تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحدادي اليمني
.
ﰡ
﴿ وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً ﴾ ؛ يعني الرياحَ أُرسِلَت متتابعةً كعُرفِ الفرَسِ ؛ أي ورب المرسَلاتِ عُرفاً، وقال مقاتلُ :((مَعْنَاهُ : والْمَلاَئِكَةُ الَّتِي أُرْسِلَتْ بالْمَعْرُوفِ مِنْ أمْرِ اللهِ وَنَهْيهِ)). وقولهُ تعالى :﴿ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ﴾ ؛ يعني الريحَ الشديدةَ الهبُوب، فإذا وقعت الريحُ الشديدة في البحرِ صارت قاصفةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ والنَّاشِرَاتِ نَشْراً ﴾ ؛ يعني الرياحَ التي تنشرُ السَّحابَ للمطرِ نَشْراً، وهي الليِّنَةُ التي يُرسِلُها اللهُ نَشْراً بين يدَي رحمتهِ، وَقِيْلَ : العاصفاتُ الملائكة تعصِفُ بأرواحِ الناس ؛ أي تذهبُ بها، وَقِيْلَ : الناشراتُ الملائكة أيضاً ؛ لأنَّها تنشرُ الصحائفَ بأمرِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً ﴾ ؛ يعني الملائكةَ تنْزلُ بالوحيِ للفَرقِ بين الحلالِ والحرامِ، والحقِّ والباطلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ﴾ ؛ يعني الملائكةَ تُلْقِي كُتُبَ اللهِ إلى أنبيائهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عُذْراً أَوْ نُذْراً ﴾ ؛ معناهُ عُذْراً من اللهِ، وإنذاراً لِخَلقهِ، والإعذارُ قَطْعُ المعذِرةِ، والإنذارُ الإعلامُ بموضعِ المخَافَةِ لتبقَى، ولهذا بعثَ الرُّسُلَ وأنزلَ الكُتبَ.
والمعنى بهذه الآياتِ : أنَّ كفارَ مكَّة لَمَّا أنكَرُوا البعثَ أقسمَ اللهُ تعالى بما بيَّن من قدرتهِ وتدبيرهِ الملائكةِ والسَّحابِ والرياحِ أنَّ قيامَ الساعةِ كائنٌ فقال :﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴾ ؛ أي إنَّ أمرَ الساعةِ والبعثِ لكائنٌ لا محالةَ.
ثم ذكرَ متى يقعُ فقال : قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ﴾ ؛ أي مُحِيَ نورُها وسُلِبَ ضَوْءُها وتساقطَت، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴾[الانفطار : ٢]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ ﴾ ؛ أي شُقَّت من هيبةِ الرَّحمن، وانفطَرت بعد أن كانت سَقفاً محفوظاً، فأوَّل حالِها الوهيُ ثم الانشقاق، قال الله تعالى :﴿ وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾[الحاقة : ١٦] ثم الانفتاحُ، قال اللهُ﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ ﴾[النبأ : ١٩] ثم الانفراجَ حتى يتلاشَى فتصير كأنَّها لم تكن.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ﴾ ؛ أي قُلِعَتْ من أماكنِها بسرعةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ﴾ ؛ أي بيَّن مواقيتها للفصلِ والقضاء بينهم وبين الأُمم. وَقِيْلَ : جُمعت لوقتِها، وإنما قُلبت الواوُ همزةً على قراءةِ غير الواو ؛ لأن كلَّ واوٍ انضمَّت وكانت ضمَّتُها لازمةً جازَ إبدالها همزةً ؛ ولأنَّ العربَ تعاقِبُ بين الواو والهمزة كقولهم : أكَّدتُ ووَكَّدت، وأرَّختُ الكتابَ وورَّختُ، ووسادة وإسادةً.
