في نسبته، وهو لحاتم الطائي في "ديوانه" ص ٤٥، ولمعن بن أوس المزني في "ديوانه" ص ٨٠، ولدريد بن الصمة الجشمي في "ملحق ديوانه" ص ١١٦، والطبري ٧/ ٣١٣، والثعلبي ص ١٨٢/ ب، ولحطائط بن يعفر النهشلي في "مجاز القرآن" ١/ ٥٥، و"الحماسة" لأبي تمام ٢/ ٣٥٨، و"عيون الأخبار" ٣/ ١٨١، و"الشعر والشعراء" ص ١٤٧، ١٥٧ - ١٥٨، والطبري ٣/ ٧٨، و"الحجة" لأبي علي ٢/ ٢٢٥، و"الدر المصون" ٢/ ١١٧، وذكر في "اللسان" ١/ ١٥٨، أنن، نسبته إلى هؤلاء، وهو بلا نسبة في "الإبدال" لابن السكيت ص٨٥، و"أمالي القالي" ٢/ ٧٩، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٣٦، والرازي =
353
أرِيني جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لأَنَّنِي أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدا
وقال آخر (١):
هَل أَنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لأنا نَرَى العَرَصاتِ أَوْ أَثَرَ الخيامِ
وقال عدي (٢) بن زيد:
أَعاذِل ما يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِي إلى ساعَةٍ في اليَومِ أو في ضُحى الغَدِ (٣)
= ١٣/ ١٤٤. والشاهد: (لأنني) أراد: لعلني، وفي الدواوين وأكثر المراجع: (لعلني) بدل (لأنني)، وعليه فلا شاهد فيه.
(١) الشاهد للفرزدق في "ديوانه" ٢/ ٢٩٠، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٧٩، و"اللسان" ٧/ ٤٠٤٩ مادة (لغن)، وهو لجرير في "ملحق ديوانه" ص ١٠٣٩، و"اللسان" ١/ ١٥٨ مادة (أنن)، و"الدر المصون" ٥/ ١٠٣، وبلا نسبة في "الإنصاف" ١/ ١٨٤، والقرطبي ٤/ ١٥٤. وعائجون: أي مائلون. والعرصات: جمع عرصة، وهو وسط الدار.
والشاهد: لأنا يريد: (لعنا)، وفي ديوانه الفرزدق وأكثر المراجع، (لعلنا) بدل (لأنا) وفي بعض المراجع (لِغنا) بالغين والفتح، وهي لغة في لعل.
(٢) عَدي بن زيد بن حمار بن زيد العبادي التميمي أبو عمير، من أهل الحيرة، شاعر جاهلي فصيح، نصراني، مقدم على شعراء عصره؛ لكونه أول من كتب بالعربية والفارسية لدى كسرى، قتله النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وقال ابن قتيبة: (علماؤنا لا يرون شعره حجة).
انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ١٣٥ - ١٤٠، و"الشعر والشعراء" ص١٣٠، و"معجم المرزباني" ص ٧٣، و"الأعلام" ٤/ ٢٢٠.
(٣) "ديوانه" ص ١٠٣، و"الشعر والشعراء" ص ١٣١، والطبري ٧/ ٣١٣، و"جمهرة أشعار العرب" ص ١٧٩، و"المدخل للحدادي" ص ٤٤٩، والثعلبي ١٨٢ ب، والبغوي ٣/ ١٧٨، وابن الجوزي ٣/ ١٠٥، والرازي ١٣/ ١٤٤، والقرطبي ٧/ ٦٤، و"اللسان" ١/ ١٥٨ مادة (أنن)، والخازن ٢/ ١٧٢، و"الدر المصون" ٥/ ١٠٣، وابن كثير ٢/ ١٨٤، وفي (الديوان): (إلا تظنُّنا) بدل (أن منيتي)، وعليه فلا شاهد فيه.
354
وفسر علي: لعل منيتي، ويدل على صحة هذا وجودته في المعنى أنه قد جاء في التنزيل لعل بهذا (١) العلم كقوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس: ٣] ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧]، وهذا الذي ذكره الخليل من أن (٢) بمعنى لعل مذهب الفراء أيضًا قال: (وللعرب لغة في لعل بأن، وهو وجه جيد أن تجعل أن في موضع لعل) (٣)، ثم ذكر وجهًا آخر لهذه القراءة: (وهو أن تجعل لا صلة قال: ومثله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] معناه: أن تسجد، فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون) (٤)، والمعنى على هذا: أنها لو جاءت لم يؤمنوا (٥).
قال الزجاج: (والذي ذكر أن لا لغوٌ (٦) غالط؛ لأن ما كان لغوًا لا يكون غير لغو، ومن قرأ (إنها) بالكسرة لم يكن لا لغوًا، فليس يجوز أن يكون معنى لفظه مرة النفي ومرة الإيجاب) (٧).
(١) في "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٨٠ (لعل بعد العلم).
(٢) هكذا في النسخ، والأولى: (من أن - أن بمعنى لعل).
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٠، وهو قول الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٨٥ قال: (قرأ بعضهم (أنها) وبها نقرأ وفسر على لعلها..) اهـ.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٠.
(٥) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٨٠ عند شرح هذا الوجه.
(٦) لغو: أي زائدة وانظر: "الإغفال" ص ٦٧٧.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٣، وحكى كونها زائد النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٧٣، عن الكسائي ثم قال: (وهذا عند البصريين غلط؛ لأن أن لا تكون زائدة في موضع تكون فيه نافية) ا. هـ، وقال الزجاج في "معانيه": (قد أجمعوا أن معنى (أن) هاهنا إذا فتحت معنى لعل، والإجماع أولى بالاتباع) ا. هـ، وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" ١٠/ ١٠ - ١١، ١٣/ ٢٤٦، ١٤/ ٤٩٥، في شرح الآية: (هذا استفهام نفي وإنكار، أي: وما يدريكم (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) وأنا ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾. على قراءة من قرآ (إنها) بالكسر تكون جزمًا =
355
قال أبو علي: (يجوز أن يكون لا في تأويل زائدة، وفي تأويل غير زائدة، كقول الشاعر (١):
أَبَى جُوده لا البُخْلَ واستَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ مِنَ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ قاتِلهْ
ينشد: لا البخلِ ولا البخلَ، فمن نصب البخلَ جعلها زائدة كأنه قال: أبي جوده البخل، ومن قال: لا البخلِ أضاف لا إلى البخل. ومثل هذه الآية في أن لا فيها يجوز أن يكون زائدة ويجوز أن لا يكون قوله تعالى: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥]، (٢)، وسنذكر
= بأنها ﴿إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وأشكلت قراءة الفتح على كثير بسبب أنهم ظنوا أن الآية بعدها جملة مبتدأة، وليس كذلك، لكنها داخلة في خبر أن، والمعنى: إذا كنتم لا تشعرون أنها إذا جاءت لا يؤمنون وأنا أفعل بهم هذا لم يكن قسمهم صدقًا بل قد يكون كذبًا، وهو ظاهر الكلام المعروف أنها أن المصدرية ولو كان (ونقلب) إلى آخره كلامًا مبتدأ لزم أن كل من جاءته آية قُلب فؤاده، وليس كذلك بل قد يؤمن كثير منهم، ومن فهم معنى الآية عرف خطأ من قال: أن (أن) بمعنى لعل واستشكل قراءة الفتح، بل يعلم حينئذ أنها أحسن من قراءة الكسر) ا. هـ وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٣١٦، وابن كثير ٢/ ١٨٤.
(١) لم أعرف قائله، وهو في: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٤، والطبري ٨/ ١٢٩، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٢١١، و"الإغفال" ص ٦٩٠، و"كتاب الشعر" ١/ ١١٧، و"الخصائص" ٢/ ٣٥، ٢٨٣، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٥٣٧، ٥٤٢، وابن عطية ٥/ ٣١٦، و"اللسان" ٨/ ٤٤٨٥ مادة (نعم) و١٥/ ٤٦٦ (لا)، و"مغني اللبيب" ١/ ٢٤٨.
(٢) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٨٠ - ٣٨١، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٧٩، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٧، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٧، ولابن زنجلة ص ٢٦٥، و"الكشف" ١/ ٤٤٤.
356
الوجهين في الآية إذا انتهينا إليها إن شاء الله (١).
واختلفوا في قوله ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فقرأ (٢) بعضهم بالياء، وهو وجه القراءة؛ لأن قوله: [و] (٣) أَقْسَمُوا بالله) الآية [الأنعام: ١٠٩] إنما يراد به قوم مخصوصون يدلك على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ﴾ الآية [الأنعام: ١١١] وليس كل الناس بهذا الوصف، [و] (٤) المعني: وما يشعركم أيها المؤمنون لعلهم إذا جاءتهم الآية التي اقترحوا لم يؤمنوا، فالوجه الياء؛ لأن الذين نفى عنهم الإيمان هم الغُيّب المقسمون، أي: لا يؤمنون هؤلاء الغيب المقسمون، وقرأ حمزة وابن عامر بالتاء، وهو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بالمخاطبين في (يؤمنون) هم الغُيّب المقسمون الذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون (٥).
وذهب مجاهد وابن زيد (٦) إلى أن الخطاب في قوله ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ للكفار الذين أقسموا، قال مجاهد: (وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا
(١) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ٣/ ٢٥٠ ب.
(٢) قرأ ابن عامر وحمزة ﴿لَا تُؤْمِنُونَ﴾ بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. انظر: "السبعة" ص ٢٦٥، و"المبسوط" ص ١٧٣، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٨، و"التيسير" ص ١٠٦، و"النشر" ٢/ ٢٦١.
(٣) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٥) ما تقدم هو كلام الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣٨٢ - ٣٨٣، إلا أنه لم يختر القراءة بالياء بل وجه القراءة فقط. وانظر: "معانى القراءات" ١/ ٣٨٠، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٧، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٧، ولابن زنجلة ص ٢٦٧، و"الكشف" ١/ ٤٤٦.
(٦) ذكره ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣١٥، والرازي ١٣/ ٢٤٥، والقرطبي ٧/ ٦٤، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٠١.
357
جاءت) (١)، وهذا يقوي [قراءة] (٢) من قرأ (تؤمنون) بالتاء، على ما ذكرنا أولاً الخطاب في قوله ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ للمؤمنين، وذلك أنهم تمنوا نزول الآية ليؤمن المشركون، وهو الوجه؛ لأنه قيل للمؤمنين: تمنون ذلك، وما يدريكم أنهم يؤمنون، على ما شرحنا وبينا (٣).
١١٠ - قوله تعالى ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ قال المفسرون (٤): (نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون، حُلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة). قال ابن عباس في رواية عطاء: (﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي، قال: وهذا كقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤] قال: يريد: يحول بين المؤمن وبين أن يكفر به وبين الكافر وبين أن يؤمن به) (٥)، والتقليب (٦) والقلب واحد وهو تحويلك (٧) الشىء عن وجهه، ومعنى تقليب [الأفئدة والأبصار] (٨) هاهنا، هو أن الواجب من مقتضى الآية أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فعرفوها بقلوبهم ورأوها بأبصارهم، فإذا
(١) سبق تخريجه.
(٢) لفظ: (قراءة) مكرر في (أ).
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٤٥، فقد نقل عامة الأقوال التي ذكرها الواحدي، وكذلك نص كلام الواحدي في التوجيه، دون نسبة.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٣١٤، والسمرقندي ١/ ٥٠٧، والماوردي ٢/ ١٥٦.
(٥) ذكره ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٧٢.
(٦) القلب: بفتح القاف وسكون اللام. والتقليب -بفتح التاء وسكون القاف وكسر اللام-: الصرف، وتحويل الشيء عن وجهه. انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٢٧، و"الصحاح" ١/ ٢٠٥، و"المفردات" ص ٦٨١، و"اللسان" ٦/ ٣٧١٣ مادة (قلب).
(٧) (تحويلك) غير واضح في (ش).
(٨) في (ش): (الأفئدة أو الأبصار).
358
لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله تعالى قلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي يجب أن يكون عليه، وهو معنى ما قاله المفسرون: (نحول بينهم وبين (١) الإيمان لو جاءتهم الآية) (٢).
وقد أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل (٣) بن أبي القاسم الصوفي -رحمه الله-[أنبا] (٤) أبو عمرو محمَّد بن (٥) جعفر بن مطر أنبا إبراهيم (٦) بن شريك نبا شهاب (٧) نبا حماد (٨) عن
(١) النسخ: (وبين أهل الإيمان). وفي (أ): ضرب على - (أهل) - وهو الصواب.
(٢) ذكر ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٧٢، نحوه. وانظر: البغوي ٣/ ١٧٨، وابن الجوزي ٣/ ١٠٥، والقرطبي ٧/ ٦٥.
(٣) أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم بن محمد النصراباذي الواعظ. تقدمت ترجمته.
(٤) في (أ): (أنا).
(٥) محمد بن جعفر بن محمد بن مَطَر النيسابوري، أبو عمرو الزاهد، إمام علامة عابد، كان ذا حفظ، وإتقان، متعففًا قانعًا، يحيي الليل ويجتهد في متابعة السنة، ورحل إلى الآفاق المتباعدة، وسمع الكثير، وسمع منه الحفاظ الكبار، توفي سنة ٣٦٠ هـ، وله ٩٥ سنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ١٦٢، و"البداية والنهاية" ١١/ ٢٧١، و"شذرات الذهب" ٣/ ٣١.
(٦) إبراهيم بن شَرِيك بن الفَضل ابن خالد الأسدي أبو إسحاق الكوفي نزيل، محدث ثقة، توفي سنة ٣٠٢ هـ، أو قبلها. انظر: "تاريخ بغداد" ٦/ ١٠٢، و"سير أعلام النبلاء" ١٤/ ١٢٠، و"تاريخ الإِسلام" ص ٨٤، و"شذرات الذهب" ٢/ ٢٣٨.
(٧) شهاب بن عباد العبدي أبو عمر الكوفي إمام ثقة، توفي سنة ٢٢٤ هـ. انظر: "التاريخ الكبير" ٤/ ٢٣٥، و"الجرح والتعديل" ٤/ ٣٦٣، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ١٨١.
(٨) حماد بن زيد بن درهم الأزدي أبو إسماعيل البصري، إمام علامة، عابد فاضل، فقيه، ثقة، ثبت، أجمعوا على جلالته، روى عن جماعة من التابعين، وتوفي سنة =
359
أيوب (١) وهشام (٢) ومعلى (٣) بن زياد عن الحسن قال: (قالت عائشة رضي الله عنها: دعوة كان رسول الله - ﷺ - يكثر أن يدعو بها: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" فقلت: يا رسول الله، دعوة كثيراً ما تدعو بها؟ قال: "إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، [وإذا] (٤) شاء أن يزيغه أزاغه" (٥).
= ١٧٩ هـ، وله ٨١ سنة. انظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٢٨٧، و"الحلية" ٦/ ٢٥٧، و"سير أعلام النبلاء" ٧/ ٤٥٦، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٤٨٠.
(١) أيوب بن كيسان السَّختيَاني، أبو بكر بن أبي تميمة البصري، إمام عابد، فقيه، ثبت، متقن، أجمعوا على إمامته ووفور علمه، روى عن جماعة من التابعين، وتوفي سنة ١٣١ هـ، وله ٦٥ سنة. انظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٢٤٦، و"الجرح والتعديل" ٢/ ٢٥٦، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ١٨، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٢٠٠.
(٢) هشام بن حسان الأزدي أبو عبد الله البصري القردوسي، تقدمت ترجمته.
(٣) مَعلَّى بن زياد القُرْدُوسي، أبو الحسن البصري، إمام عابد، زاهد صدوق، قليل الحديث، روى عن جماعة من التابعين، وتوفي بعد المائة. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري ٧/ ٣٩٤ (١٧١٥)، و"الجرح والتعديل" ٨/ ٣٣٠، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ١٤٨، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ١٢٢، و"تقريب التهذيب" ص ٥٤١ (٦٨٠٤).
(٤) في (أ): (وإن شاء).
(٥) سند الواحدي جيد لكنه مرسل، قال المزي في "تهذيب الكمال" ٦/ ٩٧: (الحسن رأى عائشة ولم يصح له سماع منها) ا. هـ، وذكر طريق الواحدي ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٧٣، وأخرجه أحمد في "المسند" ٦/ ٩١، عن الحسن، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" ١/ ١٠٠، رقم ٢٢٤، ٢٣٣، والآجري في "الشريعة" ص ٢٦٣، ٢٦٤، من طرق عن عائشة، وأخرجه الآجري عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، وصحح طريق عائشة الألباني في تعليقه على "السنة" ١/ ١٠١ ص ١٠٤، والحديث ثابت صحيح من عدة طرق أخرى، فقد روي من طرق جيدة عن أنس، والنواس بن سمعان، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وأم =
360
وقوله تعالى: ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ دخلت الكاف على محذوف تقديره: فلا يؤمنون ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يعني: أول مرة أتتهم الآيات، مثل انشقاق القمر، وغيره من الآيات، والتقدير: فلا يؤمنون ثاني مرة بما طلبوا من الآيات؛ كما لم يؤمنوا أول مرة، وهذا معنى قول ابن زيد (١) ومجاهد (٢) والكلبي (٣).
والكناية في (به) يجوز أن تعود على القرآن، وعلى محمد، ويجوز أن تعود على ما طلبوا من الآيات (٤) وقال بعضهم: معنى الكاف في قوله
= سلمة، أخرجه أحمد في "المسند" ٢/ ١٧٣ ص ١٦٨ و٣/ ١١٢ و١٥٧ و٤/ ١٨٢ و٦/ ٣١٥، وابن ماجه ١/ ٧٢، رقم ١٩٩ و٢/ ١٢٦٠، رقم ٣٨٣٤، والترمذي وحسنه ٤/ ٤٤٨، رقم ٢١٤٠ و٥/ ٥٣٨، رقم ٣٥٢٢، وابن أبي عاصم في "السنة" ١/ ٩٨ - ١٠٤، والآجري في "الشريعة" ص ٢٦٣، ٢٦٤، و"الحاكم" وصححه ٢/ ٢٨٩ و٤/ ٣٢١، وصحح أكثر طرقه الألباني في تعليقه على "السنة". وانظر: "مجمع الزوائد" ٧/ ٢١٠، وأخرج مسلم ٣/ ٢٠٤٥، رقم ٢٦٥٤، عن عبد الله بن عمرو قال: (سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث شاء"، ثم قال: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" ا. هـ
(١) أخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٣١٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٩ بسند جيد عنه قال: (نمنعهم من ذلك كما فعلنا بهم أول مرة، وقرأ (كما لم يؤمنوا به أول مرة) ا. هـ.
(٢) أخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٣١٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٩ بسند جيد عنه قال: (نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة) ا. هـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٢.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٥٢.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٣١٥، والسمرقندي ٣/ ٣٠٦، وابن الجوزي ٣/ ١٠٦.
361
﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ معنى الجزاء (١)، ومعنى الآية: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على تركهم الإيمان في المرة الأولى، يعني: كما لم يؤمنوا أول مرة، فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم في المرة الثانية، وعلى هذا لا محذوف في الآية، وهو معنى قول ابن عباس (٢) والعوفي (٣) وهذه الآية حجة على القدرية الذين يكذبون بقضاء الكفر (٤).
(١) انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٣١٩، ونقل الرازي ٣/ ١٤٨، السمين في "الدر" ٥/ ١١١، هذا القول عن الواحدي، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٧٢: (اختلف في قوله: ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، فقال كثير من المفسرين المعنى: نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة. وقال آخرون: المعنى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة، فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم، وهذا معنى حسن، فإن كاف التشبيه تتضمن نوعًا من التعليل، كقوله ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧]، والذي حسن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر. والتقليب: تحويل الشيء عن وجه إلى وجه، وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية وصولهم إليها كما سألوا أن يؤمنوا إذ جاءتهم لأنهم رأوها عيانًا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها، فإذا لم يؤمنوا كان ذلك تقليبًا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه..) ا. هـ ملخصًا، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٠٤: (الكاف في (كما) الظاهر أنها لتعليل، وهو واضح فيها وإن كان استعمالها فيه قليلاً. وقالت فرقة: هي بمعنى المجازاة، وهو معنى التعليل إلا أن تسمية ذلك غريبة لا يعهد في كلام النحويين أن الكاف للمجازاة) ا. هـ ملخصًا.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٣١٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٠ بسند جيد، قال: (لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا) ا. هـ، وأخرجا بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر) ا. هـ.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٤٦، ١٤٧.
362
وقوله تعالى: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ قال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: أخذلهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون) (١).
١١١ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ﴾ الآية، كان المشركون يقولون للنبي - ﷺ -: أرنا الملائكة يشهدون لك بالنبوة، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل؟ والمسلمون يتمنون آية تأتيهم لعلهم يؤمنون، فقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ﴾ كما شاؤوا ورأوهم عيانًا ﴿وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ فشهدوا لك بالنبوة (٢) ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا﴾ وقرئ (قِبَلا) (٣) قال أبو زيد: (يقال: لقيت فلانًا قِبَلًا ومُقَابَلة، وقَبَلاَ وقُبُلًا وقِبليًّا وقَبِيلاً، كله واحد، وهو المواجهة) (٤)، والمعنى في القراءتين على ما قاله أبو زيد واحد وإن اختلف
(١) ذكره ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٧٣، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٠، والبغوي ٣/ ١٧٩ من قول عطاء، وأخرج الطبري ٧/ ٣١٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٠، تحقيق أحمد الزهراني بسند جيد عن ابن عباس، قال: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يتمادون. وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ١٨٥.
(٢) هذا قول الفراء في "معانيه" ١/ ٣٥٠، و"النحاس" ٢/ ٤٧٥، والسمرقندي ١/ ٥٠٧، وأخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧ بسند جيد عن مجاهد، وذكره هود الهواري ١/ ٥٥٢ عن الحسن، وذكره ابن الجوزي ٣/ ١٠٦، والرازي ١٣/ ١٥٠، عن ابن عباس.
(٣) قرأ ابن عامر ونافع (قِبَلًا) بكسر القاف وفتح الباء، وقرأ الباقون بضمهما. انظر: "السبعة" ص ٢٦٥ - ٢٦٦، و"المبسوط" ص ١٧٣، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٨، و"التيسير" ص ١٠٦، و"النشر" ٢/ ٢٦١، ٢٦٢.
(٤) "النوادر" ص ٢٣٥، وقبلاً: بكسر القاف وفتح الباء، ومقابلة: بضم الميم، وفتح القاف والباء، وقبلا بالفتح، وقبلاً: بالضم. وقبليًّا: بالفتح وتشديد الياء. وقبيلاً: بفتح القاف وكسر الباء.
363
اللفظان، فأما من قرأ (قِبَلًا) بكسر القاف وفتح الباء، فقال أبو عبيدة (١) والفراء (٢) والزجاج (٣) وجميع أهل اللغة (٤): (معناه: عيانًا، يقال: لقيته قِبَلًا أي: معاينةً).
قال ابن الأنباري (٥): (قال أبو ذر (٦): قلت للنبي - ﷺ -: أنبيًّا كان آدم؟ فقال: "نعم كان نبيًّا كَلَّمَهُ الله قِبلًا") (٧).
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٤.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٥١.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٣، وهو قول الأخفش ٢/ ٢٨٦، واليزيدي في "غريبه" ص ١٤١، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ١/ ١٦٩، والطبري ٨/ ٢، مكي في "تفسير المشكل" ص ٧٩.
(٤) انظر: "العين" ٥/ ١٦٦، و"الجمهرة" ١/ ٣٧٢، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٢٦، و"الصحاح" ٥/ ١٧٩٥، و"المجمل" ٣/ ٧٤١، و"المفردات" ص ٦٥٣، و"اللسان" ٦/ ٣٥٢٠ مادة (قبل).
(٥) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ١١٢.
(٦) أبو ذر: صحابي مشهور، اختلف في اسمه. والمشهور: جندب بن جنادة بن السكن الغفاري، مشهور بكنيته، صحابي فاضل جليل، أحد السابقين إلى الإسلام، رأس في الزهد والصدق، والعمل والعلم، لازم النبي - ﷺ - وجاهد معه، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، توفي رضي الله عنه سنة ٣٢ هـ.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٤/ ٢١٩، و"الحلية" ١/ ١٥٦، و"الاستيعاب" ٤/ ٢١٦، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ٤٦، و"الإصابة" ٤/ ٦٢، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٥١٩.
(٧) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" ص ٤٤٩ بسند ضعيف، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٨/ ١٩٨، وقال: (رواه الطبراني في الأوسط، وأحمد بنحوه، وفيه المسعودي قد اختلط) ا. هـ، وأخرجه أحمد في "المسند" ٥/ ١٧٨ و١٧٩، والبخاري في "التاريخ الكبير" ٥/ ٤٤٧ بلفظ: (آدم نبي مكلم)، وفيه: المسعودي عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة الكوفي، إمام صدوق اختلط قبل موته كما في "التقريب" ٣٤٤ (٣٩١٩)، وعبيد بن الخشخاش، قال ابن حجر في "التقريب" =
364
ومن قرأ (قُبُلًا) (١) فله ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون جمع قَبِيل (٢) الذي يراد به الكفيل، يقال: قَبَلْتُ (٣) بالرجل أقْبَل قَبَالةً، أي: كفلتُ به، ويكون المعنى: لو حُشر عليهم كل شيء فكفل بصحة ما تقول ما آمنوا (٤).
فإن قيل: إذا لم يؤمنوا مع إنزال الملائكة إليهم وأن يكلمهم الموتى، مع أن ذلك مما [يبهر] (٥) ظهوره، ويضطرب مشاهدته، فكيف يؤمنون بالكفالة التي هي قول لا يبهر ولا يضطر، ويجوز أن لا يصدقوا بكفالتهم، وأي أعجوبة في كفالتهم حتى تذكر مع إنزال الملائكة وكلام الموتى؟ قيل: في الأشياء المحشورة ما ينطق وما لا ينطق، فإذا نطق بالكفالة من لا ينطق كان ذلك موضع بهر الآية، ومعنى ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ جمعنا (٦) {عَلَيْهِمْ كُلَّ
= ٣٧٦ (٤٣٧١) مادة (لين)، وأبو عمر الدمشقي، قال ابن حجر في "التقريب" ٦٦٠ (٨٢٦٥) (ضعيف). وأخرجه الحاكم ٢/ ٢٦٢ عن أبي أمامة بلفظ: (نبي معلم مكلم)، قال الحاكم: (حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) ا. هـ، وفيه: ممطور الأسود أبو سلام الحبشي، قال ابن أبي حاتم في "المراسيل" ص ٢١٥: (سمعت أبي يقول: ممطور الحبشي عن أبي أمامة مرسل) ا. هـ، وانظر: "الدر المنثور" ١/ ١٠٤، وقال ابن الأثير في "النهاية" ٤/ ٨: (في حديث آدم إن الله كلمه قبلا -بكسر القاف وفتح الباء- أي: عيانًا ومقابلة، لا من وراء حجاب، ومن غير أن يولي أمره أو كلامه أحدًا من ملائكته) ا. هـ، وانظر: مرويات الإمام أحمد في "التفسير" ٢/ ١٢٤ - ١٢٥.
(١) أي: بالضم.
(٢) قبيل: بفتح القاف وكسر البار كَرِغيف ورُغُف - أفاده السمين في "الدر" ٥/ ١١٣.
(٣) قَبَلْتُ: بالفتح، أَقْبَل: بسكون القاف وفتح الباء، قَبَالة: بالفتح. أفاده السمين في "الدر" ٥/ ١١٣.
(٤) ذكر هذا الوجه أكثرهم، وهو اختيار الفراء في "معانيه" ١/ ٣٥٠.
(٥) في (ش): (يبهز)، وهو تصحيف.
(٦) في (ش): تكرر لفظ (جمعنا عليهم).
365
شَيْءٍ} في الدنيا. الوجه الثاني: أن يكون (قُبُلًا) جمع قبيل (١) بمعنى الصنف، المعنى: ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [قبيلًا قبيلاً] (٢)، والأعجوبة في هذا هو جمع الأشياء جنسًا جنسًا، وجمع الأشياء ليس في العرف (٣) أن تجمع وتحشر إلى موضع. الوجه الثالث: أن يكون (قُبلًا) بمعنى (قِبلًا) (٤) أي: مواجهة ومعاينة، كما فسره أبو زيد (٥)، وهذا في المعنى كالقراءة (٦) الأولى (٧).
(١) قبيل: بفتح القاف، وكسر الياء: وهم الجماعة، والصنف، وهذا الوجه قول الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٨٦، وأبي عبيدة في "المجاز" ١/ ٢٠٤، واليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٤١، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ١/ ١٦٩، ومكي في "تفسير المشكل" ص ٧٩، وقال الإِمام البخاري في "صحيحه" ٨/ ٢٩٦، مع فتح الباري: (قُبلا جمع قبيل، والمعنى: أنه ضروب للعذاب، كل ضرب منها قبيل) ا. هـ، وقال ابن الأنباري في قصيدة في "مشكل اللغة"، وشرحها في مجلة "مجمع اللغة" ٤/ ٦٤/ ٦٤٧: (القبل، بالضم: الضروب والجماعات من العذاب، جمع قبيل) ا. هـ.
(٢) في (أ): (قبلًا قبيلًا) ولعله تصحيف.
(٣) في "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٨٦، بعد ذكر ما تقدم قال: (فموضع ما يبهر هو اجتماعها مع أن ذلك ليس في العرف).
(٤) أي يكون قبلاً: بالضم، بمعنى قبلًا بكسر القاف وفتح الباء.
(٥) وكذلك المبرد كما حكاه النحاس في "إعراب القرآن" ٥٧٤ عنه.
(٦) ما تقدم: هو قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٨٤ - ٣٨٧، بتصرف. انظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٨٠، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦٧، و"الكشف" ١/ ٤٤٦.
(٧) ذكر نحو ما تقدم أكثرهم. انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٠، والزجاج ٢/ ٢٨٣، والنحاس ٢/ ٤٧٥، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٠٧، وابن عطية ٥/ ٣٢١، وابن الجوزي ٣/ ١٠٧، والقرطبي ٧/ ٦٦، وذكره الرازي ١٣/ ١٥٠، السمين في "الدر" ٥/ ١١٢، عن الواحدي.
366
وقوله تعالى: ﴿مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ قال الزجاج (١): (أعلم الله جل وعز أنهم لا يؤمنون، وهو كإعلام نوح في قوله تعالى: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦]، قال عكرمة (٢): (هذا في أهل الشقاء)، وقال ابن جريج (٣): (نزلت هذه الآية في المستهزئين الذين ذكروا في سورة الحجر) (٤).
قال ابن عباس في هذه الآية: (أخبر الله تعالى نبيه - ﷺ - بما سبق في علمه وقضائه وقدره من الشقوة عليهم، ليعزى رسوله ويصبره، وذلك أن حزن النبي - ﷺ - اشتد حين كذّبه قومه، وكفروا بالله، وصاروا إلى العذاب، ولهذا قال الله تعالى له: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ [الكهف: ٦] (٥).
= وأظهر الأقوال توافق القراءتين بمعنى: المعاينة والمقابلة. وهو ظاهر كلام ابن كثير ٢/ ١٨٥، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٠٦: (هذا القول عندي أحسن؛ لاتفاق القراءتين) ا. هـ وأخرجه الطبري ١٢/ ٤٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٠، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ١/ ٢٠٥، بسند جيد عن ابن عباس، وأخرجه الطبري بسند جيد عن قتادة، وحكاه الماوردي ٢/ ١٥٧، عن ابن زيد وابن إسحاق، وأخرج ابن حسنون في "اللغات" ص ٢٤، و"الوزان" ص ٣/ ب، بسند جيد عن ابن عباس قال: (قبلًا يعني: عيانًا؛ الضم بلغة تميم، والكسر بلغة كنانة) اهـ.
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٣، ومثله ذكر السمرقندي ١/ ٥٠٧.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) أخرجه الطبري ٨/ ١، بسند جيد، وذكره ابن عطية ٥/ ٣٢٠، وقال: (هذا لا يثبت إلا بسند) ا. هـ. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٧٢.
(٤) يعني قوله تعالى: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ﴾ [الحجر: ٩٠]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: ٩٥]، وانظر: سبب نزولها في "زاد المسير" ٤/ ٤١٧ - ٤٢١.
(٥) أخرج البيهقي في "الأسماء والصفات" ص ١/ ٢٥٠ بسند جيد عن ابن عباس قال: (إن رسول الله - ﷺ - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس، ويبايعوه على الهدى، =
367
وقال ابن الأنباري: (أقسم الكافرون أن الآية متى [أنزلت] (١) آمنوا بها، فقدر المؤمنون أن هذا القول صحيح منهم، فدلهم جل اسمه على أن قولهم ليس بحقٍّ، وأنه لو أحضرهم هؤلاء الآيات التي عددها ما كانوا ليؤمنوا ويعترفوا بصحة ما يشاهدون منها، إلا أن يهديهم إلى ذلك، ويسهل عليهم تبين الآيات وقبولها، وهو معنى قوله ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾) (٢)، وهذا نص في تكذيب القدرية (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ قال ابن عباس: (يجهلون الحق أنه من الله) (٤). وقيل: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ أنهم لو أتوا بكل آية ما آمنوا (٥).
= فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له من الله الشقاوة في الذكر الأول، ثم قال لنبيه - ﷺ -: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣] ا. هـ
وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ١، وابن أبي حاتم ٣/ ١٠٣ أ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص ١٠٥ بسند جيد عنه قال: (﴿مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ وهم أهل الشقاء ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ وهم أهل السعادة الذي سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان) اهـ.
(١) في (ش): (نزلت).
(٢) لم أقف عليه. وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٤.
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٥١، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٦، وقال ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣٢٠: (وهذا يتضمن الرد على المعتزلة في قولهم بالآيات التي تضطر الكفار إلى الإيمان) ا. هـ
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٣.
(٥) ذكره أكثر المفسرين. انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٠٨، والماوردي ٢/ ١٥٧، وابن الجوزي ٣/ ١٠٧، والرازي ١٣/ ١٥١، والقرطبي ٧/ ٦٧، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٠٦.
368
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا﴾ الآية [الأنعام: ١١٢] قوله: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ منسوق على قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٨] أي: كما فعلنا ذلك ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا﴾، وقيل (١): (معناه: جعلنا لك عدًّا، كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء) فيكون قوله ﴿وَكَذَلِكَ﴾ عطفًا على معنى ما تقدم من الكلام، وما تقدم يدل على معناه على أنه جعل له أعداء، قال المفسرون (٢): (وهذا تعزية للنبي - ﷺ -، يقول: كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك عدوًا ليعظم ثوابه على ما يكابد من أذاه).
قال الزجاج (٣) وابن الأنباري: (وعدو (٤) في معنى: أعداء)، وأنشد أبو بكر:
(١) أكثرهم على أن الكاف في محل نصب نعتًا لمصدر محذوف، واختلفت عباراتهم في تقديره، فقال الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣ (يقول: وكما ابتليناك يا محمد بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء، كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسل بأن جعلنا لهم أعداء من قومهم) ا. هـ ملخصًا.
وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٤، و"النحاس" ٢/ ٤٧٦، و"تفسير الماوردي" ٢/ ١٥٧، وابن الجوزي ٣/ ١٠٨، و"التبيان" ١/ ٣٥٤، و"الفريد" ٢/ ٢١٥، و"تفسير القرطبي" ٧/ ٦٧.
ونقل الرازي ١٣/ ١٥٢، قول الواحدي بدون نسبة، وذكره السمين في "الدر" ٥/ ١١٥، عن الواحدي.
(٢) ذكر ذلك أكثرهم. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٣، وابن عطية ٥/ ٣٢٢، والقرطبي ٧/ ٦٧.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٤.
(٤) عدو: بفتح العين، وضم الدال. انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٤٧، و"اللسان" ٥/ ٢٨٤٥ مادة (عدا).
369
إذا أنا لم أَنْفَغ صديقي بودِّهِ فإنَّ عدوِّي لن يَضُرَّهُم بُغْضي (١)
أراد: أعدائي فأدى الواحد عن الجميع (٢) كقوله عز وجل: ﴿حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [الذاريات: ٢٤] جعل ﴿المُكْرَمِينَ﴾ وهو جمع نعتًا للضيف وهو واحد؛ لأنه أراد بالواحد الجمع) و ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ منصوب على البدل من عدوٍّ ومفسرٍ له، ويجوز أن يكون (عدوًّا) منصوبًا على أن مفعول ثان. المعنى: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء للأنبياء (٣).
واختلفوا في معنى ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ على قولين:
أحدهما: أن المعنى مردة الإنس والجن، والشيطان (٤) كل عاتٍ
(١) الشاهد للنابغة الشيباني في "ديوانه" ص ١١٧، و"الزاهر" ١/ ٢١٦ - ٢١٧، وللنابغة الذبياني في "ملحق ديوانه" ص ٢٣١، وبلا نسبة في الرازي ١٣/ ١٥٤، و"البحر" ٤/ ٢٠٧، و"الدر المصون" ٥/ ١١٦.
(٢) "الزاهر" ١/ ٢١٦ - ٢١٨، ولم يذكر الآية، وذكر ذلك الرازي ١٣/ ١٥٤ عن ابن الأنباري.
(٣) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٨٤، والنحاس في "إعرابه" ١/ ٥٧٥، والأزهري في "تهذيبه" ٣/ ٢٣٤٧، وأكثرهم على أن في الآية وجهين: الأول: أن (عدوا) مفعول أول، و (لكل نبي) في موضع المفعول الثاني قدم، و (شياطين) بدل من عدو. والوجه الثاني: أن المفعول الأول (شياطين)، و (عدوًا) مفعول ثانٍ مقدم، و (لكل نبي) حال من (عدوًا) لأنه صفته، وقال الفراء في "معانيه" ١/ ٣٥١، والطبري ٨/ ٣: (نصب العدو والشياطين بجعلنا)، وجوز ابن الأنباري في "البيان" ١/ ٣٣٥ جعل (شياطين) مفعولًا ثانيًا لجعل. وانظر: "التبيان" ١/ ٣٥٤، و"الفريد" ٢/ ٢١٥، و"الدر المصون" ٥/ ١١٥.
(٤) قال المبرد في "الكامل" ٣/ ٩٦: (زعم أهل اللغة أن كل متمرد من جنٍّ أو إنس أو سبع أو حية يقال له: شيطان، وأن قولهم: تشيطن، إنما معناه: تخبث وتنكر، وقد قال الله جل وعز: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ ا. هـ. وانظر: "العين" ٦/ ٢٣٧، و"الجمهرة" ٢/ ٨٦٧، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٧٨، و"الصحاح" ٥/ ٢١٤٤،=
370
متمرد من الإنس والجن، وهذا قول ابن عباس في (١) رواية عطاء ومجاهد (٢) وقتادة (٣) والحسن (٤)، وهؤلاء قالوا: (إن من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، وأن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن، وعجز عن إغوائه ذهب إلى متمردٍ من الإنس، وهو شيطان الإنس، فأغراه بالمؤمن ليفتنه). يدل على هذا ما روى (إن النبي - ﷺ -[قال] (٥) لأبي ذر: "هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس؟ " قال: قلت: وهل للإنس من شياطين؟ قال: "نعم، هم شر من شياطين الجن" (٦).
= و"المجمل" ٢/ ٥٠٢، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١٨٣، و"المفردات" ص ٤٥٤، و"اللسان" ٤/ ٢٢٦٥ مادة (شطن).
(١) ذكره الرازي ١٣/ ١٥٤، و"تنوير المقباس" ٢/ ٥٣، نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم ٣/ ٣٧١، نحوه، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٤.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٢، والبغوي ٣/ ١٧٩، والرازي ١٣/ ١٥٤، عن مجاهد والحسن وقتادة.
(٣) أخرج عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢١٦، والطبري ٨/ ٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧١ بسند جيد نحوه.
(٤) ذكره هود الهواري ١/ ٥٥٢، والماوردي ٢/ ١٥٨، ابن الجوزي ٣/ ١٠٨.
(٥) لفظ: (قال) ساقط من (أ).
(٦) أخرجه أحمد في "المسند" ٥/ ١٧٨ - ١٧٩، والنسائي في "سننه" ٨/ ٢٧٥ في الاستعاذة، باب الاستعاذة من شر شياطين الجن، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧١، من عدة طرق، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ١/ ١٥٩ - ١٦٠: (رواه أحمد والطبراني في الكبير، ومداره على علي بن زيد، وهو ضعيف، ورواه أحمد والبزار والطبراني في "الأوسط" بنحوه، وعند النسائي طرف منه، وفيه المسعودي، وقد اختلط) ا. هـ. وقد ذكر ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٨٦ طرقًا أخرى للحديث ثم قال: (فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته والله أعلم) ا. هـ. وانظر: "كشف الأستار" ١/ ٩٣، و"المطالب العالية" ٤/ ٢٠٧ (٣٤٤١)، و"الدر المنثور" ٣/ ٧٣، وقوله: "قال: نعم، هم شر من شياطين الجن" لم أقف عليها.
371
وقال مالك (١) بن دينار: (إن شيطان [الإنس] (٢) أشد عليَّ من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله يذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانًا) (٣).
وشرح ابن عباس هذا شرحًا شافيًا فقال (٤) في رواية عطاء: (أما عدوّه من شياطين الجن، فالأبيض الذي كان يأتي في صورة جبريل (٥) يوحي إليه، وأما الإنس فالوليد بن المغيرة (٦)،
(١) مالك بن دينار البصري، أبو يحيى، تابعي، إمام عابد، زاهد، ثقة، كان يكتب المصاحف، توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين ومائة ١٣٠هـ أو نحوها. انظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٢٤٣، و"الجرح والتعديل" ٨/ ٢٠٨، و"حلية الأولياء" ٢/ ٣٥٧، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٣٦٢، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ١١.
(٢) لفظ (الإنس) ساقط من (أ)، وملحق بالهامش.
(٣) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٣ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٠، وابن الجوزي ٣/ ١٠٩، والقرطبي ٧/ ٦٨.
(٤) ذكر أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٠٧، نحوه، وقوله: (أما عدوه من شياطين الجن..) لم أقف عليه بعد طول بحث.
(٥) عن عبد الله بن مسعود قال: (قال رسول الله - ﷺ -: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسْلَم، فلا يأمرني إلا بخير" ا. هـ، قال الإمام النووي: (فأسلم: برفع الميم وفتحها، وهما روايتان مشهورتان، فمن رفع قال: معناه أسلم أنا من شره وفتنته، واختلفوا على رواية الفتح، قيل: أسلم من الإِسلام وصار مؤمنا لا يأمرني إلا بخير، وهذا هو الظاهر. وقيل: أسلم بمعنى استسلم وانقاد. قال القاضي عياض: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي - ﷺ - من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه..) ا. هـ ملخصًا. وانظر: "النهاية" لابن الأثير ٢/ ٣٩٥.
(٦) الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر المخزومي، أبو عبد شمس القرشي، أحد المستهزئين المجاهرين بالأذى والعداوة للرسول - ﷺ - وأصحابه رضي الله عنهم، توفي بعد الهجرة بثلاثة أشهر، وهو والد الصحابي الجليل وسيف الله المسلول =
372
والعاص (١) بن وائل، وأبو جهل، وعتبة (٢)، وشيبة، وأبي بن خلف، وأخوه أمية) (٣)، وذكر أسماء المستهزئين (٤).
القول الثاني: أن الجميع من ولد إبليس، وأضيف (٥) الشياطين إلى
= خالد بن الوليد رضي الله عنه. انظر: "سيرة ابن هشام" ١/ ٢٨٣، و"جوامع السير" ص ٥٣، و"الكامل" لابن الأثير ٢/ ٤٨، و"الأعلام" ٨/ ١٢٢
(١) العاص بن وائل بن هاشم السهمي، أحد المستهزئين والمجاهرين بالعداوة والأذى للرسول - ﷺ - وأصحابه رضي الله عنهم، توفي بعد الهجرة بشهرين، وهو والد الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه. انظر: "المراجع السابقة"، و"الأعلام" ٣/ ٢٤٧.
(٢) عتبة وشيبة: ابنا ربيعة بن عبد شمس القرشي، من المستهزئين قتلا في بدر. انظر: "المراجع السابقة"، و"الأعلام" ٣/ ١٨١، ٤/ ٢٠٠.
(٣) أبي، وأمية: ابنا خلف بن وهب الجمحي، من المستهزئين وأشدهم، وأكثرهم أذى للرسول - ﷺ - وأصحابه رضي الله عنهم، قتل أمية في بدر، ورمى النبي - ﷺ - يوم أحد أبيًّا بحربة فقتله. انظر: "جوامع السير" ص ٥٤، و"الكامل" في التاريخ ٢/ ١٤٨، و"الأعلام" ٢/ ٢٢.
(٤) المستهزؤون: طبقة لهم قوة ورياسة، اختلف في عددهم وأسمائهم وكيفية هلاكهم، وقد أخرج الطبري ١٤/ ٧٠ - ٧٣، والطبراني في "الكبير" ١١/ ١١٣، والبيهقي في "سننه" ٩/ ٨، في "الدلائل" ٢/ ٨٥ - ٨٦ من طرق جيدة عن ابن عباس، عددهم وأسماءهم وكيفية هلاكهم، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٤٧، وقال: (رجاله ثقات)، وقال السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٣: (أخرجه الطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن مردويه بسند حسن، والضياء في المختارة) ا. هـ وانظر: الماوردي ٢/ ١٥٧، والزمخشري ٢/ ٣٩٩، وابن الجوزي ٤/ ٤٢١، والقرطبي ١٠/ ٦٢، وابن كثير ٢/ ١٨٦.
(٥) قال السمين في "الدر" ٥/ ١١٥ - ١١٦: (الراجح أنه من باب إضافة الصفة لموصوفها، والأصل الإنس والجن الشياطين، ويحتمل أن يكون من الإضافة التي بمعنى اللام، المعنى: الشياطين التي للإنس والشياطين التي للجن، فإن إبليس =
373
الإنس، أي: الذي يغوونهم، وهذا قول عكرمة (١) والضحاك (٢) والسدي (٣) والكلبي (٤) عن أبي صالح، عن ابن عباس (٥)، وهؤلاء قالوا: (معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس، وشياطين الجن التي مع الجن، وذلك أن إبليس قسم جنده فريقين: فبعث منهم فريقًا إلى الجن، وفريقًا إلى الإنس، فالفريقان شياطين الإنس والجن) (٦).
وقوله تعالى: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أي: يُلقي وُيسرّ (٧).
= قسم جنده قسمين: قسم متسلط على الإنس، وآخر على الجن، كذا جاء في التفسير) ا. هـ بتصرف
(١) أخرجه الطبري ٨/ ٤، من طرق، عن عكرمة والسدي، وذكره السمرقندي ١/ ٥٠٨، وابن الجوزي ٣/ ١٠٨، عن عكرمة.
(٢) ذكره القرطبي ٧/ ٦٨، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٠٧، عن الضحاك والكلبي.
(٣) ذكره ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٢، وذكره الماوردي ٢/ ١٥٨، عن عكرمة والسدي.
(٤) ذكره هود الهواري ١/ ٥٥٢، وذكره البغوي ٣/ ١٧٩، عن عكرمة والضحاك، والسدي والكلبي.
(٥) أخرجه الفراء في "معانيه" ١/ ٣٥١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٢، بسند ضعيف، وذكره النحاس في "إعرابه" ١/ ٥٧٥، وقال القرطبي ٧/ ٦٧: (قال النحاس وروى عن ابن عباس بإسناد ضعيف) ا. هـ.
(٦) هذا قول غريب وليس له وجه مفهوم، كما أفاده الطبراني في "تفسيره" ١٢/ ٥٢، والراجح: هو الأول عند أكثر أهل العلم، ومنهم الطبري، والقرطبي في "تفسيره" ٧/ ٦٨، وابن كثير ٢/ ١٨٦، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٧٥: (ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: ١٢١] فهذا يبين معى ذلك) اهـ.
وقال ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣٢٠: (قول السدي وعكرمة لا يستند إلى خبر ولا إلى نظر).
(٧) قال ابن الأنباري في "الزاهر" ٢/ ٣٤١: (المعنى: يسر بعضهم إلى بعض، وهذا أصل الحرف) ا. هـ.
374
قال عطاء، عن ابن عباس: (يناجي بعضهم بعضًا بكذب) (١).
ومعناه على القول الأول: ما قاله مجاهد (٢) وقتادة (٣): (وهو أن شياطين الجن الذين هم من جند إبليس يوحون إلى كفار الإنس ومردتهم فيغوونهم بالمؤمنين)، كما ذكرنا أن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن أغرى به شيطانًا من الإنس.
وعلى القول الثاني معناه: ما قاله الكلبي، وهو أنه قال: (إن إبليس جعل فرقة من شياطينه مع الإنس، وفرقة مع الجن، فإذا التقى شيطان الإنس وشيطان الجن قال: أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضل به صاحبك، ويقول له شيطان الجن مثل ذلك، فهذا وحي بعضهم إلى بعض).
قال الفراء: (حدثني بذلك حبّان (٤)، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس) (٥).
وعلى القول الأول المراد بالجن: الشياطين من ولد إبليس، والمراد بالجن في القول الثاني: [ولد] (٦) الجان (٧).
(١) لم أقف عليه، وأخرج ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٢، عن عطاء عنه قال: (يوسوس).
(٢) أخرجه الطبري ٨/ ٣، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٤.
(٣) سبق تخريجه.
(٤) في (ش): حيان، وكذا في "معاني الفراء" ١/ ٣٥١، وهو تصحيف، والصواب حبان بالباء، كما في "معاني الفراء" ٣/ ٧ و٨ و٥٣ و٦٠ و٦٦ و٧٧، وهو: حِبَّان بن علي العنزى، أبو علي الكوفي، إمام فاضل، صالح فقيه، ضعفه أئمة الجرح والتعديل، توفي سنة ١٧١ هـ، وله ٦٠ سنة. انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ٢٧٠، و"ميزان الاعتدال" ١/ ٤٤٩، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٣٤٥، و"تقريب التهذيب" ص ١٤٩ (١٠٧٦).
(٥) إسناده ضعيف، وقد سبق تخريجه.
(٦) في (ش): (والد)، وهو تحريف.
(٧) الذي يظهر أنه على القول الأول: يكون المراد بالجن: ولد إبليس والجان، =
375
وقوله تعالى: ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾، الزخرف: الباطل (١) من الكلام الذي زين ووشي بالكذب، يقال: فلان يزخرف كلامه، إذا زيَّنه بالباطل والكذب، وكل شيء حسنٍ مموهٍ فهو زخرف كالنقوش، وبيت مُزَخْرَفٌ منقوش (٢)، ومنه الحديث: (إن رسول الله - ﷺ - لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنُحِي) (٣)، يعني بالزخرف: نقوشًا، وتصاوير زينت به الكعبة
= وعلى القول الثاني: المراد بالجن: ولد إبليس؛ لأنه قسمهم إلى قسمين: قسم مع الإنس، وقسم مع الجن، والله أعلم. انظر: تفسير الرازي ١٣/ ١٥٤، فقد ذكر القول الثاني: ثم قال: (وعلى هذا القول، فالشياطين نوع مغاير للجن، وهم أولاد إبليس) اهـ.
(١) في (أ): (الباطل من الباطل الكلام)، وعلى الباطل الثانية ضرب، وهو الصواب.
(٢) الزخرف: بضم الزاي المشددة، وسكون الخاء، وضم الراء: الزِّينة. وأصله الذَّهَب، ثم سمي كل زينة زخرفًا، ثم شبه كل مُمَوه مزور به، وبيت مزخرف، أي: مزين. انظر: "العين" ٤/ ٣٣٨، و"الجمهرة" ٢/ ١١٤٤، و"المنجد" ص ٢١٩، و"الصحاح" ٤/ ١٣٦٩، و"المفردات" ص ٣٧٩، و"اللسان" ٣/ ١٨٢١ (زخرف).
(٣) لم أقف على سنده وهو في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٢٠، و"النهاية" لابن الأثير ٢/ ٢٩٩، و"اللسان" ٣/ ١٨٢١، و"عمدة الحفاظ" ص ٢١٩، و"الدر المصون" ٥/ ١١٦، و"تاج العروس" ١٢/ ٢٤٦ (زخرف). ومن المشهور أن البيت كان فيه تماثيل وصور، فأمر النبي - ﷺ - بإخراج التماثيل، وطمس الصور. قال ابن حجر في "فتح الباري" ٨/ ١٧: (روى عمر بن شيبة، عن عمرو بن دينار، بسند صحيح قال: (بلغني أن النبي - ﷺ - أمر بطمس الصور التي كانت في البيت) ا. هـ وأخرج البخاري في "صحيحه" مع فتح الباري ٨/ ١٦، عن ابن عباس قال: (إن النبي - ﷺ - لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام. فقال النبي - ﷺ -: "قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط") ا. هـ وانظر: في الصور والتماثيل التي كانت موجودة في البيت عند فتح مكة، و"أخبار مكة" للأزرقى ١/ ١١٩ - ١٢٣ و١٦٥ - ١٦٩، و"المصنف" =
376
وكانت مموهة بالذهب فأمر بها حتى حُتَّت (١) قال الزجاج: (والزخرف في اللغة: الزينة، المعنى: أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة و ﴿غُرُورًا﴾ منصوب على المصدر، وهذا المصدر محمول على المعنى، لأن معنى: إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور، فكأنه قال: [يَغُرّون] (٢) غُرُورًا) (٣)، وهذا معنى قول الضحاك: (شياطين الإنس يوحون إلى الإنس، وشياطين الجن يوحون إلى الجن) (٤).
= لابن أبي شيبة ٧/ ٤٠٣ (٣٦٨٩٤)، و"مجمع الزوائد" ٦/ ١٧٦، و"المطالب العالية" ١٧/ ٤٦٩ (٤٣٠٣).
(١) هذا التوجيه ذكره أصحاب المراجع السابقة، وقوله: حُتَّت: بضم الحاء وتَشديد التاء المفتوحة، والحَثُّ بفتح الحاء: الحَكُّ والقَشْر، وفَرْكُ الشيء اليابس. انظر: "اللسان" ٢/ ٧٦٧ مادة (حتت).
(٢) في (أ): (تغرون).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٤، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٧٥، و"المشكل" ١/ ٢٦٦، و"التبيان" ١/ ٣٥٤، و"الدر المصون" ٥/ ١١٦، ونقل ذلك الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٥٥، ١٥٦ عن الواحدي.
(٤) سبق تخريجه.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في "الفتاوى" ١٨/ ٥٦ عند شرح الآية: (أخبر سبحانه وتعالى أن جميع الأنبياء لهم أعداء، وهم شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف، وهو المزين المحسن، يغرون به، والغرور: التلبيس والتمويه، وهذا شأن كل كلام وعمل يخالف ما جاءت به الرسل من أمر المتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين، ثم قال ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان، فمن لم يؤمن بالآخرة أصغى إلى زخرف أعدائهم، فخالف الرسل كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة وغيرها..) ا. هـ.
