تفسير سورة النّاس

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الناس من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الناس
وتسمى ما قبلها كما أشرنا اليه قبل بالمعوذتين بكسر الواو والفتح خطأ وكذا بالمقشقشتين وتقدم الكلام في أمر مكيتها ومدنيتها وهى ست آيات لا سبع وان أختار بعضهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة المفسر
حمدا لمن جعل روح معاني الأكوان تفسيرا لآيات قدرته. وصير نقوش أشباح الأعيان بيانا لبينات وحدته.
وأظهر من غيب هويته قرآنا غدا فرقانه كشافا عن فرق الكتب الإلهية الغياهب. وأبرز من سجف ألوهيته نورا أشرق على مرايا الكائنات. بحسب مزايا الاستعدادات. فاتضحت من معالم العوالم المراتب. وصلاة وسلاما على أول درة أضاءت من الكنز المخفي في ظلمة عماء القدم. فأبصرتها عين الوجود. وعلة إيجاد كل درة برأتها يد الحكيم إذ تردت في هوة العدم. فعادت ترفل بأردية كرم وجود مهبط الوحي الشفاهي الذي ارتفع رأس الروح الأمين بالهبوط إلى موطىء أقدامه ومعدن السر الإلهي. الذي انقطع فكر الملأ الأعلى دون ذكر الوصول إلى أدنى مقامه. فهو النبي الذي أبرزه مولاه من ظهور الكمون إلى حواشي متون الظهور. ليكون شرحا لكتاب صفاته وتقريرا ورفعه بتخصيصه من بين العموم بمظهرية سره المستور. وأنزل عليه قرآنا عربيا غير ذي عوج ليكون للعالمين نذيرا.
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وعلى آله وأصحابه مطالع أنوار التنزيل ومغارب أسرار التأويل. الذين دخلوا عكاظ الحقائق بالوساطة المحمدية.
فما برحوا حتى ربحوا فباعوا نفوسا وشروا نفيسا وقطعوا أسباب العلائق بالهمم الحقيقية. فما عرجوا حتى عرجوا فلقوا عزيزا وألقوا خسيسا. فهم النجوم المشرقة بنور الهدى والرجوم المحرقة لشياطين الردى رضي الله عنهم وأرضاهم.
ووالى متبعيهم وأولاهم، ما سرحت روح المعاني في رياض القرآن، وسبحت أشباح المباني في حياض العرفان.
«أما بعد» فيقول عيبة العيوب وذنوب الذنوب. أفقر العباد إليه عز شأنه مدرس دار السلطنة العلية، ومفتي بغداد المحمية أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي عفي عنه. إن العلوم وإن تباينت أصولها، وغربت وشرقت فصولها، واختلفت أحوالها. وأتهمت وأنجدت أقوالها. وتنوعت أبوابها. وأشأمت وأعرقت أصحابها وتغايرت مسائلها. وأيمنت وأيسرت وسائلها، فهي بأسرها مهمة ومعرفتها على العلات نعمة. إلا أن أعلاها قدرا، وأغلاها مهرا وأسناها مبنى، وأسماها معنى وأدقها فكرا وأرقها سرا، وأعرقها نسبا وأعرفها أبا وأقومها قيلا وأقواها قبيلا وأحلاها لسانا وأجلاها بيانا وأوضحها سبيلا وأصحها دليلا وأفصحها نطقا. وأمنحها رفقا العلوم الدينية. والفهوم اللدنية. فهي شمس ضحاها وبدر دجاها وخال وجنتها ولعس شفتها ودعج عيونها وغنج جفونها وحبب رضابها، وتنهد كعابها، ورقة كلامها، ولين قوامها.
3
على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم
فلا ينبغي لعاقل أن يستغرق النهار والليل إلا في غوص بحارها، أو يستنهض الرجل والخيل، إلا في سبر أغوارها.
أو يصرف نفائس الأنفاس إلا في مهور أبكارها، أو ينفق بدر الأعمار إلا لتشوف بدر أسرارها.
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على غير سلمى فهو دمع مضيع
وإن من ذلك علم التفسير الباحث عما أراده الله سبحانه بكلامه المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فهو الحبل المتين والعروة الوثقى. والصراط المبين، والوزر الأقوى والأوقى، وإني ولله تعالى المنة مذ ميطت عني التمائم، ونيطت على رأسي العمائم لم أزل متطلبا لاستكشاف سره المكتوم، مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم طالما فرقت نومي لجمع شوارده وفارقت قومي لوصال خرائده. فلو رأيتني وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر، وأطالع- إن أعوز الشمع يوما- على نور القمر، في كثير من ليالي الشهر وأمثالي إذ ذاك يرفلون في مطارف اللهو. ويرقلون في ميادين الزهو. ويؤثرون مسرات الأشباح على لذات الأرواح. ويهبون نفائس الأوقات، لنهب خسائس الشهوات. وأنا مع حداثة سني وضيق عطني لا تغرني حالهم ولا تغيرني أفعالهم. كأن لبني لبانتي، ووصال سعدي سعادتي. حتى وقفت على كثير من حقائقه، ووفقت لحل وفير من دقائقه. وثقبت- والثناء لله تعالى- من دره بقلم فكري درا مثمنا ولا بدع فأنا من فضل الله الشهاب وأبو الثناء. وقبل أن يكمل سني عشرين جعلت أصدح به وأصدع. وشرعت أدفع كثيرا من إشكالات الأشكال وأدفع وأتجاهر بما ألهمنيه ربي مما لم أظفر به في كتاب من دقائق التفسير. وأعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذي ذهن خطير. ولست أنا أول من منّ الله تعالى عليه بذلك، ولا آخر من سلك في هاتيك المسالك. فكم وكم للزمان ولد مثلي، وكم تفضل الفرد عز شأنه على كثير بأضعاف فضلي.
ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات
إلا أن رياض هذه الأعصار عراها إعصار، وحياض تيك الأمصار اعتراها اعتصار. فصار العلم بالعيوق والعلماء أعز من بيض الأنوق، والفضل معلق بأجنحة النسور وميت حي الأدب لا يرجى له نشور.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولكن الملك المنان أبقى من فضله الكثير قليلا من ذوي العرفان في هذه الأزمان، دينهم اقتناص الشوارد وديدنهم افتضاض أبكار الفوائد. يروون فيروون ويقدحون فيورون. لكل منهم مزية لا يستتر نورها ومرتبة لا ينتثر نورها.
طالما اقتطفت من أزهارهم واقتبست من أنوارهم. وكم صدر منهم أودعت علمه صدري. وحبر فيهم أفنيت في فوائده حبري. ولم أزل مدة على هذه الحال لا أعبأ بما عبالي مما قيل أو يقال: كتاب الله لي أفضل مؤانس وسميري إذا احلولكت ظلمة الحنادس.
نعم السمير كتاب الله إن له حلاوة هي أحلى من جنى الضرب
به فنون المعاني قد جمعن فما تفترّ من عجب إلا إلى عجب
أمر ونهي وأمثال وموعظة وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذي بصر وروضة يجتنيها كل ذي أدب
وكانت كثيرا ما تحدثني في القديم نفسي أن أحبس في قفص التحرير ما اصطاده الذهن بشبكة الفكر أو
4
اختطفه بأن الإلهام في جو حدسي. فأتعلل تارة بتشويش البال (١) بضيق الحال وأخرى بفرط الملال لسعة المجال. إلى أن رأيت في بعض ليالي الجمعة من رجب الأصم سنة الألف والمائتين والاثنتين والخمسين بعد هجرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رؤية لا أعدها أضغاث أحلام ولا أحسبها خيالات أوهام أن الله جل شأنه وعظم سلطانه أمرني بطي السماوات والأرض، ورتق فتقهما على الطول والعرض فرفعت يدا إلى السماء وخفضت الأخرى إلى مستقر الماء ثم انتبهت من نومتي، وأنا مستعظم رؤيتي، فجعلت أفتش لها عن تعبير فرأيت في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير. فرددت حينئذ على النفس تعللها القديم وشرعت مستعينا بالله تعالى العظيم، وكأني إن شاء الله تعالى عن قريب عند إتمامه بعون عالم سري ونجواي أنادي وأقول غير مبال بتشنيع جهول: هذا تأويل رؤياي، وكان الشروع في الليلة السادسة عشرة من شعبان المبارك من السنة المذكورة وهي السنة الرابعة والثلاثون من سني عمري جعلها الله تعالى بسني لطفه معمورة وقد تشرف الذهن المشتت بتأليفه وأحكمت غرف مغاني المعاني بمحكم ترصيفه، زمن خلافة خليفة الله الأعظم، وظله المبسوط على خليقته في العالم مجدد نظام القواعد المحمدية، ومحدد جهات العدالة الإسلامية سورة الحمد الذي أظهره الرحمن في صورة الملك لكسر سورة الكافرين، وآية السيف الذي عوده الفاطر والفتح والنصر وأيده بمرسلات الذاريات في كل عصر فويل للمنافقين، من نازعات أرواحهم إذا عبس صمصام عزمه المتين، حضرة مولانا السلطان ابن السلطان سلطان الثقلين وخادم الحرمين المجدد الغازي محمود خان العدلي ابن السلطان عبد الحميد خان أيده الرحمن وأبد ملكه ما دام الدوران آمين، وبعد أن أبرمت حبل النية ونشرت مطوي الأمنية وعرا المخاض قريحة الأذهان وقرب ظهور طفل التفسير للعيان جعلت أفكر ما اسمه وبماذا أدعوه إذا وضعته أمه فلم يظهر لي اسم تهتش له الضمائر وتبتش من سماعه الخواطر فعرضت الحال لدى حضرة وزير الوزراء ونور حديقة البهاء ونور حدقة الوزراء آية الله التي لا تنسخها آية، ورب النهى الذي ليس له نهاية وصاحب الأخلاق التي ملك بها القلوب ومعدن الأذواق التي يكاد أن يعلم معها الغيوب مولانا علي رضا باشا لا زال له الرضا غطاء وفراشا فسماه على الفور وبديهة ذهنه تغني عن الغور «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» فيا له اسم ما اسماه نسأل الله تعالى أن يطابقه مسماه وأحمد الله تعالى حمدا غضا، وأصلي وأسلم على نبيه النبيه حتى يرضى. وقد آن وقت الشروع في المقصود مقدما عليه عدة فوائد يليق أن تكتب بسواد العيون على صفحات الخدود فأقول: «الفائدة الأولى» في معنى التفسير والتأويل وبيان الحاجة إلى هذا العلم وشرفه. وأما معناهما فالتفسير تفعيل من الفسر وهو لغة البيان والكشف والقول بأنه مقلوب السفر مما لا يسفر له وجه، ويطلق التفسير على التعرية للانطلاق يقال فسرت الفرس إذا عريته لينطلق ولعله يرجع لمعنى الكشف كما لا يخفى بل كل تصاريف حروفه لا تخلو عن ذلك كما هو ظاهر لمن أمعن النظر. ورسموه بأنه علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك كمعرفة النسخ وسبب النزول وقصة توضح ما أبهم في القرآن ونحو ذلك. والتأويل من الأول وهو الرجوع والقول بأنه من الإيالة وهي السياسة كأن المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه ليس بشيء واختلف في الفرق بين التفسير والتأويل فقال أبو عبيدة: هما بمعنى، وقال الراغب: التفسير أعم وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها في الكتب الإلهية وغيرها والتأويل في المعاني والجمل في
(١) أنكر جماعة من أهل اللغة مجيء مشوش وقالوا الصواب أن يقال هوشته فهو مهوش لأنه من الهوش وهو اختلاط الشيء. وأثبته الجوهري فقال التشويش التخليط ووهمه صاحب القاموس. وقال ابن بري: إنه من كلام المولدين ولا أصل له في العربية. وقد اشتهر هذا اللفظ ووقع في كلام الزمخشري وغيره من أهل المعاني كقولهم هذا لف ونشر مشوش. اهـ مصححه.
5
الكتب الإلهية خاصة وقال الماتريدي: التفسير القطع بأن مراد الله تعالى كذا والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع، وقيل: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية. وقيل غير ذلك، وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف فكل الأقوال فيه ما سمعتها وما لم تسمعها مخالفة للعرف اليوم إذ قد تعارف من غير نكير أن التأويل إشارة قدسية ومعارف سبحانية تنكشف من سجف العبارات للسالكين وتنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين، والتفسير غير ذلك وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال أو بوجه ما فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعا وفي كل إرجاع كشفا فافهم، وأما بيان الحاجة إليه فلأن فهم القرآن العظيم- المشتمل على الأحكام الشرعية التي هي مدار السعادة الأبدية وهو العروة الوثقى والصراط المستقيم- أمر عسير لا يهتدى إليه إلا بتوفيق من اللطيف الخبير حتى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم على علو كعبهم في الفصاحة واستنارة بواطنهم بما أشرق عليها من مشكاة النبوة كانوا كثيرا ما يرجعون إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بالسؤال عن أشياء لم يعرجوا عليها ولم تصل أفهامهم إليها بل ربما التبس عليهم الحال ففهموا غير ما أراده الملك المتعال كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود، ولا شك أنا محتاجون إلى ما كانوا محتاجين إليه وزيادة «وأما بيان شرفه» فلأن شرف العلم بشرف موضوعه وشرف معلومه وغايته وشدة الاحتياج إليه وهو حائز لجميعها، فإن موضوعه كلام الله تعالى وماذا عسى أن يقال فيه، ومعلومه مع أنه مراد الله تعالى الدال عليه كلامه جامع للعقائد الحقة والأحكام الشرعية وغيرها، وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والوصول إلى سعادة الدارين وشدة الاحتياج إليه ظاهرة مما تقدم بل هو رئيس جميع العلوم الدينية لكونها مأخوذة من الكتاب وهي تحتاج من حيث الثبوت أو من حيث الاعتداد إلى علم التفسير وهذا لا ينافي كون الكلام رئيسها أيضا لأن علم التفسير لتوقفه على ثبوت كونه تعالى متكلما يحتاج إلى الكلام والكلام لتوقف جميع مسائله من حيث الثبوت أو الاعتداد على الكتاب يتوقف على التفسير فيكون كل منهما رئيسا للآخر من وجه على أن رياسة التفسير بناء على ذلك الشرف مما لا ينتطح فيه كبشان، وأما الآثار الدالة على شرفه فكثيرة. أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وأخرج أبو عبيدة عن الحسن قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن تعلم فيما أنزلت وما أراد بها، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية لا أعرفها إلا أحزنتني لأني سمعت الله يقول: «وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون» إلى غير ذلك.
«الفائدة الثانية» فيما يحتاجه التفسير ومعنى التفسير بالرأي- وحكم كلام السادة الصوفية في القرآن، فأما ما يحتاجه التفسير فأمور: «الأول» علم اللغة لأن به يعرف شرح مفردات الألفاظ ومعلولاتها بحسب الوضع ولا يكفي اليسير إذ قد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر فمن لم يكن عالما بلغات العرب لا يحل له التفسير كما قاله مجاهد وينكل كما قاله مالك- وهذا مما لا شبهة فيه- نعم روي عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر فقال ما يعجبني- وهو ليس بنص في المنع عن بيان المدلول اللغوي للعارف كما لا يخفى.
«الثاني» معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة إفرادها وتركيبها ويؤخذ ذلك من علم النحو أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال: حسن فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها- وفي قصة الأسود ما يغني عن الإطالة. «الثالث» علم المعاني والبيان والبديع، ويعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى- وبالثاني خواصها من حيث اختلافها، وبالثالث وجوه تحسين
6
الكلام وهو الركن الأقوم واللازم الأعظم في هذا الشأن كما لا يخفى ذلك على من ذاق طعم العلوم ولو بطرف اللسان. «الرابع» تعيين مبهم وتبيين مجمل وسبب نزول ونسخ ويؤخذ ذلك من علم الحديث. «الخامس» معرفة الإجمال والتبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأمر والنهي وما أشبه هذا وأخذوه من أصول الفقه.