قرأ أبو عمرٍو (وَقَّتَتْ) بالواو والتشديد على الأصلِ، وقرأ أبو جعفر (وَقَتَتْ) بالواو والتخفيف، وقرأ عيسى وخالد بن الياس (أقِتَتْ) بالألفِ، وقرأ الباقون بالألفِ والتشديد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ﴾ ؛ معناهُ : لأيِّ يومٍ أُخِّرت هذه الأشياءُ من الطَّمس والنَّسفِ وغيرهما. ثم بيَّن متى ذلك فقالَ :﴿ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ﴾ ؛ أي أُخِّرت ليومِ الفصل بين الخلائقِ، وهو يوم القيامةِ، سُمِّي بهذا الاسم لأنه يُفْصَلُ فيه بين الْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ، وبين الظالِم والمظلومِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ﴾ ؛ فيه تعظيمٌ لأمرِ ذلك اليوم ؛ أي لم تكن تعلمُ يا مُحَمَّد ما يوم الفَصْلِ، وما أعدَّ اللهُ فيه لأوليائهِ من الثواب، ولأعدائهِ من العقاب حتى أتاكَ خبرُ ذلك، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ ؛ الويلُ : وادٍ في جهنَّم للمكذِّبين بالوعيد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ﴾ ؛ معناهُ : ألَمْ نُهلِكْ قومَ نوحٍ بالعذاب في الدُّنيا حين كذبوا نوحاً ؛ ﴿ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ﴾ ؛ أي ثم ألحقنا بهم قومَ هودٍ ومَن بعدَهم، ﴿ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴾ ؛ من أُمَّتكَ يا مُحَمَّدُ، يعني كفارَ مكَّة ممن سَلَكَ طريقَهم.
قرأ الأعرج ثم (نُتْبعْهُمُ الآخِرِينَ) بالإسكان عطفاً على (نُهْلِكِ)، وقرأ الكافَّة (نُتْبعُهُمْ) بالرفعِ على معنى ثُم نحنُ نُتبعُهم، وفي قراءةِ ابن مسعود (سَنُتْبعُهُمْ الآخَرِينَ)، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ ؛ تنبيهٌ على القدرةِ على الإعادةِ، والتحذيرُ من التكبُّرِ ؛ لأنَّ الذي يقدِرُ على أن يخلُقَ من الماءِ الحقيرِ بَشَراً على هذه الصِّفةِ، قادرٌ على إعادةِ الخلق بعد الموتِ، والمرادُ بالماء الْمَهِينِ النطفةَ، وقولهُ تعالى :﴿ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾ ؛ أي في الرَّحم، ﴿ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ ؛ يعني مدَّة الحملِ على اختلاف مُدَدِ حملِ الحيوانات، لا يعلمُ مقدارَ ذلك ولا الحملَ إلاَّ اللهُ تعالى.
وقولهُ تعالَى :﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾ ؛ قرأ السلمي وقتادة ونافع وأيوب بالتشديدِ من التقديرِ يعني نُطَفاً وعَلَقاً ومُضَغاً وعظاماً وذكراً وأنثى وقصيراً وطويلاً، وقرأ الباقون مخفَّفاً، ومعناهما " في التخفيفِ والتشديد واحد " ويجوز أنْ يكون من القدرةِ، وقولهُ تعالى ﴿ فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾، معناه : على هذا فنعم القادرون على الخلقِ، وعلى الأوَّل فنِعْمَ القادرون لهذه المخلوقاتِ، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً ﴾ ؛ معناهُ : يُكفِتُهم أحياءً على ظَهرِها في دورهم ومنازلهم، ويُكفِتُهم أمواتاً في بُطونِها ؛ أي يجوزُ " أن يكون عُني أنها تكفت أذاهم " في ظهرِها للأحياءِ وبطنِها للأموات. وعن مجاهدٍ :((مَعْنَاهُ : تُكَفِّتُ الْمَيْتَ فَلاَ يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَتُكَفِّتُ الْحَيَّ فِي بَيْتِهِ فَلاَ يُرَى مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذينِ مِنَ النِّعْمَةِ مَا لاَ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ)).