وانظر: "بدائع التفسير" ٢/ ١٧٣.
377
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾، الهاء تعود إلى إيحاء القول بالغرور، والمدلول عليه بقوله ﴿يُوحِي﴾ والفعل يدل على المصدر (١)، قال الزجاج: (أي: لو شاء لمنع الشياطين من الوسوسة للإنس والجن، ولكن الله عز وجل يمتحن بما يعلم أنه الأجزل في الثواب) (٢) [وقوله تعالى] (٣): ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ قال ابن عباس: (يريد: ما زين لهم إبليس وغرّهم به) (٤).
١١٣ - وقوله تعالى: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ الآية. الصغو في اللغة معناه: المَيْل، صغى إلى كذا يصغى إذا مال إليه (٥). أبو عبيد عن الكسائي: (صَغَوت أَصْغُو، وصغيت أصْغَى [ثم وصغيت أصغِي] (٦) وهو أكثر الثلاث) (٧)، ابن السكيت: (صَغَيْتُ إلى الشيء،
(١) انظر: "التبيان" ١/ ٣٥٤، و"الفريد" ٢/ ٢١٦.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٤، وفيه: (يمتحن ما يعلم أنه الأبلغ في الحكمة، والأجزل في الثواب والأصلح للعباد) ا. هـ. وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٣، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٧٧.
(٣) في (ش): وقوله تعالى: (لله هم وما يفترون)، وهو تحريف ظاهر.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٣، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٥٦، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٠٧.
(٥) انظر: "العين" ٤/ ٤٣٢، و"الجمهرة" ٢/ ٨٩٠، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٠٠، و"المجمل" ٢/ ٥٣٤، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٢٨٩، و"المفردات" ص ٤٨٥ (صغا).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٧) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٢٠، وفيه: (أبو عبيد عن الكسائىِ: صَغَوْتُ بالفتح، وصَغَيْتُ. وقال شمر: صَغَوت، وصغَيت بالفتح، وصغيت بكسر العين، وأكثره صغيت بالكسر) ا. هـ.
ولعل الواحدي جمع بين القولين.
378
أصْغى صِغيًا إذا ملت إليه، وصَغَوت أصغُو صُغُوًّا) (١)، الأصمعي (وصَغا) (٢)، وزاد الفراء: (صُغيًّا مشدّدًا وصُغُوًّا) (٣)، أبو زيد (٤): (يقال: صَغْوهُ معه، وصِغْوُهُ وصَغَاهُ، وصَاغِية الرجل الذين يميلون إليه ويغشونه، وعين صَغْواء مائلة، قال الأعشى (٥):
(١) "إصلاح المنطق" ص ٢١٥، و"تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٢٠، وصَغَيْت بالفتح، أَصْغَى صُغِيًّا بالكسر، وصَغَوت أصغُو صُغُوًّا بالضم.
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٢١، وفيه: (صَغَا يَصْغو صَغْوًا وصَغًا) بالفتح.
(٣) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ١١٩، وهو ليس في معاني الفراء، ولعله من كتاب المصادر المفقود، وصُغيا بالضم، وكسر العين، وفتح الياء المشددة، وصغوا بالضم وفتح الواو المشددة.
(٤) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٢١، وفيه: (صَغْوه وصَغاه وصِغْوه معه) فقط، والباقي لابن السكيت، وصَاغية بكسر الغين، وصَغْواء بفتح الصاد وسكون الغين.
والخلاصة: أن الصَّغا مادة تدل على الميل، يقال: صغوت بالواو وفتح الغين، وصغيت بالياء وكسر الغين وفتحها، فاللام واو أو ياء، ومع الياء تكسر عين الماضي وتفتح، ومضارع الأفعال الثلاثة يصغى بفتح الغين، وحكى صغوت أصغو بالضم، ومصدر الأول: صَغْو، والثاني: صُغِيٌّ بكسر الغين، والثالث: صغا بالفتح، وحكى في مصدر صغا بالفتح يصغو صغا بالفتح، فهو ليس مختصًا بكونه مصدرًا لصغي بالكسر، وحكى صِغِيًّا بكسر الغين، وفتح الياء المشددة، وصغوا بضم الغين وفتح الواو المشددة. انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٤، والقرطبي ٧/ ٦٩، و"البحر" ٤/ ٢٠٥، و"الدر المصون" ٥/ ١١٩.
(٥) ديوان الأعشى: ميمون بن قيس ص ١٨٧، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص ٣٢٧، و"تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٢٠، والثعلبي ص ١٨٣/ أ، و"اللسان" ٤/ ٢٤٥٤ مادة (صغا)، و"الدر المصون" ٥/ ١١٩، وهو يصف الناقة، وصغواء: مائلة، والمؤق بالضم: طرف العين مما يلي الأنف. انظر: "اللسان" ٧/ ٤١٢٠ مادة (مأق)، والقطيع، بفتح القاف، وكسر الطاء: السوط يقطع من جلد، ونحوه. والقطيع المحرم. السوط الذي لم يمرن ويُليَّن بعد. انظر: "اللسان" (قطع) ٦/ ٣٦٧٨.
379
ترَى عَيْنَها صَغْواءَ في جَنْبِ مُؤقِهَا ترَاقِبُ كَفِّي والقَطِيعَ المحَرَّمَا)
قال ابن عباس (١)، والسدي (٢)، [وابن زيد (٣)] وغيرهم (٤): (وَلِتَصْغَى) (ولتميل هواها)، قال ابن الأنباري: (اللام في (لتصغى) متعلقة بفعل مضمر تأويله: وفعلنا بهم ذلك لكي تصغى إلى الباطل أفئدتهم وليرضوا المذموم من أجل عنادهم الحق) (٥)، وقال غيره من النحويين (٦):
(١) أخرجه الطبري ٨/ ٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٣ بسند ضعيف بلفظ (لتميل)، وهو في مسائل نافع بن الأزرق ص ١٦٣، وأخرج ابن حسنون في "اللغات" ص ٥٤، و"الوزان" ٩ أبسند جيد عنه قال: (صغا مال بلغة خثعم) ا. هـ، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٥٣ قال: (لكي تميل إلى هذا الزخرف والغرور) ا. هـ، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٧٥.
(٢) أخرجه الطبري ٨/ ٧ بسند جيد بلفظ: (تميل إليه قلوب الكفار) ا. هـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٤.
(٣) لفظ (ابن زيد) ساقط من (أ) والأثر أخرجه الطبري ٨/ ٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٣، بسند جيد عنه، بلفظ: (وليهووا ذلك، يقول الرجل للمرأة: صغيت إليها: هَوِيتها) اهـ.
(٤) هو قول الأكثر. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٨٥، و"مجاز القرآن" ١/ ٢٠٥، و"غريب القرآن" ص ١٤٢، والطبري ٨/ ٧، والسمرقندي ١/ ٥٠٨، والماوردي ٢/ ١٥٩.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٣، ابن الجوزي ٣/ ١٠٩.
(٦) هذا ظاهر كلام الطبري ٨/ ٤، والقرطبي ٧/ ٦٩، ورجحه الرازي ١٣/ ١٥٧، وأكثرهم على أنها لام كي الجارة، وهي معطوفة على الغرور، أي: للغرور، ولأن تصغى. قال ابن عطية ٥/ ٣٢٤ - ٣٢٥: (اللام في الأفعال الثالثة لام كي معطوفة على (غرورًا) أو متعلقة بفعل مؤخر تقديره: فعلوا ذلك أو جعلنا ذلك، فهي لام صيرورة، قاله الزجاج: ولا يحتمل أن تكون لام الأمر وضمنها الوعيد) ا. هـ. ملخصًا، وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٧٤ - ١٧٥: (اللام على بابها للتعليل وإن كانت تعليلًا لفعل العدو، وهو ايحاء بعضهم إلى بعض فظاهر، =
380
(اللام متعلقة بقوله ﴿يُوحِي﴾: [الأنعام: ١١٢] وتقديره: يوحي بعضهم إلى بعض [ليغروهم] (١) ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾)، والكناية في (إليه) تعود إلى ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾ (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَقْتَرِفُوا﴾ يقال: اقترف أي: اكتسب (٣). الليث (٤): (اقترف ذنبًا، أي: أتاه وفعله). ابن الأنباري (٥): (قَرَف واقْتَرَف إذا كسب،
= وعلى هذا فيكون عطفًا على قوله (غرورًا) فإنه مفعول لأجله، أي: ليغروهم بهذا الوحي ولتصغى إليه أفئدة من يلقى إليه فيرضاه ويعمل بموجبه، فيكون سبحانه قد أخبر بمقصودهم من الإيحاء، وهو أربعة أمور: غرور من يوحون إليه، وإصغاء أفئدتهم إليهم، ومحبتهِم لذلك، وانفعالهم عنده بالاقتراف، وإن كان ذلك تعليلًا لجعله سبحانه ﴿لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا﴾ فيكون هذا الحكم من جملة الغايات والحكم المطلوبة بهذا الجعل، وهي غاية وحكمة مقصودة لغيرها؛ لأنها مفضية إلى أمور هي محبوبة مطلوبة للرب سبحانه، وفواتها يستلزم فوات ما هو أحب إليه من حصولها، وعلى التقديرين، فاللام لام التعليل والحكمة) اهـ، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣٣، و"الزجاج" ٢/ ٢٨٤، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٧٦، و"العسكريات" ص ١٠٠، و"كتاب الشعر" ١/ ٢٠٦، و"المحتسب" ١/ ٢٢٧، و"البيان" ١/ ٣٣٥، و"التبيان" ص ٣٥٥، و"الفريد" ٢/ ٢١٦، و"الدر المصون" ٥/ ١١٧.
(١) في (أ): (لتغروهم).
(٢) انظر: "الدر المصون" ٥/ ١١٨.
(٣) الاقتراف بسكون القاف، وكسر التاء وفتح الراء أصله قَشْرُ اللحاء والجلدة عن الجرح، ثم استعير للاكتساب حسنًا كان أو سيئًا، إلا أنه في السوء أغلب. انظر: "الجمهرة" ٢/ ٧٨٦، و"الصحاح" ٤/ ١٤١٤، و"المجمل" ٣/ ٧٤٨، و"معجم مقاييس اللغة" ٥/ ٧٣، و"المفردات" ص ٦٦٧، و"اللسان" ٦/ ٣٦٠٠، و"عمدة الحفاظ" ص ٤٥٣ مادة (قرف).
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٤١. وانظر: "العين" ٥/ ١٤٦.
(٥) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ١٢٢، وفي "الزاهر" ١/ ٤٤٦، قال في معنى الآية: (أي: وليكتسبوا وليلصقوا بأنفسهم) ا. هـ. ثم أنشد البيت.
381
وأنشد (١):
وإِنِّي لآتٍ مَا أَتَيْتُ وإنَّنِي لِمَا اقْتَرفَتْ نَفْسِي عليَّ لَرَاهِبُ
أي: لما اكتسبت)، ونحو ذلك قال ابن عباس (٢) وابن زيد (٣): (وليكتسبوا).
وقال الزجاج: (وليقترفوا) (أي: ليختلقوا وليكذبوا) (٤)، وهو معنى قول عطاء (٥): (ليخترقوا في القرآن مثل قولهم: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣]).
قال مقاتل: ﴿وَلِتَصْغَى﴾: (ولتميل إلى ذلك الزخرف ولغرور قلوب الذين لا يصدقون بالبعث، ﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾: ليحبوه، ﴿وَلِيَقْتَرِفُوا﴾ ليعملوا ما هم عاملون) (٦)، وهذا الآية دليل على تكذيب القدرية، إذ قال الله تعالى:
(١) الشاهد للبيد في ذيل "ديوانه" ص ٢٢١، و"الكشف" للثعلبي ١٨٣ أ، وبلا نسبة في "الدر المصون" ٥/ ١٢٢.
(٢) أخرجه الطبري ٨/ ٨ بسند جيد، وهو في "تنوير المقباس" ٢/ ٥٣، و"الدر المنثور" ٣/ ٧٥، وهو في مسائل نافع بن الأزرق ص ١٦١ مع ذكر الشاهد للبيد.
(٣) ذكره القرطبي ٧/ ٧٠، عن ابن عباس والسدي وابن زيد، وأخرج الطبري ٨/ ٨، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٣، ١٣٧٤، بسند جيد عن ابن زيد والسدي قالا: (ليعملوا ما هم عاملون) ا. هـ.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٥، وفيه ذكر القول الأول ثم ذكر هذا، وفي "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٥، قال: (مجازه التهمة والادعاء) ا. هـ. وفي "غريب القرآن" لليزيدي قال: (يدعون الكذب) وفي تفسير "غريب القرآن" ص ١٥٨، و"تفسير المشكل" ص ٧٩: (أي: ليكتسبوا ويدعوا) ا. هـ. وذكر هذا القول الماوردي ٢/ ١٥٩، وقال: (هذا قول محتمل) ا. هـ.
(٥) لم أقف عليه. وقوله: (وليخترقوا) التَّخرُّق لغة في التخلُّق من الكذب وخَرَقَ الكذب وتَخَرَّقه اختلقه وافتعله وافتراه. انظر: "اللسان" ٢/ ١١٤٢ (خرق).
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٥.
382
جعلنا لهم شياطين لتصغى قلوبهم إلى وحي الشياطين وليرضوه (١).
وحكى أبو بكر (٢) مثل قول الزجاج، فقال: (وقال بعضهم: تأويله: وليختلقوا ما هم مختلقون) (٣) ثم قال: (والأول هو الأثبت في اللغة) (٤).
١١٤ - قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾ قال ابن عباس (٥): (يريد [قول النبي - ﷺ -] يعني: أن هذا من (٦)] قول النبي - ﷺ - قال الكلبي: (قل لأهل مكة: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾) (٧)، والحكم (٨) والحاكم واحد عند
(١) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٥٨.
(٢) أبو بكر هو: محمد بن القاسم بن الأنبارىِ، تقدمت ترجمته.
(٣) لم أقف عليه، وفي "الزاهر" ١/ ٤٦٥: (وقولهم: قد قَرف فلان فلانا، معناه: قد ألصق به عيبًا وأكسبه ذمًّا) اهـ.
(٤) وهو الراجح عند الجمهور، ومنهم الفراء في "معانيه" ١/ ٣٥١، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٨، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٤٧٨، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٠٨، والبغوي ٣/ ١٨٠، وابن الجوزي ٣/ ١٠٩، وحكى القول الثاني عن الزجاج الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٥٨، ثم قال: (والأول أصح) ا. هـ.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٣، وفيه: (قل لهم يا محمد: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾) ا. هـ.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٣ عن الكلبي والعوفي، وذكر الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٦٠، وابن الجوزي ٣/ ١١٠ نحوه بدون نسبة.
(٨) مادة (حكم) بالفتح، بمعنى المنع. ومنه الحكم، بضم الحاء وسكون الكاف، والحاكم بفتح الحاء، وكسر الكاف؛ لأنه يمنع من الظلم، ومنه الحكمة بكسر الحاء وسكون الكاف وفتح الميم؛ لأنها تمنع من الجهل.
انظر: "العين" ٣/ ٦٦، و"الجمهرة" ١/ ٥٦٤، و"تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٥ - ٨٨٦، و"الصحاح" ٥/ ١٩٠١، و"المجمل" ١/ ٢٤٦، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٩١، و"اللسان" ٢/ ٩٥١ مادة (حكم).
383
أهل اللغة (١) لا فرق بينهما غير أن بعض أهل التأويل قال: (الحَكم أهل أن يتحاكم إليه، والحاكم من شأنه أن يحكم، فالصفة بالحَكم أمدح، وذلك أن صفة حاكم جارية على الفعل، فقد يحكم الحاكم بغير ما أنزل الله، فأما من يستحق صفة حكم فلا يحكم إلا بالحق؛ لأنها صفة تعظيم ومدح) (٢)، قال العوفي: (﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾ قاضيًا بيني وبينكم) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ قال ابن عباس: (يريد: مبينًا) (٤)، وقال مقاتل: (﴿أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ﴾ القرآن مبينًا فيه أمره ونهيه) (٥)، وقال أهل المعاني: (التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى وينفي أيضًا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المعنى، وذلك بالآيات التي تفصل المعاني بعضها من بعض) (٦).
(١) انظر أيضًا: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي ص ٢٤٣، و"تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص ٤٣، ٥٢، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص٦٠، و"النهاية" لابن الأثير ١/ ٤١٨.
(٢) ذكره أكثرهم. انظر: "الفروق" للعسكري ص ١٥٧، والماوردي ٢/ ١٥٩، و"المفردات" ص ٢٤٩، وابن عطية ٣٢٦، و"الفريد" ٢/ ٢١٨، والقرطبي ٧/ ٧٠، وذكره الرازي ١٣/ ١٥٩، عن الواحدي، وقال السمين في "الدر" ٥/ ١٢٣: (الحكم أبلغ من الحاكم، قيل: لأن الحكم من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم فإنه يصدق غيره، وقيل: لأن الحكم لا يحكم إلا بالعدل والحاكم قد يجوز) ا. هـ، وانظر: "البحر" ٤/ ٢٠٩.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٣، عن الكلبي وعطية العوفي.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٣.
(٥) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٥.
(٦) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ١٦٠، وابن عطية ٥/ ٣٢٦، وابن الجوزي ٣/ ١١٠، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٧٦.
384
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني: العلماء من أهل الكتابين ﴿يَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾، يعني: القرآن ﴿مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾، أي: أن كل ما فيه بيان عن الشيء على ما هو به كترغيبه وترهيبه ووعده ووعيده وقصصه وأمثاله، وغير ذلك [مما فيه] (١) كله بهذه الصفة (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ قال الفراء: (من الشاكين أنهم ﴿يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ﴾) (٣)، ومعنى الامتراء: طلب التشكك مع ظهور الدليل، وهو من مَرْيِ الضَّرع، وهو مَسحه ليَدرَّ (٤).
١١٥ - قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ قال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: مواعيد ربك لأوليائه، وأهل طاعته) (٥)، وقال مقاتل: (﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أنه ناصر محمّد ببدرٍ) (٦).
وقال الكلبي: (﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ وجبَ قول ربك صدقًا لقوله وعدلًا منه) (٧)، وقال أهل المعاني (٨): (الكلمة والكلمات معناها والله أعلم: ما جاء من وعد ووعيدٍ وثواب وعقاب، فلا تبديل فيه ولا تغيير له،
(١) لفظ: (مما فيه) غير واضح في (أ).
(٢) هذا قول الأكثر. انظر: الطبري ٨/ ٨، والسمرقندي ١/ ٥٠٩، وابن الجوزي ٣/ ١١٠.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٥١.
(٤) انظر: "الزاهر" ١/ ٣٥٠ - ٣٥١، وقد سبق الكلام عن معنى الامتراء.
(٥) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٧/ ٧١، وذكر أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٠٩ نحوه عن ابن عباس.
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٥.
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٤.
(٨) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٨٨، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٦٠ عن أهل المعاني.
385
كما قال تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩] والتقدير: وتمت ذوات الكلمات -أي: يخبر بها عنها- فمن قرأ (١) (كلمات) بالجمع قال: لأن معناها الجمع، فوجب أن يجمع في اللفظ، ومن قرأ على الواحدة فلأنهم قد قالوا: الكلمة يراد بها الكثرة، كقولهم: قال زهير في كلمته، يعنون: قصيدته، وقال قُسٌّ (٢) في كلمته، يعنون: خطبته، فقد وقع المفرد على الكثرة، فلما كان كذلك أغنى عن الجمع) (٣).
وقوله تعالى: ﴿صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ قال ابن عباس: (يريد: لا خلف لمواعيده ولا في أهل طاعته (٤) ولا في أهل معصيته)، وقال قتادة (٥)، ومقاتل (٦): (﴿صِدْقًا﴾ فيما وعد ﴿وَعَدْلًا﴾ فيما حكم)، وقال بعض المفسرين (٧): (كلمة الله أقضيته وعِداته تمت على معنى قوله - ﷺ -:
(١) قرأ عاصم وحمزة والكسائي (وتمت كلمت) على التوحيد، وقرأ الباقون (وتمت كلمات) على الجمع. انظر: "السبعة" ص ٢٦٦، و"المبسوط" ص ١٧٤، و"الغاية" ص ٢٤٨، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٨، و"التيسير" ص ١٠٦، و"النشر" ٢/ ٢٦٢.
(٢) تقدمت ترجمته.
(٣) هذا كلام الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣٨٨ - ٣٩٠، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٨١، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٨، ولابن زنجلة ص ٢٦٨، و"الكشف" ١/ ٤٤٧.
(٤) جاء في (أ)، (ش): (ولا في أهل طاعته) بالواو، ولعله تحريف، والأثر ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٤.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٤ بسند جيد، وذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٧٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨١.
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٥.
(٧) ذكر هذا القول الثعلبي في "الكشف" ١٨٣ أ، والماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٦٠، وابن الجوزي ٣/ ١١١ بدون ذكر الحديث.
386
"سبق القضاء وجف القلم (١) بالسعادة لمن آمن واتقى، والشقاوة لمن كفر وعصى" (٢)، قال أبو علي الفارسي: (و ﴿صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ مصدران ينتصبان علي الحال من الكلمة، تقديره: صادقة عادلة) (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾ قال ابن عباس: (يريد: لا راد لقضائه، ولا مغير لحكمه، ولا خلف لموعده) (٤)، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لتضرع أوليائه ولقول أعدائه واستهزائهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في قلوب أوليائه من اليقين، وبما في قلوب أعدائه من الاستهزاء والشرك (٥).
١١٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾. قال المفسرون: (إن المشركين جادلوا رسول الله - ﷺ - في أكل
(١) هنا في (ش): وقع اضطراب في ترتيب الأوراق، فجاء تكملة الحديث في ١٢١ ب.
(٢) الحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه بعد طول بحث، وفي معناه عدة أحاديث في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٨٥ - ٢٠١، وأخرج البخاري في "صحيحه" (٥٠٧٦)، و"كتاب النكاح"، باب ما يكره من التبتل والخصاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - ﷺ -، قال: "جف القلم بما أنت لاق". وأخرج مسلم في "صحيحه" رقم (٢٦٤٨)، عن جابر رضي الله عنه قال: (جاء سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فِيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: "لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" قال: ففيم العمل؟ قال: "كل عامل ميسر لعمله" اهـ.
(٣) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٨٨، وانظر: "إعراب النحاس" ٢/ ٩٣، و"المشكل" ١/ ٢٢٦، و"البيان" ١/ ٣٣٦، و"التبيان" ٣٠٠، و"الفريد" ٢/ ٢١٩، و"الدر المصون" ٥/ ١٢٤.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨١.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٩.
387
الميتة) (١)، قال الفراء: ([ذلك] (٢) أنهم قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فأنزلت هذه الآية: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ﴾) (٣).
قال ابن عباس: (يريد: الذين هم (٤) ليسوا على دينك، وهم أكثر من المؤمنين، إن تطعهم في أكل الميتة ﴿يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، يريد: عن دين الله الذي رضيه لك، وبعثك به) (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ يعني: ظنهم في أكل الميتة، وقال عطاء: (يريد: دينهم [الذي] (٦) هم عليه ظنٌّ) (٧)، وقال أبو إسحاق: (ليس عند أنفسهم أنهم على بصائر؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم، وتركوا التماس البصيرة من حيث يجب، واقتصروا على الظن والجهل) (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ قال الأزهري: (أصل الخرص: التظنِّي فيما لا تستيقنه، ومنه قيل: [خرصتُ النَّخْلَ خَرْصًا إذا حَزَرْته؛ لأن الحزر فيه ظن لا إحاطة، ثم قيل (٩)] للكذب: خَرْص [لما يدخله] (١٠) من
(١) ذكره الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠، والبغوي ٣/ ١٨١، وابن عطية ٥/ ٣٢٩، وابن الجوزي ٣/ ١١١.
(٢) في (ش): (وذلك) بالواو.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٢.
(٤) في (ش): (الذين ليسوا هم على دينك).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٥.
(٦) (الذي) ساقطة من (أ).
(٧) لم أقف عليه، وهو قول البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨١.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٥ - ٢٨٦، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٧٨.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(١٠) في (أ): (لما تدخله)، بالتاء.
388
الظُّنُونِ الكاذبة) (١). قال ابن عباس (٢): (﴿يَخْرُصُونَ﴾ يكذبون ما أحله الله ولا أنزله (٣) في كتابه)، وقال عطاء عنه: (يريد: يفترون) (٤).
١١٧ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ قال بعض الناس: (أعلم هاهنا بمعنى: يعلم)، ولا يجوز ذلك؛ لأنه يطابق (٥) ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ وقال بعض البصريين: (موضع (من) نصب على حذف الباء؛ لأنه قد قال في موضع: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ [ضِلَّ] (٦)﴾ [النحل: ١٢٥] بالباء وحذفت هاهنا) (٧).
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٠٩، والخرص: بفتح الخاء وسكون الراء: الحزر في العدد والكيل، والكذب، وكل قول بالظن. انظر: "العين" ٤/ ١٨٣، و"الجمهرة" ١/ ٥٨٥، و"الصحاح" ٣/ ١٠٣٥، و"المجمل" ٣/ ٢٨٣، و"مقاييس اللغة" ٢/ ١٦٩، و"المفردات" ص ٢٧٩، و"اللسان" ٢/ ١١٣٣ (خرص).
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٥، وأخرج ابن حسنون في "اللغات" ص ٤٢، ٤٤، و"الوزان" ص ٧، بسند جيد عن ابن عباس قال: (يخرصون يعني: يكذبون) اهـ.
(٣) كذا العبارة في الأصول: ولعل الصواب: (ما أحله الله وأنزله في كتابه).
(٤) لم أقف عليه. وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٦، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٢، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٦٩، و"تفسير المشكل" ص ٧٩.
(٥) ذكره الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠ - ١١، ورده بنحو ما ذكر الواحدي، وذكره السمين في "الدر" ٥/ ١٢٦، عن الواحدي وقال: (على هذا أعلم ليست للتفضيل، بل بمعنى: اسم الفاعل في قوته، كأنه قيل: إن ربك هو يعلم) اهـ.
(٦) جاء في الأصول: (يضل) بالياء، وهو خطأ واضح.
(٧) هذا قول الأخفش في "معانيه" ٣/ ٢٨٢، وذكره الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠، وانظر: "المحتسب" ١/ ٢٢٩، و"المشكل" ١/ ٢٦٧، وفيه قال: (ولا يحسن تقدير حذف حرف الجر، لأنه من ضرورات الشعر). اهـ. وانظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ٧٢.
389
وقال الزجاج: (موضع (من) رفع الابتداء ولفظها لفظ الاستفهام. المعنى: إن ربك هو أعلم أي الناس يضلُّ عن سبيله، قال: وهذا مثل قوله: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ (١) الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى﴾ [الكهف: ١٢] (٢). وهذا قول المبرد (٣) والكسائي والفراء، قال الفراء: (إذا كانت من بعد العلم والنظر والدراية، مثل: نظرت وعلمت ودريت، كانت في مذهب أي، فإن كان بعدها فعل له رفعتها به، وإن كان بعدها فعل يقع عليها نصبتها، كقولك: ما أدري من قام، ترفع من بقام) (٤)، يريد: أن من ترفع بالابتداء، وقام خبره، كذلك (من) ابتداء و (يضلّ) خبره في الآية، وتقول: ما أدري من ضربت، تنصب (٥) (من) بـ (ضربت)؛ لأن بعدها [فعل] (٦) يقع عليها، وقال أبو علي الفارسي: (من) معمول فعلٍ مضمر دل عليه (أعلم)، ولا يجوز أن يكون معمول (أعلم)؛ لأن المعاني لا تعمل في المعمول به، ومثل هذا في أنه لا يكون إلا محمولًا على فعل ما أنشده أبو زيد (٧):
(١) في (أ): (ليعلم)، بالياء.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٦، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٧٧، والأزهري في "معاني القرآن" ١/ ٣٨١، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٦٦، والكرماني في "غرائب التفسير" ١/ ٣٨٢، وضعف هذا القول أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢١٠.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٥، والرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٦٤، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢١٠، والسمين في "الدر" ٥/ ١٢٧، عن المبرد والكسائي.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٢.
(٥) هذا المثال من كلام الفراء في "معانيه" ١/ ٣٥٢.
(٦) في (ش): (فعلًا).
(٧) أبو زيد البصري سعيد بن أوس الأنصاري تقدمت ترجمته.
390
وأَضْرَب مِنه بالسُّيُوفِ القَوَانِسا (١)
فالقوانس محمولة على مضمر دون أضرب هذه الظاهرة، قال. ولا يجوز أن يكون موضع (من) في قوله: ﴿أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ﴾ جرًّا؛ لأن أفعل (٢) لا يضاف إلا إلى ما هو بعض له كقولك: (أعلم الناس، وليس ربنا بعض من يضل) (٣).
١١٨ - قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ الآية. هذا جواب لقول المشركين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ (٤) ودخلت
(١) البيت للعباس بن مرداس السُّلمي في "ديوانه" ص ٦٩، و"النوادر" لأبي زيد ص ٥٩، و"الأصمعيات" ص ٢٠٥، و"الحماسة" لأبي تمام ١/ ٢٤٦، و"اللسان" ٦/ ٣٧٥١ (قنس)، وبلا نسبة في "البيان" ١/ ٣٣٦، و"أمالي" ابن الحاجب ٢/ ١٥٨، و"البحر" ٤/ ٢١٠، و"الدر المصون" ٥/ ١٥٧، و"مغني اللبيب" ٢/ ٦١٨، وصدره:
أَكُرّ وأَحْمى لِلْحَقِيقَة مِنْهُمُ
وفي المراجع: وأضرب منا، بدل: منهم. والقونس: بفتح القاف وسكون الواو وفتح النون: أعلى البيضة من السلاح. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٧٥١ (قنس).
(٢) لأنه يلزم عليه محذور عظيم، وذلك أن أفعل التفضيل لا تضاف إلا إلى جنسها، فإذا قلت: زيد أعلم الضالين، لزم أن يكون زيد بعض الضالين، فهذا الوجه مستحيل في هذه الآية الكريمة انظر: "التبيان" ص٣٥٥، و"الفريد" ٢/ ٢١٩ - ٢٢٠.
(٣) "الحجة" لأبي علي ١/ ٢٦ - ٢٧. وانظر: "المسائل البصريات" ١/ ٥٤٢، و"كتاب الشعر" ٢/ ٥٤٥، و"الإغفال" ص ٩٣٥ - ٩٣٦، وهذا الوجه هو اختيار ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣٣٠، وابن الأنباري في "البيان" ١/ ٣٣٦، وقال السمين في "الدر" ٥/ ١٢٧: (والراجح من هذه الأقوال نصبها بمضمر، وهذا قول الفارسي، وقزاعد البصريين موافقة له) اهـ.
(٤) أخرجه أبو داود رقم (٢٨١٨ - ٢٨١٩)، وابن ماجه رقم (٣١٧٣)، والترمذي =
391
الفاء للعطف على ما دل عليه أول الكلام، كأنه قيل: كونوا على الهدى ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾، أي: مما ذُكي على اسم الله تعالى (١). قال الزجاج: (معناه: كلوا مما أخلصتم ذبحه لله) (٢)، وقد ذكرنا عند قول تعالى (٣): ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] إن التسمية لا تجب وأنها سنّة مستحبة (٤).
= رقم (٣٠٣٦)، وقال: حسن غريب، والنسائي في "سننه" ٧/ ٢٣٧ كتاب: "الضحايا"، باب: تأويل قول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١]، وفي "التفسير" ١/ ٤٧٩، والطبري ٨/ ١١ - ١٣، والحاكم ٤/ ١١٣ - ٢٣١، ٢٣٣، وصححه ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وأخرجه البيهقي في "سننه" ٩/ ٢٤٠، كلهم من طرق جيدة، وبألفاظ متقاربة، وأخرجه النحاس في ناسخه ٢/ ٣٥٤، وقال: (هذا من أصح ما مر، وهو داخل في المسند). اهـ. وجاء في بعض الروايات أن الآية نزلت في اليهود، ويمكن الجمع بينهما بأن قول المشركين مبني على إيحاء اليهود، وذكر ابن كثير ٢/ ١٨٨، عدة طرق، وقال: (إسناده صحيح، وروي من طرق متعددة ليس فيها ذكر اليهود، وهذا هو المحفوظ؛ لأن الآية مكية، واليهود لا يحبون الميتة). اهـ.
(١) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ١٢٨، عن الواحدي، وقال: (الظاهر أنها عاطفة على ما تقدم من مضمون الجمل المتقدمة، كأنه قيل: اتبعوا ما أمركم الله من أكل المذكى دون الميتة فكلوا) اهـ.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٦.
(٣) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٠٥ ب.
(٤) هذا قول الشافعي، ورواية عن مالك وأحمد، فمن تركها عندهم عمدًا أو سهوًا لم يقدح في حل الأكل، وذهب الجمهور إلى أنها شرط للإباحة مع الذكر دون النسيان، فيجوز أكل ما تركت عليه التسمية سهوًا لا عمدًا، وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد ومالك، وذهب أحمد في رواية إلى أنها شرط مطلقًا، وهذا القول هو الظاهر من نصوص الكتاب والسنة؛ لأن الأدلة لم تفصل، ولأنه علق الحل بذكر اسم الله تعالى، وهو اختيار شيخ الإسلام "الفتاوي" ٣٥/ ٢٣٩،=
392
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ ترغيب في اعتقاد صحة الإذن في أكل المذكاة على اسم الله تعالى، وتأكيد أن ما أباحه الشرع فهو طيب يحل تناوله، ولا يجوز استقذاره حتى لو استقذره إنسان كان غير مؤمن بظاهر هذه الآية، فإن عافت نفسه شيئًا بعد صحة عقيدته بكونه مباحاً غير مستقذر لم يضره ذلك (١).
١١٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ الآية. هذا إبلاغ في إباحة ما ذبح باسم الله.
قال الزجاج: (وموضع أن نصب؛ لأن في سقطت فوصل المعنى إلى أن فنصبها، المعنى: وأي شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا، وسيبويه (٢) يجيز أن يكون موضع أن خفضًا، وإن سقطت في، والنصب عنده أجود) (٣)، وقد ذكرنا هذا قديمًا (٤).
= والشيخ صالح بن فوزان الفوزان في كتاب "الذكاة الشرعية" ص ١٤ - ١٥، والشيخ محمد بن صالح العثيمين في "رسالة في أحكام الأضحية والذكاة" ص ٨٢ - ٨٦، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٣٥٠ - ٣٥٥، و"أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٧٤٦، و"المغني" لابن قدامة ١٢/ ٢٥٧، ٣٩٠، والقرطبي ٧/ ٧٥، و"المجموع" للنووي ٨/ ٤١٠، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ١٨٩ - ١٩٠، و"نيل الأوطار" ٨/ ١٥٢.
(١) انظر: "الفتاوى" ٢١/ ٥٣٤.
(٢) انظر: "الكتاب" ٣/ ١٢٦ - ١٢٩.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٦، وفيه قال: (ولا اختلاف بين الناس في أن الموضع نصب)، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٦، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٧٨، و"المشكل" ١/ ٢٦٧.
(٤) لم أقف عليه.
393
وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ قرئ (١) بالضم في الحرفين وبالفتح فيهما، وفي الأول بالفتح والثاني بالضم، فمن قرأهما بالضم فحجته قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] وقوله] (٢) ﴿حُرِمَتْ﴾ تفصيل ما أجمل في هذه الآية، فكما أن الاتفاق هاهنا على ﴿حُرِمَتْ﴾، كذلك يكون الذي أجمل فيه وكما وجب (حُرِّم) بضم الحاء لقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] كذلك ضم (فُصل) لأن هذا المفصل هو ذلك المحرم الذي قد أجمل في هذه الآية، [وأيضًا] (٣) فإنه قد قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ [الأنعام: ١١٤] [و (مفصلًا)] (٤) يدل على (فُصّل) ومن فتحهما فحجته في (فَصّل) قوله: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ﴾ [الأنعام: ٩٧] وحجته في (حَرّم) قوله: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ﴾ [الأنعام: ١٥١]، ويؤكد الفتح قوله تعالى: ﴿مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ (٥)﴾ [الأنعام: ١١٩] فينبغي أن يكون الفعل مبنيًا للفاعل لتقدم ذكر اسم الله سبحانه، ومن قرأ: (فَصَّل) بالفتح فحجته قوله: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا﴾ [الأنعام: ٩٧]، وحجته في ضَمِّ (حُرّم)، قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
(١) قرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو (فصل) بضم الفاء وكسر الصاد، وقرأ الباقون بفتح الفاء والصاد، وقرأ نافع وعاصم في رواية: (حرم) بفتح الحاء والراء، وقرأ الباقون بضم الحاء وكسر الراء. انظر: "السبعة" ص ٢٦٧، و"المبسوط" ص ١٧٤، و"الغاية" ص ٢٤٩، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٩، و"التيسير" ص ١٠٦، و"النشر" ٢/ ٢٦٢.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٣) لفظ: (أيضًا) ساقط من (أ).
(٤) لفظ: (ومفصلًا) ساقط من (ش).
(٥) لفظ: (عليكم) ساقط عن (ش).
394
الْمَيْتَةُ} [المائدة: ٣] (١)
قال المفسرون (٢). (ومعنى قوله تعالى: ﴿وَقَدْ (٣) فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ هو ما فصله في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ الآية).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾. قال الزجاج: (أي: دعتكم الضرورة لشدة المجاعة إلى أكله) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ﴾. قال أبو علي: (أي: يضلون باتباع أهوائهم (٥)، كما قال: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الأعراف: ١٧٦]، أي: يضلون (٦) بامتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه، وغير ذلك مما يتبعونه
(١) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٩٠ - ٣٩١، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٨٢، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٨، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٨، ولابن زنجلة ص ٢٦٩، و"الكشف" ١/ ٤٤٨.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٢ - ١٣، والسمرقندي ١/ ٥٠٩، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٩١، ونسب هذا القول الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٦٦، إلى أكثر المفسرين، وذكره القاسمي في "تفسيره" ٦/ ٦٩٥ - ٦٩٦، وقال: (ورد هذا بأن المائدة من آخر ما نزل بالمدينة والأنعام مكية، فالصواب أن التفصيل إما في قوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ الآية [الأنعام: ١٤٥] فإنه ذكر بعدُ بيسير، وهذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المراد، وإما على لسان الرسول ثم أنزل بعد ذلك في القرآن). اهـ. وانظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٦٦، وابن عاشور ٨/ ٣٤.
(٣) لفظ: (الواو) ساقط من (ش).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٧، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٢، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٩١.
(٥) في (أ): (هوائهم)، وهو تحريف.
(٦) في (الحجة) لأبي علي ٣/ ٣٩٤ - ٤٩٥: (أي: يضلون في أنفسهم من غير أن يضلوا غيرهم من اتباعهم بامتناعهم..). اهـ. وهذا في توجيه قراءة فتح الياء.
395
ويأخذون به مما لا شيء يوجبه في شرع (١) نحو السائبة (٢) والبحيرة (٣) وغير ذلك مما كن يفعله أهل الجاهلية).
ومن قرأ (٤) بضم [الياء] (٥) فحجته أنه يدل على أن الموصوف بذلك في الضلال أذهب، ومن الهدى أبعد، ألا ترى أن كل مضلٍّ ضالٌّ، وليس كل ضالٍّ مضلًّا، [إذا (٦) كان] ضلاله مقصورًا على نفسه لا يتعداه إلى سواه، فالمضل أكثر استحقاقًا للذم، وأغلظ حالاً من الضال لتحمله إثم من
(١) في "الحجة" ٣/ ٣٩٥: (من شرع ولا عقل) اهـ.
(٢) السائبة: المهملة، كان الرجل إذا برأ من مرضه أو قدم من سفر أو نجت دابته من مشقة سيب شيئًا من الأنعام للآلهة، والبعير يدرك نتاج نتاجه فيسيب ويترك ولا يحمل عليه، والناقة التي كانت تسيب في الجاهلية لنذر ونحوه أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت، أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظمًا، وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلأ، ولا تركيب.
انظر: "اللسان" ٤/ ٢١٦٦ مادة (سيب).
(٣) البحيرة: أصل البحر الشق، وشق الأذن كانوا إذا نتجت الناقة أو الشاة عشرة أبطن بحروها وتركوها ترعى وحرموا لحمها إذا ماتت على نسائهم وأكلها الرجال، أو التي خليت بلا راع، أو التي نتجت خمسة أبطن والخامس ذكر نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كانت أنثى بحروا أذنها فكان حرامًا عليهم لحمها ولبنها وركوبها، فإذا ماتت حلت للنساء، أو هي ابنة السائبة، وحكمها حكم أمها، أو هي في الشاة خاصة إذا نتجت خمسة أبطن بحرت، وهي الغزيرة أيضًا.
انظر: "اللسان" ١/ ٢١٦ مادة (بحر).
(٤) قرأ عاصم وحمزة والكسائي (ليضلون) بضم الياء، وقرأ الباقون بفتحها. انظر. "السبعة" ص ٢٦٧، و"المبسوط" ص ١٧٤، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٩، و"التيسير" ص ١٠٦، و"النشر" ٢/ ٢٦٢.
(٥) في (أ): (بضم التاء)، وهو تصحيف.
(٦) في (ش): (إذ كان).
396
أضله (١). وقول أبي علي في تفسير: ﴿لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ﴾ موافق لقول ابن عباس فإنه قال: (أراد عمرو بن لحي (٢) فمن دونه من المشركين، وهو أوّل من غيّر دين إسماعيل، واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة) (٣)، وقد ذكرنا قصته (٤) في سورة المائدة.
وقوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [يريد] (٥): لا علم لعمرو بن لحي، وقال أبو إسحاق: (أي: الذين يحلون الميتة ويناظرونكم في إحلالها، وكذلك كل ما يضلون فيه إنما يتبعون فيه الهوى والشهوة ولا بصيرة عندهم ولا علم) (٦).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ قال ابن عباس: (يريد: ما تعدّى عمرو بن لحيّ حيث ملك مكة واتخذ الأصنام) (٧).
وقال المفسرون (٨): (يعني: المجاوزين الحلال إلى الحرم).
(١) هذا قول أبي علي في الحجة ٣/ ٣٩٦ - ٣٩٧، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٨٣، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٨، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٨، ولابن زنجلة ص ٢٦٩، و"الكشف" ١/ ٤٤٩.
(٢) تقدمت ترجمته.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٢، والرازي ١٣/ ١٦٦، بدون نسبة.
(٤) انظر: "البسيط" نسخة جامعة الإمام ٣/ ٨٠ ب.
(٥) جاء في (أ): (قال يريد) وكأن القائل هو ابن عباس رضي الله عنهما.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٧، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٣.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٣، والسمرقندي ٣/ ٣١٥، والبغوي ٣/ ١٨٢.
397
١٢٠ - قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ الآية. أكثر المفسرين (١): (على أن ﴿ظَاهِرَ الْإِثْمِ﴾ الإعلان بالزنا ﴿وَبَاطِنَهُ﴾ الاستسرار به). فقال ابن عباس: (كانت العرب يحبون الزنا، وكان الشريف يتشرف أن يزني [فيسر (٢) ذلك]، وغيره لا يبالي أن يظهره، فحرم الله الزنا كله، فقال: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ مثل قوله تعالى: ﴿[وَ] (٣) لاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام: ١٥١]) (٤)، وقال الضحاك: (كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالًا ما كان سرًّا فحرم الله تعالى بهذه الآية السر منه والعلانية) (٥). وقال الكلبي (٦): (﴿ظَاهِرَ الْإِثْمِ﴾ الزنا، ﴿وَبَاطِنَهُ﴾ المُخالَّة (٧))، وقال السدِّي: (ظاهره الزنا في الحوانيت وهم أصحاب الرايات، ﴿وَبَاطِنَهُ﴾ الصديقة يزني بها سرًّا) (٨).
(١) حكاه عن أكثر المفسرين البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٢، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٨٦، والفراء في "معانيه" ١/ ٣٥٢، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ١/ ١٦٩، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥١٠، ومكي في "تفسير المشكل" ص ٧٩.
(٢) في (ش): (فيستر ذلك).
(٣) لفظ: (الواو) ساقط من النسخ.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٧، والثعلبي في "الكشف" ١٨٣ أ، عن مرة الهمذاني، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٢، بدون نسبة، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٥٥، و"زاد المسير" ٣/ ١١٣، نحوه عن ابن عباس.
(٥) أخرجه الطبري ٨/ ١٤، بسند ضعيف، وذكره الثعلبي ١٨٣ أ، وابن الجوزي ٣/ ١١٤.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٥.
(٧) المخالة، بالضم: المصادقة، وأصل الخُلَّة والمحبة التي تخللت القلب فصارت في باطنه. انظر: "اللسان" ١٢٥٢ مادة (خلل).
(٨) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٧ بسند جيد.
398
وذهب جماعة (١): (إلى أن الآية عامة في كل إثم) وهو قول مجاهد وقتادة، وجميع أصحاب المعاني، فقال مجاهد: (يعني: ما ينوي من الإثم وما هو عامله) (٢). وقال قتادة: (سره وعلانيته) (٣)، قال ابن الأنباري: (يريد: وذروا الإثم من جميع جهاته، كما تقول: ما أخذت من هذا المال [قليلًا (٤) ولا كثيراً]، يريد: ما أخذته من جميع الوجوه التي يجوز أن يؤخذ منها، كذلك الذنوب كلها لا تخلو من هذين الوجهين) (٥).
وقال أبو إسحاق: (الذي يدل عليه الكلام أن المعنى: اتركوا الإثم ظهر أو بطن، أي: لا تقربوا ما حرم عليكم جهرًا ولا سرًّا) (٦)، وقال غيره (٧): (معنى الآية: النهي عن الإثم مع البيان أنه لا يخرجه من معنى الإثم الاستسرار به، كما كانت الجاهلية ترى في الزنا أنه إثم
(١) وهذا القول هو الراجح وما ذكر من باب التمثيل، وهو اختيار أكثر المفسرين. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٥، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٨٠، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٣٣٢، وقال الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٦٧: (هذا نهي عام في جميع المحرمات، وهو الأصح؛ لأن تخصيص اللفظ العام بصورة معينة من غير دليل غير جائز). اهـ. وقال القرطبي في "تفسيره" ٧/ ٧٤: (للعلماء فيه أقوال كثيرة، وحاصلها راجع إلى أن الظاهر ما كان عملًا بالبدن مما نهى الله عنه، وباطنه ما عقد بالقلب من مخالفة أمر الله فيما أمر ونهى..) اهـ.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٨.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢١٧، والطبري ٨/ ١٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٧ من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٧٨.
(٤) في (أ): (قليلاً أو كثيراً).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١١٤، والرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٦٧.
(٦) "معاني الزجاج" ٣/ ٢٨٧.
(٧) ذكره الرازي ١٣/ ١٦٧، وانظر: السمرقندي ١/ ٥١٠.
399
[إذا أعلن] (١)، فإذا استتر به صاحبه لم يكن إثمًا، كما ذكره الضحاك) (٢). وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ﴾ [إلى آخرها] (٣) توعد على فعل الإثم بالجزاء (٤).
١٢١ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ قال ابن عباس (٥): (يريد: الميتة ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ [المائدة: ٣]) (٦)، وقال الكلبي: (يعني: ما لم يُذكّ ومات قبل أن تدرك ذكاته أو ذبح لغير الله) (٧)، وقال الزجاج: (أي: مما لم يخلص ذبحه الله) (٨)، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ الهاء تعود على الأكل المدلول عليه، يعني: وإن الأكل لفسق، أي: أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة (٩).
(١) في (أ): (إذا علم).
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) في (أ): (إلى آخره).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٥، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٨١، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥١٠.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٨، والبغوي ٣/ ١٨٣، وابن الجوزي في ٣/ ١١٥، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٨، ١٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٨ بسند جيد، عن ابن عباس قال: (يريد: الميتة)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٨.
(٦) يشير إلى الآية الثالثة من سورة المائدة، والمنخنقة هي التي تموت بالخنق، والموقوذة: هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، والمتردية: هي التي تقع من موضع عال أو شاهق فتموت، والنطيحة: هي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، وقد كان بعض أهل الجاهلية يستحلون ذلك ويأكلونه، فحرم الله ذلك على المؤمنين. انظر: السمرقندي ١/ ٤١٤، وابن كثير ٢/ ١٣.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٨.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٧، ومثله ذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٨٠.
(٩) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٢، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢٠، السمرقندي ١/ ٥١٠، و"الدر المصون" ٥/ ١٣٢.
400
قال [ابن عباس] (١): (يريد: عصيان) (٢)، ومعنى الفسق في اللغة (٣): الخروج عن الحق والدين (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ أي: يوسوس الشيطان لوليه فيلقي في قلبه الجدال بالباطل، وهو ما ذكرناه من أن المشركين جادلوا المؤمنين في الميتة (٥)، وأكثر المفسرين: (على أن المراد بالشياطين هاهنا: إبليس وجنوده، وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين وأهل الضلالة ليخاصموا محمدًا - ﷺ - وأصحابه في أكل الميتة) (٦). وقال عكرمة (٧): (﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ﴾ يعني: مردة المجوس ﴿لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾
(١) لفظ: (ابن عباس) ساقط من (أ)، وملحق بالهامش.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٠، وابن أبي حاتم ٣/ ١٠٦، بسند ضعيف.
(٣) الفسق، بكسر الفاء وسكون السين: الخروج عن الطاعة إلى العصيان والترك لأمر الله عز وجل والميل إلى المعصية. قال الراغب في "المفردات" ص ٦٣٦: (وهو أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، لكن تعورف فيما كان كثيراً، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه). اهـ.
وانظر: "العين" ٥/ ٨٢، و"الجمهرة" ٢/ ٨٤٧، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٨٨، و"الصحاح" ٤/ ١٥٤٣، و"المجمل" ٣/ ٧٢١، و"اللسان" ٦/ ٣٤١٤ مادة (فسق).
(٤) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٨٧، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٨٢.
(٥) هذا نص كلام الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٨٧.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣، من عدة طرق، عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعبد الله بن كثير، وقتادة والسدي والضحاك. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٧٨ - ٧٩.
(٧) أخرجه الطبري ٨/ ٢٠، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٧٩ بسند جيد، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص ٢٢٦، ورجح الطبري ٨/ ٢٣ - ٢٤، العموم وتعاونهم في ذلك، لأن الله تعالى جعل للأنبياء أعداء من شياطين الإنس والجن، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٣٣٥.
401
من مشركي قريش، قال: وذلك أن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش -وكانوا أولياءهم في الجاهلية، وكانت بينهم مكاتبة- أن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله فهو حرام، فوقع في أنفس ناس [من المسلمين] (١) من ذلك شيء، فأنزل الله هذه [الآية] (٢).
ثم قال: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ يعني: في استحلال الميتة ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾. قال أبو إسحاق: (وفي هذا دليل أن كل من أحل شيئًا مما حرم الله، أو حرم شيئًا مما أحل الله فهو مشرك، وإنما سمي مشركًا لأنه اتبع غير الله عز وجل، فأشرك به غيره) (٣).
فإن قال قائل: كيف أبحتم ذبيحة المسلم التارك للتسمية والآية كالنَّص في التحريم؟ قيل: إن جميع المفسرين فسروا الآية بالميتة، وأشباهها، مما ذكره ابن عباس ولم يحملها أحد على ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية، وفي الآية أشياء تدل على أن الآية في تحريم الميتة، منها قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ ولا يفسق أكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية بالإجماع، وإنما التفسيق في أكل الميتة مع اعتقاد التحريم، ومنها قوله: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة بإجماع من أهل التفسير، لا في هذه المسألة، ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾، والشرك في [استحلال الميتة
(١) لفظ: (من المسلمين) مكرر في (ش).
(٢) لفظ: (الآية) ساقط من النسخ، وملحق في (أ) بأعلى السطر.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٧، وذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٨٢، عن أهل النظر، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٥ وما بعدها، والسمرقندي ١/ ٥١٠.
402
لا في (١)] استحلال الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها (٢).
١٢٢ - قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾. قرأ نافع (٣) (مَيِّتًا) بالتشديد. قال أهل اللغة (٤): (المَيْتُ، مخففًا: تخفيف ميِّت، ومعناهما واحد ثُقِّلَ أو خُفِّفَ، والمحذوف في (٥) المخفف من الياءين الثانية المنقلبة عن الواو، أُعلت بالحذف كما أعلت بالقلب) (٦) قال ابن عباس (٧)
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٢) ذكر مثل هذا الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٩، والرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٣٨، وقال الطبري في "تفسيره" ١٢/ ٨٥: (الصواب: إن الله عني بذلك ما ذبح للأصنام والآلهة، وما مات أو ذبحه من لا تحل ذبيحته، وأما من قال: عني بذلك ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله فقول بعيد عن الصواب؛ لشذوذه وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله، وكفى بذلك شاهدًا على فساده). اهـ.
وانظر: البغوي ٣/ ١٨٣، وابن عطية ٦/ ١٤٠.
(٣) قرأ نافع (ميتًا) بتشديد الياء مع كسرها، وأسكنها الباقون. انظر: "السبعة" ص ٢٦٨، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٩، و"التيسير" ص ١٠٦.
(٤) الموت: ضد الحياة، يقال: ميت بفتح الميم، وكسر الياء المشددة، وأصله ميْوت على فيعل. وقيل: أصله مويت ثم أدغم ثم خفف، فقيل: ميت بفتح الميم وسكون الياء، والمعنى واحد.
انظر: "العين" ٨/ ١٤٠، و"الجمهرة" ١/ ٤١١، و"البارع" ص ٧٠٤، و"تهذيب اللغة" ١٤/ ٣٤٢، و"الصحاح" ١/ ٢٦٦، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢٨٣، و"المفردات" ص ٧٨١، و"اللسان" ٢/ ٩٠ (موت).
(٥) في (أ): (والمحذوف من المخفف في الياءين).
(٦) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٩٨ - ٣٩٩، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٨٣، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٨.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ١٢/ ٩١، بسند جيد وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٥١ - ٣٥٢.
403
ومجاهد (١) ومحمد بن كعب (٢) وجميع المفسرين (٣): (يعني: من كان كافرًا [ضالًّا] (٤) فهدينا).
