ﰡ
هى مكية، وآياتها ثنتان وأربعون، نزلت بعد سورة النجم.
ومناسبتها- لما قبلها- أنه ذكر هناك أنه منذر من يخشاها- وذكر هنا من ينفعه الإنذار.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)
شرح المفردات
عبس: أي قطب وجهه من ضيق الصدر، وتولى: أي أعرض، أن جاءه الأعمى: أي لأجل أن جاءه، وما يدريك: أي أىّ شىء يعرّفك حال هذا الأعمى؟
يزكى: أي يتطهر بما يلقن من الشرائع، يذّكر: أي يتعظ، استغنى: أي بماله وقوته عن سماع القرآن، تصدى: أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه، يسعى أي يسرع، يخشى: أي يخاف من الغواية، تلهى: أي تتلهى وتتغافل.
المعنى الجملي
نزلت هذه السورة فى ابن أم مكتوم عمرو بن قيس ابن خال خديجة، وكان أعمى وهو من المهاجرين الأولين. استخلفه ﷺ على المدينة يصلى بالناس مرارا، وكان يؤذن بعد بلال.
فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله أقرئنى وعلمنى مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره الرسول قطعه لكلامه، وظهرت فى وجهه الكراهة، فعبس وأعرض عنه.
وقد عاتب الله نبيّه بأن ضعف ذلك الأعمى وفقره لا ينبغى أن يكون باعثا على كراهة كلامه والإعراض عنه، لأن ذلك يورث انكسار قلوب الفقراء، وهو مطالب بتأليف قلوبهم كما قال: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» وقال: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً».
ولأنه كان ذكىّ الفؤاد إذا سمع الحكمة وعاها، فيتطهر بها من أو ضار الآثام، وتصفو بها نفسه، أو يذكّر بها ويتعظ فتنفعه العظة فى مستأنف أيامه.
أما أولئك الأغنياء فأكثرهم جحدة أغبياء، فلا ينبغى التصدي لهم، طمعا فى إقبالهم على الإسلام، ليتبعهم غيرهم.
وقوّة الإنسان إنما هى فى ذكاء لبّه، وحياة قلبه، وإذعانه للحق متى لا حت له أماراته، أما المال والنشب، والحشم والأعوان فهى عوار تجىء وترتحل، وتفرّ حينا ثم تنتقل.
وكان رسول الله ﷺ بعد نزول هذه الآيات يكرم ابن أم مكتوم ويقبل عليه ويتفقده، ويقول له إذا رآه: أهلا بمن عاتبنى فيه ربى، ويسأله هل لك حاجة؟
الإيضاح
(عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) أي قطب الرسول ﷺ وجهه وأعرض، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه.
وفى التعبير عنه بالأعمى إشعار بعذره فى الإقدام على قطع كلامه ﷺ حين تشاغله بالقوم، وقد يكون ذلك لذكر العلة التي اقتضت الإعراض عنه، والتعبيس فى وجهه، فكأنه قيل: إنه بسبب عماه كان يستحق مزيد الرفق والرأفة، فكيف يليق بك أن تخصه بالغلظة.
وهذا كما تقول لرجل جاءه فقير فانتهره وآذاه: أتؤذي هذا المسكين الذي يستحق منك الشفقة ومزيد الحنان والعطف؟
(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى؟) أي وأىّ شىء يعلمك حال هذا الأعمى؟ لعله يتطهر بما يسمعه منك، ويتلقاه عنك، فتزول عنه أو ضار الآثام، أو يتعظ فتنفعه ذكراك وموعظتك.
والخلاصة- إنك لا تدرى ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر، ولو دريت لما كان الذي كان.
وفى هذا إيماء إلى أن من تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين لا يرجى منهم التزكى ولا التذكر.
(١) (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي أما من استغنى بماله وقوّته عن الإيمان، وعما عندك من المعارف التي يشتمل عليها الكتاب المنزّل عليك، فأنت تقبل عليه، حرصا على إسلامه، ومزيد الرغبة فى إيمانه.