والْكَفْتُ في اللُّغة الضمُّ، وسُمِّي الوعاءُ كِفَاتاً بكسرِ الكاف لأنه يضمُّ الشيءَ، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على وجوب مُوَارَاةِ الميِّت ودفنهِ ودفنِ شعره وسائرِ ما يُزَايلهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ﴾ ؛ أي جبالاً ثوابتَ، والشامخاتُ الطِّوالُ العالِيَاتُ المرتفعات جُعلت أوْتَاداً للأرضِ فسَكَنَتْ بها، وكانت تَمُورُ كالسَّفينة لا تستقرُّ على الماءِ إلاَّ بمِرْسَاةٍ تثقلها، ﴿ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً ﴾ ؛ أي عَذْباً حُلواً غيرَ ملحٍ ولا أجٍّ، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ ؛ بنِعَمِ اللهِ التاركين لشُكرِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ ؛ معناهُ : ويقال لهم يومَ القيامة، تقولُ لهم الْخَزَنَةُ : انطلقوا إلى العذاب الذي كُنتم به تكَذِّبون في الدُّنيا أنه لا يكون، ﴿ انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ ﴾ ؛ أي انطلِقُوا إلى دُخان من جهنَّم قد سطعَ، ثم افترقَ ثلاثَ فِرَقٍ، وهو قولهُ ﴿ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ ﴾ شُعْبَةٌ فوقَهم، وشعبةٌ عن يمينِهم، وشعبةٌ عن شمالهم. وذلك أنه يخرجُ لسانٌ من نارٍ فيحيطُ بهم فيُحبَسون إلى أنْ يُسَاقوا النار أفوَاجاً أفواجاً، قال إبراهيمُ النخعيُّ :((هَذا الظِّلُّ مَقِيلُ الْكُفَّار قَبْلَ الْحِسَاب))، والمعنى : انطلِقُوا إلى ظلٍّ ذي ثلاثِ شُعب فكونوا فيه إلى أن يفرغَ من الحساب.
ثم وصفَ اللهُ ذلك الظلَّ فقال :﴿ لاَّ ظَلِيلٍ ﴾ ؛ أي لا يُظِلُّ من الحرِّ، ﴿ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ﴾ ؛ أي ولا يردُّ عنكم لَهب جهنَّم ؛ أي إنَّهم إذا استظَلُّوا بذلك الظلِّ لم يدفَعْ عنهم من حرِّ النار شيئاً، فأما المؤمنون فيُقبلُونَ في الجنةِ كما قال تعالى :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾[الفرقان : ٢٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴾ ؛ معناهُ : أنَّ النَّارَ تقذفُ بشَررٍ متفرِّق متطايرٍ كالقَصْرِ وهو البناءُ العظيم كالحِصْنِ. وَقِيْلَ : مثلَ قُصور الأعراب على المياهِ، يعني الخيام، قَال مقاتلُ :((شَرَرُ النَّار فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مِنَ الْكَثْرَةِ عَدَدَ النُّجُومِ وَوَرَقِ الأَشْجَار، لاَ يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهَا إلاَّ عَلَى أكْتَافِ الرِّجَالِ)). والشَّرَرُ ما يتطايرُ من النار وينتشرُ في الجهاتِ متفرِّقاً.
قرأ عليٌّ وابنُ عباس (كَالْقَصَرِ) بفتحِ الصاد، أرادَ كأعناق النَّخلِ، وَقِيْلَ : كأعناقِ الدواب، والقَصَرُ العنقُ وجمعه قُصُرٌ وقُصُرَات. وقرأ سعيدُ بن جبير (كَالْقِصَرِ) بكسر القاف وفتحِ الصاد وهي لغةٌ فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ﴾ ؛ يعني أنَّ لونَ الشَّرَر يشبهُ لون الْجِمَالاَتِ الصُّفر، وجِمَالاتٌ جمعُ جِمَالٍ، قراءةُ حمزة والكسائي وحفص وخلف :(جِمَالَةٌ) بكسرِ الجيم من غيرِ ألف على جمع جَمَلٍ مثل حَجَرٍ وحجارةٍ. وقرأ يعقوبُ (جُمَالَةٌ) بضم الجيمِ من غير ألف، أرادَ الأشياءَ العظيمةَ المجموعة. وقرأ ابنُ عباس (جُمَالاَتٌ) بضمِّ الجيم جمع جُمَالاَتٍ وهي الشيءُ الْمُجْمَلُ، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾.