قال أهل المعاني: (قد وصف الكفار بأنهم أموات في قوله تعالى: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النحل: ٢١] فلما جعل الكفر موتًا، والكافر ميتًا، جعل الهدى حياة، والهداية إحياء، وإنما جعل الكفر موتًا؛ لأنه جهل، والجهل يؤدي إلى الحيرة والهلكة، والموت كالجهل في أنه لا يدرك به حقيقة، والهدى علم وبصيرة، والعلم يهتدي به إلى الرشد ويدرك به الأمور كما يدرك الحياة (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾. قال ابن عباس: (يعني: دينًا) (٦)، وقال مجاهد: (يعني: الهدى) (٧)، وقال الكلبي: (إيمانًا
(١) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٢، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ١٢/ ٩٠ - ٩١ من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٣٥٢.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) ومنهم مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٨٧، والفراء في "معانيه" ١/ ٢٥٣، وابن قتيبة في تفسير "غريب القرآن" ص ١٥٩، والطبري في "تفسيره" ١٢/ ٨٨، والسمرقندي ١/ ٥١١، ومكي في "تفسير المشكل" ص ٧٩.
(٤) لفظ: (ضالًا) ساقط من (أ).
(٥) بعضه في "الحجة" لأبي علي ٣/ ٩٨، وذكره الرازي ١٣/ ١٧٣١ عن أهل المعاني، وانظر: "الفتاوى" ١٩/ ٩٤، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٧٨.
(٦) أخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣، بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني بالنور: القرآن) اهـ. وأخرج بسند ضعيف عنه قال: (يقول: الهدى). وقال السيوطي في "الدر" ٣/ ٨١: (أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: (يعني بالنور: القرآن) اهـ.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨١، وفي "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٣، قال: (يعني: الإيمان) اهـ.
404
﴿يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ مع المسلمين) (١)، وقال ابن زيد: (يعني: الإِسلام) (٢)، وهذا الأقوال سواء (٣)، قال أصحاب المعاني الزجاج (٤) وأبو علي (٥): (المؤمن مستضيء في الناس بنور الحكمة والإيمان فيراد بالنور هاهنا: نور الحكمة التي يؤتاها المسلم بإسلامه)، وقال قتادة: (النور هاهنا كتاب الله بينة من الله مع المؤمن، بها يعمل، وبها يأخذ، وإليها ينتهي) (٦)، وهو قول الحسن قال: (هو القرآن) (٧)، قال أبو علي: (ويجوز أن يراد به النور المذكور في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد: ١٢]، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ إلى قوله: ﴿نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [الحديد: ١٣]) (٨).
وقوله: ﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾. قال المفسرون: (يعني: الكافر [يكون] (٩) في ظلمات الكفر والضلالة) (١٠). ومعنى: ﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ كمن هو في الظلمات، والعرب (١١) تزيد مثل في الكلام،
(١) لم أقف عليه، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٣.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣، بسند جيد.
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٧٢، وابن كثير ٢/ ١٩٢.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٨.
(٥) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٩٩.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨١.
(٧) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٦٣، وابن الجوزي ٣/ ١١٧.
(٨) الحجة لأبي علي ٣/ ٣٩٩.
(٩) لفظ: (يكون) ساقط من (أ).
(١٠) ومنهم الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣، وأخرجه من عدة طرق عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد.
(١١) انظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص ٢ - ٣.
405
ولا يريدون به التشبيه، كقولهم: أنا أكرم مثلك. أي: أنا أكرمك، وعلى هذا يتوجه قوله تعالى: ﴿فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ [مِنَ النَّعَمِ]﴾ (١) [المائدة: ٩٥] فيمن أضاف (٢)؛ لأن معناه: فجزاء ما قتل، لا جزاء مثله.
ومن هذا قل (٣) في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ليس كهو شيء (٤)، والتقدير في الآية: أفمن جعلنا له نورًا (٥) يمشي به كمن هو في الظلمات، والمِثْل والمَثل (٦) واحد.
ويجوز أن يكون المعنى: كمن مثله الذي هو شبه له في الظلمات، وإذا كان مثله في الظلمات كان هو أيضًا فيها، فأخبر عن مثله، أي: شبهه، والمراد به: الكافر لا شبيهه، وهذان القولان معنى ما ذكره أبو علي (٧) في هذه الآية، وقال غيره من النحويين (٨): (معنى الآية: كمن في الظلمات، وزيد المثل لأنه يفيد أنه يُضرب به المثل في ذلك). وقال بعضهم: (التقدير كمن مثله مثل من في الظلمات، أي: كمن لو شبه بشيء كان شبيهه من في
(١) لفظ: (من النعم) ساقط من (أ).
(٢) يعني: على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر (فجزاءُ مِثْلِ ما قتل)، بضم (فجزاءُ) من غير تنوين مضافة وجر (مثل). انظر: "السبعة" ص ٢٤٧، و"المبسوط" ص ١٦٣، ١٦٤، و"التذكرة" ٢/ ٣٩٠.
(٣) كذا في النسخ، والأولى: (ومثل هذا قل في قوله).
(٤) انظر: "معاني الحروف" للرماني ص ٤٨، ٤٩، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٩١.
(٥) في (أ): (نوران)، وهو تحريف.
(٦) المثل بكسر الميم وسكون الثاء، والمثل بالفتح، واحد، بمعنى: التسوية، انظر: "اللسان" ٧/ ٤١٣٢ (مثل).
(٧) انظر: "الحجة" لأبي علي ٣/ ٢٥٦ - ٢٥٧، وهو نص كلامه مع زيادة شرح من الواحدي.
(٨) لم أقف عليه.
406
الظلمات) وهذا قول الحسين بن الفضل (١)، وهو أضعف هذه الأقوال.
وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾. قال الكلبي: (ليس بمؤمنٍ أبدًا) (٢)، واتفق المفسرون على أن هذه الآية نزلت في مؤمن وكافر، وأجمعوا على أن الكافر أبو جهل (٣).
واختلفوا في المؤمن من هو؟
فقال ابن عباس: (يريد: حمزة بن عبد المطلب، وذلك أن أبا جهل رمى النبي - ﷺ - بفرث، وحمزة يومئذ لم يؤمن، فأخبره حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه، وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى [علا] (٤)، أبا جهل بالفرس، وهو يتضرع إليه ويستكين، ويقول: أما ترى ما جاء به، سفه عقولنا، وسب آلهتنا، فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا شريك له (٥)] وأن محمدًا رسوله، فأنزل الله هذه الآية) (٦).
وقال مقاتل: (نزلت في النبي - ﷺ - وأبي جهل، وذلك أنه قال: زاحمنا
(١) ذكر هذا القول الثعلبي في "الكشف" ١٨٣ ب بدون نسبة.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٢، بدون نسبة، وقال مجاهد في "تفسيره" ١/ ٢٢٣: ﴿لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ أي: الضلالة أبدًا).
(٣) حكى الاتفاق أيضًا ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٢٣٧.
(٤) لفظ (علا)، ساقط من أصل (أ)، وملحق بأعلى السطر.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٦) ذكره أكثرهم.
انظر: الثعلبي ص ١٨٣ ب، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٢٢٤، والبغوي ٣/ ١٨٤، وابن الجوزي ٣/ ١١٦، والرازي ١٣/ ١٧٢، والقرطبي ٧/ ٧٨، وذكر القصة دون ذكر الآية ابن هشام في "السيرة" ١/ ٣١٢، ٣٧٦، والحاكم في "المستدرك" ٣/ ١٩٢ - ١٩٣.
407
بنو (١) عبد [مناف] (٢) في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان (٣) قالوا. منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدًا، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فأنزل الله هذه الآية، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ﴾ الآية [الأنعام: ١٢٤]) (٤).
قال الزجاج: (على هذا القول فالنبي - ﷺ - هُدى، وأعطي نور الإسلام و [النبوة] (٥) والحكمة، وأبو جهل في ظلمات الكفر) (٦).
وقال عكرمة (٧) والكلبي (٨): (نزلت في عمار بن ياسر، وأبي جهل).
وقال الضحاك (٩)، ويمان: نزلت في عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأبي جهل) (١٠).
(١) في (أ): (بني)، وهو تحريف.
(٢) لفظ: (مناف)، ساقط من (ش).
(٣) كَفَرسي رهان: أي: يتسابقان إلى غاية. وفرس بالفتح: واحد الخيل. ورهان بالكسر: المسابقة على الخيل. انظر: "النهاية" لابن الأثير ٣/ ٤٢٨ - ٤٢٩، و"اللسان" ٦/ ٣٣٧٨ (فرس)، ٣/ ١٧٥٨ (رهن).
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٧.
(٥) لفظ: (النبوة) ساقط من (أ).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٨.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٢ بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨١، وحكاه ابن الجوزي ٣/ ١١٦ عن ابن عباس.
(٨) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٦، وذكره السمرقندي ١/ ٥١١، والثعلبي ص ١٨٣/ ب، والماوردي ٢/ ١٦٤، والبغوي ٣/ ١٨٥، عن الكلبي.
(٩) أخرجه الطبري ٨/ ٢٢ بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨١.
(١٠) لم أقف عليه عن يمان وحكاه النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٨٣، عن السدي، والماوردي ٢/ ١٦٣ عن مقاتل، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٢، عن زيد بن أسلم، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٨١ عن ابن عباس.
408
وقال الحسن (١): (الآية عامة [في كل مؤمن وكافر، ولم تنزل في مؤمن وكافر مخصوصين)، وهو قول الزجاج: (يجوز أن تكون هذه الآية (٢) عامة] لكل من هداه الله، ولكل من أضله، فاعلم أن مثل المهتدي مثل الميت الذي أُحيي، وجُعل مستضيئًا في الناس بنور الحكمة والإيمان، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات الذي لا يتخلص منها) (٣).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: زين الشيطان لهم عبادة الأصنام) (٤). وأما وجه التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ فالمعنى: زين لهم الكفر فعملوه كما زين لأولئك الإيمان، فشبهت حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه (٥).
وقال أبو إسحاق: (موضع الكاف رفع، المعنى: مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين عملهم) (٦).
(١) ذكره الماوردي ٢/ ١٦٣، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٢، وابن الجوزي ٣/ ١١٦.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٨، وهذا القول هو الراجح، فالآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر، وهو اختيار القرطبي في "تفسيره" ٧/ ٧٨، وابن كثير ٢/ ١٩٢، وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٨٣: (الذي يوجب المعنى أن يكون عامًّا إلا أن تصح فيه رواية). اهـ. وقال الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٧٣: (الحق أن الآية عامة؛ لأن المعنى إذا كان حاصلًا في الكل كان التخصيص محض تحكم، إلا إذا قيل: إن النبي - ﷺ - قال: "إن مراد الله تعالى من هذه الآية العامة فلان بعينه". اهـ ملخصًا.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٥.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٤، والسمرقندي ١/ ٥١١، وابن عطية ٥/ ٢٣٧.
(٦) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ١٣٤، وقال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٨٨، عند قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾ (موضع الكاف نصب معطوفة على ما قبلها =
409
١٢٣ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾ الآية، ﴿وَكَذَلِكَ﴾ عطف على ﴿كَذَلِكَ﴾ في الآية الآولى، أي: ومثل ذلك جعلنا في كل قرية، أي: كما زينا للكافرين أعمالهم كذلك (١) جعلنا.
قال المفسرون (٢): (يعني: كما إن فساق مكة أكابرها، كذلك جعلنا فساق كل قرية أكابرها).
قال ابن عباس: (أكابر مجرمي مكة المستهزئون المقتسمون عقاب (٣) مكة) (٤).
قال الزجاج: (إنما جعل الأكابر المجرمين؛ لأنهم بما هم فيه من الرئاسة والسعة أدعى لهم المكر والكفر، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: ٢٧]) (٥).
= وهو قوله: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ المعنى: مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين عملهم وكذلك جعلنا) اهـ. وقال الهمداني في "الفريد" ٢/ ٢٢٣: (الكاف يحتمل أن يكون في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فعلنا لهذه الأشياء المتقدم ذكرها، وهي إحياء الميت وجعل النور له، وذكرنا لمن مثله في الظلمات مثل تزييننا للكافرين عملهم، أو في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: فعلنا هذه الأشياء فعلًا مثل فعلنا للتزيين) اهـ.
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٨، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢٤.
(٢) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥١١، و"الثعلبى" ١٨٣ ب.
(٣) عقاب، بكسر العين: مرقى صعب من الجبال، وكل طريق بعضه خلف بعض، وعقب كل شيء: آخره. انظر: "اللسان" ٥/ ٣٠٢٩ (عقب).
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٧، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٣.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٨، وزاد أيضًا قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ [الزخرف: ٣٣] وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٨٤.
410
والأكابر جمع الأكبر الذي هو اسم (١). والآية على التقديم والتأخير، تقديره: جعلنا مجرميها أكابر، ولا يجوز أن يكون الأكابر مضافة؛ [لأنه] (٢) لا يتم المعنى، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل؛ لأنك إذا قلت: جعلت زيدًا، وتسكت لم يُفد الكلام حتى تقول: رئيسًا أو ذليلاً، أو ما أشبه ذلك، لاقتضاء الجعل مفعولين، ولأنك إذا أضفت الأكابر فقد أضفت النعت إلى المنعوت، وذلك لا يجوز عند البصريين (٣).
وقوله تعالى: ﴿لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾. قال مجاهد: (هو أنهم أجلسوا على كل طريق أربعة، واقتسموا عقاب مكة، فذلك مكرهم) (٤)، ومعنى
(١) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٧، و"الطبري" ٨/ ٢٤، و"الدر المصون" ٥/ ١٣٦.
(٢) لفظ: (لأنه) ساقط من (ش).
(٣) ذكر نص كلام الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٧٤٠ بدون نسبة، وقال مكي في "المشكل" ١/ ٢٦٨، وابن الأنباري في "البيان" ١/ ٣٣٨، (مجرميها) مفعول أول لجعلنا، (أكابر) مفعول ثانٍ مقدم. اهـ. وقال السنن في "الدر" ٥/ ١٣٤ - ١٣٦: (جعل تصيير به، فتتعدى لاثنين، واختلف في تقديرهما، والصحيح أن يكون (في كل قرية) مفعولا ثانيًا قدم على الأول، والأول (أكابر) مضافًا لمجرميها..) اهـ. ثم ذكر قول الواحدي، وقال: (هذان الوجهان اللذان رد بهما الواحدي ليسا بشيء، أما الأول فلا نسلم أنا نضمر المفعول الثاني، وأنه يصير الكلام غير مفيد، وأما ما أورده من الأمثلة فليس مطابقًا لأنا نقول: إن المفعول الثاني مذكور مصرح به، وهو الجار والمجرور السابق، وأما الثاني فلا نسلم أنه من باب إضافة الصفة لموصوفها؛ لأن المجرمين أكابر وأصاغر فأضاف للبيان لا لقصد الوصف، وانظر: "غرائب التفسير" ١/ ٣٨٣، و"التبيان" ٣٥٧، و"الفريد" ٢/ ٢٢٤.
(٤) الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٣، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١١٨، والقرطبي ٧/ ٧٩، وذكره البغوي ٣/ ١٨٥ بدون نسبة.
411
قوله: جعلناهم (١) ﴿لِيَمْكُرُوا﴾ بيان أنهم لم يمكروا مُعاداة لله، بل جعلهم أكابر ليمكروا تكذيبًا للقدرية في مسألة التعديل والتجوير (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ﴾. قال ابن عباس: (يريد: ما يحيق هذا المكر إلا بهم؛ لأنهم بمكرهم يعذبون) (٣)، كأنه قيل: ما يضرون بذلك المكر إلا أنفسهم؛ لأن وبال مكرهم يعود عليهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أنهم يمكرون بها (٤)، قال ابن عباس: (لأنهم يقتلون ويصيرون إلى العذاب) (٥).
١٢٤ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ الآية، قد ذكرنا قول مقاتل في سبب نزول هذه الآية، وقال غيره من المفسرين: (إن الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النبوة حقًّا، لكنت أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنًا وأكثر منك مالاً، فأنزل الله هذه الآية) (٦)، وقال الضحاك: (سئل كل واحد من القوم أن يخص بالوحي والرسالة كما أخبر الله عنهم في قوله: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ [المدثر: ٥٢] (٧)، وظاهر الآية يدل على هذا؛ لأن الكناية في قوله:
(١) هكذا العبارة في النسخ، وهي لا تستقيم، ولعل فيه سقطًا، أو الصواب: ومعنى (ليمكروا) جعلناهم ليمكروا، وفيه بيان أنهم لم يمكروا.
(٢) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٧٤.
(٣) لم أقف عليه، وهو نص كلام الزجاج في معانيه ٢/ ٢٨٨.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٨٤، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥١١.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٣.
(٦) ذكره أكثرهم. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٨، والسمرقندي ١/ ٥١١، والثعلبى ١٨٣ ب، والبغوي ٣/ ١٨٥، والرازي ١٣/ ١٧٥، والقرطبي ٧/ ٨٠.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٣، وابن الجوزي في "تفسيره" ١٣/ ١٧٥.
412
﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ﴾ تعود على الأكابر (١) الذين جرى ذكرهم، فعلى هذا أراد القوم أن تكون لهم النبوة والرسالة كما كانت لمحمد عليه السلام.
وقال ابن عباس: (﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ يريد: من علم الغيب الذي أطلع الله نبيه عليه مما يخبرهم به ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ﴾ لن نصدق ﴿حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ يريد: حتى يوحي إلينا ويأتينا جبريل فنصدق) (٢)، وعلى هذا: القوم لم يريدوا النبوة وإنما طلبوا أن تخبرهم الملائكة بصدق محمد كما قالوا: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٩٢]، وكما قالوا: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ [الأنعام: ٨]. والأول أقوى (٣) لقوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ يعني: أنهم ليسوا لها بأهل، وعلى قول ابن عباس يتوجه هذا على أن (٤) من أرسل إليه الملك وكلمه عيانًا حصلت له منزلة الرسل ومرتبة الأنبياء، وليسوا هم لهذا بأهل.
ومعنى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ هو أعلم بمن يختص بالرسالة، قال أبو علي: (لا يجوز أن يكون العامل في ﴿حَيْثُ﴾ ﴿أَعْلَمُ﴾ هذه الظاهرة، ولا يجوز أن يكون ﴿حَيْثُ﴾ ظرفًا؛ لأنه يصير التقدير: الله أعلم في هذا الموضع، ولا يوصف الله سبحانه بأنه أعلم في مواضع أو أوقات؛ لأنه علمه لا يختلف بالزمان والمكان، فإذا كان كذلك
= والرازي ١٣/ ١٤٣.
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٨ - ٢٨٩، و"تفسير الرازي" ١٣/ ١٧٥.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٨، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٤، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١١٨، والرازي ١٣/ ١٧٥، والخازن ٢/ ١٨٠.
(٣) وهو اختيار القرطبي في "تفسيره" ٧/ ٨٠، وقال الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٧٦: (القول الأول هو المشهور، وقال المحققون: هو أقوى وأولى) اهـ. ملخصًا.
(٤) لفظ: (أن) ساقط من (أ).
413
كان العامل في ﴿حَيْثُ﴾ فعلًا يدل عليه ﴿أَعْلَمُ﴾ و ﴿حَيْثُ﴾ لا يكون ظرفاً بل يكون اسمًا، ويكون انتصابه انتصاب المفعول به [على الاتساع، ومثل ذلك في انتصاب ﴿حَيْثُ﴾ على المفعول به] (١) قول الشماخ:
وَحَلأها (٢) عَنْ ذي الأَراكَةِ عَامِرٌ أَخو الخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّواحِزُ (٣)
فحيث مفعول به؛ لأنه ليس يريد: أنه يرمي شيئًا حيث (٤) تكوى النواحز: إنما يريد: أنه يرمي ذلك الموضع، فحيث تكوى النواحز مفعول به) (٥).
وقال الحكماء: (الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل مبعثهم مطاعين في قومهم؛ لأن الطعن كان يتسع عليهم، فيقال: إنما كانوا أكابر
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٢) في النسخ: (وجلاهما)، وهو خلاف ما في المراجع الآتية.
(٣) "ديوانه" ص ٦٥، و"المعاني الكبير" ٢/ ٧٨٣، و"جمهرة أشعار العرب" ٢/ ٨٢٨، و"البحر" ٤/ ٢١٦، و"الدر المصون" ٥/ ١٣٧. وحلأها، أي: منع الحُمر من الماء. انظر: "اللسان" ٢/ ٣٨٢ (حلا). وذو الأراكة: اسم مكان، وهو نخل وماء باليمامة. انظر: "معجم البلدان" ١/ ١٣٥. وعامر أخو الخضر، اسم وكنية لرام من أمهر الرماة وقانص مشهور يقال له: الرامي. والخضر: بضم الخاء وسكون الضاد هم ولد مالك بن مطرف المحاربي، سموا بذلك لشدة سمرتهم.
انظر: "الإصابة" ٢/ ٢٦١. والنواحز: الإبل المصابة بالنحاز، وهو داء من عوارضه سعال شديد، وعلاجه الكي في الرقاب والأجناب. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٣٦٦ (نحز).
(٤) في (أ): (حيث يكون تكوى)، وهو تحريف.
(٥) انظر: "الحجة" لأبي علي ١/ ٣٥، ٣/ ٢٤٤، و"كتاب الشعر" ١/ ١٧٨، و"التبيان" ٣٥٧، و"الفريد" ٢/ ٢٢٥، و"الدر المصون" ٥/ ١٣٧.
414
رؤساء فاتبعوا، فكان الله تعالى أعلم حيث جعل الرسالة ليتيم أبي طالب دون أبي جهل والوليد بن المغيرة، وأكابر مكة) (١).
وقوله تعالى: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾، الصغار (٢) الذل الذي يصغر إلى المرء نفسه، قال الليث: (يقال من الصغر ضد الكبر: صَغُر (٣) يَصْغُر صِغَرًا، فهو صغير، وأما الصَّغار فهو مصدر الصغير في القَدْر، يقال منه: صَغِر (٤) يَصْغَر وصَغِر يَصغُر صَغَرًا وصَغَارًا، فهو صاغِرٌ، ويقال أيضًا في المصدر: صَغَرًا (٥) وهو الذل، والصاغِرُ: الراضي بالذل، والصُّغرِ) (٦).
[قال أبو إسحاق] (٧) (أي: هم وإن كانوا أكابر في الدنيا فسيصبهم
(١) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٨٩، وحكاه الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٤، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١١٨، و"الخازن" ٢/ ١٨٠، عن أهل المعاني.
(٢) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٧٣٩، و"البارع" ص ٢٩٣، و"الصحاح" ٢/ ٧١٣، و"المجمل" ٢/ ٥٣٤، و"المفردات" ص ٤٨٥ (صغر).
(٣) صَغُر: بفتح الصاد، وضم الغين، يَصْغُر: بضم الغين. صِغَرًا: بكسر الصاد، وفتح العين. انظر: "العين" ٤/ ٣٧٢.
(٤) صَغِر: بفتح الصاد وكسر الغين. يَصْغَر: بفتح الغَين. وصَغِر: بفتح الصاد وكسر الغين. يصغرُ: بضم الغين. صُغْرًا: بالفتح. وصغارًا: بالفتح.
(٥) يقال: صغر يصغر: بضم الغين. صغرًا: بضم الصاد وسكون الغين، ويقال: صَغر يصغَر: بفتح الغين. صِغْرًا: بكسر الصاد، وسكون الغين. ويقال: صَغُر: بضم الغين وفتحها، من الذل. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٤٥٣ (صغر)، و"الدر السمين" ٥/ ١٤٠.
(٦) "تهذيب اللغة" ٨/ ٢٣ - ٢٤، وفيه قال الليث: (يقال: صَغر يَصْغَر صَغَرًا وصَغَارًا، فهو صاغر، إذا رضي بالضيم وأقرَّ به. ويقال: من الصغر ضد الكبر. صَغُر يَصْغُر صِغَرًا، وأما الصَّغَار فهو مصدر الصغير في القدر) اهـ.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
415
صغار عند الله، أي: مذلة و ﴿عِنْدَ﴾ متصلة بـ ﴿سَيُصِيبُ﴾، المعنى: سيصيبهم عند الله صغار، قال وجائز أن يكون ﴿عِنْدَ﴾ متصلة بصغار فيكون المعنى: سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت عند الله لهم) (١).
قال أبو علي: (يحتمل أن يكون ﴿عِندَ﴾ متصلة بـ ﴿سَيُصِيبُ﴾ ومعمولًا له، كما قال (٢)، [كأنه] (٣) سيصيب عند الله الذين أجرموا صغار، ويجوز أن يكون ﴿عِندَ﴾ معمولًا لصغار، والعامل فيه صغار نفسه؛ لأنه مصدر فلا يحتاج إلى تقدير محذوف في الكلام كما قدّره أبو إسحاق في قوله: صغار ثابت عند الله، لكن نفس المصدر يتناوله ويعمل فيه، والدليل على أن الصغار مصدر قوله:
وإذا تكُونُ (٤) شَديِدَة أُدْعَى لَها وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدْعَى جُنْدَبُ
هَذَا لَعَمْرِكُمْ الضغَارُ بَعَيْنِهِ لا أُمَّ لي إِنْ كَانَ ذاكَ ولا أبُ (٥)
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٩.
(٢) قوله: (كما قال) يريد الزجاج، في تقديره السابق.
(٣) لفظ: (كأنه) ساقط من (ش).
(٤) في (ش): (يكون).
(٥) البيتان مختلف في نسبتهما وهما في: "اللسان" ٢/ ١٠٦٩. (حيس) لهنى بن أحمر الكناني أو لزرافة الباهلي أو لغيرهما كما في "شرح شواهد المغني" للسيوطي ٢/ ٩٢١، وهما بلا نسبة في "معاني الفراء" ١/ ١٢١ - ١٢٢، والأول في "الأضداد" لابن الأنباري ص ١٢٠.
والشاهد في: البيت الأخير وهو: لرجل من بني مذحج في "الكتاب" ٢/ ٢٩١ - ٢٩٢، و"الأصول" ١/ ٣٨٦، ولهنى الكناني في "الكتاب" ١/ ٣١٩، وبلا نسبة في: "معاني الأخفش" ١/ ٢٥، و"المقتضب" ٤/ ٣٧١، و"الجمل" للزجاجي ص ٢٣٩، و"الحجة" لأبي علي ١/ ١٩٠، و"معاني الحروف" للرماني ص ٨٢، و"اللمع" ص ٩٩، و"رصف المباني" ص ٣٣٨، و"المغني" ٢/ ٥٩٣. والحَيْسُ، بفتح الحاء وسكون الياء: الأقط يخلط بالتمر والسمن.
416
والتقدير فيه إذا كان مصدرًا: أن يصغروا عند الله، وعلى هذا التأويل لا وجه لتقدير ثابت في الكلام؛ لأن الفعل (١) نفسه يعمل فيه، ألا ترى أنك لو قلت: ضرب زيد خلفك عمرًا (٢) حسن لكان المصدر يعمل في خلفك، ويعمل في عمرو وينتصب به، وكذلك صغار، والمعنى: صغارهم، ولم يضف المصدر إليهم؛ لأن في الكلام دليلًا عليه، كما حُذف المضاف إليه في قوله: ﴿دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾ [فصلت: ٤٩] و ﴿بِسُؤَالِ (٣) نَعْجَتِكَ﴾ [ص: ٢٤] هذا إذا جعلت صغارًا مصدرًا، فإن قدرته موصوفًا لم يكن ﴿عِندَ﴾ معمولًا لصغارِ ولكن يكون متعلقَّا بمحذوف، ولابد على هذا من تقدير ثابت ونحوه مما يكون صفة ثم حذف وأقيم الظرف مقامه للدلالة عليه، وهذا كقولك وأنت تريد الصفة: هذا رجل خلفك، فالمعنى: رجل ثابت أو مستقر خلفك، وكلا الوجهين جائز، ولا يجوز على واحد منهما تقديم ﴿عِندَ﴾ على ﴿صَغَارٌ﴾ كما جاز تقدير تقديمه إذا كان معمولًا لسيصيب، إلا أن الوجه الأول من هذين الوجهين أعجب إليّ، وإن كان الثاني حسنًا؛ لأن صغارًا مصدر، والمصادر تعمل أعمال الفعل وتقوم مقامه، فإذا أعملت عمل الفعل وقامت مقامه، لم يحسن وصفه كما لا يحسن وصف الفعل) (٤).
(١) في (أ): (لأن الفعل يعمل نفسه يعمل فيه)، وهو تحريف.
(٢) في (أ): (عمروًا).
(٣) في النسخ: (وسؤال)، وهو تحريف.
(٤) "الإغفال" ص ٩٦٥ - ٦٩٨، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٣، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٨٤، و"الفريد" ٢/ ٢٢٥، و"الدر المصون" ٥/ ١٤٠.
417
١٢٥ - قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ الآية، قال الليث: (يقال: شرح الله صدره فانشرح، أي: وسع (١) صدره لقبول الخير فتوسع) (٢).
وقال غيره: (شرح فلان أمره إذا أوضحه وأظهره، وشرح مسألةً إذا كانت مشكلةً فبيّنها) (٣).
وقال أبو العباس عن ابن الأعرابي: (الشرح: الفتح، والشرح: البيان) (٤)، فقد ثبت للشرح (٥) معنيان: أحدهما: الفتح، ومنه يقال: شرح الكافر بالكفر صدرًا. أي: فتحه لقبوله، ومنه قول الله عز وجل: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ [النحل: ١٠٦]. وقوله: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ [الزمر: ٢٢] أي: فتحه ووسعه له، ومن هذا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١)﴾ [الشرح: ١].
قال الكلبي: (﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ﴾ قلبه ويلينه ليقبل الإسلام) (٦).
والذي يدل على أن الشرح معناه: الفتح والتوسيع، وصف الكافر بضده من تضييق قلبه، وهو قوله تعالى: ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: ١٢٥]. قال المفسرون: (ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله - ﷺ - فقيل له: كيف يشرح صدره؟ فقال: "بنور يقذف فيه حتى ينفسح وينشرح"،
(١) في (ش): (أي: وسع الله).
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥١.
(٣) هذا في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥١، كأنه من قول الليث.
(٤) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥١. وفيه أيضًا: (الشرح الحفظ والفهم). اهـ.
(٥) انظر: "العين" ٣/ ٩٣، و"الجمهرة" ١/ ٥١٣، و"الصحاح" ١/ ٣٧٨، و"المجمل" ٢/ ٥٢٨، و"المفردات" ص ٤٤٩، و"اللسان" ٤/ ٢٢٢٨ (شرح).
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٥٨.
418
فقيل له: وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت" (١).
روي (٢) ذاك عن ابن عباس (٣) ثم قال: (وكذلك كان أصحاب رسول الله - ﷺ -) (٤).
ويروي أن ابن مسعود (٥) كان السائل.
(١) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص ١٠٦، ووكيع ١/ ٢٣٨، وعبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢١٧، وابن أبي شيبة في "المصنف" ٧/ ٩٨ (٣٤٣٠٣)، وابن قتيبة في "عيون الأخبار" ٢/ ٣٢٨، والطبري ٨/ ٢٦، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٨٤ وأبو الشيخ في "طبقات أصبهان" ١/ ٤٥٢، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥١٢، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ١/ ٣٩٨، من طرق معلولة بالإرسال أو الضعف، وأصله مرسل يروى عن عبد الله بن المسور الهاشمي المدائني ضعيف متهم بالوضع. انظر: "العلل المتناهية" لابن الجوزي ٢/ ٣١٨، و"شرح علل الترمذي" لابن رجب ٢/ ٧٧٢، و"لسان الميزان" ٣/ ٣٦٠. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٣، وزاد نسبته إلى (سعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن المسور). وذكر ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٩٥، عدة طرق للحديث ثم قال: (هذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً، والله أعلم). اهـ.
(٢) لفظ: (روى) ساقط من (ش).
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٣٨٤ بسند ضعيف.
(٤) هذه الزيادة لم أقف عليها.
(٥) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٧/ ٩٨ (٣٤٣٠٣)، والطبري ٨/ ٢٦، والحاكم ٤/ ٣١١، وسكت عنه، وقال الذهبي في "التلخيص": (فيه عدي بن الفضل ساقط)، وقال ابن كثير ٢/ ١٩٥: (أخرجه ابن أبي حاتم)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٣، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في "الشعب" من طرق عن ابن مسعود.
419
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾. وقرأ ابن كثير (١): (ضيقًا) ساكنة الياء، وهو من باب المَيِّت والمَيْت في أن المخفف مثل المشدد في المعنى.
قال أبو علي: (والياء مثل الواو في الحذف، وإن لم تعتل بالقلب كما اعتلت الواو به اتبعت الياء الواو في هذا، كما اتبعت في قولهم: اتَّسَر من الميسر فجعلت بمنزلة اتَّعدَ) (٢).
وقال أبو بكر بن الأنباري: (الذي يثقل الياء يقول: وزنه من الفعل فَعِيل، والأصل فيه ضييق على مثال: كريم ونبيل، فجعلوا الياء الأولى ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها من حيث أعلوها في ضاق يضيق، ثم أسقطوا الألف لسكونها وسكون ياء فعيل، فأشفقوا من أن يلتبس فعيل بفعْل فزادوا ياء على الياء ليكمل بها بناء الحرف ويقع بها فرق ما بين فَعِيل وفَعْل، والذين خففوا الياء قالوا: قد وضح أصل الحرف وعرف التشديد فخفف عند الثقة بأنه لا يلتبس بغيره.
قال: وقال البصريون: وزنه من الفِعل فَيْعِل فأدغمت (٣) الياء في الياء التي بعدها فوجب التشديد، ثم جاز التخفيف بعد، قال: وردّ الفراء وأصحابه هذا، وقالوا: لا يعرف في كلام العرب اسم على مثال فَيْعِل،
(١) قرأ ابن كثير (ضيقا) بسكون الياء المخففة، وقرأ الباقون بكسر الياء المشددة. انظر: "السبعة" ص ٢٦٨، و"المبسوط" ص ١٧٤، و"التذكرة" ٢/ ٤١٠، و"التيسير" ص ١٠٦، و"النشر" ٢/ ٢٦٢.
(٢) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤٠٠، وزاد: (الضَّيْق والضَّيِّق مثل المَيْت والمَيِّت في أن المحذوف مثل المُتمِّ في المعنى) اهـ وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٨٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٩، ولابن زنجله ص ٢٧١، و"الكشف" ١/ ٤٥٠.
(٣) جاء في الأصول: (فاندغمت)، وهو تحريف.
420
إنما المعروف في كلامهم فَيْعَل (١) نحو صيقل وهيكل، فمتى ادعى مدع في اسم معتلٍّ ما لا يعرف في السالم كانت دعواه مردودة غير مقبولةٍ) (٢)، والحرج: الشديد الضيق، في قول جميع (٣) أهل اللغة، ورجل حَرَج (٤) وحَرِج: ضيق الصدر، وقال:
لا حَرِجُ الصدرِ ولا عنيفُ (٥)
وقد حَرِج (٦) صدره أي: ضاق فلا ينشرح لخيرٍ، وقرئ (٧) (حرجًا) بكسر الراء وفتحها (٨).
(١) أي: بفتح العين. والتي قبلها بكسرها. انظر: "الدر المصون" ٥/ ١٤٢.
(٢) "الدر المصون" ٥/ ١٤١ - ١٤٢. وانظر: "الإنصاف" ٢/ ٧٩٥.
وقال السمين: (وزن ضيِّق فَيْعِل كميت وسيد عند جمهور النحويين، ثم أدغم ويجوز تخفيفه) اهـ.
وانظر: "معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص ١٦٩.
(٣) انظر: "الجمهرة" ١/ ٤٣٦، و"الصحاح" ١/ ٣٠٥، و"المجمل" ١/ ٢٣٠، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٥٠، و"المفردات" ص ٢٢٦ (حرج).
(٤) (حرج) بفتح الحاء والراء، وكسر الراء.
(٥) هذا رجز لم أهتد إلى تمامه وقائله. وهو في "العين" ٣/ ٧٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٧٧٥، و"اللسان" ٢/ ٨٢١ (حرج)، و"الدر المصون" ٥/ ١٤٢.
(٦) جاء في (أ): (وقد أحرج صدره)، ولعله تحريف، وأصل العبارة من "تهذيب اللغة" ١/ ٧٧٥ (حرج).
(٧) قرأ نافع، وعاصم في رواية: (حرجًا) بكسر الراء، وقرأ الباقون بفتحها.
انظر: "السبعة" ص ٢٦٨، و"المبسوط" ص ١٧٥، و"الغاية" ص ٢٤٩، و"التذكرة" ٢/ ٤١٠، و "التيسير" ص ١٠٦، و"النشر" ٢/ ٢٦٢.
(٨) في (أ): (وفتحه).
421
قال الفراء: (وهو في كسره ونصبه بمنزلة الوَحَد والوَحِد والفرد والفَرِد والدَنَف (١) والدّنِف) (٢).
وقال الزجاج: (الحرجُ في اللغة: أضيق الضيق، ومعناه: أنه ضيق جدًّا، فمن قال: رجل حَرَج الصدر، فمعناه: ذو حرج في صدره، ومش قال: حَرِج جعله فاعلاً، وكذلك رجل دنَف: ذو دَنَف، ودَنِفٌ نعت) (٣)، ونحو هذا قال أبو علي في القراءتين، قال: (من (٤) فتح الراء كان وصفًا بالمصدر، مثل: قَمَنٍ وحَرًى ودَنَفٍ، ونحو ذلك من المصادر التي يوصف (٥) بها، ولا يكون كبطل؛ لأن اسم الفاعل في الأمر العام من فَعِل إنما يجيء على فَعِلٍ، ومن قرأ (حَرِجًا) فهو مثل دنِفٍ وفَرِقٍ) (٦).
(١) الدنف: بتشديد الدال المفتوحة، وفتح النون وكسرها، المرض. انظر: "اللسان" ٣/ ١٤٣٢ (دنف).
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٣ - ٣٥٤، ومثله ذكر الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٩، وانظر: "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص ٥٨٠، و"الزاهر" ص ٢٣٦.
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٣٤، وفي "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٠، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٧٩، نحوه، وقال السمين في "الدر" ٥/ ١٤٢: (فرق الزجاج والفارسي بينهما فقالا: المفتوح مصدر، والمكسور اسم فاعل) اهـ.
(٤) قَمِنٌ بمعنى: حَرِيّ، يقال: هو قمن أن يفعل ذلك بفتح الميم أي: حَرِيٌّ وجدير، فمن قال بالفتح أراد المصدر، ومن قال بالكسر أراد النعت. انظر. "اللسان" ٦/ ٣٧٤٥ (قمن).
(٥) في (أ): (توصف).
(٦) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤٠١، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٨٤، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٩، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٩، ولابن زنجلة ص ٢٧١، و"الكشف" ١/ ٤٥٠، والفرق، بالتحريك: الخوف، ورجل فرق، أي: فزع شديد الفَرَق. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٤٠١ (فرق)
422
وقال عبيد بن عمير (١): (قرأ ابن عباس (٢) هذه الآية فقال: هل هاهنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم، قال: ما الحَرَجَة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه، فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر) (٣). وقال (٤) أبو الصلت الثقفي (٥): (قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فقال: ابغوني رجلاً من كنانة، واجعلوه راعيًا؟ فأتوه به، فقال له عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال: الحرجة فينا الشجرة تحدق بها الأشجار فلا تصل إليها راعية ولا وحشية، فقال عمر: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير) (٦).
(١) عبيد بن عمير: مبهم، ولعله: عبيد بن عمير بن قتادة الليثي أبو عاصم المكي إمام واعظ مفسر مجمع على ثقته ولد في حياة النبي - ﷺ - وروى عن أبيه وعمر وعلي وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، توفي سنة ٧٤ هـ، أو قبلها.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ٤/ ١٥٦، و"غاية النهاية" ١/ ٤٩٦، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٣٨، و"تقريب التهذيب" (٤٣٨٥).
(٢) أخرج أبو عبيد في كتاب "اللغات" ص ٩٨، وابن حسنون ص ٢٤، والوزان ٣/ ب بسند جيد عنه في الآية قال: (يعني: شاكًّا بلغة قريش).
(٣) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٣/ ب، والسمين في "الدر" ٥/ ١٤٣، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٧٩ عن الواحدي.
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ش).
(٥) أبو الصلت الثقفي: تابعي مقبول، روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروى عنه عبد الله بن عامر اليمامي. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري، و"الكنى" ٩/ ٤٤، و"الجرح والتعديل" ٩/ ٣٩٤، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٥٤٠.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٨، وذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٨٦، ومكي في "الكشف" ١/ ٤٥٠، والثعلبي في "الكشف" ١٨٣/ ب، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٦، وذكره الرازي ١٣/ ١٨٣ عن الواحدي، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٤، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ).
423
وقال علماء اللغة (١): (الأصل في الحرَج من الحرَجة: وهي شجرة تحف بها الأشجار حتى يمنع الراعي من أن يصل إليها، وجمع الحَرجة: حِرَجٌ، وجمع الحِرَجِ: حِرَاجٌ) (٢). وقال العجاج:
عَايَنَ حَيًّا كالحِرَاجِ نَعَمُهُ (٣)
حكاه ابن الأنباري (٤).
وقال أبو الهيثم: (الحِرَاجُ: غِياض من شجر السَّلَم ملتفة، واحدتها حَرَجَةٌ، والحَرَجَةُ من شدة التفافها لا يقدر أحد أن يدخل فيها أو ينفذ)، وأنشد بيت العجاج (٥) ومعناه: عَايَنَ حَيًّا نعمة كالحراج لكثرتها وانضمام بعضها إلى بعض، وقال الليث: (أَخْرَجْتُ فلانًا صيرته إلى الحَرَج، وهو الضِّيق) (٦).
(١) انظر: "الاشتقاق" ص ٤١٩، و"الدر المصون" ٥/ ١٤٣، ومراجع اللغة السابقة في معنى حرج.
(٢) قال السمين في "الدر" ٥/ ١٤٣، (الحِراج: بكسر الحاء، جمع حِرْج: بكسر الحاء، وحرج: جمع حَرَجَة، بالفتح) اهـ.
(٣) الشاهد للعجاج في "ديوانه" ٢/ ١٤٢، و"أمالي القالي" ١/ ٦٦، و "تهذيب اللغة" ١/ ٧٧٥، و"المجمل" ١/ ٢٣٠، و"اللسان" ٢/ ٨٢٢ (حرج)، و"الدر المصون" ٥/ ١٤٣، وصدره:
حَتَّى إذا اللَّيْلُ تَجلَّتْ ظُلَمُة
وهو لرؤبة في "ديوانه" ص ١٨٦، و"الصحاح" ١/ ٣٠٦، وأوله: (فَصارَ إِذْ لَمْ يَبْقَ إلاَّ شِرْذِمُهْ). قال القالي في "شرحه": (يقول عايَنَ هذا الجيشُ الذي أتانا حَيًّا، ويعني بالحيِّ: قومه بني سَعْد، والنَّعَمُ: الإبل) اهـ. "شرح ديوان أبي تمام" للخطيب التبريزي ٢/ ٩٥، و"الخزانة" ٧/ ٢٥٠.
(٤) انظر: "المذكر المؤنث" لابن الأنباري ١/ ٢٥٨ - ٢٦١.
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٧٧٥.
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٧٧٥.
424
قال ابن عباس في رواية عطاء: (﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ يريد: ضيقًا إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه ونفسه، وإذا ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك) (١).
وقال أهل المعاني: (٨) (لما كان القلب محلًّا للعلوم والاعتقادات، ووصف (٢) قلب الكافر بالضيق، وأنه على خلاف الشرح والانفساح، دلَّ أن الله تعالى صيره بحيث لا يعي علمًا ولا استدلالًا على توحيد الله والإيمان به؛ لأنه أضاف التضييق إلى نفسه فقال: ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ وهذا كما أن العرب إذا وصفت إنسانًا بالجبن قالت: لا قلب له، لما أريد به من المبالغة في وصفه بالجبن؛ لأن الشجاعة محلها القلب، فإذا لم يكن القلب الذي يكون محل الشجاعة لو كانت، فإن لا يكون الشجاعة أولى، وأنشد أبو زيد:
لَقَدْ أَعْجَبْتُمُونِي مِنْ جُسُومِ وَأَسْلَحَةٍ وَلَكِنْ لا فُؤَادَا (٣)
وأنشد أيضاً:
وَلاَ وَقَّافَة والخَيْلُ تَرْدِي وَلَا خَال كَأنْبُوبِ اليَرَاعِ (٤)
وقال حسان:
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٦، والخازن ٢/ ١٨١.
(٢) في (ش): (وصف).
(٣) "الشاهد" لبرج بن مسهر الطائي كما في "النوادر" لأبي زيد ص ٧٨، ولعامر بن جوين الطائي في "الوحشيات"، و"الحماسة الصغرى" لأبي تمام ص ٢٣٣.
(٤) الشاهد لمرداس بن حصين الكلابي، شاعر جاهلي في "النوادر" لأبي زيد ص ٥ - ٦، وللطفيل بن عوف الغنوي، شاعر جاهلي في "الحماسة الصغرى"، و"الوحشيات" لأبي تمام ص ١٢٥. =
425
أَلَا أَبْلِغ أَبَا سُفْيانَ عَنّي فَأَنتَ مُجَوَّفٌ نَخِب هَوَاءٌ (١)
فلما وصف الجبان بأنه لا قلب له وأنه مجوف هواء؛ لأنه إذا كان كذلك بعد من الشجاعة لعدمه القلب، كذلك وصف الكافر بأنه ضيق صدره على معنى: أنه غير مشروح للإيمان) (٢).
وقوله تعالى: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ أي: يتصعد (٣) فأدغمت التاء في الصاد، ومعنى يتصعد: يتكلف ما يثقل عليه، وقرأ (٤) أبو بكر (٥) (يَصَّاعَد) وهو مثل يتصعد في المعنى، وقرأ ابن كثير (يصْعد) من الصعود (٦) والمعنى: أنه في نفوره عن الإِسلام وثقله عليه بمنزلة من تكلف (٧)
= واليَراع: القصب، ثم سمي به الجبان والضعيف. واليراع: أولاد بقر الوحش. والنعامة، وطائر صغير، ويقال لمزمار الراعي: يَراعة.
انظر: "اللسان" ٨/ ٤٩٥٥ (يرع).
(١) "ديوانه" ص ٢٠. والمجوف والنخب والهواء: الجبان لا قلب له.
(٢) لم أقف على من ذكر هذا فيما لدي من مراجع. وانظر: "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤٠٣.
(٣) لفظ: (أي: يتصعد) ساقط من (أ).
(٤) قرأ عاصم في رواية: (يَصَّاعَد) بتشديد الصاد وألف بعدها وتخفيف العين. وقرأ ابن كثير: (يصعد) بإسكان الصاد، وتخفيف العين من غير ألف. وقرأ الباقون بتشديد الصاد والعين من غير ألف.
انظر: "السبعة" ص ٢٦٨، و"المبسوط" ص ١٧٥، و"الغاية" ص ٢٤٩، و"التذكرة" ٢/ ٤١٠، و"التيسير" ص ١٠٦، و"النشر" ٢/ ٢٦٢.
(٥) أبو بكر بن عياش أحد الرواة عن عاصم، تقدمت ترجمته.
(٦) انظر: "إعراب القراءات" ١/ ١٦٩، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٩، ولابن زنجلة ص ٢٧١.
(٧) في (أ): (يكلف) بالياء، وأصل النص من "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤٠٢
426
ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يستطاع، كذا قال المفسرون (١) وأهل المعاني (٢).
قال مجاهد (٣): (﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ من شدة ذلك عليه) (٤)، وقال عطاء (٥): (مثله كمثل الذي لا يستطيع الرقي إلى السماء) (٦).
وقال أبو بكر: (إذا كان ممن (٧) أضله الله عز وجل أبغض الحق وعانده حتى يضيق منه صدره فكأنه يكلف بالشيء منه صعودًا إلى السماء يجد من ثقل ذلك عليه مثل ما يجد من الصعود إلى السماء) (٨).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٣٠، والسمرقندي ١/ ٥١٢، و"الكشف" لمكي ١/ ٤٥١.
(٢) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٨٧، و"معاني القراءات" ١/ ٣٨٥.
(٣) في (أ): (قال المجاهد)، وهو تحريف.
(٤) ذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٤، وقال: (أخرجه أبو الشيخ عن مجاهد). اهـ.
(٥) عطاء هو: عطاء بن أبي مسلم الخراساني أبو عثمان، واسم أبيه ميسرة، إمام محدث مفسر واعظ عابد مجاهد، صدوق، يهم ويدلس. توفي سنة ١٣٥ هـ، وقد أفاد الحافظ في مقدمة "فتح الباري" ص ٣٧٥ - ٣٧٦، إن الرواية إذا جاءت عن ابن جريج، عن عطاء في سورة البقرة وآل عمران، فالمراد به عطاء بن أبي رباح، وإذا جاء في غير ذلك فالمراد عطاء الخراساني. وابن جريج لم يسمع من عطاء الخراساني وإنما أخذ التفسير من ابنه عثمان بن عطاء. وانظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٣٧٩، و"الجرح والتعديل" ٦/ ٣٣٤، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ١٤٠، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ١٠٨، و"تقريب التقريب" ص ٣٩٢ (٤٦٠٠).
(٦) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢١٨، الطبري ٨/ ٣٠، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٨٦ بسند جيد. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٤.
(٧) لفظ: (ممن) كذا جاء، ولعل الصواب: (من).
(٨) لم أقف عليه.
427
وقال أبو إسحاق: (كأنه قد كلف بأن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإِسلام من ضيق صدره عنه، قال: ويجوز أن يكون كأنَّ قلبه يصاعد في السماء نبوًا (١) عن الإسلام والحكمة) (٢).
وعلى هذا إنما شُبّه بالذي ﴿يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ لبعده عن الإسلام ونفور قلبه، كما جرت العادة أن يقال لمن تباعد عن أمر ولم يلن له: فلان يَنْزُو (٣) في اللوح ويذهب في السماء من هذا الأمر، وقال أبو علي: (من قرأ (يصَّاعد) و (يصَّعَّد) فهو من المشقة وصعوبة الشيء، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾ [الجن: ١٧]، ومن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - (٤): "ما تصعَّدني شيء كما تصَعَّدنِي خِطْبةُ النكاح" (٥)، أي: ما شق عليّ مشقتها، وكأن ذلك لما يتكلفه الخطيب من مدحه وإطرائه لِلْمُمْلِكَ، فربما لم يكن كذلك، فيحتاج إلى تطلب المَخْلَص، فلذلك يشق، ومن ذلك قول الشاعر (٦):
(١) في (ش): (تبرأ).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٠.
(٣) ينزو: أي ينزع. وأصل النَزْو: الوثب. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٤٠٢ (نزا).
(٤) في (أ): (رحمه الله).
(٥) ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" ٢/ ١٠٣، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٣١، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٤٨٧، والأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠١٤، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣٤٥، وابن الجوزي ٣/ ١٢١، وابن الأثير في "النهاية" ٣/ ٣٠.
(٦) الشاهد للأعلم الهذلي حبيب بن عبد الله الهذلي.
في "شرح أشعار الهذليين" للسكري ١/ ٣٢٣، و"تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠١٥، وبدون نسبة في "عيون الأخبار" ١/ ٢٢٦، و"جمهرة اللغة" ٢/ ٦٥٤، و"اللسان" ٤/ ٢٤٤٦ (صعد).
428
وإنَّ سِيَادةَ الأَقْوَامِ فاعْلَمْ لَها صعَدَاءُ مَطلبُها شديدُ (١)
فكأن معنى (يصعد): يتكلف مشقة في ارتقاء صُعُدًا، ولا يكون السماء في هذا القول المظلة للأرض، ولكن المراد به الارتفاع والسمك، ويستعمل السماء في الارتفاع كما قال سيبويه: (القيدود: الطويل في غير سماء) (٢)، يريد [به] (٣) في غير ارتفاع) (٤).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٥] قال بعض أصحاب المعاني: (وجه التشبيه في ﴿كَذَلِكَ﴾ أن جعله الرجس عليهم كجعله ضيق الصدر في قلوبهم) (٥) وقال الزجاج: (أي: مثل ما قصصنا عليك ﴿يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ﴾) (٦).
(١) جاء في المراجع السابقة:
لَهَا صُعَداءُ مَطْلعُهَا طَوِيلُ
وفي بعضها: (وإن سياسة) بدل: (وإن سيادة).
(٢) "الكتاب" ٤/ ٣٦٥. والقيدود: بفتح القاف وسكون الياء وضم الدال: الناقة الطويلة الظهر، وأصله من قاد يَقُود. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٥٤٤ (قدد).
(٣) لفظ: (به) ساقط من (ش).
(٤) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤٠٣ - ٤٠٥، ولقد أثبت العلم الحديث أن الصاعد يضيق تنفسه في الصعود كلما ارتفع لنقص الأوكسجين، وهذا هو الوصف الدقيق لمعنى الآية الكريمة، فإن قلب الكافر والمنافق يضيق وينفر حين يدعى إلى الإِسلام، أو يتأمل فيه كما يضيق صدر من يصعد نحو السماء. وانظر: "تفسير ابن عاشور" ٨/ ٦٠، وكلام الصابوني في "حاشية معاني النحاس" ٢/ ٤٨٧.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٣١، والسمرقندي ١/ ٥١٢، والرازي ١٣/ ١٨٤.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٠، وذكر قول الزجاج السمين في "الدر" ٥/ ١٤٦، وقال: (أي: فيكون مبتدأ أو خبرًا أو نعت مصدر محذوف، ذلك أن ترفع مثل وأن تنصبها بالاعتبارين عنده، والأحسن أن يقدر لها مصدر مناسب، كما قدره الناس وهو =
429
قال ابن عباس: (هو الشيطان أي: نسلطه (١) عليهم) (٢)، وقال مجاهد: (الرجس ما لا خير فيه) (٣)، وقال عطاء (٤) عن ابن عباس، وابن زيد (٥): (الرِّجْسُ: العذاب). وقال الزجاج: (الرِّجْسُ: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة) (٦).
قال أصحابنا: (انقطع كلام أهل القدر عند هذه الآية وخرست ألسنتهم، فإنها قد صرحت بتعلق إرادة الله تعالى بالأمرين جميعًا الهداية والإضلال وتهيئته أسبابهما) (٧).
= مثل ذلك الجعل، أي: جعل الصدر ضيقًا حرجًا يجعل الله الرجس..) اهـ. وانظر: "المشكل" ١/ ٢٦٩.
(١) في (ش): (هو الشيطان يسلطه عليهم).
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣١ بسند جيد، وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٤ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٧، وهذا القول هو اختيار الطبري.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٣.
وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٨٦ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٤.
(٤) ذكره الخازن في "تفسيره" ٢/ ١٨٢ عن ابن عباس، وذكره الواحدي في الوسيط ١/ ١١٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٧، وابن الجوزي ٣/ ١٢١، والرازي ١٣/ ١٨٤ من قول عطاء.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣١ بسند جيد، وهذا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٦.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٠، وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٨٨: (الرِّجْس عند أهل اللغة هو النَّتْن، فمعنى الآية -والله أعلم-: ويجعل اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة على الذين لا يؤمنون). اهـ.
(٧) ذكر نحو هذا ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٢١، والرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٨٥.
430
١٢٦ - قوله تعالى: ﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا﴾. قال ابن عباس: (يعني: التوحيد) (١)، وقال ابن مسعود: (يعني: القرآن) (٢).