(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟) أي وأىّ عيب عليك فى بقائه كذلك، وألا يتطهر من وسخ الجهالة؟ فما أنت إلا رسول مبلغ عن الله، وقد أديت ما يجب عليك، فما بالك يشتد بك الحرص على إسلامه.
وقصارى ذلك- لا يبلغنّ بك الحرص على إسلامهم، والاشتغال بدعوتهم، أن تعرض عن الذين سبقت لهم منا الحسنى.
(٢) (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي وأما من جاءك مسرعا فى طلب الهداية والقرب من ربه، وهو يخشاه ويحذر الوقوع فى الغواية، فأنت تتلهى عنه، وتتغافل عن إجابته إلى مطلبه.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١١ الى ١٦]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)
شرح المفردات
كلا: كلمة يقصد بها زجر المخاطب عن الأمر الذي يعاتب عليه، لئلا يعاوده، وهنا هو التصدي للمستغنى والتلهي عن المستهدى، تذكرة: أي موعظة، ذكره:
أي اتعظ به، فى صحف مكرمة: أي مودعة فى صحف شريفة، مرفوعة: أي عالية القدر، مطهرة: أي من النقص لا تشوبها الضلالات، سفرة: واحدهم سافر، من سفر بين القوم إذا نصب نفسه وسيطا ليصلح من أمورهم ما فسد.
فما أدع السفارة بين قومى | ولا أمشى بغشّ إن مشيت |
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حادث ابن أم مكتوم وعتبه على رسوله فيما كان منه معه، أردف ذلك ببيان أن الهداية التي يسوقها الله إلى البشر على ألسنة رسله، ليست من الأمور التي يحتال لتقريرها فى النفوس وتثبيتها فى القلوب، وإنما هى تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل إلى ما جبل الخلق عليه من معرفة توحيده فمن أعرض عن ذلك فإنه معاند يقاوم ما يدعوه إليه حسه، وتنازعه إليه نفسه.
فما عليك إلا أن تبلغ ما عرفت عن ربك، لتذكر به الناس، وتنبه الغافل، أما أن تحابى القوىّ المعاند، ظنا منك أن مداجاته ترده عن عناده، فذلك ليس من شأنك، «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى».
وهذه الهداية أودعها سبحانه فى الصحف الإلهية الشريفة القدر، المطهرة من النقائص والعيوب، وأنزلها على الناس بوساطة ملائكته الكرام البررة.
الإيضاح
(كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي ما الأمر كما تفعل أيها الرسول، بأن تعبس فى وجه من جاءك يسعى وهو يخشى، وتقبل على من استغنى، بل الهداية المودعة فى الكتب الإلهية وأجلّها القرآن، تذكير ووعظ وتنبيه لمن غفل عن آيات ربه.
وقد وصف سبحانه تلك التذكرة بأوصاف تدل على ما لها من عظيم الشأن فقال:
(٢) (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي وقد أودعت هذه التذكرة فى الكتب الإلهية ذات الشرف والرفعة، المطهرة من النقائص ولا تشوبها شوائب الضلالات، تنزّل بوساطة الملائكة على الأنبياء، وهم يبلغونها للناس.
وكل من الملك والنبي سفير، وكل منهما رسول، والملائكة كرام على الله كما قال: «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» وأبرار أطهار لا يقارفون ذنبا، ولا يجترحون إثما، كما قال سبحانه: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ».
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)
شرح المفردات
قدره: أي أنشأه فى أطوار وأحوال مختلفة، طورا بعد طور، وحالا بعد حال، والسبيل: الطريق، يسره: أي سهل له سلوك سبل الخير والشر، فأقبره: أي جعل له قبرا يوارى فيه، أنشره: أي بعثه بعد الموت، كلا: زجر له عن ترفعه وتكبره.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال القرآن وذكر أنه كتاب الذكرى والموعظة، وأن فى استطاعة كل أحد أن ينتفع بعظاته لو أراد- أردف هذا ببيان أنه لا يسوغ للإنسان مهما
الإيضاح
(قُتِلَ الْإِنْسانُ) هذا دعاء عليه بأشنع الدعوات على ما هو المعروف فى لسانهم.