«السادس» الكلام فيما يجوز على الله وما يجب له وما يستحيل عليه والنظر في النبوة ويؤخذ هذا من علم الكلام ولولاه يقع المفسر في ورطات. «السابع» علم القراءات لأنه به يعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات ترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض هذا- وعد السيوطي مما يحتاج إليه المفسر علم التصريف وعلم الاشتقاق- وأنا أظن أن المهارة ببعض ما ذكرنا يترتب عليها ما يترتب عليهما من الثمرة وعد أيضا علم الفقه ولم يعده غيره ولكل وجهة- وعد علم الموهبة أيضا من ذلك. قال: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم وإليه الإشارة
بالحديث «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم»
ثم قال: ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول هذا شيء ليس في قدرة الإنسان تحصيله وليس كما ظننت والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد إلى آخر ما قاله، وفيه أن علم الموهبة بعد تسليم أنه كسبي إنما يحتاج إليه في الاطلاع على الأسرار لا في أصل فهم معاني القرآن كما يفهمه كلام البرهان وكثير من المفسرين بصدد الثاني والواقفون على الأسرار- وقليل ما هم- لا يستطيعون التعبير عن كثير مما أفيض عليهم فضلا عن تحريره وإقامة البرهان عليه على أن ذلك تأويل لا تفسير فلعل السيوطي أراد من عبارته معنى آخر يظهر لك بالتدبير فتدبر «وأما التفسير بالرأي» فالشائع المنع عنه واستدل عليه بما
أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»
وفي رواية عن أبي داود «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»
ولا دليل في ذلك أما أولا فلأن في صحة الحديث الأول مقالا قال في المدخل في صحته نظر وإن صح فإنما أراد به- والله تعالى أعلم- فقد أخطأ الطريق إذ الطريق الرجوع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي نحو الناسخ والمنسوخ إلى الأخبار وفي بيان المراد منه إلى صاحب الشرع فإن لم يجد هناك وهنا فلا بأس بالفكرة ليستدل بما ورد على ما لم يرد أو أراد من قال بالقرآن قولا يوافق هواه بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي وجه فقد أخطأ فالباء على ذلك سببية أو يقال ذلك في المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله أو في الجزم بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل، وأما الحديث الثاني فله معنيان، الأول من قال في مشكل القرآن بما لا يعلم فهو متعرض لسخط الله تعالى، والثاني وصحح من قال: «في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده في النار» وأما ثانيا فلأن الأدلة على جواز الرأي والاجتهاد في القرآن كثيرة وهي تعارض ما يشعر بالمنع فقد قال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣] وقال تعالى:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: ٢٤] وقال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: ٢٩]
وأخرج أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه»
وقد دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابن عباس
بقوله «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه سئل هل خصكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، والعجب كل العجب مما يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني التراكيب ولم ينظر إلى اختلاف التفاسير وتنوعها ولم يعلم أن ما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك كالكبريت الأحمر فالذي ينبغي أن يعول عليه أن من كان متبحرا في علم اللسان مترقيا منه إلى ذوق العرفان وله في رياض العلوم الدينية أوفى مرتع، وفي حياضها أصفى مكرع يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد وقد غدا ذهنه لما أغلق من دقائق التحقيقات أحسن إقليد فذاك يجوز له أن يرتقي من علم
7
التفسير ذروته ويمتطي منه صهوته، وأما من صرف عمره بوساوس أرسطاطاليس واختار شوك القنافذ على ريش الطواويس فهو بمعزل عن فهم غوامض الكتاب وإدراك ما تضمنه من العجب العجاب، وأما كلام السادة الصوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان لا أنهم اعتقدوا أن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن فقط إذ ذاك اعتقاد الباطنية الملاحدة توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية وحاشى سادتنا من ذلك كيف وقد حضوا على حفظ التفسير الظاهر وقالوا لا بد منه أولا إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ومن ادعى فهم أسرار القرآن قبل إحكام التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب ومما يؤيد أن للقرآن ظاهرا وباطنا ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون، لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن فظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء. وقال ابن مسعود: من أراد علم الأولين والآخرين فليتل القرآن، ومن المعلوم أن هذا لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض من يوثق به:
لكل آية ستون ألف فهم،
وروي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع»
قال ابن النقيب: إن ظاهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وباطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق، ومعنى
قوله ولكل حرف حد
أن لكل حرف منتهى فيما أراده الله تعالى من معناه ومعنى
قوله: ولكل حد مطلع
أن لكل غامض من المعاني والأحكام مطلعا يتوصل به إلى معرفته ويوقف عن المراد به
وقيل في رواية لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع
والمذكور بوساطة الألفاظ وتأليفاتها وضعا وإفادة وجعلها طرقا إلى استنباط الأحكام الخمسة هو الظهر وروح الألفاظ أعني الكلام المعتلي عن المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية هو البطن وإليه الإشارة بقول الأمير السابق. والحد إما بين الظهر والبطن يرتقى منه إليه وهو المدرك بالجمعية من الجمعية وإما بين البطن والمطلع فالمطلع مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم المشار إليه بقول الصادق لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون، والحد بينهما يرتقى به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم واستهلاك صفة العبد تحت تجليات أنوار صفة المتكلم تعالى شأنه، وقيل الظهر التفسير والبطن التأويل والحد ما تتناهى إليه الفهوم من معنى الكلام والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام انتهى.
فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل بل أدنى ذرة من إيمان أن ينكر اشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من شاء من عباده ويا ليت شعري ماذا يصنع المنكر بقوله تعالى: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [يوسف:
١١١، الأنعام: ١٥٤، الأعراف: ١٤٥] وقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨] ويا لله تعالى العجب كيف يقول باحتمال ديوان المتنبي وأبياته المعاني الكثيرة ولا يقول باشتمال قرآن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وآياته وهو كلام رب العالمين المنزل على خاتم المرسلين على ما شاء الله تعالى من المعاني المحتجبة وراء سرادقات تلك المباني سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النور: ١٦] بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزمان إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت.
وقد ذكر ابن خلكان في تاريخه أن السلطان صلاح الدين لما فتح مدينة حلب أنشد القاضي محيي الدين قصيدة بائية أجاد فيها كل الإجادة وكان من جملتها.
8
وفتحك القلعة الشهباء في صفر مبشر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال فسأل القاضي من أين لك هذا فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: ١- ٤] قال المؤرخ: فلم أزل أتطلب التفسير المذكور حتى وجدته على هذه الصورة وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراجه وله نظائر كثيرة، ومن المشهور استنباط ابن الكمال فتح مصر على يد السلطان سليم من قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: ١٠٥] فالإنصاف كل الإنصاف التسليم للسادة الصوفية الذين هم مركز للدائرة المحمدية ما هم عليه واتهام ذهنك السقيم فيما لم يصل لكثرة العوائق والعلائق إليه.
وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار
وسيأتي تتمة لهذا البحث إن شاء الله تعالى والله الهادي إلى سواء السبيل. «الفائدة الثالثة» اعلم أن لكتاب الله تعالى أسماء أنهاها شيدلة في البرهان خمسة وخمسين اسما وذكر السيوطي بعد عدها في الإتقان وجوه تسميته بها ولم يذكر غير ذلك وعندي أنها كلها ترجع بعد التأمل الصادق إلى القرآن والفرقان رجوع أسماء الله تعالى إلى صفتي الجمال والجلال فهما الأصل فيها، وقد اختلف الناس في تحقيق لفظ القرآن، فالمروي عن الشافعي وبه قال جماعة أنه اسم علم غير مشتق خاص بهذا الكلام المنزل على النبي المرسل صلى الله تعالى عليه وسلم وهو معرفا غير مهموز عنده كما حكاه عنه البيهقي والخطيب وغيرهما، والمنقول عن الأشعري وأقوام أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه وسمي به عندهم لقران السور والآيات والحروف فيه بعضها ببعض، وقال الفراء هو مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا ويشبه بعضها بعضا وهو على هذين القولين بلا همز أيضا ونونه أصلية، وقال الزجاج:
هذا القول غلط والصواب أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف ونقل حركتها إلى ما قبلها فهو عنده وصف مهموز على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته وسمي به لأنه جمع السور كما قال أبو عبيدة أو ثمرات الكتب السالفة كما قال الراغب أو لأن القارئ يظهره من فيه أخذا من قولهم ما قرأت الناقة سلى قط (١) كما حكي عن قطرب وعند اللحياني وجماعة هو مصدر كالغفران سمي به المقروء تسمية المفعول بالمصدر، قال السيوطي: قلت والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه انتهى- وأنا متبرئ من حولي- أقول قول الزجاج أرق من وجه إذ الشائع فيه الهمز وبه قرأ السبعة ما عدا ابن كثير وقد وجه إسقاطها بما مر آنفا ولم يوجه إثباتها وكأن قول السيوطي محض تقليد لإمام مذهبه حيث لم يذكر الدليل ولم يوضح السبيل، وعندي أنه في الأصل وصف أو مصدر كما قال الزجاج واللحياني لكنه نقل وجعل علما شخصيا كما ذهب إليه الشافعي ومحققو الأصوليين وعليه لا يعرف القرآن لأن التعريف لا يكون إلا للحقائق الكلية ولعل من عرفه بالكلام المنزل للإعجاز بسورة منه أراد تصوير مفهوم لفظ القرآن وكذا من قال كالغزالي إنه ما نقل بين دفتي المصحف تواترا أراد تخصيص الاسم بأحد الأقسام الثلاثة مما نقل بين الدفتين ومما لم ينقل كالمنسوخ تلاوته نحو- إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة- وما نقل ولم يتواتر نحو- ثلاثة أيام متتابعات- ليعلم أن ذلك هو الدليل وعليه الأحكام من نحو منع التلاوة والمس محدثا وإلا فيرد على الأول إن أريد التمييز أن كونه للإعجاز ليس لازما بينا إذ لا يعرفه إلا الأفراد من العلماء فضلا عن أن يكون ذاتيا فكيف يصح لتعريف الحقيقة وتمييزها وهو إنما يكون بالذاتيات أو باللوازم البينة،
(١) أي ما أسقطت ولدا أي ما حملت قط.
9
وأيضا ان معرفة السورة منه متوقفة على معرفته فيدور. ويرد على الثاني مثل ثاني ما ورد على الأول إذ معرفة المصحف موقوفة على معرفة القرآن إذ ليس هو إلا ما كتب فيه القرآن فأخذه في تعريفه دور أيضا، هذا وقد قال ساداتنا الصوفية أفاض الله تعالى علينا من فتوحاتهم القدسية: إن القرآن إشارة إلى الذات التي يضمحل بها جميع الصفات فهي المجلى المسمى بالأحدية أنزلها الحق تعالى شأنه على نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون مشهد الأحدية من الأكوان، ومعنى هذا الإنزال أن الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت فيه صلى الله تعالى عليه وسلم بكمالها وما ادخر عنه شيء بل أفيض عليه الكل كرما إلهيّا ذاتيا ووصف القرآن في بعض الآيات بالكريم لذلك إذ أي كرم يضاهي هذا الكرم، وأنى تقاس هذه النعمة بسائر النعم، وأما القرآن الحكيم فهوية الحقائق الإلهية يعرج العبد بالتحقق بها في الذات شيئا فشيئا على ما اقتضته الحكمة وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: ٣٢] وهذا الحكم لا ينقطع أبدا إذ لا يزال العبد في ترقّ والحق في تجلّ فسبحان من لا تقيده الأكوان وهو كل يوم في شأن، وأما القرآن العظيم في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: ٨٧] فهو إشارة إلى الجملة الذاتية لا باعتبار النزول ولا باعتبار المكانة بل مطلق الأحدية الذاتية التي هي في مطلق الهوية الجامعة لجميع المراتب والصفات والشؤون والاعتبارات ولهذا قرن بالعظيم، وأما السبع المثاني فهو ما ظهر عليه في وجوده من التحقق بالصفات السبع، وأما قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: ٢] فهو إشارة إلى أن العبد إذا تجلى عليه الرحمن وجد لذة رحمانية تكسبه معرفة قرآنية فلا يعلم الحق إلا من طريق أسمائه وصفاته، وأما الفرقان عندهم فإشارة إلى حقيقة الأسماء والصفات على اختلاف تنوعاتها فباعتباراتها تتميز كل صفة واسم من غيرها فحصل الفرق في نفس الحق من حيث أسماؤه وصفاته فإن اسمه المنعم غير اسمه المنتقم وصفة الرضا غير صفة الغضب وإليه الإشارة
بقوله:
«سبقت رحمتي غضبي»
وهي متفاوتة المراتب في الفضل نظرا إلى أعيانها لا باعتبار أن في شيء منها نقصا أو مفضولية ولهذا حكمت بعضها على بعض كما يشير إليه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك»
فكانت المعافاة أفضل من العقوبة والرضا أفضل من السخط فأعاذه بالفاضل مما يليه، وكذا أعاذه بذاته من ذاته فكما أن الفرق حاصل في الأفعال كذلك في الصفات بل في نفس وأحدية الذات التي لا فرق فيها لكن من غريب شؤونها جمعها النقيضين. قال أبو سعيد: عرفت الله تعالى بجمعه بين الضدين، ولكونه صلى الله تعالى عليه وسلم مظهرا للقرآن والفرقان كان خاتم النبيين، وإمام المرسلين. لأنه ما ترك شيئا يحتاج إليه إلا وقد جاء به فلا يجد الذي يأتي بعده من الكمال شيئا مما ينبغي أن ينبه عليه. قال تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨]. وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء: ١٢]. إلى غير ذلك من الآيات.
«وقد يقال» : القرآن والفرقان إشارتان إلى مقام الجمع والفرق بأقسامهما. قالوا: ولا بد للعبد الكامل منهما، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له. والجمع عندهم شهود الأشياء بالله تعالى والتبري من الحول والقوة إلا بالله وجمع الجمع الاستهلاك بالكلية والفناء عما سوى الله تعالى وهو المرتبة الأحدية، والفرق أنواع فرق أول وهو الاحتجاب بالخلق عن الحق وبقاء رسوم الخليقة بحالها وفرق ثان وهو شهود قيام الخلق بالحق ورؤية الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة من غير احتجاب إحداهما عن الأخرى، وفرق الوصف وهو ظهور الذات الأحدية بأوصافها في الحضرة الواحدة، وفرق الجمع وهو تكثر الواحد بظهوره في المراتب التي هي ظهور شؤون الذات الأحدية وتلك الشؤون في الحقيقة اعتبارات محضة لا تحقق لها إلا عند بروز الواحد بصورها وكثيرا ما يطلقون القرآن
10
على العلم اللدني الإجمالي الجامع للحقائق كلها والفرقان على العلم التفصيلي الفارق بين الحق والباطل وكتاب الله تعالى جامع لذلك كله كما لا يخفى على أهله، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القرآن يتضمن الفرقان، والفرقان لا يتضمن القرآن لأن تفاصيل المراتب والأسماء المقتضية لها موجودة في الجمع والجمع لا يوجد في التفاصيل ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فليفهم. ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويزيل بعلمه جهلنا إنه على ما يشاء قدير. «الفائدة الرابعة» في تحقيق معنى أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق: «اعلم» أن هذه المسألة من أمهات المسائل الدينية والمباحث الكلامية كم زلت فيها أقدام وضلت عن الحق بها أقوام وهي وإن كانت مشروحة في كتب المتقدمين مبسوطة في زبر المتأخرين لكني بحول من عز حوله وفضل من غمرنا فضله أوردها في هذا الكتاب ليتذكر أولو الألباب بأسلوب عجيب وتحقيق غريب لا أظنك شنفت سمعك بمثل لآليه، ولا نورت بصرك بشبه بدر لياليه، فماء ولا كصدي ومرعى ولا كالسعدان.
وما كل زهر ينبت الروض طيب ولا كل كحل للنواظر إثمد
«فأقول» إن الإنسان له كلام بمعنى التكلم الذي هو مصدر وكلام بمعنى المتكلم به الذي هو الحاصل بالمصدر.
ولفظ الكلام موضوع لغة للثاني قليلا كان أو كثيرا حقيقة كان أو حكما. وقد يستعمل استعمال المصدر كما ذكره الرضي وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي «فالأول» من اللفظي فعل الإنسان باللسان وما يساعده من المخارج «والثاني» منه كيفية في الصوت المحسوس «والأول» من النفسي فعل قلب الإنسان ونفسه الذي لم يبرز إلى الجوارح «والثاني» كيفية في النفس إذ لا صوت محسوسا عادة فيها وإنما هو صوت معنوي مخيل. أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق. وأما النفسي فمعناه الأول تكلم الإنسان بكلمات ذهنية وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية، ومعناه الثاني هو هذه الكلمات الذهنية والألفاظ المخيلة المرتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجي.
والدليل على أن للنفس كلاما بالمعنيين الكتاب والسنة فمن الآيات قوله تعالى: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً [يوسف: ٧٧] فإن «قال» بدل من «أسر» أو استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال في نفسه في ذلك الإسرار فقيل: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً. وعلى التقديرين فالآية دالة على أن للنفس كلاما بالمعنى المصدري وقولا بالمعنى الحاصل بالمصدر وهو بدل من أسر والجملة بعدها وقوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى [الزخرف: ٨٠]
وفسر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم السر بما أسره ابن آدم في نفسه.
وقوله تعالى:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف: ٢٠٥] وقوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران: ١٥٤] أي يقولون في أنفسهم كما هو الأسرع انسياقا إلى الذهن، والآيات في ذلك كثيرة. ومن الأحاديث ما
رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سأله رجل فقال: «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري فقال: لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن»
فسمى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الشيء المحدث به كلاما مع أنه كلمات ذهنية والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا صارف عنها.
وقوله تعالى في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» الحديث.
وفيه دليل على أن للعبد كلاما نفسيا بالمعنيين، وللرب أيضا كلاما نفسيا كذلك ولكن أين التراب من رب الأرباب؟!
11
«فالمعنى الأول» للحق تعالى شأنه صفة أزلية منافية للآفة الباطنية التي هي بمنزلة الخرس في التكلم الإنساني اللفظي ليس من جنس الحروف والألفاظ أصلا وهي واحدة بالذات تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به، وحاصل الحديث من تعلق تكلمه بذكر اسمي تعلق تكلمي بذكر اسمه، والتعلق من الأمور النسبية التي لا يضر تجددها، وحدوث المتعلق إنما يلزم في التعلق التنجيزي ولا ننكره، وأما التعلق المعنوي التقديري ومتعلقة فأزليان، ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن أشياء رحمة غير نسيان كما في الحديث إذ معناه أن تكلمه الأزلي لم يتعلق ببيانها مع تحقق اتصافه أزلا بالتكلم النفسي، وعدم هذا التعلق الخاص لا يستدعي انتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى.