وقال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك مستقيمًا) (٣).
وقال بعض أهل المعاني: (الإشارة وقع إلى البيان الذي جاء في القرآن) (٤) وانتصب ﴿مُسْتَقِيمًا﴾ على الحال والعامل فيه معنى (هذا) وذلك أن ذا (٥) يتضمن معنى الإشارة، كقولك: هذا زيد قائمًا، معناه: أشير إليه في حال قيامه، وإذا كان العامل في الحال معنى الفعل لا الفعل لم يجز تقديم الحال عليه، لا يجوز قائمًا هذا زيد (٦)، ويجوز ضاحكًا جاء زيد،
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٨، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٢١، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٢، بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (يعني: الإسلام).
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٤ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٨، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٢١.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٨٧، عن ابن عباس، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٨، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٢٢، من قول عطاء فقط، وجميع ما سبق معانٍ متقاربة، وقد أخرجها الطبري في "تفسيره" ١/ ٧١ - ٧٥، وابن أبي حاتم ١/ ٣٠، بأسانيد مختلفة عن هؤلاء الأئمة وغيرهم في "تفسير سورة الفاتحة".
(٤) هذا قول الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٢.
(٥) في (ش): (وذلك إذ ذا)، وهو تحريف.
(٦) لأنها حال مؤكدة، وصراط الله تعالى لا يكون إلا مستقيمًا، بخلاف الحال المنتقلة نحو: جاء زيد راكبًا، ونحو هذا زيد قائمًا فيجوز أن يفارق زيد الركوب أو القيام. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٧٩، و"المشكل" ١/ ٢٧٠، و"غرائب التفسير" ١/ ٣٨٤، و"البيان" ١/ ٣٣٩ و"التبيان" ٣٥٨، و"الفريد" ٢/ ٢٢٧، و"الدر =
ومعنى استقامة صراط الله أنه يؤدي بسالكه إلى دار الخلود في النعيم (١).
وقوله تعالى: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ قال عطاء: (يريد: أصحاب النبي - ﷺ - قبلوا مواعظ الله وانتهوا عما نهاهم الله) (٢).
١٢٧ - قوله تعالى: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ﴾ يعني: الجنة في قول جميع المفسرين (٣) قال الحسن (٤) والسدي (٥): (السلام هو الله تعالى، وداره الجنة)، ومعنى السلام في أسماء الله تعالى: ذو السلام، أي: السلامة من الآفات والنقائص (٦)، فعلى هذا أضيف الدار إلى السلام الذي هو اسم الله تعالى على وجه التعظيم، كما قيل للكعبة: بيت الله، وللخليفة: عبد الله.
= المصون" ٥/ ١٤٧، وقد نقل هذا القول الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٨٧ - ١٨٨، عن الواحدي.
(١) انظر: "تفسير الخازن" ٢/ ١٨٢.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٨، والخازن في "تفسيره" ٢/ ١٨٢.
(٣) حكاه الخازن في "تفسيره" ٢/ ١٨٢، عن جميع المفسرين. وانظر: "تفسير المقاتل" ١/ ٥٨٨، والطبري ٨/ ٣٢، والسمرقندي ١/ ٥١٣، والماوردي ٢/ ١٦٧.
(٤) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٦٧، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٨، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٢٢، والخازن ٢/ ١٨٢ عن الحسن والسدي.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٢ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٤، وقال الثعلبي في "الكشف" ١٨٤ أ، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٧: (هذا قول أكثر المفسرين) اهـ.
(٦) انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص٣٠ - ٣١، و"الزاهر" ١/ ٦٤، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٤٢، و"الأسماء والصفات" ص ٥٣، و"المقصد الأسنى" ص ٦٧، و"شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص ١٨٧، وقال السعدي رحمه الله تعالى في "الحق الواضح المبين" ص ٨١: (السلام: السالم من مماثلة أحد من خلقه، ومن النقصان، ومن كل ما ينافي كماله) اهـ.
432
قال الزجاج: (ويجوز أن يكون الجنة سميت دار السلام؛ لأنها دار السلامة [الدائمة التي لا تنقطع) (١). وعلى هذا السلام جمع سلامة أو بمعنى السلامة (٢)]. كما قيل: لذَاذ ولذَاذة ورضاع ورضاعة (٣)، كأنه دار السلام التي لا يلقون في حلولها عنتًا ولا تعذيبًا، وسنذكر زيادة بيان في معنى السلام في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ [يونس: ٢٥] إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أي: مضمونة لهم عند ربهم حتى يوصلهم (٤) إليها (٥).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩١، وذكر نحوه النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٨٨.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٣) قال ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ٦: (يرى أهل النظر من أصحاب اللغة أن السلام بمعنى السلامة، كما يقال: الرَّضاع والرضاعة واللَّذاذُ واللَّذاذة، فسمى نفسه جل ثناؤه: سلامًا؛ لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء والموت) اهـ.
ومثله ذكر الزجاجي في "اشتقاق أسماء الله" ص ٢١٥. وقال ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ١٨٠ - ١٨١: (في إضافتها إلى السلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها إضافة إلى مالكها السلام سبحانه. الثاني: أنها إضافة إلى تحية أهلها، فإن تحيتهم فيها سلام. الثالث: أنها إضافة إلى معنى السلامة، أي: دار السلامة من كل آفة ونقص وشر. والثلاثة متلازمة، وإن كان الثالث أظهرها، فإنه لو كانت الإضافة إلى مالكها لأضيفت إلى اسم من أسمائه غير السلام، ولم يعهد ذلك في القرآن، فالأولى حمل الإضافة على المعهود في القرآن، وإضافتها إلى معنى السلامة أولى؛ لأنه أكمل أوصافها المقصودة على الدوام التي لا يتم النعيم إلا به). اهـ. ملخصًا.
(٤) في (ش): (توصلهم)، وهو تصحيف.
(٥) انظر. "تفسير الماوردي" ٢/ ١٦٧، وابن الجوزي ٣/ ١٢٢، والرازي ١٣/ ١٨٩.
433
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾ أي: يتولى إيصال المنافع إليهم ودفع المضار عنهم، وهذا يوجب إخبارًا عن كونه وليهم في الآخرة، لأنه قال: ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي: في الدنيا، وإن كان هو اليوم أيضًا ولي المؤمنين، وعلى هذا دل كلام ابن عباس؛ لأنه قال في قوله: ﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾: (أنزل بهم المحبة والكرامة والرضوان وما (١) لا يوصف من النعيم) (٢)، وكل هذا يكون في الآخرة (٣).
١٢٨ - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ الآية. قال المفسرون (٤): (يعني: الجن والإنس يجمعون في موقف [يوم] (٥) القيامة).
قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: هم وقرناؤهم من الشياطين) (٦).
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾. قال الزجاج: (المعنى: فيقال لهم: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ﴾ (٧)، ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ﴾ أي: من إغواء الإنس وإضلالهم، عن ابن عباس (٨)، والحسن (٩)، وقتادة (١٠).
(١) في (أ): (ومما لا يوصف).
(٢) في "تنوير المقباس" ٢/ ٥٩ نحوه
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٦٧، والسمرقندي ١/ ٥١٣، والماوردي ٢/ ١٦٧.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٣٣، والسمرقندي ١/ ٥١٣، والماوردي ٢/ ١٦٨.
(٥) لفظ: (يوم) ساقط من (ش).
(٦) في "تنوير المقباس" ٢/ ٥٩ نحوه.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩١، ومثله قال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٨٩.
(٨) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٦٨، وابن عطية ٥/ ٣٥٢، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة.
(٩) أخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٣، عن الحسن نحوه، وذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٥٩، والماوردي ٢/ ١٦٨، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٨٥.
(١٠) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢١٨، والطبري ٨/ ٣٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٨٧ بسند جيد عن قتادة نحوه.
434
وروي عن ابن عباس في "تفسيره": (يعني: أضللتم منهم كثيراً) (١)، وهو قول الفراء (٢).
وقال مجاهد: (كثر من أغويتم منهم) (٣).
وقال أبو إسحاق: (﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ﴾ ممن أضللتموه من الإنس) (٤).
وقال غيره: (﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ﴾ بالإغواء والإضلال) (٥)، وهذه الأقوال معناها واحد، ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ﴾ يعني: الذين أضلوهم من الإنس.
﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ قال (٦): (معنى هذا الاستمتاع: هو أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض قفرٍ فخاف على نفسه قال (٧): أعوذ بسيد هذا الوادي من (٨) سفهاء قومه، فيبيت آمنًا في نفسه، فهذا استمتاع (٩)
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٨٧ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٥.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٤.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٣، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٣، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٨٧ بسند جيد، وهو قول النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٨٩.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩١.
(٥) هذا قول الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٣.
(٦) كذا جاء في النسخ، وفي "تفسير الثعلبي" ١٨٤ أ، والبغوي ٣/ ١٨٨: (قال الكلبي): والظاهر أن المراد بقوله: (قال) مقاتل؛ لأن النص في "تفسيره" ١/ ٥٨٩ أو الفراء؛ لأنه في "معانيه" ١/ ٣٥٤، ولأن الواحدي ذكر الرواية عن الكلبي فيما بعد.
(٧) في (أ): (فقال).
(٨) (ش): (على).
(٩) في (أ): (فهذا الستمتاع)، وهو تحريف.
435
الإنس بالجن (١)، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو: أن الإنس إذا عاذ بالجن كان ذلك تعظيمًا منهم للجن، وذلك الجني (٢) يقول: قد سُدت الإنس والجن؛ لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه).
وهذا قول الحسن (٣) وابن جريج (٤)، والكلبي (٥)، وعكرمة (٦)، واحتجوا على هذا بقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الجن: ٦].
وقال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾: (يريد: في الدنيا، وما كانوا يضلونهم) (٧)، ومعنى هذا: أن استمتاع الجن بالإنس طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي، واستمتاع الإنس (٨) بالجن أن الجن زينت لهم الأمور التي يهوونها حتى يسهل عليهم فعلها، وهذا القول اختيار الزجاج؛ لأنه قال: (الذي يدل عليه
(١) لفظ: (الجن)، غير واضح في (ش).
(٢) في (أ): (وذلك الجن).
(٣) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٦٨، والرازي ١٣/ ١٩١، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٨٧، بسند جيد عن الحسن، قال: (ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعملت الإنس) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٥.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٣، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٥.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٠، وذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٥٩، والثعلبي في "الكشف" ١٨٤ أ، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٨، والخازن ٢/ ١٨٣.
(٦) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٩١، عن الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٩، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٢٣، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٢٠.
(٨) في (ش): (الأنسي).
436
اللفظ -والله أعلم- هو قبول الإنس من الجن ما كانوا يغوونهم به؛ لقوله: ﴿اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ﴾ ومن كان يقول من الإنس: أعوذ بالجن فقليل) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ يعني: الموت، في قول الحسن (٢) والسدي (٣)، وأكثر المفسرين (٤) وقيل: هو البعث والحشر (٥).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩١، وهو اختيار النحاس أيضًا في "معانيه" ٢/ ٤٩٠، و"إعراب القرآن" ٢/ ٥٨٠، والظاهر أن الآية عامة، وأن ما ذكر من باب التمثيل، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في "الفتاوى" ١٣/ ٨٠ - ٨٩، قال في تفسير الآية: (الاستمتاع بالشيء هو أن يتمتع به فينال به ما يطلبه ويريده ويهواه، ويدخل في ذلك استمتاع الرجال بالنساء، والذكور بالذكور، والإناث بالإناث، والاستمتاع بالاستخدام وأئمة الرياسة كما يتمتع الملوك والسادة بجنودهم وممالكيهم والاستمتاع بالأموال، وفي الجملة استمتاع الإنس بالجن والجن بالإنس يشبه استمتاع الإنس بالإنس، واتباع الهوى هو استمتاع من صاحبه بما يهواه، وقد وقع في الإنس والجن هذا كله) اهـ. ملخصًا.
وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٢٠: (وجوه الاستمتاع كثيرة تدخل هذه الأقوال كلها تحتها، فينبغي أن يعتقد في هذه الأقوال أنها تمثيل في الاستمتاع لا حصر في واحد منها) اهـ.
(٢) ذكره الماوردي ٢/ ١٦٨، وابن الجوزي ٣/ ١٢٤، عن الحسن والسدي.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٤ بسند جيد.
(٤) قال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٢٠: (هذا قول الجمهور وابن عباس والسدي وغيرهما). اهـ. وهو قول الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٤، والسمرقندي ١/ ٥١٣.
(٥) ذكر هذا القول الماوردي في "تفسيره" (٢/ ١٦٨، وابن الجوزي ٣/ ١٢٤، وهو قول البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٨، والزمخشري ٢/ ٥٠.
وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٨٢ - ١٨٣ في الآية: (هذا يتناول أجل الموت وأجل البعث، فكلاهما أجل الله تعالى لعباده، وكأن هذا -والله أعلم- إشارة منهم إلى نوع استعطاف وتوبة، فكأنهم يقولون: هذا أمر كان إلى وقت =
437
وقوله تعالى: ﴿قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد: فيها مقامكم) (١).
قال الزجاج: (المثوى: المقام، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ منصوب على الحال، المعنى: النار مقامكم في حال خلود دائم) (٢).
قال أبو علي: (المثوى عندي في الآية اسم للمصدر دون المكان، لحصول الحال في الكلام معملًا فيها، واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل؛ لأنه لا معنى للفعل فيه، فإذا لم يكن موضعًا ثبت أنه مصدر، والمعنى: النار ذات إقامتكم فيها، ﴿خَالِدِينَ﴾ أي: هي أهل أن يقيموا (٣) فيها ويثووا خالدين، فالكاف والميم في المعنى فاعلون، وإن كان في اللفظ خفضًا بالإضافة، ومثل هذا قول الشاعر:
وَمَا هِيَ إلاَّ في إِزَارٍ وَعِلْقَةٍ مُغَارَ ابْنِ هَمَّامٍ عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا (٤)
= وانقطع بانقطاع أجله، فلم يستمر ولم يدم، فبلغ الأمر الذي كان أجله، وانتهى إلى غايته، ولكل شيء آخر، فقال تعالى: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ فإنه وإن انقطع زمن التمتع وانقضى أجله فقد بقي زمن العقوبة، فلا يتوهم أنه إذا انقضى زمن الكفر والشرك وتمتع بعضكم ببعض أن مفسدته زالت وانتهت بانتهائه، والمقصود أن الشيطان تلاعب بالمشركين حتى عبدوه واتخذوه وذريته أولياء من دون الله) اهـ. ملخصًا.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٩، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٦٠ نحوه.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩١، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٩٠، و"إعراب القرآن" ١/ ٥٨٠.
(٣) في (أ): (تقيموا)، وهو تصحيف.
(٤) "الشاهد" لحميد بن ثور الهلالي في "الكتاب" ١/ ٢٣٤ - ٢٣٥، وبلا نسبة في: "الكامل" للمبرد ١/ ٢٠١، و"المقتضب" ٢/ ١٢٠، و"الخصائص" ٢/ ٢٠٨، و"المحتسب" ٢/ ٢٦٦، و"أمالى" ابن الحاجب ٢/ ٨٠، و"اللسان" ٥/ ٣٠٧٢ =
438
وهذا يدل (١) على حذف المضاف، المعنى: وما هي إلا إزارٍ وعلقة وقت إغارة ابن همام، ألا ترى أنه عدّاه بعلى إلى حيّ خثعمٍ، وإذا عدّاه ثبت أنه مصدر، إذ أسماء المكان لا تتعدى، فهو من باب قولك: أتيتك خفُوقَ النجمِ، ومَقدَم الحاجِّ، وخلافةَ فلان (٢)، من المصادر التي استعملت في موضع الظروف للاتساع في حذف المضاف الذي هو اسم زمان على تقدير: زمان خفوق النجم أو ساعة أو وقت، وما أشبه ذلك، وإنما حسن ذلك في المصادر لمطابقتها الزمان في المعنى، ألا ترى أنه عبارة عن مُنَقَضٍ غير باقٍ، كما أن الزمان كذلك، ومن ثم كثر إقامتهم، ما التي مع الفعل بمعنى المصدر مقام ظروف الزمان كقولهم: لا أكلمك ما حدا (٣) ليلٌ نهارًا وما خالفت جِرّة (٤) دِرةً ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ [المائدة: ١١٧] ونحو ذلك، حتى إن قومًا من النحويين (٥) يسمونها ما
= (علق)، و"الدر المصون" ٥/ ١٥٠، والعلقة، بكسر العين: قميص بلا كمين، أو الثوب الصغير. انظر: "اللسان" ٥/ ٣٠٧٣ (علق). والشاهد في البيت: نصب مغار على الظرفية، وهو في الأصل مصدر ميمي.
(١) في (ش): (وهذا أيضًا على حذف المضاف).
(٢) انظر: "الكتاب" ١/ ٢٢٢، و"المقتضب" ٤/ ٣٤٣.
(٣) حدا: بالفتح تبع يقال: ما حدا الليل النهار، أي: ما تبعه. انظر: "المستقصى" للزمخشري ٢/ ٢٤٧، و"اللسان" ٢/ ٧٩٤ (حدا).
(٤) الجِرَّة: -بكسر الجيم وفتح الراء المشددة-: ما يخرجه البعير من بطنه للجنزار، والدِّرَّة: بكسر الدال المشددة وفتح الراء المشددة، كثرة اللبن وسيلانه، وهما مختلفان: الدرة تسفل إلى الرجلين، والجرة تعلو إلى الرأس.
انظر: "مجمع الأمثال" ٣/ ١٨٧، و"المستقصي" ٢/ ٢٤٥، و"اللسان" ١/ ٥٩٤ (جرر) و٣/ ١٣٥٦ (درر).
(٥) انظر: "حروف المعاني" ص ٥٣، و"معاني الحروف" للرماني ص ٨٦، =
439
الوقت، وحقيقته ما أعلمتك) (١)، انتهى كلامه. وقول ابن عباس: (فيها مقامكم) (٢)، يدل على صحة قول أبي علي.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ قال ابن عباس: (استثنى الله قوماً قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي - ﷺ - وما جاء به) (٣)، وعلى هذا القول يجب أن يكون (ما) بمعنى (مَنْ) (٤).
وقال أبو إسحاق: (معنى الاستثناء عندي: إنما هو من يوم القيامة؛ لأن قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ هو يوم القيامة فقال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ منذ يبعثون ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ من مقدار حشرهم من (٥) قبورهم، ومقدار مدَّتِهم في محاسبتهم) (٦).
= و"الصاحبي" ص ٢٦٩، و"رصف المباني" ص ٢٧٧، و"المغني" لابن هشام ١/ ٣٠٢.
(١) "الإغفال" ص ٧٠٦ - ٧٠٩، وعليه يكون (خالدين) منصوب على أنه حال مقدرة والعامل فيها (مثواكم)؛ لأنه اسم مصدر من الثواء، وهو الإقامة.
انظر: "غرائب التفسير" ١/ ٣٨٥، و"البيان" ١/ ٣٣٩، و"التبيان" ٣٥٨، و"الفريد" ٢/ ٢٢٨، و "الدر المصون" ٥/ ١٤٩.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١١٩، والبغوي ٣/ ١٨٩، والرازي ١٣/ ١٩٢، وأخرج الطبري ٨/ ٣٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٨٨ بسند جيد عنه، قال: (إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارًا)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٥، وقال الخازن ٢/ ١٨٣: (نقل جمهور المفسرين عن ابن عباس أن هذا الاستثاء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله أنهم يسلمون ويصدقون النبي - ﷺ - فيخرجون من النار، قالوا: و (ما) تكون بمعنى من على هذا التأويل. اهـ.
(٤) أي: التي للعقلاء، وساغ وقوعها هنا؛ لأن المراد بالمستثنى نوع وصنف، وما تقع على أنواع من يعقل، أفاده السمين في "الدر" ٥/ ١٥١.
(٥) في (أ): (في).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩١ - ٢٩٢، وفيه: (ويجوز أن يكون إلا ما شاء ربك مما =
440
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾. قال ابن عباس: (حكم للذين استثنى بالتصديق والتوبة وعلم ما في قلوبهم من البر والتقوى والإيمان) (١).
قال أهل المعاني: (معنى هذه الآية: التحذير من إغواء الجن تزيينهم القبيح، فإنهم يقرنون مع أوليائهم من الإنس في النار) (٢).
١٢٩ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾. قال المفسرون: (يقول: كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض، كذلك نكل بعضهم إلى بعض في النصرة والمعونة، ونسلط بعضهم على بعض، فيتولى بعضهم القيام بأمر بعض) (٣)، وقال بعض أهل العلم: (إن الله تعالى ذكر في الآية الأولى استكثار الجن من الإنس بالاستضلال (٤) والاستزلال (٥)، ثم بيّن في هذه الآية أنه ولى بعضهم بعضًا حتى كان من شأنهم ما كان) (٦).
= يزيدهم من العذاب). اهـ. وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٣٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٩٠، و"إعراب النحاس" ص ٥٧٥، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥١٣، و"المشكل" ١/ ٢٧٠، و"البيان" ٢/ ٣٤٠، و"التبيان" ٣٥٨، و"الفريد" ٢/ ٢٢٨، و"الدر المصون" ٥/ ١٥٠ - ١٥٣، ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص ١٢٢ - ١٢٨.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٨٩ بدون نسبة.
(٢) لم أقف على من ذكره فيما لدي من مراجع.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٣٥، والسمرقندي ١/ ٥١٣، والماوردي ٢/ ١٦٩، والبغوي ٣/ ١٨٩.
(٤) في (ش): (بالإضلال).
(٥) في (أ): (الاسترسال)، وهو تحريف.
(٦) لم أقف على من ذكره فيما لدي من مراجع.
١٣٠ - قوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ الآية. قال أهل اللغة: (المَعْشَر: كل جماعة أمرهم واحد، والجميع: المعَاشِر) (١). وقوله تعالى: ﴿رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ اختلفوا (٢) هل كان من الجن رسول أم لا؟ فالأكثرون (٣) على أنه لم يكن من الجن رسول، وإنما كانت الرسل من بني آدم.
وقوله: ﴿رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ أراد من أحدكم وهو الإنس فحذف المضاف، كقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ﴾ [الرحمن: ٢٢] أي: من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب، وجاز ذلك؛ لأن ذكرهما قد جُمع في قوله (٤): ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ [الرحمن: ١٩]، وهذا جائز في كل ما اتفق في أصله، كما
(١) هذا نص كلام الخليل في "العين" ١/ ٢٤٨، وفي "اللسان" ٥/ ٢٩٥٥ (عشر): (معشر الرجل، بفتح الميم والشين وسكون العين: أهله. والمعشر: الجماعة متخالطين كانوا أو غير ذلك. والمعشر والنفر والقوم والرهط معناهم الجمع: لا واحد لهم من لفظهم للرجال دون النساء). اهـ.
وانظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٤٧، و"الصحاح" ٢/ ٧٤٧، و"المجمل" ٣/ ٦٧٠، و"المفردات" ص ٥٦٧ (عشر).
(٢) في (ش): (واختلفوا).
(٣) ذكره عن الأكثر الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٩٥، والخازن ٢/ ١٨٤.
(٤) قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في "أضواء البيان" ٢/ ٢١١: (هذا التوجيه في آية الرحمن غلط كبير لا يجوز القول به؛ لأنه مخالف مخالفة صريحة لكلام الله تعالى؛ لأن الله ذكر البحرين الملح والعذب بقوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ [فاطر: ١٢]، ثم صرح باستخراج اللؤلؤ والمحرجان منهما جميعًا بقوله: ﴿وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ [فاطر: ١٢]، والحلية المذكورة في اللؤلؤ والمرجان، فقصره على الملح مناقض للآية صريحًا كما ترى). اهـ.
442
اتفق الجن مع الإنس في باب التمييز، فلما ذكرا (١) معًا جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى واحد.
وهذا قول الفراء (٢)، والزجاج (٣) ومذهب أكثر أهل (٤) العلم، وعليه دل كلام ابن عباس؛ لأنه قال: (يريد: أنبياء من جنسكم ولم يكن من جنس الجن أنبياء (٥) وإذا لم يكن من الجن أنبياء (٦) ورسل، فكيف قال لهم مع الإنس: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ﴾؟ قال الكلبي: (كانت الرسل يبعثون إلى الجن والإنس) (٧)، فعلى هذا قد بعث الرسل إلى الجن، ولكن لم تكن (٨) الرسل من الجن، وتأويل (منكم) ما ذكرنا.
وقال آخرون: (الرسل كانت من الإنس، ولكن الله تعالى كان يسبّب قومًا من الجن ليسمعوا كلام الرسل، ويأتوا قومهم من الجن بما سمعوا وينذرونهم، كما قال الله تعالى لمحمد - ﷺ -: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ [الأحقاف: ٢٩] وهذا مذهب مجاهد قال: (الرسل من الإنس والنذر
(١) في (ش): (فلما ذكر معًا)، وهو تحريف.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٤، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٩٢.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٢، وكلام الواحدي أقرب إلى نص الزجاج.
(٤) ذكر الخازن في "تفسيره" ٢/ ١٨٤: (أن هذا مذهب جمهور أهل العلم). وانظر: "تفسير الطبري" ١٢/ ١٢، والماوردي ٢/ ١٧٠، وذكره عن الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٩٥.
(٥) ذكره الخازن في "تفسيره" ٢/ ١٨٤ عن الواحدي عن ابن عباس.
(٦) لفظ: (أنبياء) ساقط من (أ).
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ٦١، وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٤ أ، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٠.
(٨) في (ش): (لم يكن).
443
من الجن) (١)، ونحو ذلك قال ابن جريج (٢) وأبو عبيد (٣): (هم الذين استمعوا القرآن فأبلغوه قومهم)، وعلى هذا أولئك (٤) الذين استمعوا (٥) وذهبوا إلى الجن فأنذروا لم يفعلوا ذلك بنص الله تعالى على إرسالهم، ولكن يجوز أن يضاف ذلك إلى الله فيقال: هم رسل الله، كما سمّى الله تعالى رسُل عيسى (٦) رسله فقال: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ﴾ [يس: ١٤].
وقال الضحاك: (من الجن رسل كما من الإنس رسل) (٧) والآية تدل على (٨) ذلك، والقول هو الأول، وهو ما ذكرنا أن رسل الجن لم يكونوا مرسلين بنص الله تعالى وإنما كانوا نذرًا على الوجه الذي بيّنا (٩).
(١) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٨٩، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٦.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٦، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٦.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في (أ): (وعلى هذا ؤلئك)، وهو تحريف.
(٥) في (أ): (استمتعوا)، وهو تحريف.
(٦) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٩٥. وظاهر القرآن -وهو اختيار الجمهور ومنهم ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ١٩٨ - أنهم رسل الله بعثهم إلى أهل القرية. قال ابن الجوزي في "تفسيره" ٧/ ١١: (هذا هو ظاهر القرآن والمروي عن ابن عباس وكعب ووهب) اهـ.
(٧) أخرجه الطبري ٨/ ٣٦، بسند جيد، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٨٩.
(٨) ذكره عن الضحاك الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٧٠، وابن الجوزي ٣/ ١٢٥، وقالا: (وهو ظاهر الكلام).
(٩) وهذا هو الظاهر، وهو قول جمهور السلف والخلف، كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره" ٢/ ١٩٨: وساق عدة أدلة من الكتاب والسنة على أن الرسل من الإنس فقط، ولم يكن في الجن رسل منهم. وهو اختيار شيخ الإسلام في رحمه الله تعالى في "الفتاوى" ١٦/ ١٩٢، وقال في ٤/ ٢٣٤: (وقيل: الرسل من الإنس، والجن فيهم النذر، وهذا أشهر.) اهـ.
444
١٣٠ - وقوله تعالى: ﴿قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾. يقول: شهدنا أنهم قد بلغوا، يقول الله تعالى: (وغرتهم (١) الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين). قال مقاتل: (حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك والكفر في الدنيا) (٢).
١٣١ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ﴾ الآية. قال الزجاج: (ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذب بها؛ لأنه لم يكن مهلك القرى بظلم) (٣)، فعلى هذا الإشارة وقعت إلى العقاب الذي في قوله: ﴿قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ﴾ [الأنعام: ١٢٨] وإلى إتيان الرسل في قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠] وموضع ﴿ذَلِكَ﴾ رفع الابتداء على معنى: ذلك الأمر، أي: العقوبة بعد تكذيب الرسل، ويجوز أن يكون موضع (ذلك) نصبًا على معنى: فعل ذلك، وهذا معنى قول الفراء (٤) وسيبويه (٥) والزجاج (٦).
وقوله تعالى: ﴿أَنْ لَمْ يَكُنْ﴾ (أن) هاهنا هي المخففة من الثقيلة ويقدر معها الخافض وإضمار الهاء على تقدير: لأنه لم يكن، وهي التي في قول الأعشى:
(١) في (أ): (وغرتهم الله الحياة الدنيا)، وهو تحريف واضح.
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٨٩.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٣.
(٤) "معاني الفراء" ٢/ ٣٥٥، ومثله ذكر الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٧.
(٥) لم أقف عليه في الكتاب، وقد ذكر الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٩٣، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٨٠: (عن سيبويه أنه في موضع رفع بمعنى: الأمر ذلك؛ لأن ربك لم يكن مهلك القرى بظلم)، ولم أجد من ذكر عنه وجه النصب.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٢ - ٢٩٣.
445
في فِتْيِةٍ كَسْيوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَينْتَعِلُ (١)
وقوله تعالى: ﴿بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾. قال الكلبي: (يقول: لم يكن ليهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم رسلهم فينهاهم فإن رجعوا وإلا أتاهم العذاب) (٢).
وقال الزجاج: (أي: لا يهلكهم حتى يبعث إليهم الرسل كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] (٣)، وهذا قول جميع المفسرين (٤) والظلم على هذا ظلمهم الذي هو ذنوبهم ومعاصيهم.
وقال الفراء: (يجوز أن يكون المعنى: لم يكن ليهلكهم [بظلم منه وهم غافلون، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ (٥)] وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٧] أي بظلم منه) (٦).
(١) "ديوان الأعشى" ص ٢٨٤، و"الكتاب" ٢/ ١٣٧، ٣/ ٧٤ - ١٦٤ - ٤٥٤، و"المحتسب" ١/ ٣٠٨، و"المنصف" ٣/ ١٢٩، و"أمالي" ابن الشجري ٢/ ١٧٧ - ١٧٨، و"الإنصاف" ١٦٧، وبدون نسبة في "المقتضب" ٣/ ٩، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٨٥، و"الخصائص" ٢/ ٤٤١، و"رصف المباني" ص ١٩٦.
والشاهد إضمار اسم أن المخففة والتقدير: أنه هالك، وعجز البيت في الديوان:
أَنْ لَيْسَ يَدْفَعُ عَنْ ذِي الحِيلَةِ الحِيلُ
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٠، و"الخازن" ٢/ ١٨٥.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٣.
(٤) انظر: الطبري ٨/ ٣٧، والسمرقندي ١/ ٥١٤، والماوردي ٢/ ١٧٢، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٨٣ - ١٨٤.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ش) وملحق بالهامش.
(٦) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٥، وفيه قال: (وقوله: ﴿مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ يقول: لم يكن ليهلكهم بظلمهم وهم غافلون لما يأتيهم رسول ولا =
446
وعلى هذا يوهم (١) أنه لو أهلكهم وهم غافلون قبل بعث الرسل كان ظالمًا، وكذلك لو أهلكهم وهم صالحون، وليس كذلك؛ لأن له أن يفعل ما يريد، لكنه أخبر أنه لا يعذب قبل بعثه الرسل، ولا يهلك الصالحين، ولو فعل ذلك لم يكن ظلمًا، ولكنه يكون في صورة الظلم فيما بيننا، فأطلق عليه الظلم مجازًا لا حقيقة، والقول في معنى الآية هو الأول (٢) وقد بيّنا القولين في سورة هود عند قوله تعالى: ﴿بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٧].
١٣٢ - قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ الآية. قال ابن عباس: (يريد: فضائل مما عملوا ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ يريد: عمل المشركين والدرجات للمؤمنين (٣)، فعلى هذا أثبت الدرجات للمؤمنين في (٤) أول الآية وأوعد المشركين بأنه ليس ﴿بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ في آخر الآية على معنى: أنه يجازيهم به، وتقدير الآية: ولكل عاملٍ بطاعة الله درجات جزاء من أجل ما عملوا، وقال آخرون: (هذا عام في كل
= حجة، وقوله في هود: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ يقول: لم يكن ليهلكهم بظلمهم يقول: بشركهم ﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ يتعاطون الحق فيما بينهم، هكذا جاء التفسير، وفيها وجه وهو أحب من ذا؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، والمعنى -والله أعلم-: لم يكن ليهلكهم بظلم منه وهم مصلحون). اهـ.
(١) في (ش): (توهم).
(٢) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ١٩٦ - ١٩٧.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٦٢، وفي "الوسيط" ١/ ١٢١ نقل الواحدي عن ابن عباس في الآية قال: (يريد عمل المشركين).
(٤) لفظ: (في) ساقط من (أ).
عامل (١) عملًا طاعة كان أو معصية (٢) على تقدير: ولكل عامل بطاعة الله أو معصيته (٣) منازل في عمله). ومثلت الأعمال (٤) بالدرجات ليتبين أنه وإن عمّ أحد قسميها صفة الحسن، وعمّ الآخر صفة القبح، فليست في المراتب سواء، وأنه بحسب ذلك يقع الجزاء، فالأعظم من العقاب للأعظم من السيئات، والأعظم من الثواب للأعظم من الحسنات، وجملة معنى الآية: أن بعضهم أوفر وأجزل ثوابًا من بعض على قدر أعمالهم، وبعضهم أشدّ عذابًا من بعض (٥) على قدر أعمالهم في الدنيا (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ أي: لا يفوته شيء منها ولا من مراتبها حتى يجازي عليه بما يستحق من الجزاء (٧).
١٣٣ - قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ﴾. قال ابن عباس: (يريد: عن عبادة من تولى غيره) (٨)، وقال مقاتل: (عن عبادة خلقه) (٩)، ومعنى الغنى عن الشيء: أنه الذي يستوي عنده عدم ذلك الشيء ووجوده (١٠).
(١) وهذا القول هو الظاهر، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٨، والسمرقندي ١/ ٥١٤، والرازي ١٣/ ١٩٨.
(٢) في (أ): (أو معية)، وهو تحريف.
(٣) في (أ): (أو معيته)، وهو تحريف.
(٤) لفظ: (الأعمال) مكرر في (أ).
(٥) في (أ): (بعضهم).
(٦) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ١٧٢.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٣٨، والسمرقندي ١/ ٥١٤.
(٨) لم أقف عليه.
(٩) "تفسيرمقاتل" ١/ ٥٩٠.
(١٠) انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص ٦٣، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١١٧، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٠٤، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ١/ ٢٤.
وقوله تعالى: ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾. قال ابن عباس: (بأوليائه وأهل طاعته) (١)، وقال الكلبي: (ذو الرحمة بخلقه، وذو التجاوز) (٢)، وقال مقاتل: (ذو النعمة فلا يعجل (٣) عليهم بالعذاب، -يعني: كفار مكة-).
وقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ﴾. قال الكلبي: (وينشئ من بعدكم خلقًا آخر) (٤) ﴿كَمَا أَنْشَأَكُمْ﴾ مثل ما أنشاكم، أي: خلقكم ابتداء ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ -يعني: آباءهم الماضين-، وهذا وعيد لهم بالإهلاك (٥).
١٣٤ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ﴾. قال الحسن: (أي: من مجيء الساعة؛ لأنهم كانوا يكذبون بالنشأة الثانية) (٦)، فيجوز أن يكون (توعدون) من الإيعاد: أي ما توعدون به من العقوبة في الآخرة، ويجوز أن يكون من الوعد، لاختلاط الخير بالشر، فيكون على التغليب، إذ مجيء الساعة خير للمؤمنين، وشر على الكافرين، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أي: بفائتين: يقال: أعجزني فلان، أي: فاتني وغلبني فلم أقدر عليه (٧).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩١، وابن الجوزي ٣/ ١٢٧.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩١.
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٩٠، وقد جاء في (ش)، و"تفسير مقاتل": (فلا تعجل) بالتاء.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٦٢.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٠٢، والسمرقندي ١/ ٥١٤ - ٥١٥.
(٦) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٦٦، والقرطبي ٧/ ٨٨، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٢٥.
(٧) هذا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٦.
قال ابن عباس: (يريد: وما يعجزني منكم أحد) (١).
١٣٥ - قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾. قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: على حالاتكم التي أنتم عليها) (٢)، قال الزجاج: (المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه، يقال للرجل إذا أمرته أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان، أي: أثبت على ما أنت عليه) (٣).
وقال مقاتل: (على جديلتكم) (٤)، وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا؛ لأن الجديلة (٥) معناها: الطريقة، والطريقة يراد بها هاهنا: ما هم عليها، ومثل هذا قول مجاهد: (على وتيرتكم) (٦)، وقول الكلبي: (على منازلكم) (٧) وقول يمان: (على مذاهبكم) (٨).
(١) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٤/ ١٣٩٠، بسند ضعيف من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: (﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أي: بسابقين)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٨.
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٤ ب، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩١، من قول عطاء فقط، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٣٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٩٠، بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني: على ناحيتكم)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٨.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٣، وفيه: (المعنى: اعملوا على تمكنكم، ويجوز أن يكون المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه..) ثم ذكر ما ذكر الواحدي.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٩٠.
(٥) الجديلة؛ بفتح الجيم وكسر الدال: الطريقة، والناحية، والشاكلة. انظر: "اللسان" ١/ ٥٧١ (جدل).
(٦) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٤ ب. والوتيرة، بفتح الواو وكسر التاء: الطريقة، والصفة. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٧٦٠ (وتر).
(٧) ذكره الثعلبي ١٨٤ ب.
(٨) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٤ ب.
450
وقال أبو إسحاق: (المعنى: اعملوا على تمكنكم وجهتكم التي كنتم عند أنفسكم في العلم بها) (١).
قال أبو علي: (المكانة في اللغة: المنزلة والتمكن، كأنه اعملوا على قدر منزلتكم وتمكنكم في دنياكم فإنكم لن تضرونا (٢) بذلك شيئًا) (٣)، قال ابن عباس: (وهذا وعيد وتهدد) (٤)، يريد: أن هذا الأمر أمر وعيدٍ، كقوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ﴾ [هود: ١٢١].
قال الزجاج: (ومعنى هذا الأمر: المبالغة في الوعيد؛ لأن ما بعده يدل على الوعيد، وقد أعلمهم بقوله: ﴿لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ أن من عمل بعملهم فالنار مصيره، فكأنه قيل لهم: أقيموا على ما أنتم عليه من الكفران رضيتم بعذاب النار) (٥).
وقرئ (مكانتكم) و (مكاناتكم) (٦)، والوجه الإفراد؛ لأنه مصدر، والمصادر في أكثر الأمر مفردة، وقد تجمع في بعض الأحوال، والأمر العامّ على الوجه الأول (٧).
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٣، وفيه: (المعنى: اعملوا على تمكنكم). وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٩٣.
(٢) في (ش): (يضرونا).
(٣) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤٠٧.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٤.
(٦) قرأ عاصم في رواية: (على مكاناتكم)، بألف بعد النون على الجمع. وقرأ الباقون (على مكانتكم) بدون ألف على التوحيد. انظر: "السبعة" ص ٢٦٩، و"المبسوط" ص ١٧٥، و"الغاية" ص ٢٥٠، و"التذكرة" ٢/ ٤١١، و"التيسير" ص ١٠٧، و"النشر" ٢/ ٢٦٣.
(٧) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٤٠٧ - ٤٠٨، وانظر: "معاني القراءات" =
451
وقوله تعالى: ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾. قال مقاتل: (أي: عامل على جديلتي التي أمرت بها) (١)، يريد ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ﴾ على مكانتي: فحذفت الثانية لدلالة الأولى في ذلك الجانب على الثانية في هذا الجانب، وجملة المعنى: اعملوا ما أنتم عاملون إني عامل مما أمرني به ربي، ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ موضع (من) نصب بوقوع العلم عليه، ويجوز أن يكون رفعًا على معنى: تعلمون أينا ﴿تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ كقوله: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ [الكهف: ١٢]، والوجهان ذكرهما الفراء (٢).
قال ابن عباس: (﴿مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ يعني: الجنة. ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ من له الجنة أنتم أم أوليائي وأهل طاعتي) (٣)، فإن قيل: أليس الكافر أيضًا له عاقبة في الآخرة، فكيف قيل: إن (٤) عاقبة الدار للمؤمنين؟ قيل: العاقبة تكون على الكافر ولا تكون له، كما يقال: لهم الكرة، ولهم الظفر، وفي ضده يقال: عليهم الكرة والظفر (٥).
= ١/ ٣٨٦، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٩، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤٩، ولابن زنجلة ص ٢٧٢، "الكشف" ١/ ٤٥٢، ونقل قول الواحدي الرازي في " تفسيره" ١٣/ ٢٠٣.
(١) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٩٠.
(٢) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٥، والنصب على أن (من) موصولة، فهي في محل نصب مفعول به، والرفع على أن (من) استفهامية، فتكون في محل رفع بالابتداء، انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٨٠، و"المشكل" ١/ ٢٧١، و"البيان" ١/ ٣٤٢، و"التبيان" ص ٣٥٩، و"الفريد" ٢/ ٢٣١، و"الدر المصون" ٥/ ١٥٨.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٢، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢٢.
(٤) في (ش): (فكيف قيل له عاقبة الدار للمؤمنين)، وهو تحريف.
(٥) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ٢٠٣.
452
وقرئ (١): (تكون) بالتاء، والياء؛ لأن العاقبة مصدر كالعافية، وتأنيثه غير حقيقي فمن أنث فكقوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ [الحجر: ٧٣] ومن ذكر فكقوله: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ [هود: ٦٧]، وقال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ﴾ [يونس: ٥٧] وفي أخرى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾ [البقرة: ٢٧٥] (٢)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: لا يسعد من كفر نعمتي وأشرك بي) (٣).
١٣٦ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا﴾ الآية، قال ابن عباس (٤) والمفسرون (٥): (كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم نصيبًا، وللأوثان نصيبًا، فما كان للصنم أنفق عليه، وما كان لله أطعم الضيفان (٦) والمساكين،
(١) قرأ حمزة والكسائي: (من يكون له عاقبة الدار) بالياء على التذكير، وقرأ الباقون (من تكون) بالتاء على التأنيث.
انظر: "السبعة" ص ٢٧٠، و"المبسوط" ص ١٧٥، و"الغاية" ص ٢٥٠، و"التذكرة" ٢/ ٤١١، و"التيسير" ص ١٠٧، و"النشر" ٢/ ٢٦٣.
(٢) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٤٠٨، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٨٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧٠، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٧٢، و"الكشف" ١/ ٤٥٣، ونقل هذا الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢٠٣.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٢، والخازن ٢/ ١٨٧.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٤٠ - ٤١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٩٠، والبيهقي في "سننه" ١٠/ ١٠، من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٨.
(٥) أخرج الطبري ٨/ ٤١ - ٤٢، من طرق جيدة عن مجاهد وقتادة والسدي نحوه، وذكر هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٦٢، عن الحسن والكلبي نحوه، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٩١.
(٦) في (أ): (أطعم للضيفان).
453
ولا يأكلون من ذلك كله شيئًا، فما سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله التقطوه وردّوه إلى نصيب الصنم، وقالوا: إنه فقير. فذلك قوله: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ﴾). قال ابن عباس: (خلق، ﴿مِنَ الْحَرْثِ﴾ قال: يريد التمر والقمح، وجميع ما يؤكل، (الأنعام) يريد: الضأن والماعز والإبل والبقر، ﴿نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ﴾ يريد: بكذبهم) (١).
وقد ذكرنا تفسير الزُّعم (٢) والزَّعم في سورة النساء [: ٦٠].
فإن قيل: أليس جميع الأشياء لله فكيف نسبوا إلى الكذب في قولهم: ﴿هَذَا لِلَّهِ﴾؟ قلنا: إفرازهم النصيبين نصيبًا لله، ونصيبًا للشيطان، وحكمهم بذلك كذب منهم (٣) لم يأمر الله تعالى به، وهم كانوا يفعلون ذلك تدينًا وتعبدًا واعتقادًا أن ذلك أمر به (٤) الله تعالى وأنه يرضى به (٥)، قال الزجاج: (وتقدير الكلام: جعلوا لله نصيبًا ولشركائهم نصيبًا، ودل على هذا المحذوف تفصيله القسمين فيما بعد، وهو قوله: ﴿هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾) (٦)، وجعل الأوثان شركاءهم؛ لأنهم جعلوا لها نصيبًا من أموالهم ينفقونها عليها فشاركوها في مالهم (٧).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٣، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢٣.
(٢) يعني: بضم الزاي وفتحها. انظر: "اللسان" ٣/ ١٨٣٤ (زعم).
(٣) لفظ: (منهم) ساقط من (ش).
(٤) في (أ): (ذلك أمره لله تعالى فإنه يرضى به).
(٥) انظر: "تفسير الرازي" ١٣/ ٢٠٤.
(٦) هذا قول النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٩٤، وذكره عن الزجاج الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢٠٤، ولم أقف عليه في "معاني الزجاج".
(٧) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٨١، و"تفسير الرازي" ١٣/ ٢٠٤.
454
وقوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ﴾ معناه ما ذكرنا عن ابن عباس (١): أنه كان إذا اختلط شيء مما جعلوه لله بما جعلوه للأوثان لم يخرجوه ولم يردوه، وإذا كان على الضد ردّوه.
وقال الحسن (٢) والسدّي (٣): (هو أنه إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا بدله مما لله، ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله عز وجل).
وقال مجاهد: (هو أنه إذا انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدوه، وإن كان على ضد ذلك تركوه) (٤)، وزاد قتادة: (إذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزءوا لله ووفروا ما جزءوا لشركائهم) (٥)، وزاد مقاتل: (وإن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يترك نصيب الله تركوه للآلهة وقالوا: لو شاء الله زكا نصيبه، وإن زكا نصيب الله ولم يترك نصيب الآلهة قالوا: لا بد لآلهتنا من نفقة فأخذوا نصيب الله فأعطوه السدنة، فذلك قوله: ﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ﴾ يعني: من تمام الحرث والأنعام ﴿فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ﴾ يعني: إلى المساكين) (٦)، وإنما قال: ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ لأنهم كانوا يفرزونه لله ويسمونه نصيب الله ﴿وَمَا كَانَ لِلَّهِ﴾ من التمام فهو يصل إلى
(١) سبق تخريجه
(٢) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٦٢، والماوردي ٢/ ١٧٤، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢٤، وابن الجوزي ٣/ ١٢٩.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٤٠١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٩٠، بسند جيد.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٣، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٤٠ - ٤١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٩١، بسند جيد.
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢١٨ - ٢١٩، والطبري ٨/ ٤١، بسند جيد.
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٩١.
455
آلهتهم ثم ذم الله فعلهم فقال: ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أي: ساء الحكم حكمهم حيث صرفوا ما جعلوا لله على جهة التبرر للأوثان (١).
١٣٧ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية. قال الزجاج (٢): (أي: ومثل ذلك الفعل القبيح ﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ﴾) (٣)، وقال أبو بكر: (وذلك إشارة إلى ما نعاه الله عليهم من قسمهم ما قسموا بالجهل، فكأنه قيل: ومثل ذلك الذي أتوه في القسم جهلًا وخطأً ﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فشبه تزيين الشركاء بخطأهم في القسم) (٤)، وهذا معنى قول الزجاج.
قال مجاهد (٥): (﴿شُرَكَاؤُهُمْ﴾: شياطينهم أمروهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة) (٦)، وسميت الشياطين شركاء؛ لأنهم أطاعوهم في معصية الله فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم، وأضيفت الشركاء إليهم، لأنهم اتخذوها، كقوله تعالى: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: ٢٢] (٧).
(١) في (ش): (التبرر إلى الأوثان).
(٢) في (أ): (قال الزجل)، وهو تحريف.
(٣) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ١٦١، عن الزجاج، ولم أقف عليه في "معاني الزجاج".
(٤) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ١٦١، عن ابن الأنباري.
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٤، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٤٠/ ٤١، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٩١ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٨٨
(٦) العيلة، بفتح فسكون: الفقر، وشدة الحاجة. انظر: "اللسان" ٥/ ٣١٩٤ (عيل).
(٧) كتبت الآية في النسخ خطأ بلفظ (أين شركاؤكم الذين كنتم تدعون من دون الله)، واستشهد الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢٥، على الموضوع بقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [فاطر: ٤٠].
456
وقال الكلبي (١): (كان لآلهتهم سدنة وخدام هم الذين كانوا يزينون للكفار قتل أولادهم، وكان الرجل يقوم في الجاهلية فيحلف بالله لئن ولد له كذا غلامًا لينحرن أحدهم كما حلف (٢) عبد المطلب على ابنه عبد الله) (٣)، وعلى هذا القول الشركاء هم: السدنة سمّوها شركاء كما سميت الشياطين شركاء في قول مجاهد (٤) والشركاء رفع بالتزيين.
ولما تقدم ذكر المشركين كنى عنهم في قوله: (شركاؤهم) كقوله تعالى: ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا﴾ [الأنعام: ١٥٨] لما تقدم ذكر النفس كنى عنها، ومثله ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ [البقرة: ١٢٤] وأضيف المصدر الذي هو القتل إلى المفعولين الذين هم الأولاد كقوله: ﴿مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾ [فصلت: ٤٩]، أي: من دعائه الخير فحذف ذكر الفاعل، كذلك التقدير في الآية: قتلهم أولادهم (٥).
وقرأ ابن عامر (٦) (زُيِّنَ) بضم الزاي، (قَتْلَ) رفعًا، (أَوْلَادَهُم)
(١) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٤ ب، والماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٧٤، والبغوي ٣/ ١٩٢ - ١٩٣، وابن الجوزي ٣/ ١٣٠.
(٢) انظر تفصيل ذلك في: "تاريخ الطبري" ٢/ ٢٣٩ - ٢٤٣.
(٣) عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم: أبو قثم الهاشمي القرشي، والد رسول الله - ﷺ -، أصغر ولد عبد المطلب وأحبهم إليه، ويلقب بالذبيح. انظر: "تاريخ الطبري" ٢/ ٢٣٩ - ٢٤٦، و"الأعلام" ٤/ ١٠٠.
(٤) سبق تخريجه.
(٥) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٤١٠.
(٦) قرأ ابن عامر: (وكذلك زُيِّنَ (زَيَّنَ) لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم) (زُيِّن) بضم الزاي وكسر الياء بالبناء للمفعول و (قَتْلُ) برفع اللام نائب فاعل (أَوْلَادَهُم) بنصب الدال مفعول للمصدر (شُرَكَائِهِم) بهمزة مجرورة على إضافة المصدر إليه وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. وقرأ الباقون: (زَيَّنَ) بفتح الزاي =
457
بالنصب، (شُرَكَائِهِم) بالجرّ على تقدير: ﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ﴾ شركائهم أولادهم، ولكنه فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به، وهو الأولاد، والمفعول به مفعول المصدر، قال أبو علي: (وهو قبيح، قليل في الاستعمال؛ لأنهم لا يفصلون بين المضاف والمضاف إليه بالظرف الذي توسعوا فيه، وفصلوا به في كثير من المواضع، نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: ٢٢].
ونحو قول الشاعر:
عَلَى أَنَّني بَعْدَ مَا قَدْ مَضى ثلاثُون لِلْهَجرِ حَوْلًا كَمِيلًا (١)
[فصل بين العدد والمعدود (٢)]، ونحو قوله:
فَلا تَلْحَني فيها فإنَّ بِحُبِّهَا أَخَاكَ مُصابُ القَلْبِ جَمٌّ بَلابِلُهْ (٣)
= والياء مبينًا للفاعل. و (قَتْلَ) بنصب اللام على المفعولية (أَوْلَادِهِمْ) بجر الدال على الإضافة (شُرَكَاؤُهُم) بهمزة مرفوعة على الفاعلية. انظر: "السبعة" ص ٢٧٠، و"المبسوط" ص ١٧٥، و"الغاية" ص ٢٥٠، و"التذكرة" ٢/ ٤١١، و"التيسير" ص ١٠٧، و"النشر" ٢/ ٢٦٣ - ٢٦٥.
(١) الشاهد للعباس بن مرداس في "ديوانه" ص ١٣٦، وهو بلا نسبة في "الكتاب" ٢/ ١٥٨، و"المقتضب" ٣/ ٥٥، و"مجالس ثعلب" ص ٤٢٤، و"المسائل الحلبيات" ص ٢٥٨، و"الإيضاح العضدي" ١/ ٢٤٢، و"المسائل البصريات" ٢/ ٨٣٥، و"الإنصاف" ص ٢٦٥، و"الدر المصون" ٥/ ١٦٣، و"مغني اللبيب" ٢/ ٥٧٢.
وكميلاً: أي كامل. والشاهد: الفصل بين ثلاثين وبين تمييزها، وهو حولًا. انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي ٢/ ٩٠٨.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٣) لم أهتد إلى قائله. وهو في "الكتاب" ٢/ ١٣٣، و"الأصول" ١/ ٢٠٥، و"المسائل الحلبيات" ص ٢٥٨، و"كتاب الشعر" ١/ ٢٤٠، ٢٧٠، و"المقرب" ١/ ١٠٨، =
458
ألا ترى أنه فصل بين أن واسمها بما يتعلق بخبرها، ولو كان بغير الظرف لم يجز، ألا ترى أنهم لا يجيزون إن زيدًا عمرًا (١) ضارب إذا نصبت زيدًا (٢) بضارب (٣)، فإذا لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف في الكلام، وإنما يجوز في الشعر، كقوله:
كَمَا خُطَّ الكِتابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهودِي يُقَارِبُ أَوْ يُزيلُ (٤)
فأن لا يجوز في المفعول به الذي لم يتسع فيه بالفصل أجدر، ووجه ذلك على ضعفه وقلة الاستعمال أنه قد جاء في الشعر [الفصل] (٥) على حد ما قرأه، قال الطرماح:
= و"الدر المصون" ٥/ ١٦٣، و"مغني اللبيب" ٢/ ٦٩٣، وقوله: (فلا تلحني) أي: تلمني. و (جَمّ)، بفتح الجيم وتشديد الميم: كثير. و (بلابله): جمع بلبلة بالفتح، وهي شدة الهم، والوسوسة. والشاهد: رفع مصاب على أنه خبر أن مع إلغاء الجار والمجرور؛ لأنه من صلة الخبر وتمامه. انظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي ٢/ ٩٦٩.
(١) و (٢) في (أ): (عمروا).
(٣) جاء في النسخ: إذا نصبت عمرًا بضارب، والتصحيح من "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤١٢.