يقولون إذا تعجبوا من إنسان: قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه! والمراد بيان قبح حاله، وأنه بلغ حدا من العتوّ والكبر لا يستحق معه أن يبقى حيا.
(ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفرانه للنعم التي يتقلب فيها، وأكثر ذهوله عن مسديها، وعمن غمره بها من حين إيجاده، إلى ساعة معاده! ثم شرع يفصل ما أجمله، ويبين ما أفاض عليه من النعم فى مراتب ثلاث:
المبدأ والوسط والمنتهى، وأشار إلى الأولى بقوله:
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟) أي من شىء حقير، فلا ينبغى له التجبر ولا التكبر.
وقد أجاب عن هذا الاستفهام بقوله:
(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي خلقه من ماء مهين، وقدره أطوارا وأحوالا، طورا بعد طور وحالا بعد حال، وأتم خلقه بأعضاء تلائم حاجاته مدة بقائه، وأودع فيه من القوى ما يمكنه من استعمال تلك الأعضاء وتصريفها فيما خلقت لأجله، وجعل كل ذلك بمقدار محدود بحسب ما يقتضيه كمال نوعه.
وروى عن علىّ كرم الله وجهه قوله: كيف يفخر الإنسان وقد خرج من موضع البول مرتين.
وأشار إلى المرتبة الوسطى بقوله:
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي ثم جعله متمكنا من سلوك سبيلى الخير والشر، فآتاه قدرة العمل، ووهبه العقل الذي يميز به بين الأعمال، وعرّفه عاقبة كل عمل ونتيجته كما قال «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» وبعث إليه الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب المشتملة على الحكم والمواعظ والدعوة إلى أنواع البر، والتحذير من الشر، والحاوية لما فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم.
وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله:
(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي ثم قبض روحه ولم يتركه مطروحا على الأرض جزرا للسباع، بل تفضل عليه وجعل فى غريزة نوعه أن يوارى ميته تكرمة له، ثم إذا شاء بعثه بعد موته للحساب والجزاء فى الوقت الذي قدّره فى علمه.
وفى قوله: «إِذا شاءَ» إشعار بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا هو، فهو الذي استأثر بعلمه، وهو القادر على تقديمه وتأخيره، وهو القاهر فوق عباده، وذو السلطان عليهم فى إحيائهم وإماتتهم. وبعثهم وحشرهم. وحسابهم على ما قدموا من عمل. خيرا كان أو شرا.
ثم أكد كفرانه بالنعم فقال:
(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي حقا إن حال الإنسان لتدعو إلى العجب. فإنه بعد أن رأى فى نفسه مما عددناه من عظيم الآيات، وشاهد من جلائل الآثار.
والخلاصة- إن الإنسان قد بلغ فى جحده آيات خالقه مبلغا لا ينتهى منه العجب إذ قد رأى فى نفسه وفى السموات والأرض وسائر ما يحيط به من العوالم، الآيات الناطقة بوحدانية الخالق، الدالة على عظيم قدرته، ثم هو لا يزال مستمرا فى نكران نعمته عليه، فإذا ذكّر لا يتذكر، وإذا أرشد إلى الهدى لم يسلك سبيله الأقوم ولا يزال يرتكب ما نهى عنه، ويترك ما أمر به.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٢٤ الى ٣٢]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
شرح المفردات
القضب: الرطبة، وهى ما يؤكل من النبات غضا طريا وسمى قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد أخرى، غلبا: واحدها غلباء أي ضخمة عظيمة، والأبّ: المرعى لأنه يؤب: أي يؤم وينتجع، متاعا لكم ولأنعامكم: أي أنبتناه لكم لتتمتعوا به وتننفعوا وتنتفع أنعامكم.