«والمعنى الثاني» له تعالى شأنه كلمات غيبية وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقا نسبية كانت أو خيالية أو روحانية، وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان إذ لا زمان، والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية ويقربه من بعض الوجوه وقوع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مرتبة في الوضع الكتابي دفعة فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها فجميع معلومات الله الذي هو نور السماوات والأرض مكشوفة له أزلا كما هي مكشوفة له فيما لا يزال ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة ترتبا وضعيا أزليا يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال، والقرآن كلام الله تعالى المنزل بهذا المعنى فهو كلمات غيبية مجردة عن المواد مترتبة في علمه أزلا غير متعاقبة تحقيقا بل تقديرا عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية، ومعنى تنزيلها إظهار صورها في المواد الروحانية والخيالية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية والمكتوبة، ومن هنا قال السنيون: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسن مسموع بالآذان غير حال في شيء منها وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة، فقولهم غير حال إشارة إلى مرتبته النفسية الأزلية فإنه من الشؤون الذاتية ولم تفارق الذات ولا تفارقها أبدا ولكن الله تعالى أظهر صورها في الخيال والحس فصارت كلمات مخيلة وملفوظة مسموعة ومكتوبة مرئية فظهر في تلك المظاهر من غير حلول إذ هو فرع الانفصال وليس فليس، فالقرآن كلامه تعالى غير مخلوق وإن تنزل في هذه المراتب الحادثة ولم يخرج عن كونه منسوبا إليه «أما» في مرتبة الخيال
فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «أغنى الناس حملة القرآن من جعله الله تعالى في جوفه»
وأما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: ٢٩] وأما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: ٢١، ٢٢] وقول الإمام أحمد: لم يزل الله متكلما كيف شاء وإذا شاء بلا كيف إشارة إلى مرتبتين، فالأول إلى كلامه في مرتبة التجلي والتنزل إلى مظهر له
كقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان» الحديث،
والثاني إلى مرتبة الكلام النفسي إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات والكلام النفسي في مرتبة الذات مجرد عن المادة فارتفع الكيف بارتفاعها «فالحاصل» لم يزل الله تعالى متكلما وموصوفا بالكلام من حيث تجلى ومن حيث لا، فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما اقتضاه مظهر تجليه فيكون متكلما بلا كيف كما كان ولم يزل، والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلا: بأن لله تعالى كلاما بمعنى التكلم وكلاما بمعنى المتكلم به وأنه بالمعنى الثاني لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا فإنها أقسام المتكلم به وأن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حروفه غير عارضة للصوت في الحق والخلق غير أنها في الحق كلمات غيبية مجردة عن المواد أصلا إذ كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره، وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية فهي في مادة خيالية، فكلمات الكلام النفسي في جنابه تعالى كلمات حقيقية لكنها ألفاظ حكمة ولا يشترط اللفظ الحقيقي في كون الكلمة حقيقية إذ قد أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته المخيلة
12
في خبر يوم السقيفة (١) والأصل في الإطلاق الحقيقة، فالأجزاء كلمات حقيقية لغوية مع أنها ليست ألفاظا كذلك إذ ليست حروفها عارضة لصوت واللفظ الحقيقي ما كانت حروفه عارضة وهو لكونه صورة اللفظ النفسي الحكمي دال عليه وهو دال في النفس على معناه بلا شبهة ولا انفكاك فيصدق على اللفظ النفسي بمعناه أنه مدلول اللفظ الحقيقي ومعناه، فتفسير المعنى النفسي المشهور عن الأشعري بمدلول اللفظ وحده كما نقله صاحب المواقف عن الجمهور لا ينافي تفسيره بمجموع اللفظ والمعنى كما فسره هو أيضا وذلك بأن يحمل اللفظ في قوله على النفسي وفي قول الجمهور على الحقيقي، ولا شك حينئذ أن مجموع النفسي ومعناه من حيث المجموع يصدق عليه أنه مدلول اللفظ الحقيقي وحده لأن اللفظ الحقيقي لكونه صورة النفسي في مرتبة تنزله دال عليه، ويدل على أن المراد المجموع قول إمام الحرمين في الإرشاد: ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس وهو القول أي المقول الذي يدور في الخلد وهو اللفظ النفسي الدال على معناه بلا انفكاك- نعم عبارة صاحب المواقف غير واضحة في المقصود وله مقالة مفردة في ذلك.
ومحصولها كما قال السيد قدس سره أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير فالشيخ لما قال الكلام النفسي هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده، وأما العبارات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالته على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة، وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة، وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية، فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة «وما يقال» من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة، فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخر وأصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيته انتهى «واعتراضه» الدواني بوجوه قال «أما أولا» فلأن مذهب الشيخ أن كلامه تعالى واحد وليس بأمر ولا نهي ولا خبر وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق وهذه الأوصاف لا تنطبق على الكلام اللفظي وإنما يصح تطبيقه على المعنى المقابل للفظ بضرب من التكلف «وأما ثانيا» فلأن كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضي إلى كون الأصوات مع كونها أعراضا سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة وهو سفسطة من قبيل أن يقال الحركة توجد في بعض الموضوعات من غير ترتب وتعاقب بين أجزائها «وأما ثالثا» فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقارىء من الألفاظ وبين ما يقوم بذاته تعالى باجتماع الأجزاء وعدم اجتماعها بسبب قصور الآلة «فنقول» هذا الفرق إن أوجب اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ وإن لم يوجب وكان ما يقوم بالقارىء وما
(١) حيث قال: فلما سكت أي خطيب الأنصار: - أردت أن أتكلم وكنت زورت في نفسي مقالة أعجبتي أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر- إلى أن قال- فكان هو أعلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها- الأثر بطوله اهـ منه.
13
يقوم بذاته تعالى حقيقة واحدة والتفاوت بينهما إنما يكون باجتماعه وعدمه اللذين هما من عوارض الحقيقة الواحدة كان بعض صفاته الحقيقية مجانسا لصفات المخلوقات.
«وأما رابعا» فلأن لزوم ما ذكره من المفاسد وهم، فإن تكفير من أنكر كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى إنما هو إذا اعتقد أنه من مخترعات البشر أما إذا اعتقد أنه ليس كلام الله بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته لا يجوز تكفيره أصلا كيف وهو مذهب أكثر الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه. وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى حقيقة إنما هو بمعنى كونه دالا على ما هو كلام الله تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى وكيف يدعي أن من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب وكيف يزعم أن هذا الجم الغفير من الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم حاشاهم عن ذلك «وأما خامسا» فلأن الأدلة الدالة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ كيف وبعضها مما لا يتعلق النسخ بالتلفظ به كما نسخ حكمه وبقي تلاوته انتهى «والجواب» أما عن الأول فهو أن الحق عز اسمه له كلام بمعنى التكلم وكلام بمعنى المتكلم به. وما هو أمر واحد، المعنى الأول وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب والكلمات وأنها ليست من جنس الحروف والألفاظ أصلا لا الحقيقية ولا الحكمية وما ذكر في الاعتراض ينطبق عليه بلا كلفة «والدليل» على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول، نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به وكل من كان قائلا بانقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتا والتعدد تعلقا المعنى الأول عنده جمعا بين الكلامين «وأما» عن الثاني فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود له لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مترتبة كما ذكره هو نفسه وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم فليحمل عليه سعيا بالإصلاح مهما أمكن «وأما» الثالث فهو أن الإيراد مبني على ظن ان المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيهه بالقائم بنفس الحافظ. «وأما» الرابع فهو أن الكلام النفسي عند أهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى، ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجردا عن اللفظ مطلقا وقد سمعهم يقولون: إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازا، فإذا انضم قولهم بنفي كونه كلاما حقيقة شرعية إلى قولهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ لزم من هذا ما هو في معنى القول يكون اللفظي من مخترعات البشر ولا يخفى استلزامه للمفاسد ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي فإن إطلاق كلام الله تعالى المسموع متواتر فلا يتأتى نفيه لأحد بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم وقائم به قياما يقتضيه حقيقة الكلام وذات المتكلم في الحق والخلق على الوجه اللائق بكل- وأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث ولا شك أنه ليس قائما بذاته سبحانه من حيث هو هو بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى ومظهر من مظاهر تنزلاته فهو دال على الحقيقي القائم فسمي كلاما حقيقة شرعية لذلك وفيه إطلاق لاسم الحقيقة على الصورة فيكون مجازا من هذا الوجه وإلى هذا يشير كلام التفتازاني فلا يلزم شيء من المفاسد واعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه «وأما الخامس» فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصا في أن الضمير راجع إلى التلفظ بل يحتمل أن يكون راجعا إلى الملفوظ وذلك أنه قال المعنى الذي في النفس لا ترتب فيه كما هو قائم بنفس الحافظ ولا ترتب فيه وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ ولا شك أنه لا ترتب فيه أي لا تعاقب فيه في الوجود العلمي وحينئذ فقولهم نعم
14
الترتب إنما يحصل في التلفظ معناه أن الترتب في المعنى النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى إنما يحصل في التلفظ الخارجي لضرورة عدم مساعدة الآلة، فقوله: وهو الذي هو حادث أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي الذي هو الصورة حادث لا اللفظ النفسي وتحمل الأدلة التي
تدل على الحدوث على حدوثه أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي وعلى هذا لا ورود للاعتراض أصلا «ومنهم» ومن اعترض أيضا بأنهم اشتركوا في المعجزة أن تكون فعل الله تعالى أو ما يقوم مقامه كالنزول فلا يكون القرآن اللفظي الذي هو معجزة قديما صفة له تعالى ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقية العربية فكونه لفظا حقيقيا عربيا مجعول (١) بالنص فيكون معجزة بلا شبهة، والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى، وهذا واضح لمن ساعدته العناية، وقد شنع على الشيخ الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم- واتحدت أغراضهم- وإن اختلفت أساليبهم- وها أنا بحوله تعالى راد لاعتراضاتهم بعد نقلها غير هياب ولا وكل وإن اتسع علم أهلها فالبعوضة قد تدمي مقلة الأسد- وفضل الله تعالى ليس مقصورا على أحد.
«فأقول» قال تلميذ مولانا الدواني عفيف الدين الايجي ما حاصله أن هذا الذي تدعيه الأشاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل فإنا إذا قلنا زيد قائم فهناك أربعة أشياء «الأول» العبارة الصادرة عنه «والثاني» مدلول هذه العبارة وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها «الثالث» علمه بثبوت تلك النسبة وانتفائها.
«الرابع» ثبوت تلك النسبة وانتفاؤها في الواقع، والأخيران ليسا كلاما اتفاقا، والأول لا يمكن أن يكون كلام الله حقيقة على مذهبهم فبقي الثاني وكذا نقول في الأمر والنهي هاهنا ثلاثة أمور «الأول» الإرادة والكراهة الحقيقية «الثاني» اللفظ الصادر عنه «الثالث» مفهوم لفظه ومعناه- والأول ليس كلاما اتفاقا- والثاني كذلك على مذهبهم فبقي الثالث وبه صرح أكثر محققيهم وكونه كلاما نفسيا ثابتا لله تعالى شأنه محكوما عليه بأحكام مختلفة باطل من وجوه:
«الأول» أنه مخالف للعرف واللغة فإن الكلام فيهما ليس إلا المركب من الحروف «الثاني» أنه لا يوافق الشرع إذ قد ورد فيما لا يحصى كتابا وسنة أن الله تعالى ينادي عباده ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة (٢) وباب المجاز وإن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناها مما لا يقبله العقل السليم «الثالث» أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحدا يخالف العقل فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف ومدلوله في النهي- ومدلول الخبر يخالف مدلول الإنشاء بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر آخر وكذا في الخبر- ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية فيلزم أن يكون كل واحد مشتملا على ما اشتمل عليه الآخر وليس كذلك وكيف يكون معنى واحد خبرا وإنشاء محتملا للتصديق والتكذيب وغير محتمل وهو جمع بين النفي والإثبات انتهى.
«ولا يخفى» أن مبنى جميع اعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده أي المعنى المجرد عن مقارنة اللفظ. مطلقا ولو حكميا وقد عرفت أنه ليس كذلك بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهو الذي يدور في الخلد وتدل عليه العبارات كما صرح به إمام الحرمين- وعليه إذا قال القائل زيد قائم فهناك أربعة
(١) قال تعالى إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا هـ منه.
(٢) منها ما
رواه البخاري عن أبي سعيد قال ﷺ «قال الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادى بصوت إن الله يأمرك ان تخرج من ذريتك بعثا إلى النار» الحديث
اهـ منه.
15
أشياء كما ذكر المعترض وشيء خامس تركه وهو المراد وهي هذه الجملة بشرط وجودها في الذهن بألفاظ مخيلة ذهنية دالة على معانيها في النفس وهذا يعنونه بالكلام النفسي فلا محذور «ونقول» على سبيل التفصيل «أما الأول» فجوابه أنه إنما تتم المخالفة إذا لم يكن عندهم مجموع اللفظ النفسي والمعنى فحيث كان لا مخالفة لأن الكلام حينئذ مركب من الحروف إلا أنها نفسية غيبية في الحق- خيالية في الخلق «وأما الثاني» فجوابه أن هذا الذي لا يحصى ليس فيه سوى أن الحق سبحانه وتعالى متكلم بكلام حروفه عارضة للصوت لا أنه لا يتكلم إلا به فلا ينتهض ما ذكر حجة على الشيخ بل إذا أمعنت النظر رأيت ذلك حجة له حيث بين ان الله تعالى لا يتكلم بالوحي لفظا حقيقيا إلا على طبق ما في علمه وكلما كان كذلك كان الكلام اللفظي صورة من صور الكلام النفسي ودليلا من أدلة ثبوتها وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: ٤].
«وأما الثالث» فجوابه أن المنعوت بأنه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم ووحدته مما لا شك لعاقل فيها- وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به فليس عنده واحدا بل نص في الإبانة على انقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل فلا اعتراض- وقال النجم سليمان الطوفي: إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازا في مدلولها لوجهين «أحدهما» أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هو العبارة والمبادرة دليل الحقيقة «الثاني» أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع والمؤثر فيها إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل- نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة، والعبارة مؤثرة بالفعل فكانت أولى بأن تكون حقيقة والأخرى مجازا- وقال المخالفون:
استعمل لغة في النفسي والعبارة «قلنا» نعم لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه وبالمجاز فيما ذكرتموه والأول ممنوع- قالوا الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا والأصل عدم الاشتراك- ثم أن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات والكثرة دليل الحقيقة- وأما قوله تعالى: يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [المجادلة: ٨] فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة «في أنفسهم» ولو أطلق لما فهم إلا العبارة، وأما قوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ [الملك: ١٣] الآية فلا حجة فيه لأن الإسرار خلاف الجهر وكلاهما عبارة عن أن يكون أرفع صوتا من الآخر- وأما بيت الأخطل فالمشهور أن البيان- وبتقدير أن يكون الكلام فهو مجاز عن مادته وهو التصورات المصححة له إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاما ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان انتهى وفيه ما لا يخفى.
أما أولا فلأن ما ادعاه من التبادر إنما هو لكثرة استعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل استعماله لغة وعرفا في النفسي والأصل في الإطلاق الحقيقة- وقوله والأصل عدم الاشتراك قلنا: نعم إن أردت به الاشتراك اللفظي ونحن لا ندعيه وإنما ندعي الاشتراك المعنوي وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين ما يتكلم به قليلا كان أو كثيرا حقيقة أو حكما «وأما ثانيا» فلأن ما ادعاه من أن المؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية الأمر فيه بالعكس بدليل أن الإنسان إذا سمع كلاما لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئا وقد يتذكر الإنسان في حالة سروره كلاما يحزنه- وفي حالة حزنه كلاما يسره فيتأثر بهما ولا صوت ولا حرف هناك وإنما هي حروف وكلمات مخيلة نفسية وهو الذي عناه الشيخ بالكلام النفسي وعلى هذا فالسامع في قولهم- لتأثيره في نفس السامع ليس بقيد والتأثير في النفس مطلقا معتبر في وجه التسمية «وأما ثالثا» فلأن ما قاله في قوله تعالى:
يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ من أنه مجاز دل على المعنى النفسي فيه بقرينة فِي أَنْفُسِهِمْ ولو أطلق لما فهم إلا العبارة يرده قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران: ١٦٧] وفي آية بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: ١١] إذ لو كان مجرد ذكر «في أنفسهم» قرينة على كون القول مجازا في النفسي لكان ذكر «بأفواههم- وبألسنتهم» قرينة على
16
كونه مجازا في العبارة واللازم باطل فكذا الملزوم- نعم التقييد دليل على أن القول مشترك معنى بين النفسي واللفظي وعين به المراد من فرديه فهو لنا لا علينا «وأما رابعا» فلأن ما ذكره في قوله تعالى: وَأَسَرُّوا [الملك: ١٣] الآية تحكم بحت لأن السر كما قال الزمخشري ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال ويساعده الكتاب والأثر واللغة كما لا يخفى على المتتبع «وأما خامسا» فلأن ما ذكره في بيت الأخطل خطل من وجوه «أما أولا» فعلى تقدير أن يكون المشهور البيان بدل الكلام يكفينا في البيان لأنه (١) إما اسم مصدر بمعنى ما يبين به أو مصدر بمعنى التبيين وعلى الأول هو بمعنى الكلام ولا فرق بينهما إلا في اللفظ، وعلى الثاني هو مستلزم للكلام النفسي بمعنى المتكلم به إن كان المراد به التبيين القلبي أعني ترتيب القلب للكلمات الذهنية على وجه إذا عبر عنها باللسان فهم غيره ما قصده منها «وأما ثانيا» فلأن قوله وبتقدير أن يكون إلخ إقرار بالكلام النفسي من غير شعور.
«وأما ثالثا» فلأن دعوى المجاز تحكم مع كون الأصل في الإطلاق الحقيقة «وأما رابعا» فلأن دعوى أن ذلك مبالغة من هذا الشاعر خلاف الواقع بل هو تحقيق من غير مبالغة كما يفهم مما سلف، فما ذكره هذا الشاعر كلمة حكمة سواء نطق بها على بينة من الأمر أو كانت منه رمية من غير رام فإن معناه موجود في حديث أبي سعيد «العينان دليلان والأذنان قمعان واللسان ترجمان- إلى أن قال- والقلب ملك فإذا صلح» الحديث وفي حديث أبي هريرة «القلب ملك وله جنود- إلى أن قال- واللسان ترجمان» الحديث فما قيل (٢) إن هذا الشاعر نصراني عدو الله تعالى ورسوله فيجب اطراح كلام الله تعالى ورسوله تصحيحا لكلامه أو حمله على المجاز صيانة لكلمة هذا الشاعر عنه، وأيضا يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر والشهرة غير كافية فقد فتش ابن الخشاب دواوين الأخطل العتيقة فلم يجد فيها البيت انتهى كلام أوهن وأوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت «أما أولا» فلأن كلام هذا العدو موافق لكلام الحبيب حتى لكلام المنكرين للكلام النفسي حيث اعترفوا به في عين إنكارهم «وأما ثانيا» فلأنا أغنانا الله تعالى ورسوله من فضله عن إثبات هذا الشعر «وأما ثالثا» فلأن عدم وجدان ابن الخشاب لا يدل على انتفائه بالكلية كما لا يخفى، والحاصل أن الناس أكثروا القال والقيل في حق هذا الشيخ الجليل وكل ذلك من باب.
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
نعم البحث دقيق لا يرشد إليه إلا توفيق كم أسهر أناسا وأكثر وسواسا وأثار فتنة وأورث محنة وسجن أقواما وأم إماما.
مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد
ولكن بفضل الله تعالى قد أتينا فيه بلب اللباب، وخلاصة ما ذكره الأصحاب، وقد اندفع به كثير مما أشكل على الأقوام، وخفي على أفهام ذوي الأفهام، ولا حاجة معه إلى ما قاله المولى المرحوم غني زاده في التخلص عن هاتيك الشبه مما نصه، ثم اعلم أني بعد ما حررت البحث بعثني فرط الإنصاف إلى أنه لا ينبغي لذي الفطرة السليمة أن يدعي قدم اللفظ لاحتياجه إلى هذه التكلفات وكذا كون الكلام عبارة عن المعنى القديم لركاكة توصيف الذات به كيف ومعنى قصة نوح مثلا ليس بشيء يمكن اتصاف الذات به إلا بتمحل بعيد، فالحق الذي لا محيد عنه هو أن المعاني كلها موجودة في العلم الأزلي بوجود علمي قديم لكن لما كان في ماهية بعضها داعية البروز في الخارج بوجود لفظي حادث حسبما يستدعيه حدوث الحوادث فيما لا يزال اقتضى الذات اقتضاء أزليا إبراز ذلك البعض في
(١) فيه استخدام فلا تغفل اهـ منه.
(٢) قائله الموفق بن قدامة اهـ منه.
17
الخارج بذلك الوجود الحادث فيما لا يزال فهذا الاقتضاء صفة قديمة للذات هو بها في الأزل مسماة بالكلام النفسي وأثره الذي هو ظهور المعنى القديم باللفظ الحادث إنما يكون فيما لا يزال والمغايرة بينه وبين صفة العلم ظاهرة وهذا هو غاية الغايات في هذا الباب، والحمد لله على ما خصني بفهمه من بين أرباب الألباب انتهى.
وفيه أنه غاية الغايات في الجسارة على رب الأرباب وإحداث صفة قديمة ما أنزل الله تعالى بها من كتاب إذ لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا روي عن صحابي ولا تابعي تسمية ذلك الاقتضاء كلاما بل لا يقتضيه عقل ولا نقل على أنه لا يحتاج إليه عند من أخذت الغاية بيديه، هذا وإذا سمعت ما تلوناه، ووعيت ما حققناه فاسمع الآن تحقيق الحق في كيفية سماع موسى عليه السلام كلام الحق «فأقول» الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغا لا ينبغي معه تأويل، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل، فقد قال تعالى: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: ٥٢]، وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى [الشعراء: ١٠]، نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ [القصص: ٣٠] إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [النازعات: ١٦]، نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها [النمل: ٨] واللائق بمقتضى اللغة والأحاديث أن يفسر النداء بالصوت (١) بل قد ورد إثبات الصوت لله تعالى شأنه في أحاديث لا تحصى، وأخبار لا تستقصى.
«روى» البخاري في الصحيح «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان»
ومن علم أن لله تعالى الحكيم أن يتجلى بما شاء وكيف شاء وأنه منزه في تجليه قريب في تعاليه لا تقيده المظاهر عند أرباب الأذواق إذ له الإطلاق الحقيقي حتى عن قيد الإطلاق زالت عنه إشكالات واتضحت لديه متشابهات (٢). ومما يدل على ثبوت التجلي في المظهر لله تعالى قول ابن عباس ترجمان القرآن في قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ كما في الدر المنثور يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة، وفي رواية عنه كان الله في النور ونودي من النور، وفي صحيح مسلم حجابه النور، وفي رواية له حجابه النار ودفع الله سبحانه توهم التقييد بما ينافي التنزيه بقوله: وَسُبْحانَ اللَّهِ أي عن التقييد بالصورة والمكان والجهة وإن ناداك منها لكونه موصوفا بصفة رب العالمين فلا يكون ظهوره مقيدا له بل هو المنزه عن التقييد حين الظهور يا مُوسى إِنَّهُ أي المنادي المتجلي أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ فلا أتقيد لعزتي ولكني الْحَكِيمُ [النمل: ٩] فاقتضت حكمتي الظهور والتجلي في صورة مطلوبك فالمسموع على هذا صوت وحرف سمعهما موسى عليه السلام من الله تعالى المتجلي بنوره في مظهر النار لما اقتضته الحكمة فهو عليه السلام كليم الله تعالى بلا واسطة لكن من وراء حجاب مظهر النار وهو عين تجلي الحق تعالى له، وأما ما شاع عن الأشعري من القول بسماع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى فهو من باب التجويز والإمكان لا أن موسى عليه السلام سمع ذلك بالفعل إذ هو خلاف البرهان، ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة قوله تعالى في الحديث القدسي
«ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به» الحديث،
ومن الواضح أن الله تبارك وتعالى إذا كان بتجليه النوري المتعلق بالحروف غيبية
(١) قال في القاموس: النداء بالكسر والضم الصوت اهـ منه
(٢) مثل قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ
وحديث «إذا كان يوم الجمعة نزل ربنا تبارك وتعالى من عليين على كرسيه
- إلى أن قال-
ثم يصعد تبارك وتعالى على كرسيه،
وحديث «فإذا الرب قد أشرف عليها من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة»

إلى غير ذلك اهـ منه.
18
كانت أو خيالية أو حسية سمع العبد على الوجه اللائق المجامع ل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت لأنه بالله يسمع إذ ذاك والله سبحانه يسمع السر والنجوى.
والإمام الماتريدي أيضا يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كتاب التوحيد. فما نقله ابن الهمام عنه من القول بالاستحالة فمراده الاستحالة العادية فلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق، ومعنى قول الأشعري أن كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ أن المسموع أولا وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت القارئ بلا شك لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة «وقول» الباقلاني إنما تسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء يمكن حمله على أنه أراد إنما يسمع أولا وبالذات التلاوة أي المتلو اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت التالي لا النفسي الذي حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية فلا نزاع في التحقيق أيضا.
والفرق بين سماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى وسماعنا له على هذا أن موسى عليه السلام سمع من الله عز وجل بلا واسطة لكن من وراء حجاب ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض حروفه لصوته لا من الله تعالى المتجلي من وراء حجاب العبد فلا يكون سماعا من الله تعالى بلا واسطة وهذا واضح عند من له قدم راسخة في العرفان وظاهر عند من قال بالمظاهر مع تنزيه الملك الديان. وأنت إذا أمنعت النظر في قول أهل السنة القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق وهو مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا محفوظ في صدورنا مكتوب في مصاحفنا غير حال في شيء منها رأيته قولا بالمظاهر ودالا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذات الله تعالى فيها غير قادح في قدمه لكونه غير حال في شيء منها مع كون كل منها قرآنا حقيقة شرعية بلا شبهة وهذا عين الدليل على أن تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه وليس من باب الحلول ولا التجسيم، ولا قيام الحوادث بالقديم ولا ما يشاكل ذلك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك، ومنه يظهر معنى ظهور القرآن في صورة الرجل الشاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر وظهوره خصما لمن حمله فخالف أمره وخصما دون من حمله فحفظ الأمر بل من أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه وطاف فكره المتجرد عن مخبط الهوى في كعبة حرم ما حققناه اندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة وابن قاضي الجبل والطوفي وأبي نصر وأمثالهم (١) صرير باب أو طنين ذباب وهم وإن كانوا فضلاء محققين وأجلاء مدققين لكنهم كثيرا
(١) وما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى في حق هؤلاء الأئمة مبالغ فيه. ولعله لم يطلع على مؤلفاتهم فإن للإمام ابن تيمية كتابا شرح فيه النزول وبين صفة الكلام والنزول وغير ذلك من صفات الله تعالى وأنه لا فرق بينها في الاعتقاد بإبقائها على ظاهرها بدون تحريف ولا تأويل ولا تصحيف وأورد كلام علماء السلف في ذلك. وللإمام ابن القيم أيضا كتاب سماه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية عنى بهؤلاء المؤولين لصفات الله بما لم يرد به دليل من كتاب ولا سنة ولا قول لصحابي ولا تابعي، وحاصل اعتقاد السلف في ذلك أن لله كلاما هو صفته كما أخبر بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله وأنه ليس كمثله شيء، والبحث في ذلك ليس من سنة السلف وأئمة الدين بل هو من المتكلمين الذين أشرب في قلوبهم نقل علوم اليونانيين زمن المأمون فأكسبهم خيالات وهمية في أذهانهم وفرضيات فاسدة واحتمالات ما أنزل الله بها من سلطان. نسأل الله إصلاح الأمة والعمل بما كان عليه سلفها: اهـ
19
ما انحرفت أفكارهم واختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة وأكابر الأئمة وبالغوا في التعنيف والتشنيع وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع ولولا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء. ولعرفتهم إلام ينتهي المراء بلا مراء.
فلي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن رام تقويمي فإني مقوم ومن رام تعويجي فإني معوج
على أن العفو أقرب للتقوى والإغضاء مبنى الفتوة وعليه الفتوى. والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة واندفع عنه بفضل الله تعالى كل محنة ومهنة، فلا بأس بأن نحكي بعض الأقوال، كما حكى الله تعالى كثيرا من أقوال ذوي الضلال، وبعد أن رسخ الحق في قلبك، وتغلغل في سويدائه كلام ربك لا أخشى عليك من سماع باطل لا يزيدك إلا حقا. وكاذب لا يورثك إلا صدقا «فنقول» أما المعتزلة فاتفقوا كافة على أن معنى كونه تعالى متكلما أنه خالق الكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية، واتفقوا أيضا على أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات وأنه محدث مخلوق ثم اختلفوا فذهب الجبائي وابنه أبو هاشم إلى أنه حادث في محل، ثم زعم الجبائي أن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة وخالفه الباقون، وذهب أبو الهذيل بن العلاف وأصحابه إلى أن بعضه في محل وهو قوله كن، وبعضه لا في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار، وذهب الحسن بن محمد النجار إلى أن كلام الباري إذا قرىء فهو عرض وإذا كتب فهو جسم، وذهبت الإمامية والخوارج والحشوية إلى أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات، ثم اختلف هؤلاء فذهب الحشوية إلى أنه قديم أزلي قائم بذات الرب تعالى لكن منهم من زعم أنه من جنس كلام البشر وبعضهم قال لا بل الحرف حرفان والصوت صوتان قديم وحادث والقديم منهما ليس من جنس الحادث، وأما الكرامية فقالوا: إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم وقد يطلق على الأقوال والعبارات وعلى كلا التقديرين فهو قائم بذات الله تعالى لكن إن كان بالاعتبار الأول فهو قديم متحد لا كثرة فيه وإن كان بالاعتبار الثاني فهو حادث متكثر، وأما الواقفية فقد أجمعوا على أن كلام الرب تعالى كائن بعد أن لم يكن لكن منهم من توقف في إطلاق اسم القديم والمخلوق عليه ومنهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق وأطلق اسم الحادث ومن القائلين بالحدوث من قال ليس جوهرا ولا عرضا، وذهب بعض المعترفين بالصانع إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما لا بكلام ولا بغير كلام والذي أوقع الناس في حيص بيص أنهم رأوا قياسين متعارضي النتيجة وهما كلام الله تعالى صفة له وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلام الله تعالى قديم، وكلام الله تعالى مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود وكل ما هو كذلك فهو حادث فكلام الله تعالى حادث، فقوم (١) ذهبوا إلى أن كلامه تعالى حروف وأصوات وهي قديمة ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف وأصوات فهو حادث ونسب إليهم أشياء هم براء منها، وآخرون (٢) قالوا بحدوث كلامه تعالى وأنه مؤلف من أصوات وحروف وهو قائم بغيره ومعنى كونه متكلما عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم كاللوح أو ملك كجبريل أو غير ذلك فهم منعوا أن المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى، وأناس (٣) لما رأوا مخالفة الأولين
(١) هم الحنابلة اهـ منه.
(٢) هم المعتزلة اهـ منه.
(٣) هم الكرامية اهـ منه.
20
للضرورة والظاهرة التي هي أشنع من مخالفة الدليل ومخالفة الآخرين فيما ذهبوا إليه للعرف واللغة ذهبوا إلى أن كلامه تعالى صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى فهم منعوا أن كل ما هو صفة له تعالى فهو قديم، وجمع قالوا: كلامه تعالى معنى واحد بسيط قائم بذاته تعالى قديم فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات وكثر في حقهم القال والقيل والنزاع الطويل، وبعضهم تحير فوقف وحبس ذهنه في مسجد الدهشة واعتكف، وعندي القياسان صحيحان والنتيجتان صادقتان ولكل مقام مقال ولكل كلام أحوال ولا أظنك تحوجني إلى التفصيل بعد ما وعاه فكرك الجميل بل ولا تكلفني رد هذه الأقوال الشنيعة التي هي لديك إذا أخذت العناية بيديك كسراب بقيعة فليطر شحرور القلم إلى روضة أخرى وليغرد بفائدة لعلها أولى من الإطالة وأحرى والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب لا رب غيره.
«الفائدة الخامسة» في بيان المراد بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن أقول روى أحد وعشرون صحابيا (١) حديث نزول القرآن على سبعة أحرف حتى نص أو عبيدة على تواتره
وفي مسند أبي يعلى أن عثمان رضي الله عنه قال على المنبر أذكر الله رجلا سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك فقال وأنا أشهد معهم،
واختلف في معناه على أقوال «أحدها» أنه من المشكل الذي لا يدرى لاشتراك الحرف (٢) وفيه أن مجرد الاشتراك لا يستدعي ذلك اللهم إلا أن يكون بالنظر إلى هذا القائل «ثانيها» أن المراد التكثير لا حقيقة العدد وقد جروا على تكثير الآحاد بالسبعة والعشرات بالسبعين والمئات بسبعمائة وسر التسبيع لا يخفى وإليه جنح عياض وفيه مع عدم ظهور معناه أن
حديث أبيّ كما رواه النسائي «أن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف»
ونحوه من الأحاديث لا سيما
حديث أبي بكرة الذي في آخره «فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة»
أقوى دليل على إرادة الانحصار بل في جمع القلة نوع إشارة إلى عدم الكثرة كما لا يخفى «ثالثها» أن المراد بها سبع قراءات وفيه أن ذلك لا يوجد في كلمة واحدة إلا نادرا (٣) والقول أن كلمة تقرأ بوجه أو وجهين إلى سبع يشكل عليه ما قرىء على أكثر اللهم إلا أن يقال ورد ذلك مورد الغالب وفيه ما لا يخفى حتى قال السيوطي قد ظن كثير من القوم أن المراد بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح فتدبر «رابعها» أن المراد بها سبعة أوجه من المعاني المتفقة على ألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم. وعجل وأسرع، وإليه ذهب ابن عيينة وجمع وأيد
برواية حتى بلغ سبعة أحرف قال: كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب،
وبما حكي أن ابن مسعود أقرأ رجلا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: ٤٣، ٤٤] فقال الرجل طعام اليثيم فردها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول الفاجر؟ قال نعم قال فافعل، وفيه أن ذلك كان رخصة لعسر تلاوته بلفظ واحد على الأميين ثم نسخ وإلا لجازت روايته بالمعنى ولذهب التعبد بلفظه ولا تسع الخرق ولفات كثير من الأسرار والأحكام وهذا يستدعي
(١) وهم أبيّ بن كعب وأنس وحذيفة وزيد بن أرقم وسمرة بن جندب وسليمان بن صبرة وابن عباس وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمر بن الخطاب وعمر بن أبي سلمة وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وهشام بن حكيم وأبو بكرة وأبو جهم وأبو سعيد الخدري وأبو طلحة الأنصاري وأبو هريرة وأم أيوب اهـ منه. [.....]
(٢) أي لغة بين الكلمة والمعنى والجهة قاله ابن سعدان النحوي اهـ منه.
(٣) مثل (عبد الطاغوت) (ولا تقل لهما أف) اهـ منه.
21
نسخ الحديث وفيه بعد بل لا قائل به «خامسها» أن المراد بها كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإشباع ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين وتحقيق، وفيه أن ذلك ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى، واللفظ الواحد بهذه الصفات باق على وحدته فليس فيه حينئذ جليل فائدة.
«سادسها» أن المراد سبعة أصناف وعليه كثيرون ثم اختلفوا في تعيينها فقيل: محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص، وقيل: إظهار الربوبية وإثبات الوحدانية وتعظيم الألوهية والتعبد لله ومجانبة الإشراك والترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب، وقيل أمر ونهي ووعد ووعيد وإباحة وإرشاد واعتبار. وقيل غير ذلك والكل محتمل بل وأضعاف أمثاله إلا أنه لا مستند له ولا وجه للتخصيص.