(٤) الشاهد لأبي حية النميري في "الكتاب" ١/ ١٧٨ - ١٧٩، و"الإنصاف" ص ٣٤٩، وبلا نسبة في "المقتضب" ٤/ ٣٧٧، و"الأصول" ٢/ ٢٢٧، ٣/ ٤٦٧، و"الخصائص" ٢/ ٤٠٥، و"غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٣٨٨، و"أمالي" ابن الشجري ٢/ ٥٧٧، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٣٦٠، والقرطبي ٧/ ٩٣، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٢٩، و"الدر المصون" ٥/ ١٦٣.
والشاهد: (بكف يومًا يهودي) حيث فصل بالظرف بين المضاف والمضاف إليه.
(٥) لفظ: (الفصل) ساقط من (أ).
459
يُطِفْنَ بِحُوزِي المَرَاتِعِ لَمْ يُرَعْ (١) بِوَادِيهِ مِنْ قرْعِ القِسِيِّ الكَنَائِنِ (٢)
وأنشد أبو الحسن (٣):
زَجَّ القلوصِ أبي مزَادَةْ (٤)
(١) جاء في (ش): حاشية على البيت. قال: (أي: بفحل منتحى المراتع قد حاز بمرتعه ناحية).
(٢) الشاهد للطرماح في "ديوانه" ص ٤٨٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٧٠٠ (حاز)، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٣٦١، و"اللسان" ٢/ ١٠٤٦ (حوز)، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٢٩، ٢٣٠، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦٤، وبلا نسبة في: "الحجة" لأبي علي ٣/ ١٢٣، و"الخصائص" ٢/ ٤٠٦، و"الإنصاف" ص ٣٤٧.
والشاعر يصف بقر الوحش، وقوله: (بحوزي)، الحوزي: المتوحد: وهو الفحل منها، وهو من حزت الشيء إذا جمعته أو نحيته والمراتع: موضع الرتع. ولم يرع، أي: لم يخف. والقرع: الضرب. والقسي: جمع قوس. والكنائن: جمع كنانة: جراب يوضع فيه السهام. انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٧٠٠ (حاز)، و"حاشية الإنصاف".
والشاهد: الفصل بين المصدر المضاف (قرع)، وفاعله المضاف إليه. (الكنائن) بالمفعول به للمصدر وهو (القسي).
(٣) أبو الحسن الأخفش الأوسط: إمام لغوي، تقدمت ترجمته.
(٤) الشاهد لم أهتد إلى قائله. وصدره:
فَزَجَجْتُها بِمزَجَّةٍ......
وفي رواية: (فزججتها متمكنًا) وهو في: "الكتاب" ١/ ١٧٦، و"معاني الفراء" ١/ ٣٥٨، و"تفسير الطبري" ٨/ ٤٤، و"الخصائص" ٢/ ٤٠٦، و"المدخل" للحدادي ص ٣٢١، و"الكشاف" ٢/ ٥٤، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٣٦١، و"الإنصاف" ص ٣٤٧، و"البيان" ١/ ٣٤٢، و"تفسير الرازي" ١٣/ ٢٠٦ و"الفريد" ٢/ ٢٣٣، و"المقرب" ١/ ٥٤، و"القرطبي" ٧/ ٩٢، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٢٩، و"الدر المصون" ٥/ ١٦٦ - ١٧٠، وقوله: (فزججتها) الضمير للراحلة.
والزج: الدفع بالرمح. والقلوص: الناقة الفتية. وأبو مزادة؛ كنية رجل.
460
وهذان البيتان مثل قراءة ابن عامر، ألا ترى أنه فصل فيهما بين المصدرين والمضاف إليهما بالمفعول به، كما فصل ابن عامر بين المصدر وما حكمه أن يكون مضافًا إليه، وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء وإن لم يتولوا ذلك؛ لأنهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه فكأنهم فعلوا ذلك) (١).
وقوله تعالى: ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾. قال ابن عباس: (يريد: في النار) (٢)، والإرداء في اللغة: الإهلاك (٣) وفي القرآن: ﴿إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ﴾ [الصافات: ٥٦].
= والشاهد: الفصل بين المضاف زج والمفاف إليه: أبي مزادة بالمفعول، وهو القلوص. انظر: "حاشية تفسير الطبري" ١٢/ ١٣٨ ط. شاكر.
(١) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤٠٩ - ٤١٤، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٨٢، و"معاني القراءات" ١/ ٣٨٨، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧١، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٠، ولابن زنجلة ص ٢٧٣، و"الكشف" ١/ ٤٥٣، و"المشكل" ١/ ٢٦٩. وقد ذكر قول أبي علي الفارسي وغيره، السمين في "الدر" ٥/ ١٦٦، وقال: (وهذه الأقوال التي ذكرتها جميعًا لا ينبغي أن يتلفت إليها؛ لأنها طعن في المتواتر، وإن كانت صادرة عن أئمة أكابر، وأيضًا فقد انتصر لها من يقابلهم، وأورد من "لسان العرب" نظمه ونثره ما يشهد لصحة هذه القراءة لغة). اهـ. ثم ذكر عدة أقوال وشواهد عن كبار الأئمة في جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه إذا كان الفاصل معمولًا للمضاف المصدر. وهذا هو الحق؛ لأنها قراءة متواترة، والقراءة سنة متبعة تؤخذ بالنقل والسماع لا بالاجتهاد، فينبغي تصحيح قواعد العربية بالقراءة ولا يلتفت إلى الاعتراض عليها.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢٦، والرازي ١٣/ ٢٠٦، والخازن ٢/ ١٨٨.
(٣) الرَّدَى، بالفتح: الهلاك. انظر: "الجمهرة" ٢/ ١٠٥٧، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٨٧، و"الصحاح" ٦/ ٢٣٥٥، "المجمل" ٢/ ٤٢٨، و"المفردات" ص ٣٥١، و"اللسان" ٣/ ١٦٣١ (ردى).
461
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾. قال ابن عباس: (يدخلوا عليهم الشك في دينهم) (١)، وقال الكلبي: (ليخلطوا ويشبهوا، وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَ (٣) لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ﴾ أخبر أن جميع ما فعله المشركون كان ذلك بمشيئة الله إذ لو لم يشأ ما فعلوا (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: وما يقولون أن لله شريكًا) (٥).
١٣٨ - قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ معنى الحجر في اللغة: الحرام، وأصله (٦) من المنع، ومنه سمّي العقل حجرًا لمنعه عن القبائح، وفلان في حجر القاضي أي: منعه (٧)، قال أبو إسحاق: (المعنى:
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٣، وابن الجوزي ٣/ ١٣١، والخازن ٢/ ١٨٨.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٤، وظاهر سياق الواحدي في "الوسيط" والبغوي وابن الجوزي والخازن في تفاسيرهم أنه من قول ابن عباس. وانظر: "الحجة" لأبي علي ٣/ ٢٨٠.
(٣) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٤) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥١٦، والرازي ١٣/ ٢٠٦، والقرطبي ٧/ ٩٤.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٦٥.
(٦) الحجر بكسر الحاء وضمها، وسكون الجيم: الحرام. انظر: "العين" ٣/ ٧٤، و"الجمهرة" ١/ ٤٣٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٧٤٧، و"الصحاح" ٢/ ٦٢٣ و"المجمل" ١/ ٢٦٤، و"المفردات" ص ٢٢٠، و"اللسان" ٢/ ٧٨٢ (حجر).
(٧) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٧، و"معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٧ - ٢٨٨، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٣، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧١، و"تفسير الطبري" ٨/ ٤٦ و"تفسير المشكل" ص٨٠، و"تفسير الرازي" ١٣/ ٢٠٧، والقرطبي ٧/ ٩٤.
462
أنهم حرموا أنعامًا وحرثًا وجعلوه لأصنامهم فقالوا: ﴿لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ﴾، فأعلم الله عز وجل أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة لهم فيه، ولا برهان) (١).
﴿وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ قال ابن عباس: (يريد: مما سيبوا لآلهتهم) (٢).
قال الزجاج: (وهي نحو ما وصفنا من البحيرة والسائبة والحامي الذي قد حمي ظهره أن يركب) (٣).
﴿وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ قال ابن عباس: (يريد: يقتلونها لآلهتهم، إما يقذفونها (٤)، وإما يخنقونها بالوتر) (٥).
وقال الزجاج: (يذبحونها لأصنامهم ولا يذكرون اسم الله عليها، فأعلم الله عز وجل أن ذلك افتراء (٦)، فقال: ﴿افْتِرَاءً عَلَيْهِ﴾ أي: يفعلون ذلك افتراء، وهذا يسميه سيبويه مفعول له (٧)، أي: لا يذكرون اسم الله عليها للافتراء على الله، وهو أنهم زعموا أن الله أمرهم بذلك، قال الزجاج:
(١) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٣٢، ولم أقف عليه في "معاني الزجاج".
(٢) لم أقف عليه، وهو ظاهر كلام القرطبي في "تفسيره" ٧/ ٩٥.
(٣) الذي عند الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٩٤ تعريف الحامي فقط.
(٤) في (أ): (يقذوفها)، وهو تحريف.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) في (ش): (أن ذلك افتراء عليه، أي: يفعلون ذلك افتراء)، وهو قريب من نص الزجاج.
(٧) أي مفعول لأجله. انظر: "الكتاب" ١/ ٣٦٧، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٨٤: (افتراء) مفعول من أجله ومصدر. اهـ. وانظر: "المشكل" ١/ ٢٧٢، و"غرائب التفسير" ١/ ٣٨٩، و"التبيان" ص٣٦٠، و"الفريد" ٢/ ٢٣٦، و"الدر المصون" ٥/ ١٨٢.
463
وحقيقته أن قوله تعالى: ﴿لَا يَذْكُرُونَ﴾ بمعنى: يفترون، كأنه قال: يفترون افتراء) (١).
١٣٩ - قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا﴾. قال ابن عباس (٢) والشعبي (٣) وقتادة (٤): (يعني: ألبان البحائر، كانت للذكور دون النساء، فإذا ماتت اشترك في لحمها ذكورهم وإناثهم).
وقال غيرهم من المفسرين (٥): (يعني: أجنة البحائرِ والسوائب، ما ولد منها حيًّا فهو خالص للرجال دون النساء، وما ولد ميتًا أكله الرجال والنساء).
وقوله تعالى: ﴿خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا﴾ ذكر ابن الأنباري: في تأنيث خالصة ثلاثة أقوال: قولين للفراء، وقولًا للكسائي:
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٤٩٦ - ٤٩٧.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٤٧، ٤٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٥، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٠ - ٩١.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٤٨ بسند جيد، وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٤ب، وابن عطية في "تفسيره".
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢١٩، والطبري ٨/ ٤٨، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٠.
(٥) ومنهم مجاهد في "تفسيره" ١/ ٢٢٤، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٤٨ - ٤٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٥ بسند جيد عن مجاهد والسدي، وذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥١٦ عن الكلبي، وذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٤، عن ابن عباس، وقتادة والشعبي، والظاهر هو العموم من الأجنة والألبان، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٩٢، والسدي، كما ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٣٢، ورجحه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٤٩.
(أحدها: أن الهاء ليست للتأنيث، وإنما هي للمبالغة في الوصف كما قالوا: راوية وعلامة ونسَّابة، والداهية والطاغية، وأنه لمنكر ومنكرة، وكذلك تقول: هو خالصة لي، وخالص لي، وهذا قول الكسائي (١).
وقال الفراء (٢): (وقد تكون (خالصة) مصدرًا لتأنيثها كما تقول: العاقبة والعافية، وهو مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ [ص: ٤٦] (٣)، قال أبو بكر: فعلى هذا أنثت الخالصة؛ لأنها أجريت مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث إخبارًا عن الأسماء المذكرة كقولهم: عطاؤك عافية، والمطر رحمة، والرخص نعمة، ومعروف عندهم الرجل خالصتي، قال الشاعر (٤):
كُنتَ أمنيتي وكَنتَ خَالصتي وليس كلُّ امرئ بمؤتمنِ
القول الثالث (٥): للفراء (أن تأنيث (خالصة) لتأنيث (الأنعام) (٦)، لأن ما في بطونها مثلها، فأنث لتأنيثها) (٧)، وعلى هذا كأنه قيل: وقالوا
(١) ذكره النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٨٤، وفي "معانيه" ٢/ ٤٩٨، عن الكسائي، وهو اختيار الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٨٨، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٤٩.
(٢) هذا هو القول الثاني.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٩، وهو اختيار الكرماني في "غرائب التفسير" ١/ ٣٨٨.
(٤) لم أهتد إلى قائله، وهو في الكشف للثعلبي ١٨٥ أ، و"غرائب التفسير" ١/ ٣٨٨، و"الدر المصون" ١/ ١٨٣.
(٥) جاء في النسخ: (القول الثاني)، وهو تحريف.
(٦) حصل في (أ) تداخل في الأقوال، فقد جاء قول أبي علي الفارسي بعد قوله: (لتأنيث الأنعام)، وهو تحريف من الناسخ.
(٧) "معانى الفراء" ١/ ٣٥٨.
465
الأنعام التي في بطون الأنعام ﴿خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا﴾ (١)، وقال الزجاج: (جُعل معنى (ما) التأنيث؛ لأنها في معنى الجماعة كأنهم قالوا: جماعة ﴿مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا﴾ (٢)، وأبين من هذا كله أن يقال: (ما) عبارة عن الألبان أو الأجنة، وإذا كان عبارة عن مؤنث جاز تأنيثه على المعنى، وتذكيره على اللفظ، كما جُعل في هذه الآية فإنه أنث خبره الذي هو (خالصة) لمعناه وذُكر في قوله (ومحرم) على اللفظ (٣)، وهذا قريب مما قاله أبو إسحاق؛ لأنه جعل (ما) بمعنى الجماعة. وذكر أبو علي فيه (٤) قولين: (أحدهما: أن (خالصة) مصدر، ويكون المعنى: ما في بطون هذه الأنعام ذو خلوص. والثاني: أن يكون صفة، وأنث على المعنى لأنه كثرة، والمراد به: الأجنة والمضامين) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ يعني: النساء. قال ابن عباس: (يريدون على نسائنا) (٦).
(١) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢٠٨، عن ابن الأنباري، وذكره بعضه ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٣٣، وانظر: "الدر المصون" ٥/ ١٨٣.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٤ - ٢٩٥، واختاره الأزهري في "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٨١ (خلص).
(٣) وهذا القول هو اختيار النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٨٤، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٧٢، وابن الأنباري في "البيان" ١/ ٣٤٣.
(٤) "الحجة" لأبي علي ٦/ ٧٤، ونحوه قال ابن جني في "المحتسب" ١/ ٢٣٢، وانظر: "أمالي ابن الشجري" ٣/ ٣١.
(٥) المضامين، بالفتح وكسر الميم: ما في بطون الحوامل من كل شيء. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٦١١ (ضمن).
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٥.
466
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً﴾. قرأ (١) ابن كثير (يَكُن) بالياء (مَيْتَةٌ) رفعًا.
قال أبو بكر: (الميتة: أريد بها الميت زيدت عليها الهاء للإبهام، كما قالوا: الدابة فارة، والشاة ذبحته، والأُرْويَّة (٢) عاينته، فيذكّرون إذا (٣) كان الحرف يقع على المذكر والمؤنث، وقراءة ابن كثير (وإن يكن ميتة) فالميتة اسم الكون، وخبر الكون مضمر يراد به: وإن يكن لهم ميتة، أو وإن يكن هناك ميتة، وذكر الفعل لأن الميتة في معنى الميت) (٤).
وقال أبو علي: (لم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل المسند إليه تأنيثه غير حقيقي، ولا يحتاج الكون إلى خبر لأنه بمعنى: وإن وقع ميتة، أو حدث ميتة. وقرأ ابن عامر (وإن تَكُن) بالتاء (مَيْتةٌ) بالرفع، ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل المسند إليه في اللفظ مؤنثًا، وقرأ عاصم في رواية أبو بكر (وإن تَكُن) بالتاء (مَيْتَةً) بالنصب على تقدير: وإن تكن المذكورة أو المعينة ميتة، فأنث الفعل وإن كان المتقدم مذكرًا؛ لأنه
(١) قرأ ابن عامر، وعاصم في رواية (وإن تكن) بالتاء، وقرأ الباقون بالياء، وقرأ ابن عامر وابن كثير (مَيْتَةٌ) بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب). انظر: "السبعة" ص٢٧٠ - ٢٧١، و"المبسوط" ص ١٧٥ - ١٧٦، و"الغاية" ص ٢٥٠ - ٢٥١، و"التذكرة" ٢/ ٤١٢، و"التيسير" ص ١٠٧، و"النشر" ٢/ ٢٦٥ - ٢٦٦.
(٢) الأروية، بضم الهمزة، وسكون الراء، وكسر الواو، وتشديد الياء المفتوحة: الأنثى من الوعول. انظر: "اللسان" ٣/ ١٧٨٧ مادة (روى)، وقال ابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" ١/ ٥٤ (الأروية: شاة الجبل) ا. هـ.
(٣) في (ش): (إذ كان).
(٤) لم أقف عليه، وقد ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢٠٨، بدون نسبة. وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٨، و"معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٨٥.
467
حمله على المعنى. وقرأ الباقون بالياء (ميتةً) بالنصب، تأويله: وإن يكن المذكور ميتة، ذكروا الفعل؛ لأنه مسند إلى ضمير ما تقدم في قوله: ﴿مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ﴾ [الأنعام: ١٣٩] وهو مذكر، وانتصب الميتة لما كان الفعل مسندًا إلى الضمير) (١).
وقوله تعالى: ﴿فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ﴾ قال ابن عباس: (يريد: الرجال والنساء) (٢)، وذكرت الكناية في قوله (فِيهِ) لما ذكرنا أن الميتة غير مختصة بالأنثى (٣)؛ لأن المراد بالميتة هاهنا: الحيوان كيف ما كان (٤).
وقوله تعالى: ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ قال (٥): (يريد: سيعذبهم بما وصفوا الله به، وما أحلوا مما حرم الله، وما حرموا مما أحل الله) (٦).
(١) "الحجة" لأبي علي، ٣/ ٤١٥، بتصرف. وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٩٠ - ٣٩١، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧١ - ١٧٢، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥١، ولابن زنجلة ص ٢٧٤ - ٢٧٥، و"الكشف" ١/ ٤٥٤ - ٤٥٥، و"الدر المصون" ٥/ ١٨٦.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٥، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٦ بسند ضعيف من طريق عطية العوفي عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩١.
(٣) في (ش): (ولأن) بالواو.
(٤) انظر: "الدر المصون" ٥/ ١٨٦ - ١٨٧.
(٥) كذا ورد بدون نسبة، والظاهر أن المقصود ابن عباس رضي الله عنهما، ذكره عنه هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٦٥، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢٧ بدون نسبة.
(٦) قال مجاهد في "تفسيره" ١/ ٢٢٥: (يعني: قولهم الكذب في ذلك)، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٠، من عدة طرى جيدة، عن مجاهد وأبي العالية وقتادة، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٣٩٦ عن مجاهد، وقال: (وروي عن أبي العالية وقتادة نحو ذلك) اهـ.
468
وقال أبو إسحاق: (المعنى -والله أعلم-: سيجزيهم جزاء وصفهم الذي هو كذب) (١).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ قال ابن عباس: (يريد: أنه أحكم وأعلم من أن يفعل هذا) (٢).
١٤٠ - قوله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ﴾، قال ابن عباس (٣) والمفسرون (٤): (يعني: الذين كذبوا يدفنون بناتهم أحياء في الجاهلية). وقوله (٥) تعالى: ﴿سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (سفهًا) منصوب على معنى اللام، أي: للسفه، مثل: فعلت ذلك حذر الشر، ويجوز أن يكون منصوبًا على تأويل المصدر؛ لأن قتلهم أولادهم سفه، فكأنه قال: قد سفهوا سفهًا، والوجهان ذكرهما الزجاج (٦).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٥، وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٩٩: (التقدير عند النحويين: سيجزيهم جزاء وصفهم الذي هو كذب) اهـ.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٢٧، بدون نسبة، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٥٠.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٦، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٣٤، وأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (٣٥٢٤)، كتاب المناقب، باب قصة زمزم وجهل العرب، عن ابن عباس قال: (إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ اهـ، الآية ١٤٠ - الأنعام.
(٤) ومنهم مقاتل في "تفسيره" ١/ ٥٩٢، والطبري ٨/ ٥١، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٤٩٩، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥١٧، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥١، من عدة طرق جيدة عن عكرمة والسدي، وقتادة. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٩١.
(٥) لفظ: (وقوله) ملحق في أعلى السطر من (أ).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٥، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٨٥، و"المشكل" ١/ ٢٧٤، و"البيان" ١/ ٣٤٥، و"التبيان" ٣٦١، و"الفريد" ٢/ ٢٣٨ - ٢٣٩، =
469
وقوله تعالى: ﴿وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ﴾ قال المفسرون (١) (يعني: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي والحرث، حرموها على أنفسهم، وقالوا: إن الله أمرهم بها). ونصب (افتراء) مثل نصب (سفهًا) (٢).
١٤١ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ﴾، ذكر الزجاج وجه اتصال هذه الآية بما قبلها فقال: (احتج الله عليهم، ونبه على عظيم ما أتوه في أن أقدموا على الكذب على الله، وشرَّعُوا من الدين ما لم يأذن به فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ﴾، فكأنه قال: افتروا على الله، وهو المحدِث للأشياء، الفاعِل ما لا يقدر أحد على الإتيان بمثله فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ﴾ أي: أبدع) (٣)، يقال: نشأ (٤) الشيء ينشأ نشأً ونشأة ونشاءةً إذا ظهر وارتفع، والله ينشئه إنشاءً، أي (٥): يظهره ويرفعه، ويبتدئ خلقه.
= وقال السمين في "الدر" ٥/ ١٨٧: "سفها" نصب على الحال، أي: ذوي سفهٍ، أو على المفعول من أجله وفيه بعد؛ لأنه ليس علة باعثة، أو على أنه مصدر لفعل مقدر، أي: سفهوا سفها، أو على أنه مصدر على غير الصدر؛ لأن هذا القتل سفه) اهـ.
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٧ بسند جيد، عن قتادة، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٩٤، وابن الجوزي ٣/ ١٣٤.
(٢) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٦.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٦.
(٤) الإنشاء: إيجاد الشيء وتربيتهِ. والنَّشْءُ والنَّشأةُ: إحداث الشيء وتربيته. يقال: نَشَأ: بالفتح - يَنْشأ نَشأ ونَشْأة ونشَاءة، وفي "اللسان" ٧/ ٤٤١٨ مادة (نشأ): (نَشأ يَنْشَأ نَشأ ونُشُوءًا ونَشَاءً ونَشْأةً ونَشَاءَةً: حَيي، وأنشأ الله الخلق، أي: ابتدأ خلقهم) ا. هـ وانظر: "العين" ٦/ ٢٨٧، و"الجمهرة" ٢/ ١٠٧٦، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٦٧، و"الصحاح" ١/ ٧٧، و"المجمل" ٤/ ٨٦٨، و"المفردات" ص ٨٠٧.
(٥) في (أ): (أن يظهره) ثم صحح أعلى السطر (أي).
470
قوله تعالى: ﴿جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ﴾ يقال: عَرَّشْتُ (١) الكرم أَعْرِشُه عَرْشًا، وعَرَشْتُه تَعْرِيشًا إذا عطفت العيدان التي تُرسل عليها قُضبان الكَرْم، والواحد عَرْش، والجميع عُروش، ويقال: عَرِيش، وجمعه عُرُشٌ، واعْتَرشَ العِنَبُ العَريشَ اعْتِراشًا إذا عَلاه (٢). قال ابن عباس: (يريد: ما يعرش من الكروم. ﴿وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾ يريد: أن كثيراً من الأعناب لا يُعرش) هذا قوله في رواية عطاء (٣) وهو قول الضحاك (٤) والفراء (٥): (إن المعروشات وغير المعروشات كلاهما الكرم خاصّة، منه ما عُرش، ومنه ما لا يُعرش).
وروي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: (﴿مَعْرُوشَاتٍ﴾ ما انبسط على وجه الأرض، وانتشر مما يعرش، مثل: الكروم والقرع والبطيخ، {وَغَيْرَ
(١) انظر: "العين" ١/ ٢٤٩، و"الجمهرة" ٢/ ٧٢٨، و"الصحاح" ٣/ ١٠٠٩، و"المجمل" ٣/ ٦٥٨، و"المفردات" ص ٥٥٨، و"اللسان" ٥/ ٢٨٨٢ (عرش).
(٢) النص في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٩٢ (عرش).
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٢، رقم ١٣٩٥٨ بسند ضعيف، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، وهو في "تفسير عطاء الخراساني" ص ٨٨، رقم ٢٠٨، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٢، وقال: (أخرجه أبو الشيخ، عن ابن عباس، وأخرج من وجه آخر عن ابن عباس (معروشات) قال: الكرم خاصة) ا. هـ، وعلق البخاري في "صحيحه" ٨/ ٢٨٧، في كتاب تفسير القرآن، سورة الأنعام، عن ابن عباس قال: ((معروشات) ما يعرش من الكرم وغير ذلك) ا. هـ، وقال الحافظ بن حجر في "فتح الباري" ٨/ ٢٨٧، والعيني في "عمدة القارئ" ١٥/ ١٤٣: (وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: (﴿مَعْرُوشَاتٍ﴾ ما يعرش من الكرم، ﴿وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾ ما لا يعرش) ا. هـ.
(٤) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ص ١٨٥ أ، والبغوي ٣/ ١٩٥، وابن الجوزي ٣/ ١٣٥.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٣٥٩ وقال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٩٦: (ومعنى المعروشات ههنا: الكروم) اهـ.
471
مَعْرُوشَاتٍ} ما قام على ساق وبسق (١)، مثل النخل والزرع وسائر الأشجار) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾ فسر ابن عباس: (الزرع هاهنا بجميع الحبوب التي تقتات، ﴿مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ﴾ قال: يريد بكل شيء منها طعم غير طعم الآخر) (٣)، والأكل كل ما أكل، وهاهنا المراد به: ثمر النخل والزرع، ومضى القول في الأكل عند قوله تعالى: ﴿فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٦٥] وانتصب (مختلفًا) على الحال (٤) أي: أنشأه في حال اختلاف أكله.
(١) بَسَق، بالفتح: طال، وارتفع. انظر: "اللسان" ١/ ٢٨٤ (بسق)، وجاء الأثر عند البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٥، وفيه (ونسق) بالنون بدل الباء، والنَّسَق: ما كان على طريقة نظام واحد. انظر: "اللسان" ١٠/ ٧/ ٤٤١٢ (نسق).
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٥ أ، والقرطبي ٧/ ٩٨، والخازن ٢/ ١٩٠، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٣٦، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٢، بسند جيد عن ابن عباس قال: (﴿مَعْرُوشَاتٍ﴾ مسموكات)، وفي رواية (﴿مَعْرُوشَاتٍ﴾: ما عرش الناس ﴿وغير معروشات﴾: ما خرج في البر والجبال من الثمرات) اهـ. والظاهر أن المراد بالمعروشات: ما كانت مرفوعة على ما يحملها من دعائم كأشجار العنب وغيرها، وغير المعروشات هي المتروكة على وجه الأرض لم تعرش. وهو اختيار أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٧، وأبي حيان في "البحر" ٤/ ٢٣٦، والدكتور فريد مصطفى سلمان في "تفسير آيات الأحكام من سورتي الأنعام والأعراف" ص ٨٥ - ٨٦.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢١٢، وانظر: "تفسير الخازن" ٢/ ١٩٠، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٣٤.
(٤) حال مقدرة؛ لأن النخل والزرع وقت خروجهما لا أكل فيه، حتى يقال فيه متفق أو مختلف. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٨٥، و"المشكل" ١/ ٢٧٤، و"غرائب التفسير" ١/ ٣٨٩، و"البيان" ١/ ٣٤٥، و"التبيان" ٣٦١، و"الفريد" ٢/ ٢٣٩، و"الدر المصون" ٥/ ١٨٧.
472
فإن قيل: كيف أنشأه في حال اختلاف أكله وهو قد أنشأه من قبل ظهور أكله، وأكله ثمره؟ والجواب: ما ذكره الزجاج وابن الأنباري (١) وهو: (أن الله تعالى قد دل على خلقه جميع الأشياء في غير موضع من كتابه، فكان في ذلك دليل على إنشائه هذين قبل اختلاف أكلهما، ثم دل على أنه هو المنشئ لهما في حال اختلاف طعم الثمار، فلم يجب بهذا أن يكون غير منشئ لهما فيما تقدم).
قال الزجاج: (ويجوز أن يكون أنشأه ولا أكل فيه، ﴿مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ﴾؛ لأن المعنى: مقدرًا ذلك فيه، كما تقول: لتدخلن منزل زيدٍ آكلين شاربين، والمعنى: أنكم تدخلون مقدّرين ذلك، وسيبويه (٢) مثل هذا بقولهم: مررت برجل معه صقرا صائدًا به غدًا، فنصب صائدًا على الحال، والمعنى: مقدرًا به الصيد) (٣).
وقال أبو بكر: (ويجوز أن يكون نصب ﴿مُخْتَلِفًا﴾ على القطع من ﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾ لا على الحال، والقطع النعت، فكأنه قال: ﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾ المختلف أكلهما فلما كان (مختلفًا) نكرةً، ﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾ معرفتان، لم تحمل نكرة على إعراب معرفة، فقطعت من لفظهما، أجاز الكسائي والفراء (٤): جاءني زيد أحمر يا هذا، وقالا: أحمر ينتصب على
(١) لم أقف عليه عن ابن الأنباري.
(٢) "الكتاب" ٢/ ٥٢.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٦.
(٤) قال الفراء في "معانيه" ١/ ١١ - ١٢، في إعراب قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الآية: ٢البقرة] (في: (هدى) النصب من وجهين: أن تجعل (الكتاب) خبرًا، لذلك فتنصب (هدى) على القطع؛ لأن (هدى) نكرة اتصل بمعرفة قد تم خبرها فنصبتها؛ لأن النكرة لا تكون دليلًا على معرفة، وإن شئت نصت (هدى) على =
473
القطع من زيد على أنه نعتٌ في الأصل، ودال على صاحبه، فإن نصبت على الحال استحالت المسألة، إذ كانت العمرة في الرجل لا تنتقل كما ينتقل الركوب والقيام والجلوس، فالذي ينصبُ (مختلفًا) على القطع يقول: معناه النعت.
قال: وأما توحيده الهاء (١) العائدة على ﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾ فلأنه اكتفي بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما جميعًا كقوله عز وجل: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١] والمعنى: إليهما. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ (٢) [التوبة: ٦٢] ويجوز أن تكون الهاء مخصوصًا بها النخل؛ لأن أهل التفسير (٣) قالوا في قوله: ﴿مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ﴾ أي: منه الحامض والمر والحلو والجيد والرديء، وكل هذا من نعت ضروب التمر) (٤).
= القطع، الحال من الهاء التي في (فيه)، كأنك قلت: لا شك فيه هاديا) ا. هـ. وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٨، وقال السمين في "الدر" ٥/ ١٨٩، قال ابن الأنباري: (إن (مختلفًا) نصب على القطع، فكأنه قال: والنخل والزرع المختلف أكلهما، وهذا رأي الكوفيين) ا. هـ.
(١) الضمير في (أكله) يعود على الزرع؛ لأنه أقرب مذكور ولقرينة الحصد، أو يعود على جميع ما سبق؛ لأن التعميم أولى، والمعنى: مختلف ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر والحب.
وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٢، وانظر: "البحر المحيط" ٤/ ٢٣٦ و"الدر المصون" ٥/ ١٨٨.
(٢) جاء في النسخ (أن ترضوه) بالتاء، وهو خطأ واضح.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٩٥، ولم أقف على من خصه بالنخل.
(٤) لم أقف عليه عن ابن الأنباري.
474
وقوله تعالى: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾. قال أبو بكر: وهو قول غيره من المفسرين (١): (إن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في الشيوع، وفي أن ورقه يشتمل على الغصن ويستره من أوله إلى آخره، فأحدهما متشابه بالآخر في ورقه غير متشابه في ثمره؛ لأن طعم الزيتون غير طعم الرمان، ويجوز أن يكون التشابه وغير التشابه في كل واحد من الزيتون والرمان، وذلك أن الرمان يشبه بعضه بعضًا في اللون والخِلقة، ثم يختلف الطعم فمنه حلو، ومنه حامض، وكذلك الزيتون)، وهذا قول الفراء (٢)، وقد مر القول في هذا.
وقوله تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾: أمر إباحة (٣)، ومضى الكلام في الثَّمَر (٤) والثُّمُر.
وقوله تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾، قال الأزهري (٥): (يريد -والله أعلم-: يوم حَصْدِه).
(١) ومنهم ابن جريج، فقد أخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٢، بسند جيد عنه قال: (متشابهًا في المنظر، وغير متشابه في الطعم) ا. هـ.
وانظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٥٩٣، والسمرقندي ١/ ٥١٨، وابن الجوزي ٣/ ٩٤.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٩، والآية عامة، أي: متشابه في المنظر ومختلف في الطعم، كالنخل متعدد الأنواع والطعم، والرمان منه الحلو والحامض، أو متشابه في الطعم ومختلف في المنظر، والأول أدل على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى وإبداع مخلوقاته.
انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٧، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٠٠.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٩٥، وابن عطية ٥/ ٣٧٠.
(٤) انظر: "البسيط" تفسير سورة البقرة: ٢٦٧.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ٨٩٤ (حصد).
475
وقال جميع أهل اللغة: (١) (يقال: حِصَاد وحَصَاد وجِزاز وجَزاز وقِطاف وقَطاف وجِداد وجَداد) (٢) قال سيبويه: (جاؤوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فِعَال، وربما قالوا فيه: فَعال) (٣).
واختلفوا في معنى قوله: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ أي حقٍّ هو؟ فقال ابن عباس في رواية عطاء (٤): (يعني: زكاته، يريد به: العشر ونصف العشر مما سقى بالسواني). وهذا قول طاووس (٥) والحسن (٦) وسعيد بن
(١) انظر: "العين" ٣/ ١٢٢، و"الجمهرة" ١/ ٥٠٣، و"الصحاح" ٢/ ٤٦٥، و"المجمل" ١/ ٢٣٨، و"المفردات" ص ٢٣٨، و"اللسان" ٢/ ٨٩٤ مادة (حصد).
(٢) لفظ: (وجداد الثانية) ساقطة من (ش): والمراد أن الجميع يقال بفتح أوله وكسره، ومعنى الحصاد والجزاز والقطاف والجداد: هو قطع الثمر ووقت قطعه. انظر: "اللسان" ١/ ٥٦٣ مادة (جدد)، ٢/ ٨٥٦ (جزز) ٩/ ٣٦٨٠ (قطف).
(٣) "الكتاب" ٤/ ١٢، وانظر: "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤١٦، و"اللسان" ١/ ٥٦٣ مادة (جدد).
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢١٣، عن عطاء عن ابن عباس، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٨، والبيهقي في "سننه" ٤/ ١٣٢، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٣٢، من عدة طرق جيدة عن ابن عباس قال: (العشر ونصف العشر)، وأخرج أبو عبيد في "ناسخه" ص ٣١، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٤، بسند جيد عن ابن عباس قال: (حقه زكاته المفروضة يوم يكال أو يعلم كيله) اهـ.
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ٤/ ١٤٥، وفي "التفسير" ١/ ٢/ ٢١٩، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٤، والبيهقي في "سننه" ٤/ ١٣٢، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٣٢، من عدة طرق جيدة.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٣، والنحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٢٥، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٣٢، من عدة طرق جيدة، وأخرج أبو عبيد في "ناسخه" ص ٣١، والطبري في "تفسيره" من عدة طرق جيدة عن الحسن قال: (هي الصداقة من الحب والثمار) اهـ.
476
المسيب (١) والضحاك (٢) وابن زيد (٣) وجماعة (٤).
فإن قيل: على هذا كيف يؤدي الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل؟
فالجواب: أن معناه قدروا إخراج الواجب منه، فإن وقت الحصاد قريب من زمان التنقية الذي هو وقت وجوب الإخراج هذا في الزرع، فأما في النخل فلا اختلاف بين المسلمين أن ثمارها إذا حصدت وجب إخراج ما يجب فيها من الصدقة. وقوله: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ ظاهر في ﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾ محمول عليه في وجوب الإخراج منه، إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد فيؤخر إلى زمان التنقية (٥).
وقال بعضهم: (هذا حق في المال سوى الزكاة، أمر الله تعالى به تأديبًا وحضًا على البر، فإن فعل فحسن، وإن لم يفعل فلا شيء على تاركه، وليس بأمرٍ حتمٍ).
(١) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ٤/ ١٤٥، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٤ بسند ضعيف.
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٢/ ٤٠٨ (١٠٨٤)، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٤ بسند ضعيف.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٤ بسند جيد.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٣، ٥٤، من عدة طرق عن أنس بن مالك، وجابر ابن زيد، ومحمد بن الحنفية، وقتادة، وزيد بن أسلم. وزاد النحاس في "ناسخه"، ٢/ ٣٢٥ نسبته إلى مالك، وعطاء الخراساني. وزاد هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٦٦ نسبته إلى سعيد بن جبير، وزاد ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٠٣، ابن جريج. وقال الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٧٨: (قال الجمهور: هي الصدقة المفروضة فيه العشر فيما سقي بغير آلة، ونصف العشر فيما سقي بآلة) ا. هـ.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٣/ ١٣٥ - ١٣٦.
477
وهذا قول عطاء (١) وحماد (٢) والحكم (٣) (٤) ومجاهد، وإبراهيم، والربيع، قال مجاهد: (إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم منه، وإذا دسته وذريته فاطرح لهم منه، وإذا كدسته فاطرح لهم منه، فإذا عرفت كيله فاعزل زكاته) (٥). وقال إبراهيم (٦): (هو الضِّغْث) (٧). وقال الربيع (٨):
(١) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ٤/ ١٤٣، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٨، والبيهقي في "سننه" ٤/ ١٣٢، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٣٣ - ٣٣٤، من عدة طرق جيدة.
(٢) أثر حماد بن زيد الأزدي، أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٨ بسند جيد، وذكره الثعلبي في الكشف ١٨٥ أ، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٥.
(٣) الحكم بن عُتَيبَة الكندي، أبو محمد الكوفي، إمام عابد، ثقة، ثبت، فقيه، من كبار أصحاب إبراهيم النخعي، توفي سنة ١١٣ هـ أبو بعدها، وله نيف وستون سنة. انظر: "الطبقات الكبرى" ٦/ ٣٣١، و"الجرح والتعديل" ٣/ ١٢٣، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٢٠٨، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ١١٧، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٤٦٦، و"تقريب التهذيب" (١٤٥٣).
(٤) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٥ أ، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٥.
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٥، وأخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" ص ١٥٩، وعبد الرزاق ١/ ٢/ ٢١٩، وفي "المصنف" ٤/ ١٤٤ - ١٤٥، وأبو عبيد في "ناسخه" ص ٣١ - ٣٢، وابن أبي شيبة في "المصنف" ٢/ ٤٠٨ (١٠٤٧٧)، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٦، ٥٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٨، والبيهقي في "سننه" ٤/ ١٣٢، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٣٣، من عدة طرق جيدة، وبألفاظ مختلفة.
(٦) الأثر عن إبراهيم النخعي، أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٢/ ٤٠٨ (١٠٤٨١)، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٦، من عدة طرق جيدة.
(٧) الضِّغث، بكسر فسكون: ملء اليد من النبات المختلط. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٥٩١ مادة (ضغث).
(٨) الأثر عن الربيع بن أنس، أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٧، بسند لا بأس به.
478
(لقاط السنبل) (١). وفي الآية قول ثالث، وهو: إن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرضت الزكاة نسخ هذا، وهو (٢) قول سعيد بن جبير (٣) وعطية (٤) والسدي، قال السدي: (نسخها العشر ونصف العشر) (٥).
وقال مقسم عن ابن عباس: (نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن) (٦)، والقول هو الأول (٧).
(١) لَقَاط السُّنْبُل، بضم اللام وبفتحها: ما يلتقطه الناس من نُثارة الثمر، والذي تخطته المنَاجِل فيلتقطه الناس. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٠٦١ مادة (لقط).
(٢) في (أ): (وهذا).
(٣) أخرجه أبو عبيد في "ناسخه" ص ٣٢، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٨، والنحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٢٢، والبيهقي في "سننه" من عدة طرق جيدة.
(٤) الأثر عن عطية العوفي. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٢/ ٤٠٨ (١٠٤٨٥)، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٨، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٣٤، بسند جيد.
(٥) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٢/ ٤٠٨ (١٠٤٨٠)، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٨، ٥٩، من عدة طرق جيدة.
(٦) أخرجه أبو عبيد في "ناسخه" ٣٣، بسند جيد، وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" ٢/ ٤٠٨ (١٠٤٨٦)، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٨، والنحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٢٣ بسند جيد عن ابن عباس قال: (نسخها العشر ونصف العشر) ا. هـ وقد أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"، والطبري في "تفسيره" القول بالنسخ عن جماعة من السلف رضي الله عنهم، ويحمل هذا على أن مفهوم النسخ عندهم أوسع كما بينا.
(٧) الظاهر -وهو قول الجمهور- أن الآية محكمة، وقد رجح هذا أبو عبيد في "ناسخه" ص ٣٣ - ٣٧، ومكي في "الإيضاح" ص ٢٤٤ - ٢٤٧، وابن العربي في "ناسخه" ٢/ ٢١٧، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣٧١، والرازي ١٣/ ٢١٣، ومصطفي زيد في "ناسخه" ٢/ ٧٢ - ٧٣، وغيرهم؛ لأنه لا تنافي بينهما وبين عامة آيات الزكاة، ولا بينها وبين ما جاء في السنة من تحديد أنصبة الزكاة ومقاديرها، =
479
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾ قال أبو العباس (١) عن ابن الآعرابي: (السَّرَف تجاوز ما حُدّ لك) (٢).
وقال شَمِر: (سَرَف الماء ما ذهب منه في غير سقى ولا نفع قال: أرْوَت البئر النخيل وذهب بقيّة الماء سَرَفًا) (٣)، فإن أخذت الإسراف مما قاله ابن الأعرابي فهو: مجاوزة الحد، وإن أخذت من قول شمر فهو: الإنفاق فيما لا يجدي عليك (٤).
= إذ أصل الزكاة شرع في أول الإسلام بدون تحديد، وفي المدينة المنورة حددت بمقاديرها المفروضة. قال ابن العربي في "أحكام القرآن" ٢/ ٧٦١: (قد قال مالك: إن المراد به: الزكاة المفروضة، وتحقيقه في نكتة بديعة، وهي أن القول في أنها مكية أو مدنية يطول، فهبكم أنها مكية إن الله أوجب الزكاة بها إيجابًا مجملاً، فتعين فرض اعتقادها ووقف العمل بها على بيان الجنس والقدر والوقت، فلم تكن بمكة حتى تمهد الإِسلام بالمدينة فوقع البيان، فتعين الامتثال، وهذا لا يفقهه إلا العلماء بالأصول) ا. هـ وقد نقل الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٩٧ عن قوم إنها مدنية، وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٠٦: (اختار ابن جريج النسخ، وفي تسمية هذا نسخًا نظر؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل ثم إنه فصل بيانه وبُين مقدار المخرج وكميته، قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة، فالله أعلم) ا. هـ، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٥٩، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٠٠، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٣٧.
(١) أبو العباس: هو ثعلب أحمد بن يحيى، إمام تقدمت ترجمته.
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٧٥ - ١٦٧٦.
(٣) الإسراف -في اللغة-: ضد القصد والإغفال والجهل والخطأ. وأصله مجاوزة الحد في كل فعل، وهو في الإنفاق أشهر، والإسراف في النفقة التبذير، وأما السرف الذي نهى الله تعالى عنه فهو: ما أنفق في غير طاعة الله قليلاً كان أو كثيراً.
انظر: "العين" ٧/ ٢٤٤، و"الجمهرة" ٢/ ٧١٦، و"الصحاح" ٤/ ١٣٧٣، و"مجمل اللغة" ٢/ ٤٩٣، و"المفردات" ص ٤٠٧، و"اللسان" ٤/ ١٩٩٦ (سرف).
(٤) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ١٧٨ - ١٧٩، وابن الجوزي ٣/ ١٣٦.
480
وقد فُسر الإسراف بالوجهين (١) في هذه الآية.
وقال ابن عباس: كان رجال يتبرعون عند الصرام، فيقول الرجل: لا أمنع سائلا حتى أمسي، فعمد ثابت بن قيس بن شماس إلى خمسمائة نخلة فجدها ثم قسمها في يومٍ واحدٍ، ولم يدخل منها إلى منزله شيئًا، فأنزل الله ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا﴾ أي: لا تعطوا كله (٢).
وهذا قول السدي (٣) ويمانٍ والفراء (٤)، وحكاه الزجاج أيضًا وقال (٥): (فيكون على هذا التأويل، أن الإنسان إذا أعطى كل ماله، ولم يوصل إلى عياله شيئًا فقد أسرف؛ لأنه جاء في الخبر (ابدأ بمن تعول) (٦))، فهذا مجاوزة حد الإعطاء.
(١) ذكره أكثرهم. انظر: السمرقندي ١/ ٥١٩، و"الوسيط" ١/ ١٢٩، والبغوي ٣/ ١٩٥، وابن الجوزي ٣/ ١٣٦، والقرطبي ٧/ ١١٠، والخازن ٢/ ١٩١، و"تنوير المقباس" ٢/ ٦٨، وأخرجه الطبري ٨/ ٦١ بسند جيد عن ابن جريج، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٣، وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" ٤/ ١٤٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٩ بسند جيد، عن ابن جريج قال: (جَدَّ معاذ بن جبل -رضي الله عنه- نخله، فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منها شيء، فنزلت الآية) ا. هـ، وهذا مرسل، والأول أشهر، لكنه ضعيف؛ لأن أكثرهم قد صرح أنه من رواية الكلبي.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٩ بسند جيد، عن السدي قال: (لا تعطوا أموالكم فتغدوا فقراء).
(٣) ذكره الثعلبي ص ١٨٥ بلفظ: (لا تبذروا تبذيرًا) ا. هـ.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٩.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٧.
(٦) حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في "صحيحه" (١٤٢٧)، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومسلم (١٠٣٤)، كتاب الزكاة، حديث ١٠٣٤ - ١٠٣٦، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي - ﷺ - قال: "أفضل الصدقة أو خير =
481
وقال سعيد بن المسيب: (معناه: لا تمنعوا الصدقة) (١)، وهذا يتوجه على أن تأويله: لا تتجاوزوا الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة، وهذا ضد القول الأول، ولكنهما راجعان إلى معنى مجاوزة الحد، فالأول: مجاوزة في الإعطاء. والثاني: مجاوزة في البخل.
وقال مقاتل (٢) وعطية: (معناه: لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام) (٣)، وهذا أيضًا من باب المجاوزة؛ لأن من أشرك الأصنام في الحرث والأنعام فقد جاوز ما حُدّ له. وروى عطاء، عن ابن عباس في قوله: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (لا تجعلوا لله شريكًا، إنه لا يحب من جعل له شريكًا) (٤)، وهذا أيضًا من مجاوزة الحد.
وقال إياس بن معاوية (٥): (ما جاوزت به أمر الله فهو سرف
= الصدقة عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول" ا. هـ لفظ مسلم، وأخرج البخاري أيضًا عن أبي هريرة، ومسلم عن أبي أمامة، نحوه.
(١) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ٤/ ١٤٥، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٦١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٣٩٩ بسند ضعيف.
(٢) "تفسيرمقاتل" ١/ ٥٩٣.
(٣) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٥ أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٣٦، عن عطية العوفي.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٨، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٣٩٩، بسند جيد عن عطاء، عن ابن عباس في قوله ﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾ قال: (في الطعام والشراب) اهـ، وأخرج أيضًا بسند جيد عن طاووس، عن ابن عباس في الآية قال: (أحل الله الأكل والشراب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة) ا. هـ واختار هذا القول ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٠٤.
(٥) إياس بن معاوية بن قُرة بن إياس المزني، أبو واثلة، قاضي المغيرة، تابعي، ثقة، فقيه، يضرب به المثل في الذكاء والدهاء، والعقل والفطنة، والفصاحة، توفي =
482
وإسراف) (١)، وهذا كله على الأصل الذي ذكره ابن الأعرابي، وقال الزهري: (معناه: لا تنفقوا في معصية الله) (٢)، قال مجاهد: (لو كان أبو قبيس (٣) ذهبًا فأنفقه رجل في طاعة الله لم يكن مسرفًا، ولو أنفق درهمًا في معصية الله كان مسرفًا) (٤)، وهذا المعنى أراد حاتم الطائي (٥) حين قيل له: لا خير في السرف، فقال: (لا سرف في الخير) (٦)، وهذا على الأصل الثاني في معنى السرف، وذلك أن من أنفق في معصية، فقد أنفق فيما لا يجدي عليه (٧).
= سنة ١٢٢ هـ، وله ٧٦ سنة. انظر: "حلية الأولياء" ٣/ ١٢٣، و"وفيات الأعيان" ١/ ٢٤٧، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ١٥٥، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٢/ ١٧٨.
(١) أخرجه الطبري ٨/ ٦١، وذكره الثعلبي ص ١٨٥ أ، والبغوي ٣/ ١٩٦، والقرطبي ٧/ ١١٠، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٣٨، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٩٤.
(٢) ذكره الثعلبي ص ١٨٥ أ، والبغوي ٣/ ١٩٦، وابن الجوزي ٣/ ١٣٦، والرازي ١٣/ ٢١٤، والخازن ٢/ ١٩١، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٣٨.
(٣) أبو قبيس، بضم القاف، وفتح الباء، وسكون الياء، بلفظ التصغير: اسم الجبل المشرف على مكة من جهة الصفا. انظر: "معجم البلدان" ١/ ٨٠.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٣٩٩ بسند جيد، وذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥١٩، والثعلبي ص ١٨٥/ أ، والبغوي ٣/ ١٩٦.
(٥) حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، أبو عدي، فارس جاهلي وشاعر مشهور بجوده وخلقه وسماحته، ويضرب المثل بجوده، يتميز شعره بالإشادة بالسخاء والحكم الجميلة، توفي في السنة الثامنة بعد مولد النبي - ﷺ -. انظر: "الشعر والشعراء" ص ١٤٣، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٣/ ٤٢٤، و"الأعلام" ٢/ ١٥١.
(٦) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٥ أ، والرازي ١٣/ ٢١٤، والقرطبي ٧/ ١١٠.
(٧) والظاهر أن الخطاب عام، والمتبادر من الآية النهي عن تجاوز الحد في الإنفاق وفي الأكل والشرب، والمسلم مطالب بالبعد عن الحرام أصلاً وليس بالإسراف فيه فقط، وهذا هو اختيار الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦١، والنحاس في "ناسخه" =
483
١٤٢ - قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ الآية معناها: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا؛ لأن قوله: ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ﴾ نسق علي قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ﴾ [الأنعام: ١٤١] قاله (١) الفراء (٢) وأبو إسحاق (٣).
وأما الحمولة، فقال الفراء: (الحمولة: ما أطاق العمل والحمل، والفرش: الصغار) (٤).
وقال ابن السكيت: (قال أبو زيد: الحمولة: ما احتمل عليه الحيّ من بعير أو حمار أو غيره كانت عليها أحمال أو لم تكن، وأنكر أبو الهيثم ما قاله أبو زيد، وقال: الحمولة من الإبل التي تحمل الأحمال على ظهرها، فأما الحُمر والبغال فلا تدخل في الحمولة) (٥)، وقال الليث: (الحمولة: الإبل التي تحمل الأثقال) (٦)، وقال النابغة:
= ٢/ ٣٣٦، وانظر: "القرطبي" ٧/ ١١٠، وابن كثير ٢/ ٢٠٤، و"تفسير آيات الأحكام من سورتي الأنعام والأعراف" للدكتور: فريد مصطفى سلمان ص ٩٩ - ١٠١.
(١) في (ش): (قال)، وهو تحريف.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٩.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٨، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٨٦، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٧٤ - ٢٧٥ (قوله: ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ نصب على العصف على (جنات)، أي: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا) ا. هـ.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٩.
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٩٢٥ مادة (حمل)، وفيه قال أبو الهيثم: (الحَمُولة من الإبل: التىِ تحمل الأحمال على ظهورها، بفتح الحاء: والحمولة: بضم الحاء: هي الأحمال التي تحمل عليها، واحدها حِمْل وأَحَمال وحُمول وحُمولة. فأما الحُمُر والبغال فلا تدخل في الحَمُولة) ا. هـ.
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٩٢٥، وفيه ضبط: الحَمُولة، بالفتح، وقال: (والحُمُول، =
484
وأنزلت بيتي في يَفَاعٍ مُمُنَّعٍ نُخَالُ به راعِي الحَمُولةِ طَائِرَا (١)
وقال عنترة:
ما رَاعَني إلاَّ حَمُولَة أَهلِهَا وَسْطَ الدِّيار تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ (٢)
وأما الفرش، فقال أبو إسحاق: (أجمع أهل اللغة (٣) على أن الفرش صغار الإبل. قال: وقال بعض المفسرين: الفرش صغار الأنعام، وإن البقر والغنم من الفرش، قال: ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ [الأنعام: ١٤٣]، فلما جاء هذا بدلاً من قوله ﴿حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ جعله للبقر والغنم مع الإبل) (٤).
قال الأزهري (٥): ومما يحقق هذا قوله:
= بالضم: الإبل بأثقالها). وانظر: "العين" ٣/ ٢٤٢، و"الجمهرة" ١/ ٥٦٦، و"الصحاح" ٤/ ١٦٧٦ (حمل).
(١) "ديوان النابغة الذبياني" ص ٤٧، و"الكتاب" ١/ ٣٦٨، و"الأصول" ١/ ٢٠٧، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٢٥، و"اللسان" ٢/ ١٠٠٤ (حمل)، و"الدر المصون" ٥/ ١٩١، وجاء في هذه المراجع: وحلت بيوتي - بدل: وأنزلت بيتي. واليفاع: المُشْرِف من الأرض. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٩٦٣ (يفع). وقوله: يخال طائرًا، أي: كالطائر في صغره لبعده في السماء أو كالطائر المحلق في الهواء.
(٢) "ديوانه" ص ١٧، والقرطبي ٧/ ١١٢، و"الدر المصون" ٥/ ١٩١، وهو من معلقته المشهورة.
وراعني: أفزعني. وتسف: تأكل. والخمخم: نبت تعلفه الإبل.
يقول: لما رأيت أهلها يتحملون راعني ذلك لفراقي إياها. انظر: "شرح القصائد" لابن الأنباري ص ٣٠٤، و"النحاس" ٢/ ١٣، و"جمهرة أشعار العرب" ص ١٦١.