بعد أن ذكر الدلائل على قدرته تعالى وهى كامنة فى نفسه، يراها فى يومه بعد أمسه- أردفها ذكر الآيات المنبثة فى الآفاق الناطقة ببديع صنعه، وباهر حكمته.
الإيضاح
(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أي فليتدبر الإنسان شأن نفسه، وليفكر فى أمر طعامه وتدبيره وتهيئته حتى يكون غذاء صالحا تقوم به بنيته، ويجد فى تناوله لذة تدفعه إليه، ليحفظ بذلك قوّته مدى الحياة التي قدرت له.
وقد فصل ذلك بقوله:
(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أي أنزلناه من المزن إنزالا بعد أن بقي حينا فى جو السماء مع ثقله.
(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي ثم شققنا الأرض شقا مشاهدا مرئيا لمن نظر إليها بعد أن كانت متماسكة الأجزاء.
وقد اقتضت حكمته ذلك، ليدخل الهواء والضياء فى جوفها، ويهيئانها لتغذية النبات.
ثم ذكر سبحانه ثمانية أنواع من النبات:
(١) (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) كالحنطة والشعير والأرز وهو الأصل فى الغذاء.
(٢) (وَعِنَباً) وهو من وجه غذاء، وفاكهة من وجه آخر.
(٣) (وَقَضْباً) وهو كما قال ابن عباس والضحاك ومقاتل واختاره الفراء وأبو عبيدة والأصمعى- الرطبة: هى ما يؤكل من النبات غضّا طريا.
(٤، ٥) (وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا) وقد تقدم بيان منافعهما، وسيأتى أيضا.
وفى ذكرها بهذا الوصف إيماء إلى أن النعمة فى الأشجار بجملتها، وليست فى ثمرها خاصة، فمن خشبها يتخذ أرقى أنواع الأثاث وأدوات العمل وآلاته لمختلف الحرف والصناعات، وكذا الوقود لتدبير الطعام والخبز على ضروب شتى، وتستعمل فى صهر الحديد وأنواع المعادن المختلفة.
(٧) (وَفاكِهَةً) يتمتع بلذتها الإنسان خاصة كالتين والتفاح والخوخ وغيرها.
(٨) (وَأَبًّا) أي مرعى للحيوان خاصة.
ثم ذكر الحكمة فى خلق هذه الأشياء فقال:
(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي أنبتنا ذلك، لتتمتعوا به وتنتفعوا به أنتم وأنعامكم، منه ما ينتفع به الإنسان، ومنه ما يأكله الحيوان.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٣ الى ٤٢]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
شرح المفردات
الصخّ: الضرب بالحديد على الحديد، وبالعصا الصّلبة على شىء مصمت، فيسمع إذ ذاك صوت شديد والمراد هنا بالصاخة هو المراد بالقارعة فى سورتها،
سيغنيك حرب بنى مالك | عن الفحش والجهل فى المحفل |
سواد كالدخان، والفجرة: واحدهم فاجر، وهو الخارج عن حدود الله المنتهك لحرماته.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه آلاءه على عباده، وذكّرهم بإحسانه إليهم فى هذه الحياة، وبين أنه لا ينبغى للعاقل بعد كل ما رأى أن يتمرد عن طاعة صاحب هذه النعم الجسام- أعقب هذا بتفصيل بعض أحوال يوم القيامة وأهوالها التي توجب الفزع والخوف منه، ليدعوه ذلك إلى التأمل فيما مضى من الدلائل التي ترشد إلى وحدانيته وقدرته، وصحة البعث وأخبار يوم القيامة التي جاءت على ألسنة رسله، ويتزوّد بصالح الأعمال التي تكون نبراسا يضىء أمامه فى ظلمات هذا اليوم.