«سابعها» أن المراد سبع لغات وإليه ذهب ثعلب وأبو عبيد والأزهري وآخرون واختاره ابن عطية وصححه البيهقي. واعترض بأن لغات العرب أكثر، وأجيب بأن المراد أفصحها وهي لغة قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر واستنكره ابن قتيبة قائلا: لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش بدليل وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: ٤] وعليه يلتزم كون السبع في بطون قريش، وبه جزم أبو علي الأهوازي وليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل أنها مفرقة فيه ولعل بعضها أسعد من بعض وأكثر نصيبا. وقيل السبع في مضر خاصة لقول عمر رضي الله عنه: نزل القرآن بلغة مضر، وقال بعضهم: إنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش، وقيل أنزل أولا بلسان قريش ومن جاورهم من الفصحاء ثم أبيح للعرب أن تقرأه بلغاتها دفعا للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولم يقع ذلك بالتشهي بل المرعي فيه السماع من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكيفية نزول القرآن على هذه السبع أن جبريل عليه السلام كان يأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في كل عرضة بحرف إلى أن تمت. قال السيوطي بعد نقل هذا القول وذكر ما له وما عليه وبعد هذا كله هو مردود بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهشام بن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة وقبيلة واحدة وقد اختلفت قراءتهما ومحال أن ينكر عليه عمر لغته فدل على أن المراد بالأحرف السبعة غير اللغات انتهى، ويا ليت شعري ادعى أحد من المسلمين أن معنى إنزال القرآن على هذه السبع من لغات هؤلاء العرب أنه أنزل كيفما كان وأنهم هم الذين هذبوه بلغاتهم ورشحوه بكلماتهم بعد الإذن لهم بذلك فإذا لا تختلف أهل قبيلة واحدة في كلمة ولا يتنازع اثنان منهم فيها أبدا أم أن الله تعالى شأنه ظهر كلامه في مرايا هذه اللغات على حسب ما فيها من المزايا والنكات. فنزل بها وحيه. وأداها نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، ووعاها أصحابه فكم صحابي هو من قبيلة وعى كلمة نزلت بلغة قبيلة أخرى وكلاهما من السبع وليس له أن يغير ما وعى بل كثيرا ما يختلف صحابيان من قبيلة في الرواية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكل من روايتيهما على غير لغتهما كل ذلك اتباعا لما أنزل الله تعالى وتسليما لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ينفي صحابي غير روايته وينكر رواية غيره وكل ذلك يدل على أن مرجع السبع الرواية لا الدراية فرد الإمام السيوطي لا أدري ماذا أرد منه وما الذي أسكت عنه، فها هو بين يديك، فاعمل ما شئت فيه، وسلام الله تعالى عليك، ومما ذكرناه علمت أن القلب يميل إلى هذا السابع فافهم، وقد حققنا بعض الكلام في هذا المقام في كتابنا الأجوبة العراقية، عن الأسئلة الإيرانية فارجع إليه إن أردته والله سبحانه وتعالى أعلم «الفائدة السادسة» في جمع القرآن وترتيبه، اعلم أن القرآن جمع أولا بحضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أخرج الحاكم بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال: كنا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نؤلف القرآن في الرقاع. وثانيا بحضرة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت أيضا قال «أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال
22
أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن (١) وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن فقلت لعمر كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال عمر: هذا والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على ما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال: هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب (٢)
واللخاف وصدور الرجال ووجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة: ١٢٨] حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر» وأخرج ابن أبي داود بسند رجاله ثقات مع انقطاع أن أبا بكر قال لعمر وزيد مع أنه كان حافظا اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه، ولعل الغرض من الشاهدين أن يشهدا على أن ذلك كتب بين يدي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو على أنه مما عرض عليه صلى الله تعالى عليه وسلم عام وفاته وإنما اكتفوا في آية التوبة بشهادة خزيمة لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين والقول بأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة مما لا حجار له (٣) وما شاع أن عليا كرم الله وجه لما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخلف لجمعه فبعض طرقه ضعيف (٤)، وبعضها موضوع (٥) وما صح (٦) فمحمول كما قيل على الجمع في الصدر، وقيل كان جمعا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم،
وقد أخرج ابن أبي داود بسند حسن عن عبد خير قال: سمعت عليا يقول أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رضي الله تعالى عنه رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله
أي على الوجه الذي تقدم فلا ينافي ما في مختصر القرماني أن أول من جمعه عمر رضي الله تعالى عنه. وما روي عن أبي بريدة أنه قال أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فهو مع غرابته وانقطاعه محمول على أنه أحد الجامعين بأمر أبي بكر رضي الله تعالى عنه قاله الإمام السيوطي وهي عثرة منه لا يقال لصاحبها لعا لأن سالما هذا قتل في وقعة اليمامة كما يدل عليه كلام الحافظ ابن حجر في إصابته ونص عليه السيوطي نفسه في إتقانه بعد هذا المبحث بأوراق ولا شك أن الأمر بالجمع وقع من الصديق بعد تلك الوقعة وهي التي كانت سببا له كما يدل عليه حديث البخاري الذي قدمناه فسبحان من لا ينسى، وما اشتهر أن جامعه عثمان فهو على ظاهره باطل لأنه رضي الله تعالى عنه إنما حمل الناس في سنة خمس وعشرين (٧) على القراءة
(١) وقد روي انه قتل يوم اليمامة سبعون من القراء منهم سالم مولى أبي حذيفة اهـ منه.
(٢) العسب جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء هي الحجارة الرقاق وقال الخطابي صفائح الحجارة اهـ منه.
(٣) هذا القول لابن حجر قاله على سبيل الظن وهو من بعضه اهـ منه.
(٤) وهو ما أخرجه أبو داود من طريق ابن سيرين اهـ منه.
(٥) وهو ما أخرجه غير واحد من رواية أبي حيان التوحيدي أحد زنادقة الدنيا اهـ منه.
(٦) كرواية أبي الضريس في فضائل علي رضي لله تعالى عنه اهـ منه.
(٧) وقيل في حدود سنة ثلاثين ولا مستند له اهـ منه.
23
بوجه واحد باختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة من اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فقد روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت (١) وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف (٢) مما نسخوا وأمر بما سواه من القراءات في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال زيد: ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: ٢٣] ألحقناها في سورتها في المصحف. وقد ارتضى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى
أن المرتضى كرم الله تعالى وجهه قال على ما أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة عنه: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا.
وفي رواية لو وليت لعملت بالمصحف الذي عمله عثمان،
وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لما أحرق مصحفه: لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم كما صنعوا بمصحفي كذب كسوء معاملة عثمان معه التي يزعمها الشيعة حين أخذ المصحف منه، وهذا الذي ذكرناه من فعل عثمان هو ما ذكره غير واحد من المحققين حتى صرحوا بأن عثمان لم يصنع شيئا فيما جمعه أبو بكر من زيادة أو نقص أو تغيير ترتيب سوى أنه جمع الناس على القراءة بلغة قريش محتجا بأن القرآن نزل بلغتهم.
ويشكل عليه ما مر آنفا من قول زيد ففقدت آية من الأحزاب إلخ فإنه بظاهره يستدعي أن في المصاحف العثمانية زيادة لم تكن في هاتيك الصحف والأمر في ذلك هين إذ مثل هذه الزيادة اليسيرة لا توجب مغايرة يعبأ بها ولعلها تشبه مسألة التضاريس، ولو كان هناك غيرها لذكر وليس فليس، ولا تقدح أيضا في الجمع السابق إذ يحتمل أن يكون سقوطها منه من باب الغفلة وكثيرا ما تعتري السارحين في رياض حظائر قدس كلام رب العالمين فيذكرهم سبحانه بما غفلوا فيتداركون ما أغفلوا. وزيد هذا كان في الجمعين ولعله الفرد المعول عليه في البين لكن عراه في أولهما ما عراه. وفي ثانيهما ذكره من تكفل بحفظ الذكر فتدارك ما نساه.
وبعد انتشار هذه المصاحف بين هذه الأمة المحفوظة لا سيما الصدر الأول الذي حوى من الأكابر ما حوى وتصدر فيه للخلافة الراشدة على المرتضى. وهو باب مدينة العلم لكل عالم. والأسد الأشد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم لا يبقى في ذهن مؤمن احتمال سقوط شيء بعد من القرآن وإلا لوقع الشك في كثير من ضروريات هذا الدين الواضح البرهان وزعمت الشيعة أن عثمان بل أبا بكر وعمر أيضا حرفوه وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره،
فقد روى الكليني منهم عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية (٣)
(١) وأخرج ابن أبي داود أنه جمع اثني عشر رجلا من قريش والأنصار اهـ منه.
(٢) فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة وحبس بالمدينة واحدا كما أخرج ذلك ابن أبي داود من طريق حمزة الزيات اهـ منه.
(٣) والمشهور عندنا أنه ستة آلاف وستمائة وست عشرة آية اهـ منه.
24
وروى محمد بن نصر عنه أنه قال كان في لم يكن اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم،
وروي عن سالم بن سليمة، قال قرأ رجل على أبي عبد الله- وأنا أسمعه- حروفا من القرآن ليس ما يقرأها الناس فقال أبو عبد الله مه عن هذه القراءات واقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم فاقرأ كتاب الله على حده،
وروي عن محمد ابن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ [النحل: ٩٢] ليس كلام الله بل محرف عن موضعه والمنزل- أئمة هي أزكى من أئمتكم-
وذكر ابن شهرآشوب المازندراني في كتاب المثالب له أن سورة الولاية أسقطت بتمامها وكذا أكثر سورة الأحزاب فإنها كانت مثل سورة الأنعام فأسقطوا منها فضائل أهل البيت، وكذا أسقطوا لفظ- ويلك من قبل لا تحزن إن الله معنا، وعن ولاية علي من بعد، وقفوهم إنهم مسؤولون، وبعلي بن أبي طالب من بعد، وكفى الله المؤمنين القتال، وآل محمد من بعد وسيعلم الذين ظلموا- إلى غير ذلك فالقرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم شرقا وغربا وهو كرة الإسلام ودائرة الأحكام مركزا وقطبا أشد تحريفا عند هؤلاء من التوراة والإنجيل وأضعف تأليفا منهما وأجمع للأباطيل، وأنت تعلم أن هذا القول أوهى من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت ولا أراك في مرية من حماقة مدعيه وسفاهة مفتريه، ولما تفطن بعض علمائهم لما به جعله قولا لبعض أصحابه قال الطبرسي في مجمع البيان (١) أما الزيادة فيه أي القرآن فمجمع على بطلانها، وأما النقصان فقد روي عن قوم من أصحابنا وقوم من حشوية العامة والصحيح خلافه وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن الغاية اشتدت والدواعي توفرت عى نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه لأن القرآن مفجر النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد، وقال أيضا: إن العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزني فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا من النحو ليس من الكتاب لعرف وميزانه ملحوق وأنه ليس من أصل الكتاب وكذا القول في كتاب المزني ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء. وذكر أيضا أن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان وأنه كان يعرض على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويتلى عليه وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عدة ختمات وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مثبور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته انتهى. وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال- والحمد لله على أن ظهر الحق وكفى الله المؤمنين القتال- إلا أن الرجل قد دس في الشهد سمّا وأدخل الباطل في حمى الحق الأحمى «أما أولا» فلأن نسبة ذلك إلى قوم من حشوية العامة الذين يعني بهم أهل السنة والجماعة فهو كذب أو سوء فهم لأنهم
(١) هو تفسير مطبوع في العجم.
25
أجمعوا على عدم وقوع النقص فيما تواتر قرآنا كما هو موجود بين الدفتين اليوم، نعم أسقط زمن الصديق ما لم يتواتر وما نسخت تلاوته وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة ولم يأل جهدا رضي الله تعالى عنه في تحقيق ذلك إلا أنه لم ينتشر نوره في الآفاق إلا زمن ذي النورين فلهذا نسب إليه كما روي عن حميدة بنت يونس أن في مصحف عائشة رضي الله عنها إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: ٥٦]- وعلى الذين يصلون الصفوف الأول- وأن ذلك قبل أن يغير عثمان المصاحف فما
أخرج أحمد عن أبيّ قال قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك فقرأ عليّ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: ١- ٤] إن الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره»
وفي رواية «ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة» إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه»
وفي رواية الحاكم «فقرأ فيها ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه يسأل ثانيا ولو سأل ثانيا فأعطيه يسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب»
وما
روي عنه أيضا أنه كتب في مصحفه سورتي الخلع والحفد- اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق
- فهو من ذلك القبيل ومثله كثير، وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر قال: لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر، والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى إلا أنها محمولة على ما ذكرناه، وأين ذلك مما يقوله الشيعي الجسور وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: ٤٠].
وأما ثانيا فلأن قوله: إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن إلخ إن أراد به أنه مرتب الآي والسور كما هو اليوم وأنه يقرأه من حفظه في الصدر من الأصحاب كذلك لكنه كان مفرقا في العسب واللخاف فمسلم إلا أنه خلاف الظاهر من سياق كلامه وسباقه وإن أراد أنه كان في العهد النبوي مقروءا كما هو الآن لا غير وكان مرتبا ومجموعا في مصحف واحد غير متفرق في العسب واللخاف فممنوع والدليل الذي استدل به لا يدل عليه كما لا يخفى، ويا لله العجب كيف ذكر في هذا المعرض ختمات ابن مسعود وأبيّ على النبي صلّى الله عليه وسلم وجعل ذلك من أدلة مدعاه مع أن مروي كل منهما يخالف مروي الآخر وكلاهما يخالفان ما في المصحف العثماني فالسور مثلا في مصحفنا مائة وأربع عشرة بإجماع من يعتدّ به وقيل ثلاث عشرة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين (١) بل صح عنه (٢) أنه كان يحكهما من المصاحف ويقول ليستا من كتاب الله تعالى وإنما أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتعوذ بهما
(١) ولم يكتب الفاتحة أيضا لكن لا لاعتقاد انها ليست من القرآن معاذ الله ولكن للاكتفاء بحفظها الوجوب قراءتها في الصلاة فلا يخشى ضياعها اهـ منه. [.....]
(٢) كما أخرجه عبد الرحمن بن أحمد والطبراني عن النخعي اهـ منه.
26
ولهذا عوذ بهما الحسن والحسين ولم يتابعه أحد من الصحابة على ذلك وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلم قرأهما في الصلاة، فالظاهر أنهما غير متواترتين قرآنا عنده والقول بأنه إنما أنكر الكتابة وأراد بالكتاب المصحف ليتم التأويل مستبعد جدا بل لا يصح كما لا يخفى، وفي مصحف أبيّ خمس عشرة لأنه كتب في آخره بعد «العصر» سورتي الخلع والحفد وجعل سورة «الفيل وقريش» فيه سورة واحدة وترتيب كل أيضا متغاير ومغاير لترتيب مصحفنا مغايرة لا سترة عليها فسورة «ن» في مصحف ابن مسعود بعد «الذاريات» و «لا أقسم بيوم القيامة» بعد «عم» «والنازعات» بعد «الطلاق» «والفجر» بعد «التحريم» إلى غير ذلك وسورة «بني إسرائيل» في مصحف أبيّ بعد «الكهف» و «الحجرات» بعد «ن» و «تبارك» بعد «الحجرات» «والنازعات» بعد «الواقعة» و «ألم نشرح» بعد «قل هو الله أحد» مع اختلاف كثير يظهر لمن رجع إلى الكتب المتقنة في هذا الباب، وكأن ران البغض غطى على قلب هذا البعض فقال ما قال ولم يتفكر في حقيقة الحال ولم يبال يوقع النبال قاصدا أن يستر بمنخل مختل كذبه نور ذي النورين الساطع عليه من برج شمس الكونين ومن بدر صحبه مع أن نسبة هذا الجمع إليهما من أوضح الأمور بل أشهر من المشهور، وهو شائع أيضا عند الشيعة وليس لهم إلى إنكاره ذريعة ولكن مركب التعصب عثور ومذهب التعسف محذور، وإذا حققت ما ذكرناه ووعيت ما عليك تلوناه فاعلم أن ترتيب آية وسورة بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلم أما ترتيب الآي فكونه توقيفيا مما لا شبهة فيه حتى نقل جمع منهم الزركشي (١) وأبو جعفر (٢) الإجماع عليه من غير خلاف بين المسلمين والنصوص متظافرة على ذلك.
وما يدل بظاهره من الآثار على أنه اجتهادي معارض ساقط عن درجة الاعتبار كالخبر الذي أخرجه ابن أبي داود بسنده عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ووعيتهما فقال عمرو أنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوهما في آخرها- فإنه معارض بما لا يحصى مما يدل على خلافه، بل لابن أبي داود مخرجه خبر يعارضه أيضا فقد أخرج أيضا عن أبيّ أنهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [التوبة: ١٢٧] ظنوا أن هذا آخر ما نزل فقال أبيّ: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرأني بعد هذا آيتين لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة: ١٢٨] إلى آخر السورة.
وأما ترتيب السور ففي كونه اجتهاديا أو توقيفيا خلاف والجمهور على الثاني (٣) قال أبو بكر الأنباري: أنزل الله تعالى القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا بالمستخبر فيوقف جبريل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على موضع الآية والسورة، فمن قدم أو أخر فقد أفسد (٤) نظم القرآن وقال الكرماني: ترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح المحفوظ وعليه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين، وقال الطيبي
(١) في البرهان اهـ منه.
(٢) في المناسبات اهـ منه.
(٣) وهذا آخر قوله اهـ منه.
(٤) وبعضهم استنبط عمر النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاثا وستين سنة من قوله في سورة المنافقين وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها بالتغابن للإشارة إلى ظهور التغابن بعد فقده صلّى الله عليه وسلم اهـ منه.
27
مثله وهو المروي عن جمع غفير إلا أنه يشكل على هذا ما
أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين (١) فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول دعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال.
فهذا يدل على أن الاجتهاد دخل في ترتيب السور ولهذا ذهب البيهقي إلى أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال وله انشرح صدر الإمام السيوطي لما ضاق ذرعا عن الجواب، والذي ينشرح له صدر هذا الفقير هو ما انشرحت له صدور الجمع الغفير من أن ما بين اللوحين الآن موافق لما في اللوح من القرآن وحاشا أن يهمل صلى الله تعالى عليه وسلم أمر القرآن وهو نور نبوته وبرهان شريعته فلا بد إما من التصريح بمواضع الآي والسور وإما من الرمز إليهم بذلك وإجماع الصحابة في المآل على هذا الترتيب وعدولهم عما كان أولا من بعضهم على غيره من الأساليب، وهم الذين لا تلين قناتهم لباطل، ولا يصدهم عن اتباع الحق لوم لائم ولا قول قائل، أقوى دليل على أنهم وجدوا ما أفادهم علما، ولم يدع عندهم خيالا ولا وهما، وعثمان رضي الله تعالى عنه وإن لم يقف على ما يفيده القطع في براءة والأنفال وفعل ما فعل بناء على ظنه إلا أن غيره وقف، وقبل ما فعله ولم يتوقف، وكم لعمر رضي الله تعالى عنه موافقات لربه أدى إليها ظنه فليكن لعثمان هذه الموافقة التي ظفر غيره بتحقيقها من النصوص أو الرموز فسكت على أن ذلك كان قبل ما فعل عثمان عند التحقيق ولكن لما رفعت الأقلام وجفت الصحف واجتمعت الكلمة في أيامه واقتدت المسلمون في سائر الآفاق بإمامه نسب ذلك إليه، وقصر من دونهم عليه والسؤال منه وجوابه ليسا قطعيين في الدلالة على الاستقلال لجواز أن يكون السؤال للاستخبار عن سر عدم المخالفة، والجواب لابدائه على ما خطر في البال، وبالجملة بعد إجماع الأمة على هذا المصحف لا ينبغي أن يصاخ إلى آحاد الأخبار ولا يشرأب إلى تطلع غرائب الآثار فافهم ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك. «الفائدة السابعة» في بيان وجه إعجاز القرآن:
«اعلم» أن إعجاز القرآن مما لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه وأرى الاستدلال هنا عليه مما لا يحتاج إليه والشبه صرير باب أو طنين ذباب والأهم بالنسبة إلينا بيان وجه الإعجاز والكلام فيه على سبيل الإيجاز «فنقول» : قد اختلف الناس في ذلك فذهب بعض المعتزلة إلى أن وجه إعجازه اشتماله على النظم الغريب والوزن العجيب والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من العرب في مطالعه وفواصله ومفاصله ورد بوجهين «الأول» أنا لا نسلم المخالفة فإن كثيرا من آياته على وزن أبيات العرب نحو قوله تعالى وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فاطر: ١٨] وقوله تعالى:
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: ٢] ومثله كثير «الثاني» أنا لو سلمنا المخالفة لكن لا نسلم أنه لمجردها يكون معجزا وإلا لكانت حماقات مسيلمة إذ هي على وزنه كذلك، وذهب الجاحظ إلى أنه اشتماله على البلاغة التي تتقاصر عنها سائر ضروب البلاغات ورد بوجوه «الأول» أنا إذا نظرنا إلى أبلغ الخطب وأجزل الشعر وقطعنا النظر عن الوزن وقسناه بقصار القرآن كان الأمر في التفاوت ملتبسا، والمعجز لا بد أن ينتهي إلى
(١) المئين ما تزيد على مائة آية أو تقاربها والمثاني هنا ما ولي المئين اهـ منه.
