ﰡ
قوله: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ ﴾ الخ، تعليل لما قبله، جيء به تسلية له صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: لا تخش ضياع ما ألقي عليك، فإنه تعالى يعلم الجهر وما يخفى، ومنه: ما ألقي عليك فيثبت في فؤادك ما ينفع، وصنيع المفسر يقتضي أنه تعليل لمحذوف قدره بقوله: (لا تتعب نفسك). قوله: ﴿ وَمَا يَخْفَىٰ ﴾ ما اسم موصول، وعائده محذوف، ولا يصح أن تكون مصدرية، لئلا يلزم خلو الفعل عن فاعل، ولا يقال يجعل ضميراً، لأنا نقول: يمنع منه عدم وجوده وما يعود عليه. قوله: ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ﴾ عطف على نقرئك، وما بينهما اعتراض جيء به للتعليل، والمعنى: نوفقك توفيقاً مستمراً للطريقة اليسرى، في كل باب من أبواب الدين علماً وتعليماً وإهداء وهداية وغير ذلك، ولذا ورد:" ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثماً "وورد:" بعثت بالحنيفية السمحاء "وحكمة إسناد التيسير لذاته، ولم يقل ونيسر اليسرى لك الإيذان بقوة تمكنه عليه السلام من اليسرى والتصرف بها، بحيث صار ذلك جبلة له صلى الله عليه وسلم، فبين طبعه ودينه موافقة في اليسر والسهولة. قوله: (للشريعة السلهة) أي الطريقة اليسرى في حفظ الوحي والتدين. قوله: ﴿ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ ﴾ إن قلت: هو صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يذكرهم، سواء نفعتهم الذكرى أو لم تنفعهم، ليكون حجة لهم أو عليهم، أجيب: بأن في الآية اكتفاء، أي أو لم تنفع على حد سرابيل تقيكم الحر أي والبرد، ويؤيده قوله: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ * وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى ﴾ فتدبر. قوله: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ﴾ أي من خلق الله في قلبه الخشية، وهذا وعد من الله تعالى، بأن من يخشى يحصل به الاتعاض وينتفع به، والوعد لا يتخلف، قوله: (هي نار الآخرة) الخ، هذا قول الحسن، ويدل له ما ورد:" ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم "وقيل: يكون في الآخرة نيران ودركات متفاضلة، فالكافر يصلي أعظم النيران، وقيل: النار الكبرى هي السفلى، قال تعالى:﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾[النساء: ١٤٥].
قوله: (فيستريح) جواب عما يقال: لا واسطة بين الحياة والموت، فكيف وصف الله الأشقى بأنه لا يموت فيها ولا يحيا؟ فأجاب: بأن المعنى لا يموت موتاً فيستريح به، ولا يحيا حياة ينتفع بها. قوله: (مبكراً) أي تكبيرة الإحرام التي هي أحد أجزاء الصلاة. قوله: (وذلك من أمور الآخرة) تمهيد لارتباط هذه الآية بما بعدها، فقوله: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ ﴾ الخ إضراب عن مقدر يستدعيه المقام. قوله: (بالتحتانية) أي وعليه فالضمير راجع للأشقى، وقوله: (والفوقانية) أي وعليه فهو التفات، والخطاب إما للكفار فقط، أو لعموم الناس، والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴾ أي لاشتمالها على السعادة الجسمانية والروحانية، ولذاتها غير مخلوطة بالآلام، وهي دائمة باقية، والدنيا ليست كذلك. قوله: (أي إفلاح من تزكى) الخ، أي فالإشارة إلى قوله: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَأَبْقَىٰ ﴾ وما ذكر من الصحف الأولى بالمعنى لا بهذا اللفظ، فالشرائع المتقدمة متفقة على ما في هذه الآيات، ورد عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن للمسجد تحية، فقلت: وما تحيته يا رسول الله؟ قال: ركعتان تركعهما، قلت: يا رسول الله هل أنزل الله عليك شيئاً مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: يا أبا ذر اقرأ: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ * بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا * وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ﴾.
قلت: يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: " كانت عبراً كلها، عجبت لمن أيقن الموت كيف يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يمطئن إليها، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم يغضب، عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل ". وعن أبي ذر أيضاً قال:" قلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلها، أيها الملك المسلط المبتلي المغرور، إن لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر، وكان فيها أمثال، وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يفكر فيها في صنع الله عز وجل، وساعة يخلوا فيها لحاجته في المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون طامعاً في ثلاث: تزود لمعاد، ومرمة لمعاش، ولذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه، قال: قلت: فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبراً إلى آخره ". وقوله: ومرمة لمعاش، أي إصلاح له.