(٣) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٧٢٩، و"الصحاح" ٣/ ١٠١٤، و"المجمل" ٣/ ٧١٥، و"المفردات" ص ٦٢٩ مادة (فرش).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٨.
(٥) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٦٩
485
وَلَنا الحَامِلُ الحَمولةُ والفرشُ من الضَّأنِ والحُصُون السُّيوفُ (١)
وقال الليث: (الفرش: من النعم التي لا تصلح إلا للذبح، وهي ما دون الحَمولة) (٢). وقال الكسائي (٣): (الحمولة ما حمل، والفرش الصغار) (٤)، هذا قول أهل اللغة (٥) في تفسير الحرفين.
(١) لم أهتد إلى قائله، وقد جاء في النسخ، وفي "اللسان" ٦/ ٣٣٨٣ مادة (فرش) عن الأزهري: (والحصون السُّيوف)، وفي "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٦٩، (الحصون الشّيوف) بالشين، بدل السين، ولعله أصح لأن الشّيوف: المرتفع المزين. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٣٦١ مادة (شوف).
(٢) "العين" ٦/ ٢٥٦، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٦٩.
(٣) لم أقف عليه عن الكسائي بعد طول بحث، وهو قول ثعلب في "مجالسه" ص ٤٢٥، وابن السكيت في "إصلاح المنطق" ص ٣٣٥، وقال ابن الأنباري في "شرح القصائد" ص ٣٠٤: (الحمولة: الإبل التي تطيق أن يحمل عليها، والفرش: الصغار التي لا تطيق الحمل عليها، وقال بعض المفسرين: الحمولة: الإبل. والفرش: البقر والغنم، وأهل اللغة على القول الأول) ا. هـ.
(٤) لفظ: (الصغار) مكرر في (أ).
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٧، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٣، و"تفسير غريب القرآن" ص ١/ ١٧٢، و"نزهة القلوب" للسجستاني ص ٢٠٢، ٣٥٢، و"تفسير المشكل" ص٨٠، والظاهر أن الحمولة، ما حمل من الأنعام، والفرش: الصغار؛ لأنها دانية من الأرض، وهذا هو قول الجمهور، واختاره الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٤، أو الفرش: ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره، الفرش. واستحسنه ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٠٥، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٨٦: (ومن أحسن ما قيل: إن الحمولة المسخرة المذللة للحمل، والفرش: ما خلقه الله عز وجل من الجلود والصوف مما يجلس عليه ويتمهد) ا. هـ، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٥٠٣، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٣٧٣، والرازي ١٣/ ٢١٦.
486
وأما (١) المفسرون فقال عطاء، عن ابن عباس: (﴿حَمُولَةً﴾: الحوامل، ﴿وَفَرْشًا﴾: الذي ليس بحامل) (٢).
وقال ابن مسعود: (الحمولة: الكبار، والفرش: الصغار) (٣).
وقال الحسن: (الفرش: الحواشي) (٤).
وروي عن ابن عباس (٥): (أن الحمولة: الإبل والخيل والبغال والحمير، وكل شيء يحمل عليه، وأما الفرش: فالغنم) (٦)، وهذا مثل قول
(١) في (ش): فأما.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٤ بسند ضعيف من طريق عطية العوفي عن ابن عباس.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٠٠ بسند جيد، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٠٠، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣١٧، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في التلخيص عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (الحمولة: ما حمل من الإبل، والفرش: الصغار)، وفي رواية عند الطبري قال: (الحمولة: الكبار من الإبل، والفرش: الصغار من الإبل)، وروي بسند جيد عن ابن مسعود مثله في "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٥ - ٢٢٦، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٤، وانظر: "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٢.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢١٩ - ٢٢٠، والطبري ٨/ ٦٣، بسند جيد عن الحسن قال: (الحمولة: ما حمل عليه، والفرش: حواشيها، يعني: صغارها).
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٠٠ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٥، وعلق البخاري في "صحيحه" ٥/ ١٩٢، عن ابن عباس قال: (حمولة ما يحمل عليها) ا. هـ، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٢، بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (الحمولة: الكبار، والفرش: الصغار من الإبل) ا. هـ، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٠١ بسند جيد عن ابن عباس قال: (الفرش: صغار الإبل)، وذكر السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٤، عن ابن عباس أنه قال: (الفرش: الصغار من الإبل)، وفي رواية: (الفرش: ما أكل منه) اهـ.
(٦) في (أ) (وأما الفرش الغنم)، وهو تحريف.
487
أبي زيد في الحمولة.
وقال مجاهد: (الحمولة: ما حمل عليها، والفرش: صغار الإبل) (١)
وقال قتادة: (الحمولة: الإبل، والفرش: البقر والغنم) (٢).
وقال الربيع بن أنس: (الحمولة: الإبل والبقر، والفرش: الماعز والضأن) (٣)، ونحو ذلك قال الكلبي (٤).
وقوله تعالى: ﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾. قال ابن عباس: (يريد: أحل الله لكم الذبائح مما ذكر اسم الله عليه) (٥).
وقال أبو إسحاق: (أي: لا تُحرموا ما حرمتم مما جرى ذكره) (٦).
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ (يريد: ما زين الشيطان وشرع عمرو بن لحي)، قاله ابن عباس (٧). وقال الزجاج: (المعنى: لا تسلكوا الطريق الذي يُسَوّله لكم الشيطان) (٨).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٢، من عدة طرق جيدة عن مجاهد قال: (الحمولة: ما حمل من الإبل، والفرش: ما لم يحمل)، وفي رواية قال: (الفرش: صغار الإبل).
(٢) أخرج عبد الرزق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٠، والطبري ٨/ ٦٣، بسند جيد، عن قتادة قال: (الحمولة: الإبل والبقر، والفرش: الغنم)، ولم أقف عليه عن قتادة بلفظ: (الفرش: البقر والغنم).
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٣ بسند لا بأس به.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٨، وفيه قال: (الحمولة: ما يحمل عليها، مثل الإبل والبقر. والفرش: ما لا يحمل عليها، مثل الغنم وصغار الإبل) ا. هـ.
(٥) لم أقف عليه. وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٥٠٤، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٣٧٣
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٨.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٨، وقال: (هذا هو الذي تدل عليه اللغة) ا. هـ، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٦٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٠٤ - ٥٠٥.
488
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ قال ابن عباس: (يريد: بيّن العداوة، أخرج آدم من الجنة، وهو القائل: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٦٢] (١).
١٤٣ - وقوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ الآية. انتصب (ثمانية) بالبدل من ﴿حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ في قول الفراء والزجاج (٢). قال الفراء: (وإن شئت أضمرت لها فعلًا) (٣)، قال ابن قتيبة: (أي: كلوا مما رزقكم الله ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾) (٤).
قال الفراء: (الذكر زوج، والأنثى زوج) (٥)، وهو قول ابن عباس: (يريد: بالزوج الواحد الذكر (٦) زوج، والأنثى زوج) (٧).
وقال ابن قتيبة: (والثمانية الأزواج: الضأن، والماعز، والإبل، والبقر، [فالضأن والماعز ذكرا في هذه الآية، والإبل والبقر (٨)] فيما
(١) لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٦٨، قال: (ظاهر العداوة يأمركم بتحريم الحرث والأنعام).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٩، وهو قول الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٥.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٩.
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٣٩، وفيه: (وإن شئت جعلته منصوبًا بالرد إلى الحمولة، والفرش تبيينا لها) ا. هـ، وبعضهم قدر: وأنشأ ثمانية أزواج، أو كلوا لحم ثمانية أزواج، انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٩، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٨٦، و"المشكل" ١/ ٢٧٥، و"البيان" ١/ ٣٤٥ - ٣٤٦، و"التبيان" ٣٦١، و"الفريد" ٢/ ٢٤١، و"الدر المصون" ٥/ ١٩٢.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٥٩، وقال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٩٩: (والزوج في اللغة: الواحد الذي يكون معه آخر) ا. هـ، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٥٠٥.
(٦) في (ش): (يريد بالزوج: الذكر الواحد زوج، وبالأنثى: زوج).
(٧) لم أقف عليه.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
489
بعدها، قال: وإنما جعلها ثمانية وهي أربعة؛ لأنه أراد ذكرًا وأنثى من كل صنف، فالذكر زوج، والأنثى زوج، يقع على الواحد وعلى الاثنين (١)، ألا ترى أنك تقول للرجل: زوج وهو واحد، وللمرأة زوج وهي واحدة، وقال الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ [النجم: ٤٥]) (٢).
وقوله تعالى: ﴿مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ يعني: الذكر والأنثى، والضأن: ذوات الصوف من الغنم (٣).
قال الزجاج: (وهي جمع ضائن وضائنة مثل: تاجرٍ وتَجرٍ) (٤)، وتجمع الضأن أيضًا (٥): الضِّئين والضَّئين بالكسر والفتح (٦).
(١) قال ابن الأنباري في "الأضداد" ص ٣٧٣ - ٣٧٥: (من ادعى أن الزوج يقع على الاثنين، فقد خالف كتاب الله جل وعز، وجميع كلام العرب إذ لم يوجد فيهما شاهد له، ولا دليل على صحة تأويله. وإنما يقال للاثنين: زوجان، قال الله عز وجل ﴿ثمانية أزواج﴾ الآية فكان المعنى: ثمانية أفراد أنشأ من الضأن اثنين، وكذلك ما بعدهما، فالأزواج معناها: الأفراد لا غير) ا. هـ ملخصًا. وانظر: "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٥١٥ - ٥١٧، و"الزاهر" ٢/ ١٩٨
(٢) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٣٩ - ٣٤٠، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٩، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٧٥، و"اللسان" ٣/ ١٨٨٥ مادة (زوج). وقد ذكر الأخفش في "معانيه" والطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٥: (أنه يقال للاثنين: هما زوج).
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٠٨٣.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٩، وفيه: (والضأن: جمع ضائن وضَأن مثل تاجر وتَجْر).
(٥) لفظ: (أيضاً) ساقط من (أ).
(٦) أي: بكسر الضاد وفتحها، قال القرطبي في "تفسيره" ٧/ ١١٣ - ١١٤: (الضأن: ذوات الصوف من الغنم، وهي جمع ضائن، والأنثى ضائنة والجمع ضوائن وقيل: هو جمع لا واحد له، وقيل في جمعه: ضئين كعَبْد وعبيد، ويقال فيه: ضِئين، كما يقال في شَعير: شِعير، كسرت الضاد إتباعًا) ا. هـ وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٩، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٠٥، و"اللسان" ٤/ ٢٥٤٢ (ضأن) =
490
وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ وقرئ (المعز) (١) بفتح العين، والمَعْز والمَعَزُ ذوات الشعر من الغنم، ويقال للواحد: مَاعِز، وتجمع مِعزى ومَعِيزًا (٢) وحكى أبو زيد: (الأمعوز) (٣). وأنشد:
كالتَّيْسِ في أَمْعُوزِهِ المُتَرَبَّلِ (٤)
وقالوا (٥): المعيز كالكَليب والضئين، قال:
وَيَمْنَعها (٦) بنو شَمَجَى بن حَزْمٍ (٧) مَعِيزُهُمُ حَنَانَكَ ذَا الحَنَانِ
= و"البحر المحيط" ٤/ ٢٣٥، و"الدر المصون" ٥/ ١٩٣ - ١٩٤.
(١) قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو: (ومن المَعَز) بفتح العين، وقرأ الباقون: بسكون العين. انظر: "السبعة" ص ٢٧١، و"المبسوط" ص ١٧٦، و"الغاية" ص ٢٥١، و"التذكرة" ٢/ ٤١٢، و"التيسير" ص ١٠٨، و"النشر" ٢/ ٢١٦.
(٢) النص في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٢٠ (معز). وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٨٩.
(٣) جاء في "النوادر" لأبي زيد ص ٧٨، (والأُمْعُوز: القطيع من الضباء) اهـ، وذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٢١، وأبو علي في "الحجة" ٣/ ٤١٩، عن أبي زيد، وانظر: "اللسان" ٧/ ٤٢٣٢ (معز).
(٤) هذا عجز بيت لربيعة بن مقروم الضبي، وصدره:
أَخْلَصْتُهُ صُنْعًا فآضَ مُحَمْلَجَا
وهو في "النوادر" ص ٧٧، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٤١٩، و"الدر المصون" ٥/ ١٩٤، وقوله: محملجا: أي كثير اللحم، يقال للعير الذي دوخل خلقه اكتنازًا: محملج. انظر: "اللسان" ٢/ ١٠٠٦ (حملج)، وقوله: المتربل: الذي قد أكل الربل، وهو ضرب من الشجر. انظر: "اللسان" ٣/ ١٥٧٢ (ربل).
(٥) العبارة في "الحجة" ٣/ ٤١٩، وكليب جمع كلب، وضئين جمع ضأن، انظر: "الدر المصون" ٥/ ١٩٣.
(٦) الشاهد لامرئ القيس في "ديوانه" ص ١٦٩، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٨٧، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٤١٩، و"تفسير القرطبي" ٧/ ١١٤، و"الدر المصون" ٥/ ١٩٤، وقوله: وحنانك ذا الحنان، يعني: رحمتك يا ذا الرحمة.
(٧) كذا في الأصل، وفي سائر المراجع السابقة، (ابن جرم)، بدل حزم وهو =
491
وقال ابن شميل: (المِعْزى والمَعْزُ والمعيز للذكور والإناث) (١)، فمن قرأ (المعَز) بفتح العين فهو جمع ماعز، مثل خادم وخَدَم، وطالبٍ وطَلَبٍ، وحارس وحَرَسٍ، ومن قرأ بسكون العين فهو جمع أيضًا، جمع ماعز عليه، كما قالوا: صاحِب وصَحْب، وتَاجرٍ وتَجْرٍ، وراكبٍ ورَكْب (٢). وأما انتصاب (اثْنَيْنِ) فمحمول على (أنشأ) [الأنعام: ١٤١]، التقدير: (٣) أنشأ ثمانية أزواج أنشأ من كذا اثنين ومن كذا اثنين، قاله أبو علي (٤).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ نصب (الذكرين) (٥) بقوله (حَرَّمَ) والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله (٦).
قال المفسرون: (إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يقولون: ﴿هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾، ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا﴾ الآية [الأنعام: ١٣٩] كما أخبر الله تعالى عنهم في الآيات التي
= المشهور، وبنو شمجى -بالفتح- بن جَرْم: حي من قُضاعة. انظر: "الاشتقاق" لابن دريد ص ٣٩٤، و"اللسان" ٤/ ٢٣٢١ (شمج).
(١) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٢١، وانظر: "الجمهرة" ٢/ ٨١٧، و"الصحاح" ٣/ ٨٩٦ (معز).
(٢) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٤١٨ - ٤١٩، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٩٢، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧٢، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٢، ولابن زنجلة ص ٢٧٥، و"الكشف" ١/ ٤٥٦.
(٣) قوله: (التقدير أنشأ) مكرر في (ش).
(٤) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤١٨ - ٤١٩، وذهب الأكثر إلى أنه بدل من ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾. انظر: "الكشاف" ٢/ ٥٦ - ٥٧، و"البيان" ١/ ٣٤٦، و"التبيان" ٣٦١، و"الفريد" ٢/ ٢٤١، و"الدر المصون" ٥/ ١٩٣.
(٥) في (أ): (الذكر)، وهو تحريف.
(٦) أي الذكرين: مفعول به مقدم لحرم. انظر: "الدر المصون" ٥/ ١٩٥.
492
مضت أنهم كانوا يحرمون أجناسًا من النعم بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال، فاحتج الله عليهم في هذه الآية والتي بعدها، فقال: يُقايسهم في تحريم ما حرموا: ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ﴾ من الضأن والمعز حرم الله عليكم ﴿أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ﴾؟ فإن كان حرّم من النعم ذكورها فكل ذكورها حرام، وإن كان حرّم الأثنيين فكل الإناث حرام (١).
وقال الفراء: (يقول: أجاءكم التحريم فيما حرمتم من الذكرين أم من الأنثيين؟ فلو قالوا: من قبل الذكر حرم كل ذكر، ولو قالوا: من قبل الأنثى (٢)، حرمت كل أنثى) (٣).
وقوله تعالى: ﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، ما في موضع نصب، نصبته باتباعه (٤) الذكرين والأنثيين يقول: وإن كان ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من المعز والضأن فقد حرم الأولاد، وكلها أولاد، فكلها حرام، قاله الزجاج (٥).
(١) ذكره عن المفسرين: الثعلبي في "الكشف" ١٨٥ ب، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٧، والرازي ١٣/ ٢١٧، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٨، من عدة طرق جيدة، عن ابن عباس، ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد نحوه، وهو قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٩٩، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٥٠٥، والنص أصله لابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص٣٤٠ - ٣٤١.
(٢) في (أ): (أنثى).
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٦٠.
(٤) هذه عبارة الفراء في "معانيه" ١/ ٣٦٠، وأم عاطفة، وما موصولة في محل نصب معطوف علي الأنثيين. انظر: "الدر المصون" ٥/ ١٩٥.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٩.
493
وقال الفراء: (يقول: أحرّم عليكم من قِبل اشتمال الرحم، فلو قالوا ذلك لحرم عليهم الذكر والأنثى؛ لأن الرحم يشتمل على الذكر والأنثى) (١).
وقال ابن قتيبة: (يقول: فإن كان التحريم من جهة اشتمال الرحم، فالأرحام تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فكل جنين حرام) (٢)، وهذه الأقوال معناها واحد، وذكرتها لزيادة البيان.
قال مجاهد: (يقول: إنما الأنعام ثمانية أزواج، فمن أين جاء التحريم أمن قبل الذكر أم من قبل الأنثى، أما اشتملت عليه الأرحام، وهي لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى، فإن قالوا: من قبل الأنثيين، جاء التحريم، حرم عليهم كل أنثى. فإن قالوا: من قبل الذكرين، حرم عليهم كل ذكر، وعرفوا أن الأرحام لا تشتمل (٣) إلا على ذكر أو أنثى، فلم تحرّمون بعضًا وتحلون بعضًا؟) (٤).
وهذا معنى قول ابن عباس (٥) والكلبي (٦) ومقاتل (٧).
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٦٠.
(٢) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٤١.
(٣) لفظ: (لا تشتمل) ساقط من (أ).
(٤) لم أقف عليه عن مجاهد، وأخرجه الطبري ٨/ ٦٦، عن ابن جريج فقط.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٠٣ بسند جيد وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٥.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٦٨ - ٦٩، وذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٦٩ عن الكلبي.
(٧) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٩٤.
494
وقوله تعالى: ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ﴾ قال أبو إسحاق: (أي: فسّروا ما حرّمتم بعلم، أي: فأنتم لا علم لكم؛ لأنكم لا تؤمنون بالكتاب) (١).
١٤٤ - قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ﴾ إلى قوله ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ مفسر في الآية الأولى.
قال أبو إسحاق في قوله: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا﴾ (أي: هل شاهدتم الله قد حرّم هذا إذ كنتم لا تؤمنون برسول) (٢).
وقال ابن قتيبة: (﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ حين أمر الله بهذا، فتكونون على يقين، فلما لزمتهم الحجة ولم تكن عندهم علّة موجبة لتحريم ما حرّموا، بيّن الله تعالى أنهم فعلوا ذلك كذبًا على الله في قولهم، كذا أمرنا الله فقال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (٣)، قال ابن عباس: (يريد: عمرو بن لُحيّ ومن جاء بعده، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [قال: يريد: المشركين (٤)]) (٥).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٩، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٢/ ٥٠٦، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٦٧.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٩، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٦٠، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٠٦.
(٣) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٤١، وفيه: (أي: حين أمر الله بهذا فتكونون على يقين؟ أم تفترونه عليه وتختلقونه؟ توبيخ ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾) اهـ.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣٢، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٣٩، والرازي ١٣/ ٢١٧، وذكره بدون نسبة البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٨، والخازن ٢/ ١٣٢، وابن كثير ٢/ ٢٠٥، والآية عامة يدخل فيها كل من أدخل في دين الله تعالى ما ليس فيه، وأول من يدخل في هذا الوعيد عمرو بن لحي؛ لأنه أول من =
١٤٥ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ الآية، قال المفسرون: (بيّن الله تعالى أن المحرمات مما يُطعم ما ذكر في هذه الآية، لا ما حرموا هم على أنفسهم) (١).
وقال أبو إسحاق: (أعلم الله تعالى أن التحريم والتحليل إنما ثبت بالوحي والتنزيل، فقال: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾) (٢)، [أي: شيئًا محرمًا] (٣)، ﴿عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾: على آكل يأكله.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً﴾ أي: إلا أن يكون المأكول ميتة، أو إلا أن (٤) يكون الموجود ميتة يُضمر اسم كان مما تقدم، وقرأ (٥) ابن كثير وحمزة (إلاَّ أَن تَكُونَ) بالتاء (ميتة) نصبًا على تقدير: إلاَّ أن تكون العين أو النفس أو الجُثة ميتةً تضمر للمحرّم اسمًا مؤنثًا، ألا ترى أن المحرم لا يخلو من جواز العبارة عنه بأحد هذه الأشياء، وقرأ ابن عامر (إلا أن تكون) بالتاء (ميتة) بالرفع على معنى: إلاّ أن تقع ميتة أو تحدث ميتة (٦).
= غير دين الأنبياء، كما سبق بيانه في ترجمته، وذكره الحافظ ابن كثير في "تفسيره". وانظر: "تفسير مبهمات القرآن" ١/ ٤٧١.
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٦٩، والسمرقندي ١/ ٥٢٠.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٠، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٥٠٧.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٤) لفظ: (أن)، ساقط من (ش). وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٦٠، و"إعراب القرآن" ١/ ٥٨٨.
(٥) قرأ ابن عامر، وابن كثير وحمزة (إلا أن تكون) بالتاء، والباقون بالياء، وقرأ ابن عامر (ميتة) بالرفع، والباقون بالنصب. انظر: "السبعة" ص ٢٧٢، و"المبسوط" ص ١٧٦، و"التذكرة" ٢/ ٤١٢، و"التيسير" ص ١٠٨، "النشر" ٢/ ٢٦٦.
(٦) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٤٢٣ - ٤٢٤، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٩٢ - ٣٩٣، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧٢، و"الحجة" لابن زنجله ص ٢٧٦، =
496
وقوله تعالى: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ قال ابن عباس: (مُهراقًا) (١)، وقال الضحاك: (سائلًا) (٢)، والسفح كالصبّ، يقال: سفح الدم والدمع سفحًا، وسفح (٣) هو سفوحًا إذا سأل. وأنشد أبو عبيدة (٤) لُكثَيِّر:
أَقولُ وَدَمْعي واكفٌ عِنْد رَسمها عَلَيكِ سَلاَمُ الله والدمعُ يَسْفَحُ (٥)
قال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح) (٦).
= و"الكشف" ١/ ٤٥٦ - ٤٥٧.
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٠٦ بسند جيد.
(٢) لم أقف عليه بعد طول بحث، وهو قول اليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٤٣، وابن قيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١٦٢، ومكي في "تفسير المشكل" ص ٨١.
(٣) في (أ) (وسفح وهو سفوحًا)، وقاله الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣٢: (يقال: سفح الدم والدمع سفحا إذا صبه، وسفح هو سفوحًا إذا سأل) ا. هـ وانظر: "العين" ٣/ ١٤٧، و"الجمهرة" ١/ ٥٣٢، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٩٩، و"الصحاح" ١/ ٣٧٥، و"المجمل" ٢/ ٤٦٤، و"اللسان" ٤/ ٢٠٢٣ مادة (سفح).
وقال السمين في "الدر" ٥/ ١٩٨: (السفح: الصب، وقيل: السيلان، وهو قريب من الأول، وسفح يستعمل قاصرًا ومتعديًا، يقال: سفح زيد دمعه، ودمه، أي: أهراقه، وسفح هو، إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر، ففي المتعدي، يقال: سَفْح. وفي اللازم يقال: سُفُوح) اهـ.
(٤) لم يرد في "مجاز القرآن"، وذكره عن أبي عبيدة الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٢٢، والسمين في "الدر" ٥/ ١٩٨، وقال ابن الأنباري في "شرح القصائد" ص ٢٥ - ٢٦، و"الزاهر" ٢/ ١٦٦: (مسفوحًا، أي: مصبوبًا)، ثم أنشد الشاهد.
(٥) "ديوان كثير عزة"، و"تفسير الرازي" ١٣/ ١٢٢، و"الدر المصون" ٥/ ١٩٨، وكف بالفتح أي: سأل، وفي الديوان:
أقولُ ونِضْوِي وَاقِفٌ عند رمْسِها عليك سلام الله والعين تنفح
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣٢، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٩٨، والرازي ١٣/ ١٢٢.
497
قال أهل العلم: (فلا يدخل في هذا الكبد والطحال لجمودهما ولا ما يختلط باللحم [من الدم فإنه غير سائل والله تعالى حرّم السائل منه) (١)، وسئل أبو مجلز (٢) عما يتلطخ من اللحم] (٣) بالدم، وعن القدر يرى فيها الدم، فقال: (لا بأس به، إنما نهي عن الدم [المسفوح) (٤).
وهو قول عكرمة (٥) وإبراهيم (٦) وقال أبو إسحاق] (٧): (المسفوح: المصبوب، وكانوا إذا ذبحوا أكلوا الدم كما يأكلون اللحم) (٨).
(١) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٢٤، وقال: (وعليه إجماع العلماء) اهـ، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٧٦٥، و"الفتاوى" ١٧/ ١٧٩، وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - ﷺ - قال: "أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال" أخرجه الإمام أحمد في "المسند" ٢/ ٩٧، وابن ماجه رقم (٣٣١٤)، والدارقطني في "سننه" ٤/ ٢٧٢، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" ٨/ ١٦٤ (٢٥٢٦).
(٢) أبو مجلز: لاحق بن حميد بن سعيد السدوسي البصري، إمام تابعي، ثقة مشهور بكنيته، توفي سنة تسع ومائة ١٠٩هـ، وقيل: قبل ذلك.
انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ١٢٤، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٣٣٥، و"تقريب التهذيب" (٧٤٩٠) ص ٥٨٦.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧١، ٧٢، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٧.
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٠، والطبري ٨/ ٧١، ٧٢، وابن أبي هاشم ٥/ ١٤٠٧ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٧.
(٦) قول إبراهيم النخعي، ذكره الثعلبي في "تفسيره" ص ١٨٥ ب، والبغوي ٣/ ١٩٨، والقرطبي ٧/ ١٢٤، والخازن ٢/ ١٩٥.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٠.
498
وقوله تعالى: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ نسق على (١) ﴿أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾ قال ابن عباس: (يريد: كل ما ذبح على النصب) (٢).
قال الزجاج: (فسمى ما ذكر عليه غير اسم (٣) الله فسقًا) (٤)، وهذا من المفعول الذي يسمى بالمصدر، والمراد: ما يفسق به عن الدين، أي: يخرج أكله عن الدين (٥).
فإن (٦) قيل: المحرمات [من المطعومات] (٧) أكثر مما ذكر في هذه الآية فما وجهها؟ والجواب عنه من وجوه أحدها: أن المعنى: لا أجد
(١) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٥٨٨، و"المشكل" لمكي ١/ ٢٧٦، وقال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٠٠: (هو عطف على ﴿لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾ المعنى: ﴿إِلَّا أَنْ يَكُونَ﴾ المأكول ﴿مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾ (أو فسقًا)) اهـ.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣٣، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٦٩، عند قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] بسند جيد، عن ابن عباس قال: (ما أهل به للطواغيت يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر غير اليهود والنصارى) اهـ.
(٣) في (ش): (فسمى ما ذكر عليه اسم غير الله فسق).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٠، وزاد فيه (أي: خروجًا عن الدين). وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٨٥: (الضمير في قوله (فإنه) دن كان عوده إلى الثلاثة المذكورة باعتبار لفظ المحرم، فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلاثة أوجه. أحدها: قربه منه. والثاني: تذكيره دون قوله: (فإنه رجس). والثالث: أنه أتى بالفاء وإن تنبيها على علة التحريم لتزجر النفوس عنه، ويقابل هذه العلة ما في طباع بعض الناس من استلذاذه واستطابته، فنفى عنه ذلك، وأخبر أنه رجس، وهذا لا يحتاج إليه في الميتة والدم؛ لأن كونهما رجسًا أمر مستقر معلوم عندهم..) اهـ.
(٥) انظر: "الدر المصون" ٥/ ١٩٨.
(٦) في (ش): (قال قيل)، وهو تحريف.
(٧) لفظ: (من المطعومات) ساقط من (أ).
499
محرمًا مما كان أهل الجاهلية يحرمه من البحائر والسوائب وغيرها، إلا ما ذكر في هذه الآية، وليست البحائر والسوائب من المحرمة بالوحي، وهذا معنى قول مجاهد (١) وطاووس (٢).
وقال الحسين بن الفضل: (وقت نزول هذه الآية لم يكن يحرم غير ما نص عليه في هذه الآية، ثم وجدت بعد محرمات سوى هذا) (٣).
وقال عبد العزيز بن يحيى: (يعني: في وحي القرآن، فأما وحي السنة فقد حرّم أشياء كثيرة، وكل ما حرم النبي - ﷺ - مما لم يوجد في القرآن فهو محرّم أيضًا بالوحي؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣ - ٤]) (٤).
وباقي الآية مفسر فيما مضى (٥).
(١) ذكره ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٣٣٥.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٠، والطبري ٨/ ٦٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٠٥، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٩٦.
(٣) لم أقف عليه، وقد ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢٢٠، بدون نسبة.
(٤) لم أقف عليه وقال القرطبي ٧/ ١١٦ - ١١٧، الصحيح أن هذه الآية مكية، وكل محرم حرمه رسول الله - ﷺ - أو جاء في الكتاب مضموم إليها فهو زيادة حكم من الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام. على هذا أكثر أهل العلم من أهل النظر والفقه والأثر) ا. هـ، وهذا القول هو الظاهر -والله أعلم-.
وانظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٣٣٨، و"الناسخ والمنسوخ" لأبي منصور البغدادي ص ١٠٣، و"الإيضاح" لمكي ص ٢٤٩، و"أحكام القرآن" للكيا الهراس ٣/ ٢٤٥، و"تفسير البغوي" ٣/ ١٩٨، و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي ٢/ ٢١٨، و"المصفى" لابن الجوزي ص ٣٤، و"الفتاوى" لشيخ الإسلام ٢١/ ٨.
(٥) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٠٥ ب.
500
١٤٦ - وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية، في الظفر لغات: ظُفُر بضم الفاء وهو أعلاها، وظُفْر بسكون الفاء، وظِفْر بكسر الظاء وسكون الفاء وهو قراءة الحسن (١)، وظِفِر بكسرهما (٢) وهو قراءة أبي السمال (٣)، ويقال له: أُظُفُور (٤)، قال الشاعر:
(١) ذكرها الثعلبي ١٨٥ ب، والرازي، ١٣/ ٢٢٣، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٤٤، وأكثرهم ذكر سكون الفاء فقط. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٨٩، و"مختصر الشواذ" ص ٤١، وابن عطية ٥/ ٣٨٢، والقرطبي ٧/ ١٢٤ - ١٢٥، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٢٥١: (قرأ الحسن (ظفر) بضم فسكون، وفي رواية بكسر فسكون) ا. هـ. بتصرف.
(٢) ذكرها الثعلبي في "الكشف" ١٨٥ ب، والرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢٢٣، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٠١، وأكثرهم ذكر عنه كسر الظاء وسكون الفاء. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٨٩، و"مختصر الشواذ" ص ٤١، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٣٨٢، والقرطبي ٧/ ١٢٤، و"البحر المحيط" ٤/ ١٤٤.
(٣) في النسخ (ابن السمآل) ونقله الرازي والسمين في "الدر" عن الواحدي بلفظ (أبو السمال)، وهو الصواب كما في المراجع السابقة، وهو: (أبو السمال) بفتح السين المهملة، وتشديد الميم: مشهور بكنيته واسمه مُعتب بن هلال العَدَوي المقرئ البصري، وقيل: اسمه: مغيث. وقيل: قعنب بن أبي قعنب. قال الذهبي في "الميزان" ٤/ ١٤٢، ١٥٨: (له حروف شاذة، لا يعتمد على نقله ولا يوثق به، ضعفه الساجي، وكذبه الأزدي) ا. هـ، وانظر: "غاية النهاية" ٢/ ٢٧، و"لسان الميزان" ٦/ ٦٠، ٧٤.
(٤) انظر: "التبيان" ٣٦٢، و"الفريد" ٢/ ٢٤٤، و"الدر المصون" ٥/ ٢٥١، وقال ابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" ٣٣٧ - ٣٣٨: (الأظفار كلها مذكرة وفي واحدها ثلاث لغات: ظُفُر بالضم، وهي اللغة العالية، وعليها أكثر الناس، وظفر بضم فسكون، وبها قرأ الحسن، وأظفور بضم الهمزة والفاء وسكون الظاء) اهـ، وفي "اللسان" ٥/ ٢٧٤٩، قال: (وأما قراءة ظِافْر بالكسر فشاذ غير مأنوس به؛ إذ لا يعرف ظفر بالكسر) اهـ.
501
ما بَيْن لُقْمَتِهِ الأُولى إذا انحدرت وَبَيْنَ أَخْرَى تَليها قِيدُ أُظْفُورِ (١)
واختلفوا في ﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ المحرم على اليهود: فقال ابن عباس: (هو البعير والنعامة) (٢)، وهو قول مجاهد (٣)، واختيار الزجاج (٤). قال ابن عباس: (النعام ذات ظفر كالإبل) (٥).
وقال قتادة: (كل ذي ظفر ليس بمشقوق الأصابع) (٦)، وهو قول ابن جريج: (كل ذي ظفر لم يفرج قوائمه من البهائم كالبعير والنعامة والبط والأوز وحمار الوحش، وما تفرّجت قوائمه أكلوه كالدجاج والعصافير) (٧).
(١) الشاهد في "الجمهرة" ٢/ ٧٦٢، ١١٩٤، أنشدته أم الهيثم غيثة من بني نمر بن عامر بن صعصعة، وبدون نسبة في "كتب الفرق" للأصمعي ص ٦١، ولأبي حاتم السجستاني ص ٢٨، ولثابت بن أبي ثابت ص ٢٢، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٣٣٩، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٤٢، و"زاد المسير" ٣/ ١٤٢، و"اللسان" ٥/ ٢٧٤٩، و"بصائر ذوي التمييز" ٣/ ٥٣٦، و"الدر المصون" ٥/ ٢٠١، و"تاج العروس" ٧/ ١٦٢ مادة (ظفر).
(٢) أخرجه الطبري ٨/ ٧٢، والبيهقي في "سننه" ١٠/ ٨ بسند جيد، وعلقه البخاري في "صحيحه" ٨/ ٢٩٥، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٠٠.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٦، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٣، من عدة طرق جيدة.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠١، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٣.
(٥) سبق تخريجه، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤١٠ بسند جيد عن ابن عباس قال: (هو الذي ليس بمتفرج الأصابع، يعني: ليس بمشقوق الأصابع منها الإبل والنعام) ا. هـ، وذكره الحافظ في "فتح الباري" ٨/ ٢٢٩٥، وقال: (رواه ابن أبي حاتم، وإسناده حسن) اهـ.
(٦) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢١، والطبري ٨/ ٧٣، بسند جيد.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٣، بسند جيد عن ابن جريج عن شيخه القاسم بن أبي بزة المكي وقال السيوطي في "الدر" ٣/ ١٠٠: (أخرجه أبو الشيخ عن ابن جريج).
502
وقال عبد الله بن مسلم: (أي: كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي حافر من الدواب، كذلك قال المفسرون، قال: وسمى الحافر ظفرًا على الاستعارة كما قال الآخر وذكر ضيفًا:
فما رَقَد الوِلْدَانُ حتى رَأَيْتُهُ على البَكْرِ يَمْرِيهِ بَساقٍ وحَافِرٍ (١)
فجعل الحافر موضع القدم) (٢). وقال عطاء، عن ابنَ عباس: (يريد: الإبل) (٣)، وهو قول ابن زيد: (هو الإبل فقط) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾، قال المفسرون: (يعني: الثُّرُوب (٥) وشحم الكليتين) (٦)، وهو معنى قول ابن عباس: (يريد: شحوم الجوف) (٧).
(١) البيت لجُبَيْهاء الأسدي يزيد بن عبيد، في "اللسان" ٢/ ٩٢٥ مادة (حفر)، وبدون نسبة في "الحروف" لابن السكيت ص ٩٥، و"الجمهرة" ٣/ ١٣١٣/ "الصحاح" ٣/ ٦٣٥، و"الصناعتين" ص ٣٠١، و"المخصص" ٦/ ١٣٤، و"المدخل" للحدادي ص ٢١١، وهو لمُزرِّد بن ضرار الغطفاني في "أسرار البلاغة" ص ٢٣. ويمريه، أي: يستخرج ما عنده من الجري، والشاعر يصف ضيفًا أسرع إليه، واستعار الحافر للقدم.
(٢) "تأويل مشكل القرآن" ص ١٥٣.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢٢٣.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٣، بسند جيد، وذكره ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣٨٢، وقال: (وهذا ضعيف التخصيص) اهـ.
(٥) الثروب: بالضم جمع ثَرْبٍ، وهو الشحم المبسوط على الأمعاء والمصَارين والكَرِش. انظر: "اللسان" ١/ ٤٧٥ مادة (ثرب).
(٦) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٦٣، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٠١، و"تفسير الطبري" ٨/ ٧٤، والبغوي ٣/ ٢٠٠، وابن الجوزي ٣/ ١٤٢.
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ٧١.
503
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ قال ابن عباس: (إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه) (١)، وقال قتادة: (ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما) (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَوِ الْحَوَايَا﴾ وهي المباعر والمصارين، واحدتها حاوية، وحَويَّة وحاوياء (٣)، قال ابن الأعرابي: (هي الحَوِيَّة والحاوِيةُ، وهي الدُّوارة التي في بطن الشاة) (٤).
وقال ابن السكيت: (يقال: حاويةٌ وحوايا مثل زَاوِية وَزَوَايا (٥) ورَاوية وَرَوَايا، [قال: ومنهم من يقول: حَوِيَّة وحَوايا مثل الحَوِيَّة التي توضع على ظهر البعير ويركب فوقها] (٦). قال: ومنهم من يقول لواحدتها: حَاوياء) (٧). وأنشد قول جرير:
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤١٠، والبيهقي في "سننه" ١٠/ ٨ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٠٠، ١٠١.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣٤، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٤٢، والرازي ١٣/ ١٨٣.
(٣) انظر: "العين" ٣/ ٣١٨، و"الجمهرة" ١/ ٢٣١، و"المجمل" ١/ ٢٥٤، و"المفردات" ص ٢٧١ (حوى).
(٤) "اللسان" ٢/ ١٠٦٣ (حوا)، و"الدر المصون" ٥/ ٢٠٦، وفي "تهذيب اللغة" ١/ ٩٤٧، عن ابن الأعرابي قال: (هي الحَوَايةُ والحاوِية، وهي الدوارة التي في بطن الشاة) اهـ.
(٥) لفظ: (زواية وزوايا) ساقط من (ش).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٧) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢٢٤، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٠٦، عن ابن السكيت، وهذا القول في "تهذيب اللغة" ١/ ٩٤٧، و"اللسان" ٢/ ١٠٦٣ (حوا)، لأبي الهيثم خالد بن يزيد الرازي.
504
تَضْغُو الخَنانيصُ والغُول التي أكلَتْ في حاوِيَاءِ رَدُومِ الليل مِجْعَارِ (١)
وأنشد ابن الأنباري (٢):
كأَنَّ نفيق الحَبّ في حاويائِهِ نفيق الأفاعي أو نفيقُ العقارب (٣)
قال أبو علي الفارسي: (الحوايا واحدتها حوية وحاوياء (٤) وحاوية، فإن كان جمع حاوية (٥) أو حاوياء كان فواعل، وإن كان جمع حويّة كان فعائل، فإن قلنا: إنه فعائل، فإنه كان في الأصل حوائي، والهمزة فيها كالهمزة في ترائب وسحائب ونحوها مما هو بين هذا الجنس، واعتراض هذه الهمزة ذكرنا علته في قول ﴿مَعَايِشَ﴾ في سورة الأعراف [: ١٠] (٦) في قراءة من همزها، فلما جمعت حوية: حوائي وقعت في الطرف ياء
(١) "ديوان جرير" ص ٣١٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٤٧، و"اللسان" ٢/ ١٦٣ (حوى)، و"الدر المصون" ٥/ ٢٠٦، وقوله: تضغو، أي: تصيح وتصوت. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٥٩٣ (ضغا)، والخنانيص جمع الخِنَّوْص: ولد الخنزير. انظر: "اللسان" ٣/ ١٢٧٨ (خنص)، وردوم: جمع ردم، وهو السد والصوت والضُّراط. انظر: "اللسان" ٣/ ١٦٢٨ (ردم)، ومجعار، الجَعْر: ما تيبس في الدبر من العذرة. انظر: "اللسان" ٢/ ٦٣٣ (جعر).
(٢) "الأضداد" لابن الأنباري ص ٢٢٢، وقال: (ووا حدة الحوايا: حاوياء، وحاوية، وحَوِية) ا. هـ. وانظر: "شرح القصائد السبع" ص ٢١٢.
(٣) الشاهد لجرير في "ديوانه" ص ٦٨، و"اللسان" ٢/ ١٠٦٣ (حوا)، وبدون نسبة في "الصحاح" ٦/ ٢٣٢٢، و"مقاييس اللغة" ٢/ ١١٢ (حوى) و٤/ ٤٣٧ (فح)، و"زاد المسير" ٣/ ١٤٣، و"الدر المصون" ٥/ ٢٠٦، وفي "الديوان" (نفيق بدل (فحيح).
(٤) في النسخ: (وحوايا)، وهو تحريف.
(٥) في (ش): (جمع حاويا أو حاويا).
(٦) انظر: "الحجة" لأبي علي ٤/ ٧.
505
مكسور (١) ما قبلها، فلزم أن تقلب ألفا، إذ (٢) قلبت فيما ليس قبله حرف اعتلال في هذا الجمع، وذلك قولهم: مداري ومهاري (٣)، وحروف الاعتلال في حوائي (٤) أكثر منها في مداري، فإذا قلب في مداري وجب أن يلزم هذا الضرب القلب فيقال: حواءا، فيقع الهمز بين (٥) ألفين، وهي قريبة من ألف (٦) فيجتمع حروف متشابهة يُستثقل اجتماعهن، فأبدلت الهمزة ياء [فصار حوايا ومثله مطايا وما كان في هذا القبيل، وأما قلت (٧): وزنه فواعل قلبتها (٨)] من حيث همزت عواني (٩) وأوائل، فلما اعترضت الهمزة فيه قلبتها ياء على ما بينا في فعائل) (١٠).
قال قتادة: (أرادوا ما حملت الحوايا) (١١)، وهو قول ابن عباس:
(١) في (أ): مكسورة.
(٢) في (أ): (أن قلبت) وعليه علامة خطأ، وجاءت في "الإغفال" ص ٧٧٩: (إذا قلبت).
(٣) في النسخ: (قولهم: مدارًا ومهارًا)، وفي "الإغفال" (مدارى) فقط.
(٤) في النسخ: (حواى)، وفي "الإغفال" ص ٧٩٩: (وحروف الاعتلال في مطائي وسمائي أكثر منها في مداري..) ا. هـ.
(٥) في (أ): (فيقع همز بين ألفين).
(٦) كذا في "النسخ"، وفي "الإغفال" ص ٧٩٩: (وهي قريبة من الألف).
(٧) كذا في (أ)، والصواب: (وإن قلت)، وفي "الإغفال" ص ٨٠٤: (وإما فواعل فإنك قلبتها من حيث).
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٩) كذا في "النسخ"، وفي "الإغفال" ص ٨٠٤: (من حيث همزات عوائر وأوائل).
(١٠) "الإغفال" ص ٧٩٨ - ٨٠٤ بتصرف. وانظر: شرح ذلك في "الدر المصون" ٥/ ١٠٦، و"معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص ٩٠.
(١١) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج الطبري ٨/ ٧٥، ٧٦، من طرق عن ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي، قالوا: (الحوايا: =
506
(﴿أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ من الشحم فإني لم أحرمه) (١)، و (الحوايا) عطف على الظهور في موضع رفع (٢)، قال الفراء: (يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير حذف المضاف على أن تريد أو شحوم الحوايا، فتحذف الشحوم ويُكتفى بالحوايا، كما قال ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] يريد: أهلها) (٣).
وحكى ابن الأنباري (٤) عن أبي عبيد أنه قال: (قلت للفراء: هو بمنزلة قول الشاعر:
لا يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا ما يُؤَنّسُهُ باللَّيْلِ إلاَّ نَئيمَ البُومِ وَالضُّوعَا (٥)
= المباعر)، وقال ابن الأنباري في "شرح القصائد" ص ٢١٢: (قال المفسرون: الحوايا: المباعر، واحدها: حاوياء وحاوية) ا. هـ.
(١) سبق تخريجه.
(٢) هذا قول الطبري ٨/ ٧٥، وعليه يكون التقدير: وإلا الذي حملته الحوايا فإنه غير محرم، وقال أبو حيان ٤/ ٢٤٤، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٠٣: (هذا هو الظاهر) اهـ.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٦٣.
(٤) قال ابن الأنباري في "إيضاح الوقت والابتداء" ٢/ ٦٤٥: (﴿إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ وقف غير تام؛ لأن (الحوايا) منسوقة على الظهور، كأنه قال: إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا) ا. هـ، وانظر: "القطع والائتناف" ١/ ٢٤٢.
(٥) الشاهد للأعشي في "ديوانه" ص ١٠٦، و"اللسان" ٥/ ٢٦٢١ (ضوع)، وذكره السمين في "الدر" ٥/ ٢٠٥، عن ابن الأنباري، والشاعر يصف قلاة. والنئيم: صوت فيه ضعف كالأنين، وهو صوت البوم. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٣١٤ (نأم) والضُّوَع: طائر من طير الليل إذا أحصر بالصباح صدح، وقيل: هو ذكر اليوم، والضُّوَع صوته.
انظر: "اللسان" ٥/ ٢٦٢٠، ٢٦٢١ مادة (ضوع).
507
فقال لي: نعم، يذهب إلى أن الضُّوَع عطف على النئيم، ولم يُعطف على البوم كما عطفت (الحوايا) على ما، ولم تعطف على الظهور (١).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ يعني: شحم الأَلية، في قول جميع المفسرين (٢)، قال ابن جريج: (كل شحم في القوائم والجنب والرأس [وفي العينين والأذنين] (٣). يقولون: قد اختلط بعظم فهو حلال لهم، إنما حُرّم عليهم الثرب وشحم الكلية) (٤).
قال الفراء: (و (ما) في موضع نصب نسقًا على ما في الأولى التي هي نصب بالاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ (٥)، هذا الذي ذكرنا
(١) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٢٠٥ - ٢٠٦ عن الواحدي، وقال بعده: (فمقتضى ما حكاه ابن الأنباري أن تكون (الحوايا) عطفًا على ما المستثناة، وفي معنى ذلك قلق بين) ا. هـ، والنصب في (الحوايا) من وجهين: أحدهما: العطف على ما في قوله (إلا ما حملت). والثاني: العطف على قوله (شحومهما)، وعلى وجه النصب تكون الحوايا محرمة عليهم بخلاف الرفع.
انظر: "المشكل" لمكي ١/ ٢٧٦، و"البيان" ١/ ٣٤٨، و"التبيان" ١/ ٣٦٢، و"الفريد" ٢/ ٢٤٤، و"الدر المصون" ٥/ ٢٠٣ - ٢٠٦.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣٤، والرازي في "تفسيره" ١٣/ ٢٢٤ عن جميع المفسرين، ورجح الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٦، أن المراد شحم الألية والجنب وما أشبه ذلك.
(٣) في (ش): (وفي الأذنين والعينين).
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٦، بسند جيد، وذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٥١٠.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٦٣، وفيه قال: (ما: في موضع نصب) ا. هـ، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٨٩: (في هذا أقوال هذا أصحها، وهو قول الكسائي والفراء وثعلب، والنظر يوجبه أن يعطف الشيء على ما يليه، إلا أن لا يصح معناه أو يدل دليل على غيره) ا. هـ واختاره الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٣.
508
قول أكثر أهل التفسير (١) في هذه الآية.
وقال أبو إسحاق: (قال قومٌ: حرمت عليهم الثروب، وأحل لهم ما حملت الظهور وصارت ﴿الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ نسقًا على ما حُرّم لا على الاستثناء [في قوله ﴿إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾] (٢) المعنى على هذا القول: حُرّمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم، وأُدخلت على طريق الإباحة كما قال عز وجل: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٢٤]، فالمعنى: كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا، أو اعص هذا، وأو بليغة في هذا المعنى؛ لأنك إذا قلت: لا تطع زيدًا [وعمرًا] (٣) فجائز أن تكون [نهيتني] (٤) عن طاعتهما معًا في حالة، فإن أطعت زيدًا على حدته لم أكن عاصيًا، وإذا قلت: لا تطع زيدًا أو [عمرًا] (٥) أو خالدًا، فالمعنى: أن هؤلاء كلهم أهل [أن] (٦) لا يطاع، فلا تطع واحداً منهم، ولا تطع الجماعة، ومثله: جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي، فليس المعنى: إني آمرك [بمجالسة] (٧) واحد منهم [ولكن معنى أو معنى الإباحة، المعنى: كلهم أهل أن يجالس، فإن جالست واحداً منهم (٨)] فأنت مصيب، وإن جالست
(١) انظر: "زاد المسير" ٣/ ١٤٣ - ١٤٤.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٣) في (أ): (وعمروًا).
(٤) في (ش): (يهتدي)، وهو تحريف.
(٥) في (أ): (عمروًا).
(٦) في (ش): (لأن).
(٧) في (ش): (مجالسة).
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
509
الجماعة فأنت مصيب) (١)، هذا كلامه.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ أي: ذلك التحريم ﴿جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾، قال مقاتل: (عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء، وأخذهم الربا، واستحالال أموال الناس بالباطل، فهذا البغي) (٢).
وقال الكلبي: (﴿جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾ عاقبناهم بذنوبهم، نظيره: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ الآية [النساء: ١٦٠]) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ أي: في الإخبار عن التحريم وعن بغيهم (٤).
١٤٧ - قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ قال الكلبي: (وذلك أن رسول الله - ﷺ - قال للمشركين: هذا ما أوحي إليَّ مما كان محرمًا على اليهود، وما حُرّم على المسلمين في الآية الأولى، وقالوا له: ما أصبت وكذبوه، فقال الله تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ فيما تقول ﴿فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾، لذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة ﴿وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾: عذابه إذا جاء الوقت، ﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ يعني: الذين كذبوك بما تقول) (٥).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠١ - ٣٠٢، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ١٤٥: (الأحسن في الآية إذا قلنا أن ذلك معطوف على (شحومهما) أن تكون أو فيه للتفصيل، فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم) ا. هـ، وانظر: "الدر المصون" ٥/ ٢٠٤ - ٢٠٥.
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٩٥.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٧١، والمعنى متقارب. وانظر: "تفسير الطبري" ١٢/ ٢٠٦، و"معاني النحاس" ٢/ ٥١٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٢١، والبغوي ٣/ ٢٠٠، وابن الجوزي ٣/ ١٤٤، وابن كثير ٢/ ١٨٦.
(٤) انظر: المراجع السابقة.
(٥) لم أجد من ذكر هذا السبب في نزول الآية، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٧١، نحوه في شرح الآية.
وقال ابن عباس: (يريد: الملحدين) (١).
١٤٨ - قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ الآية. أخبر الله تعالى عنهم بما سيقولونه (٢) إذا لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما هم عليه من الشرك بالله، وتحريم ما لم يحرمه الله.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا آبَاؤُنَا﴾ عطف على المضمر المرفوع في ﴿أَشْرَكْنَا﴾ من غير توكيد للمضمر وهو قبيح لولا قوله: (ولا)، فإنه قام مقام تأكيد المضمر (٣)، وهذه المسألة قد مضت بالاستقصاء (٤).
قال المفسرون (٥) (إن المشركين جعلوا قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ حجة لهم على إقامتهم على الشرك، فقالوا: إن الله رضي منا ما نحن عليه، وأراده منا، وأمرنا به، ولو لم يرضه لحال بيننا وبينه، فقال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد: الذين من قبل قومك كذبوا أنبيائهم، وقالوا مثل ما قال هؤلاء) (٦).
فإن قيل: لم كذبوا في إضافة مشيئة شركهم إلى الله؟
(١) لم أقف عليه.
(٢) في (أ): (بما سيقولو إذا لزمتهم).
(٣) انظر "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٢، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٩٠، وقد ذهب الكوفيون إلى أنه: يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل نحو (قمت وزيد). وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إلا على قبح في ضرورة الشعر. وأجمعوا على أنه إذا كان هناك توكيد أو فصل فإنه يجوز معه العطف من غير قبح. انظر: الكتاب ٢/ ٢٧٧، و"الإنصاف" ٣٨٠، و"الدر المصون" ٥/ ٢١٠.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر "تفسير الطبري" ٨/ ٧٨٠، السمرقندي ١/ ٥٢٢، البغوي ٣/ ٢٠١.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٧٢، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٤٥.
511
قيل: إنهم لم يكذبوا في ذلك، ولو كذبوا في قولهم ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾، لقيل: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ﴾ بالتخفيف (١)، ولكن المعنى: كما [كذبك هؤلاء] (٢)، كذب كفار الأمم الخالية أنبياءهم، ولم يتعرض لقولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾، ولكن قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ لا يكون حجة لهم على أن ما هم عليه من الدين حق؛ لأن الأشياء كلها تجري بمشيئة الله تعالى، فلو كانوا على صواب؛ لأن ذلك بمشيئة الله تعالى لكان من خالفهم أيضًا وجب أن يكون عندهم على صواب؛ لأنهم أيضًا على ما شاء الله، فينبغي أن لا يقولوا إنهم ضالون، فبان أنه لا حجة لهم في قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ وإن كان الأمر على ما قالوا؛ لأنهم تركوا أمر الله وتعلقوا بمشيئته، وأمر الله تعالى بمعزل عن إرادته؛ لأنه مريد لجميع الكائنات، غير آمر بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يحفظ الأمر ويتبعه، وليس له أن يتعلق بالمشيئة بعد ورود الأمر [بما يجب عليه] (٣) الانتهاء إليه، وهذا معنى ما ذكره أبو إسحاق (٤) وغيره من العلماء (٥).
(١) القراءة المشهورة ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ﴾ بتشديد الذال، قال الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٩: (ولو كان ذلك خبرًا من الله عن كذبهم في قيلهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا﴾ لقال: (كَذَلِكَ كَذَبَ الذين من قبلهم) بتخفيف الذال، وكان ينسبهم في قيلهم ذلك إلى الكذب على الله لا إلى التكذيب..) ا. هـ، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢٠١، وابن عطية ٥/ ٣٨٨، والرازي ١٣/ ٣٢٥.