28
حد لا يبقى معه لبس ولا ريبة «الثاني» أن القرآن غير خارج عن كلام العرب وما من أحد من بلغائهم إلا وقد كان مقدورا له الإتيان بقليل من مثل ذلك والقادر على البعض قادر على الكل «الثالث» أن الصحابة اختلفوا في البعض ولو كان منتهيا إلى الإعجاز بلاغة لعرفوه وما اختلفوا «الرابع» أنهم طلبوا البينة ممن أتى بشيء منه ولو كانت بلاغته منتهية إلى حد الإعجاز ما طلبوها «الخامس» أن في كل عصر من تنتهي إليه البلاغة وذلك غير موجب للإعجاز ولا للدلالة على صدق مدعي الرسالة لجواز أن يكون هو من انتهت إليه، وقيل هو اشتماله على الاخبار بالغيب ورد، أما أولا فبأن الإصابة في المرة والمرتين ليست من الخوارق والحد الذي يصير به الاخبار خارقا غير مضبوط فإذا لا يمتنع أن يقال ما اشتمل عليه القرآن لم يصل إليه، وأما ثانيا فبأنه يلزم أن يكون أخبار المنجمين والكهنة عن الأمور المغيبة مع كثرة إصابتها معجزة، وأما ثالثا فبأنه يلزم أن تكون التوراة كذلك لاشتمالها كاشتماله. وأما رابعا فبأنه يلزم أن يكون الخالي عن الاخبار بالغيب من القرآن غير معجز. وقيل هو كونه مع طوله وامتداده غير متناقض ولا مختلف وأبطل بوجهين «الأول» أنا لا نسلم عدم التناقض والاختلاف فيه أما التناقض فقوله تعالى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: ٦٩] والبحور كلها فيه وقال تعالى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: ١٠١] ثم قال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: ٢٧، الطور: ٢٥] وقال تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا [الكهف: ٥٥] فحصر المانع في أحد السببين وقال وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: ٩٤] فحصر المانع في غيرهما إلى غير ذلك، وأما الاختلاف فكقوله تعالى «كالصوف المنفوش» بدل كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: ٥] وقوله تعالى: «ضربت عليهم المسكنة والذلة» بدل قوله: الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة: ٦١] وقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: ٦] وهو أب لهم وقوله تعالى في خلق آدم مرة من تراب ومرة من حمأ ومرة من طين ومرة من صلصال على أن فيه تكرارا لفظيا ومعنويا كما في الرحمن وقصة موسى مثلا وتعرضا لإيضاح الواضحات كما في قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة:
١٩٦] وقال عثمان: إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها «الثاني» أنا لو سلمنا السلامة من جميع ذلك لكنه ليس بإعجاز إذ هو موجود في كثير من الخطب والشعر ويظهر كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار بتقدير التحدي بها، وقيل هو موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى ورد بأنه معتاد في أكثر كلام البلغاء وينتقض أيضا بكلام الرسول الغير المعجز وبالتوراة والإنجيل، وقيل إعجازه قدمه واعترض بأنه يستدعي أن يكون كل من صفاته تعالى كذلك وأيضا الكلام القديم مما لا يمكن الوقوف عليه فلا يتصور التحدي به «وقال» الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والنظام: إعجازه بصرف دواعي بلغاء العرب عن معارضته، وقال المرتضى: بسلبهم العلوم التي لا بد منها في المعارضة واعترض بأربعة أوجه «الأول» أنه يستلزم أن يكون المعجز الصرفة لا القرآن وهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين من قبل «الثاني» أن التحدي وقع بالقرآن على كل العرب فلو كان الإعجاز بالصرفة لكانت على خلاف المعتاد بالنسبة إلى كل واحد ضرورة تحقق الصرفة بالنسبة إليه فيكون الإتيان بمثل كلام القرآن معتادا له والمعتاد لكل ليس هو الكلام الفصيح بل خلافه فيلزم أن يكون القرآن كذلك وليس كذلك.
«الثالث» أنه يستلزم أن يكون مثل القرآن معتادا من قبل لتحقق الصرفة من بعد فتجوز المعارضة بما وجد من كلامهم مثل القرآن قبلها «الرابع» وهو خاص بمذهب المرتضى أنه لو كان الإعجاز بفقدهم العلوم لتناطقوا به ولو تناطقوا لشاع إذ العادة جارية بالتحدث بالخوارق فحيث لم يكن دل على فساد الصرفة بهذا الاعتبار، واستدل بعضهم على
29
فساد القول بها بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: ٨٨] الآية فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهم ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لأنه بمنزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ولا بأس بانضمامه إلى ما ذكرناه، وأما الاكتفاء به في الاستدلال فلا أظنك ترضاه. وقال الآمدي وغيره الإعجاز بجملته (١) وبالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وارتضاه الكثير، وقولهم فيما قيل: لا نسلم المخالفة إلخ يجاب عنه بأن ما ذكروه وإن كان على وزن الشعر إلا أنه لا يعد شعرا ولا قائله شاعرا لأن الشعر ما قصد وزنه وحيث لا قصد لا شعر وقد يعرض للبلغاء في سرد خطبهم المنسجمة مثل ذلك بل قد يتفق لمن لا يعرف الشعر رأسا من العوام كلمات متزنة نحو قول السيد لعبده مثلا ادخل السوق واشتر اللحم واطبخ، ولهذا
قال الوليد (٢) :«لما قرأ عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن فكأنما رق له فاقترح عليه أبو جهل أن يقول فيه ما يبلغ قومه أنه منكر له وكاره ماذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيدة ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وو الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته»
وقولهم: إنا لو سلمنا إلخ مسلم لكن لا يلزم أن لا يكون مع البلاغة والاخبار بالغيب معجزا ومن هنا يعلم الجواب عن الاعتراض على أن وجه إعجازه بلاغته على أن الأوجه الخمسة التي ذكروها فيه باطلة.
«أما الأول» فلأن التفاوت بين لمن تحدى به من البلغاء ولذا لم يعارض وغيرهم عم عن ذلك لقصوره في الصناعة فلا اعتداد به ولا مضرة لثبوت الإعجاز بعجز أولئك ثم قياس أقصر سورة على ما ذكروه (٣) عدول عن سواء السبيل «وأما الثاني» فلأن القدرة على البعض لا تستلزم القدرة على الكل ولهذا نجد الكثير قادرا على بليغ فقرة أو فقرتين أو بيت أو بيتين ولا يقدر على وضع خطبة ولا نظم قصيدة.
«وأما الثالث» فلأن الصحابة لم يختلفوا فيما اختلفوا فيه أنه نازل على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من ربه أو أن بلاغته غير معجزة ولكنهم اختلفوا في أنه قرآن وذلك لا يضر فيما نحن بصدده.
«وأما الرابع» فلأن طلب البينة لما قدمناه في الفائدة السادسة أو للوضع والترتيب كما قيل أو لمزيد الاحتياط في الأمر الخطير «وأما الخامس» فلأن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب ويبلغ فيه الغاية القصوى ويوقف فيه على الحد المعتاد حتى إذا شوهد ما هو خارج عن الحد علم أنه من عند الله وإلا لم يتحقق عند القوم معجزة النبي ولظنوا أنهم لو كانوا من أهل تلك الصنعة أو متناهين فيها لأمكنهم أن يأتوا بمثلها والبلاغة قد بلغت في ذلك العهد حدها وكان فيها فخارهم حتى علقت السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها فلما أتى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بما عجزوا عن مثله مع كثرة المنازعة والتشاجر والافتراق علم أن ذلك من عند الله تعالى بلا ريب، واعتراضهم على كون الأخبار بالغيب معجزا مكابرة فإن الاخبار عن الغائبات مع التكرر والإصابة غير معتاد ولا معنى لكونه معجزا غير هذا وما ذكروه من الوجوه باطل.
«أما الأول» فلأنه لا يلزم من عدم كون الإصابة في المرة والمرتين من الخوارق أن لا تكون الإصابة في الكرات
(١) كون الإعجاز بجملته نسبة الإمام السيوطي لبعض المعتزلة وقد ورد التحدي بكل القرآن وبعشر سور وبسورة قيل ولو قصيرة لظاهر الإطلاق وقيل تبلغ مبلغا يتبين فيه رتب ذوي البلاغة فأفهم وتدبر اهـ منه.
(٢) والخبر طويل أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس اهـ منه.
(٣) على انه يكفينا في الغرض كون القرآن بجملته أو بسوره الطوال معجزا فافهم اهـ منه.
30
الكثيرة منها والضابط العرف ولا يخفى أن ما ورد من أخبار الغيب في القرآن مما يعد في نظر أهل العرف كثيرا لا تعتاد الإصابة فيه بجملته «وأما الثاني» فلأن أخبار المنجمين ما كان كاذبا منها لا احتجاج وما كان صادقا وتكررت الإصابة فيه كالكسوف والخسوف غير وارد لأنه من الحساب المعتاد لمن يتعاطى صناعة التنجيم وأخبار القرآن بالغيوب ليست كذلك وأما أخبار الكهنة فالقول فيها كما في السحر.
«وأما الثالث» فلأن ما في التوراة من الأخبار بالغيب إن كان كثيرا خارقا للعادة ووقع التحدي به فهو أيضا معجز وآية صدق لمن أتى به ولا يضرنا التزام ذلك «وأما الرابع» فلأنه لا يرد على من يقول وجه الإعجاز مجموع ما تقدم أصلا. ومن يقول وجهه مجرد الإخبار بالغيب يقول بأن الخالي من ذلك غير معجز وإنما الإعجاز في القرآن بجملته ويكفي ذلك في غرضه، والاعتراض على كون وجه الإعجاز عدم التناقض والاختلاف مع الطول والامتداد بوجهيه مدفوع «أما الأول» فلأن اشتمال القرآن على الشعر قد سبق جوابه فلا يناقض وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس: ٦٩] وأما الآيتان الأوليتان فقد أجاب عنهما ابن عباس حين سأله رجل عن آيات من هذا القبيل بأن نفى المسألة قبل النفخة الثانية وإثباتها فيما بعد، والسدي بأن نفى المسألة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فيما عداها وابن مسعود بأن المسألة المنفية طلب بعضهم العفو من بعض والمثبتة على ظاهر معناها فلا منافاة. وأما الآيتان الأخريتان فمعنى الأولى منهما وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الإسراء: ٩٤، الكهف: ٥٥] إلا إرادة الله أن تأتيهم سنة الأولين من نحو الخسف أو يأتيهم العذاب قبلا في الآخرة ولا شك أن إرادة الله تعالى مانعة من وقوع ما ينافي المراد، فهذا حصر في السبب الحقيقي. ومعنى الثانية «وما منع الناس أن يؤمنوا» إلا استغراب بعثة البشر رسولا وهو مدلول القول التزاما والدال لا يناسب المانعية والمدلول ليس مانعا حقيقيا بل عادي لجواز وجود الإيمان معه فهو حصر في المانع العادي فلا تناقض وسيأتي لهذا إن شاء الله تعالى زيادة تحقيق.
وكذا لأمثاله مما يضيق عنه هذا المبحث، وأما الاختلاف المذكور فليس هو المنفي في قوله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: ٨٢] لأن المراد به أحد أمرين، الأول الاختلاف المناقض للبلاغة، والثاني الاختلاف فيما أخبر عنه من قصص الماضين وسير الأولين مع أمية من جاء به وعدم دراسته للعلوم ومطالعته للكتب ولا شك أنه لم يوجد في القرآن شيء من هذه الاختلافات على أن أمثال بعض ما ذكر من الاختلاف ليس بقرآن لأنه لم يتواتر وأمثال البعض الآخر اختلاف مقال لاختلاف الأحوال، والمرجع إلى جوهر واحد وهو التراب في خلق آدم مثلا ومنه تدرجت تلك الأحوال وأي ضرر في ذلك، وأما التكرار اللفظي والمعنوي فلا يخلو عن فائدة لا تحصل من غير تكرار كبيان اتساع العبارة وإظهار البلاغة وزيادة التأكيد والمبالغة إلى غير ذلك مما قد أمعن المفسرون في تحقيقه وبيانه وستراه بحوله تعالى، وأما ما يتوهم فيه أنه من قبيل إيضاح الواضحات فليس يخلو عن درء احتمال ورفع خيال، فإنه لو لم يقل فيما ذكر من الآية تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: ١٩٦] لتوهم ولو على بعد أن المراد وتمام سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ [البقرة: ١٩٦] بل في ذلك غير هذا أسرار ستأتيك بعون باريك، وأما قول عثمان إن في القرآن لحنا إلخ فهو مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة أولا اللحن في الكلام فضلا عن القرآن وهم هم ثم كيف يظن بهم ثانيا اجتماعهم على الخطأ وكتابته ثم كيف يظن بهم ثالثا عدم التنبه والرجوع ثم كيف يظن بعثمان عدم تغييره وكيف يتركه لتقيمه العرب وإذا كان الذين تولوا جمعه لم يقيموه وهم الخيار فكيف يقيمه غيرهم فلعمري إن هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة.
فالحق إن ذلك لا يصح عن عثمان والخبر ضعيف مضطرب منقطع. وقد أجابوا عنه بأجوبة لا أراها تقابل مؤنة
31
نقلها والذي أراه أن رواة هذا الخبر سمعوا شيئا ولم يتقنوه فحرفوه فلزم الإشكال وحل الداء العضال وهو ما روي بالسند عن عبد الله بن عبد الأعلى قال: لما فرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه فقال أحسنتم وأجملتم أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا، وهذا لا إشكال فيه لأنه عرض عليه عقيب الفراغ من كتابته فرأى فيه ما كتب على غير لسان قريش ثم وفى بذلك عند العرض والتقويم ولم يترك فيه شيئا ولا أحسبك في مرية من ذلك. نعم يبقى ما روي بسند صحيح على شرط الشيخين عن هشام بن عروة عن أبيه قال سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى:
إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: ٦٣] وعن قوله: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: ١٦٢] وعن قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: ٦٩] ؟ فقالت يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطؤوا في الكتاب، وكذا ما روي عن سعيد بن جبير كان يقرأ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ويقول هو لحن من الكاتب ويجاب عن الأول بأن معنى قولها أخطؤوا أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوه من ذلك خطأ لا يجوز فإن ما لا يجوز مردود وإن طالت مدة وقوعه، وهذا الذي رأته عائشة وكم لها من رأي رضي الله تعالى عنها. وعن الثاني بأن معنى قوله لحن من الكاتب لغة وقراءة له وفي الآية قراءة أخرى وللنحويين في توجيه هذه القراءات كلام طويل ستسمعه فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما الوجه الثاني «فلأن من ذهب» إلى أن وجه الإعجاز عدم التناقض والاختلاف مع الطول والامتداد يقول القرآن بجملته معجز. لذلك فسلامة كثير من الخطب والشعر من ذلك وظهور ذلك كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار لا يضره شيئا كما لا يخفى فتدبر.
وقد أطال العلماء الكلام على وجه إعجاز القرآن وأتوا بوجوه شتى الكثير منها خواصه وفضائله مثل الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأنه لا يمله تاليه بل يزداد حبا له بالترديد مع أن الكلام يعادي إذا أعيد وكونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله تعالى بحفظه والذي يخطر بقلب هذا الفقير أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجز بالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وموافقته لقضية العقل ودقيق المعنى وقد يظهر كلها في آية وقد يستتر البعض كالإخبار عن الغيب ولا ضير ولا عيب فما يبقى كاف وفي الغرض واف.
نجوم سماء كلما انقضّ كوكب بدا كوكب تأوي إليه كواكب
أما بيان كون النظم معجزا فلأن مراتب تأليف الكلام على ما قيل خمس «الأولى» ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض فتحصل الكلمات الثلاث الاسم والفعل والحرف «والثانية» تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض فتحصل الجمل المفيدة وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعا في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ويقال له: المنثور «والثالثة» ضم ذلك إلى بعض ضما له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج ويقال له المنظوم «والرابعة» أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ويقال له المسجع «والخامسة» أن يحصل له مع ذلك وزن ويقال له إن قصد الشعر والمنظوم إما محاورة ويقال له الخطابة وإما مكاتبة ويقال له الرسالة فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ولكل من ذلك نظم مخصوص والقرآن جامع لمحاسن الجميع بنظم مكتس أبهى حلل، ومتعر عن كل خلل، ومشتمل على خواص ما شامها سواه، ومزايا ما سامها عند أهل النقد نظم إلا إياه.