وذكر أن الناس حينئذ فريقان: فريق ضاحك مستبشر، فرح فرح المحب يلقى حبيبه، وهو من كان يعتقد الحق ويعمل للحق، وفريق تعلو وجهه الغبرة، وترهقه القترة، وهو الذي تمرد على الله ورسوله، وأعرض عن قبول ما جاءه من الحقّ، ولم يعمل بما أمر به من صالح الأعمال.
الإيضاح
(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي فإذا جاء يوم القيامة حين يحدث ذلك للصوت الهائل الذي يصخّ الأسماع ويصكها بشدته- فما أعظم أسف الكافرين، وما أشد ندمهم.
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي يوم يشغل كلّ امرئ ما يصيبه من الأهوال، فيفر ممن يتوهم أنه يتعلق به، ويطلب معونته، على ما هو فيه، فيتوارى من أخيه، بل من أمه وأبيه، بل من زوجه التي هى ألصق الناس به، وقد كان فى الدنيا يبذل النفس والنفيس فى الدفاع عنها، بل من بنيه وهم فلذات كبده، وقد كان فى الحياة الأولى يفديهم بماله وروحه، وهم ريحانة الدنيا ونور الحياة أمام عينه.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً».
وإنما كان الأمر كذلك، لأن لكل امرئ منهم من الرهب، وما يرهب من الهول، وما يخشى من مناقشة الحساب- شأنا يغنيه، ويصدّه عن ذوى قرابته، فليس لديه فضل فكر ولا قوة يمدّ بها غيره.
وقد يكون المعنى- يغنيه ذلك الهم الذي ركبه بسبب نفسه، وشغله حتى ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر.
وبعد أن ذكر الأهوال التي تعرض للناس فى ذلك اليوم، وأنها لا تسعف أحدا بمواساة أحد ولا الالتفات إليه مهما يكن عطفه واتصاله به- أردفه بيان أن الناس فى ذلك اليوم سعداء وأشقياء، وأشار إلى الأولين بقوله:
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي وجوه يومئذ متهللة ضاحكة فرحة بما تجد من برد اليقين بأنها ستوفّى ما وعدت به جزاء إيمانها وما قدمت من عمل صالح، وبشكرها لنعم ربها وآلائه، وإيثارها ما أمرها به على ما تهواه.
وأشار إلى الآخرين بقوله:
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي ووجوه يعلوها غبار الذل وسواد الغم والحزن، وهى وجوه الكفار الذين لم يؤمنوا
وقصارى ما سلف- إن الناس إذ ذاك فريقان:
(١) فريق كان فى دنياه يطلب الحق وينظر فى الحجة، ويعمل ما استقام عليه الدليل، لا يثنيه عن الأخذ به قلة الآخذين، ولا قوة المعاندين، وهؤلاء سيطمئنون إلى ما أدركوا، ويفرحون بما نالوا، وتظهر على أسارير وجوههم علامات البشر والسرور.
(٢) فريق احتقر عقله، وأهمل النظر فى نعم الله عليه، وارتضى الجهل، وانصرف عن الاستدلال إلى اقتفاء آثار الآباء والأجداد، وظل يخبّ ويضع فى أهوائه الباطلة، وعقائده الزائفة- وهؤلاء سيجدون كل شىء على غير ما كانوا يعرفون، فتظهر عليهم آثار الخيبة والفشل، وتعلو وجوههم الغبرة، وترهقها القترة، لأنهم كانوا فى حياتهم الدنيا كفرة فجرة.
اللهم احشرنا يوم القيامة ووجوهنا مسفرة ضاحكة مستبشرة، وصلّ ربنا على نبيك وآله وصحبه.
ما جاء فى هذه السورة الكريمة من مقاصد
(١) عتاب الرسول ﷺ على ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى.
(٢) أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبّر.
(٣) إقامة الأدلة على وحدانية الله بخلق الإنسان والنظر فى طعامه وشرابه.
(٤) أهوال يوم القيامة.
(٥) الناس فى هذا اليوم فريقان: سعداء وأشقياء، وذكر حال كل منهما حينئذ.