(٢) لفظ: (كذبك هؤلاء)، ساقط من (ش).
(٣) في (ش): (بعد ورود الأمر لما يجب الانتهاء إليه).
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٢.
(٥) ومنهم: الطبري في "تفسيره" ٨/ ٧٨، ٧٩، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٥١٣ - ٥١٤، والثعلبي في "تفسيره" ص ١٨٥ ب، والبغوي ٣/ ٢٠١.
512
وقال أبو علي الجرجاني: (احتج (١) المشركون بأنهم أشركوا بمشيئة الله، والمراد بالمشيئة هاهنا: الأمر، وترك النهي لا الإرادة التي يقولها المؤمنون، أيضًا أن الشرك وكل كائن فهو بمشيئته، وإنما يكون لهم تعلق بهذا إذا أرادوا بالمشيئة الأمر، ألا ترى أن رجلاً لو كان معه حدث فعوتب عليه فقال: لو شاء فلان لم أفعله (٢) لم يكن له في ظاهر هذا القول عذر، ولا تعلق إلا أن يعني به أنه أمره به، ومن عادة العرب الجارية بينهم في المحاورات إذ أمر الرجل بشيء ففعله، فيتم عليه الأمر وعاتبه عليه أن يقول له: لو شئت أنت لم أفعله، أي: أنك أنت أمرتني به فلمَ تنكره عليّ ولو نهيتني عنه لم أفعله، ويدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن هذا محمول على الأمر قوله: ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [الأنعام: ١٤٣]، وهذا يدل على أنهم أضافوا ذلك التحريم إلى أن الله تعالى أمرهم به لا إلى مشيئته. ولو أضافوا ذلك إلى المشيئة لقال عز وجل في الإنكار عليهم: قل أتحريم الذكرين شاء لكم أم تحريم الأنثيين، وكذلك قوله: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا﴾ [الأنعام: ١٤٤]، وهل تكون التوصية إلا أمرًا ظاهرًا لا مشيئة باطنة، ولم يكن الله ليطالبهم بأن يكونوا شهداء بمشيئته، ثم قال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام: ١٤٤] يعني قولهم (٣): إن الله أمرنا بتحريم هذه الأنعام، وكذلك قوله: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا﴾ [الأنعام: ١٥٠] أي: أمر بتحريمه فلما دلت هذه الآيات على أنهم أضافوا ما كانوا عليه إلى أن الله تعالى
(١) في (أ): (حين احتج المشركون).
(٢) في (ش): (يفعله).
(٣) لفظ (قولهم)، ساقط من (أ).
513
أمرهم به كان.
قوله: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ أي: لو نهانا عن الشرك ولم يأمرنا به ﴿مَا أَشْرَكْنَا﴾، فأضافوا شركهم إلى أمره، كما أضافوا التحريم، وقد صرح الله تعالى بهذا الذي ذكرنا في الإخبار عنهم في قوله: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٨]، فالمرجع على ما رتبنا وبيّنا في تأويل قوله: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ وجميع ما يتصل به إلى أنهم ادَّعوا على الله أنه أمرهم به، فكذّبهم الله في ادعائهم أمره بذلك، لا أنه كذبهم في إضافتهم مشيئة ما هم فيه إليه، ومما جاء في القرآن، من مثل هذا قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾ إلى قوله: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ [الأعراف: ١٦٩]، فهذا تبكيت لهم على قولهم (سَيُغْفَرُ لَنَا) (١)؛ لأن الكذب لا يقع إلا فيه مما ذكر في (٢) هذه الآية، ومعنى قولهم ﴿سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ أنهم ادّعوا أن الله وعدهم أن يغفر لهم، فكذّبهم الله تعالى في ادعائهم الوعد، ولا يحسن حمله إلا على هذا الوجه؛ لأنه لا يحسن أن ينكر عليهم حسن الظن بالله في الغفران وحسن الظن غير مذموم) (٣).
وقال أبو بكر بن الأنباري: (إنما عابهم الله تعالى بردّ المشيئة إليه حن استهزءوا واحتجوا على المؤمنين، وضَعّفوا أمر الرسل بردّ المشيئة إلى الله فقالوا للمؤمنين: ما نحتاج إلى اتباع الرسل؛ لأن الذي نحن عليه بمشيئة
(١) في (ش): (لهم بدلًا من (لنا).
(٢) لفظ: (في) ساقط من (ش).
(٣) لم أقف عليه عن أبي علي الجرجاني.
514
ربنا، وعلى أنه لو شاء نقلنا عنه، فلما لم يقولوه على جهة التعظيم لله [وقالوه] (١) طاعنين على المسلمين، ومضعّفين أمر الأنبياء نعاه الله عز وجل عليهم وبيّن جهلهم فيه) (٢).
وهذا قول الحسين بن الفضل: (أنهم قالوا هذه المقالة تكذيبًا وتخرّصًا وجدلًا من غير معرفة بالله وبما يقولون، ولو قالوها تعظيمًا وإجلالًا لله ومعرفة منهم به لما عابهم الله بذلك؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ [الأنعام: ١٠٧]، والمؤمنون يقولونه، ونظير هذا قوله: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ [الزخرف: ٢٠] قال الله: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ [الزخرف: ٢٠] أي: قولهم هذا من غير علمٍ منهم بالله، والمؤمنون يقولونه بعلم بالله منهم) (٣).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾، قال ابن عباس: (أي: من كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرّمتم) (٤)، ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ ما تتبعون فيما أنتم عليه إلا الظن، لا العلم واليقين ﴿وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ وما أنتم إلا خارصين، كاذبين، والمراد بلفظ الاستقبال: الاسم كما تقول: رأيته يصلي، أي: مصليًا، ويأكل أي:
(١) في (ش): (وقالوا).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٥ ب، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٠١، والخازن ٢/ ١٩٧، وقال ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣٨٧: (قال بعض المفسرين: إنما هذه المقالة من المشركين على جهة الاستهزاء، وهذا ضعيف) اهـ.
(٤) ذكره الوحدي في "الوسيط" ١/ ١٣٦، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٤٥ بدون نسبة.
515
آكلاً، ونظير هذا قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: ١١٦]، وقد مضى في هذه السورة.
١٤٩ - قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ قال الزجاج: (حجته البالغة تبيينه أنه الواحد، وإرساله الأنبياء بالحجج التي يعجز عنها المخلوقون أجمعون) (١)، وهذا معنى قول المفسرين: لله الحجة البالغة بالكتاب والرسول والبيان (٢).
﴿فَلَوْ (٣) شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ هذا يدل على أنه ما شاء إيمان الكافر ولو شاء لهداه، والقدرية يحملون هذه الآية ونظائرها على الإلجاء، وذلك باطل من وجوه:
أحدها: أن هذا عدول عن الظاهر، والظاهر لا يدل على أن المراد لو شاء لألجأهم إلى الإيمان حتى يؤمنوا.
والثاني: أن عندهم الله تعالى أراد أن يؤمن الخلق اختيارًا لا اضطرارًا، فإذا لم يؤمنوا أختيارًا حتى يلجئهم لم يرتفع مراده.
والثالث: أنهم بعد الإلجاء يجوز أن يصبروا على مقاساة الشدة ولا يؤمنوا فلا يرتفع أيضًا مراده كمن صبر على مطالبة ما يقدر على أدائه حتى يهلك، وأيضًا فإن هذا الإلجاء إذا قدر الله تعالى عليه ولم يفعل حتى يؤمنوا فشركهم كان بإرادته؛ لأن عندهم لا يجوز أن يدخر الله تعالى شيئًا عن
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٣.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٧٩، و"معاني النحاس" ٢/ ٥١٤، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٢٢، والبغوي ٣/ ٢٠٢.
(٣) في النسخ: (ولو شاء) بالواو، وقد جاء ذلك في سورة النحل، الآية ٩ قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
الخلق (١) لو فعله لآمنوا، فإذا كان إيمانهم إنما يحصل بالإلجاء ثم لم يفعل فقد أراد شركهم (٢).
١٥٠ - قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ﴾ الآية، قال الليث: (هَلُم كلمة دعوة إلى شيء، الواحد والاثنان والجميع والذكر والأنثى فيه سواء، إلا في لغة بني سعد (٣) فإنهم يحملونه على تصريف الفعل يقولون: هَلُمَّا هَلُمُّوا) (٤)، ونحو ذلك قال ابن السكيت فيما أخبرناه أبو الفضل العروضي، [أخبرنا] (٥) الأزهري، عن المنذري، عن الحَرَّاني، عنه يقول: (هَلُمَّ يا رجل، وكذلك للاثنين والجميع والمؤنت مُوَحَّد، قال الله عز وجل: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٠] وقال عز وجل: ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾ [الأحزاب: ١٨] ولغة أخرى يقال للاثنين: هَلُمَّا، وللجميعِ: هَلُمُّوا، وللمرأة: هَلُمِّي، وللاثنين: هلُمَّا، وللجميع: هَلُمْنَ، والأول أصح وإذا قال لك: هَلُمَّ إلى كذا، قلت: [إلاَمَ أَهَلُمُّ، وإذا قال لك: هَلمُّ كذا قلت: (٦)] لا أَهَلُمُّه مفتوحة الألف والهاء، أي: لا أعطيكه) (٧) انتهى كلامه.
(١) في (ش): (على الخلق).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢٠٢، وابن عطية ٥/ ٣٩٠، والرازي ١٣/ ٣٢٥، ٣٢٦.
(٣) بنو سعد: هم بنو سعد العشيرة، حي من كهلان من القحطانية، وهم بنو سعد العَشيرة ابن مالك، وهو مذحج بن أَدد بن يزيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. انظر: "الاشتقاق" ص ٣٩٧، و"نهاية الأرب" ص ٢٦٨.
(٤) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٧٨٨، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٨.
(٥) في (أ): (انباء).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٧) "إصلاح المنطق" ص ٢٩٠، وبعضه في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٧٨٨، وانظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ٢/ ١٢٠ - ١٢١.
517
قال النحويون: (١) (هلم على اللغة الأولى لا تصرف له وهو بمنزلة نعم وبئس، وإذا زال التصرف لم يبن عليه في الجواب إلا أهلم (٢) وأهلم فإن هذا تصرف، وإنما تصرف هذا إلى اللغة الثانية المجراة (٣) مجرى الأفعال المتصرفة في التثنية والجمع). فأما أصل هذه الكلمة وإعرابها، فقال الخليل وسيبويه: (إنها هاء ضمت إليها لُمّ، ومعنى لمّ، أي: جمع، ويكون معنى: ادنُ، يقال: لفلان لمه، أي: دنو، ثم جعلتا كالكلمة الواحدة) (٤).
وقال الفراء: (أصلها هل أُمَّ، أرادوا بهل: أقبل، وأُم، أي: اقصد) (٥)، وهذا قول ابن دريد أيضًا (٦).
وقال أبو إسحاق: (وفتحت هلم (٧)؛ لأنها مدغمة كما فتحت رُدَّ في الأمر لالتقاء الساكنين، ولا يجوز فيها هَلُمَّ بالضم كما يجوز في رُد بالضم (٨) لأنها لا تتصرف).
(١) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٠، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٥٥٧، و"المقتضب" ٣/ ٢٠٢ - ٢٠٣، و"الأصول" ١/ ١٤١ - ١٤٦، و"حروف المعاني" للزجاجي ص ٧٣ - ٧٤، و"الخصائص" ٣/ ٣٥ - ٣٧، و"الصاحبي" ص ٢٧٩، و"المشكل" ١/ ٢٧٧، و"البيان" ١/ ٣٤٨، و"التبيان" ١/ ٣٦٣.
(٢) في (أ): (في الجواب لا أهلم أو أهلم). وقد ضبط إلا أهلم بفتح الهاء، وضم اللام وأهَلِم: بكسر اللام.
(٣) في (ش): (والمجراة)، بالواو.
(٤) انظر: "الكتاب" ٣/ ٥٢٩ و٣/ ٣٣٢ و١/ ٢٤٦.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٢٠٣. وانظر: "الصاحبي" ص ٢٧٩.
(٦) "جمهرة اللغة" ٢/ ٩٨٨.
(٧) في (ش): (هل)، وهو تحريف.
(٨) في "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٣: (كما يجوز في رد: الفتح والضم والكسر؛ لأنها لا تتصرف) ا. هـ، وانظر: "إعراب النحاس" ٢/ ١٠٥.
518
قال أبو علي الفارسي: (اعلم أن في قولنا: هلم، لغتين، إحداهما: وهو قول أهل الحجاز ولغة التنزيل: أن تكون في جميع الأحوال للواحد والواحدة والاثنين والثنتين، والجماعة من الرجال والنساء على لفظ واحد، لا يظهر فيه علامة تثنية ولا جمع، فيكون بمنزلة رُوَيْدَ وصَهْ ومَهْ ونحو ذلك من الأسماء التي سميت بها الأفعال، وتستعمل للواحد والجميع والتأنيث والتذكير على صورة واحدة، والأخرى: أن تكون بمنزلة رُدَّ في ظهور علامات الفاعلين على حسب ما يظهر في رُدّ وسائر ما أشبهها من الأفعال، فأما الهاء اللاحق بها أولاً فهي من هَاء التي للتنبيه لحقت أولًا؛ لأن لفظ الأمر قد يحتاج له إلى استعطاف المأمور واستدعاء إقباله على الأمر، فهو لذلك (١) يقرب من المنادى، ومن ثم دخل حرف التنبيه في قوله: (ألا (٢) يسجدوا) [النمل: ٢٥]، ألا ترى أنه أمر كما أن [هذا أمر] (٣) إلا أنه كثر الاستعمال مع هاء، فغير بالحذف؛ لكثرة الاستعمال كأشياء [تغير] (٤) لذلك بالحذف نحو: لم أُبَلْ (٥) ولا أَدْرِ ولم يَكْ، وما أشبه ذلك مما يُغير للكثرة، ومما حسن حذف الألف من ها في هلم أنها في موضع كان يجب
(١) في (ش): فهو كذلك.
(٢) جاء في النسخ (أَلَا يَا اسْجُدُوا)، وقد قرأ الكسائي بتخفيف اللام ووقف (أَلاَ يَا) ثم ابتدأ (اسْجُدُوا) وقرأ الباقون: بتشديد اللام (ألَّا يَسْجُدُوا). انظر: "السبعة" ص ٤٨٠، و"المبسوط" ص ٢٧٩، والاستشهاد هنا على تخفيف (ألا)، وأبو علي الفارسي يعتبر (يا) لمجرد التنبيه، انظر: "الحجة" لأبي علي ٥/ ٣٨٣، و"كتاب الشعر" ١/ ٦٦.
(٣) في (أ): (هذا الأمر)، وهو تحريف.
(٤) في النسخ (يغير) بالياء، والأصح بالتاء كما في "الإغفال" ص ٧١٣.
(٥) انظر "اللسان" ١/ ٩
519
أن يسقط في الأصل لالتقاء الساكنين، ألا ترىَ أن فاء الفعل (١) كانت في موضع سكون قبل الإدغام، وقد نجد الحركات التي تُلقى على الحرف لحرف غيره لا يخرج الحرف به عن أن يكون في نية سكون، يدلك على ذلك تركهم قلب الياء في جيل، فحسن الحذف لسكون الألف، [ولأن] (٢) الفاء كأنها ساكنة إذ حركتها لغيرها كما كانت الياء في جيلٍ كأنها ساكنة، ولولا ذلك لوجب الإعلال والقلب فمن حيث لم يجب القلب حسن الحذف في الألف من هلم.
فأما ما حُكي عن الفراء أنه قال في هلم: أن أصله هَلْ أُمّ، فالدليل على فساد هذا القول وفَسالته أن هل لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون بمعنى: قد، وهذا يدخل في الخبر، وإما أن يكون بمعنى: الاستفهام، وليس لواحد من الحرفين متعلق بهلم ولا له مدخل (٣)، ألا ترى أنه يراد بها الأمر دون غيره، فلا وجه لها هنا، ألا ترى أنه لا يكون هل أضرب وأنت تأمر، وأيضاً فإن أمّ بعد هل لا يخلو من أن يكون مثله رُدَّ ومُدَّ وأنت تأمر، أو يكون مثل فُعِلَ إذا أخبرت، فلا يجوز على قوله أن يكون التي للأمر من حيث لا تقول: هل اضْرِبْ، ولا هل اقْتُلْ، ولا يجوز أن يكون بمعنى فُعِلَ؛ لأن ذلك للخبر، والخبر لا وجه له [هنا] (٤) لأن المراد [الأمر]. وهذا
(١) في "الإغفال" ص ٧١٥ (أفعل)، وأشار المحقق في الهامش إلى ورود لفظ، الفعل في بعض النسخ.
(٢) في (ش): (لأن).
(٣) قال أبو علي في "العضديات" ص ٢٢٣: (لا يجوز أن يكون للاستفهام لاستحالة دخول الاستفهام على الأمر، ولا يجوز أيضًا أن يكون هل التي بمعنى قد التي تدخل على الخبر؛ لأن ذلك لا تدخل على الأمر، لا يجوز قد أذهب) اهـ.
(٤) في (ش): (هاهنا).
520
قول فاسد جدًّا لا يجب أن يُعرّج عليه، والقول فيه ما قدمنا ذكره.
وأما قول أبي إسحاق: فتحت؛ لأنها مدغمة كما فتحت رُدّ في الأمر لالتقاء الساكنين، فليس يخلو الفتح فيه من أن يكون لالتقاء الساكنين كما قال، أو من أن (١) يكون؛ لأنه بُني مع الحرف المضموم إليه على الفتح كخمسة (٢)، فلو كان الفتح لالتقاء الساكنين كما قال لجاز أن يحرك بالكسر أيضًا لالتقاء الساكنين، وإذا لقيته ألف (٣) ولام مثل غُض الطرف فلما لم يحركه لا التميميون الذين يجمعون ويثنون ولا الحجازيون الذين يفردون ولا يغيرون دل ذلك من أمرها على أن الجميع أجمعوا فيها على البناء على فتحها وحركوها لذلك، ولم يكن حركتها عند الجميع لالتقاء الساكنين، ألا ترى أن ما كان حركته لالتقاء الساكنين من هذا الضرب لا يمتنع اختلاف الحركات فيه [وأن ذلك] (٤) مطرد في جميعه (٥) فيخصص هذا من بين ذلك كله دلالة على أن حركته لما قلنا دون ما ذهب إليه، وهو مذهب سيبويه فإنه (٦) قال: لا يكسر هلم البتة) (٧).
(١) لفظ: (أن) ساقط من (ش)، وفي "الإغفال" ص ٧٢٠: (أو يكون لأنه بني).
(٢) أي فتحت من أجل التركيب كما فتحت خمسة عشر وبابها. انظر: "التبيان" ١/ ٣٦٣.
(٣) في (ش): (الألف)، وفي "الإغفال" ص ٧٢٠: (إذا لقيته الألف واللام) ا. هـ.
(٤) لفظ: (وأن ذلك) ساقط من (أ)، وفي "الإغفال" ص ٧٢١: (فإن ذلك مطرد).
(٥) كذا في "النسخ"، وفي "الإغفال" ص ٧٢١ (جمعه)، وأشار المحقق في الهامش إلى ورود (جميعه).
(٦) "الكتاب" ٣/ ٥٣٤.
(٧) هذا ملخص ما ذكره أبو علي في "الإغفال" ص ٧١١ - ٧٢١، ونحوه ذكر في "المسائل العضديات" ص ٢٢١، وانظر: "الدر المصون" ٥/ ٢١١ - ٢١٣.
521
فأما معنى ﴿هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ﴾ فقال الزجاج: (هاتوا شهداءكم [وقربوا شهداءكم]) (١) (٢)، وهذه الكلمة تستعمل تارة بمعنى دعاء المخاطب كقولك: هلم إليّ، أي: ادن مني وتعال، وتارة تستعمل بمعنى التعدية كقولك: هلم الطعام والشراب، وبالمعنيين ورد القرآن قال الله تعالى: ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ [الأحزاب: ١٨]. وقال في هذه الآية: ﴿هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ﴾، فإذا كان بمعنى التعدية فاشتقاقه من اللم الذي هو الجمع، وإذا (٣) كان بمعنى دعاء المخاطب فاشتقاقه من اللمم بمعنى: الدنو (٤).
١٥١ - قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ قال الزجاج (٥) وابن الأنباري (٦): (موضع (ما) نصب بـ (أتْل)، أي: اتل الذي حرمه ربكم).
قال أبو إسحاق: (ويكون ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا﴾ منصوبة بمعنى طرح اللام، أي: أبيّن لكم الحرام لئلا تشركوا به شيئًا؛ لأنهم إذا حرموا ما أحل الله عز وجل فقد جعلوا غير الله في القبول منه بمنزلة الله جل وعز فصاروا بذلك مشركين.
(١) لفظ: (وقربوا شهداءكم) ساقط من (ش).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٣.
(٣) في (ش): (فإذا).
(٤) انظر: "الصحاح" ٥/ ٢٠٦٠، و"المجمل" ٤/ ٩٠٧، و"المفردات" ص ٨٤٤، و"اللسان" ٨/ ٤٦٩٤ (هلم)، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٢١٣: (هلم تكون متعدية بمعنى أَحْضر، ولازمة بمعنى أقبل، فمن جعلها متعدية أخذها من اللمِّ وهو الجمع، ومن جعلها قاصرة أخذها من اللمَمِ وهو الدنو والقرب) اهـ.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٣.
(٦) لم أقف عليه.
522
قال: ويجوز أن يكون ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ﴾ (١) محمولًا على المعنى، فيكون أتلو عليكم ألا تشركوا [والمعنى: أتلو عليكم تحريم الشرك، قال: وجائز أن يكون على معنى أوصيكم ألاّ تشركوا (٢)] به شيئًا؛ لأن قوله: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ محمول على معنى: أوصيكم بالوالدين إحسانًا) (٣).
قال أبو بكر: (وقال آخرون: موضع أن نصب بعلى على (٤) معنى الإغراء، والكلام انقطع عند قوله: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ والابتداء ﴿عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا﴾ كما قال تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥] قال: ويجوز أن يكون أن في موضع رفع بعلى، كما تقول: عليكم الصيام والحج) (٥).
وأما موضع (تشركوا) فذكر الفراء فيه قولين: (أحدهما: وهو الظاهر أنه نصب بأن، ويجوز أن يكون في موضع جزم بلا على النهي كقولك: أمرتك ألا تذهبَ إلى زيد بالنصب وأن لا تذهبْ بالجزم، كما قال الله تعالى ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ﴾ [الأنعام: ١٤] فنصب أوله، ونهى في آخره. قال: والجزم في هذه الآية أحب إليّ لقوله: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾ [الأنعام: ١٥٢] وأمّا ما نسقته على ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا﴾
(١) في (ش): ﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٤.
(٤) في (ش): (نصب بمعنى على معنى)، وهو تحريف.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣٨، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٤٧، والسمين في "الدر" ٥/ ٢١٦ - ٢١٧، واستبعد أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٥٠، والسمين في "الدر" ٥/ ٢١٧، النصب على الإغراء قال السمين: (هذا ضعيف لتفكك التركيب عن ظاهره، ولأنه لا يتبادر إلى الذهن) اهـ.
523
من قوله: ﴿تَقْرَبُوا﴾ و ﴿تَقْتُلُوا﴾ [الأنعام: ١٥١] فجائز أن يكون نصبًا وجزمًا على ما ذكرنا، وجائز أن يخالف بينهن فتحكم على بعض بالنصب، وعلى بعض بالجزم) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ قد ذكرنا [أنه على] (٢) معنى: أوصيكم ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وقال أبو بكر: (التقدير: أن لا تشركوا به شيئًا وأن تفعلوا ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ فحذف الفعل لوضوح معناه) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ﴾ قال ابن عباس: (يريد: مخافة الفقر) (٤).
وقال الزجاج: (أي: من فقر، أي: من خوف فقر) (٥)، وقد صرح
(١) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٦٤، و"تفسير الطبري" ٨/ ٨١، ٨٢، و"إعراب النحاس" ١/ ١٩١، و"المشكل" ١/ ٢٧٧، و"غرائب التفسير" ١/ ٣٩١، و"البيان" ١/ ٣٤٩، و"التبيان" ١/ ٣٦٤، و"الفريد" ٢/ ٢٤٨، وأطال السمين في "الدر" ٥/ ٢١٣ - ٢١٨: في إعراب هذه الآية، وذكر في (ما) ثلاثة أوجه: وفي محل (أن لا تشركوا) ثلاثة أوجه، الجر من وجه واحد، والرفع من ثلاثة أوجه، والنصب من ستة أوجه.
(٢) لفظ: (أنه على) ساقط من (ش).
(٣) لم أقف عليه. وانظر: "المشكل" ١/ ١٠٢، و"البيان" ١/ ٨٤.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٨٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤١٤ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٤/ ١٠٣، وهو في "مسائل نافع بن الأزرق" ص ١١٥، و"تنوير المقباس" ٢/ ٧٣، وأخرج أبو عبيد في "اللغات" ص ٩٨، وابن حسنون ص ٢٤، و"الوزان" ص ٣/ ب بسند جيد عن ابن عباس قال: (يعني: من جوع بلغة لخم) اهـ.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٤، ونحوه في "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٣، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٦٣، و"تفسير المشكل" ص ٨١، وقال الطبري في "تفسيره" ٨/ ٨٢: (الإملاق: مصدر من قول القائل: أملقت من الزاد، فأنا أملق إملاقًا. وذلك إذا فني زاده وذهب ماله، وأفلس) ا. هـ، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٨.
524
بذكر الخوف (١) في قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١]، وهذا في النهي عن [الوأد] (٢) كانوا يدفنون البنات أحياء، بعضهم للغيرة، وبعضهم خوف الفقر، فضمن الله (٣) لهم الرزق. وقال: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [الإسراء: ٣١] قال شمر: (أمْلق لازم ومتعدٍّ، يقال: أَمْلَق الرجلُ فهو مُملق إذا افتقر، فهذا لازم، وأملق الدَّهرُ ما بيده إذا أفسده، والإملاق: الإفساد) (٤).
وقال ابن شميل أيضًا: (ومنه قول أوس بن حجر:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْعُدْمَ قَيَّدَ نَائِلي وَأَمْلَقَ ما عِندي خُطُوبٌ تَنَبَّلُ (٥)
[أي: تذهب بالمال تَنَبلَّتْ بما عندي، أي: ذهبت به (٦)].
(١) قال في الأنعام: ﴿مِنْ إِمْلَاقٍ﴾ لأنه فقر واقع. وفي الإسراء: ﴿خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾؛ لأنه فقر متوقع. انظر: "ملاك التأويل" ١/ ٣٥٣، و"فتح الرحمن" ص ١٨١.
(٢) في (ش): (الولد)، وهو تحريف.
(٣) لفظ: (الله) ساقط من (أ).
(٤) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٤٨، والظاهر من إيراد الأزهري أن البيت من كلام شمر وليس من كلام ابن شميل، وأيضًا قوله: (والإملاق: الإفساد) من قول ابن شميل، وانظر: في معنى الإملاق، و"إصلاح المنطق" ص ٤٦، ٢٧٥، و"الجمهرة" ٢/ ٩٧٥، و"الصحاح" ٤/ ١٥٥٦، و"المجمل" ٣/ ٨٤٠، و"اللسان" ٧/ ٤٢٦٥ (ملق).
(٥) "ديوانه" ص ٩٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٤٨، و"اللسان" ٧/ ٤٢٦٥ مادة (ملق)، و"الدر المصون" ٥/ ٢١٨، والعُدْم -بضم فسكون-: فقدان الشيء وذهابه، والفقر، وغلب على فقد المال وقلته. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٨٤٨ مادة (عدم)، والخطوب: بالضم جمع خطب بفتح فسكون، وهو الشأن والأمر. انظر: "اللسان" ٢/ ١١٩٤ (خطب)، وتنبل: بالفتح تأخذ الأنبل. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٣٣٠ (نبل).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، وملحق بالهامش.
525
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ قال ابن عباس: (كانوا يكرهون أن يزنوا علانية فيفعلون ذلك سرًا فنهاهم الله عن الزنا سرًا وعلانية) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ قال: (إلا بالقود يريد: القصاص) (٢).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ قال الزجاج: (هذا يدل على أن معنى ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ محمول على معنى: وصاكم بأن لا تشركوا) (٣).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٨٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤١٦ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٠٤، وهذا من باب التمثيل، والآية عامة، وهو اختيار الجمهور، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في "الدر المنثور" ٣/ ١٠٤، وقال ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٣٩٤: (الآية نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي، وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء، وذهب بعضهم إلى تخصيص لا تقوم عليه حجة، بل هو دعوى مجردة) ا. هـ. ملخصًا. وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٨٣، والرازي ١٣/ ٢٣٣، والقرطبي ٧/ ١٣٣.
(٢) (قال) كذا في "النسخ"، والمراد ابن عباس رضي الله عنهما، كما ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٣٩، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٧٣: (﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ بالعدل يعني: بالقود والرجم والارتداد) ا. هـ، ولعل ما ذكره الواحدي من باب التمثيل لبعض ما أباح الشارع به قتل النفس، فهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها، وقد بينته الشريعة ومنها الردة، وقتل النفس، والزنا بعد الإحصان والحرابة، انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٨٤، والبغوي ٣/ ٢٠٣، وابن عطية ٥/ ٣٩٥، والقرطبي ٧/ ١٣٣، وابن كثير ٢/ ٢١١.
(٣) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٤، وانظر: "أضواء البيان" ٢/ ٢٧٧ - ٢٧٨، وفيه رجح هذا الوجه.
526
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] قال عطاء، عن ابن عباس (يريد: إن كنت له وصيًا فأصلحت في ماله وقمت لله في ضيعته (١) أكلت بالمعروف إن احتجت إليه، وإن كنت غنيًا عنه فعفّ عن أكله، وقد قال في سورة البقرة: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ الآية [البقرة: ٢٢٠]) (٢). وقال الضحاك: (هو أن يبتغي له فيه من فضل الله ولا يأخذ من ربحه شيئًا) (٣).
وقال (٤) مجاهد: (هو التجارة فيه) (٥). قال أبو إسحاق: (﴿الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ حفظ ماله عليه وتثميره بما يوجد السبيل إليه) (٦). وهو قول السدي قال: (التي هي أحسن التثمير له) (٧).
(١) الضَّيْعة، بفتح فسكون: الحرفة، والصناعة، والمال، وسياسة الإبل والغنم. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٦٢٤ (ضيع).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٠، وفي "تنوير المقباس" ٣/ ٧٣، و"زاد المسير" ٣/ ١٤٩، نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(٣) أخرجه الطبري ٨/ ٨٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤١٩، بسند ضعيف، وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٦ أ، والماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٨٧، والبغوي ٣/ ٢٠٤.
(٤) في (أ): (وهو مجاهد هو التجارة فيه)، وفي (ش): (وقال مجاهد هو من التجارة فيه).
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٨٤ بسند جيد، وذكره النحاس في "معانيه" ٢/ ٥١٧، والثعلبي في "تفسيره" ١٨٦ أ، والماوردي ٢/ ١٨٧، والبغوي ٣/ ٢٠٣ - ٣٠٤.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٥، وفيه (بما يوجد إليه السبيل).
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٨٤ بسند جيد، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤١٩، ورجح هذا القول الطبري في "تفسيره" ٨/ ٨٤، والبغوي ٣/ ٢٠٣، وابن عطية ٥/ ٣٩٦، وقال القرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٣٤ في تفسير الآية: (أي: بما فيه صلاحه وتثميره، وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه، وهذا أحسن الأقوال =
527
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ قال (١): (حتى محمولة على المعنى أي: احفظوه عليه حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله)، وأما معنى الأشد وتفسيره (٢) فقال الليث: (الأشُدُّ: مبلغ الرجل الحُنكة (٣) والمعرفة) (٤)، وقال أبو عبيد (٥): (قال الفراء: الأشُد واحدها شَدٌّ في القياس، ولم أسمع لها بواحد، وأنشد:
قد سادَ وَهْو فَتًى حَتَّى إذا بَلَغَتْ أَشُدُّه وعَلا في الأَمْرِ واجْتَمَعَا) (٦)
وقال أبو الهيثم: (واحدة الأشد: شِدَّة، كما أن واحدة الأَنعُم: نِعْمَة، والشِّدة: القوة والجلادة، والشديد: الرجل القوي، قال: وكأن
= في هذا، فإنه جامع) اهـ.
(١) كذا في "النسخ" والمراد الزجاج حيث جاء النص في "معانيه" ٢/ ٣٠٥.
(٢) انظر: "العين" ٦/ ٢١٣، و"الجمهرة" ١/ ١١١، و"الصحاح" ٢/ ٤٩٣، و"المجمل" ٢/ ٥٠٠، و"المفردات" ص ٤٤٨ (شد).
(٣) في (ش): (الحركة)، وهو تحريف.
(٤) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٤٣.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٤٣، ولم أقف عليه في "معاني الفراء" بعد طول بحث، وهو في "الغريب المصنف" لأبي عبيد ١/ ٣٧٩، من قوله دون ذكر الفراء، وكذا في "المخصص" ١/ ٤١، وحكى ثعلب في "مجالسه" ٢/ ٥٤٠ عن الفراء قال: (أشده: جمع شَدّ) ا. هـ. وهو في الجميع بفتح الشين، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ٢/ ٩٩: (هو موضع جميع لا واحد له من لفظه، وقال الفراء والكسائي: واحد الأشد: شد. على فُعل وأفعل مثل بحر وأبحر، وأشد مضعف مشدد) ا. هـ. وانظر: ١/ ٣٠٥، ١/ ٣٧٨، و"تفسير الطبري" ٨/ ٨٥.
(٦) الشاهد لعدي بن الرقاع في "الغريب المصنف" ١/ ٣٧٩، و"الأفعال" لأبي عثمان السرقسطي ٢/ ٣٣٢، و"المخصص" ١/ ٤١، وبلا نسبة في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٤٣، و"اللسان" ٤/ ٢٢١٥ (شدد)، و"الدر المصون" ٥/ ٢٢١، ولم أقف عليه في "ديوانه" المطبوع.
528
الهاء في النعمة والشدة لم تكن في الحرف إذ (١) كانت زائدة وكأن الأصل نِعمٌ وشِدٌ فجمعا على أفعل (٢) كما قالوا: رِجل وأرْجلُ، وقِدح وأقْدُح، وضِرس وأضْرُس).
وحكى ابن الأنباري: (عن بعض أهل اللغة: (٣) أن الأشد اسم واحد، ولا واحد له بمنزلة الآنك (٤) وذكر عن جماعة (٥) من البصريين: أن واحده: شُدّ بضم الشين مثل قولك: هو وُدّى (٦) وهم أَوُدِّى).
قال الأزهري: (وبلوغ الأشد يكون من وقت بلوغ الإنسان مبلغ الرجال وإدراكه إلى أربعين سنة، فبلوغ الأشد [محصور الأول] (٧) محصور النهاية غير محصور ما بين ذلك، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ
(١) في (ش): (إذا كانت).
(٢) انظر: "الكتاب" ٤/ ٢٤٥، وفي "الخصائص" ١/ ٨٦، حكى عن سيبويه (أنه جمع شِدة بالكسر)، وهو قول أبي زيد في "النوادر" ص ٥٤، وانظر: "تفسير المشكل" لمكي ص ١١٢ - ١١٣.
(٣) في "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٥٩٧ - ٥٩٨: (قال الفراء: أهل البصرة يزعمون أن الأشد اسم واحد مثل الآنك..)، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٥٣: (اختار ابن الأنباري في آخرين أنه مفرد لا جمع له وليس بمختار لفقدان أفعل في المفردات وضعًا) ا. هـ.
(٤) يعني: أنه مفرد لا جمع، والآنك: بالمد وضم النون: الرصاص القلعي، أو خالصه، والقزدير. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٨٥، و"اللسان" ١/ ١٥٤ (أنك).
(٥) في "المذكر والمؤنث" ١/ ٥٩٧، حكاه عن يونس بن حبيب الضبي فقط، وانظر: "تفسير الغريب" لابن قتيبة ص ٢١٥، و"نزهة القلوب" ص ٧٨.
(٦) عند ابن الأنباري في "المذكر والمؤنث" ١/ ٥٩٧: (بمنزلة قولهم: الرجل وُدّ والرجال أُودّ) ا. هـ. وفي "اللسان" ٨/ ٤٧٩٣ (ودد). (الود: الحب يكون في جميع مداخل الخير) ا. هـ.
(٧) لفظ: (محصور الأول) ساقط من (ش).
529
أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: ١٥] (١)، وفسر بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام في قول يحيى (٢) بن يعمر (٣) والسدي (٤).
وقال أبو إسحاق: (وبلوغ أشده أن يونس منه الرشدَ مع أن يكون بالغًا وحينئذ يجب دفع المال إليه) (٥)، وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول سورة النساء.
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٤٣، وانظر: "معاني الفراء" ٣/ ٥٢، و"تفسير غريب القرآن" ص ٢٥٤.
(٢) يحيى بن يَعْمَر العَدْواني: أبو سليمان البصري قاضي مرو، إمام تابعي ثقة، فقيه مقرئ، نحوي أديب فصيح عالم باللغة، يقال: إنه أول من نقط المصاحف، مات قبل المائة، وقيل بعدها.
انظر: "معجم الأدباء" ٢٠/ ٤٢، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٤٤١، و"غاية النهاية" ٢/ ٣٨١، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٤٠١.
(٣) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٦ أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٥٠، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٥٢.
(٤) أخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٥٨، بسند جيد عن السدي قال: (الأشد: ثلاثون سنة، ثم جاء بعدها ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾) [النساء: ٦]، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٥٠، وقال: (فكأنه يشير إلى النسخ) ا. هـ. وعليه يكون المراد: الاحتلام، والله أعلم.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٥، ورجح هذا القول ابن عطية في تفسيره ٥/ ٣٩٧، وقال: (هذا أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع) ا. هـ وقال السمين في "الدر" ٥/ ٢٢١: (المراد ببلوغ الأشد بلوغ الحلم في قول الأكثر؛ لأنه مظنة ذلك) ا. هـ ورجحه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٥٠، والظاهر، أن بلوغ الأشد في اليتيم مقيد بالبلوغ مع الرشد وزوال السفه، وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمس عشرة سنة. انظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ١٣٤ - ١٣٦، وابن كثير ٢/ ٢١٢، والشنقيطي ٢/ ٢٧٩.
530
وقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾ كل شيء بلغ تمام الكمال فقد وفي وتم يقال: درهم وافٍ، وكيل وافٍ، وأوفيته حقه ووفيته إذا تممته (١)، وأوفى الكيل، أي: أتمه ولم ينقص منه شيئًا (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ أي: وزن الميزان والوزن به؛ لأن المراد إتمام (٣) الوزن لا إتمام الميزان (٤)، كما أنه قال: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾، ولم يقل: المكيال، فهو من باب حذف المضاف (٥).
وقوله تعالى: ﴿بِالْقِسْطِ﴾ أي: بالعدل لا بخس ولا شطط (٦).
(١) لعله: (إذا أتممته) كما في تفسير الرازي ١٣/ ٢٣٤، فقد نقل نص الواحدي بدون نسبه.
(٢) هذا من تهذيب اللغة ٤/ ٣٩٢٤، وانظر: الصحاح ٨/ ٤٨٨٥، و"اللسان" ١٥/ ٣٩٨، و"وَفَى".
(٣) في (ش): (لأن المراد تمام الوزن).
(٤) الميزان: اسم آلة، وأصله مصدر ثم أطلق على الآلة. انظر: "الجمهرة" ٢/ ٨٣٠، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٨٦، و"الصحاح" ٦/ ٢٢١٣، و"المجمل" ٤/ ٩٢٤، و"المفردات" ٨٦٨، و"اللسان" ٨/ ٤٨٢٨ (وزن).
(٥) قال العكبري في "التبيان" ٣٦٤: (والكيل: هاهنا مصدر في معنى المكيل، والميزان كذلك، ويجوز أن يكون فيه حذف مضاف تقديره: مكيل الكيل، وموزون الميزان) ا. هـ، وذكر قول الواحدي والعكبري، السمين في الدر ٥/ ٢٢١ - ٢٢٢، وقال: (ولا حاجة إلى ما ادعاه من وقوع المصدر موقع اسم المفعول، ولا من تقدير المضاف؛ لأن المعنى صحيح بدونهما، وأيضاً فميزان ليس مصدرًا إلا أن يعضد قوله ما قاله الواحدي، والظاهر عدم الاحتياج إلى ذلك، وكأنه لم يعرف أن الكيل يُطلق على نفس المكيال حتى يقول: "ولم يقل المكيال"، والكيل والميزان: هما الآلة التي يكال بها ويوزن، وأصل الكيل المصدر، ثم أطلق على الآلة، والميزان مفعال من الوزن لهذه الآلة..) ا. هـ. ملخصًا.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٨٦، والسمرقندي ١/ ٥٢٤.
531
وقوله تعالى: ﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: قد علمت ما أحل لك، وحرم عليك، فكما تحب أن يوفيك من تشتري منه، فأوف من تبيع منه) (١)، قال أصحاب المعاني: (أمر الله تعالى المعطي بإيفاء ذي الحق حقه الذي هو له من غير زيادة، وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير نقصان، فلم يكلف نفسًا إلا ما يسعها ولا يضيق (٢) عنها، فلو كلف المعطي الزيادة لضاقت نفسه عنها، وكذلك لو كلف الآخد الرضى بالنقصان) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾، قال ابن عباس: (يريد: إذا شهدتم أو تكلمتم فقولوا الحق) (٤)، ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ (يريد: (٥) ولدك وقرابتك أو من تحب فقل الحق واشهد به)، وهذا محذوف الاسم (٦)، قال الزجاج: (ولو كان المشهود له وعليه ذا قربى) (٧)، ومثله في المائدة: ﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [المائدة: ١٠٦].
(١) لم أقف عليه. وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٢٠، بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (هم المؤمنون وسع الله عليهم أمر دينهم فقال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]) اهـ.
(٢) في (أ): (تضيق) بالتاء.
(٣) هذا قول الطبري في "تفسيره" ٨/ ٨٦، وذكره الثعلبي في الكشف ص ١٨٦/ أ، عن أهل المعاني وهذا يدل على أن الطبري من أهل المعاني عند الثعلبي والواحدي حيث لم أجد هذا المعنى عند أحد من أهل المعاني فيما لدي من مراجع.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤١.
(٥) كأنه من قول ابن عباس حسب السياق، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٧٤ نحوه.
(٦) أي اسم كان مستتر تقديره: هو، أي: المقول فيه. انظر: "الدر المصون" ٥/ ٢٢٢.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٠٥، وفيه: (أي: إذا شهدتم أو حكمتم فاعدلوا، ولو كان المشهود عليه أو له ذا قربى) ا. هـ.
532
وقوله تعالى: ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾، ذكرنا معنى الوفاء بالعهد عند قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ [البقرة: ٤٠].
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، أي: ذلك الذي تقدم من ذكر مال اليتيم، وأن لا يقرب إلا بالتي هي أحسن، وإيفاء الكيل والوزن، واجتناب البخس، والتطفيف فيهما، وتحري الحق على مقدار الطاقة والاجتهاد، وهو معنى قوله: ﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ والقول بالقسط والحق ولو كان المقول فيه ذا قربى، والوفاء بالعهد لينجز (١) ما وعد عليه من قوله: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ١٠] هذا كله مما وصى به ليتذكروه (٢)، ويأخذوا به فلا يطرحوه (٣)، وتذكر مطاوع ذكر (٤) تقول: ذكرته فتذكر، كما أن تفاعل مطاوع فاعل، والتذكر يستعمل في أشياء متكررة تتذكر وقتًا بعد وقت، وحالًا بعد حال، كالذي في هذه الآية فإنه أمر بأخذ بعد أخذ، ووقت (٥) بعد وقت. و (تذكرون) إنما هو تتذكرون (٦) مخفف بالإدغام لاجتماع (٧) المتقاربة.
(١) في (أ): (لتنجز) بالتاء.
(٢) في (أ): (لتتذكروه وتأخذوا به).
(٣) في (ش): (فلا يطرحوا)، وفي (أ): (فلا تطرحوه). وما ذكره هو نص كلام أبي علي في "الحجة" ٣/ ٤٢٨.
(٤) في (ش): (ذَكّره).
(٥) في النسخ (ووقتًا) وأصل النص من "الحجة" ٣/ ٤٢٧ - ٤٢٨، وأشار المحقق في الهامش إلى ورود (ووقتًا). في بعض النسخ.
(٦) في (ش): (يذكرون إنما هو يتذكرون)، بالتاء.
(٧) يعني اجتماع المتقارب وهو التاء والذال.
533
وقرأ حمزة (١) والكسائي (تذكرون (٢)) خفيفة الذال، خفف بالحذف، كما خفف غيرهما بالإدغام، ويمكن أن يقال: إن الحذف أولي لأنه أخف في اللفظ، والدلالة على المعنى قائمة (٣).
١٥٣ - قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ الآية، قال الفراء: (تفتح (أن) من وقوع (أتل) [الأنعام: ١٥١] عليها يعني: وأتل عليكم ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ قال: وإن شئت جعلتها خفضًا يريد: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٢] وبأن (٤) هذا صراطي)، وقال أبو علي: (من فتح (أن) فقياس (٥) قول سيبويه أنه حملها على (فاتبعوه) والتقدير: ولأن ﴿هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ كقوله ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (٦)﴾ [المؤمنون: ٥٢] قال سيبويه: ولأن هذه أمتكم، وقال في قوله: ﴿وأن
(١) قرأ حمزة والكسائي، وعاصم في رواية حفص: (تذكرون) بتخفيف الذال. وقرأ الباقون بتشديدها انظر: "السبعة" ٢٧٢ - ٢٧٣، و"المبسوط" ص ١٧٦، و"التذكرة" ٢/ ٤١٢، و"التيسير" ص ١٠٨، و"النشر" ٢/ ٢٦٦.
(٢) في (ش): (يذكرون)، بالياء.
(٣) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٤٣٠، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٩٤، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧٣، و"الكشف" ١/ ٤٥٧.
(٤) في" معاني الفراء" ١/ ٣٦٤ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي﴾ وفيه أيضًا قال: (تكسر إن إذا نويت الاستئناف) اهـ. وانظر: "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٦٤٦، و"القطع" للنحاس ١/ ٢٤٣، و"التبيان" ص ٣٦٤، و"الفريد" ٢/ ٢٥١، و"الدر المصون" ٥/ ٢٢٤.
(٥) في (ش): (فقيا من قول).
(٦) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: (وأن هذه) بفتح الهمزة وتشديد النون، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالكسر وتشديد النون، وقرأ ابن عامر بالفتح وتخفيف النون. انظر: "السبعة" ص ٤٤٦، و"المبسوط" ٢٦٢.
534
المساجد لله [فلا تدعوا مع الله أحدًا] (١) [الجن: ١٨] المعنى: ولأن المساجد لله (٢)، وقرأ ابن عامر (٣): (وأن هذا) مفتوحة مخففة، والمخففة [هاهنا] (٤) كالمشدودة، وفيه ضمير القصة والحديث، وعلى هذه الشريطة يخفف، والتقدير: وأنه هذا، كقول الأعشى:
في فِتَيةٍ كسيُوفِ الهند قد علمُوا... أَنْ هالِكٌ.............. (٥)
أي: قد علموا أنه هالك. قال: والفاء التي في قوله (فاتبعوا) مثل الفاء التي في قولك: يزيد فامرر، ومن كسر (إن) استأنف بها، والفاء (٦) في قوله عاطفة جملة على جملة، وعلى القول الأول زيادة) (٧)، وذكرنا وجه
(١) لفظ: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ ساقط من (ش)، وانظر: القراءة في "السبعة" ص ٦٥٦، و"المبسوط" ٣٨٣.
(٢) "الكتاب" ٣/ ١٢٦ - ١٢٧، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٩٢.
(٣) قرأ ابن عامر بفتح الهمزة وتخفيف النون، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة وتشديد النون، وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد النون. انظر: "السبعة" ص ٢٧٣، و"المبسوط" ص ١٧٦ - ١٧٧، و"التذكرة" ٢/ ٤١٣، و"التيسير" ص ١٠٨، و"النشر" ٢/ ٢٦٦.
(٤) لفظ: (هاهنا) ساقط من (ش).
(٥) ديوانه ص ١٤٧، وعجزه: أن هالك كل من يحفى وينتعل. وقد سبق تخريجه.
(٦) كذا في النسخ، وهو يريد الفاء في قوله: (فاتبعوه)، ويعني بقوله: والفاء في قوله، أي: الفاء على قول من قال بالقول الثاني. وفي "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤٣٧ (والفاء في قوله، (فاتبعوه) على قوله عاطفة جملة على جملة، وعلى القول الأول زيادة) اهـ.
(٧) انظر: "الحجة" ٣/ ٤٣٦ - ٤٣٧، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٩٥، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧٣، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٢، ولابن رنجلة ص ٢٧٧، و"الكشف" ١/ ٤٥٧، و"المشكل" ١/ ٢٧٧، و"البيان" ١/ ٣٤٩.
535
انتصاب قوله (مستقيما) عند قوله: ﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ﴾ [الأنعام: ١٢٦] في هذه السورة. قال ابن عباس في قوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ (يريد: ديني دين الحنيفية أقوم الأديان وأحسنها) (١).
وقال مقاتل: (الذي ذكر في هذه الآيات (٢) من أمره ونهيه ﴿صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ قال ابن عباس: (اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان) (٤)، وهذا تفسير ما ذكره مجملًا في رواية عطاء قال: (يريد: مثل الذي يسلك الطريق فيأخذ بنيات (٥) الطريق) (٦)، وقال مجاهد ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ (يعني: البدع والشبهات) (٧)، وقال مقاتل: (يعني: طريق الضلالة فيما حرموا على
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٢، ولم أقف عليه عند غيره.
(٢) في "ش" (الآية).
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٩٧.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٧٤، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٢، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٨٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٢٢ بسند ضعيف عن ابن عباس، قال: (لا تتبعوا الضلالات) ا. هـ
(٥) بُنيّاتُ الطريق، بضم الباء وفتح النون والياء المشددة: الطُّرف الصغار تتشعب من العبادة، وهي الترهات. انظر: "اللسان" ١/ ٤٠٨ (بني).
(٦) لم أقف عليه، وأخرج الطبري في تفسيره ٨/ ٨٨ بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله) اهـ.
(٧) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٧، وأخرجه الطبري في (تفسيره) ٨/ ٨٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٢٢ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٠٦، وفي "تفسير مجاهد" زيادة لفظ (والضلالات).
536
أنفسهم من الأنعام والحرث (١).
وقوله تعالى: ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ قال ابن عباس: (فتضل (٢) بكم عن دينه) (٣). وقال مجاهد: (أي: تميل وتخالف، ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ في الكتاب ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ السبل) (٤). وقال عطاء: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾: (كي تخافوا) (٥) قال المفسرون (٦): (هذه الآيات محكمات، لم ينسخهن شيء في جميع الكتب، وهن محرمات على بني آدم، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار).
(١) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٩٧.
(٢) في (ش): (فيضل) بالياء.
(٣) في "تنوير المقباس" ٢/ ٧٤ نحوه.
(٤) لم أقف عليه، وهو في "الوسيط" ١/ ١٤٢ بدون نسبة، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره ٥/ ١٤٢٢ بسند جيد عن مجاهد في قوله: (لعلكم تتقون) قال: (لعلكم تطيعوا) اهـ.
(٥) لم أقف عليه، قال أهل العلم: (هذه آية عظيمة أمر الله تعالى فيها باتباع سبيله، وحذر من اتباع السبل، وهي تعم سائر أهل الملل والبدع والضلالات والأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد). أفاده ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٤٠٠، والقرطبي ٧/ ١٣٧ - ١٣٨، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٢١٣.
(٦) أخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٨٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١٤١٤، والحاكم و"صححه" ٢/ ٢٨٨ و٢/ ٣١٧ عن ابن عباس قال: (من الآيات المحكمات قوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [الأنعام: ١٥١]). وأخرج ابن الضريس في "فضائل القرآن" ص ٩٤ - ٩٥ بسند جيد عن كعب الأحبار قال: (أول ما نزل من التوراة عشر آيات من آخر الأنعام: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾... إلى آخر السورة) ا. هـ، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٠٣. وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره ١/ ٥٢٣: (ويقال: هذه الآيات هن أم =
537
١٥٤ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ الآية. قال أبو بكر (١). (الذي بعد (ثم) مقدم على الذي قبلها في النّية، والتقدير: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمَّد - ﷺ -؛ لأن التوراة أنزلت قبل القرآن.
قال: وجواب آخر وهو: أن (ثم) أوجبت تأخير الخبر بعد الخبر الأول، أي: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١]، إلى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣] ثم قال بعد ذلك: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يريد: ثم أخبركم بعد ما أخبرتكم به عن نزول القرآن على محمد (بنزول التوراة على موسى، فدخلت (ثم) لتأخير الخبر لا لتأخير النزول) (٢). وهذا قول أبي إسحاق، وأنكر القول الأول فقال: ((ثم) لا يكون الذي بعدها معناه التقديم، وإنما دخلت ثم للعطف على معنى التلاوة، والمعنى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ وأتلو عليكم لا تقتلوا أولادكم، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله، ثم أتلو عليكم ما آتاه الله جل وعز موسى) (٣).
= الكتاب، وهن إمام في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ولا يجوز أن يرد عليها النسخ) اهـ.
(١) أبو بكر بن الأنباري محمد بن القاسم. تقدمت ترجمته.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٣، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٥٢.
(٣) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٥ - ٣٠٦، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٨٩، ٩٠، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٢٠، وذكر أبو حيان عدة أقوال في توجيه الآية ثم قال: (وهذه الأقوال كلها متكلفة، والذي ينبغي أن يذهب إليه أنها للعطف كالواو من غير اعتبار مهلة، وقد ذهب إلى ذلك بعض النحاة) ا. هـ وانظر: معاني الحروف للرماني ص ١٠٥، و"غرائب الكرماني" ١/ ٣٩٢، و"المغني" لابن هشام ١/ ١١٧ - ١١٨.
538
وقوله تعالى: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ كثر الاختلاف في هذا بين أهل المعاني، والذي يعتمد في تفسير هذا قولان مجمع على صحتهما:
أحدهما: أن المعنى (تماما) من الله عز وجل على المحسنين، و ﴿الَّذِي أَحْسَنَ﴾ بمعنى: من أحسن، ومن أحسن هو المحسن، كأنه قيل: تمامًا على المحسن، والمحسن [يكون] (١) هاهنا في مذهب الجمع كما قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢]، وهذا كما يقول الرجل: أوصي بمالي لمن غزا وحج وللذي غزا وحج] (٢)، يريد: الغزاة والحجاج، ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن مسعود (٣) (تماما على الذين أحسنوا). والمحسنون (٤) هم الأنبياء صلوات الله عليهم [أجمعين] (٥)، أو المؤمنون. وتلخيصه: آتينا موسى الكتاب تتميمًا منا على الأنبياء و (٦) المؤمنين الكتب، وتفصيلًا منا لكل شيء، وإنما فسرنا التمام بالتتميم هاهنا لما يعود معناه إليك؛ لأنك إذا قلت: أعطيتك الشيء تمامًا، كان معناه: تممته لك (٧).