من كل لفظ تكاد الأذن تجعله ربا ويعبده القرطاس والقلم
ويؤيد ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو سجع كما يصح أن يقال هو كلام، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم بلا ترديد وهذا مما لا خفاء فيه على الرجال حتى على الوليد، وأما بيان ذلك في البلاغة فهو أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب
32
السهل، ومنها الجاري الطلق الرسل وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود فالأول أعلاها والثاني أوسطها والثالث أدناها وأقربها وقد حازت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الأقسام أوفر حصة وأخذت من كل نوع أعظم شعبة فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما كالمتضادين فكان اجتماع الأمرين فيه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة ومنزلة جليلة وقد خص بذلك القرآن كما لا يخفى (١) على ذوي الفطر السليمة ومن كان له في علم البلاغة إتقان. وأما بيان إعجاز اشتماله على الإخبار بالغيب فلأنه تضمن ما يحكم العرف بكثرته من أخبار القرون الماضية والأمم البادية والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك وتتبعه فيورده القرآن على وجهه ويأتي به على نصه، ومن المعلوم أن من أتى به أمي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله تعالى عليه وسلم مع الإعلام بما في ضمائر كثيرين من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران: ١٢٢] وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [المجادلة: ٨] والإعلان بالحوادث المستقبلة في الأعصار الآتية كقوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: ١- ٤] وأخبار أقوام في قضايا أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا كقوله تعالى خطابا لليهود فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: ٩٤] فما تمناه أحد منهم إلى أضعاف مضاعفة من مثل ذلك قد اشتمل القرآن عليها واختص من بين الكتب بها حتى أن أقصر سورة فيه وهي الكوثر تشير إلى أربعة أخبار عن الغيب مع أنها ثلاث آيات «الأول» في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:
١] إذا أريد به كما في بعض الروايات كثرة الأتباع «والثاني» في قوله «وانحر» حيث أريد به كما هو الظاهر الأمر بالنحر فهو إشارة إلى اليسار حتى يمكنه الإقدام عليه «والثالث والرابع» في قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر:
٣] حيث صرح ورمز بأن شانئك لا أنت أبتر لا عقب له فكان كما أخبر ولا شك عند كل عاقل أن مجموع ما ذكرنا يعجز عنه البشر وأما إعجاز موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى فلأنه اشتمل على توحيد الله تعالى وتنزيهه والدعاء إلى طاعته وبيان طرق عبادته من تحليل وتحريم ووعظ وتعليم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإشارة إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى أولى منه ولا أليق ولا يتصور أحرى من ذاك ولا أخلق جامعا بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه وامتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه مع إشارة أنيقة ورموز دقيقة وأسرار جزيلة وحكم جليلة ستقف إن شاء الله تعالى على الكثير منها بحيث لا تبقى في شك من رد من يقول بأن ذلك معتاد في أكثر كلام البلغاء وأنه ينتقض بالتوراة والإنجيل وبكلام الرسول الغير المعجز فأين الثريا من يد المتناول.
وما كل مخضوب البنان بثينة ولا كل مصقول الحديد يماني
فهذه الأوجه الأربعة هي الظاهرة في وجه إعجاز القرآن والمشهور عند الجمهور الاقتصار على بلاغته وفصاحته حيث بلغت الرتبة العليا والغاية القصوى التي لم تكد تخفى على أهل هذا الشأن حتى النساء كما يحكى أن الأصمعي وقف متعجبا من امرأة تنشد شعرا فقالت أتعجب من هذا أين أنت من قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: ٧] ؟ فقد
(١) وقال السكاكي اعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن والملاحظة وطيب النغم ولا يدرك تفصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علم المعاني والبيان والتمرن فيهما فليفهم اهـ منه.
33
جمع أمرين ونهيين وبشارتين أي مع ما فيه مما يدرك بالذوق وبعضهم جعل المدار النظم المخصوص والباقي تابع له قائلا إن الإعجاز المتعلق بالفصاحة والبلاغة لا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى فإن الألفاظ ألفاظهم كما قال تعالى قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣، يوسف: ٢، طه: ١١٣، الزمر: ٢٨، فصلت: ٣، الشورى: ٧] بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ [الشعراء: ١٩٥] ولا بمعانيه فإن كثيرا منها موجود في الكتب المتقدمة كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: ١٩٦] وما فيه من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد والإخبار بالغيب فإعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن بل لكونه حاصلا من غير سبق تعليم وتعلم ولكون الإخبار بالغيب إخبارا بما لا يعتاد سواء كان بهذا النظم أو بغيره موردا بالعربية أو بلغة أخرى بعبارة أو إشارة، فإذا هو متعلق بالنظم المخصوص الذي هو صورة القرآن وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره كالخاتم والقرط والسوار إذا كان الكل من ذهب مثلا فإن الاسم مختلف والعنصر واحد وكالخاتم المتخذ من ذهب وفضة وحديد يسمى خاتما والعنصر مختلف فظهر أن الإعجاز المختص بالقرآن متعلق بنظمه المخصوص وإعجاز نظمه قد سلف بيانه وأنت تعلم ما فيه وإن كان قريبا إلى الحق، وأبعد الأقوال عندي كونه بالصرفة المحضة حتى أن قول المرتضى فيها غير مرتضى كما لا يخفى على من أنصفه ذهنه واتسع عطنه، وأبعد من ذلك كونه بالقدم كما هو قريب ممن هو حديث عهد بما تقدم- وسيأتي إن شاء الله تعالى- تتمة لهذا الكلام من بيان اختلاف الناس أيضا في تفاوت مراتب الفصاحة والبلاغة في آياته ويتضح لك ما هو الحق الحقيق بالقبول والله تعالى المبتغى والمسئول، ولنقتصر من الفوائد على هذا المقدار وفي السبعة ما لا يحصى من الأسرار، وهذا أوان تقبيل شفاه الأقلام، حروف سبحان كلام الله تعالى العلام.
34
سورة الفاتحة
اختلف فيها، فالأكثرون على أنها مكية بل من أوائل ما نزل من القرآن على قول (١) وهو المروي عن علي وابن عباس وقتادة وأكثر الصحابة وعن مجاهد أنها مدنية (٢) وقد تفرد بذلك حتى عد هفوة منه، وقيل: نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة لما حولت القبلة ليعلم أنها في الصلاة كما كانت وقيل بعضها مكي وبعضها مدني ولا يخفى ضعفه، وقد لهج الناس بالاستدلال على مكيتها بآية الحجر وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: ٨٧] وهي مكية لنص العلماء والرواية عن ابن عباس ولها حكم مرفوع لا لأن ما قبلها وما بعدها في حق أهل مكة كما قيل لأنه مبني على أن المكي ما كان في حق أهل مكة والمشهور خلافه، والأقوى الاستدلال بالنقل عن الصحابة الذين شاهدوا الوحي والتنزيل لأن ذلك موقوف أولا على تفسير السبع المثاني بالفاتحة وهو وإن كان صحيحا ثابتا في الأحاديث (٣) إلا أنه قد صح أيضا عن ابن عباس وغيره تفسيرها بالسبع الطوال، وثانيا على امتناع الامتنان بالشيء قبل إيتائه مع أن الله تعالى قد امتن عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بأمور قبل إيتائه إياها كقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: ١] فهو قبل الفتح بسنين والتعبير بالماضي تحقيق للوقوع وهذا وإن كان خلاف الظاهر لا سيما مع إيراد اللام وكلمة «قد» ووروده في معرض المنة والغالب فيها سبق الوقوع وعطف وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ [الحجر: ٨٨، طه: ١٣١] الآية إلا أنه قد خدش الدليل، لا يقال: إن هذا وذلك لا يدلان إلا على أنها نزلت بمكة، وأما على نفي نزولها بالمدينة أيضا فلا لأنا نقول: النفي هو الأصل وعلى مدعي الإثبات الإثبات وأنى به وما قالوا في الجواب عن الاعتراض بأن النزول ظهور من عالم الغيب إلى الشهادة والظهور بها لا يقبل التكرر فإن ظهور الظاهر ظاهر البطلان كتحصيل الحاصل من دعوى أنه كان في كل لفائدة أو أنه على حرف مرة وآخر أخرى لورود مالك وملك أو ببسملة تارة وتارة بدونها وبه تجمع المذاهب والروايات مصحح للوقوع لا موجب له كما لا يخفى، والسورة مهموزة وغير مهموزة بإبدال إن كانت من السور وهو البقية لأن بقية كل شيء بعضه وبدونه إن كانت من
(١)
فقد روينا عن أبي ميسرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا برز سمع مناديا يناديه يا محمد فإذا سمع الصوت انطلق هاربا فقال له ورقة بن نوفل إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك قال فلما برز سمع النداء: يا محمد قال لبيك قال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) حتى فرغ من فاتحة القرآن
ولولا صحة الأخبار على غير هذا النحو كان هذا الخبر أقوى دليل على مكيتها فافهم اهـ.
(٢) ويلزم منه أنه صلّى الله عليه وسلم صلى بضع عشرة سنة بلا فاتحة وهي خاتمة في البعد اهـ منه.
(٣)
فقد روينا عن أبي هريرة قال «إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن فقال والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
اهـ منه.
35
سورة النّاس
وتسمى مع ما قبلها كما أشرنا إليه قبل بالمعوذتين بكسر الواو والفتح خطأ وكذا بالمقشقشتين وتقدم الكلام في أمر مكيتها ومدنيتها وهي ست آيات لا سبع وإن اختاره بعضهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ وقرىء في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام كما قرىء فخذ أربعة بِرَبِّ النَّاسِ أي مالك أمورهم ومربيهم بإفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم، وأمال الناس هنا أبو عمرو والدوري عن الكسائي وكذا في كل موضع وقع فيه مجرورا مَلِكِ النَّاسِ عطف بيان على ما اختاره الزمخشري جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم ليست بطريق تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي والسلطان القاهر وكذا قوله تعالى إِلهِ النَّاسِ فإنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمور سياستهم والتولي لترتيب مبادئ حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة وإيجادا وإعداما. وجوزت البدلية أيضا وأنت تعلم أنه لا مانع منه عقلا ثم ما هنا وإن لم يكن جامدا فهو في حكمه، ولعل الجزالة دعت إلى اختياره وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظامهم جميع العالم في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته على ما في الإرشاد للإرشاد إلى منهاج الاستعاذة الحقيقية بالإعاذة فإن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه بالمربوبية والمملوكية والعبودية في ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعي مزيد الرحمة والرأفة، وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففي التنصيص على انتظامهم في سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطق به قوله تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢] واقتصر بعض الأجلة في بيان وجه التخصيص على كون الاستعاذة هنا من شر ما يخص النفوس البشرية وهي الوسوسة كما قال تعالى مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ وبحث فيه بعد الإغماض عما فيه
524
من القصور في توفية المقام حقه بأن شر الموسوس كما يلحق النفوس يلحق الأبدان أيضا وفيه شيء سنشير إن شاء الله تعالى إليه. واختار هذا الباحث في ذلك أنه لما كانت الاستعاذة فيما سبق من شر كل شيء أضيف الرب إلى كل شيء أي بناء على عموم الفلق، ولما كانت هنا من شر الوسواس لم يضف إلى كل شيء وكان النظر إلى السورة السابقة يقتضي الإضافة إلى الوسواس لكنه لم يضف إليه حطا لدرجته عن إضافة الرب إليه بل إلى المستعيذ، وكان في هذا الحط رمزا إلى الوعد بالإعاذة وهو الذي يجعل لما ذكر حظا في أداء حق المقام. ، وربما يقال إن في إضافة الرب إلى الناس في آخر سورة من كتابه تذكير الأول أمر عرفوه في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإقرار به فيما بعد كما أشار إليه قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: ١٧٢] الآية فيكون في ذلك تحريض على الاستعاذة من شر الوسواس لئلا يتدنس أمر ذلك العهد، وفيه أيضا رمز إلى الوعد الكريم بالإعاذة.
وذكر القاضي أن في النظم الجليل إشعارا بمراتب الناظر المتوجه لمعرفة خالقه فإنه يعلم أولا بما يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربا ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه سبحانه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه فهو الملك الحق، ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير. ويندرج في وجوه الاستعاذة المعتادة تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات فإن عادة من ألم به هم أن يرفع أمره لسيده ومربيه كوالديه فإن لم يقدر على رفعه رفعه لملكه وسلطانه فإن لم يزل ظلامته شكاه إلى ملك الملوك ومن إليه المشتكى والمفزع، وفي ذلك إشارة إلى عظم الآفة المستعاذ منها. ولابن سينا هاهنا كلام تتحرج منه الأقلام كما لا يخفى على من ألم به وكان له بالشريعة المطهرة أدنى إلمام. وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة وقيل لا تكرار فإنه يجوز أن يراد بالعام بعض أفراده فالناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية، والثاني الكهول والشبان لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم، والثالث الشيوخ المتعبدون المتوجهون لله تعالى وهو على ما فيه يبعده حديث إعادة الشيء معرفة وإن كان أغلبيا. والوسواس عند الزمخشري اسم مصدر بمعنى الوسوسة والمصدر بالكسر وهو صوت الحلي والخمس الخفي، ثم استعمل في الخطرة الردية وأريد به هاهنا الشيطان، سمي بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة أو الكلام على حذف مضاف أي ذي الوسواس. وقال بعض أئمة العربية: إن فعلل ضربان صحيح كدحرج وثنائي مكرر كصلصل ولهما مصدران مطردان فعللة وفعلال بالكسر وهو أقيس، والفتح شاذ لكنه كثر في المكرر كتمتام وفأفأة، ويكون للمبالغة كفعال في الثلاثي كما قالوا وطواط للضعيف وثرثار للمكثر، والحق أنه صفة فليحمل عليه ما في الآية الكريمة من غير حاجة إلى التجوز أو حذف المضاف. وقد تقدم في سورة الزلزال ما يتعلق بهذا المبحث فتذكر فما في العهد من قدم والظاهر أن المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس، ومآله إلى الاستعاذة من شر وسوسته وقيل المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل من شر الوسواس ولم يقل من وسوسة الوسواس قيل: وعليه يكون القول بأن شره يلحق البدن كما يلحق النفس أظهر منه على الظاهر وعد من شره أنه كما في صحيح البخاري يعقد على قافية رأس العبد إذ هو نام ثلاث عقد مراده بذلك منعه من اليقظة وفي عد هذا من الشر البدني خفاء، وبعضهم عد منه التخبط إذا لحق عند أهل السنة أنه قد يكون من مسه كما تقدم في موضعه.
وقوله تعالى الْخَنَّاسِ صيغة مبالغة أو نسبة أي الذي عادته أن يخنس ويتأخر إذا ذكر الإنسان ربه عز
525
وجل. أخرج الضياء في المختارة والحاكم وصححه وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس قال: ما من مولود يولد إلّا على قلبه الوسواس فإذا عقل فذكر الله تعالى خنس، فإذا غفل وسوس، وله على ما روي عن قتادة خرطوم كخرطوم الكلب، ويقال إن رأسه كرأس الحية.
وأخرج ابن شاهين عن أنس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن للوسواس خطما كخطم الطائر، فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس فإن ذكر الله تعالى نكص وخنس فلذلك سمي الوسواس الخناس».