وقولهُ ﴿ صُفْرٌ ﴾ معناه سُودٌ، قال الفرَّاء :((الصُّفْرُ سَوْدَاءُ الإبلِ، لاَ يُرَى أسْوَدٌ مِنَ الإبلِ إلاَّ وَهُوَ مُشَرَّبٌ صُفْرَةً)) لذلك سَمَّت العربُ سودَ الإبل صُفراً، والأصفرُ الأسودُ، قال الأعشَى : تِلْكَ خَيْلِي وَتِلْكَ مِنْهُ رَكَائِبُ هُنَّ صُفْرٌ أوْلاَدُهَا كَالزَّبيبأي هُنَّ سُودٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَـاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ﴾ ؛ قال المفسِّرون : إنَّ في يومِ القيامةِ مواقفَ، ففِي بعضها يختَصِمُون ويتكلَّمون، وفي بعضِها يُختَمُ على أفواهِهم فلا يتكلَّمون.
وعن قتادةَ قال :((جَاءَ رَجُلٌ إلَى عِكْرِمَةَ فَقَالَ : أرَأيْتَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى ﴿ هَـاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ﴾، وَقَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾[الزمر : ٣١] ؟ فَقَالَ : إنَّهَا مَوَاقِفُ، فَأَمَّا مَوْقِفٌ مِنْهَا فَيَتَكَلَّمُوا وَيَخْتَصِمُوا، ثُمَّ خَتَمَ عَلَى أفْوَاهِهِمْ فَتَكَلَّمَتْ أيْدِيهِمْ وَأرْجُلُهُمْ، فَحِينَئِذٍ لاَ يَنْطِقُونَ)) وهذا الوقتُ المذكور في الآيةِ من المواطنِ التي لا يتكلَّمون فيها.
وقولهُ :﴿ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ ؛ قال مقاتلُ :((لاَ يَنْطِقُونَ أرْبَعِينَ سَنَةً وَلاَ يُؤْذنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)) وإنما رَفعَ (فَيَعْتَذِرُونَ) لأنه عُطف على (يُؤْذنُ)، ولو قالَ فيَعتَذِرُوا على النصب ولكن حَسناً كقولهِ تعالى :﴿ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ ﴾[فاطر : ٣٦] ولو كان لَهم عذرٌ لم يُمنَعوا من الاعتذار، قال الجنيدُ :((أوَ أيُّ عُذْرٍ لِمَنْ كَفَرَ بآيَاتِ رَبهِ، وَأعْرَضَ عَنْ مُنْعِمِهِ))، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ﴾ ؛ أي هذا يومُ الفصلِ بين أهلِ الجنَّة والنار، جَمَعنَاكم مكَذِّبي هذه الأُمة والأوَّلين الذين كذبوا أنبياءَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴾ ؛ أي يقالُ لَهم ذلك على وجهِ التقريعِ : إنْ كان لكم حيلةٌ في دفعِ العذاب، فاحتالُوا لأنفسكم. وَقِيْلَ : معناهُ : إنْ كان لكم كيدٌ تَكِيدُون به أوليائِي، كما كنتم تكيدونَهم في الدُّنيا فكيدُوهم، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾.
قُوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ ﴾ ؛ أي في ظِلالِ الأشجار وقصور الدُّرِّ وعيون جاريةٍ تجري بالماءِ والخمر واللَّبن والعسلِ، ﴿ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ ؛ يقال لَهم :﴿ كُلُواْ ﴾ ؛ من ثِمار الجنَّة، ﴿ وَاشْرَبُواْ ﴾ ؛ من شرابها، ﴿ هَنِيـئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ أي سَليماً من الآفاتِ بما كنتم تعمَلون الطاعاتِ في الدُّنيا، ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ أي هكذا نجزِي الْمُحسِنين على إحسانِهم.
ثم يقالُ لكفار مكَّة :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً ﴾ ؛ في الدُّنيا إلى منتهَى آجالكم، ﴿ إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ ﴾ ؛ أي مُشرِكون باللهِ، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ ﴾ ؛ أي إذا أُمِروا بالصَّلوات الخمسِ لا يُصلُّون، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ ؛ أي لِمَن كذب بالركوعِ، ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ أي إنْ لم يؤمنوا بهذا القرآنِ مع ظُهوره ووضوحه، فبأَيِّ كتابٍ يصدِّقون، ولا كتابَ بعدَهُ.