(١) لفظ: (يكون) ساقط من (ش).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٣) ذكرها الفراء في "معانيه" ١/ ٣٦٥، وابن قتيبة في "تأويل المشكل" ص ٣٩٨، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٩٠، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٥١٩، وابن خالويه في "مختصر الشواد" ص ٤١.
(٤) في (ش): (فالمحسنون) بالفاء.
(٥) لفظ: (أجمعين) ساقط من (أ).
(٦) في (أ): (أو المؤمنين).
(٧) هذا نص كلام ابن قتيبة في "تأويل المشكل" ص ٣٩٧ - ٣٩٨.
539
القول الثاني: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ أي: على الذي أحسنه موسى من طاعة الله جل وعز واتباع أمره، أو على الذي أحسنه موسى من العلم، وكتب الله القديمة، فيكون (أحسن) بمعنى: علم، والتأويل ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا﴾ على ما أحسن من العلم والحكمة، وكتب الله المتقدمة، وأراد بقوله: (تمامًا) على ذلك، أي: زيادة على ذلك، والقولان ذكرهما الفراء (١) والزجاج (٢) وأبو بكر (٣) وأبو محمد بن قتيبة (٤).
قال الزجاج: (و (تمامًا) منصوب على مفعول له وكذلك ﴿وَتَفْصِيلًا﴾ المعنى: آتيناه لهذه العلة أي: للتمام والتفصيل) (٥)، والمفسرون (٦) على هذين القولين، فالقول الأول قول مجاهد والحسن، قال مجاهد: (تمامًا
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٦٥ وقدم الوجه الأول.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٥ - ٣٠٦.
(٣) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٥٤، عن أبي بكر بن الأنباري.
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٩٧ - ٣٩٨، تقرير الواحدي من نصه، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٩٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٩٣، و"المشكل" لمكي ١/ ٢٧٨، وذكر أبو علي الفارسي في "العضديات" ١٦٩ - ١٧١ ثلاثة أوجه في الآية، قال: (ووجه ثالث وهو أبينها وأوضحها، ولا يختلف في جوازه على ذلك، وهو أن يكون المعنى: تمامًا على الذي أحسنه، فيكون في (أحسن) ذكر يعود على (موسى)، وتكون الهاء العائدة إلى الموصول محذوفة من الصلة، كأنه: على الأمر الذي أحسنه موسى، ومعنى (أحسن) أن يكون على ضربين أحدهما: أن يكون أحسنه بمنزلة حسنه، أي: حسنه لهم عند دعاء قومه إليه، وإقامته لهم البراهين والحجج عليه. والوجه الآخر: أن يكون (أحسن) بمنزلة علم، كأنه: تمامًا على الأمر الذي علمه..) ا. هـ ملخصًا، وانظر: الدر المصون ٥/ ٢٢٧.
(٥) معاني الزجاج ٢/ ٣٠٦، وانظر المراجع السابقة.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٩٠ - ٩١، و"معاني النحاس" ٢/ ٥١٩ و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٢٥.
540
على المؤمنين المحسنين) (١). وقال الحسن: (تمامًا على المحسنين، و ﴿الَّذِي أَحْسَنَ﴾ هو المؤمن) (٢).
وقال الكلبي: (﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ الألواح، فيها التوراة ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي﴾ أحسنه من تبليغ رسالاته) (٣). وهذا معنى القول الثاني.
وأجاز الفراء (٤) والكوفيون (٥) قولاً آخر وهو: أن يكون (أحسن) اسمًا موضعه خفض على النعت للذي وهو ساد مسد الصلة، ونائب عنها، يراد به: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ من غيره، فحذفت من لبيان أمرها، وجرى (أحسن) على إعراب (الذي) كما قالت العرب: مررت بالذي أخيك، وجلست إلى الذي مثلك، فحملوا على الذي إعراب الاسم بعده،
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٩٠ بسند جيد، بلفظ: (على المؤمنين والمحسنين) وفي "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٨: (على المؤمن)، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٩٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٢٣، عنه بلفظ: (على المؤمنين)، وقال السيوطي في "الدر" ٣/ ١٠٦: (أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد قال: (على المؤمنين المحسنين) اهـ.
(٢) قال النحاس في "معانيه" ٢/ ٥١٩: (قال الحسن: كان فيهم محسن وغير محسن، وأنزل الكتاب (تماما على الذي أحسن)) اهـ وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٦/ أ، والقرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٤٣، بلفظ: (تمامًا على المحسنين). وهي قراءة الحسن كما في "الدر المنثور" ٣/ ١٠٧، وقال الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٨٩، وابن الجوزي ٣/ ١٥٤، قال الحسن وقتادة: (تمامًا لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا) اهـ.
(٣) ذكر الرازي في "تفسيره" ٤/ ١٤، عنه قال: (أتم له الكتاب على أحسنه).
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٦٥، وذكره الطبري في "تفسيره" ٨/ ٩٠، ٩١، والنحاس في "إعرابه" ١/ ٥٩٣، وأبو علي في "العضديات" ص ١٦٩.
(٥) انظر: "الأغفال" ص ٧٢٦.
541
وجعلوه (١) يسد مسد صلته، وأنشدوا:
إن الدبيري الذي مثل الحلم (٢)
فنصب مثل على الإتباع للذي، وهي سادة مسد صلته، وإنما جاز حمل (أحسن) على (الذي) و (الذي) معرفة و (أحسن) في تأويل نكرة؛ لأنه يطالب من، ومن يؤدي عن الإضافة، والمضاف معرفة، ومن كلام العرب: مررت يزيد خير منك، على أن خيرًا نعت لزيد؛ إذ كان كالمضاف من أجل صحبته من، وهذا كلام أبي بكر (٣)، ويدل على صحة هذا القول قراءة يحيى (٤) بن يعمر: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾، والتقدير: على الذي هو
(١) في (أ): (وجعلوا).
(٢) لم أهتد إلى قائله، وعجزه:
مَشَّى بَأَسْلاَبِكَ فيِ أَهْلِ العَلَمْ
وهو في "معاني الفراء" ١/ ٣٦٥ و"تفسير الطبري" ٨/ ٩٠، وفي "العضديات" ص ١٦٨، و"الشيرازيات" ٨/ ٨ أ:
إن الدبيري الذي مثل الزُّلَمْ مشى بأسلابك في أهل الحَرَمْ
والزُّلم بالضم: السهو، عند الفراء والطبري: إن الزبيدي بالزاء، والدبري: الذي يسنح أخيرًا عند ذوات الحاجة، أي: شره إذا أدبر الأمر وفات، انظر: "اللسان" ٣/ ١٣٢١ (دبر) و٣/ ١٨٠٦ (زبر) والحلم بفتحتين: دودة تقع في الجلد فتأكله. انظر: "اللسان" ٢/ ٩٨٠، والشاعر يصف هذا الزبيري الذي سلبه ثيابه وأمواله، وهو يمشي في الناس بأنه قمئ قصير، أفاده الشيخ محمود شاكر في حاشية "تفسير الطبري" ١٢/ ٢٣٤ - ٢٣٥.
(٣) أبو بكر بن الأنباري، لم أقف على كلامه، وانظر: المسألة في الكتاب ٢/ ١٠٥ - ١٠٩ - و٤٠٤، وأمالي ابن الشجري ١/ ١١٢، والإنصاف ص ٥٨٥.
(٤) القراءة برفع (أحسنُ)، وقد أخرجها الطبري في تفسيره ٨/ ٩٠ بسند جيد وذكرها النحاس في "معانيه " ٢/ ٥٢٠، وابن جني في "المحتسب" ١/ ٢٣٤، وابن الشجري في "أماليه" ١/ ١١٢، وذكرها سيبويه في "الكتاب" ٢/ ١٠٨ بدون نسبة، وضعف =
542
أحسن، أي: الذي هو أحسن الأشياء، وأحسن من غيره، وهذا يدل على أن (أحسن) هاهنا اسم، ويعضد هذا القول [أيضًا] (١) ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله: ﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ يقول: (أتم له الكتاب على أحسنه) (٢) فجعل الأحسن من نعت الكتاب، نظيره ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى﴾ (٣) [الأعراف: ١٣٧]. وقال أبو إسحاق: (أجاز الكوفيون أن يكون (أحسن) في موضع خفض وأن (٤) يكون من صفة (الذي) وهذا عند البصريين خطأ؛ لأنهم لا يعرفون الذي إلا موصولًا ولا توصف إلا بعد تمام صلتها) (٥)، وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ قال ابن عباس: (كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب) (٦).
١٥٥ - قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ الآية، مضى الكلام في هذا في هذه السورة.
﴿فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ قال الزجاج: (أي: لتكونوا راجين للرحمة) (٧).
قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ﴾ الآية [الأنعام: ١٥٦]،
= ابن جني في "المحتسب" هذه القراءة؛ لقبح حذف المبتدأ العائد على الذي.
(١) لفظ: (أيضاً) ساقط من (أ).
(٢) لم أقف عليه. وذكره الرازي في تفسيره ٤/ ١٤ عن الكلبي.
(٣) الحسنى: نعت للكلمة، انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٩٣، و"الفريد" ٢/ ٣٥١.
(٤) في (ش): (أو يكون)، وهو تحريف.
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٥.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٠٦، والخازن ٢/ ١٠٢.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٦.
(أن) عند الفراء (١) والكسائي (٢) متعلقة بأنزلناه على تقدير: أنزلناه؛ لأن لا تقولوا، ثم حذف الجار وحرف النفي كقوله: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦]. وقوله: ﴿رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥] أي: لئلا، وعند البصريين (٣). معناه: أنزلناه كراهة أن تقولوا، ولا يُجيزون إضمار لا، لا يقولون: جئت أن أكرمك، على معنى: أن لا أكرمك (٤) وقد ذكرنا ما في هذا في آخر سورة (٥) النساء.
١٥٦ - قال الفراء: (ويجوز أن يكون ﴿أَنْ﴾ متعلقة باتقوا والتأويل: و (٦) اتقوا ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ﴾) (٧).
قال ابن عباس: (يعني: التوراة والإنجيل (٨) ﴿عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾
(١) "معانى الفراء" ١/ ٣٦٦، وعليه يكون مفعولًا لأجله، انظر: "المشكل" ١/ ٢٧٨.
(٢) في "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٦٤٧، قال الكسائي: (﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾؛ لأن لا تقولوا وبأن لا تقولوا..) ا. هـ. وانظر: القطع للنحاس ١/ ٢٤٤، وذكر الثعلبي في "الكشف" ١٨٦ أ، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٠٦، والقرطبي ٧/ ١٤٤، عن الكسائي قال: (معناه: أن تقولوا يا أهل مكة) اهـ.
(٣) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩١، و"تفسير الطبري" ٨/ ٩٣، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٩٣، وقال النحاس في "معانيه" ٢/ ٥٢١: (أحسن ما قيل في هذا: كراهية أن تقولوا) اهـ.
(٤) هذا نص كلام الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٠٧.
(٥) انظر: "البسيط" نسخة تشستربتي ٢/ ٣٩ ب.
(٦) لفظ: (الواو) ساقط من (ش).
(٧) "معاني الفراء" ١/ ٣٦٦، وعليه تكون مفعولًا به العامل فيه: (واتقوا)، وجملة: (لعلكم ترحمون) اعتراضية جرت مجرى التعليل. انظر: "الفريد" ٢/ ٢٥٤، و"الدر المصون" ٥/ ٢٢٩.
(٨) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٥٥، والقرطبي ٧/ ١٤٤ بدون نسبة.
وهم اليهود والنصارى (١)، ﴿وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ يريد: لم ندرس التوراة والإنجيل فتعرف (٢) ما فيها) (٣). قال الزجاج: (المعنى: وما كنا إلا غافلين عن دراستهم، أي: كنا غافلين عن تلاوة كتبهم) (٤). قال المفسرون: (الخطاب لأهل مكة، والمراد بالآية: إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد، كيلا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا ﴿عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾ وكنا غافلين عما فيهما، فقطع الله معاذيرهم بإنزال القرآن فيهم) (٥)، وقال قتادة: (﴿دِرَاسَتِهِمْ﴾ قراءتهم) (٦).
١٥٧ - وقال [الكلبي] (٧) والكسائي: ﴿وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ لا نعلم (٨) ما هي؛ لأن كتابهم لم يكن بلغتنا، فأنزل الله تعالى كتابًا بلغتهم، وبعث منهم رسولاً يعرفون نسبه، ويعرفونه بالصدق فقال: ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٧] أي: رسول من ربكم ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٥] حين لم تعرفوا (٩) دراسة
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٩٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٢٥، بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(٢) في (ش): (فيعرف) بالياء.
(٣) أخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ٩٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٢٥، بسند جيد عن ابن عباس قال: (يقول وإن كنا عن تلاوتهم لغافلين) اهـ.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٧.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٩٣، ٩٤، والسمرقندي ١/ ٥٢٥، وابن الجوزي ٣/ ١٥٤ - ١٥٥.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٩٤ بسند جيد.
(٧) لفط: (الكلبي) ساقط من (أ)، ولم أقف على قوله.
(٨) في: (ش): (لم يعلم).
(٩) في (ش): (لم يعرفوا).
الطائفتين وحين قلتم لو جاءنا ﴿الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٧] (١).
١٥٨ - قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾. وذكرنا الكلام في هذا في (٢) سورة البقرة في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ الآية [البقرة: ٢١٠] قال ابن عباس: (﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ إذ كذبوك (إلا أن تأتيهم (٣) الملائكة) عند الموت لقبض أرواحهم) (٤) ومعنى (ينظرون) ينتظرون (٥) و (هل) استفهام معناه: النفي (٦) أي: لا ينتظرون إلا ذلك، وهو خبر معناه النهي كقوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] خبر معناه: الأمر، وهو كثير في القرآن، والمعنى: يجب أن لا ينظروا بعد تكذيبك (إلا أن تأتيهم (٧) الملائكة) عند الموت فيقعوا في العذاب، وذكرنا وجهاً آخر عن صاحب النظم (٨) في نظير هذه الآية في (٩) سورة النحل (١٠).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٥٥.
(٢) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٢٦ ب.
(٣) في (أ): (يأتيهم) بالياء. وقد قرأ حمزة والكسائي: (إلا أن يأتيهم) بالياء، وقرأ الباقون بالتاء، انظر: السبعة ص ٢٧٤، و"المبسوط" ص ١٧٧.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٧٦، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٩٦، والسمرقندي ١/ ٥٢٥.
(٥) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٦٤.
(٦) انظر: تفسير الرازي ١٤/ ٦.
(٧) في (ش): (يأتيهم) بالياء.
(٨) صاحب النظم هو: أبو علي الحسن بن يحيى الجرجاني، تقدمت ترجمته، وكتابه "نظم القرآن" (مفقود) انظر: مقدمة "تفسير البسيط".
(٩) يقصد قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: ٣٣].
(١٠) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ٣/ ١٢٤ أ.
546
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ قال ابن عباس: (يتنزل أمر ربك فيهم) (١) وهذا يحمل على الأمر بقتلهم، واستقصاء هذا مذكور في سورة البقرة (٢). وقال أبو إسحاق: (معنى ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ أو يأتي إهلاك ربك إياهم، وانتقامه منهم، إما بعذاب عاجل، أو بالقيامة) (٣).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾. قال المفسرون عامة: (يعني: طلوع الشمس من مغربها) (٤)، وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٥، والقرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٤٤، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٥٨.
(٢) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٢٦ ب.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٧، وانظر "معاني النحاس" ٢/ ٥٢٢، وتفسير السمرقندي ١/ ٥٢٥ - ٥٢٦ والأرجح أن ذلك يوم القيامة للفصل بين العباد، وأن الله سبحانه وتعالى يأتي للفصل على وجه يليق بجلاله وعظمته، وهو قول الطبري في "تفسيره" ٨/ ٩٦، وأخرجه من طرق جيدة عن مجاهد وقتادة وابن جريج، واختاره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٠٧، وابن كثير ٢/ ٢١٦، والشنقيطي ٢/ ٢٨٣ - ٢٨٤، وانظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ١٤٥، و"فتاوى شيخ الإسلام" ٦/ ٣٩٨ - ٤٢٤.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٩٦، ٩٧ من عدة طرق جيدة عن عبد الله بن مسعود، ومجاهد وقتادة والسدي، ورجحه الطبري في "تفسيره"، وابن الجوزي ٣/ ١٥٧، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٠٨ وأخرج البخاري في صحيحه رقم (٤٦٣٥)، في كتاب "التفسير"، الأنعام، ومسلم رقم (١٥٧)، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل في الإيمان -حديث- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت آمن الناس أجمعون، وذلك حين ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا﴾ "، ثم قرأ الآية. اهـ.
وأخرج مسلم أيضًا - حديث رقم (١٥٨) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (ثلاث إذا خرجن ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) ا. هـ. وقال ابن =
547
من مكذبي محمد (إلى ذلك الوقت، والمراد بهذا بيان أن المشركين والمكذبين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا، فهم يتنعمون فيها، فإذا ماتوا أو ظهرت أمارات القيامة لم ينفعهم الإيمان؛ وحلت بهم العقوبة اللازمة لهم أبدًا. ثم قال: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ (أي: لا ينفعها الإيمان عند الآية التي تضطرهم إلى الإيمان؛ لأن الله جل وعز بعث الرسل بالآيات التي تتدبر، فيكون للمؤمن بها ثواب، ولو بعث الله على كل من لم يؤمن عذابا لاضطر الناس إلى الإيمان، وسقط التكليف والجزاء) (١) قاله أبو إسحاق.
وقوله تعالى: ﴿قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٨] قال ابن عباس: (﴿قُلِ انْتَظِرُوا﴾ يا (٢) أهل مكة ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ بكم العذاب يوم القيامة، أو قبلها في الدنيا (٣).
= عطية في "تفسيره" ٥/ ٤٠٩: (يصح أن يراد جميع ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ثم خصص بعد ذلك بقوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ الآية التي ترفع التوبة معها وقد بينت الأحاديث أنها طلوع الشمس من مغربها وهو قول جمهور أهل التأويل، وروي عن ابن مسعود أنها إحدى ثلاث: إما طلوع الشمس من مغربها، وإما خروج الدابة، وإما خروج يأجوج ومأجوج، وهذا فيه نظر؛ لأن الأحاديث ترده وتخصص الشمس) ا. هـ. ملخصًا.
وانظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٧ وفيه: (أجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة) اهـ.
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٨.
(٢) في (ش): (قل انتظروا إنا أهل مكة إنا متظرن..)، وهو تحريف.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٧٦، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٦، وهو في "تفسير البغوي" ٣/ ٢٠٧ بدون نسبة.
548
وقوله تعالى: ﴿قُلِ انْتَظِرُوا﴾ دليل على أن قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ (١) إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ (٢) الْمَلَائِكَةُ﴾ استفهام معناه: النفي، وذلك النفي خبر يتضمن النهي على ما بينا، ألا ترى أنه أمرهم بانتظار هذه الأشياء في آخر الآية، والدليل على هذه الجملة أن المشركين والكفار في ذلك الوقت كانوا غافلين لاهين ما كانوا ينتظرون شيئًا مما ذكر في هذه الآية، وكذلك في كل وقت.
١٥٩ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ الآية. قال ابن عباس (٣)، في رواية عطاء: (يريد: المشركين بعضهم يعبدون الملائكة يزعمون بأنهم بنات الله، وبعضهم يعبد الأصنام ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾) (٤) [يونس: ١٨].
فهذا معنى ﴿فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ أي: فرقًا وأحزابًا في الضلالة، فتفريقهم دينهم أنهم لم يجتمعوا في دينهم الذي هو شرك على شيء واحد،
(١) في النسخ: (هل ينتظرون..)، وهو تحريف.
(٢) في (أ): (يأتيهم) بالياء.
(٣) أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٣٠ عن ابن عباس بسند جيد في الآية قال: (أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله) ا. هـ.
وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٧٧ قال: (تركوا دينهم ودين آبائهم وصاروا فرقًا، اليهودية والنصرانية والمجوسية) ا. هـ.
وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠٤، ١٠٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٣٠، والنحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٥٦، عن ابن عباس بسند ضعيف قال: (اليهود والنصارى) اهـ. ملخصًا.
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٧.
549
وقال مجاهد (١) وقتادة (٢) والكلبي (٣): (هم اليهود والنصارى)، وهو قول مقاتل (٤) أيضًا، والسدي (٥)، وأصح (٦) القولين (٧)، واختيار الفراء (٨) والزجاج.
قال الزجاج (٩): (يعني: به اليهود والنصارى، وذلك [أن النصارى] (١٠) يكفر بعضهم بعضًا، وكذلك اليهود، وهم أهل كتاب واحد، وهو التوراة، والنصاري يكفر اليهود، واليهود يكفر النصارى) (١١)
(١) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ١/ ٥٧٧، والثعلبي في "الكشف" ١٧٨ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٠٨، وفي "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٩ قال: (يهود)، وأخرجه الطبري في تفسيره ٨/ ١٠٥ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١١٨.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٢، والطبري ١٢/ ٢٦٩ - ٢٧٠، وابن أبي حاتم ٣/ ١٢٩ أبسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١١٨.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٦، وهو في "تنوير المقباس" ٢/ ٧٧.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٥٩٩.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٣٠، بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٤٠٣.
(٦) في (ش): (في أصح)، وهو تحريف.
(٧) الظاهر إن الآية عامة تشمل كل أهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠٥، والنحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ١١٠، وابن كثير ٢/ ٢١٩، والشوكاني ٢/ ٢٥٩.
(٨) "معاني الفراء" ١/ ٢٦٦.
(٩) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٨.
(١٠) لفظ: (أن النصارى) ساقط من (ش).
(١١) كذا في النسخ، والصواب: (والنصارى يكفرون اليهود، واليهود يكفرون النصارى) وعند الزجاج في معانيه ٢/ ٣٠٨: (وبعضهم يكفر بعضًا، أعني اليهود تكفر النصارى، والنصارى تكفر اليهود) اهـ.
550
وعلى هذا معنى ﴿فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ ما قال يمان بن رئاب: (أخذوا [ببعض] (١) وتركوا بعضًا، كما قال الله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ (٢) [البقرة: ٨٥]، فهم خلاف المسلمين (٣) الذين وصفوا بالإيمان به كله في قوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران: ١١٩] وقال في وصفهم أيضاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ [النساء: ١٥٠].
ومعنى قوله ﴿دِينَهُمْ﴾ قال مقاتل: (هو الإِسلام الذي أمروا به) (٤) يعني: دينهم الذي دعوا إليه وشرع لهم، فسمى شريعة الإسلام دينهم، وإن لم يجيبوا إليه، ولم يأخذوا به؛ لأنهم قد شرع لهم ذلك، ودعوا إليه، فلهذا الالتباس الذي لهم به جاز أن يضاف إليهم، وقرأ حمزة (٥) والكسائي (فارقوا دينهم) (٦) أي: باينوه وخرجوا عنه، وهذا يؤول إلى معنى ﴿فَرَّقُوا﴾ ألا ترى أنهم لما آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه فارقوه كله، فخرجوا عنه ولم يتبعوه، وعلى هذه (٧) القراءة إن تأولنا الآية في المشركين كما قال ابن
(١) لفظ: (ببعض) ساقط من (ش).
(٢) لفظ: (وتكفرون ببعض) ساقط من (ش).
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٨ بدون نسبة.
(٤) هذا نص كلام أبي علي في "الحجة" ٣/ ٤٣٨.
(٥) "تفسيرمقاتل" ١/ ٥٩٩.
(٦) قرأ حمزة والكسائي: (فارقوا) بالألف مع تخفيف الراء، وقرأ الباقون: (فرقوا) بغير ألف مع تشديد الراء. انظر: السبعة ص ٢٧٤، و"المبسوط" ص ١٧٧، و"التذكرة" ٢/ ٤١٣، و"التيسير" ص ١٠٨، و"النشر" ٢/ ٢٦٦.
(٧) هذا نص كلام أبي علي في الحجة ٣/ ٤٣٨، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٩٦، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧٣، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٢، ولابن زنجلة ٢٧٨، و"الكشف" ١/ ٤٥٨.
551
عباس (١) -رضي الله عنه-، فالدين [الذي] (٢) فارقه المشركون التوحيد الذي نصب لهم عليه أدلته؛ لأن المشركين لم يكونوا أهل كتاب، ولا ممسكين بشريعة ثم تركوها حتى يقال: (فارقوا دينهم) ولكن إضافة الدين إليهم كإضافته إلى اليهود على ما بينا، ومثل هذا قوله: ﴿وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٧] أي: دينهم الذي دعوا إليه وشرع لهم، ألا ترى أنهم لا يلبسون عليهم دينهم الذي هو الإشراك.
وقال مجاهد فيما روى عنه ليث (٣): ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ (هم من هذ الأمة) (٤).
وكذلك روي عن طاووس (٥) وعائشة (٦) وعن أبي هريرة (٧) روي مرفوعًا (٨): أنهم أهل البدع والشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة، ذلك أنهم أبدعوا في الدين، وخالفوا الجماعة العظمى، وصاروا شيعًا مختلفين.
(١) سبق تخريجه قريبًا.
(٢) لفظ: (الذي) ساقط من (ش).
(٣) ليث بن أبي سليم بن زنيم القرشي مولاهم، أبو بكر الكوفي، تقدمت ترجمته.
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٨.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٢٩، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١١٧، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في "حاشية الطبري".
(٨) المرفوع جاء من ثلاثة طرق:
الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الرسول - ﷺ - قال: "يا عائشة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، ليست لهم توبة. يا عائشة، إن لكل صاحب ذنب توبة =
552
قال أبو إسحاق: (وفي هذه الآية حث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع) (١). وقوله تعالى:
= غير أصحاب البدع والأهواء ليس لهم توبة، أنا منهم بريء وهم مني براء" اهـ. أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٣٠، والطبراني في "الصغير" ١/ ٢٠٣، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٧، وذكر السيوطي في "الدر" ٣/ ١١٧، وزاد نسبته إلى: (الحكيم الترمذي وأبي الشيخ وأبي نعيم في "الحلية" وابن مردويه وأبي نصر السجزي في الإبانة والبيهقي في "شعب الإيمان". وذكره الحافظ ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢١٩، وقال: (رواه ابن مردويه وهو غريب ولا يصح رفعه) ا. هـ. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٢، وقال: (رواه الطبراني في الصغير وإسناد جيد) ا. هـ. وقال في ١/ ١٨٨: (رواه الطبراني في الصغير، وفيه بقية بن الوليد ومجالد بن سعيد، وكلاهما ضعيف). وقال الحافظ في "التقريب" ١/ ١٠٥: (بقية صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، علق له البخاري، وروي له الباقون).
الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - في قوله: " ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ قال: (هم أهل البدع، وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة" اهـ. أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠٥، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١١٧، وزاد نسبته إلى: (الحكيم الترمذي والطبراني والشيرازي في الألقاب وابن مردويه)، وذكره ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢١٩، وقال: (رواه ابن جرير، وإسناده لا يصح، فيه عباد بن كثير، متروك الحديث) ا. هـ وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٢ - ٢٣ وقال: (رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح، غير معلل بن نفيل، وهو ثقة) ا. هـ.
الثالث: عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن الرسول - ﷺ - في قوله عز وجل: " ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ قال: هم الخوارج" اهـ. أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٢٩، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١١٧، وزاد نسبته إلى: (النحاس وابن مردويه). وذكره ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢١٩، والشوكاني ٢/ ٢٦٠، وقالا: (لا يصح رفعه) اهـ.
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٠٨، وذكر مثله السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٢٧، وانظر "تفسير" ابن عطية ٥/ ٤١٠، والقرطبي ٧/ ١٤٩.
553
﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ قال الكلبي: (لست من قتالهم [في شيء]) (١)، وقال السدي: (يقول: لم تؤمر بقتالهم، فلما أمر بقتالهم نسخ هذا) (٢)، كذلك قال ابن عباس (٣) ومجاهد (٤) والكلبي والسدي: إن قوله: ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ منسوخ، نسخه السيف في سورة براءة (٥).
قال ابن الأنباري: (معنى (٦) ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ (٧) أنت منهم بريء، وهم منك برآء (٨) لم تلتبس بشيء من مذاهبهم، والعرب تقول: إن كلمت فلانًا فلست منك ولست مني، يريدون: كل واحد منا برئ من صحبه. قال النابغة:
إِذَا حَاوَلْتَ في أسَدٍ فُجُورًا فَإنّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنّي (٩)
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٧٧.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٣١ بسند جيد.
(٣) أخرجه النحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٥٦ بسند ضعيف.
(٤) لم أقف عليه، وهو قول الفراء في "معانيه" ١/ ٣٦٦، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٢٧.
(٥) آية السيف في أصح الأقوال هي قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ٥] انظر: النسخ في القرآن الكريم للدكتور/ مصطفى زيد ٢/ ٥٠٤.
(٦) في (أ): (يعني).
(٧) لفظ: (في شيء) ساقط من (ش).
(٨) في (ش): (وهم منك براء، وتأويلهم لم تلتبس بشيء من مذاهبهم).
(٩) ديوان النابغة الذبياني ص ١٢٧، و"الكتاب" ٤/ ١٨٦، و"تفسير الماوردي" ٢/ ١٩٣، والقرطبي ٧/ ١٥٠، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٦٠، و"الدر المصون" ٥/ ٢٣٦ - ٢٣٧، والفجور بالضم: الريبة والكذب، والشاعر يريد نقض الحلف، انظر: "اللسان" ٧/ ٣٣٥٢ (فجر).
554
وقال النبي - ﷺ -: "من غشنا فليس منا" (١) معناه (٢): فنحن منه برآء) (٣).
١٦٠ - قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ قال ابن عباس (٤): وقتادة (٥) والسدي (٦) ومجاهد (٧) والضحاك: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾
(١) أخرجه أحمد في المسند ٢/ ٥٠، والدرامي ٣/ ١٦٥٥ (٢٥٨٣)، ومسلم في "صحيحه" رقم (١٦٤)، وأبو داود (٣٤٥٢)، وابن ماجه (٢٢٢٤ - ٢٢٢٥)، والترمذي (١٣١٥)، وقال: (حديث حسن صحيح)؛ كلهم في السنن كتاب البيوع، باب النهي عن الغش، ومسلم في باب الإيمان باب قول النبي - ﷺ -: "من غشنا فليس منا"، وابن ماجه في كتاب التجارات باب النهي عن الغش.
(٢) قال ابن الأثير في "النهاية" ٣/ ٣٦٩: (الغش: ضد النصح من الغشش، وهو المشرب الكدر، وقوله: "ليس منا" أي: ليس من أخلاقنا ولا على سنتنا) اهـ.
(٣) لم أقف عليه عن ابن الأنباري، وعلى هذا القول تكون الآية محكمة غير منسوخة، وهو الظاهر؛ لأنها خبر، والمعنى: أنت بريء منهم، وهم منك براء، وليس إليك شيء من أمرهم، وإنما أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠٦، ١٠٧، والنحاس في ناسخه ٢/ ٣٥٦، ومكي في "الإيضاح" ص ٢٤٧، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٤١١، والرازي ١٤/ ٨، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لابن حزم ص ٣٨، ولابن العربي ٢/ ٢١٣، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص ٣٣٧، و"النسخ في القرآن الكريم" لمصطفى زيد ١/ ٤٤١.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠٩ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١١٩.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٣١ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال بعده: (وروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعلي بن حسين وسعيد بن جبير والحسن، وعطاء ومجاهد وأبي صالح ذكوان ومحمد بن كعب القرظي والنخعي والضحاك والزهري وعكرمة وزيد بن أسلم وقتادة نحو ذلك) اهـ.
(٦) لم أقف عليه، وقد رواه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠٨، ١٠٩ من طرق عن جماعة من السلف رضى الله عنهم.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٠٩ بسند لا بأس به عن مجاهد والضحاك.
555
(يريد: شهادة أن لا إله إلا الله)، وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد: من عمل من المصدقين حسنة كتبت له عشر حسنات) (١)، وحذفت الهاء من ﴿عَشْرُ﴾، والأمثال جمع: مثل (٢)، والمثل مذكر؛ لأنه أريد: عشر حسنات أمثالها، ثم حذفت الحسنات وأقيمت الأمثال التي هي صفتها مقامها، وحذف الموصول كثير في الكلام، يقوى هذا قراءة من قرأ ﴿عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ بالتنوين والرفع (٣)، وقال أبو علي: (اجتمع هاهنا أمران، كل واحدٍ منهما يوجب التأنيث، فلما اجتمعا قوي التأنيث، أحدهما: أن الأمثال في المعنى حسنات، فجاز التأنيث، كقوله (٤):
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٨، وابن الجوزي في تفسيره ٣/ ١٥٩.
(٢) المثل: بكسر فسكون كلمة تسوية ويقال: مثل بالفتح، ويراد به الشبه، والصفة، والشيء الذي يضرب لشيء مثلا فيجعل مثله، انظر: "اللسان" ٧/ ٤١٣٣ (مثل).
(٣) قرأ يعقوب الحضرمي والحسن والأعمش وغيرهم: (عشر) بالتنوين (وأمثالُها) برفع اللام، صفة لعشر، أي: فله عشر حسنات أمثال تلك الحسنة، وقرأ الجمهور: (عشر) بغير تنوين، (أمثالِها) بالخفض على الإضافة، انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١١٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٩٥، و"مختصر الشواذ" ص ٤١، تفسير السمرقندي ١/ ٥٢٧، والمشكل ١/ ٢٧٨، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٦١، و"النشر" ٢/ ٢٦٦ - ٢٦٧، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٢٠.
(٤) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص ١٢٦، والكتاب ٣/ ٥٦٦، و"الكامل" للمبرد ٢/ ٢٥١، و"الخصائص" ٢/ ٤١٧، و"المخصص" ١٧/ ١١٧ وصدره:
فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أَتّقَّي
والكاعب، بالكسر: التي نهد ثديها، انظر: "اللسان" ٧/ ٣٨٨٨ (كعب)، والمعصر، بضم فسكون وكسر الصاد: التي بلغت عصر شبابها، انظر: "اللسان" ٥/ ٢٩٦٩ (عصر) والمجن: الترس، والشاهد: معاملة شخوص معاملة المؤنث؛ لأنه أراد النساء.
556
ثَلاثُ شُخُوصٍ كاعِبَاتٍ (١) ومُعْصِرُ
فأراد بالشخوص: نساء (٢)، والآخر: أن المضاف إلى المؤنث قد يؤنث وإن كان مذكرًا كقول من قرأ (٣): (تلتقطه بعض السيارة) [يوسف: ١٠] (٤) والأمثال يراد: بها حسنات أمثالها من جهة المجانسة تثبت (٥) لصاحبها، ثم الجزاء يقع لصاحبها على تلك العشر، وليس في الآية ذكر الجزاء بالحسنة، إنما ذكر أن لصاحب الحسنة الواحدة عشر حسنات (٦).
[و] (٧) قوله تعالى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ قال ابن عباس: (يريد: الخطيئة، قال: وهذا للمؤمنين) (٨) ومعنى: ﴿إِلَّا مِثْلَهَا﴾ إلا جزاء مثلها، يوازيها ويماثلها، لا يكون أكثر منها، وروى أبو ذر (أن
(١) هكذا في النسخ: (كاعبات)، ولم أقف عليه بهذا اللفظ، وفي المراجع: (كاعبان) بالنون.
(٢) في (ش): (نسبًا)، وهو تحريف.
(٣) قراءة العامة: (يلتقطه بعض السيارة) بالياء، وقرأ مجاهد والحسن وقتادة. (تلتقطه) بالتاء لتأنيث المعنى ولإضافته إلى مؤنث. انظر: "إعراب النحاس" ٢/ ١٢٦، و"مختصر الشواذ" ص ٦٧، و"الدر المصون" ٦/ ٤٤٧، و"الإتحاف" ص ٢٦٢.
(٤) "التكملة" لأبي علي ص ٢٧٠، وانظر: تفصيل ذلك في الكتاب ٣/ ٥٦١ - ٥٦٧، ومعاني الأخفش ٢/ ٢٩١، والفراء ١/ ٣٦٦ - ٣٦٧، والزجاج ٢/ ٣٠٩، و"تفسير الطبري" ٨/ ١١٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٩٥.
(٥) في (ش): (يثبت) بالياء.
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٠، و"تفسير القرطبي" ٧/ ١٥١.
(٧) لفظ: "الواو" ساقط من (ش).
(٨) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٤٨، والراجح أن المراد بالحسنة والسيئة العموم، وأصل الحسنات التوحيد، وأسوأ السيئات الشرك، وهو اختيار ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٤١٢، والرازي ١٤/ ٨، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٢٢٠.
557
النبي - ﷺ - قال: "إن (١) الله تعالى قال: الحسنة عشر، أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفر، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره" (٢).
وقال - ﷺ -: "يقول الله: إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة، وإن لم يعملها، فإن عملها فعشر أمثالها، وإن هم بسيئة فلا تكتبوها، فإن عملها فسيئة" (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قال ابن عباس: (لا ينقص ثواب أعمالهم) (٤).
(١) لفظ: (إن الله تعالى قال) ساقط من (ش).
(٢) في الباب أحاديث كثيرة ثابتة في الصحاح والسنن. انظر: "صحيح مسلم" رقم ٢٠٣ - ٢٠٨، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٢٢٠، ٢٢١، و"الدر المنثور" ٣/ ١١٩، ١٢٠، والأقراب إلى نص الواحدي هو ما أخرجه أحمد في المسند ٥/ ١٨٠، ومسلم (٢٦٨٧)، و"الحاكم في المستدرك" ٤/ ٢٤١ عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال: رسول الله - ﷺ -: "يقول الله عز وجل: الحسنة عشرًا أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفرها..) الحديث. ولفظ: (فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٧ أ، والقرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٥١.
(٣) أخرج مسلم في "صحيحه" رقم (٢٠٣)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله - ﷺ -: قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرًا" ا. هـ. وأخرج مسلم رقم (٢٠٧)، والبخاري ٧/ ١٨٧ كتاب الرقاق - باب من هم بحسنة أو سيئة، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - ﷺ - فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) اهـ.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٠، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٧٧ نحوه.
558
١٦١ - قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا﴾ قال أبو إسحاق: (أما نصب ﴿دِينًا﴾ فمحمول على المعنى؛ لأنه لما قال: ﴿هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ دل على عرفني، فكأنه قال: عرفني ﴿دِينًا﴾ قال: ويجوز أن يكون على البدل من معنى ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ لأن معناه: هداني صراطًا مستقيمًا دينا، كما قال: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [الفتح: ٢] (١).
وقوله تعالى: ﴿قِيَمًا﴾ قال ابن عباس: (يريد: مستقيمًا) (٢) ونحو ذلك قال الأخفش (٣) والزجاج (٤) في القيم، وهو من باب الميت (٥) والصيب ونحوه، وقرأ أهل (٦) الكوفة ﴿قِيَمًا﴾ مكسورة القاف خفيفة الياء. قال الزجاج: (وهو مصدر كالصغر (٧) والكبر والحول والشيع). قال أبو علي: (وكان القياس أن يصحح فيه الواو كالعوض والحول، ولكنه شذ عن
(١) انظر: معاني الزجاج ٢/ ٣١١، وإعراب النحاس ١/ ٥٩٦، والحجة لأبي علي ٣/ ٤٤٠، والمشكل ١/ ٢٧٩، والدر المصون ٥/ ٢٣٨.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥١.
(٣) "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٢.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٠، وهو قول الطبري في "تفسيره" ٨/ ١١١، والنحاس في "معانيه" ٢/ ٥٢٥.
(٥) يريد قيم وزنه فَيْعِل وأصله قَيْوِم، اجتمعت الياء والواو، والأولى ساكنة، فقلبت الواو ياء وأدغمت ثم خفف اللفظ إلى قِيَم بكسر القاف وفتح الياء، ومثله مَيِّت وصَيِّب وسَيَّد ونحوه. انظر: اللسان ٦/ ٣٧٨٥ (قوم).
(٦) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: (قَيِّما) بفتح القاف وكسر الياء مشددة، وقرأ الباقون بكسر القاف وفتح الياء مخففة. انظر: السبعة ص ٢٧٤، والمبسوط ص ١٧٧، والتذكرة ٢/ ٤١٤، والتيسير ص ١٠٨، والنشر ٢/ ٢٦٧.
(٧) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٠ - ٣١١، والنصر فيه: (مصدر كالصغر والكبر) فقط، ولفظ: (شيع) من "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤٣٩، وانظر: "العضديات" ص ١٢٢.
القياس نحو ثيرة (١) وجياد في جمع جواد وكان القياس الواو (٢)، كما قالوا: طويل وطوال) (٣) وهذا مما ذكرناه مستقصى (٤) في أول سورة النساء.
وقوله تعالى: ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ ﴿مِلَّةَ﴾ بدل عن ﴿دِينًا قِيَمًا﴾ و ﴿حَنِيفًا﴾ منصوب على الحال ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ والمعنى: هداني وعرفني ملة إبراهيم في حال حنيفيته، وهو هاهنا لإبراهيم أحسن منه لغيره لقوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ قاله (٥) أبو إسحاق (٦).
١٦٢ - وقوله (٧) تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾. قال أهل اللغة (٨):
(١) ثمرة، بكسر الثاء وفتح الياء: جمع ثور ذكر البقر، قلبوا الواو ياء. انظر: "اللسان" ١/ ٥٢٢ (ثور).
(٢) قال مكي في "المشكل" ١/ ٢٧٩: (من قرأ (قيما) مشدد فأصله قيوم على فَيْعِل، ثم أبدل من الواو ياء، ثم أدغم، ومن خففه بناه على فعل، وكان أصله أن يأتي بالواو فيقول: قوما، كما قالوا: عوض وحول، ولكنه شذ عن القياس) اهـ.
(٣) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٤٣٩ - ٤٤٠. وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٩٨، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٢، ولابن زنجلة ص ٢٧٩، و"الكشف" ١/ ٤٥٩.
(٤) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ٢٢٩ أ.
(٥) في (ش): (قال)، وهو تحريف.
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١١، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٩٦، و"المشكل" ١/ ٢٧٩.
(٧) وقع في نسخة: (ش) اضطراب في ترتيب الأوراق، فجاء الكلام على هذه الآيات في ١٤٦ ب.
(٨) النُّسْك، بضم فسكون: العبادة، والطاعة، وكل ما تقرب به إلى الله تعالى، واختصر بأعمال الحج. والنُّسُك -بالضم- والنسيكة: الذبيحة وانظر: "العين" ٥/ ٤١٣، و"الجمهرة" ٢/ ٨٥٦، و"الصحاح" ٤/ ١٦١٢، و"المجمل" ٣/ ٨٦٥، و"المفردات" ص ٨٠٢، و"اللسان" ٧/ ٤٤١٢ (نسك)، ونص الواحدي في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٦٢، وفيه: (النسك، بضم فسكون: الذبيحة) اهـ.
560
(النسك: العبادة من كل نوع، والنسك الذبيحة بعينها، تقول: من فعل كذا فعليه نسك، أي: دم يهريقه). وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: (النسك: سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، وقيل للمتعبد: ناسِك لأنه يخلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث) (١). وذكرنا طرفا من هذا (٢) عند قوله: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: ١٢٨].
قال ابن عباس: ﴿وَنُسُكِي﴾ (يريد: ذبيحتي) (٣)، [وقال مقاتل: (نسكي: حجي) (٤). وقال مجاهد: (ذبيحتي] (٥) في الحج والعمرة) (٦). وقال الزجاج: (النسك كل ما تقربت به إلى الله عز وجل إلا أن الغالب عليه أمر الذبح) (٧).
(١) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٦٢.
(٢) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ٨٧ أ.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥١، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٦١، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٦٢.
(٤) لعل المراد مقاتل بن حيان، فقد أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٣٤ بسند جيد عنه، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥١، وفي "تفسير مقاتل بن سليمان" ١/ ٩٠٠ قال: (يعني: ذبيحتي) اهـ.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من: (ش).
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٩، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١١٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٣٤ بسند جيد.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥١، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٦١، وفي "معاني الزجاج" ٢/ ٣١١: (النسك: الذبح، والنسك: ما يتقرب به إلى الله جل وعز) ا. هـ. وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٥٢٥ - ٥٢٦.
561
وقوله تعالى: ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ أي: حياتي وموتي لله، أي: هو يحييني وهو يميتني، وقرأ نافع ﴿وَمَحْيَايَ﴾ (١) ساكنة الياء، ونصبها في ﴿وَمَمَاتِي﴾، وإسكان الياء في ﴿وَمَحْيَايَ﴾ شاذ غير مستعمل؛ لأن فيه جمعًا بين ساكنين لا يلتقيان على هذا الحدّ في نثر ولا نظمٍ (٢).
قال الزجاج: (أما ﴿وَمَحْيَايَ﴾ فلا بد من فتحها لأن قبلها ساكنا) (٣) ووجه هذه القراءة ما حكى بعض البغداديين: (أنه سمع: التقت حلقتا
(١) قرأ نافع: (مَحْيايْ) بسكون ياء المتكلم، (ومَماَتِيَ) بفتح الياء، وقرأ الباقون: (مَحْيَايَ) بفتح الياء و (مَمَاتِي) ساكنة الياء. انظر: "السبعة" ص ٢٧٤ - ٢٧٥، و"المبسوط" ص ١٧٧، و"التذكرة" ٢/ ٤١٥، و"التيسير" ص ١٠٨ - ١٠٩، و"النشر" ٢/ ١٧٢ - ١٧٣.
(٢) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٤٤٠ - ٤٤١، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٩٩. وتسكين الياء له عدة توجيهات، فيحتمل أنه عدل بها عن أصلها استثقالًا للحركة عليها؛ لأن الياء حرف ثقيل فإذا حُرك ازداد ثقلا إلى ثقله، أو أجرى الوصل فيه مجرى الوقف، قال ابن خالويه في "إعراب القراءات" ١/ ١٧٤: (وإنما صلح الجمع بين ساكنين؛ لأن الألف حرف لين) ا. هـ وقال مكي في "المشكل" ١/ ٢٧٩: (حق الياء الفتح، لكن الحركة في الياء ثقيلة، فمن أسكنها فعلى الاستخفاف، لكنه جمع بين ساكنين، والجمع بين ساكنين جائز إذا كان الأول حرف مد ولين؛ لأن المد الذي فيه يقوم مقام حركة يستراح عليها فيفصل بين الساكنين) اهـ. وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٩٦: (قرأ أهل المدينة (ومحيايْ) بإسكان الياء في الإدراج، وهذا لم يجزه أحد من النحويين إلا يونس؛ لأنه جمع بين ساكنين، وإنما أجازه لأن قبله ألفًا، والألف المدة التي فيها تقوم مقام الحركة، ومن أراد أن يسلم من اللحن وقف على (محياي) فيكون غير لاحن عند جميع النحويين) ا. هـ. ملخصًا. وانظر: "الحجة" لابن خالويه ص ٩٥، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٦٢.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣١١.
562
البطان (١) بإسكان الألف مع سكون لام المعرفة)، حكى أيضًا: له (٢) ثلثا المال. ومثل هذا ما جوّزه يونس (٣) من قوله: (اضربان زيدًا واضربنان زيدًا) (٤)، وسيبويه (٥) ينكر هذا من قول يونس (٦)، قال الزجاج: (ومعنى الآية: أنه يخبر بأنه إنما يتوجه بالصلاة (٧) وسائر المناسك إلى الله عز وجل لا إلى غيره، كما كان المشركون يذبحون لأصنامهم، فأعلم أنه لله وحده لا شريك له) (٨).
١٦٣ - وقوله تعالى: ﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾. قال ابن عباس: (يقول: بذلك أوحى الله إلى. ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ قال: يريد: أول من أسلم لله بقلبه ولسانه وجوارحه) (٩). وقال قتادة: (﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ من هذه الأمة) (١٠). وقال
(١) البطان، بالكسر: الحزام الذي يجعل تحت بطن البعير، وفيه حلقتان، فإذا التقتا فقد بلغ الشَّدُّ غايته، يضرب مثلًا في الحادثة إذا بلذت النهاية في الشدة والصعوبة. انظر: "الكامل للمبرد" ١/ ١٨، و"جمهرة الأمثال" ١/ ١٨٨، و"مجمع الأمثال" ٣/ ١٤٧، و"المستقصى" للزمخشري ١/ ٣٠٦.
(٢) لفظ: (له) مكرر في (ش).
(٣) يونس بن حبيب الضبي إمام، تقدمت ترجمته.
(٤) "الكتاب" ٣/ ٥٢٧، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٩٦.
(٥) قال في "الكتاب" ٣/ ٥٢٧: (هذا لم تقله العرب، وليس له نظير في كلامها، لا يقع بعد الألف ساكن إلا أن يدغم) اهـ.
(٦) ما سبق في توجيهه القراءة هو قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٤٤٠.
(٧) في: (ش): (إنما يتوجه الصلاة)، وهو تحريف.
(٨) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١١، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٢٥ - ٥٢٦.
(٩) ذكر الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٢ عن ابن عباس قال: (بذلك أوحي إليّ) ا. هـ. ولم أقف عليه عند غيره.
(١٠) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٣، والطبري ٨/ ١١٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٣٥ بسند جيد.
الكلبي: (أول من أطاع الله عز وجل من أهل زمانه) (١). وقال مقاتل: (أول المخلصين من أهل مكة) (٢).
١٦٤ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾ [قال ابن عباس: (يريد سيدًا وإلها وهو سيد كل أحد) (٣). وقال غيره: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾]، (٤) (من الأوثان أعبدها، وهو رب كل شيء) (٥). قال الزجاج: (أي: هو ابتدع الأشياء كلها، ولا يقدر أحد على ابتداع شيء واحدٍ منها) (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾ أي: لا تجني نفس [ذنبًا] (٧) إلا أخذت به، وكان أثمه على الجاني نفسه. ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [ذكرنا معنى الوزر (٨) عند قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾ [الأنعام: ٣١]. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: الوليد بن المغيرة، وكان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم فقيل: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾)] (٩) أي: لا تؤخذ [كل] (١٠) نفس آثمة بإثم أخرى، لا يؤخذ أحد بذنب غيره) (١١).
(١) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٧ أ، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٦٢.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٢، وفي "تفسير مقاتل" ١/ ٦٠٠: (يعني: المخلصين من أهل مكة) اهـ.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٣، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢١٢.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٦٠٠، والطبري ٨/ ١١٣.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣١١.
(٧) لفظ: (ذنبًا) ساقط من (ش).
(٨) انظر: "البسيط".
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(١٠) لفظ: (كل) ساقط من (أ).
(١١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٣ - ١٥٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢١٢، =
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾. قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: إنك يا محمد تخاصمهم عندي يوم القيامة بما كذبوك) (١).
١٦٥ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾ الآية. ذكرنا [ما] (٢) في الخليفة في سورة البقرة. قال المفسرون: (﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ﴾) يا أمة محمد ﴿خَلَائِفَ﴾ الأمم الماضية بأن أهلكهم (٣) وأورثكم الأرض بعدهم، فمحمد (خاتم الأنبياء، وأمته خلفوا سائر الأمم) (٤). وقوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [قال الكلبي: (فضائل في المعاش) (٥)، وقال مقاتل: (درجات)] (٦) في الفضل والغنى) (٧)، وقال السدي: (في الرزق) (٨).
= والقرطبي ٧/ ١٥٧، و"الخازن" ٢/ ٢٠٨، وقال السيوطي في "الدر" ٣/ ١٢٣: (أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: (لا يؤخذ أحد بذنب غيره). وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٢.
(١) لم أقف عليه. وانظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٧٩.
(٢) لفظ: (ما) ساقط من (ش).
(٣) في (ش): (أن أهلكتهم).
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٦٠٠، و"معاني الفراء" ١/ ٣٦٧، و"تفسير الطبري" ٨/ ١١٤، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣١٢، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٢٦، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٢٩.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٧٩ وفيه: "فضائل بالمال والخدم) ا. هـ وقال الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٤: (في المعاش والغنى والرزق. قال الكلبي ومقاتل والسدي) اهـ.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٧) "تفسير مقاتل" ١/ ٦٠٠ - ٦٠١. وفيه: (يعني: الفضائل والرزق..) اهـ.
(٨) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١١٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٣٦ بسند جيد.
565
وقوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ قال أبو إسحاق: (دل بقوله: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ (١) أنه فضل بعض الناس على بعض في الرزق ليختبرهم فيما رزقهم، وهو جل وعز عالم [بما يكون] (٢) منهم قبل ذلك إلا أنه اختبرهم ليظهر منهم ما يكون عليه الثواب والعقاب) (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ﴾. قال ابن عباس: (يريد: لأعدائه بعد النبي - ﷺ - بهلاكهم وقتلهم. ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يريد: غفور لأوليائه رحيم بهم) (٤).
وقال غيره (٥): ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ (أراد في الآخرة وجعله سريعًا؛ لأن كل ما هو آت قريب)؛ وهو معنى قول الزجاج (٦).
(١) لفظ: "الواو" ساقط من (ش).
(٢) لفظ: (بما يكون) ساقط من (ش).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٢، وانظر: تفسير الطبري ٨/ ١١٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٢٧.
(٤) في "تنوير المقباس" ٢/ ٧٩ نحوه، وذكر البغوي "تفسيره" ٣/ ٢١٢ عن عطاء قال: (سريع العقاب لأعدائه، غفور لأوليائه رحيم بهم) اهـ وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١١٤.
(٥) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ١٩٧، واللفظ عام يشمل الدنيا والآخرة.
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٢، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٢٧.
566
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة الأعراف
تحقيق
د. محمد بن منصور الفايز
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركى بن سهو العتيبي
الجزء التاسع
1
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة الأعراف
تحقيق
د. محمد بن منصور الفايز
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركى بن سهو العتيبي
الجزء التاسع
2
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤٣٠هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الواحدي، على بن أحمد
التفسير البسيط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)./ على بن أحمد الواحدي، محمد بن منصور الفايز،
الرياض ١٤٣٠ هـ.
٢٥مج. (سلسلة الرسائل الجامعية)
ردمك: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٦ - ٨٦٦ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج ٩)
١ - القرآن تفسير... ٢ - الواحدي، على بن أحمد
أ- العنوان... ب- السلسة
ديوي ٢٢٧. ٣... ٨٦٨/ ١٤٣٠
رقم الإيداع: ٨٦٨/ ١٤٣٠هـ
ردمك ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٦ - ٨٦٦ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج٩)
3
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
[٩]
4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

5
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
6
Icon