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ قيل أريد قلوبهم مجازا. وقال بعضهم: إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ولا مانع عقلا من دخوله في جوف الإنسان وقد ورد السمع به كما سمعت فوجب قبوله والإيمان به، ومن ذلك
«إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم»
. ومن الناس من حمله على التمثيل وقال في الآية إنها لا تقتضي الدخول كما ينادي عليه البيان الآتي. وقال ابن سينا: الوسواس القوة التي توقع الوسوسة وهي القوة المتخيلة بحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية ثم إن حركتها تكون بالعكس فإن النفس وجهتها إلى المبادئ المفارقة فالقوة المتخيلة إذا أخذتها إلّا الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنس أي تتحرك بالعكس وتجذب النفس الإنسانية إلى العكس فلذلك تسمى خناسا، ونحوه ما قيل إنه القوة الوهمية فهي تساعد العقل في المقدمات فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه، ولا يخفى أن تفسير كلام الله تعالى بأمثال ذلك من شر الوسواس الخناس. والقاضي ذكر الأخير عن سبيل التنظير لا على وجه التمثيل والتفسير بناء على حسن الظن به ومحل الموصول، إما الجر على الوصف وإما الرفع والنصب على الذم والشتم، ويحسن أن يقف القارئ على أحد هذين الوجهين على الْخَنَّاسِ وأما على الأول ففي الكواشي أنه لا يجوز الوقف وتعقبه الطيبي بأن في عدم الجواز نظر للفاصلة وفي الكشف أنه إذا كان صفة فالحسن غير مسلم اللهم إلّا على وجه وهو أن الوقف الحسن شامل لمثله في فاصلة خاصة مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس على أنه ضربان جني وإنسي كما قال تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: ١١٢] أو متعلق بيوسوس، ومِنَ لابتداء الغاية، أي يوسوس في صدورهم من جهة الجن مثل أن يلقي في قلب المرء من جهتهم أنهم ينفعون ويضرون، ومن جهة الناس مثل أن يلقي في قلبه من جهة المنجمين والكهان وأنهم يعلمون الغيب. وجوز فيه الحالية من ضمير يُوَسْوِسُ والبدلية من قوله تعالى مِنْ شَرِّ بإعادة الجار وتقدير المضاف والبدلية من الوسواس على أن مِنَ تبعيضية. وقال الفرّاء وجماعة: هو بيان للناس بناء على أنه يطلق على الجن أيضا فيقال كما نقل عن الكلبي: ناس من الجن كما يقال نفر ورجال منهم، وفيه أن المعروف عند الناس خلافه مع ما في ذلك من شبه جعل قسم الشيء قسيما له ومثله لا يناسب بلاغة القرآن وإن سلم صحته، وتعقب أيضا بأنه يلزم عليه القول بأن الشيطان يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس ولم يقم دليل عليه. ولا يجوز جعل الآية دليلا لما لا يخفى وأقرب منه على ما قيل أن يراد بالناس الناسي بالياء مثله في قراءة بعضهم مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [البقرة: ١٩٩] بالكسر ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: ٦] ثم يبين بالجنة والناس فإن كل فرد من أفراد الفريقين مبتلى بنسيان حق الله تعالى إلّا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته. جعلنا الله ممن نال من عصمته الحظ الأوفى وكال له مولاه من رحمته فأوفى. ثم إنه قيل إن حروف هذه السورة غير المكرر اثنان وعشرون حرفا وكذا حروف الفاتحة وذلك بعدد السنين التي أنزل فيها القرآن فليراجع، وبعد أن يوجد الأمر كما ذكر لا يخفى أن كون سني النزول اثنتين وعشرين سنة قول لبعضهم. والمشهور أنها ثلاث وعشرون اه. ومثل هذا الرمز ما قيل
526
إن أول حروفه الباء وآخرها السين كأنه قيل «بس» أي حسب ففيه إشارة إلى أنه كاف عما سواه ورمز إلى قوله تعالى ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨] وقد نظم ذلك بعض الفرس فقال:
أول وآخر قرآن زجه با آمد وسين يعني اندر دو جهان رهبر ما قرآن بس
ومثله من الرموز كثير لكن قيل لا ينبغي أن يقال إنه مراد الله عز وجل. نعم قد أرشد عز وجل في هذه السورة إلى الاستعانة به تعالى شأنه كما أرشد جل وعلا إليها في الفاتحة بل لا يبعد أن يكون مراده تعالى على القول بأن ترتيب السور بوحيه سبحانه من ختم كتابه الكريم بالاستعاذة به تعالى من شر الوسواس الإشارة كما في الفاتحة إلى جلالة شأن التقوى والرمز إلى أنها ملاك الأمر كله وبها يحصل حسن الخاتمة، فسبحانه من ملك جليل ما أجل كلمته ولله در التنزيل ما أحسن فاتحته وخاتمته. وبعد فهذا والحمد لله تأويل رؤياي من قبل، قد جعلها ربي حقا، فأسعدني وله الشكر بالتوفيق لتفسير كتابه العزيز الذي لا يذل من لاذ به ولا يشقى، فإذ وفقتني يا إلهي لتفسير عبارته، ووفقتني على ما شئت من مضمر إشارته، فاجعلني يا رباه ممن يعتصم بمحكم حبله، ويتمسك بعروته الوثقى، ويأوي من المتشابهات إلى حرز معقله، ويستظل بظلال كهفه الأوفى، وأعذني به من وساوس الشيطان ومكائده، ومن الارتباك بشباك غروره ومصائده، واجعله وسيلة لي إلى أشرف منازل الكرامة وسلما أعرج فيه إلى محل السلامة، فطالما يا إلهي أسهرتني آياته، حتى خفقت برأسي سنة الكرى، فلم أفق إلّا وقد لطمتني من صفاح صحائف سورة ذات سوار. وكم وكم سرت بي يا مولاي عباراته، حتى حققت لي دعوى عند الصباح يحمد القوم السرى. فلم أشعر إلّا وقد تلفعت نواعس السوادي من فضل مئزر مهاة الصبح بخمار، ولم أزل أسود الأوراق في تحرير ما أفضت عليّ حتى بيض نسخة عمري المشيب، وأجدد النظر بتحديق الأحداق، فيما أفيضت به من المشايخ إليّ حتى بلي برد شبابي القشيب. هذا مع ما قاسيته من خليل غادر، وجليل جائر، وزمان غشوم، وغيوم وابلها غموم، إلى أمور أنت بها يا إلهي أعلم، ولم يكن لي فيها سواك من يرحم. وأكثر ذلك يا إلهي قد كانت حيث أهلتني لخدمة كتابك، ومننت عليّ من غير حد بالفحص عن مستودعات خطابك فاكفني اللهم بحرمته مؤنة معرة العباد، وهب لي أمن يوم المعاد وأعذني بلطفك وأعذني بنعمتك ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى، واسلك بي الطريقة المثلى، وذودني مطيات الهدى وزودني باقيات التقى، وأصلح ذريتي، وبلغني بهم أمنيتي، واجعلهم علماء عاملين وهداة مهديين، وكن لي ولهم في جميع الأمور واحفظني واحفظهم من فتن دار الغرور وأيّد اللهم خليفتك في خليقتك، ووفقه بحرمة كلامك لإعلاء كلمتك، وصل وسلم على روح معاني الممكنات على الإطلاق وروح معاني قلوب المؤمنين والمؤمنات في سائر الآفاق وعلى آله وأصحابه، وكل من سلك سنن سنته واقتفى وقال في ظلال ظليل شريعته قائلا حسبي ذلك وكفى. وقد صادف تسليم القلم ركوعه وسجوده، في ظلم دياجي المداد، واضطجاعه في بيت الدواة، بعد قيامه على ساق الخدمة لكتاب رب العباد، ليلة الثلاثاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ألف ومائتين وسبع وستين، من هجرة سيد الأوائل والأواخر، صلّى الله عليه وسلم، وجاء تاريخه (أكمل تفسيري روح المعاني) والحمد لله باطنا وظاهرا وله سبحانه الشكر أولا وآخرا.
527
سورة النّاس
وتسمى مع ما قبلها كما أشرنا إليه قبل بالمعوذتين بكسر الواو والفتح خطأ وكذا بالمقشقشتين وتقدم الكلام في أمر مكيتها ومدنيتها وهي ست آيات لا سبع وإن اختاره بعضهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ وقرىء في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام كما قرىء فخذ أربعة بِرَبِّ النَّاسِ أي مالك أمورهم ومربيهم بإفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم، وأمال الناس هنا أبو عمرو والدوري عن الكسائي وكذا في كل موضع وقع فيه مجرورا مَلِكِ النَّاسِ عطف بيان على ما اختاره الزمخشري جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم ليست بطريق تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي والسلطان القاهر وكذا قوله تعالى إِلهِ النَّاسِ فإنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمور سياستهم والتولي لترتيب مبادئ حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة وإيجادا وإعداما. وجوزت البدلية أيضا وأنت تعلم أنه لا مانع منه عقلا ثم ما هنا وإن لم يكن جامدا فهو في حكمه، ولعل الجزالة دعت إلى اختياره وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظامهم جميع العالم في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته على ما في الإرشاد للإرشاد إلى منهاج الاستعاذة الحقيقية بالإعاذة فإن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه بالمربوبية والمملوكية والعبودية في ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعي مزيد الرحمة والرأفة، وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففي التنصيص على انتظامهم في سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطق به قوله تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢] واقتصر بعض الأجلة في بيان وجه التخصيص على كون الاستعاذة هنا من شر ما يخص النفوس البشرية وهي الوسوسة كما قال تعالى مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ وبحث فيه بعد الإغماض عما فيه
524
من القصور في توفية المقام حقه بأن شر الموسوس كما يلحق النفوس يلحق الأبدان أيضا وفيه شيء سنشير إن شاء الله تعالى إليه. واختار هذا الباحث في ذلك أنه لما كانت الاستعاذة فيما سبق من شر كل شيء أضيف الرب إلى كل شيء أي بناء على عموم الفلق، ولما كانت هنا من شر الوسواس لم يضف إلى كل شيء وكان النظر إلى السورة السابقة يقتضي الإضافة إلى الوسواس لكنه لم يضف إليه حطا لدرجته عن إضافة الرب إليه بل إلى المستعيذ، وكان في هذا الحط رمزا إلى الوعد بالإعاذة وهو الذي يجعل لما ذكر حظا في أداء حق المقام. ، وربما يقال إن في إضافة الرب إلى الناس في آخر سورة من كتابه تذكير الأول أمر عرفوه في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإقرار به فيما بعد كما أشار إليه قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: ١٧٢] الآية فيكون في ذلك تحريض على الاستعاذة من شر الوسواس لئلا يتدنس أمر ذلك العهد، وفيه أيضا رمز إلى الوعد الكريم بالإعاذة.
وذكر القاضي أن في النظم الجليل إشعارا بمراتب الناظر المتوجه لمعرفة خالقه فإنه يعلم أولا بما يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربا ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه سبحانه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه فهو الملك الحق، ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير. ويندرج في وجوه الاستعاذة المعتادة تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات فإن عادة من ألم به هم أن يرفع أمره لسيده ومربيه كوالديه فإن لم يقدر على رفعه رفعه لملكه وسلطانه فإن لم يزل ظلامته شكاه إلى ملك الملوك ومن إليه المشتكى والمفزع، وفي ذلك إشارة إلى عظم الآفة المستعاذ منها. ولابن سينا هاهنا كلام تتحرج منه الأقلام كما لا يخفى على من ألم به وكان له بالشريعة المطهرة أدنى إلمام. وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة وقيل لا تكرار فإنه يجوز أن يراد بالعام بعض أفراده فالناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية، والثاني الكهول والشبان لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم، والثالث الشيوخ المتعبدون المتوجهون لله تعالى وهو على ما فيه يبعده حديث إعادة الشيء معرفة وإن كان أغلبيا. والوسواس عند الزمخشري اسم مصدر بمعنى الوسوسة والمصدر بالكسر وهو صوت الحلي والخمس الخفي، ثم استعمل في الخطرة الردية وأريد به هاهنا الشيطان، سمي بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة أو الكلام على حذف مضاف أي ذي الوسواس. وقال بعض أئمة العربية: إن فعلل ضربان صحيح كدحرج وثنائي مكرر كصلصل ولهما مصدران مطردان فعللة وفعلال بالكسر وهو أقيس، والفتح شاذ لكنه كثر في المكرر كتمتام وفأفأة، ويكون للمبالغة كفعال في الثلاثي كما قالوا وطواط للضعيف وثرثار للمكثر، والحق أنه صفة فليحمل عليه ما في الآية الكريمة من غير حاجة إلى التجوز أو حذف المضاف. وقد تقدم في سورة الزلزال ما يتعلق بهذا المبحث فتذكر فما في العهد من قدم والظاهر أن المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس، ومآله إلى الاستعاذة من شر وسوسته وقيل المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل من شر الوسواس ولم يقل من وسوسة الوسواس قيل: وعليه يكون القول بأن شره يلحق البدن كما يلحق النفس أظهر منه على الظاهر وعد من شره أنه كما في صحيح البخاري يعقد على قافية رأس العبد إذ هو نام ثلاث عقد مراده بذلك منعه من اليقظة وفي عد هذا من الشر البدني خفاء، وبعضهم عد منه التخبط إذا لحق عند أهل السنة أنه قد يكون من مسه كما تقدم في موضعه.
وقوله تعالى الْخَنَّاسِ صيغة مبالغة أو نسبة أي الذي عادته أن يخنس ويتأخر إذا ذكر الإنسان ربه عز
525
وجل. أخرج الضياء في المختارة والحاكم وصححه وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس قال: ما من مولود يولد إلّا على قلبه الوسواس فإذا عقل فذكر الله تعالى خنس، فإذا غفل وسوس، وله على ما روي عن قتادة خرطوم كخرطوم الكلب، ويقال إن رأسه كرأس الحية.
وأخرج ابن شاهين عن أنس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن للوسواس خطما كخطم الطائر، فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس فإن ذكر الله تعالى نكص وخنس فلذلك سمي الوسواس الخناس».
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ قيل أريد قلوبهم مجازا. وقال بعضهم: إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ولا مانع عقلا من دخوله في جوف الإنسان وقد ورد السمع به كما سمعت فوجب قبوله والإيمان به، ومن ذلك
«إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم»
. ومن الناس من حمله على التمثيل وقال في الآية إنها لا تقتضي الدخول كما ينادي عليه البيان الآتي. وقال ابن سينا: الوسواس القوة التي توقع الوسوسة وهي القوة المتخيلة بحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية ثم إن حركتها تكون بالعكس فإن النفس وجهتها إلى المبادئ المفارقة فالقوة المتخيلة إذا أخذتها إلّا الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنس أي تتحرك بالعكس وتجذب النفس الإنسانية إلى العكس فلذلك تسمى خناسا، ونحوه ما قيل إنه القوة الوهمية فهي تساعد العقل في المقدمات فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه، ولا يخفى أن تفسير كلام الله تعالى بأمثال ذلك من شر الوسواس الخناس. والقاضي ذكر الأخير عن سبيل التنظير لا على وجه التمثيل والتفسير بناء على حسن الظن به ومحل الموصول، إما الجر على الوصف وإما الرفع والنصب على الذم والشتم، ويحسن أن يقف القارئ على أحد هذين الوجهين على الْخَنَّاسِ وأما على الأول ففي الكواشي أنه لا يجوز الوقف وتعقبه الطيبي بأن في عدم الجواز نظر للفاصلة وفي الكشف أنه إذا كان صفة فالحسن غير مسلم اللهم إلّا على وجه وهو أن الوقف الحسن شامل لمثله في فاصلة خاصة مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس على أنه ضربان جني وإنسي كما قال تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: ١١٢] أو متعلق بيوسوس، ومِنَ لابتداء الغاية، أي يوسوس في صدورهم من جهة الجن مثل أن يلقي في قلب المرء من جهتهم أنهم ينفعون ويضرون، ومن جهة الناس مثل أن يلقي في قلبه من جهة المنجمين والكهان وأنهم يعلمون الغيب. وجوز فيه الحالية من ضمير يُوَسْوِسُ والبدلية من قوله تعالى مِنْ شَرِّ بإعادة الجار وتقدير المضاف والبدلية من الوسواس على أن مِنَ تبعيضية. وقال الفرّاء وجماعة: هو بيان للناس بناء على أنه يطلق على الجن أيضا فيقال كما نقل عن الكلبي: ناس من الجن كما يقال نفر ورجال منهم، وفيه أن المعروف عند الناس خلافه مع ما في ذلك من شبه جعل قسم الشيء قسيما له ومثله لا يناسب بلاغة القرآن وإن سلم صحته، وتعقب أيضا بأنه يلزم عليه القول بأن الشيطان يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس ولم يقم دليل عليه. ولا يجوز جعل الآية دليلا لما لا يخفى وأقرب منه على ما قيل أن يراد بالناس الناسي بالياء مثله في قراءة بعضهم مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [البقرة: ١٩٩] بالكسر ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: ٦] ثم يبين بالجنة والناس فإن كل فرد من أفراد الفريقين مبتلى بنسيان حق الله تعالى إلّا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته. جعلنا الله ممن نال من عصمته الحظ الأوفى وكال له مولاه من رحمته فأوفى. ثم إنه قيل إن حروف هذه السورة غير المكرر اثنان وعشرون حرفا وكذا حروف الفاتحة وذلك بعدد السنين التي أنزل فيها القرآن فليراجع، وبعد أن يوجد الأمر كما ذكر لا يخفى أن كون سني النزول اثنتين وعشرين سنة قول لبعضهم. والمشهور أنها ثلاث وعشرون اه. ومثل هذا الرمز ما قيل
526
إن أول حروفه الباء وآخرها السين كأنه قيل «بس» أي حسب ففيه إشارة إلى أنه كاف عما سواه ورمز إلى قوله تعالى ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨] وقد نظم ذلك بعض الفرس فقال:
أول وآخر قرآن زجه با آمد وسين يعني اندر دو جهان رهبر ما قرآن بس
ومثله من الرموز كثير لكن قيل لا ينبغي أن يقال إنه مراد الله عز وجل. نعم قد أرشد عز وجل في هذه السورة إلى الاستعانة به تعالى شأنه كما أرشد جل وعلا إليها في الفاتحة بل لا يبعد أن يكون مراده تعالى على القول بأن ترتيب السور بوحيه سبحانه من ختم كتابه الكريم بالاستعاذة به تعالى من شر الوسواس الإشارة كما في الفاتحة إلى جلالة شأن التقوى والرمز إلى أنها ملاك الأمر كله وبها يحصل حسن الخاتمة، فسبحانه من ملك جليل ما أجل كلمته ولله در التنزيل ما أحسن فاتحته وخاتمته. وبعد فهذا والحمد لله تأويل رؤياي من قبل، قد جعلها ربي حقا، فأسعدني وله الشكر بالتوفيق لتفسير كتابه العزيز الذي لا يذل من لاذ به ولا يشقى، فإذ وفقتني يا إلهي لتفسير عبارته، ووفقتني على ما شئت من مضمر إشارته، فاجعلني يا رباه ممن يعتصم بمحكم حبله، ويتمسك بعروته الوثقى، ويأوي من المتشابهات إلى حرز معقله، ويستظل بظلال كهفه الأوفى، وأعذني به من وساوس الشيطان ومكائده، ومن الارتباك بشباك غروره ومصائده، واجعله وسيلة لي إلى أشرف منازل الكرامة وسلما أعرج فيه إلى محل السلامة، فطالما يا إلهي أسهرتني آياته، حتى خفقت برأسي سنة الكرى، فلم أفق إلّا وقد لطمتني من صفاح صحائف سورة ذات سوار. وكم وكم سرت بي يا مولاي عباراته، حتى حققت لي دعوى عند الصباح يحمد القوم السرى. فلم أشعر إلّا وقد تلفعت نواعس السوادي من فضل مئزر مهاة الصبح بخمار، ولم أزل أسود الأوراق في تحرير ما أفضت عليّ حتى بيض نسخة عمري المشيب، وأجدد النظر بتحديق الأحداق، فيما أفيضت به من المشايخ إليّ حتى بلي برد شبابي القشيب. هذا مع ما قاسيته من خليل غادر، وجليل جائر، وزمان غشوم، وغيوم وابلها غموم، إلى أمور أنت بها يا إلهي أعلم، ولم يكن لي فيها سواك من يرحم. وأكثر ذلك يا إلهي قد كانت حيث أهلتني لخدمة كتابك، ومننت عليّ من غير حد بالفحص عن مستودعات خطابك فاكفني اللهم بحرمته مؤنة معرة العباد، وهب لي أمن يوم المعاد وأعذني بلطفك وأعذني بنعمتك ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى، واسلك بي الطريقة المثلى، وذودني مطيات الهدى وزودني باقيات التقى، وأصلح ذريتي، وبلغني بهم أمنيتي، واجعلهم علماء عاملين وهداة مهديين، وكن لي ولهم في جميع الأمور واحفظني واحفظهم من فتن دار الغرور وأيّد اللهم خليفتك في خليقتك، ووفقه بحرمة كلامك لإعلاء كلمتك، وصل وسلم على روح معاني الممكنات على الإطلاق وروح معاني قلوب المؤمنين والمؤمنات في سائر الآفاق وعلى آله وأصحابه، وكل من سلك سنن سنته واقتفى وقال في ظلال ظليل شريعته قائلا حسبي ذلك وكفى. وقد صادف تسليم القلم ركوعه وسجوده، في ظلم دياجي المداد، واضطجاعه في بيت الدواة، بعد قيامه على ساق الخدمة لكتاب رب العباد، ليلة الثلاثاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ألف ومائتين وسبع وستين، من هجرة سيد الأوائل والأواخر، صلّى الله عليه وسلم، وجاء تاريخه (أكمل تفسيري روح المعاني) والحمد لله باطنا وظاهرا وله سبحانه الشكر أولا وآخرا.
527
Icon